← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34
الأصحاح العاشر
لا ينسى ابن سيراخ توجيه الحاكم ورؤساء المدن، لأن سمات القائد لها فاعليتها على حياة القادة الآخرين كما على كل فئات الشعب. وهو في حاجة دائمة للنمو في الحكمة بالتجائه إلى واهب الحكمة والنجاح والسلطان. وعليه أن يحذر الغطرسة والظلم، فلا يتحطَّم ويُحَطِّم الشعب. كما أن الأب له دوره في حياة الأسرة، هكذا للقائد دوره، فقد يدفع شعبه نحو الحكمة والنجاح، كما قد يُفسِد حياتهم.
[1 -3] (ت: 1-3) |
||||
[4 -5] (ت: 4-6) |
||||
[6 -13] (ت: 7-16) |
||||
[14 -24] (ت: 17-22) |
||||
[19 -25] (ت: 23-28) |
||||
[26 -27] (ت: 29-30) |
||||
[28 -31] (ت: 31-34) |
||||
* من وحي سيراخ 10: هب لي روح القيادة الحكيمة! |
1 الْقَاضِي الْحَكِيمُ يُؤَدِّبُ شَعْبَهُ، وَتَدْبِيرُ الْعَاقِلِ يَكُونُ مُرَتَّبًا. 2 كَمَا يَكُونُ قَاضِي الشَّعْبِ، يَكُونُ الْخَادِمُونَ لَهُ، وَكَمَا يَكُونُ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ، يَكُونُ جَمِيعُ سُكَّانِهَا. 3 الْمَلِكُ الْفَاقِدُ التَّأْدِيبِ يُدَمِّرُ شَعْبَهُ، وَالْمَدِينَةُ تُعْمَرُ بِعَقْلِ وُلاَتِهَا.
القائد الحكيم يُعلِّم شعبه،
وتدبير العاقل يكون مُرتّبًا حسنًا [1].
خلق الله الإنسان ليكون قائدًا لنفسه قبل أن يقود غيره، وكلما تولَّى مركزًا قياديًا سواء على المستوى العائلي أو الاجتماعي أو العسكري أو الديني، يلزمه بالأكثر أن يتزيَّن بالحكمة، لأنه يصير مسئولًا عمن هم تحت قيادته، ويكون نموذجًا لهم، يقتدون به.
ما يشغل فكر ابن سيراخ من جهة الحاكم أو رؤساء المدن، ليس إدارتهم السياسية أو الاقتصادية أو الترفيهية إلخ. فحسب، وإنما الاهتمام بسلام الشعب وبنيانه، حتى ينشأ جيل له شخصيته السوية. فالقائد الناجح يُقِيم إن أمكن من كل شعبه قادة يُدرِكون رسالتهم ودورهم بروح الاعتدال والفرح.
المثـل الرائع في تاريخ إسرائيل الملك سليمان الحكيم، الذي بفكره المُتَّسِع وقيادته الحكيمة جذب حتى الملوك المحيطين به أن يتعلَّموا منه. كمثالٍ، جاءت ملكة سبأ لتمتحنه بمسائل (1 مل 10: 1)، وقيل عنها: "رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاته ومحرقاته... لم يبقَ فيها روح" (1 مل 10: 4-5). قالت: "طوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائمًا، السامعين حكمتك" (1 مل 10: 8).
أما الملوك الأشرار فحطَّموا أنفسهم، وجرّوا ويلات على الشعب، فمنذ عهد رحبعام بن سليمان انقسمت المملكة إلى مملكتين، مملكة إسرائيل المنشقة ومملكة يهوذا، أي مملكة الشمال ومملكة الجنوب، وكثيرًا ما انضمت إحداهما إلى أمم غريبة لتقاوم أختها. سقطت الأولى تحت سبي أشور والثانية تحت السبي البابلي كما دخلت عبادة الأوثان في المملكتين، بل وفي هيكل الربِّ بأورشليم.
كما يسلك قائد الشعب هكذا يسلك وزراؤه،
وجميع سُكّان المدينة مرآة حاكمها [2].
القائد مُعَلِّم لمن هم حوله ومن هم تحت سلطانه. يقوم بالتعليم ليس بالكلام بل بالأكثر بتدبيره وسلوكه. لا يقوم دوره على التدبير الحسن للأمور فحسب، وإنما يقودهم بالتقوى خاصة في مخافة الربّ. ولعل أعظم مثل في العهد القديم هو موقف داود عندما طلب منه مرافقوه العسكريون أن يقتل شاول الملك الذي كان يتعقَّبه وقد سقط بين يديه، فقدَّم لهم درسًا عمليًا في عدم الانتقام من ذاك الذي كرَّس طاقاته الملوكية لقتله (1 صم 24: 1-8).
يقف القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في دهشةٍ متسائلًا في أعماقه: ترى هل داود التقي كان قائد معركة أم كان مُعَلِّمًا أم كاهنًا أو أسقفًا؟ يراه المُعَلِّم الصالح، يحرص ألا يمد هو أو أحد رجاله إلى الشرّ. كان العسكريون يُرافِقون داود كي يحفظوه من مكائد شاول ومحاولته لقتله، وهو يرافقهم لكي يحفظهم من أي تصرُّفٍ أو فكرٍ غير مُقَدَّسٍ. إنه يهتم بخلاص نفسه كما بخلاصهم.
يراه أيضًا الكاهن أو الأسقف، فأينما وُجِدَ داود التقي حسب نفسه في حضرة الرب، كمن في هيكل مُقَدَّسٍ. كان الكهف في عينيه كنيسة مقدسة يُمارِس فيها عمل التعليم، تحدَّث مع مُرافِقيه كما مع شاول ليُرشِدَهم إلى طريق خلاصهم. كان يكرز بالحق، ويحرص على خلاص الكل.
يراه الذهبي الفم أشبه بأسقفٍ أو كاهن يُقَدِّم ذبيحة الحب وتقدمة الوداعة والرحمة. كما يراه أشبه بفدية، مُقَدِّمًا حياته مبذولة بعفوه عن مقاومه طالب نفسه، ويرى الكهف أشبه بمذبحٍ مُقَدَّسٍ وهيكل للرب لا يسمح بأي فكرٍ غير لائقٍ أن يكون له موضع فيه[1].
v إنكم ترون إنه لم يكن ممكنًا بدون عمل الله أن ينجح (داود) في السيطرة على هؤلاء الشديدي الهياج، لقد وُجِدَتْ نعمة الله على شفتي الرجل المُلهَم تُقَدِّم نوعًا من هذه الكلمات المُقْنِعَة. على أي الأحوال لم تكن مساهمة داود بقليلةٍ، فقد سبق فشكَّلهم في الماضي، لذلك وجدهم في اللحظة الحاسمة مُستعِدِّين وراغبين (فيما تعلَّموه منه). ها أنتم ترونه لم يكن كقائد لفِرق (جيشٍ) يأمرهم، وإنما ككاهنٍ، وقد كان الكهف كنيسة في هذه المناسبة.
كان كمن سيم أسقفًا يُقَدِّم لهم عظة. وبعد العظة قدَّم نوعًا من الذبيحة الرائعة غير العادية، لا بتقديم ثور كذبيحة ولا ذبح حملٍ، بل ما هو أعظم منهما، قدَّم لله وداعةً ورحمةً، ذابحًا الغيظ (الخفي) غير العامل فيه، قاتلًا الغضب، ومُميتًا الأعضاء التي على الأرض. عمل كفدية وكاهنٍ ومذبحٍ. كل شيءٍ صدر منه، الفكر الذي قدَّم لطفًا ورحمة، ووداعة القلب، الأمور التي جعلها تقدمات (لله)[2].
v لا يقل أحد: لي عدو شرير وفاسد وعنيد، يثير الاشمئزاز. مهما تقول عنه لا يوجد من هو أَشرّ من شاول الذي أنقذه داود في مواقفٍ كثيرةٍ، دبَّر بشخصه مكائد كثيرة بلا عددٍ، ومع هذا كان داود يُقَدِّم له إحسانات مُقابِل شروره، وكان مُصِرًّا على شرِّه. أية دعوى تُقَدِّمها بعد ذلك؟ هل اغتصبوا جزءًا من أرضك، هل اقتحموا ممتلكاتك، وتعدُّوا على حدود بيتك، وسرقوا عبيدك، وأَضَرُّوك، وكانوا جشعين، ونزلوا بك إلى الفقر؟ مع هذا لم يأخذوا حياتك، الأمر الذي كان ذاك الرجل (شاول) مُصَمِّمًا عليه. وإن كانوا مُصَمِّمين على أخذ حياتك، ربما حاولوا هذا في مناسبة واحدة، وليس مرة تلو المرة مثله. وإن كرَّروا ذلك مرات، مع ذلك لم ينالوا منك منافع هكذا، إذ لم يسقطوا تحت يديك مرة ومرتين وعفوتَ عنهم. وإن حدث هذا، فلا يزال داود أكثر سخاءً.
إنه لأمر مستحيل لإنسانٍ في ظل تدبير العهد القديم أن يبلغ قِيَمًا عميقة، أما الآن بعد مجيء النعمة، فقد أُعطيت مثل هذه المحاسن العجيبة. لم يسمع داود عن مثل العشرة آلاف وزنة والمئة دينار (مت 18: 23-30). ولم يسمع الصلاة التي تقول: "اغفروا لهم ما عليهم، كما يغفر لكم أبوكم السماوي" (راجع مت 6: 14). لم يرَ المسيح المصلوب، ولا الدم الثمين يفيض، ولا سمع الكلمات التي بلا عدد عن القِيَم السليمة. لم ينتفع بالبركات التي بلا عدد من القِيَم السليمة. لم ينتفع ببركات الذبيحة العجيبة، ولا اشترك في دم الرب. عوض هذا تربَّى في ظل الشرائع غير الكاملة التي لم تتطلَّب هذه الأمور، مع هذا نال ذروة القِيَم السليمة التي لعهد النعمة.
بينما أنتم كثيرًا ما تستاءون من أضرارٍ ماضية، وتتذمَّرون، إذا به على النقيض، فمع الخوف مما سيحدث مُستقبَلًا، ولديه إدراك كامل أنه إن أنقذ حياة الرجل، فالمدينة تفقد حصانتها بالنسبة له، وحياته تهلك، ومع هذا لم يكف عن تقديم رعاية (لعدوِّه). لقد فعل كل ما في استطاعته ليَحمِي ذاك الذي يحمل له عداوة. من استطاع أن يقتني صبرًا أعظم من هذا؟
بالنسبة لكم، تعلَّموا أيضًا مما حدث في أيامنا. على أي الأحوال، إنه يمكننا أن نتصالح مع كل شخصٍ يحمل عداوة لنا إن أردنا. أي شيء يمكن أن يكون أكثر شراسة من الأسد، ومع هذا فالناس يُرَوِّضونه. فإن التدريب بمهارة يُقَدِّم ما هو أفضل في الطبيعة، والحيوان الأكثر شراسة، ويُحسَب ملكًا، يصير أكثر لطفًا من قطيع الغنم، ويتحرَّك في الأسواق دون أن يُسَبِّبَ رُعْبًا لأحدٍ. فأي عذرٍ لنا؟ أيّة حجة لنا إن كانت الوحوش تُرَوَّض، إن ادَّعينا بأن البشر لا يمكن تهدئتهم أو جذبهم لأخذ موقفٍ ودِّيٍ معنا؟
بالحقيقة الشراسة بالنسبة للحيوانات ترجع إلى الطبيعة، أما بالنسبة للكائن البشري، فهي ضد الطبيعة، فإن كنا نغلب الطبيعة، فأي عذرٍ لنا عندما ندَّعي أن حرية الإرادة لا يمكن إصلاحها؟... ليتنا نُرَكِّز على أمرٍ واحدٍ، لا على عدم معاناتنا من الضرر الذي يصيبنا من أعدائنا، وإنما أن نجعلهم لا يؤذون نفوسنا. فإننا لا نضطرب حتى إن كيَّلوا لنا متاعب بلا حصرٍ. فداود لم يُعانِ من شيءٍ بالرغم من أنه طُرِدَ وصار هائمًا، كان موضوع مؤامرات لإنهاء حياته، عوض هذا صار بالأكثر مشهورًا ومهوبًا أكثر من الآخر (شاول)، وصار بالأكثر محبوبًا لدى كل أحدٍ، ليس لدى البشر فقط، بل لدى الله نفسه. فوق هذا كله أي ضررٍ حلَّ بالقدِّيس من احتماله هذا كله من شاول في ذلك الوقت؟ أليست تسابيحه يُغنَّى بها إلى يومنا هذا؟ ألم يصر مشهورًا على الأرض وبالأكثر في السماء؟ أليست خيرات لا تُوصَف تنتظره، حتى في ملكوت السماوات؟
ومن الجانب الآخر أي خير حصل عليه هذا المسكين الشقي بمكائده الرهيبة هذه؟ ألم يفقد مركزه الملكي، وحلَّ به وبابنه موت يُرثَى له، سقط تحت اتهامات وَجَّهها إليه الكل، وما هو أَشرّ من هذا تنتظره العقوبة الأبدية التي سيلقاها؟[3]
الملك الغير منضبط يُدَمِّر شعبه،
لكن بحكمة حُكَّامها تصير مدينة صالحة للسكن [3].
رأينا داود الملك ينقذ رجاله من السقوط في الانتقام من شاول الملك (1 صم 24: 6-7)، وكان شاول الملك بقلبه الفاسد يبثّ الفساد في المحيطين به.
4 مُلْكُ الأَرْضِ فِي يَدِ الرَّبِّ، فَهُوَ يُقِيمُ عَلَيْهَا فِي الأَوَانِ اللاَّئِقِ مَنْ بِهِ نَفْعُهَا. 5 فَوْزُ الرَّجُلِ فِي يَدِ الرَّبِّ، وَعَلَى وَجْهِ الْكَاتِبِ يَجْعَلُ مَجْدَهُ. 6 إِذَا ظَلَمَكَ الْقَرِيبُ فِي شَيْءٍ، فَلاَ تَحْنَقْ عَلَيْهِ، وَلاَ تَأْتِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الشَّتْمِ.
مُلْك الأرض في يد الربّ،
وهو يُقِيم عليها الإنسان المناسب في الوقت المناسب [4].
يؤكد ابن سيراخ اهتمام الرب بكل الأمم والشعوب، فلا يُقَام الملوك والرؤساء بطرق عشوائية، إنما بسماح من الله للخير. فالشعب المتهاون في خلاصه والمقاوم للحق، يسمح الله لهم أن يختاروا قائدًا شريرًا، لكي يدركوا أن ما حلّ بهم هو ثمرة شرهم، لعلهم يتوبون عن الفساد والظلم. فعندما ازداد شرّ البابليين وظنُّوا أنه لا توجد قوة في العالم يمكن في الحاضر أو المستقبل أن تقف أمامهم، سمح لهم أن يملك عليهم بيلشاصر حفيد نبوخذنصر، غالبًا ابن ابنته، الذي لم ينتفع من دروس آبائه (دا 5). تحدَّى بيلشاصر الله نفسه، وأراد أن يهينه عن عمدٍ. وكما يقول القديس جيروم: [لم يكن مُتَّزِنًا حين صنع هذه الأمور، بل بالحري كان مخمورًا، ناسيًا العقوبة التي حلَّت بسالفه نبوخذنصَّر[4].]
كان بيلشاصر منشغلًا بإقامة وليمة تضم ألفًا من العظماء القادمين من كل موضعٍ، مع نسائه وسراريه. كان يظن أنه من المستحيل لكورش أو غيره أن يقتحم أسوار المدينة الضخمة، فتركه يُحاصِرها في استخفافٍ به وبجيشه. كانت أسوار بابل كما جاء في هيرودوت لا يقل عرضها عن 87 قدمًا وارتفاعها عن 350 قدمًا، مع وجود 250 برجًا تعلو 100 قدمًا أخرى في الهواء. لذلك ظن بيلشاصر أنه لا يستطيع أحد أن يغزو بابل.
الجهد الذي بذله بيلشاصر في إقامة الوليمة والإمكانيات التي قُدِّمت لا يمكن تقديرها. هذا مع تحدِّيه لله، فعوض الصوم في وقت الحصار، والصراخ لله لكي ينقذه وينقذ مدينته، إذا به يُقيم وليمة، ويستخدم الأواني المقدسة للشرب لتدنيسها في جوٍ من الفساد والإباحية. وبينما كان بيلشاصر يفتتح الوليمة، كان جيش كورش على أبواب بابل. لقد حوَّل كورش مجاري كثيرة لنهر الفرات واقتحم المدينة فجأة، وزالت مملكة بابل. كان بيلشاصر مسئولًا عمن تحت قيادته، وهم مع بقية الشعب أيضًا من جانبهم كانوا أشرارًا، فكثيرًا ما يسمح الله بتأديب الشعب خلال إقامة قائدٍ شريرٍ. وكثيرًا ما غيَّر الله قلوب القادة الأشرار وأفكارهم خلال صلوات المرؤوسين ومخافتهم للرب وسلوكهم المقدس.
نجاح الإنسان في يد الربّ،
ويهب مجده لشخص الكاتب [5].
الله في عدله يُعطِي نجاحًا للمُجاهِدين، ويُقِيم منهم قادة عظماء. يرى البعض أن كلمة "كاتب" هنا تعني صانع القرار، أو الحاكم. كانت فئة الكتبة عند اليهود مُثَقَّفة، تقوم بنسخ الأسفار المقدسة وبتفسيرها والتعليم بها. في أيام السيد المسيح كان يُنظَر إليهم كطبقة سامية، وكان كثير من الكهنة في أورشليم يخدمون ككتبة. كانوا يلتحقون بمدارس خاصة، ويدرسون مناهج مُعَيَّنة. من بينهم المؤرخ اليهودي يوسيفوس، وأيضًا هليل الذي كان عالمًا وصار مُعَلِّمًا مشهورًا.
7 الْكِبْرِيَاءُ مَمْقُوتَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ وَالنَّاسِ، وَشَأْنُهَا ارْتِكَابُ الإِثْمِ أَمَامَ الْفَرِيقَيْنِ. 8 إِنَّمَا يُنْقَلُ الْمُلْكُ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ لأَجْلِ الْمَظَالِمِ وَالشَّتَائِمِ وَالأَمْوَالِ. 9 لاَ أَحَدٌ أَقْبَحَ جُرْمًا مِنَ البَخِيلِ. لِمَاذَا يَتَكَبَّرُ التُّرَابُ وَالرَّمَادُ؟ 10 لاَ أَحَدٌ أَكْبَرَ إِثْمًا مِمَّنْ يُحِبُّ الْمَالَ، لأَنَّ ذَاكَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ أَيْضًا سِلْعَةً، وَقَدِ اطَّرَحَ أَحْشَاءَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. 11 كُلُّ سُلْطَانٍ قَصِيرُ الْبَقَاءِ. إِنَّ الْمَرَضَ الطَّوِيلَ يَثْقُلُ عَلَى الطَّبِيبِ. 12 فَيَحْسِمُ الطَّبِيبُ الْمَرَضَ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ، هكَذَا الْمَلِكُ يَتَسَلَّطُ الْيَوْمَ وَفِي غَدٍ يَمُوتُ. 13 وَالإِنْسَانُ عِنْدَ مَمَاتِهِ يَرِثُ الأَفَاعِيَ وَالْوُحُوشَ وَالدُّودَ. 14 أَوَّلُ كِبْرِيَاءِ الإِنْسَانِ ارْتِدَادُهُ عَنِ الرَّبِّ، 15 إِذْ يَرْجِعُ قَلْبُهُ عَنْ صَانِعِهِ. فَالْكِبْرِيَاءُ أَوَّلُ الْخَطَاءِ، وَمَنْ رَسَخَتْ فِيهِ فَاضَ أَرْجَاسًا. 16 وَلِذلِكَ أَنْزَلَ الرَّبُّ بِأَصْحَابِهَا نَوَازِلَ غَرِيبَةً، وَدَمَّرَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ.
لا تحنق على جارك لأيّ ضرر سبَّبه،
ولا تُمارِس شيئًا من أعمال الإهانة [6].
تعلَّم ابن سيراخ من سلوك داود النبي الذي لم يسمح ولا لرجاله أن تمتد أياديهم بالشر على شاول.
حينما تضايق داود من نابال الذي أهانه، ولم يعطه شيئًا ليأكل هو وغلمانه الذين حرسوا ممتلكاته وغنمه، استل سيفه ومعه نحو أربعمائة رجل مستلّين سيوفهم لمقاتلته. أرسل له الرب أبيجايل زوجة نابال الحكيمة تصدّه عن هذا العمل بحكمةٍ ووقارٍ. سقطت على رجليه، وقالت: "لا تكن هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي أنك قد سفكت دمًا عفوًا أو أن سيدي انتقم لنفسه". أجابها داود: "مبارك عقلك، ومباركة أنتِ، لأنك منعتني اليوم من إتيان الدماء وانتقام يدي لنفسي" (1 صم 25: 33).
يُحَذِّرنا ابن سيراخ من أخذ أي قرار عندما يكون الإنسان ثائرًا ومنفعلًا. الحقد والكراهية والحنق من ثمار الكبرياء. فالمتواضع يشفق على كل إنسانٍ حتى الذي يسيء إليه (لا 19: 17-18).
v يلزم ألا يغضب (المؤمن) على قريبه بلا سببٍ، ولا يتبنَّى السخط ضد أحدٍ، ولا يرد الشر بالشر. يليق به أن يُشتَم لا أن يَشْتِم، ويُضرَب عن أن يضرب، ويُسَاء إليه عن أن يخطئ، وأن يُسلَب عن أن يَنهِب[5].
v الغضب يجعل الألسنة مطلقة العنان، والأحاديث بلا ضابطٍ. كذلك العنف الجسماني وتصرُّفات الاستهزاء والسب والاتهامات والضرب وغير ذلك من الأعمال الشريرة غير المحصية تُولَد من الغضب والسخط[6].
v بغيضة وقبيحة تلك النفس التي وهبت ذاتها لشهواتها. من يستطيع أن ينظر إلى إنسان في غضبه وشكله القبيح؟ ومن يستطيع أن ينظر إلى إنسانٍ حزينٍ واهن أمام نفسه المُستعبَدة؟...
لنحرص إذن على جمالنا، حتى يستقبلنا العريس الكلمة بالترحاب بهذه الكلمات: "كلكِ جميلة يا حبيبتي، ليس فيك عيبة" (نش 4: 7)[7].
v العفيف في الرغبة في الكرامة متواضع. والعفيف في الغِنَى قانع، ويحقق قياس الإنجيل في الفقر. الذي يتحكَّم في السخط والغضب هو لطيف. بالحق ملاحظة العفة الحقيقية تضبط اللسان وتضع حدًا للعينين وتطهر الأذنين من سماع النميمة بحُبّ استطلاع. أما من لا يحفظ هذا كله فإنه ليس بعفيفٍ بل جامح[8].
يقول القديس باخوميوس إن من يُعَلِّم الغضوب أن يصير وديعًا، يكون قد أخرج منه شيطانًا.
التشامخ ممقوت عند الربّ والناس،
والظلم عند كليهما أمر فاضح [7].
تشامخ الحاكم يدفع الأمة إلى الانهيار. من أمثلة ذلك ما حلّ بمصر من ضربات في أيام موسى بسبب كبرياء فرعون (خر 7-11). لقد تعلَّم ابن سيراخ هذا الدرس من سقوط أشور (612 ق.م) ومملكة بابل (539 ق.م.) وفارس (331 ق.م.) واليونان (323 ق.م.) إلخ.
v أيها المُتميِّز لا تتعالَ على قريبك، تواضع أمامه ولو أمكن تقع أمام رجليه.
صور أمام ناظريك تواضع ابن الله، وكما تواضع هو تواضع أنت أيضًا لأندادك.
انظر إليه متواضعًا وهو يغسل أرجل بني بيته، وإذ هو إله أَحبّ التواضع وأبغض التباهي.
الشيء الذي يبغضه ابن الله لا تقترب إليه، فلو اقتربت سيقتلك ويفسدك.
أبغض الكبرياء الذي أَبغضه ورذله ابن الله: إنه الشرّ الذي منه تنبع كل الشرور.
أَحبِب التواضع، وأبغض الافتخار إن كنت تلميذًا، فلا تقدر جميع الشياطين أن تقترب منك.
التواضع أسقطهم من درجاتهم، ولو وجدوا فيك التواضع يهربون منك.
التواضع هو بيت اللاهوت وحيث هو موجود يسكن فيه الله...
تواضع ليأتي الملك ويحلّ عندك، فلن تؤذيك كل قوة العدو.
بيت الملك لا ينهبه اللصوص، لأن جنوده يحرسون أبوابه بحذرٍ.
إن كنت متواضعًا فهوذا الملكوت حالّ فيك، ولن يسرقك السراق ولا اللصوص.
إن كنت متواضعًا فشجرة كل الشرّ منزوعة منك، ومشتول بدلها ربّنا الشجرة المباركة[9].
ينتقل المُلْك من أمة إلى أمة،
بسبب الظلم والغطرسة والمال [8].
ليس ما يُفسِد أية مملكة أو دولة أو أسرة مثل الظلم والغطرسة ومحبة المال.
v نقرأ أيها الأحباء الأعزاء في الكتاب المقدس: "طوبى للغني الذي لا يسعى وراء المكسب... يقدر أن يتعدَّى ولم يتعد، وأن يصنع الشرّ ولم يصنع" (راجع سي 10: 8-10). حسنًا أيها الإخوة، لنسأل ضمائرنا ونرى إن كنا نحتقر الطمع بطريقة بها نشترك في هذا التطويب[10].
كيف يتكبَّر من هو تراب ورماد؟
فإنه حتى أثناء حياته تنتن أحشاؤه؟ [9]
يقف ابن سيراخ متعجبًا من الإنسان المخلوق من التراب والرماد، فإنه وهو بعد في هذه الحياة، إذ ينشغل بالأرضيات عوض حياته الداخلية، تصير أعماقه فاسدة ونتنة!
v الإنسان الذي يتَّجِه نحو الأمور الخارجية يتحوَّل إلى ما هو أسوأ، وهو حيّ يطرد عنه أحشاءه (راجع سي 10: 9). بهذا يظهر للعالم أنه في حالة أفضل بالنسبة للذين يفكرون في الأمور الأرضية (في 3: 19)، عندما يُمدَح الخاطئ على رغبات نفسه ويُطوَّب الإنسان الظالم.
v إنه يتغيَّر إلى الأفضل متى يتحوَّل اهتمامه تدريجيًا من الأرضيات التي تظهر في هذا العالم، ويضع مجده في الأمور العلوية الداخلية[11].
العجيب أن الإنسان إذ يبقى ترابًا ورمادًا يتكبَّر حتى على خالقه، وإذا اتحد بالعلي يصير سماءً فيتواضع، مُتمثلًِّا بالسيد المسيح القائل: "تعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب".
يقول القديس أغسطينوس إن كان الشيطان ليس له ما يُبَرِّره على كبريائه مع أنه ليس ترابًا ورمادًا، فبماذا يبرر الإنسان كبريائه؟ العجيب أن الإنسان إذ ينبذ أحشاءه (النتنة)، يكون رد الفعل لا الانسحاق والتواضع بل التغطية بالكبرياء والزهو.
v يُقال: "يطلع ينبوع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض" (تك 2: 6). إنه طلع من تلك الأرض، التي قال عنها الكتاب: "أنت هو رجائي، نصيبي في أرض الأحياء" (مز 142: 6). عندما رُويت النفس بمثل هذا الينبوع لم تكن بعد قد عطشت إلى أعماقها الداخلية بالكبرياء. لأن بدء كبرياء الإنسان هو الارتداد عن الله (راجع سي 10: 12). وإذ تنتفخ بالأشياء الخارجية بالكبرياء، تتوقَّف النفس عن الارتواء بالينبوع الداخلي. لهذا بحق يُسخَر منا بكلمات النبي القائل: "لماذا يتكبر من هو من تراب ورماد، وقد أنتنت أحشاؤه مدة حياته؟" (راجع سي 10: 9).
عن آباء شبه جزيرة إيبريا
v "مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلاَّ روح الإنسان الذي فيه" (1 كو 2: 11). ومع ذلك توجد أمور خاصة بالإنسان لا يعرفها الروح الذي فيه. أما أنت يا ربّ الذي خلقته فتعرفه تمامًا. إنني بالحقيقة بالرغم من كوني موضوع نظرك، أحتقر نفسي وأحسبها ليست إلاَّ تراب ورماد. إنني أعرف شيئًا خاصًا بك، ولا أعرف نفسي. بالتأكيد نرى في مرآة معتمة "وليس وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12). ما دمت بعيدًا عنك فإني أقرب إلى نفسي عن قربي لك[12].
v أرتعب، لأن علة تغرّب النفس على الله أنها متكبرة. لا أشك في هذا. مكتوب: "الكبرياء هو بدء الخطية" (راجع سي 10: 13)، وبدء الكبرياء البشري هو البُعْد عن الله. مكتوب أن هذا ثابت وحق. وهكذا ما قيل عن كبرياء البشرية الزائلة، تلتحف في خرق الجسد البالية، تنحدر بثقل الجسد الفاسد (حك 9: 15)، وإلى حين يتشامخ الإنسان ناسيًا ذات الجلد الذي يلتحف به ما هو؟ [9] لماذا يتشامخ؟ لتخبرنا الأسفار المقدسة: "لأن أحشاءه انتنت" [9]... الإنسان المتكبر يتخلَّص من أحشائه، أما المتواضع فيشتاق في غيرة إلى أعماقه. إن كنا بالكبرياء نُطرَد خارجًا، فبالتواضع نعود[13].
v قد يقول قائل: كيف يمكن لمن يسقط في خطية اللهو أن يقتني الشيطان في نفسه؟ ما نقوله أيها الأحباء الأعزاء، نبرهن عليه من الأسفار المقدسة.
لتنصت إلى الكتاب المقدس القائل إن المتكبر هو مملوء بالشيطان: "كل متشامخ القلب مكرهة الربّ" (راجع أم 16: 5)، و"كل كبرياء هو بدء الارتداد عن الله" (راجع سي 10: 12). ماذا يعني الارتداد عن الله سوى مفارقته. علاوة على هذا، الإنسان الذي يعتزل الله بالضرورة يتحد مع الشيطان. هذا ويقول الكتاب إن الإنسان الحاسد لا يمكن أن يكون بدون شيطان. "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم والذين يتبعونه يصيرون في صفه". يقول النبي: "روح الزنا قد أضلّهم" (هو 4: 12).
v الكبرياء والتشامخ والعجرفة خطايا الشيطان، وبسبب هذه الأخطاء ترك السماء من أجل الأرض [سقط الشيطان من السماء]. لذلك "يقاوم الله المتكبرين، ويعطي نعمة للمتواضعين" (يع 4: 6). فمن يتعجرف ينسى ما سيصير عليه، أية هشاشة تحلّ به، وفي أية قذارة سيغرق، وأية مزبلة تخرج على الدوام من جسمه؟ ماذا تقول الأسفار الإلهية؟ كيف يمكن لمن صُنِع من التراب والرماد أن يفتخر؟ بفساد أحشاء الإنسان الداخلية. الكبرياء أخطر كل الخطايا، خطأ الشيطان الرئيسي[14].
كل الخليقة العاقلة في السماوات وعلى الأرض في حاجة إلى النعمة الإلهية التي تربطها بالله، فلا تسقط في الكبرياء، وبالتالي لا تعزل نفسها عنه بكونه مصدر صلاحها. عندما عزلت إحدى الطغمات السماوية نفسها عن الله بقبولها للكبرياء، حُرِمَت من النعمة الإلهية وصارت قوات ظلمة، لا تحتمل النور. وأيضًا إذ رفض أبوانا النعمة والتصقا بوعود إبليس وإرشاداته سقطا في الكبرياء. من يبتعد عن الله أو يعزل نفسه عنه يهلك، إذ يسلك حسب إرادته الشريرة، لا حسب إرادة الله المقدسة.
يرى فلجنتينوس تلميذ القديس أغسطينوس أن الإنسان الأول كان في حاجة إلى النعمة الإلهية.
v في الحقيقة لم تكن تستطيع الطبيعة البشرية بقدرتها الذاتية هذه الإمكانية، أي عمل الصلاح، حتى بالنسبة للإنسان الأول قبل أن يُجرَح بالخطية. لذلك، كيف كان يمكن للإنسان أن يسترد صحته بدون عون الطبيب، إن كان وهو في صحته لم يستطع أن ينجح في حماية صحته في ذلك الحين؟ لهذا يليق بالتراب والرماد ألاَّ يفتخر، لأن الفكر العميق في هذه الحياة هجره (سي 10: 9)، ولم يكن ممكنًا للجريح أن يعمل كمن هو في كامل صحته، حاسبًا أن جرحه قد شُفِي. بالحريّ كان يلزمه في تواضع أن يكشف عن قلبه الجريح ونتن جراحاته. فيعلن مع النبي: "قد انتنت، قاحت حُبُر ضربي من جهة حماقتي" (مز 38: 5)، فيقدر أن ينال الشفاء لا عن استحقاقه، وإنما خلال عطية الرحمة الإلهية المجانية. بالحقيقة كيف يملك الإنسان ما لم يستلمه؟ وإذ استلم هذا، فلماذا يمجد نفسه كمن لم يستلم شيئًا (راجع 1 كو 4: 7)؟[15]
v ابتدأ الإنسان يخطئ خلال اعتزاله الله. مكتوب: "بدء الكبرياء الابتعاد عن الله" (راجع سي 10: 14)، وفي موضعٍ آخر: "هوذا الذين يبتعدون عنك يبيدون، تُهلك كل من يزني عنك" (مز 73: 27). الذين يبتعدون عن الله ويرتكبون الزنا يهلكون... الله لا يريد هلاكهم بدينونته ما لم يهلكوا هم أنفسهم بآثامهم[16].
فلجنتينوس أسقف Ruspe
v لينصت المتواضعون إلى صوت الحق الملوكي: "من يضع نفسه يرتفع"، وليعلم المتكبرون أن "كل من يرفع نفسه يتضع" (لو 18: 14). ليعلم المتواضعون أن "قبل الكرامة التواضع" (أم 15: 33)، وليعلم المتكبرون أن: "قبل الكسر الكبرياء" (أم 16: 18). ليعلم المتواضعون أن: "إلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2)، وليذكر المتكبرون القول: "لماذا يتكبر التراب والرماد" (راجع سي 10: 9). ليعلم المتواضع أن "الرب عال ويرى المتواضع"، وللمتكبر يقول: "أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 138: 6). ليعرف المتواضعون أن: "ابن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليخدم" (مت 20: 28)، وليعلم المتكبرون أن "الكبرياء أول الخطأ (ومن رسخت فيه فاض أرجاسًا)" (راجع سي 10: 15). ليعلم المتواضعون أن مُخَلِّصنا: "وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 8).
ليعلم المتكبرون ما هو مكتوب عن رئيسهم: "عند نهوضه تفزع الأقوياء" "هو ملك على كل بني الكبرياء" (أي 41: 25، 34). بكبرياء إبليس حلَّت علينا الدينونة، وبتواضع الله تحقَّق عهد خلاصنا. لأن عدونا المخلوق كسائر المخلوقات أراد أن يتعالى فوق الجميع، أما مخلصنا فقد ارتأى أن يصير صغيرًا بين الجميع، وهكذا ظل متعاليًا وعظيمًا فوق الكل. لذلك ليعرف الودعاء أنهم يرتفعون كشبه الله عندما يتواضعون. وليعلم المتعالون أن بغرورهم يهبطون إلى شبه الملاك العاصي. ليس ما هو أحَطُ من الغرور الذي يُسْقِط الإنسان من حالة الرفعة الحقيقية. وما أرفع التواضع الذي بنزوله إلى الحضيض يرتبط بالخالق الذي هو فوق الجميع في الأعالي[17].
المرض المُزمِن يُحَيِّر الطبيب،
ومَلِك اليوم غدًا يموت [10].
حين يموت الإنسان يرث الدبيب والوحوش والدود [11].
بدء كبرياء الإنسان ارتداده عن الربّ،
لأن قلبه ينسحب عن خالقه [12].
v أبناء الله وأبناء الشيطان لا يتميَّزون عن بعضهم البعض إلاَّ خلال التواضع والكبرياء. عندما ترى إنسانًا متكبرًا لا تشك في كونه ابنًا للشيطان. وإن رأيت إنسانًا متواضعًا يلزمك أن تصدق وتثق أنه ابن الله ... ما الذي أسقط الشيطان سوى الكبرياء، والذي رفع المسيح هو التواضع، فقد وضع شفاء التواضع من أجل جرح الكبرياء. لهذا إن أردنا أن نتجنَّب الكبرياء يلزمنا أن ننسحب دومًا في دواء التواضع. لننصت إلى الربّ القائل: "تعلَّموا مني، لأني وديع، ومتواضع القلب" (مت 11: 29). لم يَقُل تعلَّموا مني خلقة العالم، أو إحياء الموتى أو صنع المعجزات الأخرى.
v الذي يتكبَّر يُعانِي ذات العقوبة مع الشيطان، لأن: أول كبرياء الإنسان ارتداده عن الربّ (راجع سي 10: 12). الكبرياء هو بدء الخطية، وهو الدافع الأول والتحرُّك نحو الشرّ. بالحقيقة ربما هو كل من الجذر والأساس. لأن البداية تعني الدافع الأول تجاه الشرّ أو خلفية الشرّ. ذلك مثل شخص يقول إن بداية الطهارة هو الامتناع عن النظر نحو الأمور غير اللائقة فهذا هو الدافع. أما أن نقول إن بداية الطهارة هو الصوم، فهذا هو الأساس الذي يقيم الطهارة. هكذا الكبرياء، هو بداية الخطية، لأن كل خطية تبدأ به وهو يسندها[18].
v لو لم يُصب الشيطان بهذا المرض (العجرفة) لما انحدر وصار شيطانًا، إذ لم يكن قبلًا شيطانًا. هذا ما طرحه من هذه الثقة، هذا دفع به إلى حفرة النار، هذا هو سبب كل ويلاته[19].
v بدء الخطية البشرية هو التمرُّد على الله، وبدء كل خطية هو الكبرياء. وقد تكلم الرسول عن هذا الأمر بخصوص الخطية قائلًا: "لأنهم لما عرفوا الله لم يُمَجِّدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم واظلّم قلبهم" (رو 1: 21). القلب المظلم عقابه في ذاته. ولكن من أين حدث هذا؟ "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22). لقد قالوا إن ما نالوه من الله صادر من ذواتهم. أو حتى إن عرفوا ممن استلموا هذا، لم يعطوا المجد لذاك الذي استلموا منه.
v الشقاء هو بذور الإثم، أما الخطية فهي الحبل بالشقاء؛ فإن الخطية الأولى هي الارتداد عن الله [12]. من يحبل بالشقاء يتمخض بالظلم. الإثم بعينه مثل الظلم، إنه ينجب ما قد تمخض به[20].
لأن بدء كبرياء الإنسان هو خطيّة، ومن تَمَسَّك به يفيض رجاسة.
ولذلك يُنزل الربّ بالمتكبرين محنًا فائقة، ويُدَمِّرهم تمامًا [13].
ليس بالضرورة كل خطية يُرَافِقها الكبرياء، لكن كل خطية عِلّتها الأولى الكبرياء واعتزال الإنسان إلهه، ورفضه الإرادة الإلهية.
v ذاك الذي تعلَّم جيدًا خطوات الغلبة على الرذائل، يعرف أن هذه الرذيلة التي للمجد الباطل يلزم تجنُّبها الكامل... فإن هذه التي بها سقطت النفس أولًا، تسود البقية. "فإن أول كل خطية هو الكبرياء" وأيضًا: "بدء كبرياء الإنسان ارتداده عن الله" (راجع سي 10: 12-13)[21].
v عندما تحب النفس سلطانها تنحدر مما هو عام للجميع إلى ما هو خاص بها. لو أنها اتَّبعت الله كقائدها في الخليقة المسكونية تستطيع شرائعه أن تضبطها على أعلى مستوى من السمو[22].
v لا يحتاج التطويب إلى أي شيء آخر أيا كان، ما دام يحتاج إلى بلوغ الحكمة العليا. "لكن مخافة الرب رأس الحكمة" (مز 110: 10) LXX. ومن الجانب الآخر فإن الكبرياء يُدعَى "بدء كل خطية" (راجع سي 10: 13). يطلب المتكبر محبة ممالك الأرض، ولكن "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3)[23].
v أتوسل إليكم أن نكون غيورين، أن نبتعد عن هذا الميل (الكبرياء)، حتى لا نسقط في نفس الدينونة، ولا نُخضِع أنفسنا لذات العقوبة، ولا نشترك في النقمة. يقول: "غير حديث الإيمان، لئلا يتصلَّف، فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6). من ينتفخ يعاني من ذات العقوبة مع إبليس "أول الكبرياء عدم معرفة الرب" (راجع سي 10: 12)[24].
v يقول حكيم: "الكبرياء بدء الخطية" (راجع سي 10: 13)، أي جذرها ومصدرها ووالدتها[25].
v بالحقيقة ليس شيء غريبًا عن رحمة الله، ويلقي في نار جنهم مثل طاغية الكبرياء. إن اقتنيناه في داخلنا، تصير حياتنا دنسة، حتى وإن مارسنا الطهارة والبتولية والصوم والصلاة والصدقة أو أية فضيلة كانت. يقول الكتاب: "مكرهة الربّ كل تشامخ القلب" (أم 16: 5). لهذا يلزمنا التضييق على تشامخ النفس هذا، ولنقطع هذا الورم tumor، إن أردنا أن نكون أنقياء، ونتخلَّص من العقاب المُعَد للشيطان[26].
17 نَقَضَ الرَّبُّ عُرُوشَ السَّلاَطِينِ، وَأَجْلَسَ الْوُدَعَاءَ مَكَانَهُمْ. 18 قَلَعَ الرَّبُّ أُصُولَ الأُمَمِ، وَغَرَسَ الْمُتَوَاضِعِينَ مَكَانَهُمْ. 19 قَلَبَ الرَّبُّ بُلْدَانَ الأُمَمِ، وَأَبَادَهَا إِلَى أُسُسِ الأَرْضِ. 20 أَقْحَلَ بَعْضَهَا، وَأَبَادَ سُكَّانَهَا، وَأَزَالَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. 21 مَحَا الرَّبُّ ذِكْرَ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَأَبْقَى ذِكْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ بِالرُّوحِ. 22 لَمْ تُخْلَقِ الْكِبْرِيَاءُ مَعَ النَّاسِ، وَلاَ الْغَضَبُ مَعَ مَوَالِيدِ النِّسَاءِ.
يُدَمِّر الرب عروش السلاطين،
ويُجلِس الودعاء مكانهم [14].
يقول الرسول: "وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كو 5: 15). جاء الحديث هنا صدى لما ورد في (أم 3: 37) وفي (1 بط 5: 5-6).
v جاء مسيحنا لكي يُصَالِحنا مع الله (الآب) بتواضعه، إذ ضللنا عنه بكبريائنا اللعين...
"الكبرياء هو بدء كل الخطايا" كذلك نقرأ: "أول الكبرياء للإنسان هو السقوط بارتداده عن الربّ" (راجع سي 10: 13، 14). لذلك ليته لا يعيش أحد لنفسه بل للمسيح، فيصنع إرادته، وليس إرادة الإنسان نفسه، ويثبت في حبه، ويفعل إرادة أبيه ويقطن في حُبِّه (يو 15: 10)[27].
v أيوجد متكبر آخر؟ ليسمع: "يقاوم الله المستكبرين" (يع 4: 6). و"الكبرياء هو أول بدء الخطية" (راجع سي 10: 13). "مكرهة الرب كل متشامخ القلب" (أم 16: 5)[28].
يُقَدِّم لنا القديس مار يعقوب السروجي صورة رائعة لملك نينوى الوثني وهو ينقذ مملكته بإيمانه بروح التواضع والتوبة.
1. في تواضعٍ، لم يستخفّ بإنسانٍ أعزل من السلاح (يونان)، فقير ويبدو في مظهره كحقيرٍ.
2. ترك الكرسي الملكي، مُقَدِّمًا التوبة في انسحاقٍ وتوبةٍ صادقةٍ.
3. جمع الشعب ليشترك الكل، حتى الأطفال الصغار في المعركة.
4. أدرك أن سلاح الرُضَّع والأطفال أعظم وأقوى من كل سلاح، فبهم يربحون المعركة، ويغتصبون مراحم الله العظيمة.
يُصَوِّر لنا القديس مار يعقوب السروجي لقاء يونان النبي مع ملك نينوى، قائلًا:
v قال يونان: ليس من وسيلة لإبطال الغضب، فقد اشتد الإثم وحلَّ الانقلاب ليحطمكم.
تَقرَّر الشر ووصلت النهاية المحتومة، اقترب الضيق، وصار السقوط على الباب.
أرسلني الرب، ذاك الجبار الحامل الخليقة، لكي أدعو بالانقلاب، وبصوت الفزع على أسواركم.
ذاك القوي الذي أرعب بأمره كل الخلائق، وينظر إلى الأرض وترتجف منه لأنه ربَّها.
ذاك الذي أَدَّب الأرض بمياه المجازاة وأباد الخطاة منها ولم ينجوا.
ذاك الذي شتَّتَ الشعوب في الأقطار منذ عهد بابل، وإذ أخطأوا ضده بلبل ألسنتهم وأهلكها...
لطمت هذه الأصوات ملك نينوى، وارتعب عندما سمع الأخبار المُخِيفة.
خاف من يونان أكثر من آلاف الجبابرة، وسقط الملك أمام ذلك الحقير.
قام من عرشه البهي، وطرح التاج عنه، ولبس مسوحًا، وأَعدَّ نفسه للتوبة.
رأى أن يونان لا يريد التراجُع فيما يقول، ففكَّر ليُبْطِلَ كلماته بالمتناقضات.
وجد أن النبي يُهَدِّدُ كثيرًا وبقوة، فشدَّ حقويه (حزم أمره) ليُواجِه الخطر ببأسٍ.
علم ماذا تتطلب تلك المعركة، فهيَّأ نفسه ليُقِيمَ الجبهة مثل باسلٍ.
أدرك إن هذه المعركة ليست كالمعارك المُعتادَة، فجمع شعبه، وحثَّهم على الجهاد.
جمع جنوده وصفَّهم للطِلْبَةِ، وموَّن صفوف الجنود بالصلوات ليَسِدَّ الثغرات.
جعل الرجال والنساء والأطفال يمسكون بالصوم، كل واحدٍ حسب قوته، ليصطفُّوا للقتال مُقابِل الغضب.
قال الملك لجنوده مثل هذه الكلمات لجيوشه التي تجمَّعَتْ معًا لأجل الطلبة.
إن قتالًا جديدًا ندخل فيه غير مألوفٍ. لنوقظ نفوسنا على النصرة بالفضيلة.
أريحوا السلاح، واحملوا المسوح بدل الدروع، واتركوا السهام وليَفحْ منا صوت الطِلْبَات.
ليقم الأطفال والشيوخ، ويصطفّوا ضد الغضب، وليحارب الرجال والنساء ضد الهلاك.
ولا يتعطَّل عن المعركة حتى ابن يومٍ واحدٍ، لأن القتال شديد، فلا نظهر فيه الملل.
صبي لم يخطئ يهزم ألفًا في هذه المعركة، ليأتوا معنا لأن كل الحرب بهم تُربَح.
هوذا العبراني يُهَدِّدُ ويلوح ليُبِيدَنا، لنُجابِهَه لئلا يفرح بنا عندما يغلبنا.
رُضَّع اللبن يشتركون معنا هنا بين الصفوف ويسندوننا، إلى أن يُدفَعَ الشرُّ عنا.
في هذا القتال الصبيان أقوى من الرجال، والأطفال يُجاهِدون أسهل من الجبابرة.
الأطفال الذين لم يخطئوا يهزمون في هذه المعركة الألوف،
ويشتركون معنا، فبِهِم يصير النضال أفضل[29].
يقتلع الربّ جذور الأمم،
ويغرس المتواضعين مكانهم [15].
عندما يموت إنسان مؤمن نشعر بأن ذكراه تدوم إلى الأبد، لأنه في حضرة الله، أما الأشرار سواء على مستوى الأفراد أو الأمم فينتهون كأن لم يكن لهم وجود من قبل.
v من المعتاد أن يُقَال عن المتكبر إن به أرواحًا متعالية. وهذا صحيح، لأن الريح تُدعَى روحًا. وبهذا كُتب: "النار والبرَد والثلج والضباب الريح العاصفة Spirit of tempest" (مز 8:148) حقًا إن المتكبر يُدعَى منتفخًا، كما لو كان متعاليًا مع الريح. وهنا يقول الرسول: "العلم ينفخ، ولكن المحبَّة تبني" (1 كو 1:8)... لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفو الله، أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ. بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، ما دامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز10:111)، ومن الناحية الأخرى "الكبرياء أول الخطايا" (راجع سي 5:10). إذن ليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات"[30].
يقلب الربّ بلدان الأمم،
ويبيدها إلى أسس الأرض [16].
يزعزع بعضها، ويُبيد سكانها،
ويُزيل من الأرض ذكرهم [17].
لم يُخلَق الكبرياء لأجل الناس،
ولا حدّة الغضب لأجل مواليد النساء [18].
خُلِق الإنسان على صورة الله في وداعةٍ وتواضعٍ. أما ما حلّ بنا من كبرياء، فهو من تهاوننا واعتزالنا نعمة الله.
23 أَيُّ نَسْلٍ هُوَ الْكَرِيمُ؟ نَسْلُ الإِنْسَانِ. أَيُّ نَسْلٍ هُوَ الْكَرِيمُ؟ الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ. أَيُّ نَسْلٍ هُوَ اللَّئِيمُ؟ نَسْلُ الإِنْسَانِ. أَيُّ نَسْلٍ هُوَ اللَّئِيمُ؟ الْمُتَعَدُّونَ لِلْوَصَايَا. 24 فِيمَا بَيْنَ الإِخْوَةِ يَكُونُ رَئِيسُهُمْ مُكَرَّمًا، هكَذَا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. 25 الْغَنِيُّ وَالْمَجِيدُ وَالْفَقِيرُ فَخْرُهُمْ مَخَافَةُ الرَّبِّ. 26 لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يُهَانَ الْفَقِيرُ الْعَاقِلُ، وَلاَ مِنَ اللاَّئِقِ أَنْ يُكْرَمَ الرَّجُلُ الْخَاطِئُ. 27 الْعَظِيمُ وَالْقَاضِي وَالْمُقْتَدِرُ يُكْرَمُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَعْظَمَ مِمَّنْ يَتَّقِي الرَّبَّ. 28 الْعَبْدُ الْحَكِيمُ يَخْدُمُهُ الأَحْرَارُ، وَالرَّجُلُ الْعَاقِلُ لاَ يَتَذَمَّرُ.
أي نوع من النسل مُكرَّم؟ نسل الإنسان.
أي نوع من النسل مُكرَّم؟ هؤلاء الذين يخافون الربّ. أي نسل لا يُكرّم؟ نسل الإنسان.
أي نسل لا يُكرّم؟ المُتعدُّون على الوصايا [19].
إن كان أمام الإنسان مخافة الرب، ينعم بالكرامة بالتصاقه بالرب، أو أمامه تعدَّى الوصية الإلهية، فيجلب لنفسه الهوان بانفصاله عن الله. إذ كان نوح خائفًا الربّ (عب 11: 7) تمتع هو وأسرته بالخلاص من الطوفان، بل ودخل في عهدٍ مع الله ألاَّ يحدث طوفان يدمر الأرض كلها.
v البُعْد عن العمل بوصايا الله هو بُعْد عن الله؛ وهذا هو جوهر الخطيئة التي هي انفصال عن الله، وبُعْد عن الوحدة معه[31].
يُكرَم الرئيس بين الإخوة،
وخائفو الربّ يُكرَمون في عينيه [20].
مخافة الربّ تتقدَّم طلب السلطة،
أما العنف والكبرياء ففيهما فقدانها [21].
الغني والوقور eminent والفقير على قدم المساواة،
فخرهم هو مخافة الرب [22].
عظمة الإنسان وكرامته ليس في مقتنياته ولا في مركزه أو قدراته، وإنما في مخافته للربّ وتقواه وحكمته، مهما بلغ فقره.
v ليس الفقر مصدرًا دائمًا للفخر، بل الفقر الاختياري من أجل الإنجيل. هذا هو الكمال! كثيرون افتقروا للغِنَى، لكنهم يشتهونه في أعماقهم. لم يخلصوا لأنهم فقراء، ونيَّتهم الداخلية تدينهم. ليس سعيدًا من يفتقر في كل شيءٍ، بل الذي يعتبر الوصية هي أفضل من كنوز العالم. هكذا يُطوِّبه الرب: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3). لا للذين يفتقرون إلى الغِنَى، بل الذين اختاروا الفقر من داخل نفوسهم. فلا تأتي السعادة إلا لمن اختار ذلك. فكل فضيلة، خاصةً فضيلة الفقر هي فعل اختياري[32].
ليس من العدل أن يُهَان الفقير العاقل،
ولا من اللائق أن يُكرَم الرجل الخاطئ [23].
النبيل والقاضي والحاكم سيُكرَّمون،
وليس أحد منهم أعظم ممن يخاف الربّ [24].
الأحرار يُقدِّمون الخدمة لخادم حكيم،
والرجل العاقل لا يتذمّر من ذلك [25].
يقول سليمان الحكيم: "العبد الفطن يتسلَّط على الابن المخزي، ويقاسم الإخوة الميراث" (أم 17: 2). ويقول الرسول بولس: "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 28). وأيضًا: "حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري وسكيثي، عبد وحر، بل المسيح الكل وفي الكل" (كو 3: 11).
v "من دُعي في الربّ وهو عبد فهو عتيق الربّ" (1 كو 7: 22). الشخص الذي يخلص من الخطايا التي هي بالحق تشير إلى "العبيد"، يصير عتيق الربّ. لأن من يسلك بغير حكمة هو عبد...
هذا رأي القدامى أيضًا، الذين كانوا يدعون الحكماء أحرارًا، وكل غير الحكماء عبيدًا. قيل: "الأحرار يخدمون العبد الحكيم" (راجع سي 10: 25). لذلك من يؤمن، وإن كان عبدًا إلى حين يصير عتيق الربّ، لأن بإيمانه بالمسيح يسلك بالحكمة. الخطايا تخلق عبيدًا مثل حام بن نوح، الذي صار عبدًا من أجل خطيته ونقص التعقُّل (تك 9: 22-24). وحين ينال أحد مغفرة الخطايا يصير متحررًا[33].
الأب أمبروسيستر
29 لاَ تَعْتَلَّ عَنِ الاِشْتِغَالِ بِالأَعْمَالِ، وَلاَ تَنْتَفِخْ فِي وَقْتِ الإِعْسَارِ. 30 فَإِنَّ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِكُلِّ عَمَلٍ، خَيْرٌ مِمَّنْ يَتَمَشَّى أَوْ يَنْتَفِخُ وَهُوَ فِي فَاقَةٍ إِلَى الْخُبْزِ.
لا تُظهِر حكمتك عند القيام بعملك،
ولا تتعاظم في وقت شِدَّتِك [26].
v الذين يقضون حياتهم في جهود صغيرة ومتواضعة، يصيرون أحرارًا من المخاطر، وليسوا في حاجة إلى احتياطات خاصة، ويجدون الطريق المؤدِّي إلى الله بسهولة، وذلك بانتصارهم الدائم على الشهوات[34].
الذي يعمل وهو يملك الكثير،
أفضل ممن يتفاخر، لكنه في حاجة إلى الخبز [27].
مهما بلغ غِنَى الإنسان فهو محتاج إلى العمل. حسب القديس باسيليوس الكبير العمل ضروريًا، للأسباب التالية:
1. العمل وصية إلهية وهِبَة إلهية، إذ خلق الله الإنسان ليعمل (تك 2: 15). وبدون العمل يفقد الإنسان طعم الحياة. يؤكِّد القدِّيس باسيليوس أنه لا عذر للمتكاسل الذي يعيش في البطالة، بينما هو قادر على العمل. يليق به أن يتشبَّه بتلك الأسماك التي تقطع البحار بطريقة عجيبة طلبًا للطعام[35].
2. يساعدنا العمل على صُنْعِ الخير، فنتقاسم الموارد مع الذين يفتقرون إليها. يليق بالمؤمن أن يعمل لا ليأكل فحسب، بل ولأجل بنيانه الروحي، ويُقَدِّم من عمل يديه للرب نفسه خلال المحتاجين.
3. من لا يعمل لا يستحق طعامه (مت 10: 10؛ 2 تس 3: 10).
4. يدفعنا العمل إلى النشاط.
v من كان قادرًا فليعمل ويُعطِ المحتاجين، فمن كان غير راغبٍ في العمل يُدَان، ويُحسَب غير أهلٍ حتى أن يأكل (مت 10: 10؛ أع 20: 35)[36].
v يجب علينا عند الإمكان أن نعمل، لنتقاسم الموارد مع الذين يفتقرون إليها[37].
v إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مُطلَقًا.
فقد بقي علينا أن نعمل لأنفسنا، لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي للحياة الأبديَّة (يو 6: 27)، لا لحاجاتنا الجسديَّة فقط، بل لنُسعِف القريب أيضًا (أف 4: 28). وسيقول لنا الرب في يوم الدين: "جُعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني..." (مت 25: 35). ويُعَدّ ما نفعله مع من كرَّسوا أنفسهم له كأنَّنا نعمل معهم، ويُعطَى لنا عن ذلك الملكوت السماوي. وبالعكس سيُعاقَب الذين لم يعملوا ولم يتعبوا ليساعدوا الضعفاء ويخدموا القريب (أع 20: 4، 35)، ويرسلهم إلى العذاب الأبدي (مت 25: 41–46)[38].
31 يَا بُنَيَّ، مَجِّدْ نَفْسَكَ بالْوَدَاعَةِ، وَأَعْطِ لَهَا مِنَ الْكَرَامَةِ مَا تَسْتَحِقُّ. 32 مَنْ خَطِئَ إِلَى نَفْسِهِ فَمَنْ يُزَكِّيهِ؟ وَمَنْ يُكْرِمُ الَّذِي يُهِينُ حَيَاتَهُ؟ 33 الْفَقِيرُ يُكْرَمُ لأَجْلِ عَمَلِهِ، وَالْغَنِيُّ يُكْرَمُ لأَجْلِ غِنَاهُ. 34 مَنْ أُكْرِمَ مَعَ الْفَقْرِ فَكَيْفَ مَعَ الْغِنَى؟ وَمَنْ أُهِينَ مَعَ الْغِنَى فَكَيْفَ مَعَ الْفَقْرِ؟
يا بني، مَجِّد نفسك your soul بالتواضع،
وأعطها من الكرامة قدر استحقاقها [28].
في بستان جثسيماني سجد الربّ ليستلم كأس الألم من يد الآب، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. مؤكدًا لنا أننا فيه نطلب المجد الذي يعدّه الله لنا "مجدني..." (يو 17: 5). وكما يحذرنا ابن سيراخ من الاعتداد بالذات، يحذرنا أيضًا من صغر النفس الذي يدفعنا إلى حالةٍ من الإحباط.
v عندما تشتِم، فأنت الذي تُشتَم. أغلب الناس يعرفون هذا جزئيًا، عندما يقولون الواحد للآخر: "هلم نبتعد، لا تهين نفسك". لماذا؟ لأن الفارق كبير بينك وبينه. فإنك إذ تشتمه كثيرًا، يحسب هذا رصيدًا له. ليتنا نضع هذا في كل الحالات، ونرتفع فوق الشتائم. سأخبرك كيف هذا.
هل يليق بنا الدخول في نزاع مع من يرتدي الأرجوان. لنحسب إننا إذ نشتمه إنما نشتم أنفسنا، إذ نتأهَّل أن نكون في خزي. أخبرني ماذا تعني بهذا؟ عندما تكون مواطنًا للسماء ولك الفلسفة العلوية، هل تهين نفسك مع ذاك الذي يفكر في الأرضيات؟ (في 3: 19) فإنه وإن كان يملك ثروات لا حصر لها، وبالرغم من أن له سلطان، مع هذا لا يعرف الصالح الذي في هذه الأمور. لا تشتم نفسك بشتيمتك له... كرِّم نفسك لا إياه. ألا يوجد مثل هذا: أن من يكرَّم إنما يكرم نفسه. بسبب صالح، فإن من يكرم لا يكرم الغير بل نفسه. اسمع ما يقوله الحكيم: "مَجِّد نفسك بالكرامة من ذلك المصدر" (راجع سي 10: 28)[39].
من الذي يُبَرِّر إنسانًا يخطئ إلى نفسه his soul؟
ومن يكرم إنسانًا أهان حياته؟ [29]
يحذرنا ابن سيراخ من استخفاف الإنسان بمن وهبه الله قدراتٍ ومواهبٍ وإمكانياتٍ.
يُكرَم الفقير لأجل معرفته،
ويُكرَم الغني لأجل غناه [30].
يوجد ما يُكرم به الفقير ألا وهو المعرفة والحكمة والتقوى.
إذا أُكرِم إنسان وهو في فقرٍ، فكم وهو في غِنَى؟
وإن أُهين إنسان وهو في غِنَى، فبالأكثر وهو في الفقر؟ [31]
شعر رائع موسيقي لا يحتاج إلى تفسير. فإن من ينال الكرامة وهو فقير بسبب حكمته، فماذا لو صار غنيًا. ومن أهين بسبب جهالته وشره وهو غني، فماذا لو صار أيضًا فقيرًا؟!
v إلهي، وأنت ملك الملوك، نزلت لتُقِيم حتى من الأطفال قادة مملوئين حبًا وحكمة.
خلقت البشر لا ليكون من بينهم من هو عبد، بل يحمل الكل أيقونة القيادة الحكيمة!
كل من يلتصق بك يصير ملكًا، له سلطان على أعماقه.
وبالحب حتى الأطفال الصغار يصيرون أبطالًا ناضجين.
عَلِّمني، دَرِّبني، يا كلي الوداعة والتواضع.
أَفِض بنعمتك في داخلي، فأَتمتَّع بروح الرئاسة الجذَّابة!
قَدِّسني، فتصير أورشليمي الداخلية مُقَدَّسة بك. لتُقِم ملكوتك في داخلي!
v أَقمت من الصبي داود ملكًا، ويشتهى كثيرون أن يُحسَبوا أبناء داود القائد الناجح.
وتشامخ شاول الملك، وامتلأت أعماقه بروح الانتقام من ذاك الذي أنقذه مرات ومرات!
أفسد أسرته ومات هو وبنوه في عارٍ، وانسحب العرش من تحته.
v احفظني لئلا أتهاون مع بيلشاصر ملك بابل (دا 5)،
الذي انهار هو ومملكته في عارٍ عجيب!
حقًا سمحت بإقامته ملكًا فاسدًا لشعبٍ فاسدٍ، حتى تتأدَّب الأمم عبر العصور.
حكيم أنت يا ربّ، يا ضابط التاريخ، تُرسِل لكل أمةٍ قائدًا لبنيانها أو لتأديبها!
v هب لي روح الجدّية بلا تهاون، فتمتد يدك وتحملني بنجاحٍ، في طريق الحق.
استمع داود لصوتك خلال أبيجابل الحكيمة.
باركها داود، لأنها منعته من الانتقام لنفسه من رجلها نابال الجاهل.
هب لي يا ربّ أن أنصت مع داود إلى شريعتك أيا كان المتحدث بها!
لا يتسلَّل الغيظ إلى قلبي لمن يُسَبِّب لي ضررًا. ولا تسمح لفمي أن ينطق بكلمة إهانة.
لتقُد بنفسك قلبي وفمي، ولتضع حراسة مُشدَّدة عليهما. قَدِّسهما، لأشهد لك يا أيها القدوس!
v لتنزع عني روح الغضب، وتهبني من وداعتك! لتُحَطِّم فيَّ كل كبرياء، فأَتمتَّع بتواضعك!
ليحلّ ملكوتك في داخلي، وتتجلَّى أنت في أعماقي.
أشتهي أن أرى كل طفلٍ ملكًا وقائدًا. يطأ تحت قدميه عدو الخير وكل قواته،
ولا يستطيع لص أن يسرق مجده!
v أَعنّي حتى لا أَفقد عطيتك لي، فإنك تريدني قائدًا محبًا ومتواضعًا وعفيفًا.
انزع عني البغضة والكبرياء ومحبة المال.
خلقتني من تراب ورماد، ووهبتني أن يرتفع قلبي إلى سماواتك! لألتصق بك، ولا أَرتدّ عنك!
لتسحب أعماقي إلى سماواتك، فلا أَتمرَّغ في وحل هذا العالم.
لا تنزع عني نعمتك التي سندت الطغمات السماوية.
لئلا تسحبني الخطية إلى الهاوية، وأَنضمّ إلى قوات الظلمة.
v أنقذني من طاغية الكبرياء الذي هو بدء كل خطية،
وهبني أن أُتَمِّم إرادتك المقدسة لا إرادتي الشريرة.
هب لي القلب الغيور المتواضع، فلا أسقط تحت العقوبة مع إبليس المتصلف.
v هب لي ما أعطيته لملك نينوى الأممي.
في تواضعٍ لم يستخفّ بنبيك يونان البسيط في مظهره.
ترك كرسي المملكة وارتدى المسوح في توبة صادقة.
أدرك أن لا خلاص إلاَّ بشركة الشعب مع القادة،
حتى الأطفال اشتركوا في الصراخ إليك.
آمن الملك الوثني أن صراخ الأطفال والرضّع البسطاء أقوى من كل سلاح!
هب لي بروح التواضع أن أطلب مع كل الشعب مراحمك العظيمة.
v هب لي ألاَّ أعرف الشيخوخة،
أعمل لحسابك وبنعمتك حتى النفس الأخير.
أعمل وأنا على فراش الموت!
_____
[2] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[3] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[4] PL 25:652.
[5] A Discours on Ascetical Discipline, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 34-35).
[6] Sermons 10 FC 86, P. 74.
[7] تفسير المزمور 30 (29).
[8] Reg. Fus. 16:3.
[9] الميمر 65 على الكبرياء (راجع نص بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سوني). الميمر الربع، على العظمة.
[10] Sermons, FOTC, vol. 2, p.282-283.
[11] Letters, FOTC, vol. 1, p.266-268.
[12] Confessions, 10: 5: 7.
[13] Tractates on John 25: 15.
[14] Homilies on Ezekiel, 9: 2.
[15] Letters, 4: 2: 3-4.
[16] Ad Monimum (512-513) 1:19:2.
[17] البابا غريغوريوس (الكبير): الرعاية، ج 3، ف 17، عظة 18، ترجمة جورج فهمي حنا، 2004.
[18] Homilies on Thessalonians, homily 1.
[19] On John , Homily 16: 4
[20] On Ps .8.
[21] On Ps.7
[22] The Trinity, Catholic, Vol. 45, p. 356.
[23] Sermon on the Mount, 1:1:3.
[24] On 2 Thessalonians, Homily 10.
[25] On John ,Homily 9: 2
[26] Commentary on St. John, Catholic, Vol. 33, p. 88-95.
[27] Letters (131-164), Catholic, Vol. 20, p. 117-118.
[28] On Acts of The Apostles, Homily 29
[29] الميمر 122 على يونان النبي (راجع نص بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سوني)؛ الميمر 12 على يونان النبي وتوبة أهل نينوى (قبطي)؛ يونان النبي والنداء إلى نينوى، نقلها إلى العربية الأب إميل أبي حبيب الأنطوني، ص 181-189.
[30] Our Lord's Sermon on the Mount, 1:1:3.
[31] راجع الأب إلياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 313. عظة 3: 1.
[32] عظة على المزمور 34.
[33] Commentary on 1 Cor. 7: 22: 1.
[34] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 23.
[35] Hexamaeron 7:5.
[36] Morals Rule 48:7.
[37] Moralia, 48, c 1.
[38] Regulae brevius tractatae Question 207.
[39] On Hebrews , Homily 25: 5
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 11 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 9 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/v9rygc5