← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31
المزمور الثَّانِي وَالعِشْرُونَ
لإمام المغنين على أيلة الصبح. مزمور لداود
"إلهي إلهي لماذا تركتني..." (ع1)
1. كتب داود هذا المزمور، ولكن الأحداث المذكورة فيه لم تحدث في حياة داود، فهو يتكلم عن شخص آخر، أي يتكلم عن المسيح بروح النبوة، بعد أن أوحى إليه الله بأفكار المسيح وهو على الصليب وفى آلامه، ثم بعد قيامته وملكوته، وسجل لنا كل ذلك في هذا المزمور.
2. يقول في عنوان المزمور على أيلة الصبح، والأيلة هي وقت السحر، أي الوقت المظلم الذي قبل الفجر مباشرة، وفى هذا الوقت كان اليهود يعدون محرقة الصباح، التي هي رمز للمسيح الذي قام باكر في فجر الأحد، والذي يتكلم هذا المزمور عن آلامه وقيامته.
وعنوان هذا المزمور أيلة الصبح؛ لأنه يحوى آلام وقيامة المسيح الذي خلصنا من ظلمة الليل، وأعطانا فجر الحياة الجديدة، بل مذكور عنه أنه "نجم الصبح المنير" (رؤ22: 16).
هناك رأي آخر أن أيلة الصبح نغمة كان يرنم عليها هذا المزمور.
3. مما يؤكد أن هذا المزمور مسيانى، أن داود لم يذكر فيه اعترافه بخطية معينة، أو تبريره لخطية معينة، أو طلب نقمة من أعدائه، فهو يحكى لنا آلام يحتملها بار لم يصنع خطية، فهو لا ينطبق إلا على المسيح، ومع أن هذا المزمور يتحدث عن آلام المسيح وخلاصه إلا أن عنوانه أيلة الصبح يشير إلى قيامته، وذلك لأن الهدف من آلام المسيح وموته هو القيامة.
4. هذا أول مزمور في سفر المزامير يتحدث عن آلام المسيح، ويعتبره الآباء من أعظم المزامير التي تتحدث عن آلامه.
5. لأن هذا المزمور يحوى أحداثًا تمت في وقت الساعة التاسعة، فالكنيسة تردده باللحن الحزاينى (الإدريبى) في الساعة التاسعة يوم الجمعة العظيمة. ولأنه كان من المعتاد أنه إذا قال أحد كهنة اليهود بداية مزمور يكمله السامعون، ولذا فقد نطق المسيح ببداية هذا المزمور وهو على الصليب وقت الساعة التاسعة (مت27: 46)، حتى يكمله اليهود الواقفون تحت الصليب، فيعرفوا أن هذا المزمور نبوة عنه لعلهم يؤمنون.
6. هذا المزمور يعلن حقيقة هامة تناساها اليهود، وهي قبول الله للأمم وخلاصهم (ع27-31).
7. هذا المزمور غير موجود بالأجبية.
(1) آلام المسيح (ع1-21)
(2) شكر المسيح المخلص (ع22-26)
(3) ملكوت السموات (ع27-31)
ع1: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟
كلام زفيرى: كلام خارج مع أنفاسى، أي تنهيداتى، فالزفير هو الهواء الخارج عند تنفس الإنسان.
هذه الآية تنطبق على المسيح بوضوح؛ لأنه قالها على الصليب، فهي نبوة واضحة عن آلامه، رآها داود بروح النبوة.
هذه الكلمات تأكيد لناسوت المسيح الذي تألم بالحقيقة ألمًا شديدًا، ويعبر عنه بصراخه إلى الله، وتأكيده ذلك بقوله إلهي مرتين، أي أن المسيح أخذ جسدًا حقيقيًا مثل باقي البشر.
قوله إلهي تظهر دالة البنوة، فهو يكلم الله نائبًا عن البشرية كإنسان، وإن كان يعانى من شدة الألم ويقول تركتنى، ولكن في نفس الوقت يعبر عن الإيمان والدالة التي بينه وبين الآب، أو كما ينبغى أن يسلك كل إنسان روحي بدالة مع الله.
هذه الآية تعبير عن نقاوة وقداسة الله التي لا تطيق الخطية، التي حملها الابن على الصليب، فرغم أنه قدوس، لكنه حمل خطايا العالم، بل صار الذي بلا خطية خطية لأجلنا (2 كو5: 21).
إن كلام المسيح هنا ليس سؤالًا يطلب إجابة، ولا تذمرًا، ولكنه تعبير عن شدة الآلام التي يعانيها. وهي ليست فقط الآلام الجسدية الفظيعة، والآلام النفسية بقيام الكل عليه، حتى أن أحباءه أيضًا تركوه، ولكن الأصعب من كل هذا الآلام الروحية بحمله، وهو القدوس، كل خطايا العالم.
بقول المسيح هذا على الصليب يعطى مساندة لكل متألم يشعر كأنه متروك من الله، فيؤكد له المسيح أنه يشعر به، وأنه غير متروك منه.
قال المسيح هذه الآية باللغة الآرامية التي يفهمها اليهود وهي "إيلى إيلى لما شبقتنى"؛ حتى ينبههم إلى أن هذا المزمور الذي يحفظه اليهود ولا يفهمونه يتكلم عن المسيح، لعلهم يؤمنون.
إن الخطية هي الحاجز الفاصل بين الإنسان والله، فالمسيح وهو على الصليب حامل خطايا العالم يعبر عن ذلك بقوله "إلهى إلهي لماذا تركتنى". ولكن عندما يتمم الفداء بموته تنال البشرية المصالحة مع الله فيه.
قول المسيح إلهي إلهى لماذا تركتنى هو كلام عن البشرية التي أخطأت في حق الله، وهو نائبًا عنها يتحدث أمام الآب، مع أنه بار وقدوس، فهو ابن بشر ولكنه بلا خطية، كما أعلن بوضوح لليهود وقال "من منكم يبكتنى على خطية" (يو8: 46) وبالتالي لا يستحق الآلام والموت، بل يحملها عن غيره، أي البشرية الساقطة حتى يخلصها من خطاياها، فهو إعلان عن قداسته، وأنه غير مستحق الموت وترك الآب له، ولكنه بإرادته يقبل الآلام. وانحجاب وجه الآب عنه تعبيرًا عن ضيق اللاهوت من الخطية، رغم محبته الشديدة للبشرية التي جعلته يتجسد ويتحد بها، ويتألم ويموت عنها.
ظهرت بدعة تنادى بتفسير هذه الآية على أن اللاهوت فارق الناسوت، وهذا بالطبع خطأ، فقوله هذا مناجاة بين الابن والآب تعبر عن كل المعانى السابق ذكرها، أي كمال ناسوت المسيح، وضيق اللاهوت من الخطية. فهذه الآية تعبر عن عمل الأقنوم الثاني الابن في التألم من أجل البشرية وحمل خطاياها، وتعبر أيضًا عن عمل الآب الديان العادل في ترك الابن يحمل الآلام حتى الموت.
ع2: إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
هدو: هدوء، أو راحة.
يؤكد هنا أنه يطلب معونة الله، فلا يستجيب له، لا في النهار، ولا في الليل، أي أن المسيح كانت آلامه مستمرة، سواء في النهار وهو على الصليب، أو في الليل وهو في بستان جثسيماني، واحتمل كل هذا لأجل خلاصنا.
إن طلب معونة الله في النهار ترمز للطلب وقت النصرة؛ حتى يثبت المؤمن في نصرته، أما الليل فيرمز للضيقة، ويطلب المؤمن من الله أن يخرجه منها، ويخلصه من آلامه واضطراباته.
الله لا يستجيب أحيانًا لأولاده؛ لأن تأجيل طلبتهم هو الأفضل، كما في حالة زكريا وأليصابات، أو لأن الطلبة غير مناسبة لخلاص النفس، مثل شفاء بولس الرسول من شوكته، وفى نفس الوقت قد يستجيب للأشرار، أو حتى للشياطين لخزيهم، كما استجاب للشياطين اللاجئون التي في المجنون أن تدخل في قطيع الخناير (مت8: 31، 32).
وفى حالة المسيح لم يستجب الآب لصلاته في بستان جثسيماني أن يجيز عنه كأس آلامه وتركه يحتمل آلام الصليب؛ لأن خطايا البشرية تستلزم أن يحتمل المسيح هذه الآلام حتى الموت؛ ليفدى أولاده.
ع3: وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ.
يقدم المسيح ابتداء من هذه الآية مجموعة من أنواع العتاب لله لأنه تركه، ففى هذه الآية يعاتب الله الآب؛ قائلًا له أنت القدوس الذي فيك كمال القداسة والعدل، كيف ترضى بالظلم؟ وأن توضع خطايا العالم على شخص بريء؟!، فهو تعبير عن مدى الآلام التي يحتملها المسيح، تأكيدًا لناسوته المتحد بلاهوته.
الله القدوس مسبح من ملائكته في السماء، ولكنه يفرح أيضًا كثيرًا بتسابيح أولاده على الأرض، وهم شعبه إسرائيل وقتذاك، إذ كان شعبه هو الشعب الوحيد الذي يؤمن بالله.
الله قدوس، أي كلى القداسة، وبالتالي يستحق التسبيح من السمائيين والأرضيين، فهو وحده القدوس. وكل أولاده القديسين أخذوا شيئًا من قداسته. وهؤلاء القديسون هم الذين يقدرون القداسة، وبالتالي هم فقط الذين يسبحونه، والمقصود بالقديسين كل من آمن بالمسيح فصار مقدسًا فيه.
ع4، 5: 4 عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. 5 إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
العتاب الثاني لله الآب من المسيح -على فم داود بروح النبوة- أن آباء شعب الله عندما اتكلوا عليه، وصلّوا، وصرخوا إليه استجاب لهم ونجاهم من ضيقاتهم، كما حدث مع شعب الله في مصر، عندما ضرب المصريين الضربات العشر، ثم أغرق جيش فرعون في البحر، وكما خلص الثلاث فتية من أتون النار، ودانيال من جب الأسود، وسوسنة العفيفة من أيدي الشيخين.
ع6، 7: 6 أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. 7 كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
العتاب الثالث الذي يقدمه المسيح للآب أنه تركه حتى صار محتقرًا كالدودة، التي تداس بالأقدام، ولم تعد له كرامة الإنسان.
الدودة تبدو مخلوق ضعيف جدًا، كما ظهر المسيح في ضعف أثناء صلبه، هذا ما ظهر أمام البشر واليهود الأشرار، الذين لم يفهموا أن الآب قد سر أن يسحقه بالحزن، فالمسيح بإرادته قبل الموت، وقبل أن يظهر أنه بلا صورة ولا منظر، لأجل خلاصنا. وفيما هو يظهر أنه ضعيف أمام البشر كان فيه كمال القوة، وبموته أبطل الموت، وقيد الشيطان.
الدودة التي تبدو ضعيفة جدًا قادرة أن تفنى أجساد البشر، إذ تأكلهم بعد موتهم، والمسيح على الصليب أفنى الجسد العتيق، أي الطبيعة المائلة للشر، وخلصنا منها وأعطانا الطبيعة الجديدة بميلادنا في سر المعمودية.
الدودة مصدر لصبغة حمراء تسمى الدودى، والمسيح سال دمه على الصليب وبدمه ذى اللون الأحمر أعطى فداء للبشرية كلها؛ لنصطبغ بصبغته، وننال طبيعة جديدة بموته وقيامته.
هناك نوع من الدود يسمى الهيدرا إذا انفصل جسمه المتكون كحلقات، تصبح كل حلقة قادرة على الحياة بمفردها، وهكذا أيضًا المسيح بموته صار رأسًا لجسده، الذي هو الكنيسة، وكل عضو فيه له حياته المستقلة. وهكذا المؤمنون بالمسيح في ساحات الاستشهاد يكونون السبب في إيمان الكثيرين بإلههم، الذين ينالون هم أيضًا إكليل الشهادة.
تنبأ أشعياء عن شعب إسرائيل ووصفه أنه دودة (إش41: 14)، هكذا ظهر شعب الله ضعيفًا عند السبي، كما المسيح على الصليب، ولكن لأن قوة الله مع أولاده أعادهم من السبي، وخرج منهم المسيح مخلص العالم كله.
الدود يخرج من الطين بلا تزاوج، هكذا المسيح أيضًا ولد مثل الإنسان الترابى، ولكن بدون زرع بشر.
بقبول المسيح الصليب صار محتقرًا كالدودة، بل وعارًا عند البشر، ومحتقرًا عند الشعوب، حتى أن اليهود وهو على الصليب كانوا يستهزئون به (مت27: 42). فكيف يتكبر الإنسان الذي هو من التراب ويأكله الدود ويظن أنه شيء وينسب المجد لنفسه مع أن كل ما له هو عطايا من الله ؟!
أظهر اليهود الذين مروا على المسيح المصلوب شرهم واحتقارهم له، فاستهزأوا به بكل نوع؛ إذ كانوا يفتحون أفواههم "يفغرون الشفاة" ضحكًا عليه. وكانوا أيضًا "ينغضون الرأس"، أي يهزون رؤوسهم احتقارًا له (مت27: 39). وهكذا كانت قلوبهم القاسية عديمة المشاعر والحنان عليه، بل وأكثر من هذا تحرك ظاهرهم للإساءة له بالرأس وبالفم. إنها قساوة عجيبة، وخاصة أنها تأتى على البار القدوس، الذي لم يسئ لأحد.
ع8: «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
تنبأ داود النبي عما سيقوله اليهود الأشرار، الذين مروا على المسيح المصلوب، مستهزئين به، قائلين أنه مرفوض من الله؛ لأنه لو كان مع الله فلينجه من آلام الصليب. بل قالوا نفس الكلمات التي تنبأ بها داود (مت27: 43).
إن الشيطان يتكلم على لسان الأشرار؛ ليشكك الأبرار في سلوكهم وحياتهم. والمقصود بالأبرار هم المؤمنون بالمسيح، فعندما يرون المسيح المصلوب في ضعف يتركون إيمانهم. وهذا التشكيك الشيطانى يتكرر كل يوم حتى الآن، ولكن إيمان المؤمنين بالمسيح يظل ثابتًا، محتملين الآلام حتى الموت؛ لينالوا قوة القيامة التي يشعرون بها في حياتهم على الأرض؛ أي يشعرون بالسلام والفرح بعشرة الله، ثم في الأبدية يتمتعون بأمجاد ملكوت السموات.
التشكيك في المسيح كان في أمرين:
أ - أنه غير متكل على الله وغير مؤمن به، وإلا لكان قد نجاه من الصليب.
ب - أنه غير محبوب من الله، فهو ليس ابنه الحبيب كما يدعى، وإلا لكان قد أنقذه من هذه الآلام.
ع9: لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي.
في هذه الآية يتكلم داود النبي بروح النبوة عن المسيح الذي يعاتب الآب العتاب الرابع لأنه تركه لكل هذه الآلام، مع أن الله هو الذي اجتذبه من البطن، وأرضعه من ثدى العذراء أمه فلماذا يتركه الآن؟ وهذا يؤكد ناسوت المسيح، وأنه احتمل آلامًا حقيقية صعبة.
إن الآب هو الذي جذبه من البطن؛ لأن ميلاد المسيح كان عجيبًا يتميز عن باقي الناس بأنه بدون زرع بشر، وكذلك لم يحل بتولية العذراء، فقد جذبه الله من البطن، وظلت بتولية العذراء مختومة. هذه هى المعجزة الإلهية.
رضع الطفل يسوع اللبن من ثدى أمه، وكان مطمئنًا وهو يرضع كأى طفل، وهذا يؤكد ناسوته، وحاجته للرضاعة مثل باقي البشر.
إن البطن الذي جذب الآب الابن منها هي أيضًا الأمة اليهودية، وقد خرج منها ليفديها، ويفدى العالم كله.
إن كان الآب هو الذي اجتذبه ووضعه على ثدى أمه مطمئنًا، فهو المسئول عن ولادته وحياته على الأرض، وبالتالي هو المسئول عن الآلام التي يعانيها، فهذه الإساءات من البشر موجهة للآب وهو متكل عليه. وهكذا يشعر الإنسان المتكل على الله أن ما يعانيه من آلام رغم سلوكه الحسن موجه لله، فلا ينزعج، وإن أراد الله فلينقذه، أو يحارب عنه، وإن كان لخيره يسنده ليحتمل الآلام.
تنطبق هذه الآية أيضًا على كل مؤمن في العهد الجديد، الذي يجتذبه الله من بطن الكنيسة، الذي هو جرن المعمودية، ويرضعه بطمأنينة من ثدى أمه الكنيسة، أي يشبعه من صلواتها، وكتبها، وتاريخها، وكل ما تحويه من طقوس وعقائد.
ع10: عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي.
يؤكد هنا العتاب الرابع السابق ذكره، وهو أنه متكل على الله فلماذا يتركه يحتمل كل هذا الآلام؟ ويعلن هنا أنه أُلقى على الله منذ كان في الرحم في بطن العذراء، فهو متكل على الله طوال حياته، بل قبل أن تبدأ حياته وهو في البطن.
ع11: لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
يتحول العتاب هنا إلى صلاة، فيطلب المسيح من الآب ألا يتباعد عنه، فالمسيح كإنسان يعلن احتياجه لمساندة اللاهوت حتى يحتمل الآلام. كما أن كل إنسان في الضيقة يحتاج إلى الله حتى يستطيع احتمالها واجتيازها.
إن سر قوة الإنسان المؤمن داخل الضيقة هو وجود الله معه، فيقبل الألم، بل يفرح بعشرته مع الله أثناء الألم، فيتحول الألم إلى فرح.
يعلن المسيح أن الضيق قريب، والمقصود به الموت على الصليب، وهذا يستدعى معونة إلهية لاجتياز الموت، ثم القيامة.
وسط الآلام تخلَّى كل البشر عن المسيح، ولم يوجد معين إلا الآب، وهكذا يشعر كل إنسان أنه محتاج لله بشدة وسط الضيقة؛ حتى لا ينزعج إن تفرّق الناس عنه.
ع12: أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
باشان: منطقة في جلعاد تقع شرق نهر الأردن، معروفة بخصوبة مراعيها، وبالتالي أبقارها وثيرانها الثمينة القوية.
اكتنفتنى: أحاطت بى عن قرب.
يعبر المسيح عن الأشرار الذين أحاطوا به وقاموا عليه؛ ليصلبوه ويصفهم بما يلي:
أ - أن عددهم كبير جدًا؛ إذ أنهم كانوا من اليهود والأمم؛ لأن الكهنة أثاروا الشعب اليهودي كله، والأمم ظهروا في بيلاطس والجند التابعين له.
ب - أنهم أقوياء متجبرون عليه يشبهون ثيران باشان القوية.
وهذه الثيران ترمز للكهنة الذين قاموا على المسيح، ولشيوخ اليهود ورؤسائهم، وكذلك للشعب كله، بالإضافة إلى أنهم يرمزون للأمم أيضًا الذين قاموا على المسيح وصلبوه.
إن الثيران الشاردة إذا وجدت شخصًا غريبًا تحيط به، وتهجم عليه بقرونها، وتحاول قتله؛ كما هجم اليهود الشاردون عن الإيمان على المسيح الغريب عن أفكارهم وقبضوا عليه، وسلموه لبيلاطس ليصلبه.
ع13: فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
مزمجر: يصدر أصواتًا قوية مخيفة.
يصف اليهود الأشرار والأمم الذين أحاطوا بالمسيح عند القبض عليه وتعذيبه وصلبه، بأنهم مثل الأسد المفترس، الذي يصدر أصواتًا قوية مخيفة؛ لينقض على فريسته، أي المسيح. وقد حدث هذا عندما اجتمع اليهود أمام بيلاطس وصرخوا إليه أن يصلبه قائلين "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت27: 25)، وقد تكرر تشبيه الشيطان بالأسد كما في (1 بط5: 8؛ 2 تى4: 17).
ع14: كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.
انفصلت كل عظامى: ضاعت كل قوتى.
إن الطبيعة البشرية بالموت تنحل بسرعة، مثل سكب الماء، فالمسيح يعبر عن الآلام والموت الذي سيحل به ويفصل روحه عن جسده.
المسيح كان ينسكب كالماء عندما كان يصلى بحرارة في بستان جثسيماني وهو مقبل على آلامه وكان عرقه يتصبب كقطرات دم (لو22: 44).
عندما طعن الجندى المسيح في جنبه على الصليب خرج منه دم وماء (يو19: 34)، وانسكب على الأرض، فهو تطبيق حرفي لهذه النبوة.
إن انسكاب حياة المسيح على الصليب كالماء تظهر احتقار اليهود الأشرار له، وقد قبل المسيح عار الصليب وانسكاب حياته، كشئ رخيص جدًا من أجل حبه فينا ليفدينا.
إن انسكاب الماء على أي شيء يغسله ويطهره، فبانسكاب حياة المسيح على الصليب طهر المؤمنين به من خطاياهم.
بثقب جسد المسيح بثلاثة مسامير، تعلق الجسد بكل ثقله على هذه المسامير، وأدى هذا إلى انفصال عظامه عن بعضها.
انفصال عظام المسيح ليست فقط معناها موته على الصليب، بل تعنى أيضًا تفرق الكل عنه، كما قال لتلاميذه "وتتركوننى وحدى" (يو16: 32) وتشتت معظم تابعيه، أما الرسل فقد اختبأوا في العلية المغلقة خوفًا من اليهود ( يو20: 19). ولأن الكنيسة هي جسد المسيح، فإذا تفرق أولاد الله المؤمنون به وتركوه، فهم يمثلون العظام التي في الجسد، التي تنفصل عن بعضها، ولكن في نفس الوقت يعد الله في المزمور ويقول عن عظام الصديقين أنها لا تنكسر، أي يعود الله ويجمعها مرة ثانية (مز34: 20).
كما حلت الآلام على جسد المسيح في الصليب، كذلك أيضًا مشاعره الداخلية كانت حزينة (قلبه ذائب كالشمع) على تلاميذه الذين تخلوا عنه، بل وباعه أحدهم، وتشكك بعضهم. وحزن أيضًا على اليهود المصرين على الشر. فهو يشعر أن الكل أولاده. و"أمعائه" هذه تعبر عن جوفه الذي ولد كل هؤلاء البنين العصاة. ولكن أبوته ظلت تصلى لأجلهم وهو على الصليب قائلًا "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34).
إن الشمع يذوب بالنار والحرارة، وهذا يرمز إلى أن نفس الإنسان تنصهر بالألم، فتصير نقية من كل شر، وحينئذ تظهر بسهولة صورة المسيح في هذا الشمع السائل. لذا فالمؤمن لا يخشى الضيقات؛ لأنها تطهره، وتقربه من الله، ويصير صورة واضحة للمسيح.
ع15: يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
شقفة: جزء مكسور من الخزف.
إن الشقفة إن وضعت في النار تجف من أية رطوبة فيها. وهكذا حياة المسيح يبست في آتون الآلام والأحزان، التي احتملها.
لصق لسان المسيح، أي فمه من الداخل، تعبيرًا عن صمته أمام الاتهامات الكثيرة التي وجهت إليه زورًا من اليهود الأشرار. واحتمل كل هذا من أجلنا، ولم يرد لأن قلوب الأشرار كانت قاسية لا تريد أن تسمع، وكذلك تعبيرًا عن معاناة عطشه الشديد.
نزل المسيح إلى تراب الموت في القبر، وهذا اتضاع عجيب ومحبة كبيرة منه أن يقبل الموت وهو الله من أجلنا نحن الخطاة. ولكن الموت لم يستطع أن يمسكه، بل قام في اليوم الثالث؛ لذا قال "تراب الموت" وليس "الموت" تعبيرًا عن سلطانه على الموت.
يظهر إخلاء المشيئة والطاعة في خضوع المسيح لمشيئة الآب الذي وضعه في التراب، مع أن هذا يتنافى مع ألوهيته، لكن قبله كإنسان متحدًا بلاهوته من أجل خلاصنا.
ع16: لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
يتكلم داود عن اليهود الأشرار، سواء الكهنة، أو الكتبة والفريسيين، أو الشعب، ويشبههم بالكلاب التي تنهش في المسيح باتهاماتهم الزور، ومحاولاتهم اصطياده بكلمة، ثم مطالبتهم بيلاطس بصلبه؛ فهم بهذا قد تبعوا الشيطان.
يقصد أيضًا بالكلاب الأمم الذين قاموا على المسيح - وهم جند الرومان - وصلبوه. والأمم في نظر اليهود يعتبرون كلابًا، كما عبر عن ذلك المسيح عند شفاء ابنة المرأة الكنعانية (مت15: 26)، ولكن هؤلاء الأمم عندما آمنوا صاروا بنينًا، أما اليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح، فقد فقدوا بنوتهم واتبعوا الشيطان، فصاروا مثل الكلاب.
إن الصليب ميتة رومانية ابتدعها الرومان لتعذيب المجرمين، ولكن داود النبي الذي لم يكن هناك استخدام للصليب في زمانه، بل كان مجرد التعليق على خشبة، رأى بروح النبوة صليب المسيح، ووصف بدقة ما سيحدث فيه بثقب يديه ورجليه؛ ليعلق على الصليب.
أعتقد اليهود أنه بصلب المسيح وثقب يديه ورجليه أنهم قد أفقدوه القدرة على الحركة، ومنعوا أعماله وأقواله التي تفضح خطاياهم. ولكنه بهذه المسامير مات عنا، وقدم أكبر حركة في العالم؛ إذ خلص البشرية من موتها، وأعطاها حياة جديدة، وقيد الشيطان.
ع17: أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
عندما جُلد المسيح تناثر لحمه وظهرت عظامه واضحة، فأصبح من السهل عدها وإحصائها، بالإضافة إلى أنه صلب عريانًا وتفرس فيه اليهود، فرأوا عظامه وأحصوها. واحتمل المسيح آلام الجلد والعرى، ونظر الكل إليه، وأحصوا عظامه، واحتقروه. واحتمل كل هذا لأجلنا.
إن كان العرى هو نتيجة الخطية، كما تعرى نوح عندما شرب الخمر (تك9: 21) وتعرى بنو إسرائيل عندما عبدوا العجل الذهبى (خر32: 25) فقبل المسيح أن يكون عريانًا من أجلنا، أي احتمل خطايانا وما يقترن بها؛ ليكسونا بثوب بره.
عندما جلد المسيح وتناثر لحمه بقيت عظامه، والعظام ترمز للمؤمنين الأقوياء، أما اللحم فيرمز للمؤمنين الضعفاء، الذين يتساقطون أمام العذابات، ولكن العظم يظل ثابتًا في مكانه.
عند فحص اليهود والأمم للمسيح المصلوب وجدوه يتعذب مع إنه بلا خطية، ولأن قلوبهم شريرة احتقروه. ولكن بعضهم استنار عقله وآمن؛ لأنه رأى أنه يتعذب وهو بلا خطية، مثل اللص اليمين، والجندى الذي طعنه بالحربة والذي يدعى لونجينوس، وقائد المئة المسئول عن عملية الصلب.
كل هذه الآلام بثقب يديه ورجليه، وإحصاء عظامه، وتفرس الناس فيه، يظهر كمال ناسوت المسيح، فقد تألم آلامًا حقيقية ترد على كل البدع التي ترفض ناسوت المسيح.
ع18: يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
هذه الآية أيضًا التي تنبأ بها داود قد تمت حرفيًا، وذكرها الإنجيليون الذين شاهدوا المسيح المصلوب (يو19: 23، 24).
كان لباس المسيح، أي قميصه مخيط كقطعة واحدة، لذا اقترع عليه اليهود. وهذا القميص يرمز للإيمان الواحد المسلم كنعمة لأولاد الله في كنيسته. وفكرة الاقتراع تعنى أن ليس الكل سينال هذا القميص، وهذا يرمز إلى أن الإيمان يعطى فقط للمختارين، الذين يخلصون، والباقون يرفضونه فلا ينالونه.
ولأن لباس المسيح هو الإيمان الذي لا يمكن تقسيمه؛ لذا قبله كل المؤمنين إلا الهراطقة، الذين مزقوه، مثل آريوس الذي مزق ثياب المسيح، كما رأى البابا بطرس خاتم الشهداء المسيح في حلم وثيابه ممزقة، فقال له إن أريوس هو الذي مزق ثيابه.
ثياب المسيح ترمز إلى تعاليمه، وقد اقتسمها الجند بينهم، وهذا يرمز إلى انتشار تعاليم المسيح، وتميز بعض المؤمنين بفضائل معينة، والبعض بفضائل أخرى.
ع19: أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
قبل المسيح كل الآلام، ولكنه يطلب من الآب ألا يبعد عنه، فهذه هي المساندة الضرورية التي يريدها كل مؤمن بالله وسط الآلام. وبالتالي يستطيع أن يحتمل الآلام، بل يكون في سلام، ويفرح بمعية الله.
عندما يقول يا قوتى يعلن أن الله رجاؤه الوحيد وثقته؛ ليكون مثالًا لنا في ضيقاتنا ألا نعتمد على شيء إلا على قوة الله القادرة على حل كل مشاكلنا.
يقول أيضًا أسرع إلى نصرتى، أي أقمنى سريعًا وهذا يبين مدى الآلام التي يعانيها، وحاجته إلى القيامة السريعة، فهذا يريحه من آلامه، ويكون مساندًا لتلاميذه الذين عثروا وشكوا فيه.
سرعة النصرة، أي القيامة السريعة في اليوم الثالث هي إثبات لبره وألوهيته. وهذا يرمز لمشاعر المؤمن الذي يعانى من ضيقة، ويحتاج أن يقيمه الله سريعًا من خطيته، ويرفع عنه ضيقاته.
ع20: أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
وسط معاناة آلام الصليب يطلب المسيح من الآب أن ينقذ نفسه من السيف، والمقصود به الآلام. وهذا يؤكد ناسوته واحتماله آلام حقيقية صعبة. وذكر السيف هنا مثلما قال سمعان الشيخ للعذراء أنه سيجوز في نفسها سيف، ويقصد الآلام (لو2: 35).
يقصد بالسيف أيضًا الغضب الإلهي المستحق عن خطايا البشر التي حملها المسيح على الصليب. ونفسه هذه متميزة عن باقى نفوس البشر، بأنها بلا خطية.
يقصد أيضًا المسيح بوحيدته الكنيسة، فينقذها الآب من حروب الشيطان.
ع21: خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
يطلب المسيح أيضًا على الصليب أن يخلصه من فم الأسد، ويقصد الشيطان، كما تكلم عنه بطرس الرسول (1 بط5: 8).
يقصد ببقر الوحش الأشرار الذين يأخذون صورة الودعاء؛ كالبقر الأليف، ولكنهم في الحقيقة متوحشون؛ ينطحون بقرونهم.
† لا تنزعج من قيام الأشرار عليك، ولكن اصرخ إلى الله القريب منك القادر أن ينقذك من أيديهم. وإن سمح لك بضيقة، فهو بجوارك يسندك ويعطيك سلامًا، بل وفرحًا أيضًا.
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
ع22: أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
المسيح هو الابن الوحيد الذي في حضن الآب العالم بكل شيء، فهو وحده القادر أن يخبرنا بما للآب (يو1: 18). وهو يخبر إخوته باسم الله ويبشرهم باقتراب ملكوت السموات، وذلك لأنه بكر بين إخوة كثيرين (رو8: 29).ويقصد بإخوته تلاميذه، وتابعيه، وكل البشر.
إن الجماعة هي الكنيسة التي أسسها المسيح بدمه. وبجسده ودمه على المذبح يقدم أعظم تسبيح حب، ويشترك معه المؤمنون به في تسبحة الشكر، أي سر الأفخارستيا الذي هو القداس الإلهي.
ع23: يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
يطلب المسيح من خائفى الرب أن يسبحوه، ويقصد بخائفيه كل من يتقى الله من الأمم، إذ كانوا يدعون الأمميين الأتقياء خائفى الرب، مثل كرنيليوس (اع10: 22).
ينادى شعب الله، الذي باركه الله – مثلما بارك اسحق يعقوب ويقول لهم "يا معشر ذرية يعقوب"، ويطلب منهم أن يمجدوه؛ لأنهم يعرفونه، ويعرفون أنه الإله الوحيد المستحق كل إكرام وتمجيد.
يطلب المسيح من زرع إسرائيل - الذي رأى الله وصارعه وغير اسمه من يعقوب إلى إسرائيل - أن يخشى الله ويتقيه، حيث إن إسرائيل رأى الله وعظمته، فبالتالى أصبحت مخافته في قلبه.
ع24: لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يُرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
الإنسان الساقط في الخطية، الذي صار مسكينًا محتاجًا لمعونة الله، عندما صرخ إليه في ذلة، تحنن عليه، وتجسد وفداه، وأعطاه حياة جديدة.
المسكين هو الإنسان المتضع الذي يتحنن عليه الله، فينقذه ويرفعه، كما أعلنت أمنا العذراء أنه "رفع المتضعين" (لو1: 52).
المسيح إلهنا أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، وصائرًا في شبه الناس (فى2: 7)، فهو ينطبق عليه لقب المسكين، كل هذا عمله من أجل خلاصنا. حينئذ نظر إليه أبوه السماوى، فبعد أن مات، وتمم فداءنا، قام بقوة لاهوته من بين الأموات.
إن صراخ المساكين غالى جدًا عند الله، فلا يحجب وجهه عنهم، بل يسرع إلى معونتهم.
الله يميز المتضعين بأن يظهر وجهه لهم، فيتمتعون برؤيته أكثر من باقي البشر. ورؤية وجه الله هو أفضل من كل شيء في الوجود، وهو الحياة الحقيقية، فطوبى للمتضعين، فإنهم يتمتعون بملك الله على قلوبهم في هذا الدهر، تمهيدًا لملكه الأبدي في السموات.
ع25: مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
يقول المسيح الابن للآب أنه كما أن الآب مسبح وممجد، كذلك سيعلن تسبيح وتمجيد الابن بعد إتمامه الخلاص على الصليب، وقيامته، وصعوده. وسيكون هذا التسبيح في وسط الجماعة العظيمة التي هي الكنيسة، أي يسبح المسيحيون في كنائسهم مسيحهم المخلص والفادى، بعد أن آمنوا أنه هو الله، الذي مات لأجل خلاصهم.
إن المسيح يوفى نذوره بتقديم ذاته على الصليب؛ لأنه وعد بفداء وخلاص شعبه، وتمم هذا، وأوفاه على الصليب، وكان ذلك قدام كل من خافه وآمن به.
تمتد مفاعيل ذبيحة الصليب، فنرى تنفيذ وعد الله بإيفاء نذوره على المذبح كل يوم، بتقديم جسده ودمه قدام خائفيه، وهم كهنة العهد الجديد، والشمامسة، وكل المؤمنين به، وخائفيه في القداس الإلهي.
خرج الرسل وكل خدام العهد الجديد ليبشروا بإيفاء نذور الله، أي وعده بالخلاص للعالم كله أمام خائفيه الذين آمنوا به، سواء من الأمم، أو اليهود؛ ليدخلوا كنيسته ويتمتعوا بخلاصه.
ع26: يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
الودعاء هم المتضعون، والمتمتعون بالهدوء الداخلي ويقصد بهم مؤمنو العهد الجديد، وهم الذين صرخوا لله معلنين احتياجهم في (ع24)، فأعطاهم الخلاص بالإيمان به، وأعطاهم أيضًا جسده ودمه في كنيسته، وأشبعهم أيضًا بكلمته.
الودعاء أيضًا هم المساكين بالروح، وهم الخطاة الذين تابوا ورجعوا لله، فأعطاهم جسده ودمه، وأشبعهم بحبه. وهذا جعلهم يحتقرون شهوات العالم، ويرفضونها.
هؤلاء الودعاء عندما تتكون علاقة بينهم وبين الله، يطلبون غفرانه وكل احتياجاتهم منه، ثم يتقدمون في حياتهم الروحية، فيسبحونه وتتعلق قلوبهم به، دون طلبة خاصة لهم، ولكن حبًا فيه، ثم يستمرون في هذا التسبيح الذي يجذبهم دائمًا إلى الله، حتى تتحول حياتهم كلها إلى تسبيح مستمر له، ومن خلاله يتذوقون الملكوت وهم على الأرض.
عندما يأكل الودعاء جسد الرب ودمه ويسبحونه ويشكرونه ويواظبون على التناول من الأسرار المقدسة، يثبتون في المسيح، ويحيون إلى الأبد، أي يتمتعون بلذة الحياة في المسيح على الأرض، ثم بأمجاد لا يعبر عنها في ملكوت السموات.
الخلاصة أن هذه الآية تتحدث عن سر التناول، فمن مارسه يشبع به، وينغرز فيه الجوع والعطش الدائم إلى البر، فيواظب على التناول وكل شيء يربطه بالمسيح.
ثم يطلب الله في كل احتياجاته ويزهد العالم ولا يعتمد عليه. وبعد ذلك يرتفع قلبه إلى تسبيح الله، ويستمر في التسبيح حتى تصير حياته كلها تسبحة. وأخيرًا ينال الحياة الأبدية في ملكوت السموات.
† إن كانت عطايا الله دائمة نحوك، فأقل شيء أن تشكره عليها كل يوم، وعندما تشكره ستشعر بقيمة هذه العطايا، فيزداد تسبيحك وتأملك في محبته، فتحب التسبيح، وتصبح شريكًا للسمائيين في التمتع بعشرته.
ع27: تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
يتحدث داود النبي بروح النبوة عن العهد الجديد، عندما تؤمن الأمم بالمسيح وترجع بالتوبة إليه، ليحيوا معه. وستأتي الأمم إلى الإيمان من كل مكان في العالم.
عندما يتناول المؤمنون الآتين من الأمم يفرحون، ويتذكرون المسيح المصلوب المخلص لهم، فيغير حياتهم ويقتدون به، ويصبح لهم الميل للبذل والعطاء.
يذكر هؤلاء المتنصرون من الأمم اسم الرب، فيصبح اتكالهم عليه، ويتلذذون بعشرته؛ لأنهم يذكرونه كل يوم وفى كل وقت، فيتمتعون بمعيته.
عندما يذكر هؤلاء المؤمنون اسم الله ويحيون له يصبح ضميرهم صالحًا، أي يستعيدون صوت الله في داخلهم، فيحدثهم عن الله، ويثبتهم فيه.
بعد هذا يعلنون خضوعهم لله والسجود له، فيطلبون مشيئته، ويتخلون عن مشيئتهم الخاصة، أي يزهدون العالم، ويفرحون بطاعة وصايا الله، إذ يجدون حياتهم فيها.
ع28: لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
إذ تركت شعوب الأمم عبادة الأوثان وكل ما يتصل بها، وخضعت لله، يملك على قلوبهم، وبسلطانه عليهم يمتعهم بأبوته ورعايته.
إن الوضع الطبيعي هو أن يملك الله على قلوب البشر، والخطية أفقدت الإنسان هذه البركة، ولكن بالتوبة والإيمان يستعيد الإنسان ملك الله عليه. والله سيساعد الأمم على التوبة؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يقول أن المسيح رب إلا بالروح القدس (1 كو12: 3).
بملك الله على القلوب، وتسلطه يعطى الإنسان إرادة قوية قادرة على ضبط حواسه وأفكاره ومشاعره، مما يزيد تمتعه بملك الله عليه، فيتمتع بعشرته.
ع29: أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
المساكين بالروح، أي التائبين المتضعين، الذين صرخوا إلى الله، فاستجاب لهم، وآمنوا، وتلذذوا بجسده ودمه صاروا سمانًا، أي ممتلئين روحيًا بالروح القدس، الذي ساعدهم على الخضوع لله والسجود له.
سيأكل من جسد الرب ودمه، ليس فقط المساكين، والفقراء، والبعيدون، بل أيضًا الأغنياء والعظماء المؤمنون بالله، وكذلك القديسون والمتقدمون روحيًا، الكل يأكل ويسجد ويتمتع بدرجات أعلى في إخلاء المشيئة والشبع بالله.
أما الأشرار المرتبطون بالأرضيات والرافضون لله، وبالتالي لا يتمتعون بعمل جسد الرب ودمه فيهم، فينحدرون ويجثون ويدفنون في تراب القبر؛ لأنهم رفضوا أن يحيوا أنفسهم بالأسرار المقدسة.
يمكن أيضًا تفسير الجزء الثاني من الآية بتطبيقها على المتضعين الخاضعين لله، فيسجدون له إلى التراب في ميطانيات كثيرة، فيتمتعون بعشرة الله، وينضم إليهم كل من لم يحى نفسه بمباهج العالم وشهواته، أي زهد العالم.
ع30، 31: 30 الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي. 31 يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
يضيف في هذه الآية أن ذرية الأمم المتنصرين ستتعبد لله، أي تصبح لهم كنيسة قوية مملوءة شبابًا وحيوية، كما حدث في مصر، ويدعون أبناء الله، أي ذريته.
ستظل الكرازة في كل مكان في العالم تخبر عن الله في الجيل الآتي، أي في الأجيال المتعاقبة في العهد الجديد؛ ليؤمن الكثيرون وينضموا إلى الكنيسة. ويقول في (ع31) يأتون وليس أتوا، أي أن الكرازة بالمسيح ستكون في العهد الجديد. ويتكلم كهنة العهد الجديد وخدامه عن بر المسيح الذي يخلص الخطاة من خطاياهم ويبررهم.
يحدثنا في (ع31) عن شعبٍ سيولد، أى عدد كبير سيولد من جرن المعمودية، ويصير كنيسة تتمتع بعمل الله فيها.
إن كان اليهود قد رفضوا المسيح وصلبوه، فإن الأمم قد آمنت به، ولكن آمن بعض اليهود، وسيؤمن يهود كثيرون في النهاية بالمسيح، وسيلدون شعبًا جديدًا لله.
إن كان هذا المزمور قد بدأ بآلام المسيح عنا على الصليب، فإنه يختم بالفرح عندما يبشر باسم الله القدوس، ويؤمن الكثيرون بالمسيح في العالم كله.
† إن الله يريد أن الجميع يخلصون، فيدعو الكل للإيمان به. وأنت فهل تدعو الناس بحياتك وسلوكك، ليحيوا مع الله؟ إن محبتك لكل من حولك، وخاصة من يسئ إليك تظهر محبة مسيحك، فيؤمنون به.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 23 |
قسم
تفاسير العهد القديم الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد: كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة |
تفسير مزمور 21 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/church-encyclopedia/psalms/chapter-022.html
تقصير الرابط:
tak.la/9h9dsjr