St-Takla.org  >   pub_Bible-Interpretations  >   Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament  >   Father-Tadros-Yacoub-Malaty  >   26-Sefr-Yashoue-Ebn-Sirakh
 

شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب (والشماس بيشوي بشرى فايز)
سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"

يشوع ابن سيراخ 2 - تفسير سفر حكمة يشوع بن سيراخ
المؤمن التقي في مواجهة الضيقات

 

محتويات:

(إظهار/إخفاء)

* تأملات في كتاب حكمه يشوع بن سيراخ:
تفسير سفر يشوع ابن سيراخ: مقدمة سفر يشوع ابن سيراخ | يشوع ابن سيراخ 1 | يشوع ابن سيراخ 2 | يشوع ابن سيراخ 3 | يشوع ابن سيراخ 4 | يشوع ابن سيراخ 5 | يشوع ابن سيراخ 6 | يشوع ابن سيراخ 7 | يشوع ابن سيراخ 8 | يشوع ابن سيراخ 9 | يشوع ابن سيراخ 10 | يشوع ابن سيراخ 11 | يشوع ابن سيراخ 12 | يشوع ابن سيراخ 13 | يشوع ابن سيراخ 14 | يشوع ابن سيراخ 15 | يشوع ابن سيراخ 16 | يشوع ابن سيراخ 17 | يشوع ابن سيراخ 18 | يشوع ابن سيراخ 19 | يشوع ابن سيراخ 20 | يشوع ابن سيراخ 21 | يشوع ابن سيراخ 22 | يشوع ابن سيراخ 23 | يشوع ابن سيراخ 24 | يشوع ابن سيراخ 25 | يشوع ابن سيراخ 26 | يشوع ابن سيراخ 27 | يشوع ابن سيراخ 28 | يشوع بن سيراخ 29 | يشوع بن سيراخ 30 | يشوع بن سيراخ 31 | يشوع بن سيراخ 32 | يشوع بن سيراخ 33 | يشوع بن سيراخ 34 | يشوع بن سيراخ 35 | يشوع بن سيراخ 36 | يشوع بن سيراخ 37 | يشوع بن سيراخ 38 | يشوع بن سيراخ 39 | يشوع بن سيراخ 40 | يشوع بن سيراخ 41 | يشوع بن سيراخ 42 | يشوع بن سيراخ 43 | يشوع بن سيراخ 44 | يشوع بن سيراخ 45 | يشوع بن سيراخ 46 | يشوع بن سيراخ 47 | يشوع بن سيراخ 48 | يشوع بن سيراخ 49 | يشوع بن سيراخ 50 | يشوع بن سيراخ 51

نص سفر يشوع ابن سيراخ: يشوع بن سيراخ 1 | يشوع بن سيراخ 2 | يشوع بن سيراخ 3 | يشوع بن سيراخ 4 | يشوع بن سيراخ 5 | يشوع بن سيراخ 6 | يشوع بن سيراخ 7 | يشوع بن سيراخ 8 | يشوع بن سيراخ 9 | يشوع بن سيراخ 10 | يشوع بن سيراخ 11 | يشوع بن سيراخ 12 | يشوع بن سيراخ 13 | يشوع بن سيراخ 14 | يشوع بن سيراخ 15 | يشوع بن سيراخ 16 | يشوع بن سيراخ 17 | يشوع بن سيراخ 18 | يشوع بن سيراخ 19 | يشوع بن سيراخ 20 | يشوع بن سيراخ 21 | يشوع بن سيراخ 22 | يشوع بن سيراخ 23 | يشوع بن سيراخ 24 | يشوع بن سيراخ 25 | يشوع بن سيراخ 26 | يشوع بن سيراخ 27 | يشوع بن سيراخ 28 | يشوع بن سيراخ 29 | يشوع بن سيراخ 30 | يشوع بن سيراخ 31 | يشوع بن سيراخ 32 | يشوع بن سيراخ 33 | يشوع بن سيراخ 34 | يشوع بن سيراخ 35 | يشوع بن سيراخ 36 | يشوع بن سيراخ 37 | يشوع بن سيراخ 38 | يشوع بن سيراخ 39 | يشوع بن سيراخ 40 | يشوع بن سيراخ 41 | يشوع بن سيراخ 42 | يشوع بن سيراخ 43 | يشوع بن سيراخ 44 | يشوع بن سيراخ 45 | يشوع بن سيراخ 46 | يشوع بن سيراخ 47 | يشوع بن سيراخ 48 | يشوع بن سيراخ 49 | يشوع بن سيراخ 50 | يشوع بن سيراخ 51 | يشوع ابن سيراخ كامل

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الأصحاح الثاني

المؤمن التقي في مواجهة الضيقات

في الأصحاح الأول أبرز السفر أن بدء الطريق للانطلاق نحو التمتُّع بالحكمة الإلهية هو مخافة الرب، بل وإكليل الحكمة هو أيضًا مخافة الرب، وكأن المخافة المقدسة لا تنفصل عن الحكمة حتى في الأبدية. أما سؤال كل العصور بالنسبة لخائفي الرب أو للأتقياء فهو: لماذا تحلّ الضيقات بأناس الله الأتقياء أو بخائفي الرب؟ جاءت الإجابة باختصار: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" (سي 2: 1).

 

1. خائف الرب في البوتقة

     

[1 -6] (ت: 1-6)

2. خائف الرب مملوء رجاءً

     

[7 -11] (ت: 7-13)

3. خائف الرب ينجو من ثلاث ويلات

     

[12 -14] (ت: 14-17)

4. خائف الرب والشبع بكلمة الله

     

[15 -18] (ت: 18-23)

* من وحي سيراخ 2: لأقع في يديك، لا في يديّ إنسان!

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

1. خائف الرب في البوتقة

1 يَا بُنَيَّ، إِنْ أَقْبَلْتَ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ الإِلهِ، فَاثْبُتْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلتَّجْرِبَةِ. 2 أَرْشِدْ قَلْبَكَ وَاحْتَمِلْ. أَمِلْ أُذُنَكَ وَاقْبَلْ أَقْوَالَ الْعَقْلِ، وَلاَ تَعْجَلْ وَقْتَ النَّوَائِبِ. 3 اِنْتَظِرْ بِصَبْرٍ مَا تَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ، لاَزِمْهُ وَلاَ تَرْتَدِدْ، لِكَيْ تَزْدَادَ حَيَاةً فِي أَوَاخِرِكَ. 4 مَهْمَا نَابَكَ فَاقْبَلْهُ، وَكُنْ صَابِرًا عَلَى صُرُوفِ اتِّضَاعِكَ، 5 فَإِن الذَّهَبَ يُمَحَّصُ فِي النَّارِ، وَالْمَرْضِيِّينَ مِنَ النَّاسِ يُمَحَّصُونَ فِي أَتُونِ الاِتِّضَاعِ. 6 آمِنْ بِهِ فَيَنْصُرَكَ. قَوِّمْ طُرُقَكَ وَأَمِّلْهُ. احْفَظْ مَخَافَتَهُ، وَابْقَ عَلَيْهَا فِي شَيْخُوخَتِكَ.

 

يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الرب،

فأعدد نفسك للتجربة [1].

وردت كلمة ابن (أو طفل) teknon 36 مرة في هذا السفر.

"يا بني": يحسب سيراخ مدرسته عائلة لها دورها في حياة المجتمع. فيدعو تلاميذه "أبناءه"، تارة بصيغة الجمع علامة الوحدة بين التلاميذ وبعضهم البعض، وعلاقته بهم كأبٍ، وتارة يتحدَّث بصيغة المفرد: "يا بنيّ" لإبراز الجانب الشخصي لكل واحدٍ منهم. يود سيراخ أن يسلك بروح الله الذي يتعامل مع الجماعة سواء القادة أو الشعب بكون الجميع شعب الله موضوع حبه ورعايته الخاصة. وفي نفس الوقت يرى في كل ابنٍ أنه عضو خاص له مكانته الخاصة في قلب أبيه.

يقدم سيراخ فكرتين متكاملتين هما: أن الحكمة تبرز في خدمة الربّ، وأيضًا يستحيل بلوغ الحكمة بدون طول الأناة في التجارب. هاتان الفكرتان لا تفارقا فكر سيراخ.

يلزم مناقشة موضوع "التجارب" في حياة الشباب، إذ يليق بالشاب أن يتعلَّم في شيءٍ من التفصيل ليس فقط عن البركات الموعود بها للذين يجاهدون أن يرضوا الربّ، وإنما أن يعرف أيضًا أن التجارب ترافقه أثناء جهاده. يلزم أن يعرف مقدمًا ما يمكن أن يحلّ به. هذا ما أَكَّده يعقوب الرسول في رسالته: "ها نحن نطوب الصابرين، قد سمعتم بصبر أيوب، ورأيتم عاقبة الرب، لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف" (يع 5: 11)، مشيرًا إلى ما حلّ بأيوب البار.

بعد أن ربط الحكيم بين الحكمة والطاعة للوصية الإلهية والتمتُّع بمخافة الرب، يؤكد لنا أن طريق حكمة الله يُعرِّضنا للتجارب. حقًا إن تكلفة الطريق متاعب كثيرة، لكنها تقدم معها بركات فائقة (4: 17-18؛ 6: 24-31).

لم يُخفِ الرب عنا هذه الحقيقة، بل قال لتلاميذه: "اذهبوا. ها أنا أرسلكم مثل حملانٍ بين ذئابٍ" (لو 10: 3). كما قال: "وقبْل هذا كلّه يلقون أيديهم عليكم ويطردونكم ويسلّمونكم إلى مجامعٍ وسجونٍ وتُساقون أمام ملوكٍ وولاةٍ لأجل اسمي، فيؤول ذلك لكم شهادةً... وسوف تسلّمون... ويقتلون منكم. وتكونون مُبغَضين من الجميع من أجل اسمي" (لو 21: 12، 13، 16، 17). ويقول يعقوب الرسول: "احسبوه كلّ فرحٍ يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعةٍ، عالمين أنّ امتحان إيمانكم ينشئ صبْرًا" (يع 1: 2، 3). كما قيل: "لا تخف مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يُلقي بعضًا منكم في السجن لكي تُجربوا، ويكون لكم ضيق عشرة أيام" (رؤ 2: 10).

في أيام ابن سيراخ كانت مقاومة الإيمان بالله تتركَّز في نشر الوثنية الهيلينية التي تسلَّلت حتى إلى الهيكل في أورشليم، والتي بلغت القمة في أيام أنطيوخس أبيفانُس (ضد المسيح في العهد القديم). فكان كل من أراد التخلي عن الهيلينية مع التمسُّك بالشريعة يُعرِّض نفسه للاضطهاد من قبل الحكام الإغريق.

هذه التجارب بالنسبة للمؤمن تقوم بعملية تنقية، وذلك كما تُنقِّي النار الذهب (أم 17: 3). هذا والثقة في وعود الله تدخل بنا إلى العون الإلهي وسط الضيق (مز 37: 3-6؛ أم 3: 5-6).

ما يريد آباء الكنيسة تأكيده أن التجارب التي يسمح الله بها أن تحلّ على المؤمنين لا تعني غضب الله عليهم أو الانتقام منهم، بل هي علامة الحب الإلهي، لأجل تنقيتهم وتقدمهم وتكليلهم بإكليل النصرة. فإن غضب عليهم، فغضبه ينبع عن حبه الأبوي لهم.

v واضح أنك غاضب، بالحقيقة غاضب كأبٍ يُصلح، وليس كقاضٍ يدين[1].

v أولئك الذين عيَّنهم الله قبل إنشاء العالم ليأخذوا صورة ابنه الوحيد (رو 8: 29)، هذا الذي على وجه الخصوص عُصِرَ في آلامه بكونه العنقود العظيم، كانوا قبل اقترابهم إلى خدمة الله، يتمتعون في العالم بنوعٍ من الحرية اللذيذة، مثل عناقيد عنب مدلاة أو زيتون على الشجر. ولكن كما قيل: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" (راجع سي 2: 1).

كل من يقترب من خدمة الله يجد نفسه في معصرة خمر، يحتمل متاعب، ويُسحَق، ويُعصَر، لا لكي يهلك في هذا العالم، إنما لكي ينساب في مخازن الله.

تُنزَع عنه أغطية الشهوات الجسدية مثل غلاف العنب (عند عصره)... يتحدث عنه الرسول: "اخلعوا الإنسان العتيق، وألبسوا الإنسان الجديد" (كو 3: 9-10؛ أف 4: 22). هذا كله لا يتم إلا بالعصر. لهذا تُدعَى كنائس الله في هذا الزمن "معاصر"[2].

v كن صبورًا وتحمل المحن التي تتعرَّض لها في طريقك للوصول إلى الله، فإنه يقبل الذين يصبرون في الضيق بشكرٍ...

إن نار التجارب والصعوبات إنما تُخرِج رجالا  أشدَّاء في الإيمان، فقد تكون مؤلمة، لكنها تُولِّد الأشداء لأنهم يرتكزون على أساسٍ قويٍ[3].

القديس أغسطينوس

v (رسالة تعزية لأبٍ ماتت ابنتاه وأيضًا خادمته)

لست أخدعك بكلمات مداهنة، أو أسحب من تحت قدميك الأرض بالمديح المتملق. بالحري أقول ما هو صالح لك أن تسمعه: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" (سي 2: 1). "متى فعلتم كل ما أُمرتم به، فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا" (لو 17: 10).

قُل لله: "الابنتان اللتان أخذتهما مني هما عطيتك. الخادمة التي أخذتها لك هي أيضًا قد أقرضتني إياها إلى حينٍ لتعزيتي. إنني لست حزينًا أنك استردتهن، إنما بالحري أشكرك لأنك سبق أن أعطيتهن لي"[4].

v يجب ملاحظة أنه لو لم يبدأ الرب بالصوم ما كان قد وجد الشيطان الفرصة (ليُجَرِّبَه)، وذلك حسب العبارة: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" (سي 2: 1). إجابة المُخَلِّص نفسها تشير إلى أنه قد جُرِّب كإنسانٍ: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4). لهذا إن كان أحد لا يقتات بكلمة الله، لا يحيا[5].

القديس جيروم

v الذين اختاروا أن يحيوا حياة مجيدة وبلا لوم يجب عليهم أن يُخَزِّنوا مُقدَّمًا في ذهنهم غيرة كافية لتحقيق ذلك. وأن يتذكَّروا القائل: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة. قوِّم قلبك على الإخلاص وكُنْ وفيًا" (سي 2: 1-2). أما الذين ليس لهم مثل هذه الغيرة، فكيف يمكنهم أن يصلوا إلى الهدف الموضوع أمامهم؟ يقول الرب: "وأي ملك إذا ذهب إلى مقاتلة ملكٍ آخر في حرب، لا يجلس أولًا ويتشاور مع نفسه، هل يستطيع بالعشرة آلاف التي له أن يغلب من هو أقوى منه؟" (لو 14: 31)[6]

v أي أمر يحدث دون توقع ويكون خطيرًا، يدفع حتى الشجعان إلى الاضطراب، وأحيانًا إلى أهوال لا تُحتمَل. لكن إذا ما ذُكر مقدمًا أنها ستحدث، فإن توقعها يُخَفِّف وطأة هجومها، وهذا ما أعتقد معنى عبارة "تهيأت ولم أضطرب".

لهذا يقول الكتاب المقدس المُوحى به من الله للذين يبغون المجد بسلوكهم المقدس: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة. قوِّم قلبك على الإخلاص وكُنْ وفيًا" (سي 1:2). وهو لا يتحدث ليُوجِد في البشر تكاسلًا واستهتارًا... لهذا فإن مُخَلِّص الجميع كان يهيئ مسبقًا التلاميذ، فأخبرهم أنه سيتألم بالصليب ويموت جسديًا ما أن يبلغ إلى أورشليم[7].

القديس كيرلس السكندري

v إذ تبدأ النفس تحب الحقائق السماوية، وتُرَكِّز بقوةٍ في هذا السلام الجوهري، عندئذ ينحدر العدو القديم الذي سقط من السماء (لو 10: 18) وهو يشعر بالحسد، فيبدأ في مضاعفة فخاخه الخفية.

إنه يُطَوِّر التجارب بأكثر عنفٍ عن المعتاد. إنه يُجَرِّب بالأكثر النفس التي تُقاوِم. لذلك كُتِب: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" [1]، وكن حازمًا في عدلٍ ومخافةٍ[8].

البابا غريغوريوس (الكبير)

v غالبًا ما يُوَجِّه الله بعض أنواع التهديدات التي تحلّ على رؤوسنا، لا لكي ينزلها علينا، وإنما لكي يجتذبنا إليه، وعندما نعود إليه يتبدَّد الخوف سريعًا.

بالتأكيد لو أننا بقينا بنفس الوضع في أثناء التجارب في طمأنينة، فما كانت هناك حاجة إلى التجارب. ولماذا أتكلم عنّا نحن؟ حتى القديسين القدامى تعلَّموا درسًا عظيمًا، إذ يقول النبي: "خير لي أنك أذللتني" (مز 119: 71). وأيضًا قال يسوع للرسل: "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16: 33). ويشير بولس إلى هذا بقوله: "أُعطيت شوكة في الجسد ليلطمني لئلا أرتفع" (2 كو 12: 7)... إن استعرضنا كل حياة داود نجده كان أكثر مجدًا عندما كان في خطرٍ، سواء هو أو من كان على شاكلته.

هكذا كانت حالة أيوب الذي أشرق بأكثر بهاءٍ أثناء متاعبه. ويوسف أيضًا بهذه الطريقة تزكَّى بالأكثر... فإن كل الذين لبسوا مثل هذه الأكاليل من المجد، اكتسبوها بواسطة المتاعب والتجارب[9].

v ليتنا لا نحزن بسبب الشرور التي تحدث لنا. هذه هي رزانة العقل. "ولا تصارع بقلقٍ في وقت الشدة" (سي 2: 2). كثيرون لهم أحزانهم المتعددة في المنزل، ونحن نشارك أحزان بعضنا البعض، وإن كان ليس في نفس المصدر. واحد غير سعيد بسبب زوجته، وآخر بسبب طفله، أو خادمه، وآخر بسبب صديقه، وآخر بسبب عدوه، وآخر بسبب قريبه، وآخر بسبب خسارة لحقت به. متعددة هي أسباب الحزن، حتى إننا لا نجد أحدًا متحررًا من تعبٍ أو شقاءٍ من نوعٍ أو آخر. لذا يليق بنا أن نكون صبورين، ولا نظن أننا وحدنا لسنا سعداء[10].

v إنه ليس شيء ما في الحياة الأخلاقية معفية من الحزن، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن لم يكن غدًا فيومًا ما مؤخرًا تحل المتاعب. فكما لا يقدر أحد أن يُبحر في رحلة بحرية طويلة ويشعر أنه غير هادئ، وإن كان ليس من الممكن أن تعبر خلال هذه الحياة دون اختبار الحزن؛ نعم حتى بالنسبة للغني، فإذ هو غني سيمر بمناسبات لا يشتهيها. نعم حتى الملك نفسه، لأن أمور كثيرة تحكمه، ولا يستطيع أن يحقق كل ما يلزم أن يفعله[11].

v إذا أخطأنا فإنّ الله قد يُنهِض علينا أعداءنا ليؤدِّبنا، وعلى ذلك لا ينبغي أن نُحارِبَهم، بل يجب أن نُحاسِب أنفسنا ونُثَقِّفها. وطالما أطلقهم علينا بسبب خطايانا، فمتى حاربناهم ينصرهم علينا، لهذا أَمرَنا ألاّ نجازي أعداءنا. فلنقبل الامتحانات كقبول الأدوية من الطبيب لكي نخلص، وكقبول التأديب من الأب لكي نتهذَّب. لهذا قال الحكيم: "يا بني، إن أقبلتَ لتخدم الربّ، فأَعدد نفسك للتجربة" (سيراخ 2: 1).

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

قوَّم قلبك على الإخلاص، وكُن وفيًا،

ولا تصارع بقلقٍ في وقت الشدة [2].

لا يتجاهل ابن سيراخ المشاعر البشرية، ففي وقت الضيق يتألم الإنسان ويئن، لكنه بالإيمان يصرخ إلى الرب، فينزع عنه القلق. هذا ما حدث مع الرسول حين صرخ إلى الرب ثلاث مرات ليرفع عنه الضيق، وكانت استجابة الرب: "تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكمَل" (2 كو 12: 9).

عندما عانى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم الآلام والاضطهاد من الإمبراطورة أفدوكسيا يعاونها رجال الدين أنفسهم كتب من سجنه إلى الأسقف قرياقوص:

[عندما اُستبعدت من المدينة لم أقلق، بل قلت لنفسي: إن كانت الإمبراطورة ترغب أن تنفيني، فلتفعل ذلك، فإنه "للرب الأرض"!

وإن كانت تود أن تنشرني، فإني أرى إشعياء مثلًا!

وإن أرادت إغراقي في المحيط، أُفَكِّر في يونان!

وإن أُلقيت في النار، أجد الثلاثة فتية قد تحمَّلوا ذلك في الأتون!

إن وُضِعت أمام وحوش ضارية، أذكر دانيال في جبّ الأسود!

إن أرادت رجمي، فإن إستفانوس أول الشهداء أمامي!

إن طلبت رأسي، فلتفعل، فإن المعمدان يشرق أمامي!

عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أترك العالم.

بولس يُذَكِّرني: إن كنت بعد أرضي الناس لست عبدًا للمسيح[12].]

وكتب القدّيس كبريانوس إلى بعض المعترفين يقول لهم: [في كل هذه الأمور نحن أعظم من غالبين لذاك الذي أَحبَّنا[13].]

v عندما يريد الله أن ينصر الإنسان ويُعَظِّمه، يسلمه أولًا إلى الشر (التجارب) ليُختبَر ويُفحَص، ثم يُظهر جماله للعالم بالبركات التي يعملها الله معه.

لما أراد الله أن ينصر يوسف ويجعله سيدًا على مصر، ماذا كانت بداية عمله ليبلغ به إلى نهاية صالحة؟ أولًا قبض عليه إخوته، وأهانوه، واستهزأوا به، ونزعوا ثيابه، وألقوه في الجب، وقطعوا رجاءه، وباعوه للتجار، وصار عبدًا يخدم الأرباب، وأُستعبِد ابن الأحرار الحسن الذي لم يقترف سوءًا.

من رأى هذا العمل السيئ لم يكن بوسعه أن يظن أن كل هذه الشرور كانت تُرتكَب لصالح يوسف. أما الله الذي كان يعلم ماذا يريد أن يصنع له، فلم يشفق عليه عندما كان يئن تحت وطأة كل هذه الشرور، بل تركه يسقط في الجب، ويُبَاع للتجار، ويُزج به في السجن ظلمًا. بعد هذه كلها أشرق جماله كالشمس، وظهر حقه كالذهب، وزالت شروره كالدخان، واعتلى قمة المركبة كملكٍ، وقام في العظمة التي من أجلها وضعه الله حتى يتواضع فيرتفع[14].

القديس مار يعقوب السروجي

v للإنسان العاقل حقًا اهتمام واحد، وهو أن يطيع الله القدير من كل القلب وإن يرضيه. وهو يُعلّم شيئًا واحدًا، واحدًا فقط، وهو كيف يصنع قدر استطاعته ما يوافق الله، شاكرًا إياه على عنايته المتحننة التي تعمل في كل ما يحدث في حياته.

وكما لا يليق بنا إلا أن نشكر الأطباء لعلاج أجسادنا، حتى إن قدَّموا لنا أدوية مُرَّة غير مقبولة، هكذا لا يليق بنا أن نجهل أن كل الأشياء تعمل معًا للخير، وذلك بفضل العناية الإلهية، فننكر معروف الله في الأمور التي تبدو لنا أنها مؤلمة[15].

القديس أنطونيوس الكبير

v خلال العناية الإلهية، كل شيءٍ بالتأكيد هو صالح ولمنفعة النفس، كل ما يحدث هو لصالحنا وسعادتنا، فالله يحبنا ويحمينا. يلزمنا كما يقول الرسول أن نشكر الله في كل شيءٍ من أجل صلاحه معنا (1 تس 5: 18). لا ننحط بقلوبنا ولا نفقد قلوبنا من جهة ما يحدث معنا، بل نَقْبَل الأحداث، مقتنعين أن كل ما يفعله الله معنا يصدر عن صلاحه لأنه يحبنا، وكل ما يفعله هو قويم. حقًا من الاستحالة أن تسير الأمور حسنًا إلا خلال مراحم الله[16].

الأب ثيؤدورس من غزة

v ليتنا نطرد عنا كل الاهتمامات العالمية (القلق) بالصلاة والرجاء. فإذا لم نستطع أن نبلغ هذا إلى الكمال، فلنعترف بضعفنا أمام الله ولا نكف عن الجهاد في الصلاة.

القديس مرقس الناسك

التصق به ولا تَحِدْ،

لتُكرَم في أواخر حياتك [3].

يُقَدِّم لنا ابن سيراخ خبرة عملية ننتفع بها وسط الضيق، وهي ألا نُوَجِّه أنظارنا إلى أسفل لئلا يبتلعنا الحزن، إنما نتطلَّع إلى فوق، أو إلى أعماقنا. فنتمسك بالرب ونلتصق به، ونطلب رفقته لنا وسط الضيق. نتهلل ونرنم: "مع المسيح صُلِبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 20). ندخل الطريق الضيّق لنرى الأبدية تلتصق بنا.

v نحن نعلم أن الإنسان إذا التصق بالله، يُطهِّره لكي يُخَفِّف عنه ثقل خطاياه، وتتم فيه كلمة المُخلِّص: "إذا ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يُحرِّركم" (يو 8: 31-32). لأن الله هو الذي يُطَهِّر الإنسان. وقد كُتِب أن "المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد" (عب 11:2). وأيضًا: "كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر يُنقِّيه ليأتي بثمر أكثر" (يو 2:15).

يا ابني، التصق بالله (سي 3:2) واهرب من جميع الأعمال الشريرة. أَعِنْ نفسك، واهرب من الخطية مثل الذي يهرب من الحيَّة[17].

القديس اسطفانوس الطيبي

v تدبير إلهنا ومخلصنا بشأن الإنسان هو إعادة الإنسان من السقوط، والعودة من الاغتراب الذي حدث له بسبب المعصية، إلى شركة مباشرة مع الله، لذلك جاء المسيح في الجسد، وعاش حسب المثال الذي نراه في الأناجيل، وتألم على الصليب وقُبِرَ وقام، لكي يُخَلِّص الإنسان باقتدائه بالمسيح ويعود إلى رتبة البنوة القديمة.

التشبُّه بالمسيح هو وحده الذي يقود إلى كمال الحياة، ليس فقط للتشبُّه بسيرته كمثالٍ للوداعة والتواضع والصبر كمنهج لحياتنا، بل بموته أيضًا. لذلك يقول بولس المُتشبِّه بالمسيح: "لأَتشبَّه بموته، لعلي أبلغ إلى القيامة من بين الأموات" (في 3: 10-11)[18].

القديس باسيليوس الكبير

مهما حلّ بك اقبله،

وكن صابرًا على تقلبات حالك الوضيع [4].

يُقَدِّم لنا ابن سيراخ تدريبًا آخر، وهو أن نتطلَّع إلى حال البشرية في العالم، فنكون كمن يلتصق بعجلة الزمن. تدور العجلة، فنرى أنفسنا تارة فوق، وأخرى أسفل، تارة في اتجاه مُعَيَّن وسرعان ما نصير في الاتجاه المضاد.

العالم متغير، لكن إن ارتبطنا بالقدوس لا تشغلنا عجلة الزمن، بل مركبة الصليب الأكثر بهاءً من مركبة إيليا النبي، تنطلق بنا من مجدٍ إلى مجدٍ، حتى نبلغ السماء التي تنتظرنا وتُرَحِّب بنا.

v يقول (الرسول): "شاكرين كل حين على كل شيءٍ" (أف 5: 20).

ما هذا؟ هل نشكر على كل ما يحلّ بنا؟ نعم، حتى وإن حلّ بنا مرض أو فقر. فإن كان في العهد القديم ينصحنا الحكيم: "مهما حلّ بك اقبله، وكن صابرًا على تقلُّبات حالك الوضيع" (سي 2: 4) فكم بالأولى في العهد الجديد؟!

نعم، قَدِّم التشكرات حتى لو لم تعرف الكلمة (التي تقدمها)!...

إن كنت تشكر في الراحة والرخاء والنجاح والغِنَى فهذا ليس بالأمر العظيم، ولا هو بالعجيب، إنما يلزم الإنسان أن يشكر حين يكون في أحزانٍ وضيقاتٍ ومتاعبٍ. ليست كلمة أفضل من القول: "أشكرك أيها الرب"...

لنشكر الرب على البركات التي نراها والتي لا نراها أيضًا، والتي نتقبَّلها بغير إرادتنا، فإن كثيرًا من البركات ننالها بغير رغبتنا ودون معرفتنا...

حينما نكون في فقرٍ أو مرضٍ أو نكباتٍ، فلنزد تشكراتنا، لا أقصد بالتشكرات خلال الكلمات واللسان، وإنما خلال العمل والأفعال، وفي الذهن وبالقلب. لنشكره بكل نفوسنا، فإنه يحبنا أكثر من والدينا، وكبُعد الشر عن الصلاح، هكذا الفارق الشاسع بين حب الله لنا وحب آبائنا[19].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v اعلم أن الأمراض الجسدية هي أمر طبيعي بالنسبة للجسد، إذ هو مادي وقابل للفساد. لذلك إن حلَّ به المرض، يجب على النفس المتعلمة (الصلاح) أن تتشجَّع وتصبر بشكرٍ دون أن تتذمر على الله الذي خلق لها الجسد.

القديس أنطونيوس الكبير

v قال شيخ عن لعازر المسكين: "إننا لم نرَ أنه عمل أيّة فضيلة غير أنه لم يتذمَّر قط على ذلك الغني الذي لم يرحمه، وكان شاكرًا لله على ما كان فيه، ولذلك فقط رحمه الله[20].

عن فردوس الآباء

فإن الذهب يُمتحَن في النار،

والمرضيين (والمختارين) من الناس في أتون الذلّ [5].

لو أن الله الرحيم يسمح بالتجارب فوق قدرتنا، ما كان يوجد إنسان يقدر أن يقف أمام خطط الأرواح الشريرة الماكرة دون أن يسقط أرضًا. يقول الرسول بولس: "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كو 10: 13).

v ماذا إن افترضنا أن إنسانًا سقط في مرضٍ؟ حسنًا، ليسمع نصيحة أخرى: "في مرضٍ أو فقرٍ، ثق في (الله)، فإن الذهب يُمتحَن في النار، هكذا المرضيون من الناس في أتون الذل" (راجع سي 2: 4-5). لذلك ليس الموت ولا خسارة الأموال ولا المرض الجسدي، ولا الإهانة ولا الخزي ولا شيء من هذا القبيل يقدر أن يُحزِنه، إنما يجعله أكثر فرحًا، فأي أساس للحزن يمكن أن يوجد في أي وقتٍ؟[21]

v يمكننا أن نقول: (هذه) الضيقة تجعل أولئك الذين يضطربون أكثر ثباتًا. "إن الضيق يُنشِئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3–5). ألا ترون أن التزكية النابعة عن الضيق تُنشِئ رجاءً في الخيرات المُقبِلة، وأن الثبات في التجارب يُسَبِّب لنا رجاء في المستقبل؟ لهذا لست أقول في اندفاع إن هذه الضيقات ذاتها تشير لنا نحو الرجاء في القيامة، وتجعل الذين يُجرَّبون في حالٍ أفضل، إذ يقول: "فإن الذهب يُمتحَن في النار، والمرضيين من الناس في أتون الذل" (سي 2: 5)[22].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v استمع يا الله إلى صلاتي وأنا مضطرب، خلِّص نفسي من الخوف من العدو.

ثار الأعداء ضد الشهداء. فماذا كان صوت جسد المسيح هذا (أي الشهداء) وهو يصلي؟

هل كان يصلي أن يُخَلِّصه من الأعداء، وألا يكون للأعداء سلطان لقتله؟ هل لم يُسمَع لهم لأنهم قُتِلوا؟ وهل ترك الله خدَّامه الذين كانت لهم قلوب مُنسحِقة، وهل استخفّ بالذين كان لهم رجاء فيه؟ بالتأكيد لا! لأن من يدعو الله وهو ينساه؟! من ترجَّاه، وتركه؟!

لقد سُمِع لهم، وقُتلوا. ومع ذلك تخلَّصوا من أعدائهم.

آخرون كانوا خائفين استسلموا وعاشوا. ولكن هؤلاء أنفسهم ابتلعهم أعداؤهم.

الذين قُتِلوا خلصوا، والذين عاشوا اُبتلعوا.

هذا هو ما أشار إليه صوت المرتل المُتعرَّف عليه عندما قال: "لئلا يبتلعونا ونحن أحياء" (مز 124: 3). كثيرون في الحقيقة اُبتلعوا وهم أحياء، ولكن كثيرين آخرين ابتلعوا وهم أموات. الذين يحسبون المسيحية غباوة هم بالفعل أموات. يأتي وقت يبتلعون فيه أنفسهم[23].

القديس أغسطينوس

اتكل عليه فيساعدك،

وقوّم سبلك، واجعل فيه رجاءك. [6]

يقول المرتل: "أنفسنا انتظرت الرب؛ معونتنا وترسنا هو. لأن به تفرح قلوبنا، لأننا على اسمه القدوس اتكلنا" (مز 33: 20-21). ليس من يتكل عليه ويخزى، لأن نفسه تسكن فيه، ويسكن الله فيه (يو 14: 23). "اتّكلْ على الربّ وافعل الخير. اسكن الأرض وارع الأمانة، سلّم للربّ طريقك، واتّكل عليه وهو يجري" (مز 37: 3، 5).

v هكذا تفكر النفس التي تحب الله: الله هو موضعها؛ ولا تعرف موضعًا آخر تسكن فيه، ولا تقطن في موضعٍ إلا في الله، كما هو مكتوب: "الرب مسكن لنا إلى جيل الأجيال". إذًا حيثما يوجد المسيحي الحقيقي، يسكن في الله، ويسكن الله فيه، ولا يتكل على الموطن ولا الموضع. لهذا لا يحتاج إلى التنقُّل من موضعٍ إلى موضعٍ مثيله. لأجل هذا أَتوسل إلى محبتك أن تخدم إلهك بالمحبة الإلهية، كما أنت وحيثما وُجِدت[24].

القديس مار يعقوب السروجي

v من لا يتَّكِل على الله في الأمور الصغيرة، بالأكثر يكشف عن عدم إيمانه بالأكثر في الأمور العظيمة[25].

v "يا رب إلهي، عليك توكلت" (مز 7: 1)...

بالرغم من أن هذه الصلاة بسيطة، ويمكن أن يُقَدِّمها أي شخصٍ، غير أنها لم تُقَدَّم هنا هكذا. فإن من يجعل اتِّكاله على إنسانٍ، أو يتكل على شيءٍ آخر في الحياة مثل السلطة أو الممتلكات، أو أي شيءٍ مما يعتبره الكثيرون أمرًا مجيدًا، لا يستطيع أن يقول: "يا رب إلهي، عليك توكلت".

بالحقيقة توجد وصية، وهي أنه لا يليق بنا الاتِّكال على الرؤساء، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. "ملعون الرجل الذي يتَّكِل على الإنسان" (إر 17: 5). كما يليق بنا ألا نعبد شيئًا بجانب عبادتنا لله. هكذا يليق بنا ألا نتَّكِل على آخر غير الله رب كل الأشياء. قيل: "الرب رجائي وتسبحتي" (مز 70: 5؛ 117: 14)[26].

v يُعَبِّر القلق عن قبح النفس وضعفها، لانفصالها عن الله. فلنُصَلِّ إذن حتى يُشرِق علينا نور وجه الله. فنكون مثل القديسين في وداعتهم وسلامهم في كل الظروف. وعلى استعدادٍ دائمٍ لعمل الخير، كقول المزمور: "أسرعت ولم أقلق" (مز 119: 6) من أجلي حوَّلت نوحي إلى فرح لي، مزقت مسحي ومنطقتني بالفرح (مز 30: 12).

فرح الله لا يستقر في كل النفوس، بل في تلك النفوس التي بَكَت على خطاياها، بآياتٍ كثيرةٍ ودموعٍ مستمرةٍ، كمن مات لها عزيز لديها. مثل تلك النفس يُحَوِّل الله نوحها إلى فرحٍ. يُحَذِّرنا ربُّ المجد من التشبُّه بأولادٍ جالسين في السوق، ينادون بعضهم بعضًا، ويقولون: "نُحْنَا لكم فلم تبكوا، زمَّرنا لكم فلم ترقصوا" (لو 7: 32). المزمار آلة موسيقية، تُصدر نغمًا عندما يُنفَخ فيها، لذلك أعتقد إن كل نبيٍ قديسٍ هو مزمار بالمعنى الروحي، يعمل بنفخة الروح القدس. قيل: "زمَّرنا لكم فلم ترقصوا"، وتحثنا كلمات النبوة للعمل حسب الوصية، وهو ما يطلق عليه تعبير "رقص".

يبكي الأنبياء علينا، ويدعوننا لنبكي، حتى نكتشف أخطاءنا في ضوء كلماتهم النبوية، عندئذ نبكي على هلاكنا ونقمع جسدنا بالجهاد والعقاب. الإنسان الذي يسلك مثل هذا الطريق، تُمَزَّق مسوحه ويرتدي لباس العُرْسِ المُزَيَّنة، حتى لا يُطرَد خارج العُرْسِ (مت 22: 11-13)[27].

v سؤال: هل يسقط في اليأس مِنْ خلاصه من أُصطيد في كثرة من الشرور، فأخطأ بعد عماده؟ أو ما هو المقياس الذي فيه لا يزال يستمر الإنسان في رجائه في محبة الله للبشر خلال التوبة؟

الإجابة: إن أمكن أن تُعادِل بين حنو الله الفائق أو ثقل عظمة رحمة الله وبين عدد الخطايا وثقلها فلا يوجد موضع لليأس.

أما إذا كان من المعقول أن الأخيرة تخضع للقياس والعدد، بينما استحالة قياس رحمة الله أو إحصاء حنوه، فلن يكون لليأس موضع قط. وإنما بمعرفة الرحمة وإدانة الخطايا، توجد مغفرة في دم المسيح كما هو مكتوب (مت 26: 28).

غير أنه توجد أماكن وطرق كثيرة خلالها نتعلَّم أنه يلزمنا ألا نيأس. تأملوا على وجه الخصوص مَثَل ربنا يسوع المسيح بخصوص الابن الذي أخذ ثروة أبيه وبَدَّدَها في الخطايا. فمِن كلمات الرب نفسه نتعلَّم ما هو نوع الوليمة وعظمتها التي تليق بالتوبة (لو 15: 22-24).

أَضِف إلى ذلك يقول الله بإشعياء: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش 1: 18). لكن يجب أن نعرف أن هذا يتحقَّق فقط متى كانت توبتنا تستحق ذلك، إن صدرت عن كراهيتنا للخطية، كما هو مكتوب في العهدين القديم والجديد، وكانت تحمل ثمارًا لائقة بها[28].

القديس باسيليوس الكبير

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

2. خائف الرب مملوء رجاء

7 أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، انْتَظِرُوا رَحْمَتَهُ، وَلاَ تَحِيدُوا لِئَلاَّ تَسْقُطُوا. 8 أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، آمِنُوا بِهِ؛ فَلاَ يَضِيعَ أَجْرُكُمْ. 9 أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، أَمِّلُوا الْخَيْرَاتِ وَالسُّرُورَ الأَبَدِيَّ وَالرَّحْمَةَ. 10 أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، أَحِبُّوهُ؛ فَتَسْتَنِيرَ قُلُوبُكُمْ. 11 اُنْظُرُوا إِلَى الأَجْيَالِ الْقَدِيمَةِ وَتَأَمَّلُوا. هَلْ تَوَكَّلَ أَحَدٌ عَلَى الرَّبِّ فَخَزِيَ؟ 12 أَوْ ثَبَتَ عَلَى مَخَافَتِهِ فَخُذِلَ؟ أَوْ دَعَاهُ فَأُهْمِلَ؟ 13 فَإِنَّ الرَّبَّ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ الْخَطَايَا وَيُخَلِّصُ فِي يَوْمِ الضِّيقِ.

 

يليق بكل إنسانٍ أن يعمل بكل طاقته، فلن يُحَقِّق ما يرغبه وهو في كسلٍ، مع هذا فما يقتنيه هو من الله، وذلك مثل المُزارِع وصياد السمك، كل منهما يعمل والربّ هو الذي يعطيهما.

يا خائف الرب انتظر رحمته،

ولا تحيد لئلا تسقط. [7]

تذكّر أن معاملات الله عبر الأجيال تبني إيماننا ورجاءنا على خبرة عملية (مز 34: 8؛ 37: 25). ليتنا لا نُلقي بأنفسنا في أيدي البشر، بل في يديّ الله لأن جلاله في رحمته، وعظمته في حنوّه.

v لنتعلّم كيف نحتمل دون تذمُّر أو استنكار لما يحدث لنا، فإن الله يعرف ما هو خير لنا. وعلينا أن نحتمل البلية بشكرٍ، وحينئذ ستلحقنا البركات، فلنخضع لكل ما يأتي علينا شاكرين الله على كل شيءٍ، فهو يعلم ما هو الصالح لنا أكثر مما نعرف نحن. وهو يحبنا أكثر من الأب والأم. ولتكن هذه الاعتبارات أغنية نتغنَّى بها لأنفسنا في وقت الضيقة حتى نطرد اليأس، ونُمَجِّد الله في كل شيءٍ[29].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

يا خائف الرب آمن به،

فلا يضيع أجرك. [8]

يا خائف الرب ترجى الخيرات والفرح الأبدي والرحمة. [9]

كان الراهب ثيؤدور صديقًا للقديس يوحنا الذهبي الفم في الحياة النسكية، ولكن أغواه جمال امرأة شابة حسنة الصورة تُدعَى Hermoine، فسقط في حُبِّها ورغب في الزواج منها. سقط ثيؤدور الناسك في حب هذه المرأة، لكن سقطته الكبرى كانت تتركَّز في يأسه من قبول الله له وإمكانية عودته إلى حياته النسكية الأولى. رُفِعَتْ لأجله الصلوات، وبُذِلَت المجهودات، وأخيرًا أرسل إليه القدِّيس يوحنا الذهبي الفم رسالتيْن سجَّلتا لنا أروع ما تحتاج إليه النفس اليائسة من علاج خلال الرجاء الحي. كشفتا لنا عن مراحم الله غير المحدودة، وأحضانه المفتوحة على الدوام لقبول الخطاة والزناة، مهما بلغت خطاياهم، مع الحذر من أبشع شيطان، ألاّ وهو شيطان اليأس.

v لا تيأس من تغَيُّيرك تغيُّرًا كاملًا.

إن كان الشيطان لديه هذه القدرة، أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل وأسعد من ذي قبل[30].

v عظيمة هي قوة الرجاء في الرب، قلعة لا تُقهَر، سور واقٍ لا يمكن مهاجمته، إمداد عسكري لا يُهزَم، ميناء هادئ، برج منيع، سلاح لا يُقاوَم، قوة لا تُقهَر قادرة على اكتشاف ملجأ في موضع لا يتوقَّعه أحد. بهذه القوة يصير غير المُسَلَّحِين مُسَلَّحِين، يكون حال النساء أفضل من الرجال، ويبرهن الأطفال أنهم بسهولة يصيرون أكثر قوة من الذين يمارسون فنون الحرب. أي عجب إن كانوا يغلبون أعداءً بينما في الواقع هم يغلبون العالم نفسه... الرجاء بالرب يُغَيِّر كل شيء![31]

v يحملنا الرجاء إلى الأمام. إنه يشفينا! لا تكن قلقًا ولا تيأس، لئلا يصير رجاؤك باطلًا[32].

v ليس أحد يسلك في حياة صالحة ويقلق من جهة المستقبل... هل صلاحنا يتكئ على الرجاء؟ نعم، لكن ليس الرجاء في البشر الذي غالبًا ما يزول ولا يترك وراءه سوى الارتباك. رجاؤنا هو في الله وهو أكيد وثابت[33].

v ماذا يعني "بالرجاء خلصنا"؟ هذا يعني أننا لا نطلب كل شيءٍ لنا في هذه الحياة، وأن يكون لنا رجاء أيضًا، مؤمنين أن ما وعدنا به الله يُحَقِّقه لنا، بهذا نحن خلصنا؛ فإن فقدنا الرجاء نفقد كل ما نلناه...

يود أن يقول: أتساءل، ألم تكن أنت خاضعًا لخطايا بلا حصرٍ؟ ألم تكن يائسًا؟ ألم تكن تحت الحكم؟... ما الذي خلَّصك إذن؟ الرجاء في الله وحده، وثقتك من جهة مواعيده وعطاياه، فإنه ليس لك شيء آخر تُقَدِّمه له.

إن كان هذا هو الذي خَلَّصك، فلنتمسك به الآن أيضًا. فمن قدَّم لك بركات عظيمة هكذا لا يمكن أن يخدعك في البركات المُقبِلة. لقد وجدك ميتًا ومُحَطَّمًا وسجينًا وعدوًا، فجعلك صديقًا وابنًا وحُرًا وبارًا ووارثًا معه، مُقَدِّمًا لك أمورًا عظيمة هكذا لم يكن يتوقَّعها أحد. هل بعد التمتُّع بمثل هذه العطايا بسخاءٍ وحبٍ يخونك في الأمور المُقبِلة؟...

هذا الطريق (الرجاء) خلصك من البداية؛ إنه العربون الذي أحضرته وحده إلى العريس. فلنتمسك به ولنحتفظ به، فإنك إن طلبت شيئًا في هذا العالم تفقد صلاحك الذي به صرت بهيًا، لهذا يكمل الرسول: قائلًا: "ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضا؟"[34]

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v يُوجّه الصبر نحو الرجاء في الأمور العتيدة، ويُوجّه الرجاء نحو المكافأة[35].

القديس إكليمنضس السكندري

v لماذا تعتمد على ذاتك وتسقط؟ ألق بنفسك على ذراعيه. لا تخف. إنه لن يتركك تنزلق. ألقِ بنفسك في يقين، فإنه يتلقفك ويشفيك.

القديس أغسطينوس

v سؤال: كيف تتأكَّد النفس تمامًا أنها تتطهَّر من الخطية؟

 الإجابة: إن عرف الإنسان دافع داود القائل: "أبغضت الإثم ومقته" (مز 119: 163)، أو يعرف أنه يُتَمِّم وصية الرسول القائل: "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الردية، الطمع – الذي هو عبادة الأوثان –، الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله" ويضيف إلى ذلك كامتداد للحُكْمِ ضد كل خطية "على أبناء المعصية" (كو 3: 5-6)، حتى يستطيع القول: "قلب معوج يَبعدُ عني. الشرير لا أعرفه" (مز 101: 4).

مرة أخرى، يتحقَّق الإنسان أن له مثل هذا الوازع، إن كان يحمل عاطفة برعدةٍ مثل ما يفعله القديسون. لهذا يقول داود: "رأيت الغادرين ومقتُّ، لأنهم لم يحفظوا كلمتك" (مز 119: 158). ويقول الرسول: "من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟" (2 كو 11: 29).

الآن، إن كان بحسب حق الكلمة تسمو النفس فوق الجسد (مت 10: 28)، ونحن نهتم بالجسد، فنشمئز من كل قذارة ونكرهها ونتعاطف ونحزن قلبيًا عند رؤيتنا لجراحات أو لأذية تحلُّ بالجسد، فكم بالأكثر بالنسبة لما يحلّ بالخطاة. فإن المُحب للمسيح والمُحب لإخوته يتألم من أجلهم حين يرى نفوسهم مجروحة كما بوحوش مُفترِسة، وفي وحشية يتعرَّضون لهجمات شر مُمِيت. هكذا يقول داود: "قد أنتنت، فاحت حُبر ضربي من جهة حماقتي، لويت انحنيت إلى الغاية. اليوم كله ذهبت حزينًا. لأن خاصرتي قد امتلأتا احتراقًا، وليست في جسدي صحة" (مز 38: 5–7). يقول الرسول: "أما شوكة الموت فهي الخطية" (1 كو 15: 56).

لذلك عندما يعرف إنسان أن نفسه صارت في مثل هذا الوضع، من أجل خطاياه وخطايا الآخرين، يثق أنه يتنقَّى من الخطية تمامًا[36].

v سؤال: كيف يلزم للإنسان أن يرجع عن الخطايا (أع 3: 19)؟

الإجابة: خلال الغيرة التي لنزعة داود الذي قال أولًا: "أعترف لك بخطيتي، ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للرب بذنبي" (مز 32: 5) عندئذ أعلن عن حالة من يتعلَّم أن يعمل بطرقٍ متنوعةٍ في المزمور السادس وفي المزامير الأخرى.

قد يتعلَّم إنسان من الرسول تلك الأشياء التي شهد بها لأهل كورنثوس بخصوص خطية الآخرين، عندما قال: "الحزن بحسب مشيئة الله يُنشِئ توبة لخلاص بلا ندامة" (2 كو 7: 10). ويضيف علامات الحزن: "فإنه هوذا حزنكم هذا عينه بحسب مشيئة الله، كم أنشأ فيكم من الاجتهاد، بل من الاحتجاج، بل من الغيظ، بل من الخوف، بل من الشوق، بل من الغيرة، بل من الانتقام، في كل شيءٍ أظهرتم أنفسكم أنكم أبرياء في هذا الأمر" (2 كو 7: 10-11).

واضح من هذا أنه لا يليق بنا فقط أن نترك الخطية، وأن نحتمل هذه الأمور من أجل الخطاة، وإنما يلزمنا أيضًا أن ننسحب من الخطاة أنفسهم. فعل داود هذا بوضوح عندما قال: "ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم" (مز 6: 8)، وأوصانا الرسول: "لا تؤاكلوا مثل هذا" (1 كو 5: 11)[37].

القديس باسيليوس الكبير

تأملوا الأجيال القديمة وانظروا:

هل اتكل أحد على الرب فخزي؟

أو هل ثبت على مخافته فخذل؟

أو هل دعاه فازدرى به؟ [10]

يُقَدِّم ثلاثة أسئلة بخصوص أمانته في الأجيال القديمة، ومع المتكلين عليه في الحاضر ليتمتعوا برحمته.

تدريب آخر وسط التجارب، ألا وهو دراسة معاملات الله مع المؤمنين سواء في العهد القديم أو العهد الجديد أو عبر التاريخ، كما في حياتنا. الله الذي حفظنا في الماضي يحفظنا في الحاضر وسيحفظنا في المستقبل. يقول بولس الرسول: "الذي نجانا من موت مثل هذا، وهو ينجي، الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضًا فيما بعد" (2 كو 1: 10).

فإن الرب رؤوف رحيم؛

يغفر الخطايا، ويُخَلِّص في يوم الضيق. [11]

سمات الله هنا هي الأساس الذي يقوم عليه إيمان الإنسان ورجاؤه فيه.

v لنا والدان ولدانا على الأرض للشقاء ثم نموت. ولكننا وجدنا والدين آخرين. فالله أبونا والكنيسة أمنا، ولدانا للحياة الأبديّة. لنتأمل أيها الأحباء أبناء من قد صرنا؟ لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا... وجدنا لنا أبًا في السماوات، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض. لأن من ينتسب لأبٍ كهذا عليه السلوك بطريقة يستحق بها أن ينال ميراثه[38].

القديس أغسطينوس

v هذا هو عمل الله... لقد خلق الله السماوات والأرض والبحر. عظيمة هي هذه الأعمال ولائقة بحكمته! لكن ليس شيء من هذه لها سلطان تجتذب الطبيعة البشريّة إليه، مثل رحمته وحبُّه للبشر![39]

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

3. خائف الرب ينجو من ثلاثة ويلات

14 وَيْلٌ لِلقُلُوبِ الْهَيَّابَةِ، وَلِلأَيْدِي الْمُتَرَاخِيَةِ، وَلِلْخَاطِئِ الَّذِي يَمْشِي فِي طَرِيقَيْنِ. 15 وَيْلٌ لِلْقَلْبِ الْمُتَوَانِي، إِنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ وَلِذلِكَ لاَ حِمَايَةَ لَهُ. 16 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ فَقَدُوا الصَّبْرَ، وَتَرَكُوا الطُّرُقَ الْمُسْتَقِيمَةَ، وَمَالُوا إِلَى طُرُقِ السُّوءِ، 17 فَمَاذَا تَصْنَعُونَ يَوْمَ افْتِقَادِ الرَّبِّ؟

 

خائف الرب ينجو الويلات الثلاثة التي تلحق بمن يفشل في الشجاعة وبساطة القلب والصبر.

ويل للقلوب الجبانة وللأيدي المتراخية؛

وللخاطئ الذي يمشي في طريقين [12].

1. الويل الأول لصاحب القلب الخائر الذي يُعرج بين الطريقين، فيكون عضوًا في شعب الله، وفي نفس الوقت يسلك في الطرق الوثنية.

2. الويل الثاني للذي لا يتكل على الله، فلا يجد ملجأ يحتمي فيه.

3. الويل الثالث للذي بلا رجاء، ماذا يفعل عندما يفتقده الرب بالتأديب؟ هنا يشير ابن سيراخ إلى داود الذي اختار الوقوع في يد الرب لا في يد إنسان (2 صم 24).

v ماذا يعني: "نتقدم بقلبٍ صادقٍ" (عب 10: 22)؟ أي بدون رياء، لأنه "ويل أن يكون بقلبٍ خائفٍ ويدين هزيلتين" (راجع سي 2: 12). يقصد: ليته لا يكون بيننا شيءٍ زائف. ليتنا لا ننطق بشيءٍ ونفكر بشيءٍ آخر، لأن هذا هو زيف، ولا نكون خائري القلوب، فإن هذا ليس علامة "القلب الصادق"[40].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v عندما نأتي إلى نعمة المعمودية، جاحدين كل الآلهة والأرباب الأخرى، نعترف بالله الواحد الآب والابن والروح القدس. لكن عندما نعترف بهذا، إن لم نحب الرب إلهنا بكل قلبنا وكل نفسنا ونلتصق به بكل قوتنا (مر 12: 30؛ تث 6: 5)، لا نكون نصيب الرب، وإنما بالحري نكون كمن وُضع على نوعٍ من السياج، ونعاني من تلك الآثام التي هربنا منها، ولا نسترضي الرب الذي هربنا والتجأنا إليه، لأننا لا نحبه بقلبٍ كاملٍ مخلصٍ (مر 12: 30).

بسب هذا يصرخ النبي إلينا، إذ يرى تقلبات مشابهة في ترددنا عندما يقول: "ويل للخاطئ الذي يمشي في طريقين" إلى متى تعرّجون بين الفرقتين؟! (1 مل 18: 21). ويقول يعقوب الرسول: "رجل ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه" (يع 1: 8). هكذا نحن الذين لا نتبع الرب بنفسٍ مستقيمة وكاملة، وننتقل بين آلهة غريبة، نكون كمن على سياج. فمن جانب نسلك كمن ترك الآلهة الغريبة التي تحدرنا، ومن جانب آخر لا يحمينا ربنا لأننا غير ثابتين ومتردّدون[41].

العلامة أوريجينوس

v إن كان أحد يموت لأنه قد أُعطي له علاجات تعتمد على خزعبلات، فكم ماتوا بسبب هذه العلاجات؟ وكم ماتوا بدون علاج؟ بأية ثقة تتجه روحه إلى الله؟ لقد فقد علامة المسيح، إذ استعاضها بعلامة الشيطان.

ربما يقول إنه لم يفقد علامة المسيح. هل يمكن أن تكون لديك علامة المسيح مع علامة الشيطان؟ لا يقبل المسيح ملكية مشتركة. يريد أن يكون المالك الوحيد لمن اشتراه. لقد اشتراه بثمن عظيم (1 كو 6: 20)، ليكون المالك الوحيد. أتجعله شريكًا مع الشيطان الذي بعت نفسك له بخطيتك؟ "ويل لذوي القلبين"، الذين في قلوبهم يقدمون نصيبًا لله وآخر للشيطان. يغضب الله لوجود نصيب للشيطان، فيترك (القلب) ويملك الشيطان عليه كله. يوجد سبب لنصيحة الرسول: "لا تعطوا إبليس مكانًا" (أف 4: 27)[42].

القديس أغسطينوس

ويل للقلب الخائر، لأنه لا يؤمن،

لذلك لا حماية له. [13]

ماذا يعني بالقلب الخائر؟ القلب الذي يفقد الصبر والاحتمال، ويسلك بفكرٍ مزدوجٍ نابع عن عدم الإيمان أو ضعفه، فيصير متقلقلًا في جميع طرقه (يع 1: 8).

v من كانت روحه تثق في الله، يلتصق بالله. الله أمين، ولا يسمح له أن يُجرَّب فوق ما يحتمل، بل يجعل مع التجربة طريقًا للهروب أيضًا، فيستطيع الاحتمال ولا يتراجع إلى الوراء في يوم المعركة (1 كو 10: 13).

ذاك الذي يُمَجِّد نفسه وليس الله، وإن أظهر مشهدًا عظيمًا مثل الانحناءة... إلا أنه يتّجه إلى التراجع والهروب من يوم المعركة. روحه ليست أمينة نحو الله، لذلك فإن روح الله ليس معه. مكتوب: "كل من لا يؤمن بإرادة الله لا يُحمى" (راجع سي 2: 15 الفولجاتا)[43].

القديس أغسطينوس

ويل لكم أيّها الذين فَقدتم صبركم،

فماذا تصنعون يوم يفتقدكم الرب؟ [14]

يقول السيد المسيح: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" (لو 21: 19)، هكذا وضع السيد اقتناء النفس في فضيلة الصبر، لأن الصبر هو أصل كل الفضائل والحامي لها. الصبر هو احتمال الشرور التي تسقط علينا من الآخرين بهدوء، دون أن نحمل مشاعر سخط ضد من يسقطها علينا.

يسمح الله للمؤمنين بالضيق، لكنه كأب يعلن اهتمامه بهم فلا تهلك شعرة واحدة منهم، وكما يقول القديس أغسطينوس: [تأكدوا يا إخوة أنه ليس للأعداء سلطان على المؤمنين إلا بالقدر الذي يتهاونون فيه خلال تجربتهم وامتحانهم[44].] كما يقول: [عندما حث الرب يسوع شهداءه على الصبر، وعدهم أن ينال الجسد نفسه كمالًا تامًا في المستقبل بلا فقدان، لا أقول فقدان عضو منه، وإنما دون فقدان شعرة واحدة[45].]

v يمكن للشخص أن يتابع في الإنجيل كلمات ربنا يسوع المسيح: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" (لو 21: 19). وفي عبارة أخرى في الكتاب المقدس قيل: "ويل لكم أيّها الذين فَقدتم صبركم" (راجع سي 2: 14). سواء تدعوه صبرًا أو قوة احتمال أو تسامحًا، فإن التعبيرات المتنوعة تشير إلى نفس الشيء.

لنضع في قلوبنا مرساة، فلا نهتم كثيرًا باختلاف الكلمات، إنما ما يشغلنا المفهوم الوحيد. ليتنا ندخل إلى العمق الذي تعبِّر عنه الكلمات.

الشخص الذي ينشغل بالحقيقة أن الحياة التي يسلكها في هذا العالم بعيدة عن بيته الحقيقي، يعيش في صبرٍ أينما وُجِد في الجسد هنا على الأرض. يعيش في صبرٍ، عندما يعرف أنه يقتني بيتًا أبديًّا في السماء، واثقًا أن هذا الوضع يجد فيه سعادته، التي لا يقدر أن يجدها هنا. إنه يلتهب بالرغبة فيها، وهي رغبة صالحة مقدسة وطاهرة!

واضح أن الصبر ليس بالضرورة في الرخاء بل في الضيقات. لا يستطيع أحد أن يقول إنه يحتمل بصبرٍ ما هو مُبهِج، فما نتسامح فيه هذا الذي نسنده بالصبر هو أمر قاسي، أمر مُرّ. فالصبر ليس بالضرورة في السعادة، وإنما يمارس في الشقاء[46].

القديس أغسطينوس

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

4. خائف الرب والشبع بكلمة الله

18 إِنَّ الْمُتَّقِينَ لِلرَّبِّ لاَ يُعَاصُونَ أَقْوَالَهُ، وَالْمُحِبِّينَ لَهُ يَحْفَظُونَ طُرُقَهُ. 19 إِنَّ الْمُتَّقِينَ لِلرَّبِّ يَبْتَغُونَ مَرْضَاتَهُ، وَالْمُحِبِّينَ لَهُ يَمْتَلِئُونَ مِنَ الشَّرِيعَةِ. 20 إِنَّ الْمُتَّقِينَ لِلرَّبِّ يُهَيِّئُونَ قُلُوبَهُمْ، وَيُخْضِعُونَ أَمَامَهُ نُفُوسَهُمْ. 21 إِنَّ الْمُتَّقِينَ لِلرَّبِّ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ، وَيَصْبِرُونَ إِلَى يَوْمِ افْتِقَادِهِ، 22 قَائِلِينَ: «إِنْ لَمْ نَتُبْ، نَقَعْ فِي يَدَيِ الرَّبِّ لاَ فِي أَيْدِي النَّاسِ، 23 لأَنَّ رَحْمَتَهُ عَلَى قَدْرِ عَظَمَتِهِ».

 

الذين يخافون الرب لا يعصون أقواله،

والمُحِبُّون له يحفظون طرقه [15].

يُوَجّه السيد المسيح حديثه إلى كل المؤمنين الذين يحبونه، ويظهر أن الوعد الإلهي عام للكل، ويُقِيم من القلب مسكنًا أو هيكلًا إلهيًا."إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلًا، الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني" (يو 14: 23-24).

v يقول: "خف الربّ واحفظ وصاياه" (جا 12: 13). هكذا بحفظ وصايا الله تكون قادرًا بقوة في كل عملٍ، وسيكون كل عملٍ فوق كل نقدٍ. إذن، خف الربّ، فتمارس كل عملٍ حسنًا، هذا هو الخوف الذي يجب أن تقتنيه لكي تخلص.

لا تخف من الشيطان. بمخافتك للرب تقتني السلطان على إبليس، ولا يكون فيه أدنى قوة...

على أي الأحوال خف من أعمال الشيطان، ولا تُتَمِّمها، بل كن متحفظًا منها.

يوجد نوعان من الخوف (مخافة الرب والخوف من الشيطان أو من البشر)، إن كنت ترغب أن تفعل شرًا، خف الربّ فلا تفعله. وبالتالي مخافة الربّ هي ضمان وقدرة ومجد. خف الربّ وعش لأجله. كل الذين يخافونه، ويحفظون وصاياه سيحيون لأجله[47].

الأب هرماس

v برهان الحب هو إعلانه خلال العمل. هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: "من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب" (1 يو 2: 4).

حبنا حقيقي أن حفظنا إرادتنا متناغمة مع وصاياه. من يجول هنا وهناك خلال شهواته الشريرة لا يحب الله بالحق، لأنه يضاد الله في إرادته[48].

 البابا غريغوريوس (الكبير)

v ذَكِّر نفسك إنه يجب عليك أن تُظهر تعقُّلك دائمًا، وذلك عن طريق الحياة الصالحة وأفعالك نفسها. وبنفس الطريقة فإن المرضى يحترمون الأطباء وينظرون إليهم كمنقذين لهم ومحسنين إليهم بالعمل لا بالكلام[49].

القديس أنطونيوس الكبير

الذين يخافون الرب يبتغون رضاه،

والذين يُحِبُّونه يشبعون من الشريعة. [16]

يُقَدِّم لنا القديس مار فيلوكسينوس كلمة اللَّه كمصدر حيّ للمخافة الإلهيّة، موصيًا إيّانا ألا نُرَدِّدها بلساننا فقط، وإنما نعيشها في قلوبنا، فتفجر في داخلنا ينابيع إلهيّة تروي النفس، وتُحَوِّل قفرها إلى فردوس مثمر.

v لننشغل دائمًا بكلمة اللَّه،

ليس فقط بترديدها بألسنتنا،

وإنما أيضًا بتأمّلنا فيها في داخل قلوبنا،

لكي يتكلم اللسان من فضلة القلب...

من يرتوي باستمرار من التعليم الإلهي،

يعطي كل حين ثمارا إلهيّة.

تعلن أسرار القلب الخفية، وتظهر من خلال سلوك الحواس الأخرى وتصرفاتها[50].

القديس مار فيلوكسينوس

v إن كان أحد لا يحفظ وصاياه، فهذا دليل على عدم محبته لله ومسيحه؛ أما حفظ وصايا المسيح باحتمال التجارب حتى الموت فهذا برهان الحب (يو 14: 21، 24؛ رو 8: 35-37)[51].

v من يفعل مشيئته يكرمه الله ويُمَجِّده، وأما من يعصى ناموسه فيُهِينه (مت 5: 6؛ رو 2: 23)[52].

v "ذوقوا وانظروا ما أَطيَب الرب" (مز 34: 8)... الذي لم يَذُق العسل، لا يمكن أن يُدرِكَ مذاقه. هكذا لا يمكن التلذُّذ بكلمة الله عن طريق التعليم، بل ينبغي أن نختبر عُمْق تعاليم الحق، ونلمس محبة الرب في علاقة شخصية. يقول: "ذوقوا"، ولم يقل اشبعوا، "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز" (1 كو 13: 22)، ولكن سيأتي وقت فيه أقتني ما أنال عربونه الآن.

أستطيع بالنعمة أن أَتذوَّقه بهذا المَذَاق في ملء الفرح.

ينبغي على الذين لا يستطيعون تذوُّق الأطعمة، وليس لهم أية شهية لها، بل يبتعدون باشمئزاز عن كل المأكولات، أن يعرضوا أنفسهم على الطبيب، ليفتح شهيتهم بمأكولات شهية، مضافًا إليها أطعمة ذات (رائحة) نفاذة لتفتح شهيتهم أكثر فأكثر. هكذا بخصوص كلمة الحق، نحتاج إلى اختبار حيّ لها، كما يقول المزمور إنه سيشعل فيكم الرغبة المستمرة، لذلك يقول: "ذوقوا"، لكي تأخذوا الطوبى، لإحساسكم الدائم بأنكم "جياع وعطاش إلى البرِّ" (مت 5: 6)[53].

v سؤال: ما هو معيار حبنا لله؟

الإجابة: أن تتسع النفس أكثر من قوتها تجاه ارادة الله، وأن تجعل مجده هو شغلها الشاغل والرغبة الدائمة لها[54].

v سؤال: كيف يمكن أن نفعل كل شيء لمجد الله؟...

إن فعلنا كل شيءٍ حسب فكر الله ووصاياه، ولا نطلب مديح الناس[55].

القديس باسيليوس الكبير

الذين يخافون الرب يهيئون قلوبهم،

ويتواضعون أمامه. [17]

يقول القديس مار يعقوب السروجي أن العدو إبليس وآدم سقطا في نفس الرذيلة أي الكبرياء، لذلك نزع الله مجد آدم لئلا يسقط إلى الأبد مثل الشيطان، وقام السيد المسيح بإصلاح الموقف بأن نقتني تواضعه، فيحلّ فينا ملكوته.

v ذاك الحنّان المملوء خيرات أشفق بالمراحم، وأخذ من (آدم) المجد الذي كان متشحًا به.

خلع عنه المجد الذي كان متسربلًا به، لئلا يتكبر ويهلك نهائيًا مثل الشيطان.

استخدم معه توبيخا وهو يحتقره: يا ابن التراب، أنت غبار وطين حقير.

لماذا تريد أن تخطف مكانًا ليس مُلكك؟...

إنك لم تبسط السماء وحدك، ولم تصفّ القوات التي تطوف فيها.

الشمس والقمر وكل الكواكب لا تسير بواسطتك...

إنك تراب لا تتطاول على العظمة، أنت طين لماذا تفكر فيما لا يعنيك؟...

أبغض الكبرياء، لأنه فخ عظيم ومملوء موتًا، فيه سقط العدو منذ البداية...

لا يوجد شيء مبغض ومنبوذ عند لله مثل كبرياء من يتبختر بالتباهي[56].

القديس مار يعقوب السروجي

v الأراضي المنخفضة تمتلئ، والأراضي المرتفعة تجفّ. النعمة هي مطر. فلماذا تتعجَّبون إذن إن كان الله يقاوم المتكبّرين، ويعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6)؟ لذلك القول: "بخوفٍ ورعدةٍ" (في 2: 12) يعني بتواضعٍ. "لا تستكبر بل خفْ" (رو 11: 20). خفْ حتى تمتلئ، لا تستكبر لئلاّ تجفْ![57]

القديس أغسطينوس

لنقع في يدي الرب لا في أيدي الناس،

لأن رحمته على قدر عظمته [18].

يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن داود الملك والنبي حين أخطأ واستحق التأديب طلب من الرب أن يقع في يديه لا في أيدي الناس، لأنه إله رحوم، يعرف ما هو لبنيانه وبنيان الشعب، فلا يبالغ في التأديب. إنه أب حكيم وقدير ومحبّ! أما إذا سقط تحت يد إنسانٍ، ففي تشامخٍ لا يهدف هذا الإنسان إلى إصلاحه، ولا يطلب ما هو لبنيانه وبنيان الشعب.

أما في يوم الرب العظيم فوقوع الإنسان المعاند الذي صمَّم على عدم التوبة حتى آخر نسمة في حياته في يد الرب أمر رهيب للغاية (عب 10: 30)، عندئذٍ يُحسَب الوقوع في يدي البشر كلا شيءٍ.

v يقول: "مخيف هو الوقوع في يديّ الله الحي" (عب 10: 31) مكتوب: "لي الانتقام أنا أجازي يقول الرب" (عب 10: 30)... قيل: "لنقع في يديّ الرب لا في أيدي الناس" (سي 2: 18؛ 2 صم 24: 14). لكن إن لم تتب، تقع في يديّ الله المخوف، ويُحسَب الوقوع في أيدي الناس كلا شيءٍ. إنه يقصد: عندما ترى إنسانًا يُعاقَب هنا، لا نرتعب للأمور الحاضرة، إنما نرتعب للأمور المُقبِلة." قدر رحمته أيضًا غضبه" و"سخطه يحلّ على الخاطئين" (سي 5: 6)[58].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v بالنسبة للذين دخلوا حديثًا في طريق التقوى، التدريب الرئيسي لنفعهم بالأكثر هو "المخافة"، وذلك حسب مشورة سليمان أحكم مِنْ في البشر: "رأس الحكمة مخافة الرب" (أم 1: 7). أما بالنسبة لكم يا من عبرتم طفولتكم في المسيح، ولستم بعد تطلبون اللبن، بل أنتم قادرون على أن تصيروا كاملين في الإنسان الداخلي بطعام التعليم القوي (عب 5: 13-14)، أي أنكم محتاجون إلى الوصايا العالية التي بها يتحقَّق كل الحق الخاص بالمحبة في المسيح.

ولكن يلزمكم أن تكونوا حرصين تمامًا لئلا بفيض عطايا الله تقعون تحت حكمٍ قاسٍ، إن كنتم جاحدين المعطي (الله)، إذ يقول: "كل من أُعطي كثيرًا يُطلَب منه كثير" (لو 12: 45)[59].

v أجل، إن الرب صالح، ولكنه عادل أيضًا، ومن خصائص العادل أن يجازي بحسب الاستحقاق... إن الرب رحوم، ولكنه منصف أيضًا، فقد قيل: "الرب يحب الرحمة والعدل" (مز 100: 1)[60].

v إنه رحوم، لكنه هو ديَّان أيضًا، لأن الرب "يحب الرحمة والحكم" كما يقول المرتل...

أنتم ترون كيف بفطنة يهب الرحمة؛ لكنه ليس رحومًا دون عدل، ولا هو عادل دون الرحمة، لأن الرب رحوم وعادل (مز 115: 5)[61].

v تذمَّر الشعب لأنه لم يوجد ماء. مُجَرَّد أن قال موسى لشعبه: "أَمِن هذه الصخرة نُخرِج لكم ماء؟" (عد 20: 10) هكذا تردد (موسى) إلى حدٍ ما، ولكن من أجل هذا وحده، للحال استلم التهديد أنه لا يدخل أرض الموعد، التي كانت في ذلك الوقت رأس كل الوعود المُعطاة لليهود. عندما أرى هذا الإنسان يسأل ولا ينال صفحًا، عندما أراه لا يتأهَّل لنوال المغفرة من أجل هذه الكلمات القليلة بجانب أعمال برِّ كثيرة هكذا، بالحق أُدرك صرامة الله في كلمات الرسول (رو 11: 22). أُدرك تمامًا هذه الكلمات حقيقية: "إن كان البار بالجَهد يخلُص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران" (1 بط 4: 18)[62].

القديس باسيليوس الكبير

أبرز الكتاب المقدس الغضب الذي يُهَدِّد به الله البشرية لا لكي نعيش في رعبٍ، وإنما كأبناء لله ندرك البركات التي نتمتَّع بها بالرجوع إليه.

v حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المُنَّزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي تُرتكَب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها، ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.

فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ[63].

القديس يوحنا كاسيان

v تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبَّه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات "غضب الله وثورته" لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة عند الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم.

لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونُصَحِّح أخطاءهم نظهر أمامهم بصورةٍ مخيفةٍ ووجهٍ صارمٍ وحازمٍ لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب.

إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكلٍ دائمٍ، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردهم إلى الأسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يُقَال إن الله يغضب، فإن المقصود بهذا الغضب هو لتوبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، لكنك أنت الذي ستتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسميه غضب الله![64]

العلامة أوريجينوس

v "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا" (أف 2: 3). ويقول إرميا عن هذا الغضب: "ملعون اليوم الذي وُلدت فيه" (إر 20: 14). وعن هذا الغضب يقول أيوب الطوباوي: "ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه" (أي 3: 3). عن هذا الغضب يقول أيوب نفسه مرة أخرى: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبًا. يخرج كالزهر ثم ينحسم..." (راجع أي 14: 1-5).

القديس أغسطينوس

تداريب عملية

يُقَدِّم لنا ابن سيراخ التداريب التالية أثناء الضيق:

1. أن نعّد أنفسنا للتجارب طالبين من الله أن يسمر خوفه فينا [1]، ونؤمن بالمخلص السماوي أنه أكثر لطفًا وحبًا من والدينا، وهو القدير والحكيم.

2. مقاومة القلق من الشدة بالصراخ لله [2].

3. نركز أنظارنا على الله لا على التجربة [3].

4. نتطلَّع إلى الحياة الزمنية أنها دائمة التغيُّر [4].

5. التطلع إلى معاملات الله مع مؤمنيه عبر التاريخ وفي حياتنا الخاصة [10].

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

من وحي سيراخ 2

لأقع في يديك، لا في يديّ إنسان!

(سي 2: 18)

v تُسَبِّحك نفسي وتشكرك حين تسمح لي ببوتقة التجارب!

تدخل بي إلى نيران الضيق،

لكن بحبك الفائق تحوِّط حولي.

مع الثلاثة فتية أختبر نيران الأتون، وقد صارت ندى!

بالضيق تفتح بصيرتي، فأرى المجد الذي تعدّه لي!

v نعمتك تسندني، وتملأ أعماقي بالرجاء فيك!

تتحوَّل الضيقات إلى أكاليل مجد أبدي!

وسط الأتون تسمع تشكّرات قلبي الخفية، فتضمّني إلى خورُس السمائيين.

عوض القلق، تتهلل نفسي بك يا مُخَلِّصي!

v ثلاثة عطايا أطلبها منك في ضيقي.

هب لقلبي روح القوة، فلا يخور، ولا يعرِّج بين طريقين!

اجذبني إلى جنبك المطعون، فأحتمي فيك!

هب لي الحكمة السماوية، فأدرك ما وراء الضيق،

ولا يضعف إيماني ولا أفقد الصبر،

فأصير من محبوبيك الذين تُسرّ بهم.

v هب لي مع داود النبي والملك أن أصرخ إليك:

لأقع في يديك، وليس في يديّ إنسان (2 صم 24: 14).

أنت بالحق أبي ومُخَلِّصي وصديقي الفريد.

إن تركني أبي وتركتني أمي، أنت تضمّني إليك!

أنت تخترق قلبي، وتعرف إمكانياته وأسراره.

لن تسمح بالضيق ما لم يكن لبنيان نفسي ولنفع الكثيرين.

أنت كلّي الحكمة،

كل ما تسمح به هو لخلاصي وخلاص إخوتي.

بروحك الناري تُجَدِّد على الدوام طبيعتي،

تسكب بهاءك على أعماقي وسط نيران التجارب.

تُشَكِّل أعماقي، فأصير أيقونة حيّة لك.

تُجمِّلني، فتعتزّ الطغمات السمائية بعملك فيّ.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

[1] On Ps.80 (79).

[2] On Ps 84 (83).

[3] راجع الأنبا مكاريوس، أصحاح 2.

[4] Letter 8 To Julian, 4

[5] Commentary on Matthew 1: 4: 4.

[6] تفسير إنجيل لوقا، عظة 105 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد، 1998، ص 68-69.

[7] Comm. On Luke.

[8] Homilies on Ezekiel 1:12:24.

[9] Homilies on Matt. 10:8

[10] On 2 Timothy, Homily 1.

[11] Homilies on 2 Timothy, hom. 1.

[13] Ep. 25:4.

[14] الرسالة الثانية والثلاثون

[15] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 2.

[16] Spiritual Instructions 3:138.

[17] من تعاليم القديس إسطفانوس الطيبي على الحياة الرهبانية.

[18] The Holy Spirit 15:35.

[19] Homilies on Ephesians, 19.

[20] جزء 3، ص 500.

[21] Concerning The Statues, Homily 18 : 7

[22] Concerning The Statues, Homily 1: 23.

[23] Expositions of Psalms 63:2.

[24] الرسالة الأربعون.

[25] Morals, Rule, 8:2.

[26] Homily 11:2 on Psalm 7.

[27] عظة على المزمور 30.

[28] Regulae brevius tractatae, 13.

[29] راجع الأنبا مكاريوس، أصحاح 2.

[31] On Ps. 11.

[32] In Hebr. hom 10: 5.

[33] Hom. on Romans, homily 9.

[34] In Rom. hom 14.

[35] Stromata, 4:22.

[36] Regulae brevius tractatae, 296.

[37] Regulae brevius tractatae, 297.

[38] الصلاة الربانية طبعة 68 ص 9.

[39] In 2 Tim. hom 6.

[40] On Hebrews, Homily 19: 3

[41] On Exod, Hom.8: 4

[42] Tractates on the Gospel of John 7:7.

[43] Expositions on Psalms 77:10.

[44] Ser. On N.T. 12: 15.

[45] On Patience 7.

[46] Sermon 359.

[47] The Shepherd of Hermas, Seventh Mandate 1-4.

[48] Hom. 30, PL 76: 1220. Forty Gospel Homilies,

[49] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 19.

[50] عظة 6: 160.

[51] Morals, Rule, 3:2.

[52] Morals, Rule, 4:1.

[53] تفسير المزمور 34 (33).

[54] Regulae brevius tractatae, 211.

[55] Reg. Brev., 195.

[56] الميمر 65 على الكبرياء (راجع نص بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سوني). الميمر الربع، على العظمة، لأجل يوم الأربعاء من الجمعة الثانية من الصوم المقدس، قبطي.

[57] Sermons on N.T. Lessons, 81 :3.

[58] On Hebrews, Homily 20:4

[59] Reg. Fus. 2.

[60] حفظ الوصايا والتعليم: 4 ترجمة يوسف شماس المخلصي.

[61] The Long Rules.

[62] Preface on the Judgment of God.

[63] Cassian: De institutis caenoboum, 8:2-4.

[64] Homilies on Jer., 18.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/26-Sefr-Yashoue-Ebn-Sirakh/Tafseer-Sefr-Yasho3-Ibn-Sira5__01-Chapter-02.html

تقصير الرابط:
tak.la/xkr4t2w