عناوين:
(إظهار/إخفاء)
طفولته
استشهاد ليونيدس
معلم الأدب
أوريجانوس ومدرسة إسكندرية
رحلات أوريجينوس
إدانته
مدرسة جديدة
اضطهاد مكسيميان
قائمة ببعض أخطاء أوريجانوس
← اللغة الإنجليزية: Origen Adamantius / Origen of Alexandria / Saint Origen, the Scholar - اللغة العبرية: אוריגנס אדמנטיוס - اللغة اليونانية: Ωριγένης Αδαμάντιος - اللغة اللاتينية: Origenes / Origenes Adamantius.
تبقى شخصيته محيّرة فإن كان بعض الدارسين مثل كواستين وغيره يشهدون لدوره الفعّال في الاهتمام بالكتاب المقدس (اعتبره البعض "أمير شُرَّاح الكتاب المقدس"، كما قيل عنه "أمير الفلسفة المسيحية"، أو "أستاذ الأساقفة")، وقد تأثر به حتى مقاوموه، لكن الكنيسة القبطية وقد شعرت بخطورة تعاليمه حرمته في حياته بينما الكنائس الخلقيدونية حرمته في أشخاص تابعيه سنة 553 م. وذلك لما وُجِدَ في كتاباته عن وجود النفس السابق للجسد، وإن جميع الخليقة العاقلة حتى الشياطين ستخلص، إلخ... وقد لُقِّب العلامة أوريجينوس بـ"أدمانتيوس" أي "الرجل الفولاذي" ἀδάμας أو man of steel، إشارة إلى قوة حجته التي لا تُقاوَم، وإلى مثابرته.
يعتبر أوريجينوس ابن مصر الأصيل، يبدو أنه ولد في الإسكندرية حوالي عام 185 م. اهتم به والده ليونيدس Leonides فهذبه بمعرفة الكتاب المقدس، وقد أظهر الابن شغفًا عجيبًا في هذا الأمر. يُقال إن والده كثيرًا ما كان يقف بجوار الصبي وهو نائم، ويكشف صدره كأن روح الله قد استقر في داخله، ويقبله بوقار معتبرًا نفسه أنه قد تبارك بذريته الصالحة.
عاصر الاضطهاد الذي أثاره سبتيموس ساويرس Septimius Severus عام 202 م.، والذي كان أكثر عنفًا على الكنيسة المصرية، حتى ظن كثيرون أن هذا الاضطهاد هو علامة على مجيء "ضد المسيح".
أُلقيّ القبض على ليونيدس ووضع في السجن، أما أوريجينوس الذي لم يكن بعد قد بلغ السابعة عشر من عمره فكان يتوق بشغف إلى إكليل الاستشهاد مع والده. وفي اللحظة الحاسمة منعته أمه من تحقيق رغبته بإخفاء كل ملابسه حتى يلتزم البقاء في المنزل ليرعى شئون أخوته الستة. فأرسل إلى أبيه يحثه على الاستشهاد، قائلًا له: "أحذر أن تغير قلبك بسببنا".
إذ صودرت ممتلكات ليونيدس بعد استشهاده صار العلامة أوريجانوس وعائلته في عوز، لهذا التجأ إلى سيدة غنية رحبت به، لكنه لم يحتمل البقاء كثيرًا، لأن معلمًا هرطوقيًا يدعى بولس الإنطاكي استطاع أن يؤثر عليها ببلاغته فضمته إلى بيتها، وتبنته، وأقامته فيلسوفًا خاصًا بها، وسمحت له أن ينشر هرطقته بإلقاء محاضرات في بيتها.
لم يستطع أوريجينوس -وهو بعد صغير السن- أن يشترك في الصلاة مع هذا الهرطوقي متمسكًا بقوانين الكنيسة، فترك البيت وعكف على تدريس الأدب الدنيوي والنحو لينفق على نفسه وعلى عائلته.
وجد أوريجينوس في تدريسه للوثنيين الأدب والنحو فرصته للشهادة للإيمان المسيحي قدر ما تسمح الظروف، فكان يعلن عن مركز اللاهوتيات بين الكتابات اليونانية، وبهذا اجتذب أوريجينوس بعض الوثنيين الذين جاءوا يطلبون أن يسمعوا منه عن التعاليم المسيحية من بينهم بلوتارخس الذي نال إكليل الاستشهاد وأخوه هيراقليس (ياروكلاس) الذي صار بطريركًا على الإسكندرية.
إذ تركت مدرسة الإسكندرية بلا معلم بسبب الاضطهاد، ورحيل القديس أكليمنضس (الإسكندري)، عين البابا ديمتريوس أوريجينوس رئيسًا للمدرسة وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره.
أوقف أوريجينوس كل نشاط له وباع كل كتبه الثمينة المحبوبة لديه، ليكرس حياته بالكامل للعمل الجديد الذي أوكل إليه كمعلم للموعوظين.
تتلمذ على يديه كثيرون نذكر على سبيل المثال القديس الكسندروس أسقف أورشليم الذي كان يتطلع إلى أوريجينوس كمعلمه وصديقه.
ونود أن نشير هناإلى دور العلامة أوريجينوس في تطور المدرسة:
1. ألقى العلامة أوريجينوس بنفسه بكل طاقاته لا لدراسة الكتاب المقدس والتعليم به فحسب، بل وفي تقديم حياته مثلًا للحياة الإنجيلية. في هذا يقول القديس غريغوريوس العجائبي: "لقد جذبنا بأعماله التي فعلها أكثر من تعاليمه التي علمنا إياها".
اتسم أيضا بالحياة النسكية مع ممارسة الصلاة بكونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة النسكية، تسنده في تحرير النفس ودخوله إلى الاتحاد مع الله بطريقة أعمق. يرى في الصلوات أمرًا ضروريًا لنوال نعمة خاصة من قبل الله لفهم كلمة الله.
رأى أن الإنسان يطلب الاتحاد مع الله خلال حفظ البتولية، فينسحب عن العالم وهو بعد يعيش فيه، مقدمًا تضحية في أمور الترف قدر ما يستطيع، محتقرًا المجد البشري.
وبسبب حضور النسوة يستمعن محاضراته، ولكي لا تحدث عثرة رأى أن ينفذ حرفيًا ما ورد في الإنجيل أن أناسًا خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (مت 12:19)، لكنه يبدو أنه قدم توبة على هذا الفعل. وقد استخدمها البابا ديمتريوس ضده.
2. في البداية ركز أوريجينوس على إعداد الموعوظين وتهيئتهم للعماد، لا بتعليمهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما بتقديم التعاليم الخاصة بالحياة المسيحية العملية أيضًا.
3. لم يقف عمل العلامة أوريجينوس عند تهيئة الأعداد الضخمة المتزايدة الجالسة عند قدميه لنوال سر العماد وإنما كان عليه بالحري أن يهيئهم لقبول إكليل الاستشهاد. فكل من يقترب إليه إنما بالحري يجري نحو خطر الاستشهاد.
4. اهتم أوريجينوس بتعميق الفكر الدراسي؛ فإذ كان جمهور تلاميذه يلتفون حوله من الصباح حتى المساء رأى أوريجينوس أن يقسمهم إلى فصلين، واختار تلميذه هيراقليس -المتحدث اللبق- ليدرس المبتدئين المبادئ الأولى للتعاليم المسيحية، أما هو فكَّرس وقته في تعليم المتقدمين اللاهوت والفلسفة معطيًا اهتمامًا خاصًا بالكتاب المقدس.
5. لعل أعظم أثر لأوريجينوس على مدرسة الإسكندرية هو إبرازه التفسير الرمزي للكتاب المقدس. فقد كَّرس حياته كلها لهذا العمل، حتى نسب هذا المنهج التفسيري لمدرسة الإسكندرية ولأوريجينوس.
1. حوالي عام 212 م. زار أوريجينوس روما في أثناء أسقفية زفيرينوس Zephyrinus، وفي حضرته ألقى القديس هيبوليتس مقالًا عن كرامة المخلص، وبعد إقامة قصيرة هناك عاد إلى الإسكندرية.
2. قام بعدة رحلات إلى بلاد العرب، أولها حوالي عام 214 م.، حيث ذهب إليها بناء على دعوة من حاكم تلك البلاد الذي كان يرغب في التعرف على تعاليمه، كما دُعيّ إلى العربية عدة مرات ليتناقش مع الأساقفة وقد أشار المؤرخ يوسابيوس إلى اثنتين من هذه المناقشات، نذكر منهما أنه في عام 244 م. انعقد مجمع عربي لمناقشة وجهة نظر الأسقف بريلوس في شخص السيد المسيح. انعقد هذا المجمع على مستوى واسع أدان الأسقف بسبب قوله إن الله أقنوم واحد، وقد حاولوا باطلا إقناعه أن يعود إلى الإيمان المستقيم.
أسرع أوريجينوس إلى العربية ونجح في إقناع الأسقف الذي يبدو أنه بعث إليه برسالة شكر، وصار من أكبر المدافعين عنه. على أي الأحوال هذا الارتباط بين أوريجينوس والعربية إنما هو امتداد لارتباط العلامة بنتينوس بها.
3. حوالي عام 216 م.، إذ نهب الإمبراطور كاركلا Caracalla مدينة الإسكندرية وأغلق مدارسها واضطهد معلميها وذبحهم، قرر أوريجينوس أن يذهب إلى فلسطين. هناك رحب به صديقه القديم الكسندر أسقف أورشليم كما رحب به ثيؤكتستوس Theoctistus أسقف فلسطين، اللذان دعياه ليشرح الكتاب المقدس للشعب في حضرتهما.
غضب البابا ديمتريوس الإسكندري جدًا، لأنه حسب عادة الكنيسة المصرية لا يستطيع غير الكاهن أن يعظ في حضرة الأسقف، فأمره بعودته إلى الإسكندرية سريعًا، فأطاع وعاد، وبدت الأمور تسير كما كانت عليه قبلًا.
4- مع بداية حكم اسكندر ساويرس (222-225 م.) أرسلت مامسيا Mammaca والدة الإمبراطور حامية حربية تستدعي العلامة أريجانوس لإنطاكيا يشرح لها بعض الأسئلة، وقد استجاب للدعوة ثم عاد إلى مدرسته.
5. أرسل العلامة أريجينوس إلى اليونان لضرورة ملحة تتعلق ببعض الشئون الكنسية، وبقيّ غائبًا عن الإسكندرية. ذهب إلى آخائية ليعمل صلحًا، وكان يحمل تفويضًا كتابيًا من بطريركه. وفي طريقه عبر بفلسطين، وفي قيصرية سيم قسًا بواسطة أسقفها. فقد بدا للأساقفة أنه لا يليق بمرشد روحي مثل أوريجينوس بلغ أعلى المستويات الروحية والدراسية يبقى غير كاهن. هذا وقد أرادوا أن يتجنبوا المخاطر التي يثيرها البابا ديمتريوس بسماحهم له أن يعظ وهو "علماني" في حضرتهم.
وقد اعتبر البابا هذه السيامة أكثر خطأ من التصرف السابق، حاسبًا إياها سيامة باطلة لسببين:
أ. أن أوريجينوس قد قبل السيامة من أسقف آخر غير أسقفه، دون أخذ تصريح من الأسقف التابع له.
ب. إذ كان أوريجينوس قد خصى نفسه، فهذا يحرمه من نوال درجة كهنوتية، فإنه حتى اليوم لا يجوز سيامة مَنْ يخصي نفسه.
لم يحتمل البابا ديمتريوس هذا الموقف فدعا لانعقاد مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندرية.
رفض المجمع القرار السابق مكتفين باستبعاده عن الإسكندرية. لم يرض البابا بهذا القرار فدعا مجمعًا من الأساقفة وحدهم عام 232 م. (231؟)، قام بإعلان بطلان كهنوته واعتباره لا يصلح بعد للتعليم، كما أعلن عن وجود بعض أخطاء لاهوتية في كتاباته. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في في أقسام السير والسنكسار والتاريخ).
كتب البابا الإسكندري القرار إلى كل الإيبارشيات، فدعا بونتياس أسقف روما Pontias مجمعًا أيّد القرار، وهكذا فعل كثير من الأساقفة، فيما عدا أساقفة فلسطين والعربية وآخائية وفينيقية وكبدوكيا الذين رفضوا القرار.
اضطر أوريجينوس أن يدافع عن نفسه ضد الاتهامات الخطيرة التي وجهت ضده. فقد أورد روفينوس في كتابه De Adulteratione نبذة طويلة من خطاب كان قد وجّهه أوريجينوس إلى أصدقاء له في الإسكندرية يشكو فيه من الملفقين الذين غيَّروا بعض فقرات من كتبه وشوهوها، ومن الذين نشروا في العالم المسيحي كتبًا مزورة ليس من العسير أن نجد فيها ما يستحق السخط.
كذلك يعرفنا القديس جيروم بوجود خطاب آخر كتبه أوريجينوس إلى فابيانوس أسقف روما يتهم فيه صديقه أمبروسيوس بأنه تسرع ونشر أحد كتبه في وقت غير مناسب وقبل أن يكمله، لعله قصد بهذا الكتاب "المبادئ De Peincipiis" الذي أثار سخط الكثيرين ضده حتى بعد وفاته (وهو به العديد من أخطاؤه).
وجاء في ميمره الخامس والعشرين على إنجيل لوقا: "إنه من دواعي سرور أعدائي أن ينسبوا لي آراء لم أكن أتصورها ولا خطرت ببالي".
حثه أسقف قيصرية على إنشاء مدرسة للاهوت هناك، رأسها قرابة عشرين عامًا، فيها تتلمذ القديس غريغوريوس العجائبي لمدة خمسة أعوام.
خلال الاضطهاد الذي أثاره مكسيميان التجأ أوريجينوس إلى كبادوكية قيصرية، في هذا الاضطهاد أُلقيّ القبض على صديقيه القديمين: أمبروسيوس وبروتوكتيتوس كاهن قيصرية، ووضعا في السجن. كتب أوريجينوس إليهما مقالا: "الحث على الاستشهاد"، نظر فيه إلى الاستشهاد كأحد البراهين على صحة الحق المسيحي، وكاستمرار لعمل الخلاص.
أطلق سراح صديقيه وعاد أوريجينوس إلى قيصرية فلسطين.
سافر أوريجينوس إلى أثينا عن طريق بيلينية، حيث قضى عدة أيام في نيقوميديا، وهناك تسلم رسالة من يوليوس أفريقانيوس، يسأله فيها عن قصة سوسنة إن كانت جزءًا أصيلا من سفر دانيال، وأجابه أوريجينوس برسالة مطولة بعثها إليه من نيقوديمية.
وفي أيام داكيوس (ديسيوس) Decius (249- 251)، ثار الاضطهاد مرة أخرى، أُلقى القبض على أوريجينوس. تعذب جسده، ووضع في طوق حديدي ثقيل وأُلقيّ في السجن الداخلي، وربطت قدماه في المقطرة أيامًا كثيرة، وهدد أن يعدم حرقًا.
احتمل أوريجينوس هذه العذابات بشجاعة، وإن كان لم يمت أثناءها، لكنه مات بعد فترة قصيرة، ربما كان متأثرًا بالآلام التي لحقت به.
قبل أن يموت أرسل إليه البابا الإسكندري ديونسيوس الذي خلف هيراقليس، رسالة "عن الاستشهاد"، لعله بذلك أراد أن يجدد العلاقة بين العلامة الإسكندري أوريجينوس وكنيسة الإسكندرية.
وفي عام 254 م. رقد أوريجينوس في مدينة صور بفلسطين وكان عمره في ذلك الحين 69 عامًا، وقد اهتم مسيحيو صور بجسده اهتمامًا عظيمًا فدفنوه إزاء المذبح وغطوا قبره بباب من الرخام نقشوا عليه: "هنا يرقد العظيم أوريجينوس"، تاركًا تراثًا ضخما من تفاسير الكتاب لمقدس، مقدمًا منهجه الرمزي في التفسير، وإن كان قد ترك أيضا بلبلة شديدة في الكنيسة بسببه حتى بين الرهبان سببت انقسامات ومتاعب لا حصر لها.
حتى يكتمل المقال، رأينا هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت أن نضيف هذه القائمة والملاحظات التي أُثيرَت حول العلَّامة العظيم أوريجانوس، فمن الحكمة أن نتعلَّم قبول أو رَفْض بعض الأفكار من أي شخص، بدون عبادة أو تأليه الأشخاص و"كل" تعاليمهم بصورة لا تليق.. فعبقرية أوريجانوس لم تحمِه من بعض السقطات، وتحمُّس البعض له أو لغيره لا يجب أن يعمي النظر عن أمور ضد العقيدة القويمة لا تقبلها الكنيسة الجامعة.. إن كان بريئًا، فلن يضيره في شيء الحِرمان الأرضي أمام الله في اليوم الأخير، أو إذا كان ما نُسِبَ إليه من أخطاء عقائدية صحيحًا، فلن يفيده يوم الدينونة محاولات بعض البشر تبرئته عبر التاريخ.
بالرغم من أنه اهتم بالتفسير الرمزي للكتاب المقدس، إلا أنه نفَّذ نصًّا منه بصورة حرفية، وهو إخصاء نفسه (متى 19: 12). وحتى إن كان تفسيره الرمزي خاص بالعهد القديم، فلم يكن شخصًا ساذجًا لا يَعْرِف الفرق بين الحرف والروح في آيات الكتاب. وقد حاول البعض الدفاع عنه بأن الكنيسة قبلت مثلًا القديس سمعان الخراز الذي نفَّذ -خطأ- آية بصورة حرفية كذلك، وقام بِقَلْع عينه (متى 18: 9؛ مرقس 9: 47)، وكأن الأمر به معايير مزدوجة double standards من الكنيسة ضد أوريجانوس. ولكن هناك اختلاف كبير بين القصتين، فأوريجانوس عالِم كبير، بل ومُعَلِّم رفيع المستوى، كان جُلَّ اهتمامه هو التفسير الرمزي للكتاب المقدس، فكيف يقع في خطأ كبير كهذا؟! أما سمعان الخراز فهو شخص بسيط وليس مُعَلِّمًا في الكنيسة، وكان يعمل مجرد أجير عند رجل دبَّاغ، وربما كذلك كان شخصًا غير متعلمًا (أُميًّا)، ففعل ما فعل ببساطة قلب وعفوية.. حتى وإن كان أوريجانوس فعل هذه الخطية وهو حديث السن، فلم يَرِدْنا توبته أو ندمه على تلك الخطية لاحقًا، بل زاد عليها بقبول الكهنوت. ومن جانب آخر حتى نكون منصفين وتَفَهُّمًا لما فعله، فبالتأكيد كان واقعًا تحت سلطان وسطوة الشهوة الجسدية بصورة قوية وعنيفة، جعلته يفكر في حل متطرف وحاسم للأمر(21).
قبوله السيامة في الكهنوت من غير أسقفه، مخالفًا بذلك قوانين الكنيسة التي يعرفها جيدًا.
قبوله السيامة في الكهنوت بعدما خصى نفسه، ضد قوانين الكنيسة كذلك التي ترفض سيامة مَنْ يخصي نفسه.
قال البعض بأن موضوع إخصاء نفسه هذا حدث وهو حديث العهد (شاب)، في حين أنه حُوكم بسببها وهو في الأربعينيات من عمره بسبب مشاكل مع البابا حينها. ولكن البابا كان قد وضعهُ في مرتبة عُليا بالفعل بوضعه في رئاسة مدرسة الإسكندرية، فلم يكن هذا هو الأمر، إنما الأمر كان بسبب قبوله الكهنوت وهو خصي ضد قوانين الكنيسة. كما أننا لم نسمع منهُ يومًا ندمه أو توبته على ما فعل كما أوضحنا بعاليه.
قد يكون ما فعله هو بسبب احتمالية غيرته من تلميذه هيراكلاس (لاحقًا البابا هيراكلاس) الذي رسمه البابا ديمتريوس كاهنًا، في الوقت الذي لم يرسم فيه أوريجانوس نفسه كاهنًا.
أثار تفسيره لسفر التكوين الكثير من الجدل بالإسكندرية، مما جعله يتوقف عن إكماله.
استمرت كِتاباته بها إشارات ضد البابا والإكليروس، وإن لم يذكر ذلك صراحةً، كما قال بأن خروجه من مصر مثل خلاص بني إسرائيل منها، وكان يُلَمِّح بأن البابا هو فرعون.
قوله بأنه ما دام الشيطان قد سقط بإرادتهُ الحرة، فهذا يعني أنه قد يَخْلُص بإرادته الحرة كذلك. وهذا ضد كلام الكتاب المقدس صراحةً الذي أنبأنا بمصير الشيطان: "إِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (رؤ 20: 10)، وكذلك ما أعلنه السيد المسيح: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ" (لو 10: 18، 19). في حين أنه ذكر في "رسائل إلى الأصدقاء في الإسكندرية"(18) أن الشيطان وكل المطرودين من ملكوت الله لن ينالوا الخلاص الأخير(19)(20).
في كلامه عن سفر القضاة قال: "لا يستطيع أسقف -حتى بطرس- أن يحرِم إنسانًا روحيًّا"، وفي هذا إشارة لما حدث معه كذلك من البابا. ربما نعطيه العُذر فيما كتب بسبب انفعاله الشخصي بما حدث معه مثلًا.. إلا أن هذا لا يمنع الخطأ. ولكن البابا لم يصدر قرارًا منفردًا بِحَرْمه، ولكن تم ذلك من خلال مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندرية. بل إن قول أوريجانوس هذا لهو ضد كلام السيد المسيح نفسه (مت 18: 18؛ يو 20: 23).
نادى أوريجانوس بأن الله قد خلق كل الأرواح أولًا(9)(10)(11)(12) preexistence of souls، ثم يتم وضع كل روح في الجسد فترة الميلاد (اسم الأرواح ψυχαί: سيخاي)، لتُسْجَن في الجسد بسبب خطاياها في حياة سابقة. وكل هذا الكلام في إطار تناسخ الأرواح وعودة التجسد reincarnation وخلافه هو ضد كلام الكتاب المقدس، وضد رحمة الله، بل أيضًا ضد الفداء (فهذا يعني أن الروح لم تَرِث الخطية الجدية، ولا تحتاج لخلاص).. وستجد الرد على هذه النقاط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في كتاب الأرواح بين الدين وعلماء الروح للبابا شنوده الثالث. ثم ماذا عن قيمة المعمودية التي تَهِب الإنسان الخلاص من الخطية الجديَّة؟!
كما قال أن الأرواح المخلوقة في بداية العالم -التي توضع في الأجساد لاحقًا- ψυχαί مع الوقت كلها ملَّت عبادة الله والتأمل فيه، وقلَّت ψύχεσθαι محبتهم لله(13)(14)(9)(16)!
وقال بأن أكثر هذه الأرواح قِلَّة في محب الله تحوَّلوا إلى شياطين! والذين كانت محبتهم متوسطة تم تجسدهم في الأجساد (البشر)، والأعلى محبة لله أصبحوا هم الملائكة(9)(12).
وواحد فقط من هذه الأرواح المخلوقة ظلَّت محبته كاملة لله، وقد أصبح -من خلال الحب- هو "الكلمة" (اللوغوس)(15)(16)! ولكن حتى نكون منصفين، فقد شكَّك البعض أن هذا الرأي الأخير حول اللوغوس هو إيمان أوريجانوس، وقد يكون فقط إيمانًا لبعض تلاميذه، أو شرح خاطئ من يوستيان وأبيفانيوس وغيرهم(17).
إن كانت المشكلة مع أوريجانوس هي مشكلة شخصية بسبب البابا ديمتريوس، فبعد نياحته أتى للكرسي المرقسي تلميذ أوريجانوس نفسه "هيراكلاس"، واستمر هو كذلك في رفضه لأوريجانوس، مما يوضح أن المشكلة لم تكن مشكلة شخصية.
أوضح البابا ثاؤفيلس 23 العديد من أخطاء أوريجانوس الأخرى: نادى أوريجانوس بأمر خطير هو أن أقنوم الابن هو في ترتيب تالي بعد أقنوم الآب (وقد أوضح البابا أثناسيوس خطأه هذا بمصطلح "هومؤسيوس" أي مساو للآب في الجوهر) - قال أن الابن لم يأخذ جسدًا، ولكنه روح نزل من السماء(8)، وهو أيضًا أمر ضد فكرة الفداء - قال بأن السيد المسيح احتمل الآلام لأجل الشيطان أيضًا! - قوله بأننا لا نستطيع الصلاة للابن إنما للآب - جسد القيامة قابل للفساد - الملائكة لها غذاء روحي، ودرجاتهم هي حسب السقوط والعودة - الروح القدس محدود في إمكانياته - السيرافيم في (إش 6) هم الابن والروح القدس المحيطين بالآب!
كما أوضح القديس جيروم قائمة بأخطاء أخرى لأوريجانوس: الثالوث غير متساو في المجد والكرامة - المخلوقات العاقلة كانت غير مادية، ولكنها عوقِبَت وسُجِنَت في الأجساد - الملائكة ممكن أن تصير بشر، والبشر ممكن أن يصيروا شياطين، وهكذا.. (تغيُّر الطبائع) - العوالِم المتعاقبة (مفرد: عالَم).
نادَى بأن العذاب ليس هو عذابًا ماديًّا، وهذا يعني أن الروح فقط ستُعَذَّب، ولكن لن يكون هناك عِقابًا للجسد الذي أخطأ مثله مثل الروح.
كان التأثير الأفلاطوني عليه واضحًا، بالرغم من مستواه التعليمي الرفيع.
قال أن أي جسم يَتَحَرَّك له نفس، فمادامت الكواكب تتحرك فهي لها أنفُس وهي كائنات حية عاقلة(2). واتهم الذين يقولون بغير هذا بـ"الخَبَل" لأن الكواكب تسير بنظام وروية، متجاهِلًا أن الذي وضع نظامها هو الله نفسه. ووصل الحال به إلى القول بأن السيد المسيح ذاق الموت ليس من أجل خطايا البشر فقط، ولكن من أجل خطايا باقي المخلوقات التي سقطت في الخطية، مثل النجوم stars كذلك(3)!
في تفسيره لإنجيل يوحنا، ذكر احتمال أن يكون قد تم اتهام اليهود للسيد المسيح بأنه ابن زنى(6)، وهذا يتعارَض مع آيات الكتاب المقدس والتي أوضحت صراحة أن اليهود كانوا يعرفون أن المسيح هو ابن يوسف ومريم: "وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: «أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟»" (لو 4: 22)، وكذلك "وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟" (لو 6: 42). وحتى نكون موضوعيين، ففي الأغلب كان هذا خطأ غير مقصود من أوريجانوس نابِع من أحد الآراء التي كانت محيطة به وذكرها كلسس في عصره، وقام أوريجانوس بتفنيدها في الجزء الأول من كتابه "الرد على كلسس" في الفصول 32-33-34-35.
قال أن قصة آدم وحواء كلها قصة رمزية بحتة، وذلك ضد كلام الكتاب المقدس والسيد المسيح(7).
ولم تكن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (مع كل المتفقين معها في العقيدة) هي التي حرمت أوريجانوس بسبب بِدَعُه.. ولكن نجد مثلًا في مجمع القسطنطينية الثالث 680 م. (الذي يتبع الكاثوليك والروم الأرثوذكس والكنائس الأرثوذكسية اليونانية البيزنطية قراراته) العديد من "الإبسالات ضد أوريجانوس" (الحروم)(4). ونفس الحال رأيناه في مجمعهم المسكوني الخامس 553 م. (مجمع القسطنطينية الثاني) يحرمون كل مِنْ لا يحرم (يبسل) أوريجانوس مع آريوس ومقدونيوس وأفنوميوس ومكدونيوس وأبوليناريوس ونسطوريوس وأفيشيوس مع كِتاباتهم الخاطئة، ويحرمون كل مَنْ يعتقد أو يصر على التمسك بآراء هؤلاء المبتدعين(5).
إن كان أوريجانوس قد أنكر بعض التهم الموجهة له، وادعى -كما يقول البعض الآن- أنه تم نسبة بعض الآراء الخاطئة له، إلا أننا -في كل ما وصلنا من كِتاباته- لم يصلنا ردًا على تلك الاتهامات بصورة سليمة. أي لم يردنا آراء له تخالف آراؤه التي حُرِمَ لأجلها. فكان بالأولى حينما ذهب إلى قيصرية وتفرَّغ بقية حياته، أن يقوم بنشر بعض الكتابات التي توضح رأيه السليم فيما قيل أنه نُسِبَ إليه خطأ، أو ينشر آراء مخالفة للأخطاء التي نُسِبَت إليه. وإن كان لم يفعل، فهذا تأكيد على قبوله لتلك الأفكار الخاطئة.
* انظر أيضًا:
الأب بيريوس (أوريجانوس
الصغير) حسب رأي القديس جيروم،
الشهيد بامفيليوس الكاهن
(أوريجينوس الصغير) حسب رأي
المؤرخ يوسابيوس القيصري،
بوطامينا العذراء العفيفة،
كتاب الرد على كلسس لأوريجانوس.
_____
*
المرجع الرئيسي لهذه الصفحة: كتاب "قاموس آباء الكنيسة
وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية" للقمص تادرس يعقوب ملطي.
(1)
من مقالات وأبحاث
موقع الأنبا تكلاهيمانوت
www.st-takla.org
الحواشي والمراجع
لهذه الصفحة هنا في
موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(2) كتاب أوريجانس في المبادئ - سلسلة الفكر المسيحي بين بين الأمس واليوم - عرَّبه وقدَّم له الأب جورج خوام البولسي.
(3) Ante-Nicene Fathers, Vol IX: Epistle to Gregory and Origen's Commentary on the Gospel of John.: Chapter XL.
(4) كتاب "مجموع الشرع الكنسي أو قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة التي وضعتها المجامع المسكونية و المكانية المقدسة وما قبله المجامع المسكونية من قوانين الرسل و قوانين بعض الآباء القديسين مع، فصول مفيدة في أعمال المجامع وأسباب انعقادها وفي العقائد والبدع والتقليد الشريف ونظام الإدارة الكنسية وحواش تفاسير متنوعة" - جمع وترتيب وتنسيق الأرشمندريت حنانيا إلياس كسّاب، مع توطئة لغبطة البطريرك إلياس الرابع، الطبعة الثانية، 1998، منشورات النور، بيروت، لبنان، ص. 475-480.
(5) المرجع السابق، ص. 470.
(6) انظر الحاشية التي وضعناها في تفسير (يو 8: 41) للقمص تادرس يعقوب ملطي.
(7) كتاب محاضرات في العهد القديم (الجزء الأول) - أ. نجوى غزالي، الطبعة الأولى، 2015 م.، القاهرة، رقم الإيداع بدار الكتب: 22891/2015 م.، مقال شجرة الحياة.
(8) الموقع: تحتاج هذه النقطة إلى مرجع من كتابات أوريجانوس للتأكد.
(9) Chadwick, Henry (14 June 2017), "Origen", Encyclopædia Britannica.
(10) Greggs, Tom (2009), Barth, Origen, and Universal Salvation: Restoring Particularity, Oxford, England: Oxford University Press, ISBN 978-0-19-956048-6, pp. 55–56.
(11) Scott, Mark S. M. (2012), Journey Back to God: Origen on the Problem of Evil, Oxford, England: Oxford University Press, ISBN 978-0-19-984114-1, pp. 53–55.
(12) Ehrman, Bart D. (2003), Lost Christianities: The Battles for Scriptures and the Faiths We Never Knew, Oxford, England: Oxford University Press, ISBN 978-0-19-514183-2, p. 155.
(13) Greggs 2009, pp. 55–56.
(14) Scott 2012, pp. 53–55.
(15) Greggs 2009, p. 61.
(16) Ehrman 2003, p. 155.
(17) Ilaria Ramelli. (2018). Chapter 14 - Origen. In; Anna Marmodoro and Sophie Cartwright. (2018). A History of Mind and Body in Late Antiquity. Cambridge University Press. pp. 245 - 266.
(18) Letter to Friends in Alexandria
.(19) McGuckin, John Anthony (2004). "The Life of Origen (ca. 186–255)". In McGuckin, John Anthony (ed.). The Westminster Handbook to Origen. The Westminster Handbooks to Christian Theology. Louisville, Kentucky: Westminster John Knox Press. p. 13. ISBN 9780664224721, p. 96.
(20) Kelly, Henry Ansgar (2006), Satan: A Biography, Cambridge, England: Cambridge University Press, ISBN 978-0521604024, p. 199.
(21) هذا مجرد تحليل ورأي من الموقع كمحاولة للبحث عن تبرير لما فعله من وجهة نظره... إلا أننا رأينا أوريجانوس نفسه ينفي هذا التبرير (وغالبًا قاله بعد فعلته وليس قبلها)، فيقول في عظته الأولى على سفر التكوين:
"هذه تشير إلى ما ينبع عن النفس كما إلى أفكار القلب، أو ما ينتج عن شهوات جسدية وحركات الجسد. فالقديسون والذين هم أمناء في بركة ربنا يحملون سلطانًا على هذه الأمور، فيسيطرون على الإنسان بكليته حسب إرادة الروح، أما الخطاة فعلى العكس يسقطون تحت سلطان ما ينتج عن رذائل الجسد وشهواته"(22).
وفي هذا يدين نفسه بدون أن يقصد فيما فعل!
(22) القمص تادرس يعقوب ملطي، التكوين، سلسلة من تفسير وتأملات الآباء الأولين، التكوين 1. عن المرجع التالي:
Ronald E. Heine, The Fathers of the Church: A New Translation, Volume 71, The Catholic University of America Press, Washington, D.C., 1982, Origen, Genesis, Homily 1, p 69.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/Saints/Coptic-Orthodox-Saints-Biography/Coptic-Saints-Story_363.html
تقصير الرابط:
tak.la/qcv7fp7