← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22
الأصحاح الثامن
يليق بالمؤمن أن يفتح قلبه بالحُبّ لكل إنسانٍ. وفي نفس الوقت يكون حكيمًا، فيتصرَّف حسب قدراته وإمكانياته. يرى القديس بولس أن إمكانيات الغالبية العظمى من البشر محدودة. فالكل وُلِدوا عراة. وفي نفس الوقت ليس الكل أصحاب سلطان، ولا الكل أغنياء، ولا الكل حكماء حسب الجسد، ولا الكل مقتدرون. لذا يليق بنا أن ندرك إمكانياتنا فلا نتعدَّاها، وبعمل نعمة الله وبحكمة حقيقية من قبل الربّ نعرف كيف نتعامل مع من هم أغنى منا، وأقدر منا، ومع من كان ثرثارًا إلخ.
كثيرًا ما يقف المؤمن خاصة الراعي في حيرة في تعامله مع الآخرين بين اللطف والحزم، والتوبيخ والتشجيع، التغاضي عن الخطأ أو كشفه إلخ. إنه يحتاج إلى حكمة تُرافِق الحب في أسلوب معاملته مع كل فردً من أفراد رعيَّته حتى لا يهلك أحد منهم. يُعالِج سيراخ موضوع التعامل مع بعض الفئات، مثل المقتدرين، والمخطئين، والشيوخ، والمتهورين.
وقد تعرَّض القدِّيس غريغوريوس النزينزي وكثير من آباء الكنيسة إلى ضرورة استخدام الحكمة مع كل فئةٍ وحسب ظروف كل فرد وبيئته وطباعه. كذلك تحدَّث البابا غريغوريوس (الكبير) في كتابه Pastoral Care في هذا الأمر بأكثر تفصيل، قائلًا:
[قد سبق غريغوريوس النزينزي الموقر فعلَّمنا أن الراعي لا يُقَدِّم نصيحة واحدة للجميع. إذ لا تصلح مشورة واحدة للكل، طالما ليس للكل نفس الشخصيَّة ونفس الظروف. فالنصيحة التي تفيد البعض قد تضر الغير. كالمراعي التي تقتات فيها بعض الحيوانات بينما لا تصلح لغيرها. والصفير الهادئ الذي يُهَدِّئ الحصان قد يهيِّج الجرو. والدواء الذي يشفي شخصًا يزيد أمراض آخر. والطعام الذي يقوت الرجل القوي يهلك الطفل الصغير.]
يحتاج المؤمن إلى حكمة في معاملته مع كل فئةٍ وكل فردٍ بطريقةٍ يكسب بها الجميع، ويصير موضع ثقته، دون أي مساس بسلامه الداخلي أو محبَّته لله أو قداسته إلخ. فبولس الرسول يقول: "فإنّي إذ كنت حرًّا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهوديٍّ لأربح اليهود، وللّذين تحت الناموس كأنّي تحت النّاموس لأربح الذين تحت الناموس، وللّذين بلا ناموسٍ كأنّي بلا ناموسٍ، مع إنّي لست بلا ناموسٍ لله بل تحت ناموسٍ للمسيح، لأربح الذين بلا ناموسٍ. صرت للضّعفاء كضعيفٍ لأربح الضّعفاء. صرت للكلّ كلّ شيءٍ لأخلّص على كلّ حالٍ قومًا" (1 كو 9: 19-22). يليق بالمؤمن أن يكسب في السيد المسيح إن أمكن الكل رجالاَّ ونساء، أشرارًا وقدِّيسين، بسطاء وماكرين، وُدعاء ومتكبِّرين.
v إن تعهَّد شخص ترويض حيوانات متنوعة، ذات أحجام مختلفة، لها درجات متفاوتة في الألفة والوحشية؛ فإن مثل هذا يتركَّز عمله الرئيسي على جهادٍ عظيمٍ لتدبير طبائع متمايزة غريبة، لأن كل حيوانٍ يكون له استجابته لمعاملة المروِّض من كلمات أو طعام أو ضرب له باليد أو تصفير إلخ. مختلفة عن الحيوان الآخر بسبب طبيعته وعاداته. ماذا ينبغي لسيِّد هذه الحيوانات أن يفعل في ترويضه، مُعامِلًا كل حيوان بطريقة تتناسب معه، حتى ينجح في قيادة هذه الحيوانات المفترسة والمحافظة عليها؟!
وإذ يتكوَّن جسد الكنيسة من شخصيَّات مختلفة وعقول متمايزة، كما لو كانت جسدًا واحدًا له أعضاء كثيرة مختلفة. لذلك كان من الضروري أن يكون القائد بسيطًا، معتدلًا في كل الأمور، وبقدر الإمكان يستخدم وسائل كثيرة في معاملة الأفراد، يتعامل مع كل عضوٍ بطريقة تليق به وتُناسِبه. فالبعض يحتاج إلى التغذِّي بلبنٍ (1 كو 3: 1-2)، أي التعاليم السهلة الأوليَّة، أمثال أولئك الذين هم أطفال في عاداتهم. ويمكن القول عنهم أنَّهم حديثو الإيمان، ليس في قدرتهم أن يهضموا طعام الكلمة الدسم. فإن قدَّم لهم طعام أَدسم ممَّا لا تحتمله قدرتهم هلكوا بسبب ضعف عقولهم، كما في أمر الأجساد تمامًا التي إن قُدِّم لها طعام لا تقدر أن تهضمه وتقبله، يؤدِّي إلى فقدان قوَّتها الأولى.
والبعض تلزمهم الحكمة التي يُنطَق بها بين الكاملين (1 كو 2: 6). هؤلاء يلزمهم الطعام الدسم. إذ بسبب التمرُّن صارت لهم الحواس مُدَرَّبة على التمييز بين الحق والباطل (عب 5: 14). فلو قُدَّم لمثل هؤلاء أن يشربوا اللبن الخاص بالأطفال أو يتغذُّوا بالخضراوات الخفيفة الخاصة بالمرضى يضجرون. إذ لا يَتقوون في المسيح، ولا يزداد جهادهم. بينما لو قدَّمت لهم كلمة الله الدسمة ليتغذُّوا بها بطريقة سليمة، تجعل منهم رجالاَّ كاملين، وترتقي بهم إلى مستوى روحي سامٍ.
v يختلط الكاهن (والمؤمن) بالمتزوَّجين الذين لهم أطفال وخدم، كما يختلط بالأغنياء وأصحاب المراكز العامة وذوي النفوذ... لهذا وجب أن يكون إنسانًا يعرف كيف يعامل الكل (many sides man). لست أقول أن يكون مُخادِعًا أو متملِّقا أو مرائيًا، بل يكون شديد المرونة، يعرف كيف يتلائم مع كل واحدٍ حتى يربحه حسبما تقتضي الظروف. فيكون حازمًا (قاسيًا)، ورحومًا لأنَّه يستحيل أن يُعامِل كل الذين تحت إشرافه بمعاملة واحدة. كالطبيب الذي ليس له أن يطبق علاجًا واحدًا على جميع المرضى الذين يعالجهم. أو مثل ربان السفينة الذي ينبغي ألاَّ يعرف طريقة واحدة فقط لصدّ الرياح، لأنَّه مُعَرَّض أن تُصادِفه رياح كثيرة... تهاجمه لا من الخارج فحسب، بل ومن الداخل أيضًا.
v ليس من المتاح في كل الأوقات أن نستخدم القوانين والقواعد العادية، بل يجب على الإنسان أن يضع في حسبانه الظروف المحيطة به، ويحاول تنفيذ ما هو مستطاع لديه حسب الإمكانيات التي لديه. لا تجهل الشياطين هذا، لذلك فإنها في هجومها علينا تمنعنا من أن نعمل حسب طاقتنا، إنما تحرضنا أن نعمل ما هو مستحيل[2].
يُقَدِّم ابن سيراخ التطبيق العملي للشريعة، فهو يُطالِبنا بالاعتدال في عبادتنا كما في سلوكنا. نراه يُوازِن بين الشجاعة والتروّي، إذ يجب علينا أن ندرس حساب النفقة، ونلتزم بالسلوك في ضوء إمكانياتنا وإمكانيات الآخرين، حتى لا نصطدم بالآخرين.
في هذا الأصحاح يُوَجِّه ابن سيراخ أنظارنا إلى تعامل المؤمن مع الفئات التالية:
1. التعامل مع المقتدرين |
[1 -3] (ت: 1-4) |
|||
2. التعامل مع المخطئين |
[4 -5] (ت: 5-6) |
|||
3. التعامل مع الشيوخ |
[6 -9] (ت: 7-12) |
|||
4. التعامل مع المتهورين |
[10 -19] (ت: 13-22) |
|||
من وحي ابن سيراخ 8: لأتعامل مع كل أحدٍ في حضورك! |
وبالتفصيل حسب الآيات:
1. مع المقتدرين أصحاب السلطة أو الأقوياء |
[1] |
|||
2. الأغنياء ماديًا |
[2] |
|||
3. الخصام مع الثرثار |
[3] |
|||
4. مع الإنسان الممازح غير المهذب |
[4] |
|||
5. الخاطئ التائب |
[5] |
|||
6. اللقاء مع شيخ واهن القوة |
[6] |
|||
7. حضور جنازة ميت له سقطاته |
[7] |
|||
8. مجالسة الحكماء والنبلاء |
[8] |
|||
9. مجالسة الشيوخ في نقلهم للتراث الآبائي |
[9] |
|||
10. اللقاء مع خاطي ثائر |
[10] |
|||
11. مع إنسانٍ متغطرس يتلقط الأخطاء |
[11] |
|||
12. مع طالب قرض منك |
[12] |
|||
13. مع مُقرض متهاون في سلوكه |
[13] |
|||
14. مع قاضٍ أساء إليك |
[14] |
|||
15. مرافقة شخصٍ متهورٍ في رحلة ما |
[15] |
|||
16. مع إنسانٍ حانق |
[16] |
|||
17. مع إنسانٍ أحمق |
[17] |
|||
18. ممارسة أمر سري أمام غريب |
[18] |
|||
19. كشف أسرار القلب لكل إنسانٍ |
[19] |
باستثناء الآيتين 8، 9 اللتين تُقَدِّمان لنا إرشادًا إيجابيًا للتعلُّم من الحكماء والشيوخ المختبرين، فإن الأصحاح كله يضم تحذيرات من الأعمال الحمقى بأشكالها المتنوعة:
1. موقفنا مع فئات يمكن أن تُسِيئ إلينا [1-7]. مواقف خاطئة نحو الغير مثل مقاومة المقتدر، ومشاجرة الغني، مخاصمة الثرثار، والمزاح مع شخصٍ غير مهذب، وتعيير تائب عن الخطية، وإهانة شيخ، والشماتة في موت إنسانٍ ما.
2. التزامنا بالتعلم حتى نتعامل معهم [8-9].
3. مواقفنا الإثارية الخاطئة [10-11]. التأهُّل للسقوط بسب اقتراحات يُقَدِّمها الغير، مثل إيقاد جمر الخاطئ، والوقوف في وجه متغطرس، وإقراض من هو أقوى منه، وتقديم كفالة فوق الطاقة.
4. ثقة في الغير بدون حكمة [12-20]. مثل مقاضاة قاضي، واشتراك في رحلة مع شخصٍ متهور، ومحاربة شخصٍ حانق، وطلب مشورة من أحمق، وممارسة أمر سري أمام غريب، وكشف ما في القلب لكل من تلتقي به. لذا يليق بالمؤمن أن يتعرَّف على الشخص وإمكانياته قبل البدء في التعامل معه.
يقول الرسول بولس: "إن أمكن فسالموا جميع الناس" (رو 12: 18). وفي نفس الوقت يُحَذِّرنا ابن سيراخ من مقاومتنا للمقتدرين أصحاب السلطة كالنبلاء والأشراف وقادة المجتمع [1] لئلا يصيروا أعداء، وتشاجرنا مع الأغنياء [2]، ومن الجدال مع كثير الكلام صاحب الصوت العالي (الثرثار) [3؛ أم 26: 20: 21]، ومزاحنا مع المازحين غير المهذبين بأسلوبٍ غير لائق [4]، وتعييرنا لتائب، فنضيف وقودًا للنار.
مع ما اتَّسم به ابن سيراخ بتركيزه على الحكمة الإلهية التي نتمتَّع بها خلال نعمة الله والالتصاق به واللهج في كلمة الله، والتذوُّق الدائم للإيمان بالله، يطالبنا أن نضع في اعتبارنا حساب النفقة. النفقة هنا لا تتركَّز في المال أو القوة أو السلطة أو المواهب، وإنما إعطاء الأولوية للفكر المقدس والدراسة المتزنة.
لكي نشهد لإيماننا الحيّ يليق بنا ممارسة الشجاعة في تروٍ دون تهور، والاتكال الكامل على الله مع إدراك إمكانياتنا التي هي عطاياه لنا، وإمكانيات الغير حتى لا نصطدم بهم. يليق بنا العطاء بسخاءٍ في الربّ دون التبذير أو البخل، والعمل الدائم مع مراعاة إمكانياتنا الروحية والصحية وقدراتنا العلمية والفكرية.
1 لاَ تُخَاصِمِ الْمُقْتَدِرَ، لِئَلاَّ تَقَعَ فِي يَدَيْهِ. 2 لاَ تُنَازِعِ الْغَنِيَّ، لِئَلاَّ يَجْعَلَ عَلَيْكَ ثِقَلًا. 3 فَإِن الذَّهَبَ أَهْلَكَ كَثِيرِينَ، وَأَزَاغَ قُلُوبَ الْمُلُوكِ. 4 لاَ تُخَاصِمِ الْفَتِيقَ اللِّسَانِ، وَلاَ تَجْمَعْ عَلَى نَارِهِ حَطَبًا.
يليق بالمؤمن أن يتعقَّل في التعامل مع الغير، فلا يتشاجر مع أشخاص أصحاب سلطان لئلا يصيروا له أعداء [1]. ولا يُزعج غنيًا فيوشي السطات الحاكمة ضده (أم 17: 23). ولا يجادل إنسانًا ثرثارًا صاحب حنجرة عالية كثير الكلام وبلا ضابطٍ (أم 26: 20-21).
لا تُقاوِم بحدةٍ المقتدر،
لئلا تقع في يديه [1].
لا يليق بالمؤمن أن يدخل في خصومة مع إنسانٍ متهورٍ يُشهر سلاحًا، أو يجاهر بتبكيت رئيس أو ملك فيُعرِّض نفسه للقتل باطلًا، إلاَّ إذا كان ذلك شهادة للإيمان المستقيم. إذ يستثنى من هذا المدعوون للاستشهاد بإعلانٍ إلهي، أو الأنبياء المدعوون لمواجهة رؤساء الكهنة والملوك، كما فعل إشعياء النبي ويوحنا المعمدان.
أما بالنسبة للمؤمنين من الشعب والكهنة الشباب، فيليق بهم ألاَّ يُحَطِّموا طاقاتهم في النقد ومحاولة الإصلاح بالاصطدام مع الآخرين، إنما ينيرون شمعة بدلًا من أن يلعنوا الظلام.
جاء في قوانين البابا بطرس خاتم الشهداء (قانون 9):
[(الذين أثاروا المقاوم في اندفاع لكي يُلهِب نار الضيق فينعمون بالاستشهاد).
الذين كانوا كمن في نومٍ وقد وثبوا فجأة ليثيروا المقاوم، الذي كان كمن طال به زمان المخاض، هؤلاء يجرون على أنفسهم تجارب كهجعات البحر وفيض أمواج بلا حصرٍ، مُشعِلين نار (جمر) الأشرار ضد إخوتهم... هؤلاء نلتزم أن تكون لنا معهم شركة، لأنهم سلكوا هكذا من أجل المسيح، وإن كانوا لم يصغوا لكلماته. فقد علَّمنا أن نُصَلِّي لئلا ندخل في تجربة، لكن نجنا من الشرير (مت 6: 13).
لعلهم لم يعرفوا أن ربّ البيت ومُعَلِّمنا الأعظم كثيرًا ما كان ينسحب بعيدًا عن الذين ألقوا له شباك، بل وأحيانًا لا يسير علانية بسببهم. وفي وقت آلامه انسحب ولم يُسَلِّم نفسه لهم منتظرًا مجيئهم إليه بسيوف وعصي، قائلًا: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني (مت 55:26)، وهم أسلموه إلى بيلاطس (مت 2:27).
وما حدث معه تكرر مع تلاميذه المتمثلين به، متذكرين كلماته الإلهية التي نطق بها ليثبتنا وقت الاضطهاد قائلًا: "احذروا من الناس، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس وفي مجامعهم يجلدونكم" (مت 17:10). يقول إنهم يسلموننا ولا نُسَلِّم نحن أنفسنا. إنكم تُقدَّمون أمام ولاةٍ وملوكٍ من أجلي، لا أنتم الذين تُقَدِّمون أنفسكم. إنه يريدنا أن نعبر من موضعٍ إلى موضع حيث يوجد المضطهدون وذلك من أجل اسمه.
مرة أخرى يقول "متى اضطهدوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى أخرى" (مت 22:10)، وكأنه يريدنا ألا نقحم أنفسنا على خدام الشيطان وأتباعه، حتى لا نكون نحن علة موتهم المضاعف ولا ندفعهم إلى القسوة دفعًا، فيرتكبون أفعالًا ميتة، لكنه يريدنا أن ننتظر ونحذر بالسهر والصلاة لكيلا ندخل في تجربة (مت 41:26).
اقتفي إسطفانوس (الشماس الشهيد) الأول أثر السيد، فاحتمل الاستشهاد عندما ألقى العُصاة القبض عليه في أورشليم، ورجموه بعد تقديمه أمام مجمع. لقد تمجد من أجل اسم المسيح، مصليًا: "يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية (أع 59:7).]
لا تتشاجر مع غني، لئلا يقاوم قوتك،
فإن الذهب أهلك كثيرين، وأفسد عقول ملوك [2].
لا تلتصق بالعظماء والأغنياء الأشرار لئلا يلتصق الشر بطبيعتنا كالتصاق الصدأ بالحديد، والتراب بالجسد.
v كما أن الصدأ ليس من صنع الحداد، والتراب ليس من وضع الوالدين، هكذا الشر ليس من عند الله. بل وهب الله الإنسان ضميرًا وعقلًا لكي يتجنَّب الشر، يكشفان له أن الشر مضر ويجلب عذابات. لذلك يليق بك أن تكون أكثر حرصًا. فعندما تُقابِل إنسانًا ذا عظمة وثروة، لا تترك للشياطين مجالًا لكي تخدعك، فتنقاد له، بل ضع في الحال الموت نصب عينيك، عندئذ لن تشتهي شيئًا رديئا أو أرضيًا[3].
v "الذين يثقون في قوتهم، وبكثرة غناهم يفتخرون". هذه العبارة يُوَجِّهها النبي إلى نوعين من الأشخاص: إلى الأرضيين earthborn والأغنياء. يتكلَّم إلى الأولين، لكي ينزعوا عنهم المفاهيم الخاطئة لسلطانهم. وللآخرين الذين يفتخرون بمقتنياتهم. يقول: أنتم يا من تَتَّكلون على قوتكم.
يتَّكِل هؤلاء الأرضيون earthborn على قوة الجسد، ويؤمنون أن الطبيعة البشرية فيها الكفاية في تحقيق ما يريدونه ببراعةٍ. يقول: وأنتم يا مَنْ تثقون في عدم يقينية الغِنَى، أصغوا. إنكم محتاجون إلى فدية لتنتقلوا إلى الحرية التي حُرِمتم منها عندما غَلَبَتكم قوة الشيطان الذي سحبكم تحت سلطانه، فإنه لا يترككم في حرية من طغيانه حتى يعمل فيكم مُخَلِّص قدير يريد أن يقايضكم. لا تكون الفدية من نفس نوع الذي سقط تحت سلطانه، بل يختلف عنه تمامًا، إن أراد بحق أن يُحَرِّر المسبيين من العبودية.
لذلك فإن الأخ يعجز عن أن يفديكم. لا يقدر إنسان أن يحث الشيطان أن ينزع سلطانه عن ذاك الذي خضع له مَرَّة! أيضًا يعجز (الأخ) عن أن يُقَدِّم لله كفارة عن خطاياه، فكيف يكون له سلطان أن يفعل هذا عن الآخرين؟
وأي شيء ثمين يملكه في هذا العالم يكفي ليُقايِض به ثمنًا لنفسٍ ثمينةٍ بطبيعتها، هذه التي خُلِقَت على صورة خالقها؟ وأي عملٍ في الزمن الحاضر يكفي تقديمه للنفس البشرية كوسيلةٍ وعونٍ لها في الحياة العتيدة؟
يمكننا أن نحسب هذه الأشياء بسيطة. فإنه حتى إن بدا إنسان أنه صاحب سلطان عظيم في هذه الحياة، حتى وإن أحاط به عدد عظيم من المقتنيات، فإن هذه الكلمات تُعَلِّمه أن ينزل عن مثل هذا الفكر، وأن يتواضع تحت يد الله القدير (1 بط 5: 6)، لا أن يتَّكِل على سلطان أحدٍ مشهورٍ، ولا أن يفتخر بكثرة غناه. مع هذا يمكن أن يصعد إلى العلو قليلًا في الفكر، وبالنسبة للذين يتَّكِلون على سلطانهم أو يفتخرون بثرواتهم أن يفكروا في قدرات (وسلطان) النفس، بقدر ما هي غير كاملة في ذاتها لتحقيق الخلاص. فإنه إن وُجِد أحد كامل بين بني البشر، إن كانت تنقصه حكمة الله، فلا يفتخر بشيءٍ. فإنه وإن نال كثرة من النظريات من حكمة العالم، وجمع الكثير من غِنَى المعرفة، فليسمع الحق كله من الأمر: كل نفسٍ بشرية انحنت تحت نير العبودية التي فرضها عدو الجميع العام، وإذ حُرِمَ من الحرية ذاتها التي نالها من الخالق، قادته الخطية أسيرًا. كل مسبيٍ في حاجة إلى فدية من أجل حريته.
الآن، لا يقدر أخ أن يفدي أخاه، ولا يقدر أحد أن يفدي نفسه، لأن الذي يفدي يلزمه أن يكون أفضل من الذي هُزِمَ وصار عبدًا. في الواقع ليس لي إنسان له سلطان أمام الله كي يُكفِّر عن خاطي، ما دام هو نفسه خاضعًا للخطية: "إذ الجميع أخطأوا، وأعوزهم مجد الله؛ مُتبرِّرين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" ربنا (رو 3: 23-24)[4].
التعامل مع الفقراء والأغنياء: المؤمن الذي يشعر بأثقال تجارب إخوته الفقراء يتلطَّف بهم في آلامهم وذلهم، فعندما يوصي الرب على لسان إشعياء بخصوص العاقر التي لم تلد (أي النفس المتألِّمة). لا يستخدم التوبيخ والانتهار بل التشجيع، فيقول: "أيَّتها الذَلِيلَةُ المُضْطَرِبَةُ غَيْرُ المُتَعَزِّيَةِ، هَأنَذَا ابني بِالإثمدِ حِجَارتك، وَبِإلىَاقُوتِ الأَزْرَقِ أُؤَسِّسُكِ..."، "لاَ تَخَافِي لأَنَّكِ لاَ تَخْزِينَ وَلاَ تَخْجَلِي لأَنَّكِ لاَ تَسْتَحِينَ. فإنكِ تَنْسِينَ خِزْيَ صَبَاكِ، وَعَارُ تَرَمُّلِكِ لاَ تَذْكُرِينَهُ بَعْدُ. لأن بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ رَبُّ الجُنُودِ اسمهُ" (إش 54: 11، 4).
أما الأغنياء فليبث الراعي (أو المؤمن) فيهم روح الخوف من الزهو والكبرياء، لأن اللين الزائد معهم يزيدهم كبرياء، ويفقدهم حياتهم الحقيقيَّة. لهذا نجد ربنا يسوع يُوَبِّخ الأغنياء (المتَّكلين على غناهم) "ويل لكم أيُّها الأغنياء. لأنكم قد نلتم عزاءكم" (لو 6: 24). والرسول بولس يرشد تيموثاوس تلميذه قائلًا: "أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ فِي الدَهْرِ الحَاضِرِ أن لاَ يَسْتَكْبِرُوا، وَلاَ يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينيَّة الغِنَى[5]، بَلْ عَلَى الله الحَيِّ الذي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتمتُّع..." (1 تي 6: 17). يقول له "أوصِ" وليس "ترجى أو التمس منهم". لكن أحيانًا توجد هناك حاجة إلى استخدام قيثارة داود الملطِّفة لنزع روح الشر من قلب شاول المتكبِّر. ليست قيثارة التملُّق والمداهنة، بل قيثارة ترنيم باسم الرب، قيثارة الحب والترفُّق مع الصلاة، حتى يعطيه الرب روح التواضع.
وقد استخدم ناثان نفس القيثارة مع داود عند سقوطه وهو غني، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. إذ خبَّأ الدواء المُرّ في ثوبه مُستخدِمًا اللطف في عرضه قضيَّة الشخص الذي اغتصب نعجة أخيه، وإذ أدرك داود خطأه أمكن لناثان أن يقدِّم له الدواء. هذا ما عاناه ابن سيراخ في العبارات التي بين أيدينا.
لا تُخاصِم بحدةٍ الثرثار،
ولا تجمع على ناره حطبًا [3].
من يدخل في خصومة مع شخصٍ ثرثارٍ يُغامِر بسمعته.
5 لاَ تُمَازِحِ النَّاقِصَ الأَدَبِ، لِئَلاَّ يُهِينَ أَسْلاَفَكَ. 6 لاَ تُعَيِّرِ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْخَطِيئَةِ، اُذْكُرْ أَنَّا بِأَجْمَعِنَا نَسْتَوْجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ.
لا تمازح إنسانًا غير مهذب،
لئلا يُهَان أسلافك [4].
يُحَذِّرنا من مجاراة المازحين، فالمزاح غير لائق، إذ يطرد مخافة الربّ من القلب، ويفسد وزنة تقديس الوقت. يرى القديس مار يعقوب السروجي أن الله خلق الفم واللسان للتدرُّب على التسبيح والشركة مع السمائيين في حياة الشكر. المزاح في نظره انحراف باللسان عن عمله المقدس لحساب ملكوت الله. يليق بالحكيم أن يتَّسِم بالوقار والجدية مع اللطف، وفي ملاطفته يكون وقورًا خائف الله.
لا تُهِن من ابتعد عن الخطية تائبًا،
واذكر أننا جميعًا مستحقون (العقاب بسبب خطايانا) [5].
جاء في المشناة Mishnah "إن تاب إنسان، لا يُقُال له: تذكَّر أفعالك الماضية"[6]. فإن تاب أحد عن خطية ما قد ارتكبها يلزمنا ألا نستخفّ به. يقول القديس أنبا موسى الأسود: "لا تكن قاسي القلب على أخيك، فإننا جميعًا قد تغلبنا الأفكار". لكن هذا يدفعنا بالأكثر نحو التوبة الجادة في الرب.
الذي يفهم ويتمسَّك بالتقوى يقول: "يا رب من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟ السالك بالكمال، والعامل بالحق، والمتكلم بالصدق في قلبه. الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شرًا بصاحبه، ولا يحمل تعييرًا على قريبه" (مز 15: 1-3). أما نحن فنعيِّر الذين يتوبون، والذين يهتدون، مع أن الكتاب المقدس يقول: لا تعيِّر من تاب عن الخطية (راجع سي 8: 5)[7].
v يوجد إنسان مملوء بالإيمان، يأتي مُتَّجِهًا نحو الجماعة متهمًا نفسه، يكشف لكل شخصٍ الخطية التي ارتكبها. ومع ذلك فإن أولئك الذين ليس فيهم خوف من دينونة الله العتيدة، إذ يسمعون كلماته، بدلًا من مشاركته آلامه، وعوض الاهتمام به يزعجونه، عوض السقوط مع الساقط، يقولون: ابعد عني ولا تقترب مني، فإني طاهر! ثم يبدأون يلعنون هذا الذي كانوا قبلًا معجبين به (إذ كانت خطيته مخفية)، ويسحبون صداقتهم معه.
إنه لم يرد أن يخفي جريمته. باقتناعٍ يقول عمن يعيرونه: "أصدقائي وأصحابي ابتعدوا عن وبائي، وأقربائي تركوني" (مز 38: 11) LXX... الذي بعد ما ارتكب خطية يرغب في خلاص نفسه، ولا يبالي بتوبيخات الذين لا يفكرون في خطاياهم والذين لا يذكرون كلمات الأسفار الإلهية: "لا تعيِّر التائب عن الخطية، واذكر أننا جميعًا مستوجبون العقوبة" (راجع سي 8: 5). لا تضطرب من أجل هذه الأمور، إنما اضطرب من أجل نفسك، وصلِّ إلى الله أن يسمع لك، ويرفعك بعد سقوطك حتى تستطيع القول بعد ذلك: "أعرف إثمي، وأحزن على خطيتي" (مز 38: 19) LXX[8].
7 لاَ تُهِنْ أَحَدًا فِي شَيْخُوخَتِهِ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَشِيخُونَ هُمْ مِنَّا. 8 لاَ تَشْمَتْ بِمَوْتِ أَحَدٍ، اُذْكُرْ أَنَّا بِأَجْمَعِنَا نَمُوتُ. 9 لاَ تَسْتَخِفَّ بِكَلاَمِ الْحُكَمَاءِ، بَلْ كُنْ لَهِجًا بِأَمْثَالِهِمْ. 10 فَإِنَّكَ مِنْهُمْ تَتَعَلَّمُ التَّأْدِيبَ، وَالْخِدْمَةَ لِلْعُظَمَاءِ. 11 لاَ تُهْمِلْ كَلاَمَ الشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ تَعَلَّمُوا مِنْ آبَائِهِمْ، 12 وَمِنْهُمْ تَتَعَلَّمُ الْحِكْمَةَ، وَأَنْ تَرُدَّ الْجَوَابَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ.
لا تُهِنْ إنسانًا في شيخوخته،
فإن أناسًا منا أيضًا سيشيخون [6].
المجتمع الذي يستخفّ بالشيوخ، إنما يستخفّ بمستقبله. يليق بنا أن ننتفع بخبرة من سبقونا في الحياة، فإن الجيل الجديد سينتفع بخبرتنا مع اعترافنا بأنهم سيكونون أكثر تقدُّمًا منا. علامة حيوية المجتمع هو التقدُّم المستمر. هذا التقدُّم يقوم على ما جاهد فيه السابقون لهم، ويتعلَّم الجيل الجديد أن ليس فقط مما بلغناه من تقدم، بل ومن أخطائنا. هكذا تبقى الأجيال في تقدمٍ دائٍم يعالج الأخطاء، لأنه لن يوجد إنسان كامل في كل شيءٍ. فالحاضر يُقَدِّم ما هو جديد للمستقبل دون تجاهل الماضي.
لنذكر ما قدَّمه الشيوخ في فترة شبابهم، ولا ننتقدهم بسبب ضعفهم الجسدي وضعف ذاكرتهم، وعجزهم عن ممارسة بعض العبادات، فإننا قد نشيخ يومًا مثلهم. ينصحنا الرسول بولس: "لا تزجر شيخًا بل عظه كأبٍ، والأحداث كإخوة" (1 تي 5: 1). وجاء في سفر اللاويين: "من أمام الأشيب تقوم وتحترم وجه الشيخ وتخشى إلهك، أنا الربّ" (لا 19: 32). يطالب ابن سيراخ الشيوخ بالعمل بما يناسب خبرتهم وقدرتهم الجسمية حتى النفس الأخير، فلا يسقطوا في الشعور بالقنوط بسبب البطالة.
لا تشمت بموت شخصٍ،
واذكر أننا حتمًا سنموت جميعًا [7].
بعد أن أوصانا باحترام الخاطئ التائب والشيخ العاجز عن العمل، دعانا لاحترام الميت وأسرته، فمن يشمت في ميتٍ يسقط في الدينونة، لأنه لا يعلم ما في قلب الميت قبل موته، ولا يدرك خطة الله من نحوه. بالموت ينضم الشخص إلى سالفيه، فلا يشمت الشخص في موت أخيه لأنه سيلتقي به في الحياة العتيدة. يرى سيراخ الموت هو اجتماع مع السالفين [7] (تك 25: 8؛ قض 2: 10).
v أمر واحد مستحيل بالنسبة للإنسان، وهو أن يهرب من الموت. أما إن كان للإنسان شركة مع الله، فهذا ممكن للإنسان إن عرف الطريق. فإن أراد، وعرف الطريق، يستطيع بالإيمان والحق أن يختبر الحياة الصالحة ويجتمع بالله[9].
v النفس التي تعرف حقيقة العالم ما هو، وترغب في أن تخلص، لها قانون صارم، وهو أن تفكر في كل ساعةٍ في داخلها، قائلة: "إنها ساعة يأتي فيها (الموت)، وتأتي الدينونة، حيث لا تقدرين (يا نفسي) أن تحتملي (نظرات) الديان، وها أنتِ أوشكتِ على الهلاك". بهذا التفكير تحفظ النفس ذاتها من الملذَّات المعيبة[10].
ما هو مائت ثانوي بالنسبة لغير المائت، ويخدمه، بمعنى أن المادة (الجسد المادي) يخدم الإنسان وذلك بفضل تحنُّن الله الخالق وصلاح جوهره (إذ أعطى أن يخدم الجسد النفس)[11].
لا تستخفّ بكلام الحكماء، بل الهج بأمثالهم.
فإنك منهم تتعلَّم التأديب، والخدمة لدى النبلاء [8].
المؤمن الحقيقي يُشبِه النحلة التي تجمع رحيق الزهور المتنوعة، وتُقَدِّمه عسل نحلٍ حلو ونافع للآخرين. يقول سليمان الحكيم: "المساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجهلاء يُضر" (أم 13: 20). يعتز ابن سيراخ بالفُرَص التي قُدِّمَت له خلال أسفارٍ كثيرة، حيث خدم بعض العظماء، فلم يتشامخ بعمله هذا، وإنما كان يجمع الحكمة في أفكاره وفي ممارساته.
قصة لقاء السيد المسيح مع المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي (لو 7) تكشف عن وجود ولائم لدى وجهاء اليهود، حيث يدعون أحد المُعَلِّمين، ويُقِيمون له وليمة لا لمُجَرَّد تقديم مائدة للأكل، وإنما يفتح باب بيته فيدخل الراغبون في الاستمتاع بما يُنَاقَش فيه مع المُعَلِّم.
v يمكن للإنسان أن يقول عن غير الراغبين في تعلُّم ما هو نافع لهم وصالح، إنهم ليسوا في صحة سليمة. أما الذين تعلَّموا الحق ومع ذلك يغالطون فيه بوقاحة، هؤلاء يُقَال عنهم إن إحساسهم مقتول، وطبعهم صار حيوانيًا، وإنهم لا يعرفون الله، ولا استضاءت نفوسهم بالنور[12].
لا تتجاهل قول للشيوخ، فهم تعلَّموا من آبائهم،
ومنهم تقتني الفهم،
وتستطيع أن تجاوب في الوقت الملائم [9].
يُقَدِّر المجتمع اليهودي القديم الشيوخ ونظرتهم إلى الحياة خلال خبرتهم الطويلة ومعرفتهم للتسليم من الأجيال السابقة لهم (25: 4-6). الانفتاح على التعلُّم من الشيوخ والحكماء (لا 19: 32) يدفع الجيل الجديد إلى التقدُّم المستمر (أم 22: 29). فالاهتمام بالجلوس مع الشيوخ يُعَلِّم البشر ما التقطوه من الأجيال السابقة لهم. وكأن الجلوس مع شيخ حكيم يزيد عمره الكثير، بتمتُّعه بخبرات السابقين في فترات قصيرة للغاية. هذا هو ما يُدعَى تسليمًا أو تقليدًا، حيث نتسلَّم منهم ما استلموه من الأجيال السابقة، خاصة الإيمان الحيّ والتدبير القويم. بهذا يعرف الإنسان بماذا يجاوب على الأسئلة التي تدور في ذهنه أو التي يعرضها عليه من هم حوله.
القدرة على الإجابة الصحيحة اللائقة هي نتاج الإنصات إلى التسليم من الشيوخ (أم 22: 21).
v يطلب الرب منا (كمؤمنين) ما لا يطلبه من كل أحدٍ. فجماعة البشرية تعيش حسب العادات التي تتسلَّمها، أما قانون المسيحي في الحياة فهو وصية الرب، والاقتداء بالقديسين القدامى الذين كانت عظمة نفوسهم مُعلَنة فوق كل محنة!
في النهاية يليق بك أن تترك مثالًا للآتين بعدك للثبات (الجَلَد) والثقة الصادقة فيما تترجَّاه، مُظهِرًا أن حزنك لن يقهرك، بل تسمو فوق أحزانك، وتصبر في الآلام، وتبتهج في رجاءٍ[13].
13 لاَ تُوقِدْ جَمْرَ الْخَاطِئِ، لِئَلاَّ تَحْتَرِقَ بِنَارِ لَهِيبِهِ. 14 لاَ تَنْتَصِبْ فِي وَجْهِ الشَّاتِمِ، لِئَلاَّ يَتَرَصَّدَ لِفَمِكَ فِي الْكَمِينِ. 15 لاَ تُقْرِضْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ، فَإِنْ أَقْرَضْتَهُ شَيْئًا، فَاحْسَبْ أَنَّكَ قَدْ أَضَعْتَهُ. 16 لاَ تَكْفُلْ مَا هُوَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَإِنْ كَفَلْتَ، فَاهْتَمِّ اهْتِمَامَ مَنْ يَفِي. 17 لاَ تُحَاكِمِ الْقَاضِي، لأَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحَسَبِ رَأْيِهِ. 18 لاَ تَسِرْ فِي الطَّرِيقِ مَعَ الْمُتَقَحِّمِ، لِئَلاَّ يَجْلُبَ عَلَيْكَ وَبَالًا، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَتَهْلِكُ أَنْتَ بِجَهْلِهِ. 19 لاَ تُشَاجِرِ الْغَضُوبَ، وَلاَ تَسِرْ مَعَهُ فِي الْخَلاَءِ، فَإِنَّ الدَّمَ عِنْدَهُ كَلاَ شَيْءٍ، فَيَصْرَعُكَ حَيْثُ لاَ نَاصِرَ لَكَ. 20 لاَ تُشَاوِرِ الأَحْمَقَ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ كِتْمَانَ الْكَلاَمِ. 21 لاَ تُبَاشِرْ أَمْرًا سِرِّيًّا أَمَامَ الأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مَا سَيَبْدُو مِنْهُ. 22 لاَ تَكْشِفْ مَا فِي قَلْبِكَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، فَعَسَاهُ لاَ يَجْزِيكَ شُكْرًا.
لا توقد جمر الخاطئ،
فقد تحترق بنار لهيبه [10].
يليق بنا التعامل مع الخاطئ بحكمةٍ وحب، حتى لا نشعل جمره أكثر، فنُصَاب نحن بنار لهيبه. من يشعل أهواءه وانفعالاته يحصد ثمار غاية في الخطورة (أم 26: 21).
لا تقف في وجه متغطرسٍ فإنه يثيرك،
لئلا يكمن منتظرًا أن يجعل من كلامك كمينًا ضدك [11].
يشير إلى عدم التحدُّث مع المتغطرس، لئلا يثيرنا نحو الغضب فنخطئ في غضبنا، فيجد فرصة أن يتصيَّد زلات لساننا.
v ما حاجتك أن تصرخ قبل الحكم؟ جيد أن تلتزم بالصمت ما دام الديان منتظر؛ حسن ألاَّ ترد الشتيمة بالشتيمة، لئلا نُحسَب نحن أيضًا بين المستخفّين بالغير.
هكذا يليق بنا أن نمتثَّل بذاك الإنسان (أيوب) الذي دحض المُهاجِمين له بصمته. بالحق أعلن عن قوة روحه، إذ لم تؤثر الشتائم فيه، وأوضح براءة ضميره، لأنه لم يُبالِ بالاتهامات الموجَّهة ضده، إنما ضحك عليهم كما لو كانت غريبة عنه.
بالحقيقة، متى وُجِّهت ضدنا تعييرات، ونرغب في تبرير أنفسنا، نغتاظ ونريد النقمة، بهذا نُقَدِّم تأكيدًا (للاتهامات)، إذ يقول الكتاب: "لنبتعد عن الشتيمة، خذ ثوبك بعيدًا، لأن إنسانًا مؤذيًا عابر". وهكذا تلتزم بالصمت حتى يعبر ولا يثور فيحرق ثوبك، إذ مكتوب: "لا توقد جمر الخاطئ، فقد تحترق بنار لهيبه" [10]. لهذا القديس يصمت حتى إن إساء إليه خادم؛ والبار يصمت إن سبّه فقير؛ والبار يضحك إن صبّ خاطئ تعييراته؛ والرجل البار يبارك إن لعنه شخص ضعيف.
التزم داود بالصمت عندما لعنه شمعي بن جيرا (2 مل 16: 5-14). وأيوب ضحك (أي 19: 7) LXX، وبولس بارك، إذ قال: "نُشتم فنبارك" (1 كو 4: 12)[14].
الكفالة ومسئولية الإشبين
لا تقرض من هو أقوى منك،
فإن أقرضته شيئًا، احسب أنك قد فقدته [12].
جيد أن نسند إخوتنا بالعطاء بسخاء، وفي نفس الوقت بحكمة لئلا نعطي فرصة لمن هو ليس في احتياج أن يقترض منا ولا يرد القرض. بهذا نكون قد أخطأنا في حقه، إذ نفتح له باب الطمع واستغلال الغير، وفي حق أنفسنا إذ نُحسَب غير أمناء فيما قدَّمه الله لنا.
لا تكفل ما هو فوق طاقتك،
فإن كفلت، فاهتمّ كمن يلتزم أن يفي [13].
كانت الكفالة عادة منتشرة في إسرائيل، كما كانت الأمثال تُحَذِّر من ممارستها باستهتار أو بما يفوق قدرتنا. مع التزام المؤمن بالحُبّ للجميع، غير أن ممارسة الحب تتطلَّب التعقُّل والسلوك بحكمة. هنا يحذرنا من أمرين بخصوص الكفالة:
أولًا: لا يُقرض الإنسان من هو أقوى منه [12]، أي من هو في مستوى اجتماعي أعلى منه. حقًا يُطالِبنا الله بالعطاء للأرامل والأيتام ومن هم في ضيقة عن احتياج، لكن من يعطي من ليس في احتياج وصاحب سلطان كنوعٍ من الظهور بالغِنَى، يتوقَّع أنه قد لا يرد له الدين، فيكون غير أمينٍ في تدبير المال الذي وهبه إياه الربّ. بينما كان المحتاجون أَوْلَى بهذا المال.
ثانيًا: لا يكفل أحدًا بما ليس في مقدرته ككفيل أن يرده للدائن.
v أيها الأحباء الأعزاء ضعوا في اعتباركم أولئك الذين يُقَدِّمون أنفسهم كفلاء لأحدٍ بخصوص مالٍ (أو قرض) كيف يُعَرِّضون أنفسهم إلى خطرٍ عظيم... حقًا إن كان الشخص الذي استلم القرض أظهر أنه خيِّر، يرد ما اقترضه لمن ضمَّنه. لكن إن تحوَّل إلى شخصٍ شريرٍ، يُسَبِّب كارثة لمن قام بالكفالة. لهذا يُحَذِّرنا الحكيم: "إن كفلت فاهتم اهتمام من يفي" (راجع سي 8: 13).
إن كان هذا هو الأمر بالنسبة للكفيل الخاص بالمال، ويلتزم أن يكون مسئولًا عن كل شيءٍ، كم بالأكثر الذين يقومون بالكفالة بخصوص الأمور الروحية، وفي أمر الفضيلة، إذ يلتزم بأن يُظهر يقظة وسهرًا عظيمًا، بالحث وإعلان حنوٍ أبويٍ. يليق (بالأشابين) ألاَّ يأخذوا الأمر باستخفافٍ، فإنكم تكونون في خطرٍ.
ستكون الفائدة مشتركة إن قدَّموا نصحًا شخصيًا ليقودوا الشخص في طريق الفضيلة، بينما تكون دينونتهم خطيرة إن أهملوا ذلك. لهذا جرت العادة أن يُدعَى هؤلاء (الأشابين) بالآباء الروحيين[15].
لا تُقم دعوى ضد قاضٍ،
لأنه يُحكَم له بسبب مقامه [14].
لا يعني ذلك التهاون في مطالبة حتى رجال القضاء بحقوقنا، لكن يلزم استخدام القنوات الشرعية مع التروي والتعقل. يليق بالمؤمن أن يدرك أنه يستحيل أن يكسب قضية يرفعها ضد قاضٍ.
لا تسافر في رحلةٍ مع متهورٍ، لئلا بثقله يهوي بك إلى أسفل.
فإنه يسعى في هوى نفسه، فتهلك معه بجهالته [15].
يلزم عدم مصاحبة متهورٍ في رحلاته، لئلا يدفعنا إلى المغامرة بدون دراسة مما يُسَبِّب لنا متاعب.
لا تُحارِب الغاضب، ولا تسر معه في القفر،
فإن سفك الدم عنده كلا شيءٍ،
وحيث لا يوجد معين لك، هناك يصرعك [16].
لنحذر من الإنسان المملوء بالكراهية والحنق، فهو مندفع حتى سفك الدم. بل يليق بنا أن نقف بعيدًا عن الإنسان المُستسلِم للغضب.
لا تشاور الأحمق، فإنه لا يستطيع كتمان السرّ [17].
يليق بنا ألاَّ نشترك في أفكارنا مع من لا يستحقّون الثقة فيهم [17-19]. لئلا في إساءة البساطة نطلب مشورة من شخصٍ أحمق لا يحفظ السرّ. كما لا يجوز كشف أسرارنا لكل واحدٍ، لذا تطلب الكنيسة أن يكون الشخص صريحًا مع أب اعترافه، الذي ليس من حقه أن يفشي أسرار المُعترِف لأي شخص مهما كان مركزه العالمي أو الكنسي، لا صراحةً ولا بالتلميح.
لا تُمارِس أمام الغريب أمرًا سريًا،
فإنك لا تعلم ما سيبدو منه [18].
من الحكمة ألاَّ ننطق بأمورٍ سرية أمام شخصٍ غريب لا نعرف مدى حفظه للسرّ.
لا تكشف قلبك لكل إنسانٍ،
فعساه لا يُظهِر لك قسوة[16] [19].
من الحكمة ألاَّ نكشف ما في قلبنا لإنسانٍ لا نعرف طبعه، فقد ينقلب إلى عدوٍ شرسٍ.
v إلهي ومُخَلِّصي وقائدي، الحبيب إلى نفسي،
محتاج إلى حضورك الإلهي لأسلك بروح الحكمة.
تُقَدِّس فكري وقلبي وفمي وكل كياني،
فأُدرك كيف أتعامل مع كل شخصٍ بالحُبّ مع الحكمة،
باللطف والحنو بلا تسيّب، فلا يهلك أحد،
بل يراك الكل متجلّيًا في كل تصرفاتي.
v لا أخشى إنسانًا مقتدرًا صاحب سلطان، بل في غير محاباةٍ أحبه، وأطلب خلاص نفسه.
وبحكمةٍ لا أدخل في نزاع معه،
حتى لا أُفسد وقتي، وأُحَطِّم نقاوة قلبي وفكري.
يراك سرّ قوتي وسلطاني!
بل أسحق إبليس تحت قدميّ بروح الشجاعة مع التواضع.
يراني مختفيَا فيك، فلا يجسر أن يقترب منّي.
v بروح الحنو أقترب من الغني، غير مشتهٍ لشيءٍ مما لديه، فأنت غناي، وثروتي الأبدية.
يتلامس الغني مع سلامي الداخلي وفرحي الدائم،
فيشعر بحاجته إليك يا واهب غِنَى الروح والنفس والجسد!
يُدرِك زوال السماء والأرض الأولى،
ويترقَّب التمتُّع بالسماء الجديدة والأرض الجديدة.
يصغر العالم كله في عينيه،
ويسألك سرعة مجيئك ليغتني بأمجادك السماوية.
v أتطلع إلى الإنسان الثرثار، فأسألك أن تضع حافظًا لفمي، وبابا حصينًا لشفتي.
من هو الحارس إلا روحك القدوس،
الذي لن يسمح لكلمةٍ باطلةٍ لا نفع منها تخرج من فمي.
ومن هو الذي يُقدِّس شفتيّ
ويُعَلِّمني متى أصمت ومتى أتكلم، وبماذا أنطق.
v مَرِّر كلمات المزاح المتسيب، فلا أستطْيب لها،
بل أستعذب وصيتك التي تهبني عزاءً وفرحًا.
v انزع عن فكري خطايا الإنسان التائب، فلا أَتذكَّر ضعفاته،
بل أراه مرتديًا ثياب برِّك يا إلهي.
أراه يسبق الكثيرين مُسرِعًا نحو المجد الأبدي.
لا أستخفّ بتوبته، بل أطلب خلاص نفسي وخلاص كل إخوتي.
v إن رأيت شيخًا عاجزًا عن الوقوف للصلاة، أو ممارسة الصوم وعمل المطانيات،
أذكر أن الشيخوخة ليست ببعيدة عنّي،
والمرض قد يصيبني في لحظات.
أدرك ضعفي وأصلي لأجل الشيخ والمريض،
طالبًا النمو لكل بني البشر.
v إن اشتركت في الصلاة على أحد الراقدين،
أشتهي أن تحل ساعة خروجي من العالم.
لا أذكر خطاياه، بل أُطوِّبه لأنه مُنطلِق إليك،
يشترك مع السمائيين ومع أحبائنا الراقدين في خورُس سماوي رائع.
v أما مع الحكماء والخدام الباذلين، فأحسب اللقاء معهم هبة من عندك.
أحسب نفسي نحلة صغيرة تجمع الرحيق من كل زهرةٍ،
أُقَدِّمه عسلًا حلوًا ونافعًا لكثيرين، لا فضل لي فيه.
v إن التقيت مع إنسانٍ ثائرٍ لا أنتقده، لئلا يلتهب بالأكثر غضبه،
فأحترق معه بنار لهيبه.
وإن التقيت بإنسانٍ متغطرس، أتذكر ضعفاتي القديمة،
فألتزم بالصمت مع الصلاة بحرارة من أجله.
v لا أقرض إنسانًا غير محتاج وهو أقوى منّي.
فما وهبتني إيَّاه هو أمانة للمحتاجين المساكين.
v امسك بيديّ وقُدْنِي، لأسلك فيك،
فأُكمِّل كل أيام غربتي في فرحٍ وسلامٍ.
_____
[1] راجع للكاتب "الحب الرعوي" 2005، الباب الثاني، ص 212 إلخ.
[2] توجيهات إلى أناتوليس Anatolius عن "الحياة العاملة".
[3] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 91.
[4] Homily 19:3, (On Ps 48 LXX). Unto the End, A Psalm for the Sons of Core on the Prosperity of the Wicked.
[5] "غير يقينية الغنى" تعني أنه غني غير ثابت وغير أكيد (the uncertainty of their riches).
[6] Baba Metzia 4: 5.
[7] On Jeremiah, Homily 16: 6: 2.
[8] Homilies on the Psalms (Psalm 37), Homily 2: 1.
[9] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 127.
[10] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 136.
[11] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 138.
[12] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 46.
[13] Letter 206 to Elipidius the bishop. Consolatory.
[14] Seven Exegetical Works, Catholic, Vol. 65 2: 5-6.
[15] Baptismal Instructions 2: 15-16.
[16] بحسب NRSV لئلا تفقد سعادتك.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 9 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 7 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rgfnva2