← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36
القسم الثاني
يمكن أن يُدعَى سفر ابن سيراخ كتيبًا في الحكمة حسب فكر الله لممارسة الحياة المرضية لديه.
يستعرض باهتمامٍ العلاقات المتبادلة بين الرجال والنساء، خاصة بين الزوجين وبين أعضاء الأسرة وأيضًا بين الأصدقاء. والعجيب أنه يعالج بعض الأمور منذ حوالي 2200 عامًا، ولا زالت كتاباته يمكن أن تسند الكثيرين حتى اليوم.
الزواج أو الحياة الأسرية هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع. إن انحلَّت ينحل معها المجتمع، وإذا كانت الزيجات والعلاقات الأسرية خاصة بالنسبة الأطفال مصونة يكون المجتمع قويًا.
لا تستطيع السلطات ولا القوانين أن تبثّ روح الحب والأمان في الحياة الزوجية والأسرية بدون الالتجاء إلى نعمة الله وإدراك خطة الله من جهتنا. فقد أقام الله بنفسه الأسرة كأول مؤسسة روحية اجتماعية. وإلى الآن يُسرّ الإنسان أن يحضر أو يشترك في الاحتفال بالزواج ويشعر بالانتماء إلى الأقرباء والأصدقاء.
يعتزّ المتزوج السعيد بالاحتفال السنوي أو اليوبيل الفضي أو الذهبي للزواج.
اهتم ابن سيراخ باعتزاز الزوج بامرأة شبابه، حتى يبقى أمينًا لسلامة بيته، كما حذَّر كثيرًا من العوامل التي قد تجتذب الشخص نحو الزنا، فيُفسِد قدسية أسرته.
الأصحاح الحادي عشر
[1 -6] (ت: 1-6) |
|||
[7 -8] (ت: 7-8) |
|||
[9 -11] (ت: 9-11) |
|||
[12 -17] (ت: 12-17) |
|||
[18 -24] (ت: 18-26) |
|||
[25 -28] (ت: 27-30) |
|||
[29 -34] (ت: 31-36) |
|||
* من وحي سيراخ 11: هبني روح الحب والتدبير والأمان! |
افتتح ابن سيراخ هذا القسم بهذا الأصحاح حيث يُقَدِّم لنا مبادئ العلاقات في المجتمع بوجه عام وبين أعضاء الأسرة والأصدقاء على وجه الخصوص.
اهتم كثير من الآباء بفضيلة الاعتدال بكونها طريق الإيمان الملوكي، من بين الآباء الذين تحدَّثوا عنها القديس باسيليوس الكبير.
لا يتطلَّع سيراخ إلى الاعتدال أنه خاص بالصوم والصلاة والعبادة فحسب، إنما هو طريق يمسّ حياة المؤمن من كل جوانبها؛ وفيما يلي أمثلة للسلوك باعتدال:
1. لا تذم أحدًا قبل الفحص والتفكير وعندئذ تقوم بالتوبيخ أو الإرشاد [7]. الاعتدال إذن يعني عدم التطرُّف، فلا يقف الإنسان مُتفرِّجًا في غير مبالاة بالنسبة لإنسانٍ مُخطِئ، ولا يتسرَّع وينفعل موبخًا إياه، إنما ليفحص الأمر ويفكر فيما هو لبنيان الشخص دون أن يُعثِرَه.
2. بحكمة يلتزم الإنسان آداب الحوار، فلا يُقاطِع أحدًا أثناء حديثه، ولا يُجاوِب أحدًا بتسرُّعٍ. بحكمة وبروح الاعتدال يعرف متى يتكلم وماذا يقول، وما هي حدوده في الحديث [8]. أيضًا لا يجادل في أمرٍ لا يعنيه، إذ فيه مضيعة للوقت، وقد ينجرف في أحاديث ليست للبنيان. أيضًا متى جلس خطاة للقضاء، فلا يشاركهم حتى لا يلتزم بمجاراتهم في أحكامٍ جاحفة [9].
3. عدم الارتباك بأعمالٍ كثيرة، فمن جهة لا تلجأ إلى الخمول والكسل، ومن جهة أخرى لا ترتبط بأعمالٍ كثيرة فلا تنجح في تحقيقها [10].
4. لتعمل بأمانة واجتهاد، مُدرِكًا أن النجاح والفشل من عنده أو بسماحٍ منه؛ كذلك الحياة والموت.
5. من الغباوة أن يترقَّب المؤمن الموت بائسًا (سي 14: 3-12)، بل يترقَّبه بفرحٍ وبروح الرجاء [20].
6. ما يشغل المؤمن ليس مظهر النجاح، إنما الأمانة في العمل حتى الشيخوخة. لا تثبط همة شخصٍ لشعوره أنه لا يعود ينال ثمرة عمله وهو شيخ، فإن الله يكافئه حتى في يوم موته [26].
7. يدرك المؤمن حدود كل تصرفٍ، فيعرف من الذي يسمح له أن يدخل إلى بيته [29].
8. لتكن الثقة في الله والاعتماد عليه مرافقًا لك حتى النهاية.
9. متى حلَّت بنا خيرات ننسى أيام الضيق، وفي وقت الضيق ننسى ما نلناه من خيرات سابقًا [25]. بينما يليق بنا حين نتمتَّع بالبركات ألاَّ ننسى فترات الضيق، فنشكر الله على بركاته، ونشارك المتألمين متاعبهم. وفي أيام الضيق لا ننسى أعمال الله معنا في الماضي، فندرك أنها لحظات تعبر، فنقدم الشكر لله المعتني بنا، وننتفع بالضيق حيث نتمتع بالصبر مع الثقة في رعاية الله.
1 حِكْمَةُ الْوَضِيعِ تَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَتُجْلِسُهُ فِي جَمَاعَةِ الْعُظَمَاءِ. 2 لاَ تَمْدَحِ الرَّجُلَ لِجَمَالِهِ، وَلاَ تَذُمِّ الإِنْسَانَ لِمَنْظَرِهِ. 3 النَّحْلُ صَغِيرٌ فِي الطُّيُورِ، وَجَنَاهُ رَأْسُ كُلِّ حَلاَوَةٍ. 4 لاَ تَفْتَخِرْ بِتَرَدِّي الثِّيَابِ، وَلاَ تَتَرَفَّعْ فِي يَوْمِ الْكَرَامَةِ؛ فَإِن أَعْمَالَ الرَّبِّ عَجِيبَةٌ، وَأَفْعَالَهُ خَفِيَّةٌ عَنِ الْبَشَرِ. 5 كَثِيرُونَ مِنَ الْمُتَسَلِّطِينَ جَلَسُوا عَلَى التُّرَابِ، وَالْخَامِلُ الذِّكْرِ لَبِسَ التَّاجَ. 6 كَثِيرُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِينَ لَحِقَهُمْ أَشَدُّ الْهَوَانِ، وَالْمُكَرَّمُونَ سُلِّمُوا إِلَى أَيْدِي الآخَرِينَ.
حكمة الإنسان المتواضع ترفع رأسه،
وكرسيّه سيكون بين العظماء [1].
أخطر ما في العلاقات الاجتماعية بوجه عام هو تقييم الأشخاص بناء على المظهر الخارجي دون دراسة دقيقة لحقيقة شخصياتهم. إذ كثيرًا ما ينخدع الإنسان بالجمال الجسدي ورقة الصوت وأناقة الملبس والمستوى المادي للشخص أو مركزه الاجتماعي. كان يليق بالشخص أن يتطلَّع إلى أخيه أو صديقه من جهة حكمته الحقيقية.
حكمة الشخص المتواضع أشبه بجواز سفر به يعبر الحياة سواء كان في فقرٍ أو غِنَى، في ضيقٍ أو فرجٍ، في مرضٍ أو صحةٍ. ينطلق لتُجلِسه الحكمة الحقيقية المتواضعة وسط العظماء. أما الأحمق فيظن بمقتنياته وغناه ومواهبه ودراساته وقوته ومظهره الخارجي أنه قادر أن يقتحم مجالس العظماء في العالم، بل ويجلس في مُقَدِّمتهم، ولا يدري أن ما يفعله يكشف عن ضعفاته وحماقته وكبريائه، فإذا به ينحدر في عيني الله وأعين الكثيرين ليجلس كما في مزبلةٍ. هذا ما دعا الرسول بولس أن ينصحنا بأنه لا يجوز للإنسان أن يرتئي فوق ما ينبغي، وإنما إلى التعقُّل (رو 12: 3).
من يقتني الحكمة ينطلق بروح التواضع في آخر الصفوف مع ربِّ المجد يسوع الذي صار عبدًا وصُلِب بين لصّين أثيمين، فيحمله رب المجد، ويدخل بقلبه وفكره إلى المقادس السماوية. أما من يسلك بكبرياء في حماقة فينهار مع إبليس ما لم يرجع إلى نفسه بالتوبة.
إذ خلَّص الله حنة من المذلّة التي عانت منها بواسطة ضرّتها فننَّة، سبَّحته قائلة: "قسيُّ الجبابرة انحطمت، والضعفاء تمنطقوا بالبأس... الرب يميت ويحيي، يهبط إلى الهاوية ويصعد. الرب يُفقر ويُغني، يضع ويرفع. يُقِيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملكهم كرسي المجد، لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة (1 صم 2: 4-8).
v اسهر وكن ثابتًا في الرب. فإذا حفظت هذه الأقوال تصير صالحًا في كل شيء. لأنه مكتوب المجد يتقدَّم أمام المتضعين (أم 23:29)؛ وأيضًا: "حكمة المتواضع ترفع رأسه" (سي 1:11)؛ وأيضًا: "إلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 2:66).
v مكتوب أيضًا: "تفرح العظام المنسحقة" (مز 8:50) (سبعينية)؛ وأيضًا: "الرجل المتواضع تُقبل صلاته سريعًا" (راجع سي 17:32). ومكتوب أيضًا: "اُنظر إلى ذُلّي وتعبي واغفر لي جميع خطاياي" (مز 18:25). فانظر مقدار (عظمة) التواضع. إذا اقتنيت التواضع فقد اقتنيت كل شيءٍ.
القديس أنبا بولا الطموهي عن التواضع
لا تمدح الرجل لجمال منظره،
ولا تنفر من الإنسان لمظهره [2].
لا يقوم المجد الحقيقي على المظهر الخارجي الذي كثيرًا ما يخدع الإنسان، وذلك في اختيار شريك الحياة أو الموظفين للعمل معه، مع أن التاريخ يكشف عن خداع المظاهر. لا نتعلَّم من أخطاء الأجيال السابقة.
دُهِش صموئيل النبي من جمال شاول بن قيس وهيئته، إذ قيل: "وكان له ابن اسمه شاول شاب حسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق، كان أطول من كل الشعب" (1 صم 9: 2). "فقال الرب لصموئيل: لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته، لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1 صم 16: 7)
v لماذا تضطرب عند وجود نقص في الجمال، ما دام هذا ليس مُخزيًا؛ اسمع قول الحكيم: "لا تمدح رجل لجماله، ولا تنفر من الإنسان لمنظره" (راجع سي 10: 2). بالحري ليكن الله معجبًا (بك)، الفنان الأعظم، لا الإنسان، الذي ليس له أي فضل في خلقته التي هو عليها. أخبرني ما هي منافع الجمال؛ لا شيء. إنه يُعَرِّض صاحبه لتجاربٍ كبرى خطيرةٍ وحوادثٍ مؤسفةٍ وشكوكٍ. فمن ينقصه الجمال يهرب منه الشك، ومن يقتنيه يجب أن يتحفَّظ للغاية بطريقة غير طبيعية، ويُقَدِّم تقريرًا رديئًا. وما هو أشرّ من ذلك شك الزوج الذي ينال متعة أقل بتمسكه بجمالها، كما يعاني من متاعب الغيرة عليها. يصير جمالها باهتًا في عينيه من الاحتشام، وتعاني هي في شخصيتها من الضعفاء وأصحاب اللهو والخلاعة، فتنهار نفسيتها وتمتلئ غرورًا[2].
النحلة صغيرة في الخلائق الطائرة،
ولكن ثمرها هو الأول بين الأمور الحلوة [3].
يرى القديس أغسطينوس أن النحلة تشبه بعض الحشرات الطائرة من جهة المظهر الخارجي[3]. لكن شتان ما بين النحلة التي تُقَدِّم لنا عسلًا وبين بعض الحشرات التي تُسَبِّب لنا أمراضًا.
النحلة أيضًا في مظهرها حشرة خطيرة تلدغ الإنسان وتُسَبِّب له آلام، بينما تُقَدِّم للبشرية غذاءً مفيدًا، يُعتبَر ثروة للأمم لا يُستهَان بها. ويرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن الحديث هنا للزوج الذي يرى أن زوجته ينقصها الجمال، متطلعًا إلى غيرها، إذ يقول:
v "لكي يُقَدِّسها، مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو أي شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة بلا عيب" (أف 5: 26-27). بالغسل أو في الجرن غسلها من الدنس. وبالكلمة، أية كلمة؟ "باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19). ليس فقط زيَّنها، إنما جعلها "مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو أي شيء من مثل ذلك". ليتنا إذن نطلب هذا الجمال لأنفسنا، ويمكننا أن نُوجده.
لا تطلب من يد زوجتك أمورًا تعجز أن تقتنيها. ألا ترون أن الكنيسة لها كل شيء في يد ربّها؟ به صارت مجيدة، وبه صارت طاهرة بلا لومٍ؟
لا تُعطِ ظهرك لزوجتك بسبب تشويه فيها. اسمع ما يقوله الكتاب: "النحلة الصغيرة بين الحشرات الطائرة، أما ثمرها فهو أفضل من كل حلاوة" (راجع سي 11: 3). هي من صُنْعِ الله. لا تتهمها، بل تتهم خالقها، ماذا في استطاعة المرأة أن تفعله. امدحها لا على جمالها، لأن المدح يقوم على الجمال الخاص بالنفس... لتبحث عن جمال النفس. اقتدِ بعريس الكنيسة. الجمال الخارجي مملوء بالخداع والانحلال العظيم، يدفع الناس إلى الحسد، وهو يدفعك إلى توقُّع أمور بشعة[4].
v سليمان أيضًا يفعل أمرًا مُشابِهًا، فيعود إلى من يعيش كما في حياة خاملة ويُواجهه بالنملة (أم 6: 6-8)، وهنا يواجهه بالنحلة[5].
v إن رأيت إنسانًا ضخمًا له صفات حسنة، وطويلًا يفوق الآخرين في طول أطرافه، لا تعجب منه حتى تتأكَّد من حالة نفسه. يليق بنا أن نعلن عن الإنسان ونُطَوِّبه لا على جمال مظهره، بل الجمال الذي يتعلَّق بالنفس. كان داود قليلًا في جسمه، وقصيرًا في هيئته، ومع كونه قصيرًا هكذا وقليل الجسم، وذراعاه عاريتين (بلا أسلحةٍ)، أنزل بجيشٍ عظيمٍ بضربةٍ واحدةٍ، ذلك الجسم الذي كالبرج، بدون أن يقذف سهمًا، أو يستل سيفًا من غمده، إنما فعل هذا كله بحصاةٍ صغيرة. لهذا نُصِحنا هكذا: "لا تمدح الرجل لجماله... النحلة صغيرة في الخلائق الطائرة، ولكن ما تجنيه رأس كل حلاوة" (راجع سي 11: 2-3)[6].
لا تفتخر بثيابك الرائعة،
ولا تُعظِّم نفسك في اليوم الذي تُمجَّد فيه،
فإن أعمال الرب عجيبة، وأفعاله خفيّة عن البشر [4].
أحيانًا يُمكِن اكتشاف شخصية الإنسان من ملبسه، غير أن البعض يُبالِغ في ارتداء ثيابٍ فاخرة ليخفوا شخصياتهم الهزيلة، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. بعض الفلاسفة العظماء ورجال العِلْم والمُكرَّسين للخدمة لا ينشغلون كثيرًا بملابسهم. هؤلاء يكتفون ببساطة المظهر دون ابتذال أو إهمال مُلفِت للنظر. من يدرك قيمة جمال نفسه التي يزينها روح الله القدوس، يشعر بالشبع الداخلي، ولا ينتظر كلمة مديح لمظهره الخارجي.
v ينصحنا مُعَلِّمنا جليًا: "لا تفتخر بالثياب التي ترتديها، ولا تترفَّع في يوم مجدك، إنها لا تدوم" [4]. وبأكثر وضوح يتكلم ساخرًا بالذين يرتدون الثياب الناعمة، قائلًا في الإنجيل: "هوذا الذين في اللباس الفاخر والتنعم في قصور الملوك" (لو 7: 25). يقصد قصور الأرض هذه التي تتفتت حيث يقطنها البطلان والمجد الفارغ والتملق والخطأ. أما الذين يخدمون البلاط السماوي الذي لملك الجميع، فيقدسون أجسامهم التي هي الثياب البالية لنفوسهم، ويُلبسونها عدم الفساد[7].
v لنسعَ وراء ذلك المجد (الحقيقي)، وليس ذاك الذي فيه شيء جليل. لنترك مجد العالم كأمرٍ تافهٍ. "لا تفتخر بالثياب التي ترتديها" (راجع سي 11: 4). حقًا إن الراقصات والزانيات والممثلات يرتدين ثيابًا زاهية وثمينة للغاية أكثر منك. بجانب أن هذا الافتخار من ذلك النوع الذي يهاجمه العث، فإنه يمكن أن يسلبك بهجتك[8].
كثير من الطغاة يجلسون على التراب،
ولكن الذي لم يكن في الحسبان يلبس التاج [5].
كثير من الحكّام يلحقهم أشدّ الهوان،
والمُمجَّدون يُسلَّمون إلى أيدي آخرين [6].
"يذهب بالمشيرين أسرى، ويحمِّق القضاة. يحل مناطق الملوك، ويشد أحقاءهم بوثاق. يذهب بالكهنة أسرى، ويقلب الأقوياء. يقطع كلام الأمناء، وينزع ذوق الشيوخ. يلقي هوانًا على الشرفاء، ويرخي منطقة الأشداء" (أي 12: 17-21).
7 لاَ تَذُمَّ قَبْلَ أَنْ تَفْحَصَ. تَفْهَّمْ أَوَّلًا ثُمَّ وَبِّخْ. 8 لاَ تُجَاوِبْ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَ، وَلاَ تَعْتَرِضْ حَدِيثَ أَحَدٍ قَبْلَ تَمَامِهِ.
لا تدن قبل أن تفحص الحالة،
بل افهم أولًا بعد ذلك احكمْ [7].
لا تجاوب قبل أن تسمع،
ولا تقاطع متكلّمًا أثناء حديثه [8].
v لا تسمحوا لإثارة المنازعات بحُبِّنا للنصرة الفارغة أن تزحف في وسطنا. هدفنا استبعاد كل نزاعٍ. بالتأكيد هذا هو معنى العبارة: "سلام لكم" (يو 20: 19، 21)، "لا تجاوب قبل أن تسمع" (11: 8). الصوت الغامض هو صوت إنسان أنثوي، على أي حال صوت الإنسان الضابط النفس معتدل في نبرته، فلا يكون عاليًا جدًا ولا كثير الكلام، ولا ينطق بسرعة، ولا يسهب في الكلام[9].
9 لاَ تُجَادِلْ فِي أَمْرٍ لاَ يَعْنِيكَ، وَلاَ تَجْلِسْ لِلْقَضَاءِ مَعَ الْخَطَأَةِ. 10 يَا بُنَيَّ، لاَ تَتَشَاغَلْ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ مَلاَمٍ. إِنْ تَتَبَّعْتَهَا لَمْ تَحُشْهَا، وَإِنْ سَبَقْتَهَا لَمْ تَنْجُ. 11 رُبَّ إِنْسَانٍ يَنْصَبُ وَيَتْعَبُ وَيَجِدُّ وَلاَ يَزْدَادُ إِلاَّ فَاقَةً!
لا تجادل في أمر لا يخصك،
ولا تجلس مع الخطاة عند حكمهم في قضيةٍ [9].
بروح التمييز يدرك إنسان الله حقيقة التزاماته، فيعمل بحكمة في حدود مسئولياته، عوض إفساد وقته فيما لا يخصه. هنا يدعونا إلى تحاشي العمل مع فئتين مُفسِدتين للوقت وهما: فئة محبّي الجدل في أمور لا تخصنا. مثل تحليل الأحداث السياسية والجدل فيها، مع عجزه حتى عن التعبير عن رأيه لعدم معرفته الحقائق. والفئة الثانية مجاراة القضاة الظالمين في نوع من الرياء ومحاباة الوجوه.
يا بني، لا تدع عملك يتضمن أمورًا كثيرة،
فإنك إن أكثرت منها، لا تستمر بدون عقابٍ،
حتى إن تقدَّمت فيها، فإنك لا تدركها، ولا تنجو بالهرب [10].
يليق بنا ألاَّ ننشغل بكثرة الأعمال والإنجازات، بل أن نلتزم بالأمانة حتى نسمع الصوت الإلهي: "كنت أمينًا في القليل، أقيمك على الكثير" (مت 25: 21).
رُبّ إنسان يعمل ويعمل ويستمر يعمل،
ولكنه يزداد فقرًا [11].
كثيرون ما يشغلهم هو عدد الساعات التي يقضونها في العمل، وليس العمل بأمانة وحكمة ليكون مُثمِرًا. لنذكر حاجتنا إلى طلب بركة الرب؛ ففي كثير من الأعمال يُمكِن للإنسان أن يُتَمِّم عملًا في ساعة واحدة، كان قبلًا يحتاج إلى يومٍ كاملٍ، قيل إن يومًا عند الرب كألف سنة (2 بط 3: 8). هذا يشعر به الطالب حين يكون مضطربًا يدرك أن محصّلته في الدراسة ضعيفة، وحين تكون نفسه مملوءة سلامًا وفرحًا تكون محصلة دراسته جيدة للغاية. أيضًا أحيانًا يعمل الإنسان باجتهادٍ وبقوةٍ، لكن بكبرياءٍ وتشامخٍ فيفقد الكثير، بل ويفقد خلاص نفسه وأبديته.
12 وَرُبَّ إِنْسَانٍ بَلِيدٍ، فَاقِدِ الْمَدَدِ، قَلِيلِ الْقُوَّةِ، كَثِيرِ الْفَقْرِ، 13 نَظَرَتْ إِلَيْهِ عَيْنَا الرَّبِّ بِالْخَيْرِ، فَنَعَشَهُ مِنْ ضَعَتِهِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَتَعَجَّبَ مِنْهُ كَثِيرُونَ. 14 الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، الْفَقْرُ وَالْغِنَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. 15 الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ وَمَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. الْمَحَبَّةُ وَطُرُقُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِنْدِهِ. 16 الضَّلاَلُ وَالظُّلْمَةُ خُلِقَا مَعَ الْخَطَأَةِ، وَالَّذِينَ يَرْتَاحُونَ إِلَى الشَّرِّ، فِي الشَّرِّ يَشِيخُونَ. 17 عَطِيَّةُ الرَّبِّ تَدُومُ لِلأَتْقِيَاءِ، وَمَرْضَاتُهُ تَفُوزُ إِلَى الأَبَدِ.
ويوجد آخر كسول ويحتاج إلى عونٍ، تنقصه القوّة ويزداد فقرًا،
لكنّ عيني الربّ تنظران إليه لخيره، ويُعيد خيره من حاله الوضيع [12]،
كثيرون حتى من المشاهير والعظماء والأبطال إذ يقارنون بين مديح الناس لهم وحقيقة إمكانياتهم يُصابون بحالة إحباط، وتتحوَّل إلى مرضٍ نفسي. يُقَدِّم لهم هنا العلاج وهو الإيمان بأن الله يركز عينيه على الإنسان لأنه محبوبه، بنعمته ينهضه ويهبه الثقة في النفس self-confidence.
يرفع رأسه، فَيَدْهش بهذا الكثيرون [13].
يتطلَّع سليمان الحكيم إلى التاريخ فيرى فرسان اشتهروا بالشجاعة والقدرة على الدخول في المعارك، ونالوا نصرات، لكن منهم من سقط في الهزيمة فجأة. لهذا كان يليق بهم أن يُدرِكوا أن النصرة من عند الرب. "الفرس معد ليوم الحرب، أما النصرة فمن الرب" (أم 21: 31)
الخير والشر، الحياة والموت، والفقر والغِنَى من عند الربّ [14]...[10]
يؤكد الكتاب المقدس حقيقتين تمسّان حياة الإنسان، وهما أن الله وهب الإنسان حرية الإرادة حتى يكون مسئولًا عن تصرُّفاته، والثانية أن العقل عطية فائقة حتى يُدَبِّر حياة الإنسان بفهمٍ.
من جهة حرية الإرادة، قيل:
v الله كصالحٍ ومحبٍ (جوَّاد) وهب الإنسان حرية بخصوص الخير والشر، واهبًا إياه عقلًا به يقدر أن يعاين العالم وكل ما فيه، فيعرف الله الذي خلق لأجله كل شيءٍ. أما الإنسان الشرير، فقد يرغب في هذا (معرفة الله)، لكنه لا يفهم، بل يهلك بعدم إيمانه وبتفكيره المناقض للحقيقة. هذه هي حرية الإنسان فيما يختص بالخير والشر[11].
v (كان آدم حُرًّا ليقطف أو لا يقطف الثمرة المميتة).
جرّب ما أقوله بهذه الأمور التي هي خاصة بك ليصير حلّ شكوكك من تفكيرك.
لك سلطان أن تشتل أو لا تشتل شتلة، وبين يديك إمكانية فعل أي من الأمرين.
لو تشاء تشتل كرمًا يصير كرمًا، ولو لم ترد لن تشتله ولن يصير هكذا.
هكذا أعطى العادل الحرية لآدم الذي جبله، كان في سلطانه أن يحفظ ذاته من المضرات.
حُدد ذاك الأمر لتلك الحرية، لتُقَاد بإرادتها إلى حيث تشاء.
وضع لها سياجًا: ذلك الناموس لئلا يدخل إليها الزرع الشرير مثل غريب ليس مُلكها.
فتحت الباب ودخل إليها الماكر وألقى زرعه، ففسدت أرض النفس التي كانت فردوسًا.
نمى الشر وصار شجرة مملوءة موتًا، وعادت وأعطت ثمار الموت لمن شتلها.
كما أرشد موسى الشعب وهو يُعَلِّمه (قائلًا): انظر إلى قلبك، لا يكن فيه إثم بغيض.
هكذا أمر الآبُ آدم لئلا يأكل، أعني لا تقبل فيك زرعًا شريرًا[12].
أما عن علاقة العقل بالنفس والجسد، فيُحَدِّثنا القديس أنطونيوس الكبير، قائلًا:
v الحياة هي اتحاد بين العقل (الروح) والنفس والجسد، وترابط بينهم، وأما الموت فهو تمزيق لهذه الوحدة، ولكن لا هلاك لهذه (العناصر) كلها بل يحفظها الله حتى بعد الانفصال[13].
v العقل الذي يرضي الله، يتدفَّق أمام النفس ويشير عليها أن تزدري بالزمنيات الماديات الفانيات، وأن تحب البركات الروحية الأبدية غير الفاسدة، حتى أن الإنسان وهو بعد في الجسد يدرك السماويات والإلهيات بذهنه ويتأمل فيها. بهذا يكون العقل المحب لله نافعًا للنفس ومُنقِذًا لها.
v النفوس التي لا يلجمها العقل، ولا يسيطر عليها الذهن، ويقمع شهواتها من لذات وآلام، ويُدَبِّرها ويُوَجِّهها (توجيها سليمًا)، هذه النفوس تهلك كالحيوانات العجماوات. لأن عقولهم تسحبها الشهوات، كما تسحب الخيول الجامحة سائقيها.
v توجد النفس في الجسد، ويوجد العقل في النفس، وتوجد الكلمة في العقل، وبالكلمة نتأمل الله ونُمَجِّده، الذي يعطي خلودًا للنفس، ويهبها سعادة أبدية غير فاسدة.
v زينة الجسد هو العقل، وزينة العقل هو الله[14].
نظرة العاقل للغِنَى: إذ يتلامس المؤمن مع رعاية الرب، لا يضطرب بسبب الفقر، ولا يتشامخ بسبب الغِنَى. كل ما يشغله هو الالتصاق بالرب.
v إن كنت تنظر إلى الغِنَى وكمال التمتُّع به ليس إلا زهوًا خادعًا لأمد قصير، وتعرف أن الحياة الفاضلة التي ترضي الله هي أفضل من الغِنَى، وتتمسك بهذا المعتقد، وتحتفظ به في ذاكرتك، فإنك لن تتأوَّه ولا تتذمر ولا توبخ أحدًا قط، بل تشكر الله على كل حال حتى إن رأيت أناسًا أَشرّ منك يُمدَحون بسبب فصاحتهم أو معرفتهم أو غناهم. إن شهوة الغِنَى بجشع والملذَّات، ومحبة الشهوة والمجد الباطل، مقترنتين بجهل الحق، لهما أَشرّ آلام النفس[15].
عطية الرب تبقى مع الأتقياء،
ورضاه يجلب ازدهارًا إلى الأبد [15].
يقول الحكيم: "الخير والشرّ، الحياة والموت، والفقر والغِنَى من عند الربّ" (راجع سي 11: 14). يتساءل البعض هل الله هو مصدر الشرّ كما هو مصدر الخير؟ هل الله واهب الحياة هو ينبوع الحياة وينبوع الموت؟ هل واهب العطايا هو مصدر الفقر كما الغِنَى؟
v سبب الموت هو الشيطان، ذاك الذي خدع الإنسان، ولكن الله أنزل عليه عقوبة الموت ليس بكونه أصدر أولًا (الأمر بالموت)، وإنما كعقوبة (طبيعية) للخطية. لقد أجبت بنفسك على السؤال تمامًا عندما قلت لقد تُرِك الإنسان لنفسه، فإذا به يصير عذابًا لنفسه، خلال حكم الله، وتم ذلك بحرية إرادته. ليس من تضارب أن الإنسان نفسه هو مصدر عقوبته، وأن الله ينتقم من الخطية[16].
v افتح يا رب دار الخزينة لنا، عند صلوات توسلاتنا.
لتخدم صلواتنا كسفيرٍ عنا، وتصالحنا مع لاهوتك.
أصغوا أيها الحكماء وانتبهوا يا كل المُتعلِّمين.
اطلبوا الفهم والمعرفة، ناظرين أنكم مُتعلِّمون وحكماء (بالربّ)[17].
v عندما ترى جثمانًا محمولًا في السوق، ويتبعه أطفال أيتام، وأرملة تقرع صدرها، وخدم ينتحبون، وأصدقاء مكتئبون. تأمل في تفاهة الأمور الحاضرة، وأنها لا تختلف في شيءٍ عن الظل أو الحلم. ألا يناسبك هذا؟ فَكِّر في أولئك الذين كانوا أثرياء جدًا وهلكوا في الحرب. تطلع إلى البيوت التي حولك والتي كانت تخص عظماء مشهورين والآن نزلت حتى الأرض.
تأمل كيف كانوا قادرين والآن لم يُترَك لهم أية ذكرى. فإن أردت تجد كل يومٍ أمثلة لهذه الأمور: من خلافات الحكام، ومصادرة أموال الأغنياء. كثير من الطغاة جلسوا على التراب، وذاك الذي لم يفكر قط ارتدى التاج" (راجع سي 11: 15). أليست أمورنا أشبه بعجلة؟[18]
18 رُبَّ غَنِيٍّ اسْتَغْنَى بِاهتِمَامِهِ وَإِمْسَاكِهِ، وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْ أُجْرَتِهِ، 19 أَنْ يَقُولَ: «قَدْ بَلَغْتُ الرَّاحَةَ، وَأَنَا الآنَ آكُلُ مِنْ خَيْرَاتِي»، 20 وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَمْ يَمْضِي مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ ذلِكَ لِغَيْرِهِ وَيَمُوتَ. 21 أَقِمْ عَلَى عَهْدِكَ، وَثَابِرْ عَلَيْهِ، وَشِخْ فِي عَمَلِكَ. 22 لاَ تَعْجَبْ مِنْ أَعْمَالِ الْخَطَأَةِ. آمِنْ بِالرَّبِّ وَابَقَ عَلَى جَهْدِكَ. 23 فَإِنَّهُ هَيِّنٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، أَنْ يُغْنِيَ الْمِسْكِينَ فِي الْحَالِ بَغْتَةً. 24 بَرَكَةُ الرَّبِّ فِي أُجْرَةِ الْتَّقِيِّ، وَهُوَ فِي لَحْظَةٍ يَجْعَلُ بَرَكَتَهُ مُزْهِرَةً. 25 لاَ تَقُلْ: «أَيُّ حَاجَةٍ لِي، وَأَيُّ خَيْرٍ يَحْصُلُ لِي مُنْذُ الآنَ». 26 لاَ تَقُلْ: «لِي مَا يَكْفِينِي، فَلِمَ أَتَعَنَّى مُنْذُ الآنَ؟»
شرح لنا السيد المسيح هذا القول بمثل الغني الذي ظن أن مقتنياته تهب نفسه شبعًا لسنين طويلة، ولم يكن يَعْلَم أن نفسه تُطلَب منه في ذات الليلة (لو 12: 16-21).
يوجد إنسان يغتني بسبب اهتمامه واقتصاده،
وهذا هو نصيب مكافأته: [16]
حين يقول: "قد وجدت الراحة، والآن سأقتسم خيراتي"،
وهو لا يعلم كم يمضي من الزمن حتى يموت ويترك ذلك لآخرين [17].
من الأمور المُحزِنة للغاية أن يقضي الإنسان كل حياته يُعد ما يقتنيه للمستقبل في هذا العالم ولا يدري ما سيحل. موقفه هذا مؤسف للغاية، إذ يضع رجاءه في غير موضعه. فالثروة يمكن أن تحفظ الإنسان من كثير من المتاعب، لكنها لا تستطيع أن تطرد الموت عن صاحبها. يسلب الموت الإنسان مما كرَّس حياته لاقتنائه. هذا ما أَكَّده مثل الغني الذي بنى الكثير من مخازنه ليأكل ويشرب ويفرح، وإذا به يسمع صوت الربّ: "يا غبي، الليلة تُطلَب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟!" (لو 12: 16-20). هذا المثل يُقَدِّم تحذيرين: الاستعداد للعبور من هذا العالم؛ وتحاشي الطمع.
الكارثة لا في موت الشخص بل في عدم استعداده للعبور من العالم، وفقدان كل حياته لجمع ما سيتركه لاإراديًا، لهذا دعاه السيد "غبيًا" (لو 12: 20).
اثبت على عهدك، واهتمّ به،
وابلغ الشيخوخة في عملك [18].
v لا يظن أحد أن الرسول يختلف عن كلماتنا هذه بقوله: أن يشتغلوا بهدوء، ويأكلوا خُبْزَ أنفسهم (2 تس 3: 11-12). هذه الوصية مُوَجَّهة للعنيدين والمُتراخِين، وتعني أنه من الأفضل لكل إنسانٍ أن يخدم على الأقل نفسه، ولا يُمَثِّل ثقلًا على الآخرين ويعيش عاطلًا... مرة أخرى، قوله: "كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلًا ونهارًا، لكي لا نُثَقِّل على أحدٍ منكم" (2 تس 3: 8)، تحمل نفس المعنى. باسم المحبة الأخوية تَحَمَّل الرسول ثقل العمل بجانب التزامه من جهة الذين فُرِضُوا عليه، وذلك بهدف استبعاد الفوضى. التزم هذا الذي يجاهد بشغفٍ من أجل الكمال، أن يعمل ليلًا ونهارًا، "ليكون له أن يعطي من له احتياج" (أف 4: 28). الإنسان الذي يعتمد على نفسه أو حتى على شخصٍ آخر مُلتزِم أن يمدَّه باحتياجاته، ويظن أن بنشاطه ونشاط من يجتمع معه يكفي أن يُعِينَه في معيشته، يسقط في خطر، إذ يضع رجاءه في إنسانٍ، فيسقط تحت اللعنة التي تقول: "ملعون الرجل الذي يتَّكِل على الإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه" (إر 17: 3).
الآن بالقول: "يَتَّكِل على الإنسان"، يمنع الكتاب المقدس الإنسان أن يضع رجاءه في آخر. وبقوله: "يجعل البشر ذراعه" يمنعه من الاتِّكال على نفسه. في كلا الحالتين ارتداد عن الرب (أي يحيد قلبه عن الرب). بعد ذلك يضم الاثنين معًا بقوله: "ويكون مثل العرعر tamaric في البادية (الصحراء)، ولا يرى إذا جاء الخير" (إر 17: 6). يُعلِن الكتاب المقدس أن أي إنسانٍ يجعل اتِّكَاله على نفسه أو على أحدٍ غيره، يحيد بنفسه عن الرب[19].
v إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مُطلَقًا.
فقد بقي علينا أن نعمل لأنفسنا، لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي للحياة الأبديَّة (يو 6: 27)، لا لحاجاتنا الجسديَّة فقط، بل لنُسعِف القريب أيضًا (أف 4: 28). وسيقول لنا الرب في يوم الدين: "جُعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني..." (مت 25: 35). ويُعَدّ ما نفعله مع من كرَّسوا أنفسهم له كأنَّنا نعمل معهم، ويُعطَى لنا عن ذلك الملكوت السماوي.
وبعكس ذلك سيُعاقَب الذين لم يعملوا ولم يتعبوا ليساعدوا الضعفاء ويخدموا القريب (أع 20: 4، 35)، ويرسلهم إلى العذاب الأبدي (مت 25: 41–46)[20].
لا تتعجب من أعمال الخاطئ، بل ثق بالربّ، وثابر في عملك،
فإنه هَيِّن في عيني الربّ أن يُغنِي الفقير في الحال بغتة (دون توقعٍ) [19].
بركة الربّ في مكافأة الإنسان التقيّ،
وفي لحظةٍ يجعل الله بركته تزدهر [20].
لا تقل: "أية حاجة لي؟
وأية خيرات تحصل لي مستقبلًا؟" [21]
لا تقل: أنا مستقل[21]. من الآن فصاعدًا
أيّ سوء سيصيبني؟" [22].
يميل الإنسان بطبيعته منذ الصغر أن يكون مكتفيًا بذاته، لا يعتمد على غيره. هذا الميل له بركاته إن أُستخدم باعتدال وحكمة، خلاله يشعر بنوع من الاستقلال. أما إن عزل نفسه عن الله، ولا يتكل عليه، فيدفعه هذا إلى نوعٍ من الديكتاتورية والتشامخ.
يسند الله الإنسان لينعم بالشخصية السوية، إحدى متطلباتها الثقة بالنفس self-confidence، خلال عمل نعمته الإلهية، ولكن ليس في غرورٍ بنفسه وتشامخٍ علىٍ خالقه الذي يرعاه.
27 إِنَّ الْبُؤُوسَ تُنْسَى فِي يَوْمِ الْنِّعَمِ، وَالْنِعَمَ لاَ تُذْكَرُ فِي يَوْمِ الْبُؤُوسِ. 28 فَإِنَّهُ هَيِّنٌ عِنْدَ الرَّبِّ أَنْ يُجَازِيَ الإِنْسَانِ بِحَسَبِ طُرُقِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ. 29 شَرُّ سَاعَةٍ يُنْسِي اللَّذَّاتِ، وَفِي وَفَاةِ الإِنْسَانِ انْكِشَافُ أَعْمَالِهِ. 30 لاَ تُغَبِّطْ أَحَدًا قَبْلَ مَوْتِهِ. إِنَّ الرَّجُلَ يُعْرَفُ بِبَنِيهِ.
في يوم الخيرات، تُنسَى البلايا،
وفي يوم البلايا لا تُذكَر الخيرات [23].
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب في وسط بلاياه يذكر الأعمال التي سبق فصنعها حتى لا تنجذب نفسه إلى اليأس، بل تلجأ إلى الرجاء الآمن.
v (في رسالة يتحدَّث فيها عن تاريخ خطية فابيولا Fabiola ثم عن توبتها)
إذ أجد نفسي ترتطم بضعفات خطية فابيولا تحدثت كثيرًا عنها وعن توبتها، لكي ما أفتح طريقًا متسعًا وهادئًا لا يُعاق، وذلك لكي ما أصف مديحها. لقد عادت إلى الشركة أمام أعين كل الكنيسة. ماذا فعلت؟ أيام الخيرات نست البلايا (راجع سي 11: 23). وعندما تحطَّمت سفينتها لم ترد أن تواجه مخاطر البحر مرة أخرى. لذلك عوض أن تعود تركب السفينة التي لحياتها القديمة، باعت كل ما استطاعت أن تمد يدها إليه من ممتلكاتها (إذ كانت ضخمة تليق برتبتها)، وحولته إلى نقدية وقدمته لفائدة الفقراء. لو أقام شخص مستشفى تضم المتألمين في الشوارع، كانت تقوم بتمريضهم، ولكل ضحايا الأمراض والعوز[22].
فإنه هَيِّن عند الرب أن يكافئ الإنسان يوم موته حسب طرقه [24].
ساعة المعاملة القاسية تجعل الإنسان ينسى الرفاهية،
وعند نهاية حياة الإنسان تنكشف أعماله [25].
يصعب الحكم على شخصٍ ما دام لا يزال يتنفس، وحتى بعد موته لا تتسرَّع الكنيسة في اعتبار الشخص قديسًا.
v ليس شيء ضد الفلسفة (الحكمة) مثل حياة اللذة، ومن جانب آخر، ليس شيء نافع للفلسفة مثل الألم. تأمل ما سيكون حال الإنسان الطمَّاع. إذ يُقال: "ساعة سوء تُنسي الإنسان اللذات" (راجع سي 11: 25)[23].
لا تعتبر أحدًا سعيدًا قبل موته،
والإنسان سيُعرَف في أبنائه [26].
مدح الراقدين أفضل من مدح الأحياء: يُمدَح الإنسان الحكيم التقي، خائف الرب، في خاتمة حياته، فإن مدح الإنسان في نهاية حياته أفضل من مدحه أثناء حياته.
v مكتوب إن الحكمة تُعرَف عند الموت، بمعنى أن حياة الإنسان الحكيم تُمدَح في نهاية حياته. لذلك نقرأ في موضوع آخر: "لا تمدح إنسانًا أثناء حياته، وأيضًا لا تغبط إنسانًا قبل موته" (راجع سي 11: 26-28). لتفترض أن إنسانًا يقول: امتدح إنسانًا بعد موته، لأن مديح الإنسان الحي يمكن أن يكون فرصة للمجد الباطل، من أجل الثناء عليه أو للإطراء لمن يقدم له المديح.
في كل الأحوال، مديح الميت نافع، أولًا لأنه إذ يكون الشخص غائبًا من يكافئنا عن مديحنا له؟ من الضروري أن يشير المجد كله لواهب النعمة. ثانيًا فإن الإعجاب بالفضيلة يبقى دون ريب من جهة المداهنة. لذلك فإن مديح الأموات الذي يُعلن في جماعة المؤمنين المقدسة مملوء بالتثقيف وخالي من أي نوع من التملُّق[24].
هيلاري أسقف آرل
v "لا تفتخر بالغد، لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم" (أم 27: 1). لقد كُتِب: "لا تغبط أحدًا قبل موته". فمادمنا نعيش نحن مشغولون بمعركة، وليس من نصرة أكيدة تلك التي تظهر في الحياة العتيدة[25].
v كيف يمكنك أن تعرف ذاك الذي هو غير معروف حتى لنفسه؟... أين إذن الضمان؟ هنا لا يوجد أي ضمان في هذه الحياة، اللهم إلا بالرجاء في وعد الله. أما هناك عندما نصل فنكون في أمان كامل، حيث تغلق الأبواب، حيث تتشدَّد عوارض أبواب أورشليم (مز 147: 13). هناك بالحق التهليل الكامل، والبهجة العظيمة. إنك لا تشعر بأمان في مدح أي نوع من الحياة: "لا تغبط أحدًا قبل موته" (راجع سي 11: 26)[26].
v الموت الذي كان ممقوتًا صار موضوع تسبيح ويُعلن كأمرٍ مُطوَّب. ما كان في وقتٍ ما يسبب ألمًا وحزنًا ودموعًا وكآبة، يظهر كمصدر فرحٍ وتعييدٍ. كل خدام الله يتمتَّعون بالموت المُطوَّب، لأن نهاية حياتهم تحمل أمانًا حيث يُرَحِّب الله بهم. بالحقيقة يصيرون كاملين، وهذا الكمال يرد لهم التطويب ويهبهم صلابة الفضيلة، كما يؤكد التعليم: "لا تحكم على أحدٍ قبل موته" [26][27].
31 لاَ تُدْخِلْ كُلَّ إِنْسَانٍ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ مَكَايِدَ الْغَشَّاشِ كَثِيرَةٌ. 32 كَصِفَةِ الْحَجَلِ الصَّيَّادِ فِي الْقَفَصِ، صِفَةُ قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ، وَهُوَ كَرَاصِدٍ يَرْقُبُ السُّقُوطَ. 33 فَإِنَّهُ يَكْمُنُ، مُحَوِّلًا الْخَيْرَ إِلَى الشَّرِّ، وَيَصِمُ الْمُخْتَارِينَ بِالنَّقَائِصِ. 34 مِنْ شَرَارَةٍ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُ الْحَرِيقُ، وَالرَّجُلُ الْخَاطِئُ يَكْمُنُ لِلدَّمِ. 35 احْذَرْ مِنَ الْخَبِيثِ الَّذِي يَخْتَرِعُ الْمَسَاوِئَ، لِئَلاَّ يَجْلُبَ عَلَيْكَ عَارًا إِلَى الأَبَدِ. 36 أَدْخِلِ الأَجْنَبِيَّ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَيَقْلِبَ أَحْوَالَكَ بِالْمَشَاغِبِ، وَيَطْرُدَكَ عَنْ خَاصَّتِكَ.
مع حديث سيراخ المستمر عن العطاء والصدقة والحب، إلا إنه يود أن يلتزم المؤمن بالحكمة والاعتدال في كل تصرُّفٍ لأجل بنيان نفسه وبنيان من يتعامل معهم. فيُحَذِّر من استغلال الأشرار خدمة الغرباء والفقراء والأعداء.
يرفض ابن سيراخ تقديم عطاء لمن يُصرّ على الشر، كمن يأخذ صدقة ليشتري سلاحًا يقتل به، أو يشتري مخدّرات إلخ. [12: 1- 2]. مسيحنا يدعونا في الموعظة على الجبل إلى العطاء بحبٍ حتى إلى الأعداء (مت 5: 44-45)، فنشهد بحب الله للخطاة الذين دخلوا في عداوة ضد الله. يرى القديس أغسطينوس أن الحب يدفعنا إلى العطاء بروح الحكمة، فإن عرفنا أن العطاء يُستخدَم لأذية طالب الصدقة أو المحيطين به، يلزمنا أن نعطيه ليس مالًا، وإنما بروح الحب والحنو، نُقَدِّم له مشورة مقدسة في الرب. بهذا نتشبَّه بالرب الذي حتى في تأديبه يُقَدِّم حبًا مع شوقٍ لرجوع الشرير عن شرِّه.
لا تُدخِل كل إنسانٍ إلى بيتك،
فإن مكائد المخادع كثيرة [27].
يليق بالمؤمن مع حبه لاستضافة الغرباء، إن عُرف عن إنسان أنه نمَّام ويروِّج إشاعات وأكاذيب لا يدعوه إلى بيته، لئلا يُفسِد نقاوة قلب أهل البيت. فالنمَّام يُحوِّل حتى الخير إلى شرٍ، وبكلماته الباطلة والكاذبة يشعل نارًا في وسط الأسرة لا تُحمد عواقبها (يع 3: 5-6). الإنسان الشرير يعمل على عزل المستمع إليه من مجتمعه سواء العائلي (أهل البيت) أو الكنسي. يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه لا يترك بيته متسيبًا، فيستضيف إنسانًا غاشًا قد يفسد طهارته وطهارة أهل بيته[28].
v مكتوب: "لا تُدخِل كل إنسانٍ إلى بيتك" (راجع سي 11: 27). فعندما يقترب غريب إليك، أولًا صلِّ إلى الله، وبعد ذلك اسأله عن اهتماماته، من أين جاء وإلى أين هو ذاهب. فإن ظهر لك أنه يجب عليك أن تُرَحِّب به، اقبله واسأله أن ينصرف بعد الأكل، ولا تعطه أي شيء آخر. فإنك إن دخلت معه في معاملات مادية تفوق قدراتك، سوف لا تقدر أن تحتمله بعد ذلك[29].
القديس برصنوفيوس وتلميذه يوحنا
v لستُ أقصد أن أُقَلِّل من فضيلة سلفائنا خاصة الاستضافة. في الحقيقة إنها من بين الفضائل الأكثر سموًا التي مارسها الآباء، هذه التي تحنو نحو التقوى. استضاف أحدهم الله المُخَلِّص على مائدته، وآخر استضاف ملائكة. أحدهم نال مكافأة، فصار له ابن في شيخوخته، والآخر تمتَّع بالخلاص هاربًا من سدوم (تك 18-19). هذه التي تحدَّث عنها الرسول عندما حثنا على الاقتداء به: "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب 13: 2).
على أي الأحوال لتكن لدى الشخص الذي يُقَدِّم استضافة حكمة الحية وبساطة الحمامة (مت 10: 16)، مُذعِنًا لوصية الربّ المضاعفة "كل من سألك فأعطه" (لو 6: 30)، "لا تُدخل كل إنسانٍ إلى بيتك" [27]. هذا لكيلا تجلب خطر ذئبٍ في مسكن يسكنه حمل (مت 7: 15)، أو دب حيث يوجد ثور (إش 11: 7)، الأمر الذي يُحَوِّل المكسب إلى خسارة.
أول كل شيءٍ، من الضروري مراعاة قدرتك على التسامح مع شخصيات صعبة للغاية.
أخيرًا يجب أن تضع في اعتبارك من هو هذا الذي تستقبله لينال منافع منك، هل هو غني أم فقير، بصحة جيدة أم ضعيف، محتاج إلى طعام أو ملابس. هذه هي المجالات التي خلالها تُمارَس الرحمة. بالحقيقة إبراهيم الطوباوي لم يستقبل في منزله (خيمته) مستشارين وقادة، الأشخاص المهيمنين في هذا العالم الزائل، الذين لديهم خيول... كان إبراهيم ساكنًا في مكانٍ خالٍ يستضيف العابرين، هؤلاء الذين يسافرون في الصحراء يأتون إلى الأب منجذبين نحو فضيلته، وقد صار منهم شحاذين في فقرٍ شديدٍ. بنفس الطريقة لوط الذي عاش في أَشرّ مدينة في هذه الصحراء، بحقٍ كان يُرَحِّب بكل العابرين، ليحفظهم من عادات سكانها[30].
قلب المتكبر كالحجل الموضوع طُعما في القفص،
وكجاسوسٍ يرقب سقوطك [28].
جاء في إرميا 17: 11 "حجلة تنطق بصوتها (الترجمة السبعينية)، تحتضن ما لم تبض، محصل الغنى بغير حقٍ؛ في نصف أيامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق". غالبًا ما كان هذا مثلًا شائعًا في ذلك الحين، يُقصَد به أنه إذ يظن الإنسان أنه يملك لكنه وهو يتعب ويشقى يخسر الكثير ويتركه الغنى وهو بعد في العالم في منتصف أيامه، أما في آخرته فيدرك أنه سلك بحماقة. هذا هو التفسير الحرفي للعبارة؛ وقبل أن نلقي ضوءً عليها خلال المفهوم الروحيّ العميق، نود توضيح أن الحجلة هي طائر برّي، يسمى في العبرية "قوري"، وتعني "الصارخ أو المنادي". ولعله لهذا السبب جاء في النسخة السبعينية: "حجلة تنطق بصوتها" أو "تعطي صوتها"، إنها صاحبة أصوات لكن بلا عمل حق! هكذا الغني في جهاده المُرّ من أجل التمتُّع بالغنى ماديًا أو الشبع جسديًا، يكون كمن يعطي صوتًا بلا عملٍ، لأنه يترك كل شيءٍ ويخرج عريانًا من هذا العالم.
يرى القديس هيبوليتس أن هذا الطائر متعجرف، فإذ ترى الحجلة عش حجلة أخرى به صغار دون أمه تصنع صوتًا تقلد به صوت الأم وتدعو الصغار إليها وتأخذهم وتجري بهم. فتبتهج متكبرة أنها استولت عليهم، لكن إذ تأتي الأم الحقيقية وتنادى بصوتها يكتشف الصغار خداع الأولى ويتركون المخادعة ويذهبون إلى الأم الحقيقية. هذا يحدث عندما يأتي ضد المسيح، فإنه يجتذب البشرية إليه بخداع ليملك على من هم ليسوا له، ويعدهم بالخلاص مع أنه غير قادر على خلاص نفسه[31].
تشير الحجلة إلى إبليس وجنوده خاصة الهراطقة، تعطي صوتها الذاتي، ولا تنطق بما لله، أما أولاد الله فينطقون بما لله لا بما لذواتهم، وكما يقول الرسول بولس: "إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ" (2 كو 13: 3).
يتحدَّث القديس غريغوريوس النيسي عن الإنسان الذي يرتبط بحيل إبليس ويسقط تحت خداعات العدو: [لا يعود الله الصالح الحقيقي والآب إلهًا وأبًا لذاك الذي بفساده يصير خارجًا عن القانون... وعوض الآب يأتي من يبدو أبًا والذي باطلًا يدعى الحجلة التي تحتضن ما لم تبض كقول إرميا[32].]
يرى العلامة أوريجينوس أن الشيطان هو الحجلة مثل فرعون الذي لا يريد من الشعب إن يترك أرضه ليعبد الرب.
فإنه يكمن منتظرًا ويُحَوِّل الخير إلى الشر،
وفي خير الأمور يجد لومًا على ما يختاره الصالح [29].
من شرارة واحدة تندلع نار في الفحم،
والرجل الخاطئ يكمن انتظارًا لسفك الدم [30].
احذر من الشرير ومكائده،
لئلا يلحق بك عار إلى الأبد [31].
v كما أن السُّذَّج وغير المتعلِّمين يستهزئون بالعلوم ويرفضون الاستماع إلى شيءٍ منها، لأن المعرفة عندهم جهالة، لهذا يودّون أن يكون الكل جهلاء مثلهم، هكذا أيضًا المُنحلُّون في حياتهم وأخلاقهم لهم شوق عظيم أن يكون الكل أَشرّ منهم، ظانّين أنهم بهذا يجدون عذرًا لأنفسهم باعتبار أن الأشرار كثيرون[33].
v العاقل أو من يكون قد شرع في إصلاح نفسه، هو وحده الذي يليق به أن يُدعَى إنسانًا... لأن هذه الصفة (عدم القابلية للإصلاح) لا تليق بالإنسان، ومثل هذا الإنسان يجب اجتنابه.
أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين[34].
استقبل الغريب إلى بيتك، فسوف يُحزِنك بالضيقات،
ويُبعِد عنك أهل بيتك [32].
v حضورك الإلهي يُقدِّس أسرتي وأصدقائي.
كثيرًا ما اتكلت على حكمتي البشرية،
فخدعتني المظاهر الخارجية في كل من ألتقي به.
لتُعلِن حضورك في داخلي، يا أيها العجيب في تواضعك!
بك أسلك بروح الحكمة في تواضع.
تعبر بي حكمتك من آخر الصفوف،
وتجلسني في مجلس السمائيين.
تنزع عني الحماقة التي حدرتني إلى المذبلة.
v بك يا حكمة الله المتجسد لا يخدعني جمال إنسانٍ ومظهره.
ولا أسخر بأحدٍ بسبب عيبٍ في جسده!
تطلع صموئيل النبي إلى جمال شاول وطول قامته،
فظن أنه خير من يصلح ملكًا.
وتطلَّعت أنت إلى قلب داود الصبي، فأَعددته ليجلس على كرسي شعبك.
v كثيرون يتطلَّعون إلى النحلة كحشرة صغيرة تلدغ،
ولم يُدرِكوا أن أممًا كثيرة تعيش على العسل الذي تنتجه.
هكذا كثيرون يتطلعون إلى أشخاص يبدون بلا جمال،
ولا يدركون أنهم سينالون عرشًا مجيدًا من يديك.
يندم أحيانًا زوج، لأن زوجته ناقصة في جمال الجسد،
ولم يدرك أنها تفوق الكثيرات بجمال الروح والفكر.
في عينيه تمثل ثقلًا يود الخلاص منها، وفي عينيك قلبها سماء ثانية متهللة!
v هب لي التعقُّل وعدم التسرُّع في الحُكْمِ على الآخرين.
هب لي ألا أَتوقَّف عن العمل حتى النفس الأخير،
فأقتدي بالملائكة الذين لا يملُّون من العمل المُستمِر حسب مشيئتك.
هب لي ألا أرتبك بأعمال كثيرة،
بل أهتم أن أكون أمينًا في القليل،
فأتأهل لنوال الكثير في الأبدية.
لأعمل بفرحٍ، فأترقَّب يوم خروجي من العالم متهللًا.
هب لي الحكمة، فلا أسمح لكل أحدٍ أن يدخل بيتي،
لئلا تخرج يا أيها القدوس منه.
هب لي في وسط الضيق ألا أشتهي الفشل لمن سبَّبه لي.
هب لي في وسط آلامي أن أشكرك على أيام الفرج القديمة.
v بحُبِّك وهبتني الإرادة الحُرَّة، من يقدر أن يُقَدِّسها ويُثَبِّتها غيرك.
بك أَتحدَّى الشر، وأحتضن الخير،
بك أشكرك حتى إن افتقرت، وأخدمك بما وهبتني من مقتنيات.
بك أَتحدَّى الموت، وأستعذب الحياة فيك!
في وقت القحط لا أنسى أيام الخير،
وفي وقت الازدهار أُقاسِم إخوتي فيما أعطيتني!
v لتعبر أيام غربتي وأنا في صحبتك، وأَترقَّب الموت بروح الرجاء.
في طريق الغربة لا أنتقد أحدًا ولا أمدحه،
فإنني أَترقَّب نعمتك مع كل صباحٍ.
لا تسمح لي في غربتي أن يكون قلبي متكبِّرًا.
كالحجل المحبوس في قفص.
إنه لا يكف عن الصراخ المُزعِج بلا عملٍ!
عوض هذا الصوت، أَتمتع بكلمتك العذبة.
لأنه ليس بالخبز وحده أحيا هنا،
وإنما بكل كلمة تخرج من فمك.
أخيرًا، قَدِّسني أيها القدوس،
وقَدَّس كل أسرة وكل الأصدقاء، بل وكل العالم.
_____
[1] J. Liesen & L.W. Manhardt: Wisdom, Steubeniville, O: Emmaus Road Publishing, Ch. 19, Sirach 11-22.
[2] Homilies on 1 Timothy, hom. 4.
[3] Tract. In Joannem 1: 14.
[4] Homilies on Ephesians, Hom. 20.
[5] Commentary on Isaiah 1: 1-3.
[6] Concerning The Statues, Homily 17 : 14
[7] Christ the Educator, FOTC, Vol. 23, p. 182-186, Article 109.
[8] On 1 Timothy, Homily 2.
[9] Paedagogus, chapter 7.
[10] وُجِدت العبارتان التاليتان في بعض المخطوطات القديمة:
الحكمة والفهم ومعرفة الشريعة والحب والطرق الفاضلة من عند الرب [15].
الضلال والظلمة خُلقا مع الخطاة،
والشر يشيخ مع الذين يفتخرون بالخبث [16]
سأترك ترقيم العبارات كما ورد في The Orthodox Study Bible.
[11] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 125.
[12] الميمر 66 على شجرة معرفة الخير والشر وعلى الصدقات وعلى الفقر (راجع نص بول بيجان ترجمة الدكتور بهنام سوني).
[13] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 93.
[14] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:3.
[15] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 4.
[16] Against Julian, Catholic, Vol. 35, p. 279-280.وُ
[17] Hymns preserved in Armenian 1: 1.
[18] On 2 Thess., Homily 1.
[19] Regulae fusius tractatae, 42.
[20] Regulae brevius tractatae Question 207.
[21] Independent أي عندي ما يكفيني ولا حاجة لي لأحد.
[22] Letter to Oceanus, 77: 6.
[23] Ibid, 5.
[24] Hilary of Arles: Life of St. Honoratus, Preface 3.
[25] Dogmatic and Polemical Works, Catholic, Vol. 53, p. 301-303.
[26] On Ps 100 (99).
[27] Homily on the Dormition, 1: 12.
[28] Cf. St. Clement of Alexandria, Paedagogus, Catholic Vol. 23, p 220-224.
[29] Letters, Catholic, Vol. 114, p. 261.
[30] Dialogue on the Life of St. John Chrysostom, 12.
[31] Cf. St. Hyppolutus: Treatise on Antichrist, 55.
[32] Against Eunomius, 12:1.
[33] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 8.
[34] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة، 13.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 12 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 10 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7fbybhw