← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36 - 37
الأصحاح السادس
بعد أن تحدَّث في الأصحاح الخامس عن الجوانب السلبية التي تُفسِد القلب وعن ضبط النفس حتى لا يخطئ الإنسان في الأمور الكبيرة والصغيرة، تحدث هنا عن الصديق الأمين والصداقة الإلهية.
لا نجد في أسفار الكتاب المقدس من تعرَّض للصداقة أكثر مما ورد في سفر ابن سيراخ. اعتبر البعض أن السفر في مجمله هو حديث عن الصداقة مع الله والناس. تحدث مباشرة عنها في (سي 6: 1-17؛ 9: 10-16؛ 19: 13-17؛ 22: 19-26؛ 27: 16-21؛ 37: 1-6).
قدَّم لنا مجموعات من النصائح العملية لتدعيم الصداقة، كما أَكَّد على الحاجة إلى قيام صداقة مع الله. هذا وقيام الصداقة الأصيلة تتناغم مع الحكمة الإلهية التي لا تعزل المؤمن عن إخوته، بل تهبه اتِّساع القلب إن أمكن لكل البشر، الذين رقدوا والأحياء والأجيال القادمة، هذه الصداقة لا تقوم على مُجرَّد ارتباط جسدي بل على الحب والصلاة والعمل لأجل بنيان البشرية وتمُّتعها بالحياة المقدسة في الربّ. يليق أن يوجد حب حقيقي مُشترَك بين الصديقين مع ثقة متبادلة وعلاقة شخصية.
[1- 4] |
||||
[5- 13] |
||||
[14- 17] |
||||
[18- 37] |
||||
* من وحي سيراخ 6: أَشرِق بنور حُبِّك عليّ، فألتصق بك يا صديق البشرية |
1 وَلاَ تَصِرْ عَدُوًّا بَعْدَ أَنْ كُنْتَ صَدِيقًا، فَإِن الْقَبِيحَ السُّمْعَةِ يَرِثُ الْخِزْيَ وَالْعَارَ، وَكَذلِكَ الْخَاطِئُ ذُو اللِّسَانَيْنِ. 2 لاَ تَكُنْ كَثَوْرٍ، مُسْتَكْبِرًا بِأَفْكَارِ قَلْبِكَ، لِئَلاَّ تُسْلَبَ نَفْسُكَ، 3 فَتَأْكُلَ أَوْرَاقَكَ، وَتُتْلِفَ أَثْمَارَكَ، وَتَتْرُكَ نَفْسَكَ كَالْخَشَبِ الْيَابِسِ. 4 النَّفْسُ الشِّرِّيرَةُ تُهْلِكُ صَاحِبَهَا، وَتَجْعَلُهُ شَمَاتَةً لأَعْدَائِهِ.
يتطلع ابن سيراخ إلى محبة الله لخليقته، فقد وهب غالبًا كل كائن حيّ أن يحب ما يُشابِهه بالغريزة الطبيعية (سي 13: 14-15). أما بالنسبة للبشر فوهبهم إمكانية إقامة الصداقة بينهم بكامل حريتهم خلال عطايا الله لهم من عقل وعاطفة وغرائز الحب. لكن إذ انحدر الإنسان بسقوطه في الخطية، صار يُعانِي من العوز إلى صداقة أمينة صادقة، يصعب أن يجدها كما يشتهيها في أقرب من له. فالطفل يشتكي: "ليس من يشعر بي ويفهمني. والديّ لا يفهماني".
ففي ظل الناموس الطبيعي، شعر أيوب بالحرمان من الصداقة الأمينة التي تسنده في ضيقه. أبناؤه ماتوا وتركوه بلا عونٍ، وزوجته عوض مساندته قالت له: "العن (بارك) الربّ ومُتْ" (أي 2: 9)، وأصدقاؤه جاءوا ليُعَزُّوه، فكالوا له اتهامات جارحة. صرخ أيوب: "معزون متعبون كلكم" (أي 16: 2).
وفي ظل الناموس الموسوي صرخ المرتل: "أنا قلت في حيرتي كل إنسانٍ كاذب" (مز 116: 11). تجاهل يسى ابنه الصبي داود، فلم يُقَدِّمه لصموئيل النبي حين طلب منه استدعاء أبنائه (1 صم 16: 11)، وتجاهل شاول الملك كل جهده لإنقاذه هو وجيشه وشعبه من العدو وردّ له الخير بالشر وكرَّس طاقاته وإمكانياته لقتله (1 صم 19: 1). تمرَّد أبشالوم على داود أبيه وأراد قتله (2 صم 16: 11). لقد اشتكى النبي، قائلًا: "أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني" (مز 27: 10).
وفي العهد الجديد، أدرك لوقا الإنجيلي حاجة كل البشرية إلى صديقٍ مُخلصٍ، فقدَّم السيد المسيح كصديقٍ للبشرية كلها، لذا كثيرًا ما دعاه "ابن الإنسان". أعلن الإنجيلي عن هذا الصديق الذي في صداقته للبشرية لم يخصّ شعبًا مُعيَّنًا بل هو مُحبّ البشر، "يطلب ما قد هلك" (19: 10). وفي أمثلة السيد المسيح ذكر الخروف الضال والدرهم المفقود والابن الضال دون تحديد جنسية مُعَيَّنة أو شعب معين. لم يستنكف هذا الصديق من اللقاء مع المرأة الخاطئة (لو 7: 26-35) وزكا العشار (19: 1-10) واللص المصلوب (23: 40-43). اهتم أيضًا باللقاء مع الأطفال والنساء والمعوزين، ولم يستنكف من لمس الإنسان الأبرص. تقدَّم إلينا كصديقٍ، ليشبع عاطفة الحب، فنقبل صداقته ونُصادِقه. تقدَّم إلينا كصديقٍ إلهيٍ، خلاله نُصادِق الناس ونَقْبَل صداقتهم. وكصديقٍ مثاليٍ فيه نفهم الصداقة ونتذوَّقها ونُمارِسها.
v تصوَّر دائرة تخرج من مركزها أشعة أو خطوط. فبقدر ما تبتعد الخطوط عن المركز تفترق عن بعضها البعض... وبالعكس كلما اقتربت من المركز تقاربت نحو بعضها البعض.
افترض أن هذه الدائرة في العالم، ومركز الدائرة هو الله. والخطوط من المحيط إلى المركز هي طريق حياة البشر، فإننا نجد نفس الأمر، فبقدر ما يتحرَّك القديسون في داخل الدائرة تجاه المركز راغبين في الاقتراب من الله، يقترب الواحد نحو الآخرين[1].
القديس دوروثيؤس
v لا يوجد حب حقيقي به نُحبّ الآخرين ما لم نُحِبّ الله. كل إنسانٍ يحب قريبه كنفسه، إن كان محبًا لله، لكنه إن لم يحب الله فلا يحب نفسه[2].
v لنُدَرِّب أنفسنا على محبة الإخوة... فإن أَحببت أخاك ستُعايِن الله، لأن بمحبتك لأخيك تعاين المحبة ذاتها التي فيها يسكن الله[3].
يشتاق الإنسان أن يجد الصديق الأمين، وأن يكون هو نفسه صديقًا مُخلِصًا إن أمكن للجميع. فما سمات الصديق الأمين الذي نطمئن إليه، وما يليق بنا أن نتَّسِم به لنكون أصدقاء أمناء؟
أ.
الثبات في الصداقة
ب. غير متشامخ
ج. أشبه بشجرة مورقة على الدوام ومثمرة
د. مقدس
ه. لسانه حلو
و. اجتاز امتحان الصداقة
ز. لا تقوم الصداقة على منفعة خاصة
ح. لا تقوم الصداقة على المجاملات والحفلات
ط. لا تتعدَّى الصداقة الحدود اللائقة
ي. الحذر من الأصدقاء
لا تتحوَّل من صديقٍ إلى عدوٍ،
فإن السمعة السيئة تجلب الخزي والعار،
كذا هو الخاطئ ذو اللسانين [1].
يدعو ابن سيراخ المؤمن ألاَّ يتحوَّل يومًا من صديق philo إلى عدو، ولا يَقْبَل من يفعل هذا مع أحدٍ كصديقٍ له. اِلتحام المجتمع يقوم على الصداقة المُخلِصة، وهي ضرورية سواء على أساس شخصي أو ثقة جماعية. يرى البعض أن كلمة عدو هنا في الأصل معناها متغطرس فلا يثق فيه أحد، عاجز عن التعامل مع الغير بروح الصداقة، معتاد على اغتياب الغير، يتجنَّب الحنو، ويسرع إلى المشاجرة. هذه السمات تنطبق على من يدعوه الكتاب المقدس بالأحمق. من يثبت في الله صديق البشرية، يثبت في الصداقة والحب إن أمكن لكل البشر، دون أن يتزعزع في محبته، فلا يكون أحمق.
يليق بنا ألا ندخل في صداقة مع إنسان متشامخ ولا نكون نحن متشامخين.
لا ترفع من شأنك بمشورة نفسك،
لئلا تمزَّق نفسك إلى أجزاءٍ كما بواسطة ثورٍ [2].
الإنسان في حماقته يتعالَى على الغير، حاسبًا نفسه أسمى من كل من يلتقي به، بينما الصديق الأصيل يشتهي أن يكون صديقه أفضل منه وأكثر منه نجاحًا وفرحًا وسعادة.
في المجتمعات القديمة الزراعية، كانت الأسوار قليلة، وكانت الثيران الصغيرة تترك مرعاها لطلب الطعام والحشائش، فتتعرَّض لها الثيران الضخمة القوية، قد تهاجمها وتُمَزِّقها. لذا يليق بالمؤمن أن يحتمي في سورٍ حصينٍ، فلا يظن أنه هو المرشد لحياته الروحية، فلا يطلب مشورة أب روحي يسنده في الرب ويحفظه من ضربات العدو.
فتلتهم أوراقك، وتتلف ثمارك،
وتترك نفسك كشجرةٍ يابسة [3].
يليق بالصديق أن يكون مغروسًا على مجاري مياه الروح القدس (مز 1)، يُمارِس حياة الاتكال الدائم على الله بفرحٍ، ويكون الله بالنسبة له هو كل شيء.
لنهرب من الشرّ، حتى لا تهلك نفسونا الشريرة ويهلك أصدقاؤنا. كما دعانا الكتاب المقدس أن نسلك في القداسة ونلتصق بأصدقاء قديسين، في نفس الوقت يُحَذِّرنا من الارتباط بأصدقاء أشرار. هذا وقد أفاض الآباء في الحديث عن الصداقة مع الأشرار بسبب خطورتها، أقتطف القليل منها، وقد سبق معالجة موضوع الصداقة بشيءٍ من التوسُّع[4].
v المجالسة مع الذين ليسوا حكماء تُفَتِّت القلب، ومحادثة الفضلاء ينبوع عذب.
v لا تتنازل مع المسترخين، وإلا صيَّرت نفسك في الدرجة السفلى، بل لتكن مناجاتك مع مُحِبّي الخير، ليكون سكناك معهم في الأعالي. لذلك ليكن مقامك بشجاعة في المواضع التي فيها المعرفة العليا. اذهب إلى بلدة النور ولا تتنازل مع الخطاة.
v لا تضلوا، فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 10: 33)... أنت تحتقر الذهب، يوجد آخر يحب الذهب.
أنت ترفض الغِنَى، هو يطلب الغنى بشغفٍ.
أنت تحب الصمت والضعف والحياة الخاصة، أما هو فيجد سعادته في الأحاديث الباطلة بلا تريث في الميدان العام والشوارع ومتاجر المخدرات...
لا تبقَ معه تحت سقفٍ واحدٍ. لا تعتمد على عفتك السابقة. فإنك لا تقدر أن تكون أكثر قداسة من داود أو أحكم من سليمان...
إن كان دورك في العمل الكهنوتي هو أن تفتقد أرملة أو عذراء لا تدخل البيت وحدك. ليصحبك أشخاص لا يسيئون إليك...
لا تجلس بمفردك مع سيدة سرًا بدون شهود. إن كان لديها أمر سري تريد أن تبوح به، يجب أن يكون معها مربية أو عذراء أو أرملة، أو سيدة متزوجة. لا تقدر أن تفيض بأسرارها لك بدون وجود صديقة لها[5].
v ألا ترى أن "المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة؟" بها لا تقدر أن تنطق بالإنجيل، وإنما تسمع كلمات الأوثان. بها تفقد الحق أن المسيح هو الله، وما تشربه هناك تتقيأه في الكنيسة[6].
v شاب يصاحب شابًا للشرّ، فليبكِ عليهما المفرزون.
v أيها المحب لله، حين ترى المنافقين يتراشقون بألفاظ الغش والتدليس اهرب من هناك، لئلا يتعلَّق بأذنيك ألفاظهم القاتلة.
v هذه هي وقود الشيطان الذي يصارعنا، والتي توقد النار التي تحرقنا: الحديث الفاسد مع العلمانيين... وأم الشرور إنما هي الحنجرة ومعاشرة الإخوة البطالين. فإن تعرَّت نفوسنا من هذه الوقود المحرقة لا تقع في مصائد مصارعنا، وبسرعة تقدر أن تطير إلى الله، وبه تتخلَّص من مكائد إبليس.
صداقة رفقاء الكسل واللهو تملأك شراهة وشرًا.
آه ما هذه المحبة النجسة والفعل الطامث؟! اهرب من الذين اعتادوا على هذا يا أخي. لا تأكل معهم ولا تُصَادِقهم. نجسة هي مائدتهم، والشياطين يكونون مساعدين لتهيئتها، محبو الختن المسيح لا يذوقونها.
وليمة الإنسان الشره الملهي بالأطايب... تدنس نفس الوديع، وكسرة خبز يابسة من مائدة طاهر النفس، تجليها من كل الأوجاع والأدناس.
رائحة مائدة الشر تفسد نية الأطهار، والطفل ينجذب إليها مثل الكلب إلى بيت الجزار. والمواظب كل حين على الصلاة، مائدته تفوق رائحة المسك، ومن هو محب لله يشتاق كمثل الكنز.
v إذا اتخذت لك صديقًا أمينًا وقَبِلَكَ إليه، فإن كنت ضعيفًا فهو يشدِّدك ويجعلك شجاعًا. ويجعلك عمَّالًا مجاهدًا، ويصير لك سياجًا متينًا وسندًا قويًا يعينك، ويكون لك كشجرة مظلِّلة تستريح عنده من جميع أتعابك. ويكون لك قوة وثباتًا وعزاءً في ضيقك، وتجده في شدائدك يحمل جميع أتعابك. وإذا ألقيت عليه أتعابك كلها يرفعها عنك.
v إذا عجزت عن أن تكون غنيًا بالله، فالتصق بمن هو غني به، لتسعد بسعادته، وتتعلَّم كيف تمشي حسب أوامر الإنجيل.
v إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة وانتابك ضرر بسبب مخالطتك إياه، أسرع واقطع نفسك منه. لست أقول لك هكذا أيها الحبيب لتبغض الناس، كلا، وإنما لتقطع أسباب الرذيلة.
v اسمع ما يقوله الرب: "فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تُلقَى في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان. وأن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تُلقَى في جهنم النار ولك عينان" (مت 18: 8، 9). إنه لم يقل ذلك عن الأعضاء، بل عن الإخوة، ومن أجل الأقرباء الذين لهم عندنا منزلة الأعضاء الضرورية... فيقول إنه ليس شيء أضرّ من الاجتماع الرديء والمؤانسة الخبيثة، لأن الصداقة مرارًا كثيرة تضر أو تفيد... فيأمرنا بصراحة شديدة أن نقطع الذين يضروننا...
إنه لم يقتصر على إعطائه الويل لمن تأتي منه الشكوك، بل أظهر لنا الطريق التي يخلص بها الإنسان من الشكوك. ما هو هذا الطريق؟ قال اقطع صداقة الأشرار... فلا تربحهم وتُهلك معهم نفسك.
v إذا كانت المعاشرات الرديئة تُفسِد الأخلاق الجيدة كما يقول الرسول، فينبغي علينا أن نهرب دائمًا من معاشرة الأشرار والمستهزئين وأمثالهم. لأن الاختلاط بهم، وسماع حديثهم يجذب سليمي القلوب إلى التخلق بأخلاقهم.
النفس الشريرة تُهلِك صاحبها،
وتجعله موضع سخرية خبيثة لدى أعدائه [4].
مسيحنا القدوس يطلب في صلاته الوداعية: "لأجلهم أُقَدِّس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضًا مُقَدَّسين في الحق" (يو 17: 19). يليق بالمؤمن لا أن يتقدَّس بالربّ فحسب، بل ويطلب من أجل كل البشرية كأصدقاء له أن يتقدَّسوا في الحق، فينعم بالصداقة معهم حتى في السماء إلى الأبد.
ففي كل صباحٍ يُرَنِّم: "ضع يا ربّ حارسًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي" (مز 141). خلال هذه الحراسة الإلهية يصير لسانه عذبًا يجذب الكثيرين للصداقة البناءة. إن كان لنا أصدقاء قديسون يبلغون الألف، لكن ليس من صديقٍ يحتل كل القلب والفكر والمشاعر، يقود أعماقنا وكلماتنا وسلوكنا، سوى الصديق الواحد، ربّ المجد يسوع.
5 الْفَمُ الْعَذْبُ يُكَثِّرُ الأَصْدِقَاءَ، وَاللِّسَانُ اللَّطِيفُ يُكَثِّرُ الْمُؤَانَسَاتِ. 6 لِيَكُنِ الْمُسَالِمُونَ لَكَ كَثِيرِينَ، وَأَصْحَابُ سِرِّكَ مِنَ الأَلفِ وَاحِدًا. 7 إِذَا اتَّخَذْتَ صَدِيقًا؛ فَاتَّخِذُهُ عَنْ خِبْرَةٍ، وَلاَ تَثِقْ بِهِ سَرِيعًا. 8 فَإِنَّ لَكَ صَدِيقًا فِي يَوْمِهِ، وَلكِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي يَوْمِ ضِيقِكَ. 9 وَصَدِيقًا يَصِيرُ عَدُوًّا، فَيَكْشِفُ عَارَ مُخَاصَمَتِكَ. 10 وَصَدِيقًا يَشْتَرِكُ فِي مَائِدَتِكَ، وَلكِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي يَوْمِ ضِيقِكَ. 11 يَكُونُ نَظِيرَكَ فِي أَمْوَالِكَ، وَيَتَّخِذُ دَالَّةً بَيْنَ أَهْلِ بَيْتِكَ، 12 لكِنَّهُ، إِذَا انْحَطَطْتَ، يَكُونُ ضِدَّكَ، وَيَتَوَارَى عَنْ وَجْهِكَ. 13 تَبَاعَدْ عَنْ أَعْدَائِكَ، وَاحْذَرْ مِنْ أَصْدِقَائِكَ.
الحديث العذب يُكثِر أصدقاءه،
واللسان اللطيف يُكثِر التحيات الطيبة [5].
الصديق الحقيقي على عكس الأحمق، حديثه عذب، يمكن بسهولة الاقتراب إليه، كما يسهل اقترابه هو إلى الغير. الحديث العذب المملوء حبًا ورقة هو ذخر لتكوين صداقات ناجحة. وعلى العكس الأحاديث السلبية كالمزاح غير المُهذَّب والسخرية والكلمات القاسية تُحَطِّم الصداقة وتُحَوِّلها إلى عداوة. من هم الأصدقاء الذي اجتذبهم صوت المصلوب الحلو سوى المؤمنين من كل الأمم. ومن هم الوقورون سوى الطغمات السمائية التي تتهلل بخلاصنا. الكلمة الطيبة تُهَيِّئ الطريق للصداقة [6: 5]، أما الحديث الفظ فيُفسِد الصداقة (أم 16: 21؛ 22: 11).
يليق بالإنسان أن يفحص أصالة الصداقة (مت 7: 16)، بتقييم سلوك الصديق وقت الشدة. واضح أن ابن سيراخ عانى من أصدقائه السابقين، وأنقذه الله نفسه (51: 2-3).
ليكن المُسالِمون لك كثيرين،
والمشيرون لك من الألف واحدًا [6].
الصداقة المثالية الفائقة هي التي أعلن عنها السيد المسيح عن نفسه، فمات بالجسد ليهبهم الشركة معه في حياته وأمجاده. هكذا فتح مسيحنا باب الصداقة للبشرية خلال الصليب؛ والعجيب أن الذين صلبوه بنو البشر، سمعوه يقول: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34).
v لا تتخذ لك أصدقاء كثيرين، فتمكث في راحة جميع أيام حياتك.. لأنه مكتوب: إذا كثرت أشغالك فلن تنجو من الخطية. "ليكن مشيرك واحدًا من الألف" (راجع سي 6:6)، وأيضًا: "الصديق الأمين دواء الحياة" (سي 16:6)، كذلك: "الصديق الأمين صلاحه لا موازن له. الصديق الأمين لا يُعادِله شيء" (راجع سي 15:6).
إذا اتَّخذت صديقًا فاتّخذه بعد الامتحان،
ولا تثق به سريعًا [7].
عادة يأخذ الإنسان حذَّره من تصرُّفات العدو، غير أنه يجب أن يحذر من تصرفات الصديق غير المتوقَّعة منه. يقول الإنجيلي يوحنا: "لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه، لأنه كان يعرف الجميع، ولأنه لم يكن محتاجًا أن يشهد أحد عن الإنسان، لأنه علم ما كان في الإنسان (يو 2: 24-25).
فيوجد الصديق من أجل نفعه الخاص،
لكنه لا يبقى بجوارك في يوم شدَّتِك [8].
يُحَذِّرنا ابن سيراخ من الصداقة لأجل نفعٍ شخصي، عِوَض الانفتاح على الآخرين خاصة في أوقات الضيق. توجد صداقات حتى بين الخطاة والمُجرِمين لأجل منفعة شريرة مُشترَكة.
ويوجد صديق قد ينقلب إلى عدوٍ،
فيُعلِن الحرب على سيّئاتك [9].
الصداقة غير المُخلِصة، لسبب أو آخر تنقلب إلى عداوة، مع استغلال ضعفات الأصدقاء للتشهير بهم. يُعَبِّر ابن سيراخ عما يجول في خاطر الكثيرين عبر كل العصور، وهو المخاوف من الصداقات المؤقتة، خاصة تلك التي تنقلب إلى عداوة! لذلك سجَّل لنا الجوانب السلبية كما الإيجابية لننعم بالصداقات الحقيقية مع كلمة الله المتجسد، ومع إخوتنا في البشرية.
ويوجد صديق يُجالِسك إلى المائدة،
ولكنه لا يقف بجوارك في يوم شدَّتِك [10].
من الصداقات التي بلا جذور حقيقية، تلك التي تقوم على المجاملات والحفلات دون المساندة وقت الضيق، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. المجاملات والحفلات خاصة المُبالَغ فيها، تُحرِج الأصدقاء العاجزين عن مجاراة هذه التصرفات بسبب المبالغة في تكاليفها. للصداقة مستويات كثيرة، يوجد صداقات على مستوى موسمي، مثل صديق الدراسة، متى تخرَّج الشخص في جامعته تختفي صداقته مع زملائه في الدراسة. وتوجد صداقات بين الأطفال قد تستمر مدى الحياة، حتى وإن وجدت مسافات طويلة بين إقامة الأصدقاء. كما توجد صداقات تنقطع لظروفٍ لاإرادية، لكن يبقى الإنسان أمينًا لصديقه حتى لو لم يعد يراه، بل وحتى بعد الموت، كصداقة داود ويوناثان بن شاول (1 صم 20: 13-15)؛ بقي داود أمينًا في وعده لصديقه حتى بعد موت صديقه.
v ألا تعرف من هو الصديق غير المُخلِص الذي يجلس إلى المائدة؟ إنه يهوذا نفسه الذي خان السيد بقبلةٍ، صار مُرائِيًا بقبلته الخائنة، وصار مثالًا للشعب الذي قيل عنه: "هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني" (راجع إش 29: 13)[7].
v كيف يختلف الصديق عن المُتملِّق؟ المتملِّق يتحدَّث ليُعطي لذَّة، أما الصديق فلا يحجم عن شيءٍ حتى ولو كان فيه ألم.
v ليس شيء يثبت الحب بقوة مثل المشاركة في الفرح والألم. ليس لأنك بعيد عن المتاعب تنعزل عن مشاركة الآخرين أيضًا. فعندما يتعب قريبك احسب الضيق خاصًا بك. شاركه دموعه لكي تسند روحه المنسحقة، وشاركه فرحه ليصير الفرح فيه عميقًا متأصلًا.
ثبّت المحبة، بهذا تخدم نفسك أكثر من خدمتك له. فبدموعك تصير رحومًا، وبمشاعر البهجة تنقي نفسك من الحسد والغم... إن كنت لا تستطيع أن تنزع عنه الشرور شاركه بدموعك، فتزيل عنه نصف الشر؛ وإن كنت لا تستطيع أن تزيد خيراته، فشاركه فرحه فتضيف إليه أمرًا عظيمًا[8].
يرفض الصداقات دون الالتزام بالحدود اللائقة. كأن يتعامل الشخص مع أسرة الصديق وخدامه بجسارة زائدة معتمدًا على ثقة صديقه فيه.
في نجاحك يكون كأنّه مثلك،
ويخاطب خدامك بجسارة [11].
لكن إذا انحططت ينقلب عليك،
ويتوارى عن وجهك [12].
الصديق الأمين يبقى مُخلِصًا في أيام يُسرّه كما في أيام الشدة.
فمع اتساع القلب بالحب للأصدقاء والثقة فيهم، يُحَذِّرنا ابن سيراخ فلا نسمح لأنفسنا أن نكسر وصية إلهية أو نتجاهلها من أجل صداقتنا مع أحدٍ.
تباعد عن أعدائك،
واحذر من أصدقائك [13].
14 الصَّدِيقُ الأَمِينُ مَعْقِلٌ حَصِينٌ، وَمَنْ وَجَدَهُ فَقَدْ وَجَدَ كَنْزًا. 15 الصَّدِيقُ الأَمِينُ لاَ يُعَادِلُهُ شَيْءٌ، وَصَلاَحُهُ لاَ مُوَازِنَ لَهُ. 16 الصَّدِيقُ الأَمِينُ دَوَاءُ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ يَتَّقُونَ الرَّبَّ يَجِدُونَهُ. 17 مَنْ يَتَّقِ الرَّبَّ يَحْصُلْ عَلَى صَدَاقَةٍ صَالِحَةٍ، لأَنَّ صَدِيقَهُ يَكُونُ نَظِيرَهُ.
بعد أن تحدَّث عن الجوانب السلبية للصداقة غير المُخلِصة (6: 8-13)، تحدَّث عن الصديق المُخْلِص (6: 14-17) الذي هو كنز لا يُقَدَّر بثمنٍ. يتحدَّث هنا عن الصداقة الفريدة مع السماوي!
يجد المؤمن في المسيح يسوع صديقًا فريدًا، متى اتحد به بعمل الروح القدس يتمتَّع بشركة الطبيعة الإلهية (2 بط 1: 4). بهذا ينعم بعمل سماته فيه فيتأهَّل أن يقيم صداقة مع الكثيرين.
الصديق الفريد الأمين:
أ ملجأ حصين [14]: نتحدَّى قوى إبليس الذي يسحقه الربّ تحت أقدامنا. هكذا يرى أصدقاؤنا فينا أناس الله المحفوظين فيه، نطلب عنهم كي يذوقوا فينا عمل المُخَلِّص المُنقِذ من الشرّ.
ب. كنز ثمين [14]: من يقتنيه لا يشعر باحتياجٍ وعوزٍ. لأن مسيحنا هو كنزنا. وبالمسيح يسوع نُقَدِّم ما للمسيح لهم، فيشبعون ويرتوون لا منا، بل من العامل فينا وفيهم!
ج. لا يُعادِله شيء [15]: بالمسيح يُحَوِّل الربّ قلوبنا إلى سماءٍ جديدةٍ، ويُعلِن ملكوته فينا كوعده الصادق (لو 17: 21). بصداقتنا مع أحبائنا، نتمتَّع بوعده "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم" (مت 18: 20).
د. دواء الحياة: فهو طبيب النفوس والأجساد، يُقَدِّم لنا جسده ودمه نتناولهما، فننعم بالحياة الأبدية (يو 6: 52). بكونه رأس الكنيسة، نشارك إخوتنا المرضى روحيًا، سائلين الربّ أن يُعلِن نفسه لهم طبيبًا ودواءً لنفوسهم.
ه. لن نتمتَّع بهذا الصديق السماوي ما لم نسلك بمخافة الربّ [17].
الصديق الأمين ملجأ حصين،
ومن وجد واحدًا وجد كنزًا [14].
الصديق الأمين لا يعادله شيء،
وليس من يقدر أن يزن سموَّه [15].
بعد أن كشف ابن سيراخ عن حاجة البشرية إلى صديقٍ مُخْلِصٍ، مُحَذِّرًا إيانا من الصداقات التي بلا جذورٍ أصلية، مُعلِنًا عن عظمة الصداقات الحقيقية، الآن يرفع الستار عن هذه الصداقة ألا وهي الاتحاد مع الحكمة الإلهية، خلال الرغبة الصادقة في التعليم المستمر، الأمر الذي لأجله تجسَّد حكمة الله نفسه لنقتنيه فينا، ونقطن نحن فيه، ونتمجَّد معه إلى الأبد.
v ليس في هذا العالم من هو أثمن من الصديق المُخْلِص، وليس من ميزان يقدر أن يزن سموه.
الصديق الأمين ملجأ راسخ، وقصر حصين.
الصديق الأمين كنز الحياة.
الصديق الأمين أفضل من الذهب، وأثمن من الحجر الكريم.
الصديق الأمين جنة مُغلَقة وينبوع مختوم (نش 4: 12)، يُفتَح ويتمتَّعون به في حينه.
الصديق الأمين ميناء مُنعِش، يفوق كل فهمٍ؛ يا له من نعمة عظيمة![9]
الصديق الأمين دواء الحياة،
والذين يخافون الرب يجدونه [16].
يليق بالمؤمن أن يجد في صديقه مخافة الربّ، فإن هذا هو الضمان للصداقة الحقيقية بينهما، فمن لا يُصادِق الربّ، لا يؤتمن على الصداقة معه.
v "الصديق الأمين دواء الحياة" (سي 6: 16).
لا يوجد علاج مُؤثِّر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يُعَزِّيك في ضيقاتك، ويُدَبِّرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا، فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يُعادِل صلاح أمانته (سي 6: 14، 15).
v بحقٍ ليكن لك صديق تدعوه "نصف نفسي".
v لا توجد صداقة حقيقيّة، ما لم تجعلها كوصلة تلحم النفوس، فتلتصق معًا بالحُبّ المُنسكِب في قلوبنا بالروح القدس.
v لا يوجد علاج مؤثر لشفاء الآلام مثل الصديق الصادق الذي يُعَزِّيك في ضيقاتك.
الذي يخاف الرب يُحسِن توجيه صداقته،
فكما يكون هو يكون قريبه [17].
v يتلامس الإنسان بعقله مع القوة الإلهية غير الموصوفة، وبجسده يقترب من الحيوانات. لكن قليلين من هم حقًا عقلاء ومجاهدون في توجيه أفكارهم نحو الله الفادي والتمتُّع بالقرابة معه، وإظهار هذا في أعمالهم وحياتهم الفاضلة. أما الأغلبية، هؤلاء الذين ينقص أرواحهم الإحساس الصالح، فإنهم يستهينون بالبنوة الإلهية الخالدة، ويميلون نحو القرابة الجسدية البائسة قصيرة الأمد التي تنتهي يومًا ما، مُفَكِّرين فقط فيما هو جسدي، ملتهبين بالشهوة كالحيوانات العُجم، حارمين نفوسهم من الله بأفعالهم، منحدرين بأرواحهم من السماء إلى هاوية الشهوات الجسدية[10].
من يحمل مخافة الرب في قلبه، ويسلك بروح التقوى في حكمة الروح يحصل على صداقة صالحة ليس بين البشر فحسب، بل وحتى مع الطغمات السماوية كالملائكة.
v غنى المعرفة والحكمة يجلب إلينا الكثير من الملائكة، أما الشخص الفاسد فيُعزل حتى من الملاك الذي وُهب له عند ميلاده. الصداقة الروحية هي فضيلة، وخلال معرفة الله ترتبط أنفسنا بصداقة مع القوات المقدسة. هكذا يقال إن البشر الذين يتوبون يُسَبِّبون فرحًا للملائكة (لو 15: 10) إذ يصيرون مُستعدِّين أن ينالوا حكمة أعظم. هكذا أيضًا إبراهيم، الغني في المعرفة، قدَّم مائدة سرية للأصدقاء الذين ظهروا له في منتصف النهار[11].
18 يَا بُنَيَّ، اتَّخِذِ التَّأْدِيبَ مُنْذُ شَبَابِكَ، فَتَجِدَ الْحِكْمَةَ إِلَى مَشِيبِكَ. 19 مِثْلَ الْحَارِثِ وَالزَّارِعِ؛ أَقْبِلْ إِلَيْهَا، وَانْتَظِرْ ثِمَارَهَا الصَّالِحَةَ. 20 فَإِنَّكَ تَتْعَبُ فِي حِرَاثَتِهَا قَلِيلًا، وَتَأْكُلُ مِنْ غَّلاَتِهَا سَرِيعًا. 21 مَا أَصْعَبَهَا عَلَى الْغَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ. إِنْ فَاقِدَ اللُّبِّ لاَ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا، 22 فَإِنَّهَا لَهُ كَحَجَرِ الاِمْتِحَانِ الثَّقِيلِ؛ فَلاَ يَلْبَثُ أَن يَتْرُكَهَا. 23 لأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ كَاسْمِهَا، وَلاَ تَسْتَبِينُ لِكَثِيرِينَ، وَالَّذِينَ يَعْرِفُونَهَا تَثْبُتُ فِيهِمْ إِلَى مُشَاهَدَةِ اللهِ. 24 اِسْمَعْ يَا بُنَيَّ، وَاقْبَلْ رَأْيِي، وَلاَ تَنْبِذْ مَشُورَتِي، 25 وَأَدْخِلْ رِجْلَيْكَ فِي قُيُودِهَا، وَعُنُقَكَ فِي غُلِّهَا. 26 احْنِ عَاتِقَكَ وَاحْمِلْهَا، وَلاَ تَغْتَظْ مِنْ سَلاَسِلِهَا. 27 أَقْبِلْ إِلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسِكَ، وَاحْفَظْ طُرُقَهَا بِكُلِّ قُوَّتِكَ. 28 ابْحَثْ وَاطْلُبْ فَتَتَعَرَّفَ لَكَ، وَإِذَا فُزْتَ بِهَا فَلاَ تُهْمِلْهَا. 29 فَإِنَّكَ فِي أَوَاخِرِكَ تَجِدُ رَاحَتَهَا، وَتَتَحَوَّلُ لَكَ مَسَرَّةً. 30 فَتَكُونُ لَكَ قُيُودُهَا حِمَايَةَ قُوَّةٍ، وَأَغْلاَلُهَا حُلَّةَ مَجْدٍ. 31 لأَنَّ عَلَيْهَا حَلْيًا مِنْ ذَهَبٍ، وَسَلاَسِلَهَا سِلْكُ سَمَنْجُونِيٍّ. 32 فَتَلْبَسُهَا حُلَّةَ مَجْدٍ لَكَ، وَتَعْقِدُهَا إِكْلِيلَ ابْتِهَاجٍ. 33 إِنْ شِئْتَ، يَا بُنَيَّ، فَإِنَّكَ تَتَأَدَّبُ، وَإِنِ اسْتَسْلَمْتَ، تَسْتَفِيدُ دَهَاءً. 34 إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَسْمَعَ؛ فَإِنَّكَ تَعِي، وَإِنْ أَمَلْتَ أُذُنَكَ تَصِيرُ حَكِيمًا. 35 قِفْ فِي جَمَاعَةِ الشُّيُوخِ، وَمَنْ كَانَ حَكِيمًا فَلاَزِمْهُ. ارْغَبْ أَنْ تَسْمَعَ كُلَّ حَدِيثٍ إِلهِيٍّ، وَلاَ تُهْمِلْ أَمْثَالَ التَّعَقُّلِ. 36 وَإِنْ رَأَيْتَ عَاقِلًا؛ فَابْتَكِرْ إِلَيْهِ، وَلْتَطَأْ قَدَمُكَ دَرَجَ بَابِهِ. 37 تَرَوَّأْ فِي أَوَامِرِ الرَّبِّ، وَفِي وَصَايَاهُ تَأَمَّلْ كُلَّ حِينٍ؛ فَهُوَ يُثَبِّتُ قَلْبَكَ، وَيُنِيلُكَ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ.
الطريق للتمتُّع بالصداقة مع الحكمة ذاتها هو:
أ. التعليم المُستمِر من أجل اقتناء الحكمة [18-22].
ب. نيرها حلو [23-25].
ج. البحث عنها [26-28].
1. تقدم لك راحة [28]. 2. حماية قوية [29].
3. مجد بهي [29]. 4. خبرة سماوية [30].
5. علم وحذاقة [32]. 6. معرفة وحكمة [33].
وردت كلمة paideia في سفر الأمثال في الترجمة السبعينية 28 مرة، وغالبًا ما تترجم musar أي "التهذيب" أو "التدريب". وفي هذا السفر وردت 36 مرة، وهي تعني معنى أعمق من "التعلُّم".
أ. يليق بالمؤمن أن يكون مُحِبًا للتعلُّم منذ شبابه [18]. يحتاج التلاميذ إلى طلب الحكمة في شبابهم.
ب. طريق الحكمة ضيق يحتاج إلى جهادٍ وصبر، فالمُجاهِد أشبه بمُزارعٍ يحرث ويزرع وينتظر الحصاد الصالح، فينعم بالثمار المُفرِحة [19]. الحمقى يستصعبون الصبر والجهاد، ويحسبون ذلك ثقيلًا على نفوسهم، والحكيم يحسب هذه المتاعب أمرًا بديهيًا (أم 12: 1؛ عب 12: 11).
ج. نتمتَّع بالصداقة مع الحكمة خلال التأدُّب بقلبٍ جادٍ [20].
د. لا نخشى التجارب طول الطريق، بها نعبر إلى الأمجاد [21-24].
ه. ما دمنا في الجسد لا نتوقَّف عن البحث عن الحكمة والتمسُّك بها حتى النفس الأخير [25-28].
و. قبول الحكمة كعروسٍ سماويةٍ وملكةٍ متهللةٍ [29-31].
ز. النمو فيها بالتعلُّم المُستمِر، والانتفاع بخبرة الشيوخ الأتقياء، والتمتُّع بالوصية الإلهية [32-37].
يا بني، اختر التعليم منذ شبابك،
فستجد الحكمة في شيبتك [18].
للتمتُّع بالحكمة، يلزمنا الاهتمام بالحياة الداخلية، حيث يصير الشخص في دور النضوج بعد التدرُّب على تقديس النفس وضبط الأهواء، وممارسة الحياة الفاضلة، وإدراك مفهوم التقليد الحقيقي ودراسة شريعة الله وطلب النعمة الإلهية، فيهبه الربّ الحكمة الحقيقية. يتدرَّب الشخص على هذا لينعم في شيبته بالحكمة الناضجة. كتب القديس أغسطينوس إلى ابنه المحبوب في الربّ Palatianus: [معاملاتك القوية والمُثمِرة مع الربّ إلهنا قادتنا إلى فرحٍ عظيمٍ. لقد اخترت تعليمك منذ صباك كي تجد الحكمة عند شيبتك (سي 6: 18). فإن فهم الإنسان هو شيبة الشعر، والحياة التي بلا دنسٍ هي سن الشيخوخة (حك 4: 8-9) [12].]
v "بِمَ يُزَكِّي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك" (راجع مز 119: 9)... هل ييأس الشيخ من ذلك؟ أو هل يُصلح الشيخ طريقة بوسيلة أخرى غير كلمة الله؟ أم هذه نصيحة لكي نعرف أي عمر يلزمنا في المقام الأول أن نصلح فيه طريقنا، حسب ما هو مكتوب: "يا بني اتخذ التأديب منذ شبابك، فتجد الحكمة إلى مشيبك" (راجع سي 6: 18)[13].
v تقريبًا كل المحاسن الجسدية تتغيَّر مع الزمن. بينما الحكمة وحدها تزيد إذًا بكل الأعمال الأخرى (في الإنسان) تضمحل. الصوم والنوم على الأرض والتحرُّك من موضعٍ إلى آخر وكرم الضيافة للمسافرين، والدفاع عن الفقراء، والمثابرة على الوقوف في الصلاة، وزيارة المرضى، وعمل اليدين لجلب مال لتقديم الصدقة؛ كل الأعمال في اختصار هذه التي يُمارِسها الجسم تقل بضعفه[14].
أقبل إليها مثل الحارث والزارع،
وانتظر حصادها الصالح،
فإنك تتعب قليلًا في عملها،
فستأكل من ثمرها سريعًا [19].
دور المؤمن الجهاد في الصلاة وقبول التهذيب وتعلُّم شريعة الله، وهكذا يحرث ويغرس ويعتني بقلبه وفكره لتصير أعماقه حقل الربّ المملوء بثمر الحكمة. كما أن الفلاح الذكي لا يطلب الثمرة في الحال، بل يُعِدّ الأرض ويُنَقِّيها من الحجارة والأشواك ويقوم بحرثها والبذر والسقي إلخ. وأخيرًا يجمع الثمار، هكذا يليق أن يعمل من يطلب ثمر الحكمة. هذا ويليق به ألاَّ يتوقَّف عن العمل الجاد في اقتناء الحكمة وممارستها مدى حياته كلها، حتى لا تتحوَّل أرض قلبه إلى بورٍ وجفاف بسبب إهماله.
يقول القديس أمبروسيوس إنه واحد فقط يُعَلِّم ولا يحتاج إلى التعلُّم، وهو الله. أما نحن فمهما يكن مركزنا أو عمرنا أو ثقافتنا نبقى محتاجين إلى التعلُّم كل يوم إلى لحظة انطلاقنا من هذا العالم.
v "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيِّق" (لو 13: 24)... الطريق المستقيم ضيِّق، أي انحراف عنه مملوء بالمخاطر، سواء على اليمين أو اليسار. إنه كجسرٍ، من يزلّ عنه من أي جانب منه يسقط في النهر[15].
v "ارجعي يا نفسي إلى راحتكِ، لأن الرب قد أحسن إليكِ". (مز 116: 7) المتباري الشجاع يُطَبِّق على نفسه هذه الكلمات المُعزّية تمامًا، مثل بولس عندما يقول: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، وحفظت الإيمان، وأخيرًا وُضِعَ لي إكليل البرِّ" (2 تي 4: 7-8). قال النبي هذا عينه لنفسه: "حيثُ أنكِ تُتَمِّمين بكفاية طريق هذه الحياة، ارجعي إلى راحتكِ، لأن الرب قد أحسن إليكِ". لأن الراحة الأبدية تُوضَع قدام الذين يُجاهِدون في الحياة الحاضرة، حافظين الشرائع، راحة ليست مُقابِل دين بسبب أعمالنا، بل من أجل نعمة الله السخي للذين يترَّجونه[16].
v إنه يصف الراحة المستقبلية، مُقارِنًا إياها بالأمور الحاضرة. يقول: هنا أحزان الموت قد أحاقت بي، أما هناك فقد خلَّص نفسي من الموت. هنا عيناي تسكبان الدموع بسبب المتاعب، وأما هناك فلا تعود توجد دمعة تظلم أعين الذين يتهلَّلون بالتأمل في جمال مجد الله. إذ يمسح الله كل دمعة من كل وجهٍ[17].
v يقول باسيليوس الكبير: لا يمكننا أن نَتَمَتَّع بالروح الطاهر ما دامت الأدناس في قلوبنا، وأيضًا حبّوا الله بدون غشٍ، من كل نفوسكم ومن كل قلوبكم ومن كل نياتكم، فلا يعتري إيمانكم ريب أو شك في أن الله هو المُعِين. وأيضًا "اسكبوا قلوبكم" معناه ابذلوا جهدكم وفرِّغوا غايتكم للتضرُّع والابتهال لله. السكب معناه الغزارة والوفرة، كقول الرسول إن محبة الله انسكبت في قلوبنا.
فهي شاقة على غير المتأدِّبين،
ولا يستمر معها فاقد القلب السليم [20].
يُحَذِّرنا من التسرُّع في حصادٍ غير ناضج، لذا يليق بالشاب أن يتمتَّع بخبرة السابقين. بالنسبة للجاهل وغير المتأدِّب تبدو له الحكمة أنها شاقة وتتطلَّب جهدًا واشتياق القلب لها، فيشعر بسعادة متزايدة ومستمرة، تُحوِّل حياته إلى فردوسٍ دائمٍ، فلا يشعر بمللٍ، إنما يشعر بلذة التجديد المستمر.
فتكون ثقيلة عليه كحجر التجربة،
فلا يلبث أن يلفظها عنه [21].
الشاب الذي يدَّعي أنه قد نضج في الحكمة، يكون كمن يصطدم بحجرٍ ثقيلٍ يُحَطِّمه. لعل ابن سيراخ يشير هنا إلى المشاق الكثيرة التي تكبدها في سبيل حصوله على الحكمة، من صلاة لطلب الحكمة من الله، والأسفار سعيًا في طلبها مع عدم الاستحياء من طلبها من الصغار والكبار معًا (راجع سي 39: 1-11).
لأن الحكمة جديرة باسمها،
ولا تُعلَن للكثيرين [22].
اسمع يا بني واقبل رأيي،
ولا تنبذ مشورتي [23].
أدخِلْ رجليك في قيودها،
وعنقك في طوقها [24].
نير الحكمة يبدو في البداية قيودًا ثقيلة، من يخضع لها بإرادته فيضبط نفسه، تتحوَّل القيود إلى نير حلو وهيِّن كقول السيد المسيح (مت 11: 29-30). يجدها المؤمن حلة مجيدة، وعلامة كرامة.
v يمكن أيضًا أن يُفهَم أن الذين يُكبَّلون بوصايا الحكمة مقيّدون، هؤلاء الذين بالصبر تتحوَّل الأغلال إلى زينات، كما هو مكتوب: "أدخِل قدميك في قيودها" (راجع سي 6: 24)[18].
v قيل: "أدخل قدميك في قيود" الحكمة، حيث تتعلَّم الحكمة. إنه يقصد قدمي القلب لا الجسم؛ يُربطا بسلاسلها الذهبية، فلا يترك طريق الله، ولا يصير هاربًا منه، وما نقرأه نتبَّناه ويكون المعنى الحق في أمان[19].
v كثيرون احتفظوا بكونهم من الأشراف، احتفظوا بسلطانهم الملوكي، ومع هذا فهم مسيحيون. مثل هؤلاء كمن هم في قيود ورباطات من حديد. كيف هذا؟ لقد قبلوا القيود لكي تحفظهم من الذهاب إلى الأمور غير الشرعية، قبلوا قيود الحكمة، قيود كلمة الله.
لماذا هي قيود من حديد وليست من ذهب؟ إنها حديد ما داموا يخافون. ليحبّوا فتصير من ذهب... البداية هي قيود من حديد، والنهاية هي قلادة من ذهب[20].
v ضعف الجسد وفساده بالحقيقة هما قيدان يثقلان على النفس (حك 9: 15). هشاشة الجسم تشبه مادة يستخدمها مُضطهِد لتُسبب ألمًا وتعبًا، هكذا (ضعف الجسد) يضغط على كثير من القديسين نحو الشرّ. اشتاق الرسول أن يتحرَّر من هذه القيود وأن يكون مع المسيح، أما أن يبقى في الجسد فمن أجل الضرورة لصالح الذين يخدمهم بالإنجيل (في 1: 23-24). إلى أن يلبس هذا الفاسد عدم الفساد وهذا المائت عدم الموت (1 كو 15: 53)، الجسد الضعيف يحبس إرادة الروح (مت 26: 41؛ مر 14: 38). لا يشعر أحد بهذه القيود سوى الذين يئنون في الداخل، المثقلون (2 كو 5: 3-4)، ويريدون أن يلبسوا الخيمة التي من السماء، لأن الموت مُرعِب والحياة الميتة تجلب حزنًا. ضاعف الرسول تنهُّداته من أجل الأشخاص الذين يتألَّمون، حتى تبلغ تنهُّداتهم أمام عيني الربّ. الذين يُربطون بتأديبات الحكمة يمكن أيضًا أن تُحسَب هذه قيودًا. لكن من يحتمل هذه التأديبات بصبرٍ، تتحوَّل هذه القيود إلى حليّ، لهذا كُتب: "ادخِل رجليك في قيودها" [24][21].
أحنِ كتفك تحتها واحملها،
ولا تغضب من قيودها [25].
أقبل إليها بكل نفسك،
واحفظ طرقها بكل قوّتك [26].
اقتناء الحكمة يتطلَّب منا ضبط النفس والتنازل عن الميول الطبيعية للإنسان مثل رغبته الجامحة إلى الكلام ورغبته كذلك في التسلُّط والتقدُّم على الآخرين والمباهاة، ومن ثم من أراد اقتناء الحكمة فعليه التنازل عن كل ذلك. ربما كان ذلك بالنسبة له في البداية مثل نيرٍ ثقيلٍ، عليه أن يحمله بفرحٍ وصمتٍ، ولن يلبث طويلا حتى يجده خفيفًا مُفرِحًا. ولعل ابن سيراخ كان ماثلا قدامه يوسف الصديق كمثل حي في هذا الصدد وهو من الرجال الحكماء في الكتاب المقدس وفي الأدب، وحيث ارتبطت فيه النبوة بالحكمة ولم يحصل على الموهبتين إلا بعد تمحيص وتجربة ونيرٍ ثقيلٍ (تك 37: 28)؛ مز 105: 16-22)[22].
v يجب على العقلاء ألا يصغوا إلى كل صنوف الأحاديث، بل إلى النافع منها الذي يقود إلى فهم إرادة الله. إذ إرادته هي الطريق الذي يعود بالناس إلى الحياة والنور الأبدي مرة أخرى[23].
ابحث عنها واطلبها، فتصير معروفة لديك،
وإذا أمسكتها فلا تفلتها[24] [27].
v إن كان بالنسبة لي "الحياة هي المسيح" (في 1: 21)، بالحق يليق أن تكون كلماتي عن المسيح، وكل فكري وعملي يعتمد على وصاياه، وأن تتشكَّل نفسي لتكون مثله[25].
ففي أواخرك تجد راحتها،
وتتحول إلى بهجة لك [28].
فتكون قيودها كحماية قوية لك،
وأغلالها حلة مجيدة [29].
ويكون نيرها زينة من ذهبٍ،
وقيودها خيطًا أزرق [30].
فتلبسها كحلة مجيدة،
وتتقلدها كإكليل غاية في الابتهاج [31].
إذا ما اقتنيت الحكمة تصبح مفخرة لك، وتصبح مثل إكليل يُزَيِّن الرأس، وقلائد تُزَيِّن العنق "إكْليل نعْمةٍ لرأْسك وقلائد لعنقك" (أم 1: 9). فإن الحكمة المتمثلة سواء في حسن الكلام أو السلوك هي مدعاة للبهجة لكل من الحكيم والذين حوله. لذلك كان الملوك والرؤساء والولاة في كثير من الممالك يحيطون أنفسهم بالحكماء والفلاسفة يزينون بهم مجالسهم وقضاءهم وقصورهم، وربما تذكرنا مظاهر الحكمة المجسدة هنا (حماية قوية، حلة مجد، حلي ذهبية، ثياب بنفسجية، قرمز، إكليل ابتهاج) ما وهبه فرعون مصر ليوسف: الخاتم والثوب والكتان والسلسلة الذهبية (تك 41: 45). تشير السلاسل الإسمانجونية على وجه الخصوص إلى الشريعة. جاء في سفر العدد أن الإسرائيليين ملتزمون بوضع عصابة من إسمانجوني على هدب ذيل ثيابهم، يرونها فيتذكرون كل وصايا الربّ ويعملونها (عد 15: 38-39). أما هنا فيرى الأتقياء قيود الحكمة زينة ذهبية بعصابة إسمانجونية، ويرتدون ثوب مجدٍ ويحملون إكليلًا ساميًا (6: 30-31). حقًا إن الحكمة السماوية تُقِيم من المؤمن كاهنًا يُقَدِّم ذبيحة التسبيح والشكر (رؤ 1: 6)، يرتدي ثوبًا مجيدًا (50: 11)، وإكليلًا فاخرًا (أم 4: 9)[26].
متطلبات اقتناء الحكمة هي: أ. الرغبة في التعلم المستمر [32].
ب. الرغبة في الإصغاء [33] أكثر من الكلام. ج. الالتصاق بالحكماء أصحاب الخبرة [34].
د. الإصغاء إلى الوصية الإلهية باهتمام [35]. ه. الجدية والتردد على مواضع الحكماء [36].
و. تقديس العقل في كل حينٍ، مما يجعله ثابتًا، غير متقلقل بكل ريحٍ غريبٍ [37].
إن شئت يا بني فإنك تتعلَّم،
وإن بذلت نفسك تصبح حاذقًا [32].
يشتاق ابن سيراخ أن تلتهب قلوب المؤمنين شوقًا نحو تعلُّم الحكمة، لكي يصير الكل حكماء.
إن أحببت أن تصغي تقتني المعرفة،
وإن أملت أذنك تصير حكيمًا [33].
أوضح أن الحكمة لا تتحقَّق بكثرة الكلام بل بالاستماع للحكماء والعمل بها خلال دراسة الشريعة.
v قيل: "الحكمة في فهم الأمين. زينوقراط Xenocrates في مقاله عن "الذكاء" يقول إن الحكمة تقوم حسب المعرفة العلمية أولًا على العلل وعلى الكائن العاقل. إنه يتطلَّع إلى "الذكاء" من جانبين: الجانب العملي والجانب النظري، الأخير هو الحكمة البشرية. لهذا فإن الحكمة هي نوع من الذكاء، لكن ليس كل نوع من الذكاء هو حكمة...
يهاجم هيراقليدس Heraclitus البشر الذين ينقصهم الإيمان، قائلًا: "إنهم لا يعرفون كيف يتكلمون وكيف يصغون. بلا شك استعان بالنص: "إن أحببت أن تسمع تقتني المعرفة، إن أملت أذنك تصير حكيمًا" (راجع سي 6: 33).
قف في مجمع الشيوخ،
ومن هو حكيم التصق به [34].
يربط ابن سيراخ بين الوصية الإلهية والتمتُّع بخبرات القديسين في الرب. بجانب التمتُّع بوصية الربّ كمصدرٍ للحكمة، ينصح تلاميذه أن يختاروا أصدقاء صالحين. فالصداقة أو الشركة مع الحكيم لها أثرها على الشخص. "المساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الْجهّال يُضرّ" (أم 13: 20).
كن مستعدًا أن تسمع كل حديثٍ إلهيٍ،
ولا تدع أمثال الفهم تفلت منك [35].
الحاجة إلى شريعة الله مصدر الحكمة. هذا ما يُمَيِّز الحكمة المملوءة تقوى عن الحكمة الفلسفية.
وإن رأيت إنسانًا فهيمًا فبَكِّر إليه،
واجعل خطاك تستنفد عتبة بابه [36].
على الراغب في تعلُّم الحكمة التردُّد على مواضع الحكماء، وكلما سمع عن أحد الحكماء سعى نحوه وتردد على بابه حتى تألف قدماه أعتاب بابه.
يرى القديس أغسطينوس أن العاقل هنا هو ربّ المجد يسوع. يطلب منا أن نُبَكِّر إليه ونلتصق به ونسأله: "يا مُعَلِّم أين تمكث؟" (يو 1: 38)، لكي نمكث عنده كل أيام حياتنا.
في حديث القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عن خصي وزير كنداكة ملكة أثيوبيا (أع 8: 30-31) المشتاق أن يفهم ما قاله إشعياء النبي، يقول: [لقد أظهر لنا الفضيلة في سلوكه بدعوته (لفيلبس)، وهو وزير وثني يجلس في مركبته، دعا إنسانًا أقل منه في الهيئة، يرتدي لباسًا مُزدرى به، كي يصعد ويركب معه. هل ترى روحه الغيور؟ أترى تقواه الفائقة؟ أترى وثنيًا خائف الله يُتَمِّم قول الحكيم: "إن رأيت عاقلًا فبكِّر إليه، ولتحك قدمك درجة بابه" (راجع سي 6: 36)؟. ألا ترى كيف تأهَّل ألاَّ يُستخَف به؟ ألا ترى كيف تأهَّل لنوال امتياز من الأعالي؟ ألا ترى أنه لم يهمل في شيءٍ من جانبه؟ لهذا نال خلال معلمه معرفة متميزة لفاعلية ما ورد في الكتاب المقدس، فأَشعّ نور على عقله[27].]
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة تشرح ما ورد في الآية 34، وهو السعي إلى الالتصاق بالحكيم. قدَّم لنا مثلا بدعوة السيد المسيح لبطرس وأندراوس (مت 4: 19). تبعاه ولم يتركاه، لقد سألاه: "أين تمكث؟" (يو 1: 38)، فكشف لهما أين كان يمكث[28].
فكر في أوامر الرب، ومارس وصاياه،
فهو يقوِّي عقلك في كل حينٍ،
وتُوهب لك الرغبة في الحكمة [37].
يختم هذا الأصحاح بتأكيد دور ربنا يسوع في التمتُّع بالصداقة الحقيقية:
1. التأمُّل في أوامر الرب أو الوصية الإلهية يرفع قلب المؤمن كما إلى السماء، فيرى دستورها الحب الحقيقي؛ الله نفسه هو الحب. "نحن قد عرفنا وصدّقنا المحبة التي لله فينا؛ الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1 يو 4: 16). ونتلامس مع الطغمات السماوية التي تمجد الله على محبته للبشر وعمله العجيب على الصليب لأجل خلاصهم.
2. بممارسة وصاياه في حياتنا اليومية نتذوَّق عذوبة الصداقة مع الله والطغمات السماوية ومع بعضنا البعض.
3. الرب يثبت عقلنا في كل حينٍ، فلا تقدر الأحداث أن تُزَعزِع صداقتنا، بل تُنَمِّيها وتثبتها.
4. الرب يهبنا الرغبة في الحكمة، إذ يُقَدِّس إرادتنا فتتناغم مع إرادته الإلهية.
v كم اشتاقت نفسي أن ألتقي بك في جنة عدن مع آدم وحواء.
أسمع صوتك ماشيًا في الجنة، فأشعر إني محمول على ذراعيك!
السماء ليست ببعيدة،
حتى وحوش البرية تطلب ودِّي، لأني محبوبك وصديقك.
قَبلَ أبويّ الأولين مشورة عدو الخير،
فاحتلّ التمرُّد على قلبي، وتحوَّلت صداقتي لك إلى عداوة!
حتى الطغمات السماوية وقفت في دهشةٍ مما فعلته وأنا تراب ورماد!
حلَّ العار والخزي بي، وفسدت طبيعتي، وحلّ الفساد في أعماقي!
حلَّ الظلام في قلبي، ودخلت العداوة معه!
v بحُبِّك نزلتَ إليّ، وبصليبك غرستني على مجاري المياه الحيّة.
صرت أُعاني من صراعٍ في داخلي.
هل ترجع الصداقة الأولى، وتتناغم إرادتي مع إرادتك المقدسة؟
بنعمتك وهبتني البنوة، وأَقمت ملكوتك في داخلي.
سكبت وداعتك فيَّ، لأجتذب إخوتي بالحديث العذب واللسان اللطيف.
أقمتني عضوًا في كنيستك، فصار المُسالِمون لي كثيرين.
لكن وسط الألف، أَجِدَك مشيرًا مُخْلِصًا وقديرًا.
v فسدت الصداقة في العالم، فيوجد الصديق الذي يطلب ما هو لمنفعته.
ويوجد من يُصادِقني في وقت الفرج، ويتجاهلني يوم الشدة.
يبذل كل الجهد لا ليسندني بل ليُعرقِل خطواتي.
v أنت الصديق الأمين، ملجأي الحصين.
أنت كنزي الأبدي، ودواء الحياة،
عوض الأرضيات تهبني السماويات.
وعوض الفساد تهبني الخلود وعدم الفساد.
تُقِيم ملكوتك في داخلي، فصرتَ أقرب إليَّ من أبي وأمي.
وصيتك تهبني نيرًا هيّنًا وحلوًا؟
تهبني السير في صحبتك يا أيها المصلوب،
أنطلق في الطريق الضيق إلى إكليل البهجة!
تُحَوِّل قيود الوصية إلى حليّ ثمين تتزيَّن بها نفسي.
v مع كل صباحٍ أَترنم بمراحمك الجديدة.
تُشرِق عليّ بنور معرفتك وأسرارك.
تُعَلِّمني وتُدَرِّبني، فأَصير بك حكيمًا.
بك لن يتزعزع عقلي، بل يزداد فهمًا وحكمة ومعرفة.
تحملني من نصرةٍ إلى نصرةٍ، ومن مجدٍ إلى مجدٍ.
تُعدِّني كعروسٍ سماوية تجلس عن يمينك، يا ملك الملوك ورب الأرباب.
لك المجد يا حكمة الله، إذ تجسَّدتَ لأجلي ولأجل كل إخوتي.
ملحق سيراخ 6
الصديق الأمين دواء الحياة
(سي 6: 16)
1. الحاجة إلى صديقٍ: من هم الأصدقاء الذين اجتذبهم صوت المصلوب الحلو سوى المؤمنين من كل الأمم. ومن هم المسالمون سوى الطغمات السماوية التي تتهلل بخلاصنا.
"الصديق الأمين ملجأ حصين، ومن وجد واحدًا وجد كنزًا. الصديق الأمين لا يعادله شيء، وليس من يقدر أن يزن سموَّه. الصديق الأمين دواء الحياة، والذين يخافون الربّ يجدونه" (6: 14- 16).
2. الصداقة الصادِقة: يقول القديس أغسطينوس: ["الصديق الأمين دواء الحياة" (راجع ابن سيراخ 6: 16). لا يوجد علاج مؤثِّر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يُعَزِّيك في ضيقاتك، ويُدَبِّرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يُعادِل صلاح أمانته (راجع سي 6: 14، 15).]
3. الصداقة ومخافة الرب: من يحمل مخافة الرب في قلبه، ويسلك بروح التقوى في حكمة الروح يحصل على صداقة صالحة حتى مع الطغمات السماوية.
4. صداقة مع الحكمة ذاتها: "يا بني، اختر التعليم منذ شبابك، فستجد الحكمة في شيبتك. أقبل إليها مثل الحارث والزارع، وانتظر حصادها الصالح، فإنك تتعب قليلًا في عملها، فستأكل من ثمرها سريعًا" (6: 18، 19).
5. الحرص على حفظ الصداقة: يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لنتبع المحبة، فإنها صمام أمان لا تسمح لنا أن نعاني من أي شر. لنربط أنفسنا بعضنا ببعضٍ. لا يكون خداع بيننا ولا كذب، فحيث توجد الصداقة لا يوجد شيء من هذا القبيل. يخبرنا حكيم آخر بذلك: "إن جردت السيف على صديقك فلا تخف، فقد تتم المصالحة إلا في حالات الشتم والتكبر وإفشاء السرّ والضربة الماكرة. فإنه في هذه الحالات يفر كل صديقٍ" (راجع سي 22: 21، 22).]
6. الأصدقاء الباطلون: يقول مار إفرام السرياني: [إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة وانتابك ضرر بسبب مخالطتك إياه، فأسرع واقطع نفسك منه. لست أقول لك هكذا أيها الحبيب لتبغض الناس، كلا. وإنما لتقطع أسباب الرذيلة.]
_____
[1] الفيلوكاليا، ص 176.
[2] In Joan, Tr. 87: 1.
[3] St. Augustine: 10 Homilies on 1st Epistle of St. John.
[4] راجع الحب الأخوي، 2007، ص 45-72.
[5] Letter 32.
[6] Sermons on New Testament Lessons.
[7] Paedagogus, FOTC, Vol. 23, p. 148-149.
[8] In Rom. hom. 22.
[9] Select Orations, F. C., Vol. 107, p. 30-31.
[10] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 42.
[11] Scholia on Proverbs 189: 9: 4
[12] Letter 218.
[13] On Ps 119 (118)
5 Letter 52:3.
[15] Catena Aurea.
[16] Homilies, 22. F.C. vol 46, p. 356-57.
[17] Homilies on Ps. 114.
[18] On Ps 79 (78)
[19]On Ps 95 (89)
[20] On Ps 150.
[21] Exposition of the Psalms 78: 15.
[22] راجع نيافة الأنبا مكاريوس.
[23] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 24.
[24] وعندما تضبط نفسك لا تتركها.
[25] Letter 159 to Eupaterius and his daughter, 1.
[26] راجع نيافة الأنبا مكاريوس.
[27] Homilies on Genesis, FOTC, Vol. 82, p.306-307.
[28] St. Augustine: Tractates on the Gospel of John 7: 9.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 7 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 5 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ab5fa7a