← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36
الأصحاح الرابع
بعد أن تحدَّث عن المخافة الإلهية كبدء الحكمة في علاقتنا بالله أبينا السماوي في الأصحاحين الأول والثاني، ثم تكريمنا للوالدين في حياتنا الأسرية المحدودة في الأصحاح الثالث، الآن في هذا الأصحاح يتحدَّث عن دورنا في المجتمع البشري بكونه الأسرة البشرية الجامعة. هذه الأسرة التي لا تقوم على رابطة الدم المحدودة، إنما على التمتُّع معًا بالشركة بالله القدوس. هذه القدسية مصدرها نعمة الله؛ وأبعادها أنها تضمّ البشرية كلها بغير محاباة لصاحب سلطان أو غني أو قريبٍ بالجسد. يشعر المؤمن الحقيقي أنه ابن العلي، يليق به أن يحمل سمات أبيه القدوس الرحيم السماوي.
في الأسرة الجامعة المقدسة نلتقي بعينات كثيرة، وبحكمةٍ ندرك مسئولياتنا نحو كل شخصٍ حسبما يليق به. يذكر ابن سيراخ عينات ممن نلتقي بهم:
الفقير أو المُعدَم، المحتاج إلى لقمة العيش [1].
المسكين المحتاج إلى نظرات ترد له الرجاء [1].
الجائع المحتاج إلى طعام [2].
اليائس المحتاج إلى من يرفعه بروح الرجاء [2].
المتضايق الذي يلزمنا ألا نتخلَّى عنه [3].
مرّ النفس الذي يجب ألا نتجاهله في ضيقه [4].
الإنسان صاحب السلطان الذي نخضع له [7].
المظلوم الذي لا نتركه، بل نقف بجانبه [9].
عدم المحاباة لإنسانٍ في القضاء [9].
ليكن الإنسان في منزلة الأب لليتيم والمساند للأرملة، بهذا نعلن بالحق أننا أبناء العليّ [10].
بهذا فإن الحكمة وهي تربط المؤمن بالله واهب الحكمة، تربطه بأسرته الجامعة بروح الحب والتواضع والتقدير، تربطه بكل فئات المجتمع، فلا يتجاهل احتياجات المحرومين، كما يخضع للسلاطين من أجل الربّ. بهذا لا يعزل الإنسان نفسه عن المجتمع السماوي والأرضي، حتى وإن عاش في حياة الوحدة. فقد عاش إيليا النبي لا مسكن له، لكنه لم يعزل نفسه عن إخوته، ولا تجاهل خلاصهم واحتياجاتهم.
هنا يواجه ابن سيراخ بعض الفلاسفة الذين اعتزلوا المجتمع بروح التشامخ، واستخفُّوا بعقول الآخرين. بمعنى آخر يليق بالمؤمن الحكيم ألاَّ يعزل عقله عن عقول إخوته، ولا قلبه عن قلوبهم.
المؤمن الحكيم لا يتجاهل الأجيال السابقة ويجاهد من أجل الأجيال المُقبِلَة. فهو يُقَدِّر ما تسلَّمه من الأجيال القديمة من بركات، ويعمل ويتقدَّم ليساهم فيما ستتمتع به الأجيال القادمة.
بالحكمة لا يقسي المؤمن قلبه، فيدين الفقير والمتألم، وإنما يفتح قلبه له ويسنده ما استطاع.
[1 -10] (ت: 1-11) |
||||
[11 -19] (ت: 12-22) |
||||
[20 -31] (ت: 23-36) |
||||
* من وحي سيراخ 4: قُدني كابنٍ لك وسط إخوتي! |
1 يَا بُنَيَّ، لاَ تَحْرِمِ الْمِسْكِينَ مَا يَعِيشُ بِهِ، وَلاَ تُمَاطِلْ عَيْنَيِ الْمُعْوِزِ. 2 لاَ تَحْزُنِ النَّفْسَ الْجَائِعَةَ، وَلاَ تَغِظِ الرَّجُلَ فِي فَاقَتِهِ. 3 لاَ تَزِدِ الْقَلْبَ الْمَغِيظَ قَلَقًا، وَلاَ تُمَاطِلِ الْمُعْوِزَ بِعَطِيَّتِكَ. 4 لاَ تَأْبَ إِعْطَاءَ الْبَائِسِ سُؤْلَهُ، وَلاَ تُحَوِّلَ وَجْهَكَ عَنِ الْمِسْكِينِ. 5 لاَ تَصْرِفْ طَرْفَكَ عَنِ الْمُعْوِزِ، وَلاَ تَصْنَعْ شَيْئًا يَجْلُبُ عَلَيْكَ لَعْنَةَ الإِنْسَانِ. 6 فَإِنَّ مَنْ يَلْعَنُكَ بِمَرَارَةِ نَفْسِهِ، يَسْتَجِيبُ صَانِعُهُ دُعَاءَهُ. 7 كُنْ مُتَوَدِّدًا إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَاخْفِضْ رَأْسَكَ لِذِي الْوَجَاهَةِ. 8 أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى الْمِسْكِينِ، وَأَجِبْهُ بِرِفْقٍ وَوَدَاعَةٍ. 9 أَنْقِذِ الْمَظْلُومَ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، وَلاَ تَكُنْ صَغِيرَ النَّفْسِ فِي الْقَضَاءِ. 10 كُنْ أَبًا لِلْيَتَامَى، وَبِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لأُمِّهِمْ؛ 11 فَتَكُونَ كَابْنِ الْعَلِيِّ، وَهُوَ يُحِبُّكَ أَكْثَرَ مِنْ أُمِّكَ.
"يا بُنيّ، لا تحرم الفقير من عيشه، ولا تُخَيِّب نظرات المسكين" [1]. جاء في الديداكية أو تعليم الرب للأمم بواسطة الاثني عشر رسولًا (4: 5- 8) [لا تبسط يديك للأخذ، وتطبقهما عند العطاء (سي 4: 31). إن كنت تملك شيئًا من تعب يديك، فقدم عتقًا عن خطاياك (بالعطاء). لا تتردَّد في العطاء، وإذا أعطيت فلا تتذمر، فستعرف من هو المُجازِي خيرًا. لا تصرف محتاجًا، اقتسم كل شيءٍ مع أخيك (أع 4: 38). ولا تقل إن لك مالًا خاصًا بك. فإن كنتم تقتسمون الخيرات الخالدة فكم بالحري الفانيات؟ (رو 15: 27)].
1. تقديم العطاء للمعيشة وليس للترف والرفاهية [1].
2. إن عجز المؤمن عن العطاء المادي، لا يُلقي باللوم على الفقير ويُوَبِّخه [2].
3. لا يُقيَّم العطاء بالكم والمال، وإنما بممارسته بفرحٍ، كما لا يماطل المحتاج [3].
4. يركز أنظاره لا على ما سيعطيه، وإنما على قلب المحتاج، حتى يتمتَّع الاثنان بالخلاص [4].
5. يعطي الفقير احتياجه، ويقدم الكرامة لمن لهم الكرامة [7].
6. يعطي المحتاج كلمة عذبة ترفع نفسيته [8].
7. يسلك المؤمن بغير محاباة لغَنِي أو صاحب سلطان [9].
8. كابن العلي يفتح المؤمن قلبه للكل مُتشبِّهًا بأبيه السماوي [10].
يا بُنيّ، لا تحرم الفقير من عيشه،
ولا تُخَيِّب نظرات المسكين [1].
عندما نلتقي بإنسانٍ فقير نذكر أن الله وهبنا الخيرات كوديعة نردّها له، وكأبناءٍ له نتشبَّه به بالعطاء بسخاءٍ وندخل في صداقة معه ونلتصق به.
v ما الحاجة إلى ذكر فضائل هذه الصناعة ومآثرها؟ إنها تُعَلِّمك كيف تصير شبيهًا بالله، وهذا رأس كل الخيرات.
v الصدقة قويّة وذات سلطان حتى تحلّ القيود والأغلال، وتُبَدِّد الظلام، وتخمد سعير نار جهنّم، وتؤهِّل فاعليّتها للتشبُّه بالله، لقوله: "كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السماوات هو رحوم".
v تُصعِد الرحمة الإنسان إلى علوٍ شامخٍ، وتعطيه دالة بليغة عند الله.
فكما أن المَلِكَةَ متى أَرادتْ الدخول إلى موضع الملك، لا يجسر أحد من رجال البلاط أن يمنعها أو يسألها عن المكان الذي تريد الذهاب إليه، بل جميعهم يستقبلونها بابتهاجٍ، هكذا من يصنع الرحمة والصدقة يمتثل أمام عرش الملك بدون عائقٍ، لأن الإله يحب الرحمة حبًا شديدًا، وهي تبقى بالقُرْب منه، لذلك قال الكتاب: "قامت الملكة عن يمينك". وذلك لأن الرحمة مُفَضَّلة عند الإله، إذ جَعَلَته يصير إنسانًا لأجل خلاصنا.
v ليس شيء يجعلنا هكذا مقرَّبين من اللَّه وعلى شبهه مثل هذا العمل الحسن!
لا تُحزِنْ نفس الجائع،
ولا تُغضب الإنسان في يأسه [2].
كما يليق تقديم الطعام للإنسان الجائع جسديًا، يلزمنا أن نُقَدِّم الرجاء للإنسان الذي يُحَطِّمه اليأس. عوض توبيخه على نظرته السوداوية المملوءة باليأس القاتل، نسنده بروح الرجاء واهب الفرح وسط الضيقات. نشهد لحنو المُخَلِّص غافر الخطايا مهما كانت خطايانا.
v سؤال: هل يسقط في اليأس مِنْ خلاصه من أُصطيد في كثرة من الشرور، وأخطأ بعد عماده؟ أو ما هو المقياس الذي فيه لا يزال يستمر الإنسان في رجائه في محبة الله للبشر خلال التوبة؟
الإجابة: إن أمكنك أن تُعادِل بين حنو الله الفائق أو ثفل عظمة رحمة الله وبين عدد الخطايا وثقلها فلا يوجد موضع لليأس. أما إذا كان من المعقول أن الأخيرة تخضع للقياس والعدد، بينما استحالة قياس رحمة الله أو إحصاء حنوه، فلن يكون لليأس موضع قط. وإنما بمعرفة الرحمة وإدانة الخطايا، توجد مغفرة في دم المسيح كما هو مكتوب (مت 26: 28).
غير أنه توجد أماكن وطرق كثيرة خلالها نتعلَّم أنه يلزمنا ألا نيأس. تأملوا على وجه الخصوص مَثَل ربنا يسوع المسيح بخصوص الابن الذي أخذ ثروة أبيه وبَدَّدَها في الخطايا. فمن كلمات الرب نفسه نتعلَّم ما هو نوع الوليمة وعظمتها التي تليق بالتوبة (لو 15: 22-24).
أَضِف إلى ذلك قول الله بإشعياء: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش 1: 18). هذا يتحقَّق متى كانت توبتنا تستحق ذلك، إن صدرت عن كراهيتنا للخطية، كما هو مكتوب في العهدين القديم والجديد، وتحمل ثمارًا لائقة بها[1].
لا تزد القلب المغتاظ قلقًا،
ولا تؤجل عطيتك للمُعوز [3].
تأجيل العطاء لمن هو بالحقيقة في ضيقٍ، يثير القلق في نفسه، فنضيف إلى عوزه المادي حرمانه من السلام الداخلي.
لا تردّ المتوسّل في ضيقه،
ولا تصرف وجهك عن الفقير [4].
يتطلع المعوز لا إلى العطية التي تُقَدِّمها له فحسب، بل يتفرَّس في وجهك ليرى إن كان يراه أيقونة لله المعطي بسخاءٍ وسرورٍ.
v لا يكفي أن نُظهِر رحمة، وإنما يليق بنا أن نُقَدِّمها باتِّساع، بروح سمِحة، وليس فقط بروح سمِحة بل بروح فرحة مبتهجة... ركَّز (الرسول) على نفس النقطة بقوّة عندما كتب إلى أهل كورنثوس ليحثّهم على الاتساع، إذ يقول: "من يزرع بالشح، فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد" (2 كو 9: 6). ولكي يُصَحِّح مزاجهم يقول: "ليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ" (2 كو 9: 7)... فإنك إن حزنت وأنت تصنع رحمة، فأنت قاسي وعنيف.
إن كنت حزينًا كيف تقدر أن تسند من هم في حزنٍ؟...
هذا هو سبب قوله: "الراحم فبسرور"، لأنه كيف يكون حزين الملامح من يتقبَّل الملكوت؟!
من يبقى كئيب النظرة وهو ينال غفران خطاياه؟
إذن لا تُفَكِّر في إنفاقك المال (عمل الرحمة) بل في الفيض الذي تناله خلال الإنفاق. فإن كان الذي يبذر يفرح مع أنه يبذر وهو غير متأكد من جهة الحصاد، كم بالأكثر من يُفْلح السماوات؟ فإنك تعطي إنما القليل لتنال الكثير... بالفلسيْن حُسِبتْ الأرملة أنها فاقت من قدَّم وزنات كثيرة، وذلك بسبب روحها المتسع[2].
لا تُحوِّل نظرك عن المحتاج،
ولا تُعطِ للإنسان فرصة أن يلعنك [5].
يدعونا القديس مار يعقوب السروجي إلى استقبال السيد المسيح خلال لقائنا بالفقير والمعوز. ونحسب ما نُقَدِّمه من حبٍ واهتمامٍ، إنما نُقَدِّمه للسيد المسيح نفسه. إنها فرصة رائعة للتعبير عن تكريمنا للربّ نفسه.
v بأعمال البرّ هذه التي تعطيها له، يطلب منك أن تستقبله بسرورٍ.
إن كنت تعطيه كسرة الخبز، وكأس الماء، ليكن فكرك مبتهجًا وبحبٍ.
إنه ضعيف ومتعب ومتضايق ومعذب وقادم إليك، فأسكنه وأرحه، وقم اخدمه وأنت مسرور.
إنه معذب كثيرًا بالفقر ويحمل الأمراض، فاظهر له محبة عظمى لئلا يتضايق.
هل وقف كفقيرٍ على بابك؟ الله نفسه جاء عندك، فافتح له ببشاشةٍ حتى يدخل.
لو أنه دخل عندك بواسطة غني لكنتَ تخجل، فسوف لا تقدر على استقباله.
جاء وتفقدك بالتواضع والحقارة، وعندما تملأ بطنه خبزًا تجد الحياة.
أعطه مما هو ملكه، ولا تعطه مما هو ملكك، إذ ليس لك شيء لتقدمه له مما هو ملكك.
هو الذي جاء، وبواسطة الفقراء يطلب منك أن تتاجر بالملكوت في كل الأحوال.
أعطاك جسده، قدِّم له الخبز لأنه جائع، وتشرب دمه، خذ وقرِّب له شرابًا لأنه عطشان.
أعطاك أن تلبس الضياء والبهاء من الماء، فلا تمنع عنه الثياب الرثة والملابس الحقيرة.
كل ما تعطيه بواسطة الفقراء الذين يسألونك، فهو يكافئك بلباس النور في العالم الجديد[3].
فإن من يلعنك بمرارة نفسه،
يستجيب خالقه دعاءه [6].
قد يستخفّ الإنسان بالفقير خلال ملامح وجهه، أو طريقة اللقاء معه، وتئن نفس الفقير دون أن ينطق بكلمة، لكن خالقه يتطلَّع إلى مرارة نفسه في الداخل، ويتجاوب معها.
كن محبوبًا من الجماعة،
واخفض رأسك للإنسان العظيم [7].
إن كان الكتاب المقدس بعهديه يهتم بلقائنا مع الفقراء ومساندتهم ماديًا وروحيًا ونفسيًا، فمن جانب آخر يلزمنا أن نُقَدِّم الكرامة لمن له الكرامة. "فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رو 13: 7).
أمل أذنك إلى الفقير،
وأجبه كلام سلام بوداعة [8].
إذ تجسد كلمة الله وحلّ بيننا كواحدٍ منا، دعانا أن نتعلَّم منه، قائلًا: "تعلَّموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). يُقَدِّم لنا ابن سيراخ لمسات عملية لحياة الوداعة والتواضع ليعيشها المؤمن في أسرته الصغيرة كما في المجتمع بكونه الأسرة الكبرى.
أ. لا تقف الوداعة عند بعض كلمات أو تصرُّفات مُعيَّنة، بل يليق أن تمتزج وتتجلَّى في كل أعمال الإنسان [17].
ب. لا يسعى المؤمن نحو الكرامة الزمنية، إنما يليق به كلما نال كرامة أو سلطانًا أو نجاحًا في أعماله أن يزداد تواضعًا، حاسبًا ما يناله إنما هو عطايا مجّانية من الله، فيجد حظوة لدى الربّ، وكرامة حتى من البشر [18].
ج. يليق بالمؤمن ألا يرتئي فوق ما يرتئي (رو 12: 3)، بل يتعرَّف على حقيقة قدراته وإمكانياته. فلا يطلب ما يتعذَّر عليه، ولا يبحث في الأمور الخفيّة بحوارات نظرية جدلية غير نافعة [21-24]. عندما سُئِل البابا أثناسيوس من شخصٍ أن يريه إلهه ليؤمن به، أجابه: "أرني روحك، وأنا أريك إلهي!"
v لا تحط من لسانك... املأه بالبركة وتقديم الصدقة الكثيرة. فيمكنك أن تُقَدِّم صدقة حتى بالكلام. "فهكذا الكلام أفضل من العطية" (راجع سي 18:16). وأيضًا: "أمل إلى الفقير، وأجبه كلام سلام بوداعة" (راجع سي 4: 8)[4].
v ينصحنا الصوت الإلهي بلغة الأسفار المقدسة: "أكرم الرب من مالك" (أم 3: 9)... يقول الرب أن المالك هو أنت؛ ولكي لا تتكبَّر نفوسنا قال: "أوفِ دينك" (سي 4: 8 الفولجاتا)...
إن تكرَّس الإنسان يعطي (للفقراء) كما مما له، وإن لم يُكرِّس نفسه يُطلب منه أن يرد المال إلى مالكه الأصلي، كما لو كان الذي لديه ليس ملكًا له. لقد ثبت الله الشريعة بحقٍ، بالرغبة في العطاء إراديًّا، أو بالدفع عن ضرورة. يريد الله أن يقول: "أعطِ إن أردت ذلك، وإلا فإنك ترد للمالك الأصلي عند الرفض للعطاء"[5].
سلفيان كاهن مرسيليا
أنقذ المظلوم من يد الظالم،
ولا تكن جبانًا في القضاء لصالحه [9].
يليق بالمؤمن أن يدرك أن كل إمكانية لديه هي هبة من الله لحساب المجتمع ما استطاع، سواء كان مالًا أو مركزًا رئاسيًا أو سلطانًا أو قوة وصحة. تتحوَّل حياته كلها إلى آلات برّ لحساب ملكوت الله، فإن أُعطيت له فرصة لإنصاف المظلوم، ولكن في محاباته للظالم لسببٍ أو آخر لم ينصف المظلوم يُدَان على ذلك. لا يجوز له أن يحابي أحدًا بسبب قرابة دم أو بسبب مركزه الاجتماعي أو غناه أو جنسيته أو ديانته أو صداقته له، فالله محب لكل البشرية.
v يمكن القول لمن لديه سلطة: لماذا لا تعين الأرملة والأيتام عندما يحلّ بهم ظلم؟ هل أنت بلا قوة؟ أما تستطيع أن تسندهم؟ لقد أقمتك هكذا لهذا الهدف لا أن تخطئ، بل أن تمنع الظلم[6].
v يلزم أن تكون المحبة متساوية للجميع بغير محاباة... فإن من يسلكون هكذا لن تجد العلاقة الدموية مجالًا لتقديم حب أعظم بسبب الرباط الدموي كما في التعامل مع الأخ أو الابن أو الابنة حسب الجسد، فتقدم حبًا أعظم من أجل العلاقة الدموية عن المحبة للآخرين. من يتبع الطبيعة في هذه الأمور (أي محاباة الأقرباء) يقدم شهادة واضحة أنه لم ينسحب بعد من الطبيعة تمامًا، بل لا يزال خاضعًا لقانون الجسد[7].
v النزاعات غير اللائقة، والمحبة الخاصة متشابهان، كلاهما يجب إزالتهما من الدير. لأن العداوة تنشأ عن المشاحنات والصداقة الخاصة والانقسامات التي تنشأ عن الريبة والغيرة.
في كل مثالٍ فقدان المساواة (في التعامل) هو أصل وأساس كل حسدٍ وكراهية من جانب الذين يُستخف بهم. لهذا تقبلنا أمر الرب أن نتمثل بصلاحه الذي يشرق الشمس على الأبرار والأشرار (مت 5: 45). فإن كان يهب نصيبًا من النور بلا محاباة للجميع، هكذا يليق بأتباعه أن يبعثوا بأشعة الحب ببهاءٍ متساوٍ على الجميع تمامًا.
لكن إن كان "الله محبة" (1 يو 4:16) كما يقول يوحنا، فبالضرورة الشيطان هو الكراهية. وكما أن الذي له الحب له بالتبعية الله، هكذا من له البغضة يحتضن الشيطان داخله[8].
كن بمنزلة أبٍ لليتامى، وزوجٍ لأمهم،
فتكون كابن للعلي،
وهو يحبك أكثر من حبّ أمك لك [10].
ما يشغل قلب المؤمن لا كمية العطاء الذي يُقَدِّمه، وإنما في كل تصرُّفه يكون "كابن العليّ" يتمتع بشركة الطبيعة الإلهية (2 بط 1: 4).
v لنتطلَّع إلى الفقراء كمُحسِنين إلينا، قادرين أن يُقَدِّموا لنا مبدأً أساسيًّا لخلاصنا. ونعطي بسخاء وبروح الفرح دون أن نتلكَّأ في تقدمتنا، إنما نتحدث معهم بوقارٍ عظيمٍ، مُظهِرين وداعة عظيمة (سي 4: 10) حتى قبل تقديم عطيتكم، فترفعون روحه من الكآبة بسبب الاحتياج الشديد، وذلك بكلماتكم الرقيقة. يقول الكتاب: "الكلام أفضل من العطية" (راجع سي 18: 16). فالحديث يستطيع أن يرفع الروح، ويعطي راحة[9].
12 الْحِكْمَةُ تُنْشِئُ لَهَا بَنِينَ، وَالَّذِينَ يَلْتَمِسُونَهَا تَضُمُّهُمْ إِلَيْهَا. 13 مَنْ أَحَبَّهَا أَحَبَّ الْحَيَاةَ، وَالَّذِينَ يَبْتَكِرُونَ إِلَيْهَا يَمْتَلِئُونَ سُرُورًا. 14 مَنْ مَلَكَهَا يَرِثُ مَجْدًا، وَحَيْثُمَا دَخَلَتْ، فَهُنَاكَ بَرَكَةُ الرَّبِّ. 15 الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا يَخْدُمُونَ الْقُدُّوسَ، وَالَّذِينَ يُحِبُّونَهَا يُحِبُّهُمُ الرَّبُّ. 16 مَنْ سَمِعَ لَهَا يَحْكُمُ عَلَى الأُمَمِ، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهَا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. 17 إِذَا اسْتَسْلَمَ لَهَا يَرِثُهَا، وَأَعْقَابُهُ يَبْقَوْنَ عَلَى امْتِلاَكِهَا. 18 فَإِنَّهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ تَسْلُكُ مَعَهُ بِعِوَجٍ؛ 19 فَتُلْقِي عَلَيْهِ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ، وَتَمْتَحِنُهُ بِتَأْدِيبِهَا إِلَى أَنْ تَثِقَ بِنَفْسِهِ، وَتَخْتَبِرَهُ فِي أَحْكَامِهَا. 20 ثُمَّ تَعُودُ فَتُعَامِلُهُ بِاسْتِقَامَةٍ وَتَسُرُّهُ، 21 وَتَكَشِفُ لَهُ أَسْرَارَهَا، وَتَجْمَعُ فِيهِ كُنُوزًا مِنَ الْعِلْمِ وَفَهْمِ الْبِرِّ. 22 وَأَمَّا إِذَا ذَهَبَ فِي الضَّلاَلِ؛ فَهِيَ تَخْذُلُهُ وَتُسَلِّمُهُ إِلَى مَصْرَعِهِ.
تشخصن هذه القصيدة الحكمة (أي تنظر إليها كشخصٍ) فتحسبها كأمٍ والذين يطلبونها أبناءً لها. في البداية تسمح الحكمة لطالبها بالدخول في تجاربٍ حتى يتزكَّى، ويُعلِن عما إذا كان يختار الحكمة أم الجهالة. وإذ ينجح في التجربة، تُعلِن له الحكمة عن أسرارها، وكمُعَلِّمٍ إلهيٍ يقوم بالتعليم.
1. يبدأ المؤمن طريقه بالضيق في صحبة الله مُفرِّح القلوب وكاشف الأسرار الإلهية [17-18].
2. يحرص ألاَّ تفارقه الحكمة وهو في طريقه نحو الأبدية [19].
3. تُقَدِّم الحكمة في الطريق بركاتها، منها الآتي:
أ. الاعتزاز بالبنوة لله المجيدة [11].
ب. محبة طريق المحبة والتبكير فيه [12].
ج. تذوق عربون المجد الأبدي [13].
د. ينهل المؤمن من القدوس روح القداسة والحب [14].
ه. يشهد لله، فيدين الأمم [15].
و. ما يشغله اقتناء حكمة الله نفسه، فهو واهب العطايا، وفي نفس الوقت يُقَدِّم نفسه عطية [16].
الحكمة ترفع بنيها،
وتحتضن من يطلبها [11].
إذ يُطلَب من المؤمن أن يكون في منزلة الأب لليتيم والوليّ للأرملة [10]، ربما يشعر بالعجز عن تحقيق ذلك بكل قلبه، لذا يطلب أن تقطن الحكمة فيه، فيحمل روح الأمومة أو الأبوة الروحية، بها يشتاق مقتنيها أن يرفع الآخرين كأبناء له مع التجاوز عن السن. بقلبه يحتضن المؤمن كل إنسانٍ بالحكمة الساكنة فيه. يمكننا القول إن الحكمة الأم Mother Wisdom أبعد ما يكون عن أن تعتزل الآخرين، فمن يطلبها تحتضنه، وتهبه من سماتها، وبدوره يحتضن هو قلوب الآخرين.
الذين يطلبونها: التمتُّع بالحكمة الإلهية ليس أمرًا جامدًا، إنما تتطلب النمو فيها، لذا يلزم أن نطلبها [11]، ونُحِبّها ونُبَكِّر إليها [12]، ونملكها أي نعتزّ بها [13] ونخدمها [14] ونطيعها [15] ونلتفت إليها أو ننصرف إليها [15] ونثق فيها ونتكِّل عليها [16].
الحكمة التي يمدحها ابن سيراخ هي التي بحقٍ تستحق المديح، حكمة الله، أي المُخَلِّص، من يحبه يحب الحياة على مستوى أبدي. فالسيد المسيح هو حكمة الله وقوة الله (1 كو 1: 24). إنه يُعظِّم أبناءه المؤمنين به، فيكشف لهم بروحه القدوس عن الأسرار الإلهية، ويهبهم النمو الدائم في المعرفة، ويملأ حياتهم بفرح البشارة الإنجيلية. من يحب حكمة الله المتجسد، يحب الحياة، إذ يحفظ وصاياه، فينال الحياة الأبدية (يو 12: 50). أي يتمتَّع في العالم بعربون الحياة الأبدية، إذ يختبر حياة الفرح الداخلي الدائم. بهذا يتحقَّق فيه قول الحكمة: "طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهرًا كل يومٍ عند مصاريعي، حافظًا قوائم أبوابي، لأنه من يجدني يجد الحياة، وينال رضى من الرب" (أم 8: 34-35).
من أَحَبَّها يُحِبّ الحياة،
والذين يُبَكِّرون إليها، يمتلئون بهجة [12].
الحكمة تفتح القلب بالحب كما تفتح العقل للفهم المقدس، فتعكس على المؤمن روح البهجة. تدعو الحكمة الجميع لعلهم يقبلون الانتساب إليها، فيصيرون أبناء لها، يطلبونها فتضمهم إلى أحضانها الأبوية. في سفر الأمثال نرى الحكمة ترفع صوتها في كل موضعٍ، وتدعو الجميع (أم 5: 1-21).
v في الوضع الأول بينما تدعو الحكمة كل أحدٍ، فإنها تدعو البسطاء أن يفهموا بتعقُّلٍ، وغير المُتعلِّمين أن يستخدموا قلوبهم، حتى يمكن للقارئ الغيور واليقظ أن يُقِيم معاني الكلمات المتميزة والمختلفة. إنها تعلم بأن كل الأمور يجب أن تُمارَس وتُفهَم وتُمتدَح وتُدرَك حسب مناهجها وخططها (السليمة)[10].
من مَلَكَها يرث المجد،
والربّ يبارك أي موضع تدخله [13].
v يشهد بولس أنه مُرسَل ليُعلِن عن حكمة خفية لم يعرفها عظماء هذا العالم، ولذلك يُنعَتون بالغباء. حكمة الله مخفية، لأنها ليست في كلماتٍ بل في قوةٍ. يستحيل إبرازها بتعبيراتٍ بشرية، وإنما يُعتقَد بها بقوة الروح. سبق الله فرأى خطايا العالم المُقبِلة ولذلك شرع هذه الحكمة بطريقة مربكة للذين يريدون أن يحولوا حكمته إلى غباوتهم، وأيضًا لكي يمجدنا نحن الذين نؤمن به[11].
v يتمجَّد عمل الآب الذي يعم كل الوجود، ويعظم جدًا عندما يتقدَّم كل إنسانٍ ويبلغ أعلى قامات النمو خلال الشركة مع المسيح "الحكمة" و"المعرفة" و"القداسة".
يتحقَّق ذات الأمر عندما يتقدَّس الإنسان ويتطهر ويبلغ أعلى درجات الكمال خلال شركة الروح القدس، ومن ثم يصير أكثر استحقاقًا لنوال نعمة الحكمة والمعرفة، حتى تُزال عنه كل أدران الدنس والجهل، فيبلغ هذا التقدم بكمال وفي نقاوةٍ. بهذا تكون الحياة التي نالها من الله لائقة بالله، أي تكون طاهرة وكاملة. فيستحق المخلوق هذه الحياة (المقدسة) (التي على مثال الخالق)؛ لأن الإنسان التي يريدها له الخالق ينال منه القوة على الوجود أبديًا.
الذين يخدمونها يخدمون القدوس،
والذين يُحِبُّونها يُحِبُّهم الرب [14].
من يطيعها سيدين الأمم،
ومن انصرف إليها يسكن آمنًا [15].
الحكيم الذي يسلك بروح الحب والتواضع يتمتَّع بتمييزٍ حقيقيٍ، فيدرك سرّ سقوط الأمم وقيامها، فيعيش مطمئنًا. إنه يدرك كيف تنهار الإمبراطوريات العظيمة بسبب كبريائها، فيحرص على روح التواضع والتسليم في يد الربّ. سفر ابن سيراخ يتلامس مع التقليد اليهودي للنبوة الذي يعلن عما وراء الأحداث التاريخية. يلمس المؤمن أن الأحداث التاريخية لم تأتِ اعتباطًا، وإنما الله نفسه هو ضابط التاريخ بغاية تفوق الفكر البشري.
إن اتَّكل عليها يرثها،
وذريته تبقي على امتلاكها [16].
في البداية تسير معه في طرقٍ مزعجة،
فتجلب عليه الخوف والرعب،
تُعَذِّبه بتأديبها، إلى أن تثق بنفسه وتمتحنه بأحكامها [17].
الحكمة الإلهية هبة مجانية تُقَدِّمها نعمة الله للمؤمن، فتسمح للمؤمن أن يدخل في ضيقات حتى تتنقَّى نفسه، ويتعلَّم في طريق الألم في صحبة المصلوب، وبهذه الصحبة ينعم بالحياة المقامة في المسيح القائم من الأموات.
v "إن لم ترجعوا، يصقِّل سيفه".
قوله هذا إنما هو للتهديد، ليحثّ المتباطئين في التوبة على الرجوع conversion. إنه لا يُهَدِّد في الحال بالجراحات والضربات والموت، إنما يصقل أسلحة مع إعدادٍ معينٍ كما للانتقام.
يشير بهذا العمل إلى الهجوم كما في حربٍ. لذلك تشتاق إلى وقف حركة الله نحو الانتقام، يقول الكتاب المقدس إنه يصقل سيفه، يحني قوسه، ويجعله مستعدًا، وفيه يُعدّ آلة الموت (مز 7: 13). آلات الموت هي القوى التي تُحَطِّم أعداء الله.
"يجعل سهامه ملتهبة" (مز 7: 13). أوجد الخالق النار للمواد التي تحترق. بالتأكيد لم تُخلَق للفولاذ الذي لا ينصهر بالنار، إنما بالنسبة للخشب الذي يحترق، هكذا أيضًا أوجد الله السهام لأجل النفوس التي يمكن أن تلتهب...
هؤلاء إذن الذين قُبلوا مقدمًّا، وتمسَّكوا في داخلهم بالأسهم النارية التي لإبليس، هم الذين يقبلون سهام الله. لهذا السبب "يجعل سهامه ملتهبة".
الحب الشهواني يحرق النفس، وهكذا شهوة محبة المال، والسخط الناري، والأحزان التي تلهب النفس وتصهرها، والمخاوف الغريبة عن الله. من لا يُصب بسهام العدو، ويرتدي سلاح الله (أف 6: 11)، يبقى غير متأثِّر بالسهام الجالبة للموت[12].
ثم تعود إليه رأسًا وتُبهجه،
وتُعلِن له أسرارها [18].
تحدث ابن سيراخ عن الذين يريدون أن يقتنوا الحكمة أنهم يتعرَّضون أولًا إلى التمحيص والتهذيب، فإذا ما جازوا الامتحان بصبرٍ، تعود الحكمة إليهم وتهبهم نفسها وتصير لهم مُرشِدة، وتُقَدِّم لهم أسرارها، فيتمتعون بحياة الفرح الداخلي والسرور. يرى البعض في هذه الآية إشارة خفية إلى سقوط سليمان الحكيم غير أنه عاد وتاب عن خطاياه.
ثم تعود إليه رأسًا وتُبهِجه،
وتُعلِن له أسرارها [18].
وإن ضلّ تهجره، وتُسَلِّمه إلى هلاكه [19].
يرى البعض أن سليمان الحكيم يتحدَّث عن سقوطه على لسان الحكمة التي هجرته في سقوطه ثم عادت إليه عند توبته: "لأني دعوت فأبيتم، ومددت يدي وليس من يبالي. بل رفضتم كل مشورتي، ولم ترضوا توبيخي... إذا جاء خوفكم كعاصفة، وأتت بليتكم كالزوبعة، إذا جاءت عليكم شدة وضيق. حينئذ يدعونني فلا أستجيب، يبكرون إليّ فلا يجدونني. لأنهم أبغضوا العلم ولم يختاروا مخافة الرب. لم يرضوا مشورتي، رذلوا كل توبيخي. فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم، ويشبعون من مؤامراتهم. لأن ارتداد الحمقى يقتلهم، وراحة الجهال تبيدهم" (أم 1: 24-32).
23 يَا بُنَيَّ، احْرِصْ عَلَى الزَّمَانِ، وَاحْتَفِظْ مِنَ الشَّرِّ. 24 وَلاَ تَسْتَحِيِ فِي أَمَرِ نَفْسِكَ، 25 فَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ مَا يَجْلُبُ الْخَطِيئَةَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَجْدٌ وَنِعْمَةٌ. 26 لاَ تُحَابِ الْوُجُوهَ، فَذلِكَ ضَرَرٌ لِنَفْسِكَ. 27 وَلاَ تَسْتَحِيِ حَيَاءً بِهِ هَلاَكُكَ. 28 لاَ تَمْتَنِعْ مِنَ الْكَلاَمِ فِي وَقْتِ الْخَلاَصِ، وَلاَ تَكْتُمْ حِكْمَتَكَ إِذَا جَمُلَ إِبْدَاؤُهَا. 29 فَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْحِكْمَةُ بِالْكَلاَمِ، وَالتَّأْدِيبُ بِنُطْقِ اللِّسَانِ. 30 لاَ تُخَالِفِ الْحَقَّ، بَلِ اَسْتَحِي مِنْ جَهَالَتِكَ. 31 لاَ تَسْتَحِي أَنْ تَعْتَرِفَ بِخَطَايَاكَ، وَلاَ تُغَالِبْ مَجْرَى النَّهْرِ. 32 وَلاَ تَتَذَلَّلْ لِلْرَّجُلِ الأَحْمَقِ، وَلاَ تُحَابِ وَجْهَ الْمُقْتَدِرِ. 33 جَاهِدْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْمَوْتِ، وَالرَّبُّ الإِلهُ يُقَاتِلُ عَنْكَ. 34 لاَ تَكُنْ جَافِيًا فِي لِسَانِكَ، وَلاَ كَسِلًا مُتَوَانِيًا فِي أَعْمَالِكَ. 35 لاَ تَكُنْ كَأَسَدٍ فِي بَيْتِكَ، وَكَمَجْنُونٍ بَيْنَ أَهْلِكَ. 36 لاَ تَكُنْ يَدُكَ مَبْسُوطَةً لِلأَخْذِ، مَقْبُوضَةً عَنِ الْعَطَاءِ.
إذ يتحفَّظ المؤمن من الشرّ، يتجنَّب العار الذي ساد العالم الهيليني (سي 5: 13-6: 1؛ 31:16-42: 8). يُمَيِّز ابن سيراخ بين العار الذي يجلبه الشرّ، والعار بسبب الوداعة الذي يقود إلى الكرامة. فلا يليق بالحكيم أن يتوقَّف عن النطق بالحكمة في الوقت المناسب خشية العار المزيف.
راعِ الوقت المناسب، واحتفظْ من الشر،
ولا تجلب العار على نفسك [20].
يليق بالإنسان أن يراعي الوقت المناسب. الآن هي اللحظة التي تعيشها، وتعيها وتستطيع أن تأخذ القرار اللائق بك، وتنطلق لتحقيق القرار المصيري، أما اللحظة القادمة فهي ليست ملكًا لك، ولا تعلم هل ستكون في وعيك قادرًا على أخذ القرار السليم أم لا.
"لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا 3: 1). حياتنا بكل ظروفها وأوضاعها تسير حسب تدبير وخطة منظمة، فتتحقَّق مقاصد الله في الوقت المناسب. علينا أن نؤدي واجباتنا بأمانة في الوقت المناسب، وإن نتهيَّأ للمستقبل، لنرى خطة الله من جهتنا. خلق الله العالم من أجلنا بخطة رائعة، وفي الوقت المناسب أرسل الآباء والأنبياء وأعطانا الناموس، وفي الزمن المُحَدَّد تحقَّق الخلاص بالصليب، وبحكمة سماوية يهتم الله بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتك، حتى عدد شعر رأسك لا يفلت من رعايته.
بمعنى آخر تاريخ العالم كله وتاريخ حياتك أنت على وجه الخصوص بكل دقائقها هي حلقات من الأحداث التي يُنَسِّقها الله. عليك أن تعيش بروح الأمانة، تعمل بكل طاقاتك، وتحيا بفرحٍ وسرورٍ واثقًا في الله مُدَبِّر حياتك، فإنك بذاتك لا تقدر أن تفعل شيئًا مهما كانت رغبتك ومهما تكن إمكانياتك.
يقول العلامة أوريجينوس: ["لكل شيءٍ زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت". يوجد وقت لجمع اللآلئ الحسنة، ووقت آخر بعد جمعها لاكتشاف اللؤلؤة الكثيرة الثمن، حين يليق بالإنسان أن يذهب ليبيع كل ما يملك ليشتري تلك اللؤلؤة. لأنه كما أن إنسانًا يُريد أن يصير حكيمًا بكلمات الحق يلزمه أولًا أن يتعلَّم المبادئ ثم يعبر بعد ذلك خلال التعليم الابتدائي الذي يُقَدِّره كل التقدير لكن لا يظل قابعًا عند هذا الحد، إنما يُوَقِّره في مستهل الأمر ثم يطلب الكمال. إنه يقر بالجميل من نحو ما تلقنه في بادئ الأمر، لأنه أفاده كثيرًا! هكذا يُفهَم الناموس والأنبياء بإتقان كامل أنه تعليم ابتدائي لإدراك الإنجيل كاملًا وإدراك معنى كل كلمات المسيح وأعماله[13].]
إن كان الله كخالقٍ محب للبشر "صنع الكل حسنًا في وقته" (جا 3: 11)، وكل ما خلقه صالح وبتدبير حسن، إلاَّ أنه يرفعنا إلى ما فوق الزمن... خضع للزمن لكي يرفعنا نحن إلى ما فوق الزمن، فقد "جعل الأبدية في قلبهم، التي بدونها لا يُدرَك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" (جا 3: 11).
فمن الخجل ما يجلب الخطية،
ومنه ما هو مجد ونعمة [21].
يرافق القداسة الحياء المجيد، لا الخجل من الله المهلك [21]. لاحظ القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في إحدى عظاته أن الحاضرين أقل من المعتاد، وإذ عرف أن السبب وجود وليمة طعام قبل الاجتماع، علَّق القديس على كلمات ابن سيراخ: "فإن من المخجل ما يجلب الخطية، ومنه ما هو مجد ونعمة" (4: 21)، قائلًا: ليس من المخجل أن يشترك الإنسان في وليمة كلمة الله الروحية بعد اشتراكه في وليمة الطعام. فإن وليمة كلمة الله ليس لها زمن مُحَدَّد، يشترك فيها الإنسان سواء كان قد سبق فاشترك في الطعام أو كانت معدته فارغة. يقول الرسول بولس "أكرز بالكلمة، أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب" (2 تي 4: 2). هذا ويروي لنا لوقا البشير أن بولس إذ كان مزمعًا أن يمضي من ترواس في الغد أطال الكلام إلى نصف الليل، وكان أفتيخوس الشاب جالسًا في الطاقة متثقلًا بنومٍ عميقٍ، فسقط من الطبقة الثالثة (أع 20: 7-9). تساءل الذهبي الفم: [هل كان الزمن يُمَثِّل مشكلة بالنسبة له؟ هل أعاقه الزمن عن متابعة كرازته؟[14]]
v "قد جعلت وجهك صلبًا مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم" (حز 3: 8). كما أن الخجل جدير بالثناء عند مواجهة الشر؛ فإنه مُلام عند استخدامه فيما هو صالح. عندما يحمر الوجه خجلًا بسبب الشرّ، فهذا عمل الشخص الحكيم، أما احمرار الوجه خجلًا بسبب عمل الصلاح فهذا أمر فيه جهالة...
من يخجل تائبًا عن شر ارتكبه، يتمتَّع بحرية الحياة؛ ومن يخجل من صنعه الخير، يسقط من وضعه المستقيم (1 كو 10: 12)، ويميل نحو اللعنة. وكما يقول المُخَلِّص: "لأن من استحى بي وبكلامي، فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده" (لو 9: 26).
يحمل البعض ما هو صالح في أذهانهم، لكنهم إذ هم غير واثقين فيها لا يستطيعون الدفاع عن الحق. من لا يخاف ولا يخجل أن ينطق بما يفكر فيه باستقامة، يقدر أن يدافع عن الحق[15].
v الخجل الذي يجلب خطية هو خجل الإنسان من أن يغير مَيلَه للخطية خشية أن يُتَّهَم بأنه متقلِّب الرأي أو لئلا يُحكَم عليه بشهادة نفسه أنه مخطئ[16].
لا تظهر محاباة لأحد تضرّ به نفسك،
ولا تكريمًا للغير يؤدِّي إلى سقوطك [22].
في خدمة النفوس الساقطة يُطالِب القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن يلتزم خادم هذه النفوس أن ينحني ليمسك بيد الإنسان الساقط على الأرض ويرفعه. لكن يلزمه أولًا أن يُثَبِّت رجليه على الأرض كي يرفع أخاه من الأرض وهو في أمانٍ، ولا يسقط هو مع أخيه المُلقَى أرضًا.
لا تضنّ بكلمة في وقت الاحتياج إليها [23]. كثيرًا ما حذَّرنا ابن سيراخ من زلة اللسان، ومن خطية الثرثرة أو الكلام البطال، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. هذا يدفع البعض إلى محاولة التدرُّب على الصمت. هذا التدريب الذي يلتزم به الأتقياء، إن اُستخدم في وقتٍ غير مناسب يصير صمتًا شريرًا. فعندما يشعر المؤمن بضرورة التكلم في وقتٍ مناسبٍ من أجل بنيان أخيه، يلتزم أن يتكلم. كما يوجد كلام شرير، يوجد أيضًا صمت شرير؛ وكما يوجد صمت مقدس يوجد أيضًا كلام مقدس. عمل الحكمة أن تهب المؤمن روح التمييز، فيعرف متى يتكلم ومتى يصمت.
v أنت هو الكلمة التي تعطي كلمة للمتكلمين، بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك.
شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيما أشرق فيّ فأنظر إليك. فبنظري لك تستضيء النفس فتقتني الصلاح.
وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا، وإذا ما تفرَّست فيك، لبست النور لتنطق بكلام خبرك...
الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني. يا رب دَبِّر حياتي كإرادتك.
إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي (للكلام). اصمت في دهشة، وليس بطغيانٍ باطلٍ.
وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك.
عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهشٍ بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءًا بكل منفعة.
وإذا ما تحرَّكت النفس لتُمَجِّدك بمحبة... فبالحب أَتحرَّك، وأَتحرَّك لأُمَجَّدك. وفي دهشٍ أصمت ولا أهدأ من تمجيدك.
هب لي يا رب الدهش والكلمة فأغتني. وفي كل يومٍ أدهش، وفي كل يومٍ أَتحرَّك بالكلام!
v ضع يا رب حافظا لفمي، وبابا حصينا لشفتي" (مز 141: 3). لم يقل: "حاجزًا حصينًا، بل "بابًا حصينًا". فالباب يُفتَح كما أيضًا يًغلق. فإن كان هذا بابًا، فليفتح ويغلق. يفتح للاعتراف بالخطية، ويغلق للغفران عن الخطية. فإنه باب للحصانة لا للتدمير[17].
v في الصمت ترى عقلك، ولكن عندما تستخدم عقلك، فإنك تتكلم في داخل نفسك. لأنه أثناء الصمت يلد العقل الكلمة، وكلمة الشكر التي تُقَدَّم لله هي خلاص الإنسان[18].
في رسالة لمار فيلوكسينوس إلى الرهبان الآمديين، كتبها من منفاه، حثَّهم فيها على الجهاد من أجل الإيمان المستقيم، جاء فيها:
[الراهب الذي يسكت عن الإيمان مرائي لا يعرف الله...
الراهب الذي يكون مع كل أحد مثله (يتلوّن ويجاري كل واحدٍ) مرائي يلبس وجه شيطان.
الراهب الذي يلبس المسيح ويصمت عن الحق، فإن لباسه هو برص جيحزي.]
فالحكمة تُعرَف بكلمةٍ،
والتعليم بكلمة اللسان [24].
لا تعترض قول الحق، بل تخزى بسبب جهلك [25].
اللسان الصالح هو اللسان المقدس والذي تحت ضابط. الإنسان الحكيم لن يتنازل عن الحق، ولا يخشى أن يعترف بجهله [25] أو خطيته [26].
لا تستحِ أن تعترف بخطاياك،
ولا تقف أمام مجرى النهر [26].
الحق يشبه مجرى غير متوقِّف [25-26]، فلا يتستر الإنسان على خطاياه. الاعتراف بالخطأ لا يُسَبِّب خزيًا، بل تجاهله في غباوة هو الخزي الحقيقي.
v وقعت القرعة على (يونان)، وصار خاضعًا للاتهام على أساس الحقيقة. ربما كان خائفًا، لكن بالحقيقة صار الاتهام واضحًا (وأكيدًا) باعترافه. لذلك فإن المشورة الحكيمة للذين يرغبون في حفظها هي: "لا تستحِ أن تعترف بخطاياك" (سي 4: 26)[19].
v من الضروري أن نعترف بخطايانا للذين أُعطِي لهم تدبير أسرار الله. الذين أظهروا ندامة في القديم قدَّموها أمام القديسين. جاء في الإنجيل أنهم اعترفوا بخطاياهم ليوحنا المعمدان (مت 3: 6)، وفي سفر الأعمال اعترفوا للرسل الذين اعتمدوا بواسطتهم أيضًا (أع 19: 18)[20].
v حين تنشغل بخطيةٍ ما، كن مُتَّهِمًا لنفسك (أم 18: 17)، ولا تنتظر الآخرين أن يُقَدِّموا الاتهام. بهذا تصير أشبه بإنسانٍ بارٍ يتَّهِم نفسه في أول حديث له في المحكمة، أو تكون كأيوب الذي لم يَعُقه جمهور الشعب في المدينة عن الإعلان عن جريمته أمام الكل[21].
v اعترفوا للرب بالعود، بربابةٍ ذات عشرة أوتار، رَنِّموا له" (مز 33: 3)
نبدأ بالاعتراف للرب بربابة، أي بتنظيم تصرفاتنا الجسدية، فإن كنا قد أخطأنا بجسدنا، عندما قَدَّمنا أعضاءنا أداة للخطية لنفعل الشر، ينبغي أن يعترف جسدنا بالخطأ باستعمال نفس الأداة لمحو الخطية (رو 6: 19)
هل شتمت أحدًا؟ تكلم عنه خيرًا!
هل أَسأت استخدام سلطانك؟ رُد ما أخذت!
هل أرضيت شهوة بطنك؟ صُم!
هل تكبرت؟ تواضع!
هل رفضت أن تأخذ من أجل كرامتك؟ اسأل!
هل قتلت؟ احتمل آلام الاستشهاد أو ما يُعادِلها.
اكسر جسدك بالاعتراف العلني. بعد هذا الاعتراف العلني، تستحق أن تحمد الرب بربابة ذات عشرة أوتار.
ينبغي أولًا أن تُعالِج خطايا جسدك حتى تسير في تناسقٍ وتناغمٍ نحو الكمال من خلال كلمة الله، وترتفع إلى أن تُعايِن الخيرات الروحية. فالنفس التي تبحث عن الخيرات السماوية تُدعَى ربابة، ولها شكل الربابة حيث تصدر الأنغام عن جزئها العلوي، وأعمال الجسد تعترف لله من أسفل، ولكن الأسرار التي تُكشَف للمعرفة فتأتي من فوق وفي النفس صدى الروح.
الذي يعمل بكل الوصايا يُكَوِّن منها سيمفونية جميلة. فهو يُغَنِّي لله على ربابة ذات عشرة أوتار، إشارة إلى الوصايا العشرة المكتوبة في الشريعة[22].
v سؤال: ماذا إن قال (الشخص): "إن ضميري لا يدينني"؟
الإجابة: يَحْدُث نفس الأمر أيضًا بالنسبة للأمراض الجسدية. إذ توجد أمراض كثيرة لا يُدرِكها من يُصَاب بها. ومع ذلك يثقون في تشخيص الطبيب أكثر من عدم شعورهم الشخصي بالمرض. هكذا أيضًا بالنسبة لأمراض النفس، أي الخطايا. إن كان أحد غير مُدرِكٍ لخطيته، فلا يدين نفسه، إلا أنه يجب أن يثق في هؤلاء الذين يستطيعون أن يروا حالته بأكثر وضوحٍ. هذا يُوَضِّحه الرسل القديسون الذين مع اقتناعهم بنزعتهم الصادقة نحو الرب، غير أنهم إذ سمعوا: "إن واحدًا منكم يسلمني" (مت 26: 21)، فَضَّلوا أن يثقوا في كلمة الرب، وأذعنوا لقوله، قائلين: "هل أنا هو يا رب؟" (مت 26: 22).
أما القديس بطرس فيُعَلِّمنا بأكثر وضوح، فمع أنه في غيرة تواضعه رفض خدمة سيده وإلهه ومُعَلِّمه (أن يغسل قدميه)، إذ سمع كلمات الرب: "إن كنت لا أغسلك، فليس لك معي نصيب" (يو 13: 8)، اقتنع بالحق كما ورد في الكلمات، وقال: "ليس رجليّ فقط، بل أيضًا يديّ ورأسي" (يو 13: 9)[23].
لا تُخضِع نفسك[24] لإنسان أحمق،
ولا تحابِ وجه حاكمٍ [27].
حسن أن يسلك الإنسان بروح التواضع، لكن من أجل اهتمام المؤمن بخلاصه وخلاص إخوته يلزمه ألاَّ يسلم قيادة حياته في يد أحمقٍ، يُفسد رسالته، ويدخل به في متاعبٍ؛ كما يثير في الأحمق روح الكبرياء وعدم مراجعته لجهالاته.
روح التواضع لا يعني الخنوع لأي قائد مهما كان دوره على حساب المحتاجين والمظلومين.
جاهد عن الحق حتى الموت،
والرب الإله يُقاتِل عنك [28].
يحثنا الحكيم على الجهاد (الروحي) من أجل الحق حتى الموت [28]. ومن يبذل حياته من أجل الحق، يقاتل الربّ لحسابه. فلا يخجل من الشهادة لإيمانه، مهما كانت التكلفة.
v "جاهد عن الحق حتى الموت" (سي 4: 28). من ذات الكنوز الروحية تُصنَع أكاليل الشهداء عن الحق، لتوضع على رؤوسهم، وذلك مع كل من يشترك في المعارك الروحية، فيطأ (المؤمن) على الذين يشعلون النزاعات والذين يُعرفون بولاة العالم والسلاطين على ظلمة هذا الدهر وأجناد الشر الروحية (أف 6: 12؛ سي 4: 28؛ نش 3: 10)[25].
v يُتوَّج المشترك في الألعاب الأولمبية لا بانتصاره على لاعبٍ أو اثنين أو ثلاثة، بل بعد انتصاره على جميعهم. هكذا من يرغب في أن يُكَلِّلَه الله يلزمه أن يتعلَّم العفة، لا من جهة الشهوات الجسدية فحسب، بل وينتصر عند تجربة محبة المال والرغبة في التعلُّق بما ليس له، والحسد ومحبة اللذات والمجد الباطل واتهامه بأمور ذميمة وعندما تحلّ به مخاطر مميتة وما إلى ذلك[26].
v ليتنا نجاهد في الحياة الصالحة والحياة المحبة لله، لا لأجل مديح الناس، بل لأجل خلاص نفوسنا. لأن الموت ماثل أمام أعيننا كل يومٍ، ولأن كل ما هو بشري غير مستقر[27].
يُمَيِّز القديس أغسطينوس بين ثلاثة أنواع من الشهود للسيد المسيح.
v هذه الثلاث فئات هي:
الفئة الأولى تضم من يؤمن بالمسيح، وبصعوبة يهمس باسمه.
والفئة التالية من يؤمن بالمسيح، ويعترف علانية.
والثالثة من يؤمن بالمسيح ويعترف به، وهو مستعد أن يموت من أجل المسيح.
الأول ضعيف وخجله يقوم على خوفه، والثاني يحمل وجهه الشجاعة ولكن ليس إلى سفك دمه، الثالث له كل القوة ولا ينقصه شيء يشتهيه؛ إنه بالحقيقة كما ما هو مكتوب: "جاهد عن الحق حتى الموت" [28]
يرى العلامة أوريجينوس في طقس خيمة الاجتماع أو الهيكل وجود مذبحين، أحدهما منظور والآخر غير منظور. المذبح المنظور هو المذبح النحاسي الذي تُقدَّم عليه ذبائح المُحرَقة، إشارة إلى جهادنا الروحي من أجل الحق الإلهي حتى الموت. فإن كان مسيحنا قدَّم جسده مبذولًا حتى موت الصليب، إنما نُصلَب نحن معه، ونمارس إماتة الجسد خلال محرقة الحب الخالص. أما المذبح الخفي فيدخل إليه رئيس الكهنة في قدس الأقداس الذي يشير إلى السماء والدخول إلى العرش الإلهي.
هكذا يُقَدِّم لنا العلامة أوريجينوس تفسيرًا رمزيًا لذبيحة المُحرَقة في أعماقه الداخلية كرمزٍ لإماتة الجسد خلال روح الله القدوس الناري، حيث يجحد كل شيءٍ من أجل الحق الإلهي والحب، حاملًا الصليب كسيده بفرحٍ ومسرةٍ، نقتطف منه التالي:
v كل واحدٍ منا أيضًا له نفسه ذبيحة مُحرَقة كاملة، وهو نفسه يضيء المذبح الذي لذبيحة المُحرَقة الكاملة حتى تحترق.
إن كنت أجحد كل ما لدي (لو 14: 33)، وأحمل صليبي، وأتبع المسيح (مر 8: 34)، أُقَدِّم ذبيحة مُحرَقة كاملة على مذبح الله. أو إذا سلَّمت جسدي حتى الاستشهاد، أُقَدِّم نفسي كذبيحة مُحرَقة كاملة على مذبح الله.
إن كنت أحب إخوتي، فأبذل حياتي عن إخوتي (1 يو 3: 16)، إن كنت من أجل البرّ والحق أجاهد حتى الموت (سي 4: 28)، أُقَدِّم ذبيحة مُحرَقة كاملة على مذبح الله.
إن كنت أميت أعضائي عن كل شهوة للجسد (كو 3: 5)، إن كان العالم قد صُلِب لي وأنا للعالم (غل 6: 14) أُقَدِّم ذبيحة مُحرَقة كاملة على مذبح الله، وأصير أنا نفسي كاهنًا للتقدمة[28].
v أنت أيضًا لك عجل يجب أن تُقَدِّمه. هذا العجل الجموح هو جسدك، إن أردت أن تُقَدِّمه للربّ تقدمة فاحفظه زاهدًا ونقيًا، قده إلى باب خيمة الاجتماع حيث تستطيع أن تسمع قراءة الكتب المقدسة هناك.
لتكن تقدمتك ذكرًا... فلا يكون فيها شيء من التدليل أو عدم الحزم.
ضع يدك على المُحرَقة حتى تكون رضا للرب، واذبحها قدام الرب، بمعنى أن تضع ضوابط للعفة ولا تترك قمع الجسد، بل كن كذاك الذي وضع يده على جسده حين قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27).
اذبحه أمام الرب ولا تتردَّد في إماتة أعضائك (كو 3: 5)...
ليكن في داخلك كاهن وأبناؤه، أي الروح الذي فيك وحواسه، إذ خلالهم يكون فهم للرب وإدراك للعلم الإلهي. إذن لتُقَدِّم جسدك للرب بالزهد لكن مع فهمٍ روحيٍ، كقول الرسول: "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1)...
إذ يُقَدِّم البعض أجسادهم مُحرَقة لكن كما بغير كاهن، أي بغير ملء المعرفة... هؤلاء يخزون، إذ يطلبون المجد البشري (في زهدهم)، أو يتدنسون بشهوة الطمع أو بارتكاب خطأ الحسد أو الحقد أو يضطربون بهياج الكراهية أو قسوة الغضب. هؤلاء يمارسون زهد الجسد لكنهم يُقَدِّمون مُحرَقة بلا كاهنٍ، أي بلا فهمٍ ولا إدراكٍ، فيُحسَبون من الخمس عذارى الجاهلات اللواتي كن بالحقيقة زاهدات في الجسد كعذارى، لكنهن لا يعرفن كيف يضعن زيتًا في آنيتهن، أي زيت المحبة والسلام مع بقية الفضائل. لهذا طُرِدن من حجال العريس (مت 25)... أما نحن فيليق بنا مع زهد الجسد أن نكون أنقياء الروح... فنتأهَّل للتشبُّه بالمسيح الذبيح[29].
v الشخص الذي لم يصر بعد روحيًا بل هو جسداني، تهزمه أيّة (رذيلة)، حتى بغير إرادته. لأن إرادته ليست بعد قوية ومفعمة بالحيوية بما فيه الكفاية حتى تُقَرِّر في داخلها أن تلتزم بالجهاد حتى الموت من أجل الحق (سي 4: 28). هذا النوع من الإرادة لا يقول: نعم نعم ولا لا (مت 5: 27). بهذا لا تقدر أن تعمل ما تريده، بل ما لا تريده... لأن المسيح لم يسكنه بعد (رو 8: 10) ولم يصر جسده هيكلًا لله (1 كو 3: 16؛ 6: 19)[30].
v إني أُقَدِّم تقدمة مُحرَقة كاملة على مذبح الله إن وضعت أعضائي للموت عن كل شهوةٍ للجسد؛ إن صُلِب العالم لي وأنا للعالم (غل 6: 14). أُقَدِّم مُحرَقة كاملة على مذبح الله، وأصير أنا نفسي كاهن لتقدمتي[31].
v "لكل كمالٍ رأيت حدًا، أما وصيتك فواسعة جدًا" (مز 119: 96). إذ دخل مقادس الله، أدرك الآخرة (مز 73: 17). الآن فإن كل النهاية تقترب مني في هذا الموضع لتُعينني على الجهاد عن الحق حتى الموت (سي 4: 28)، واحتمال كل شرٍ من أجل الصلاح الحقيقي الرئيسي. النهاية هي بالسمو في ملكوت المسيح الذي بلا نهاية، هناك حيث لا موت ولا ألم، بل حياة مُكَرَّمة تتحقَّق بالموت عن هذه الحياة واحتمال الأحزان والخزي[32].
لا تكن فظًّا بلسانك،
ولا رخوًا كسولًا في أعمالك [29].
يليق بالمؤمن ألاَّ يتسرَّع في الكلام، إنما يفحص الأمور بتأنِّي قبل أن ينطق برأيه. ومن جانبٍ آخر لا يجوز له التباطؤ في العمل في توانٍ.
لا تكن كالأسد في بيتك،
ولا تكن سخرية بين خدامك [30].
لا يليق بالمؤمن أن يُمارِس العنف في بيته، إذ لا يَقْبَل أحد أن يعيش في جب أسود.
لا تبسط يدك للأخذ،
وتقبضها عن الإيفاء [31].
يلزم بسط اليد للعطاء لا للأخذ [31]. ليعرف المؤمن متى يحفظ يده مبسوطة ومتى يقبضها.
v يشارك البعض في الرأس (بخصوص حَمَلِ الفصح)، وآخرون في الصدر، وآخرون في الجوف، وآخرون في الفخذ، وآخرون حتى في الأقدام، حيث لا يوجد الكثير من اللحم. كل واحدٍ يشارك بحسب طاقته. ونحن إذ نشترك في جزءٍ من الحَمَلِ الحقيقي بما يتفق مع مقدرتنا على المشاركة في كلمة الله. فالبعض منا يشارك في الرأس، وإذا شئنا في جزء منها، مثلًا في الآذان، حتى إذ يصير لهم آذان يمكنهم سماع كلماته (راجع مت 11: 15؛ 13: 9، 43).
والبعض يذوق الأعين، فينظرون جليًا (راجع مز 34 [33]: 9؛ عب 6: 4-5)، فلا يصطدم بحجر رجله (راجع مز 91 [90]: 12، إر 13: 16؛ مت 4: 6؛ لو 4: 11).
أما من يذوق الأيدي فهم العاملون (راجع يو 9: 4)، الذين ليس لهم بعد أيادي مسترخية (عب 12:12)، مقبوضة عن العطاء (سي 4: 31)، أولئك الذين يتقبَّلون تصحيح مسارهم قبل أن يحلّ عليهم غضب الرب (راجع مز 2: 11).
ويتكئ آخرون على الصدر (يو 25:13)، فيتعرَّفون من خلال ذلك الغذاء عمن خانوا المسيح (راجع يو 13: 21-26)[33].
v ما أعذب وصيتك لي؛ أن أحب قريبي كنفسي.
وما أعظم قوة نعمتك، فهي تقودني للعمل بالوصية بروح الفرح والتهليل.
أسلك بروحك القدوس كسفيرٍ لك.
خلقتَني عضوًا في الأسرة التي تضمّ كل البشرية.
أنتفع بخبرات الأجيال السابقة، وأتلامس مع معاملاتك العجيبة معهم.
ولا أعتزل إخوتي في الجيل الحاضر،
بل بالحب أَحتضن الكل بروح البهجة،
أشعر باحتياجي إلى كل إنسانٍ،
مع التزامي أن أعمل مع الجميع حسب قدراتي!
أتطلع إلى الأجيال القادمة وأتساءل:
ماذا أفعل لأبنائي وأحفادي القادمين عبر العصور المُقبِلة؟
v إذ ألتقي بالفقير المحتاج الذي تحسبه أخًا لك، وأنت خالق السماء والأرض،
أبسط يدي للعطاء مما وهبتني.
أشعر بالحياء، لأنني أُقَدِّم لك القليل مما أعطيتني.
كل ما في يدي فهو من بركاتك وعطاياك.
v هب لي الكلمة العذبة مع العطاء، التي بها أُفَرِّح كل القلوب.
العالم كله محتاج إليك وإلى عذوبتك وحنوك!
أنت كنزي الثمين، كلما قدَّمتك لإخوتي، تتجلَّى بالأكثر في أعماقي.
v لأسلك بروحك القدوس، فأبسط يديّ للكل،
بل وأفتح قلبي خاصة للمتألمين والمحتاجين والمظلومين وللذين ليس لهم من يسأل عنهم،
ولا يتسلَّل عدو الخير إليّ، فيدفعني إلى المحاباة.
لأَتشبَّه بك، فقد وهبتني روح البنوة.
صرتُ في أعين السمائيين ابن العليّ.
فلا تسمح لأحد أن تتمرَّر نفسه بسببي،
إذ أشتهي أن تُقِيم ملكوتك في قلب كل إنسانٍ.
هب لي روح التواضع، فأُقَدِّم الإكرام لمن له الإكرام في غير محاباة.
v لتقودني في طريق الحكمة الضيق،
أحمل معك صليبك، فأختبر بهجة قيامتك.
أُبَكِّر إليك على الدوام، وأرتمي في أحضانك الإلهية.
أختبر عربون السماء يومًا فيومًا،
إلى أن ألتقي معك على السحاب، وأَتمتَّع بموكب عُرسِك الأبدي.
تحتضنني حكمتك كأمٍ وعروسٍ،
تسكب فيّ روح القداسة، فأَخدمك يا أيها القدوس.
أمسك بك لترافقني كل الطريق، فلا أنحرف يمينًا ولا يسارًا.
لا تهجرني، فإنني لا أقدر على العيش بدونك.
تحفظني من الشرّ، وتجتذبني إلى برِّك.
v هب لي يا ربّ قلبًا مُلتهِبًا بالحُبِّ نحو النفوس الساقطة.
أُثَبِّت رجلي بنعمتك، حتى لا أسقط مع الملقى على الأرض لأقيمه بنعمتك.
كثيرًا ما تشتاق نفسي إلى ممارسة تدريب الصمت المقدس، لئلا أَتعثَّر بسبب اللسان.
هب لي الحكمة لكي يكون صمتي مقدسًا بك، وكلماتي مقدسة أيضًا.
فأصمت في الوقت المناسب، ولا أحجم عن الكلمة المقدسة في وقتها المناسب!
v عَلِّمني أن أتكلم مُعترِفًا بخطاياي،
فيتحوَّل كل كياني إلى قيثارة تنشد لك تسبحة الشكر يا غافر الخطايا.
v هب لي ألاَّ أتسرع في الكلام بدون تفكير،
ولا أتوانى في العمل، فيما يحقق خطتك في حياتي الجادة.
_____
[1] Regulae brevius tractatae, 13.
[2] In Rom. hom. 21.
[3] الميمر 66 على شجرة معرفة الخير والشر وعلى الصدقات وعلى الفقر (راجع نص الأب بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سوني).
[4] Homilies on Matthew, 51: 5.
[5] Against Avarice 1:5:27 etc.
[6] Duties Of The Clergy, Book 1, Ch. 16: 63.
[7] An Ascetical Discourse, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 220).
[8] An Ascetical Discourse, (Frs. of the Church, volume 9, p. 221).
[9] Homilies on Genesis, FOTC, Vol. 74, p. 127-128.
[10] On the Trinity 12:44.
[11] CSEL 81:24.
[12] Homily 11:7 on Psalm 7.
[13] Comm. on Matt. 2:2:10.
[14] On the Incomprehensible Nature of God, FOTC, Vol. 72, p. 254.
[15] Homilies on Ezekiel 1:10:17.
[16] Letters, FOTC, Vol. 18, p. 103-106.
[17] St. Augustine: On Ps. 141.
[18] 170 نصًا عن حياة القداسة، 107 (الفيلوكاليا).
[19] Homilies on Twelve Prophets, FOTC, Vol. 116, p. 156-157.
[20] Regulae brevius tractatae, 288.
[21] On Humility.
[22] تفسير المزمور 33 (32).
[23] Regulae brevius tractatae, 301.
[24] Yourself.
[25] Commentary on Zechariah, FOTC, Vol. 111, p. 117-120
[26] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 73.
[27] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 74.
[28] On Leviticus, Homily 9: 9: 4
[29] In Lev. hom. 1:5.
[30] Commentary on Rom., FOTC. Vol. 104, p. 38-39.
[31] Homilies on Leviticus FOTC, Vol. 83, p. 196-197.
[32] On Ps 119
[33] Peri Pascha 30-32 (Translated by Robert J. Daly - ACW.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 5 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 3 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jgfzp4d