← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33
الأصحاح الثامن عشر
في الأصحاح السابق كشف ابن سيراخ عن اعتزاز الله بالإنسان، فأبرز خلقته الفريدة على صورة الله، وعند سقوطه قَدَّم له الخلاص، ودعاه للعودة إليه ليسترد الصورة المفقودة. تلامس ابن سيراخ مع حنو الخالق والمُخَلِّص وعمله العجيب في حياة التائبين فقدَّم تسبحة له في شكل قطعة شعرية.
[1 -5] (ت: 1-5) |
||||
[6 -13] (ت: 6-13) |
||||
[14 -19] (ت: 14-20) |
||||
[20 -28] (ت: 21-29) |
||||
[29 -33] (ت: 30-33) |
||||
* من وحي سيراخ 18: أُسَبِّحُك يا أيها الخالق العظيم من أجل تدبيرك! |
1 الْحَيُّ الدَّائِمُ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ عَامَّةً. الرَّبُّ وَحْدَهُ يَتَزَكَّى. 2 لَمْ يَسْمَحْ لأَحَدٍ أَنْ يُخْبِرَ بِأَعْمَالِهِ، 3 وَمَنِ الَّذِي اسْتَقْصَى عَظَائِمَهُ؟ 4 مَنْ يُعَدِّدُ قُوَّةَ عَظَمَتِهِ؟ وَمَنْ يُقْدِمُ عَلَى تَبْيَانِ مَرَاحِمِهِ؟ 5 لَيْسَ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ عَجَائِبِ الرَّبِّ، وَلاَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَلاَ أَنْ يَسْبُرَهَا.
ليس من مقارنة بين الله الحيّ إلى الأبد والإنسان الذي يظن أنه عظيم إن عاش مائة سنة (مز 90: 10). مع أنه إن عاش ألف عامٍ بمقارنته مع الله تُحسَب سنواته كقطرة ماء في البحر أو ذرة رمل في صحراء. هذا وتقديم السمائيين والأرضيين تسابيح وتماجيد لله، لن تزيده مجدًا (جا 3: 14).
تتجلَّى عظمة الله في اهتمامه بكل الخليقة (مز 103: 13-14). فبينما يحنو الإنسان على قريبه أو بعض الأقرباء والأصدقاء (13: 19)، تمتد رحمة الله على كل جنس البشر، كراعٍ يهتم بكل القطيع (إش 40: 11؛ مز 23: 1).
v بعدما تشبعون (تكتفون)، اشكروا هكذا:
نشكرك أيها الآب القدوس، من أجل اسمك القدوس، الذي أسكنته في قلوبنا، ومن أجل ما أعلنته لنا، من معرفة وإيمان وخلود، بيسوع ابنك، المجد لك أبد الدهور.
أنت، أيها السيد القدير، خلقت الكون للإشادة بذكر اسمه.
وأعطيت البشر الغذاء والشراب والتلذُّذ حتى يشكروك.
ولكنك كافأتنا نحن بغذاء وشراب روحيين، وبالحياة الأبدية، بيسوع ابنك[1].
الديداكية (تعليم الاثنا عشر تلميذًا)
الحيّ إلى الأبد خلق كل شيءٍ [1].
ورد في سفر التكوين (تك 1: 1) "فِي البدءِ خلق اللهُ السّماواتِ والأرض"، ثم شرح السفر بعد ذلك تفاصيل هذا الخلق، وفي كل هذه الخلائق عاقلة وغير عاقلة يؤول المجد إلى الله وتعود إليه العظمة.
v أعطني أيها الخالق أن أتكلم عن الخليقة وجمالها وترتيب تدبيرها.
بك أبدأ أن أتكلم حين أدهش بجبروتك، كم أنت مرتفع عن الناطقين...
أعطِ فمي أن يتحرَّك لتمجيدك، فإني غير مؤهَّل لذلك،
فقد اعتدت أن تُلبس المجد حتى لما هو سمج.
فقد أَلبست الشوك ورودًا، كلباسٍ أمجد من حلل الملوك.
حَرِّك فيَّ القول، كما تهب الشوك الورود الجميلة.
بروحك ينطق لساني بأمورٍ عالية مجيدة...
الربّ وحده سيُعلَن عنه أنه البار [2].
ليس من وجه مقارنة بين الله الخالق وخليقته سواء السماوية أو الأرضية، فهو وحده يُزكى، أي العادل أو البار [2].
لا يسمح لأحدٍ أن يُخبِر بأعماله،
لأنه من الذي يقدر أن يستقصي عظمة أعماله؟ [3]
أول سؤال قَدَّمه الله لأيوب يمسّ وجود ذاته، إذ يسأله أين كان حين وضع الله أساسات الأرض من أجله؟ (أي 38) فمن جانب لم يكن بعد أيوب ولا آدم نفسه قد خُلِق، ومن جانب آخر فإن الله خلق الأرض له ولإخوته قبل أن يكون لهم وجود. لم يكن أيوب في الوجود حين أَسَّس الله الأرض، وبالتالي لم تكن له قدرة على العمل مع الله في الخلقة أو تقديم استشارة أو حتى إدراك وفهم ما يفعله الله من أجله. كيف إذن يجسر أن يشكو من خطة الله نحوه. إن كان أيوب عاجزًا عن فهم وضع أساسات الأرض، فهل يقدر أن يدرك خطة الله وحكمته؟
v يقول الله: ماذا تقول؟ من أجلك أسست الأرض بعناية هكذا، فهل أهمل مَنْ مِنْ أجله خلقتها؟ ...ينطق بهذا للذين يطلبون منه أن يُقَدِّم حسابًا وتفسيرًا للأحداث دون التطلُّع إلى سمو حكمته. من الذي دفعني لهذا؟ من الذي أشار عليَّ؟ من الذي جاء ليعاونني؟
v هل عبر اليوم؟ أشكر ذاك الذي قدم لنا الشمس لخدمة عملنا النهاري، ويهبنا نارًا لكي تنير الليل وتخدم احتياجاتنا الأخرى في الحياة. ليت الليل أيضًا يوحي لنا بما يدفعنا للصلاة.
عندما تتطلَّع إلى السماء وترى جمال النجوم صلِّ إلى ربّ كل الأشياء المنظورة، خالق المسكونة الذي بحكمة صنع الكل (مز 104 :24). وعندما ترى كل الطبيعة تغُط في النوم، اسجد لذاك الذي حتى بغير إرادتنا يعتقنا من ضغط العمل المستمر، وبفترة راحة صغيرة يردّنا مرة أخرى إلى نشاط قوتنا. لا تسمح لليل بأكمله إن يكون للنوِم لا تسمح لنصف عمرك أن ينقضي بلا فائدةٍ في نوم ببلادةٍ وسباتٍ. بل قسم وقت الليل بين النوم والصلاة. وليكن نومك الخفيف ذاته تداريب للتقوى. فإن أحلامنا أثناء النوم غالبًا ما تكون انعكاسات لأفكارنا في النهار[2].
من يقيس عظمة قدرته برقم؟
ومن يضيف إلى هذا القياس وهو يصف مراحمه؟ [4]
سأل الرب أيوب: "من وضع قياسها؟ لأنّك تعلمُ! أو من مدّ عليها مطمارًا؟" (أي 38: 5) يسأله: إن كنت تعرف، من الذي وضع مقاييس الأرض وحدَّد أبعاد خط الاستواء؟ من هو المهندس المعماري الذي صَمَّم أبعاد الأرض؟ من الذي أمسك بالمطمار[3] لقياسها، مُحَدِّدًا مناطقها وأبعادها؟
يبرز الحديث الإلهي أن الأرض التي يعيش عليها الإنسان لم تُوجَد مصادفة بلا تخطيطٍ، وإنما وراءها المهندس الأعظم الذي وضع خطة دقيقة لإنشائها، خُلِقَت بحكمة الخالق وقدرته الفائقة.
ما زال العلم الحديث يحاول اكتشاف الكون من حولنا، لهذا نحن ننحني أمام كل أسرار الخليقة وهذه العظمة صامتين مُقَدِّمين المجد والسبح للخالق.
v إنها ليست بدون إبداع أُخِذَت المقاييس، ولا جاءت مصادفة أو بطريقة عشوائية، ولكن الله صَمَّمها بهدفٍ متناسقٍ، عملٍ كمعماريٍ بارعٍ.
v الإنسان الذي يريد ويؤمن، لا يكون طريق إدراكه لله صعبًا. فإن أردت أن تُعايِن الله، تأمل كمال نظام الخليقة التي أوجدها بكلمته، وعنايته بها، فإنه خلق هذا كله من أجل الإنسان[4].
ما من أحد يقدر أن يُنقص منها أو يزيد عليها،
ولا يوجد من يقدر أن يبحث في عجائب الربّ [5].
جميع المخترعات الحديثة هي في الواقع إعادة تشكيل أو اكتشاف للمادة الموجودة أصلا وليست إضافة إلى خلائق الله. كذلك لا يستطيع شخص ما أن ينكر أن الله خلق كل شيءٍ، أو ينسب إلى الخلائق الصدفة.
v تنبع كل الأشياء من الله. وحيث أن المخلوقات عديدة ومتنوِّعة، فهي قد تثبَّتَت وتواءمت مع الخليقة كلها. ومع ذلك فحينما نلاحظها على اِنفراد نجدها متناغمة في تقابلها، كالقيثارة التي تتكوَّن من العديد من المقاطع المتقابلة. لكنها في النهاية تعطي نغمة مُتَّصلة من خلال المقاطع التي تفصل الواحد عن الآخر.
يجب ألاَّ ينخدع الباحث عن الحقيقة بالفواصل التي تفصل بين المقطع والآخر أو يتصوَّر أن السبب في ذلك يرجع إلى ملحنٍ أو آخر، بل عليه أن يثق أنه يوجد كائن واحد قد صنعها جميعًا ليثبت المهارة والجودة وجمال العمل جميعه.
أولئك الذين يستمعون إلى النغمة يلزمهم أن يُسَبِّحوا الصانع ويُمَجِّدوه ويظهروا عجبهم بعمله. تارة يُقَدِّم لهم مقطوعة عالية ومرَّة أخرى ناعمة. ليدركوا الفرق بين هذه النغمات المتباينة. وليدركوا الطبيعة الخاصة للبعض الآخر، وحينئذٍ يتساءلون عما يهدف كل منها، وعن سبب التباين.
فلا نيأس أبدًا من تطبيق دورنا في الحياة، ولا نحبط الخالق. ولا نلقي إيماننا بالله الواحد الذي خلق الموجودات ولا نجدف على الخالق[5].
6 إِذَا أَتَمَّ الإِنْسَانُ، فَحِينَئِذٍ يَبْتَدِئُ، وَإِذَا اسْتَرَاحَ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَيَّرُ. 7 مَا الإِنْسَانُ، وَمَا مَنْفَعَتُهُ؟ مَا خَيْرُهُ، وَمَا شَرُّهُ؟ 8 عِدَّةُ أَيَّامِ الإِنْسَانِ عَلَى الأَكْثَرِ مِئَةُ سَنَةٍ. كَنُقْطَةِ مَاءٍ مِنَ الْبَحْرِ، وَكَذَرَّةٍ مِنَ الرَّمْلِ، هكَذَا سِنُونَ قَلِيلَةٌ فِي يَوْمِ الأَبَدِيَّةِ. 9 فَلِذلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِمْ أَنَّاةُ الرَّبِّ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ. 10 رَأَى وعَلِمَ أَنَّ مُنْقَلَبَهُمْ هَائِلٌ، 11 فَلِذلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَفْوِ. 12 رَحْمَةُ الإِنْسَانِ لِقَرِيبِهِ، أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَلِكُلِّ ذِي جَسَدٍ. 13 يُوَبِّخُ وَيُؤَدِّبُ وَيُعَلِّمُ وَيَرُدُّ، كَالرَّاعِي رَعِيَّتَهُ.
إذا أتم الإنسان بحثه (في عظمة أعماله) حينئذ يبتدئ من جديد،
وإذا توقَّف يبقى مرتبكًا [6].
عظمة الله في سرمديته كما في حنوِّه العجيب لكل البشر (راجع مز 136). تتجلَّى رحمته لا في عاطفة مجردة، إنما يعمل لصالح الإنسان، فينتهره ويُدَرِّبه ويُعَلِّمه. إنه يهذب الإنسان!
بعد أن قَدَّم مصادر المعرفة الإلهية بالنسبة للإنسان، خشي ابن سيراخ أن يظن الإنسان أنه قد تعرَّف على الله وأسراره خلال الفلسفات والطبيعة والشريعة إلخ. فيتوقَّف عن البحث والدراسة بروح التقوى والتواضع. لذا يؤكد ابن سيراخ أنه متى ظن الإنسان أنه قد أَتم بحثه، يليق به أن يبدأ من جديد ولا يتوقَّف لأنه مهما بلغت خبرته في الدراسة، فإن ظن أنه شيخ مختبر بلغ المئة من عمره، فهل يدرك أسرار الله الأزلي الأبدي! فإن عمره كله يشبه نقطة ماء في البحر أو ذرة رمل في صحراء متسعة!
يرى القديس ديديموس الضرير أن الإنسان الحكيم يشعر بالحاجة المستمرة للنمو. فكلما بلغ إلى نهاية ما، يشعر أن هذه بداية جديدة. حتى في هذه الحياة، مهما بلغنا من معرفة روحية، فإننا إذ ننتهي من هذه الحياة نشعر أن معرفتنا غير كاملة، إنما "نعلم بعض العلم" (1 كو 13: 9)، ونود المعرفة الكاملة في الأبدية.
مع ما يجده المؤمن من شبع في المسيح يسوع، كلما تمتَّع به ازداد شوقه وجوعه وعطشه إليه بلا توقُّفٍ. بهذا الروح يحيا المؤمن في تجديدٍ مستمرٍ وفرحٍ لا ينقطع، ولا يعاني من الشعور بالملل. لذلك يرى القديس أغسطينوس أنه لا يجوز التوقُّف عن البحث عن الأسرار الإلهية بروح الصلاة وعن الاشتياق إلى التعرُّف المستمر على الله.
v لنبحث كي نكتشف ما يحتاج إلى الكشف عنه، وعما هو بالفعل مُكتشَف. الذي نريد أن نكتشفه هو مُحتجب كي نبحث عنه. وإذ نجد أنه غير محدود، يبقى موضوع بحثنا. لذلك يُقَال "التمسوا وجهه دائمًا" (مز 105: 4). فإنه حتى وإن شبع الباحث من معرفة أعماق جديدة، فإن ما وجده يجعله أكثر قدرة على البحث حتى يبلغ إلى ملءٍ جديد حسب نمو قدرته لنوال المعرفة.
لذلك لم يقل "التمسوا وجهه دائمًا" بذات المعنى في الأمور الأخرى، حيث يُقَال: "يتعلمن في كل حين ولا يستطعن أن يُقبلنَ إلى معرفة الحق أبدًا" (2 تي 3: 7). وإنما كما يقول الكارز: "إذا أتم الإنسان فحينئذٍ يبتدئ" [6]، عندما نبلغ إلى تلك الحياة حيث نمتلئ هكذا، تنال طبيعتنا أقصى إمكانية، إذ نبلغ الكمال ولا نسعى إلى زيادة. فكل ما يُشبعنا يُعلن لعيوننا. أما هنا فنطلب على الدوام، ولا نبلغ مكافأة وجود ما نطلبه إلى نهاية بحثنا[6].
v يقول (بولس الرسول): "أيها الإخوة، أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت، ولكني أفعل شيئًا واحدًا: إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع. فليفتكر هذا جميع الكاملين منا" (في 3: 13-15).
إنه يقول إن الكمال في هذه الحياة أن ننسى ما هو وراء، وأن نسعى مُتقدِّمين نحو الهدف الموضوع أمامنا. فإن الهدف الآمن بالنسبة لمن يبحث، أن يستمر في البحث حتى يبلغ إلى ما يهدف إليه ويصارع لأجله. أما الهدف السليم فهو ذاك الذي ينبع من الإيمان. فإن الإيمان الأكيد هو بطريقة ما بدء المعرفة، والمعرفة الأكيدة تتكمل بعد هذه الحياة، حين نراه وجهًا لوجه (1 كو 13: 12).
إذن ليكن فينا هذا الفكر، فنعرف أن الانجذاب نحو البحث عن الحق أكثر أمانًا من الغطرسة بأننا نعرف ما لا نعرفه. إذن ليتنا نبحث كمن يجد، وإذ نجد نحسب أننا نبدو أننا نبحث، لذلك "إذ أتم الإنسان فحينئذٍ يبتدئ" (راجع سي 18: 6)[7].
v قيل: "اطلبوا وجهه كل حين"، وكما يقول البعض: "يتعلَّمن في كل حين ولا يستطعن أن يقبلن إلى معرفة الحق" (2 تي 3: 7)؛ بل بالحريّ كما يقول أحدهم: "إذا أتم الإنسان فحينئذٍ يبتدئ" (راجع سي 18: 6)، حتى نبلغ إلى تلك الحياة التي فيها نمتلئ، فنصير بلا (فضاء متسع)، إذ نصير كاملين ولا نطلب تقدمًا. إذ يظهر لنا ما يكفينا. أما هنا فيلزمنا البحث الدائم، ولا نتوقَّف عن الفحص لثمرة ما نكتشفه[8].
ما هو الإنسان؟ وما منفعته؟
ما هو خيره؟ وما هو شره؟ [7]
يقيس ابن سيراخ هنا عظمة الإنسان بالعظمة الإلهية، وسني الإنسان مهما طالت بالحياة الأبدية، وأعمال الإنسان نفسها قدام صفات الله... "ما خَيرُه"، أي ماذا يساوي كل برّ الإنسان، أليس مثل خرقة الطامث، كذلك شرّه هل يقدر أن يسيء إلى الله أو يبطل خطته. فليخزى الآن المفتخرون بشرّهم، فإنهم سيفنون وسيبطل شرّهم. وليتضع المفتخرون ببرّهم، فإن كل ما فيهم من برّ هو من الله[9].
عدد أيام الإنسان تُحسَب عظيمة إن بلغ مئة سنة [8].
لكنها كنقطة ماء من البحر، وكذرة من الرمل،
هكذا السنوات قليلة بالنسبة ليوم الأبدية [9].
فلذلك يطيل الربّ أناته عليهم،
ويفيض برحمته عليهم [10].
إذ ليس من مقارنة بين عمر الإنسان والحياة الأبدية، لذا فإن الربّ يتعامل مع الإنسان في ضعفه بطول أناة، ويسكب رحمته عليه. إنه يود أن يعدَّه للحياة الأبدية المُطوَّبة.
إنه يرى ويَعْلَم نهايتهم إنها شريرة،
لذلك يُقَدِّم لهم كفّارة كاملة [11].
رحمة الإنسان هي لقريبه،
أما رحمة الرب فلكل ذي جسد.
يُوَبِّخهم ويُدَرِّبهم ويُعَلِّمهم كراعٍ يردّ قطيعه إلى الحظيرة [12].
يُعدّ ابن سيراخ شعب الله القديم للانفتاح على كل الأمم بمجيء المسيَّا مُخَلِّص العالم، لذا يؤكد: "أما رحمة الربّ فلكل ذي جسد". حقًا إنه يُوَبِّخ ويُؤَدِّب، لكنه يُدَرِّب ويُعَلِّم كي يرد القطيع كله!
v كلنا محتاجون إلى رحمة الله، كما هو مكتوب: "أما رحمة الربّ فلكل ذي جسد" (18: 12). لكن إن كان أولئك قد احتاجوا إلى رحمة الله، فماذا يقول الإنسان عن البقية؟ أخبرني لماذا جعل الشمس تُشرِق على الأشرار والصالحين؟ هل أَوْقَف المطر لمدة عامٍ واحدٍ، أما كان ذلك يُهلك الجميع؟ وماذا لو سمح بالمطر أن يغمر (الأرض)؟... إنه يسهل عليه أن يهلك الأشياء ويخلقها من جديد... ذاك الذي له مثل هذا السلطان علينا، وهو يرانا نخطئ كل يوم، ومع ذلك لم يعاقبنا، كيف هذا سوى أنه يحتملنا برحمته[10].
v لاحظوا أن العالم تأسس بالرأفة (حك 1: 14؛ 11: 23)، وعندئذ امتثلوا بربِّكم. "رحمة الإنسان لقريبه، أما رحمة الرب فلكل ذي جسد" (راجع سي 18: 12). كيف "لكل ذي جسد"؟ تعني سواء الخطاة أو الأبرار، فإننا جميعًا في حاجة إلى الرحمة. كلنا ننعم بها...
ماذا يقول هذا الطوباوي؟ "لكنني رُحمت لأني فعلت بجهل" (1 تي 1: 13). ماذا إذن، هل لم يعد محتاجًا إلى الرحمة فيما بعد؟ اسمع ماذا يقول: "أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10). وعن أبفرودتس يقول: "فإنه مرض قريبًا من الموت، لكن الله رحمه، وليس إياه وحده، بل إياي أيضًا لئلا يكون لي حزن على حزنٍ" (في 2: 27). وأيضًا: "إننا تثقلنا جدًا فوق الطاقة، حتى يأسنا من الحياة أيضًا. لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقِيم من الأموات. الذي نجَّانا من موتٍ مثل هذا وهو يُنَجِّي" (2 كو 1: 8-10)[11].
إنه يرحم الذين يَقْبَلون تأديبه،
والذين يبادرون إلى أحكامه [13].
v لا يوجد شيء يبغضه الربّ (حك 11: 25). بالتأكيد إنه لا يبغض شيئًا، ويبقى هذا الشيء في الوجود... بالتأكيد التام لا يحدث أنه لا يريد ألا يوجد شيء ما وفي نفس الوقت يوجد... وإن كان لا يكره شيئًا مما خلقه، بالتالي فهو يحب ما خلقه... لكنه يحب الإنسان محبةً عظيمة تفوق كل شيءٍ، حيث أن الإنسان هو أشرف الكائنات الحية التي خلقها[12].
v العالم تصونه العناية الإلهية، إذ لا يوجد مكان لا تُدرِكه هذه العناية.
والعناية الإلهية هي تنفيذ مواعيد الكلمة الإلهية، الذي يهب شكلًا للمادة التي يتكوَّن منها هذا العالم، وهو المهندس والفنان لهذا كله. فالأشياء ما كان يمكن لها أن تأخذ جمالها لولا فطنة قوة الكلمة الذي هو صورة الله (الآب) وعقله وحكمته وعنايته[13].
14 يَرْحَمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ تَأْدِيبَهُ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ. 15 يَا بُنَيَّ، لاَ تَقْرِنِ الصَّنِيعَةَ بِالْمَلاَمِ، وَلاَ الْعَطِيَّةَ بِكَلاَمِ التَّنْغِيصِ. 16 أَلَيْسَ النَّدَى يُبَرِّدُ الْحَرَّ؟ هكَذَا الْكَلاَمُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَطِيَّةَ. 17 أَمَا تَرَى أَنَّ الْكَلاَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَكِلاَهُمَا عِنْدَ الرَّجُلِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ. 18 تَعْيِيرُ الأَحْمَقِ مَكْرُوهٌ، وَعَطِيَّةُ الْحَاسِدِ تُكِلُّ الْعُيُونَ. 19 قَبْلَ الْقَضَاءِ كُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْحَقِّ، وَقَبْلَ الْكَلاَمِ تَعْلَّمْ. 20 قَبْلَ الْمَرَضِ اسْتَطِبَّ، وَقَبْلَ الْقَضَاءِ افْحَصْ نَفْسَكَ، فَتَنَالَ الْعَفْوَ سَاعَةَ الاِفْتِقَادِ.
سبق لنا الحديث عن العطاء كيف يلزم أن يصاحبه الحنوّ واللطف في التعامل مع المحتاج. الكلمة بالنسبة للمحتاج أفضل من العطية؛ فالعطية مهما بلغ قدرها تفقد قيمتها إن صاحبتها كلمة أو نظرة قاسية من المعطي. الكلمة اللطيفة تنزل على قلب المحتاج كالندى الذي يُرطب القيْظ أو حرارة العوز والاحتياج!
القدوس هو ديَّان المسكونة، جاء لا ليُقَدِّم عطايا فحسب، بل قدَّم نفسه، ويهبنا روحه القدوس، ويدخل بنا إلى أحضان الآب، حتى ندرك المحبة الإلهية، فنُسرّ بعطاياه. هكذا يليق بنا أن نسلك بذات الروح!
يا بُنيَ، لا تجلب خزيًا على العمل الصالح الذي تفعله،
ولا تُسَبِّب حزنًا بكلماتك وأنت تُقَدِّم عطية [14].
قد يظن الإنسان أنه يتشبَّه بالله، فيمد يده للعطاء، لكن بالحقيقة يُفسِد العطية بكلمة قاسية يُوَجِّهها للمحتاج. الإنسان التقي اللطيف يُقَدِّم الكلمة المريحة ترافق العطية اللائقة [14].
أليس الندى يُسكِّن القيظ؟
هكذا الكلمة أفضل من العطيّة؟ [15]
v كان الأب أغاثون ذاهبًا يومًا ما إلى المدينة ليبيع عمل يديه، فقابل مُقعَدًا في الطريق مشلولًا في رجليه وسأله: "إلى أين أنت ذاهب؟" فأجابه: "إلى المدينة." فقال له: "اصنع محبة واحملني إلى هناك"، فحمله إلى المدينة. وقال له المُقعَد: "أنزلني حيث تبيع عملك." ففعل هكذا. ولما باع شيئًا سأله المُقعَد: "بكم بعته؟" فأخبره عن الثمن. فقال له: "اشتَرِ لي كعكة." فاشترى له. ولما باع أبّا أغاثون شيئًا آخر سأله المريض: "بكم بعته؟" فأخبره عن ثمنه. فقال له: "اشتَرِ لي هذا." فاشتراه. ولما باع أبّا أغاثون كل بضاعته أراد أن يرجع، فقال له المُقعَد: "اصنع محبة وأرجعني إلى الموضع الذي وجدتني فيه،" فحمله وردَّه إليه. وحينئذٍ قال المُقعَد: "يا أغاثون، إنك ممتلئ بالبركات الإلهية في السماء وعلى الأرض." ولما رفع القديس عينيه لم يَرَ إنسانًا، فقد كان ملاك أرسله الرب ليمتحنه[14].
فردوس الآباء
بالحقيقة أليست الكلمة أفضل من عطيّة مناسبة؟
وكلاهما توجدان في الرجل اللطيف [16].
إذ يحثّ سيراخ تلاميذه على التعقُّل، يُطالِبهم بضبط النفس خاصة في الكلام [16-19]. يليق بالحكيم أن يتَّسِم بالحنو والتواضع مع ممارسته للتوبة عن الخطية. هذا يتحقَّق إن وضع الإنسان في ذهنه الدينونة الإلهية التي يواجها كل إنسانٍ [22، 24، 25].
الكلمة القاسية تُكَدِّر من وهبْته عطية صالحة، فيحسب ما قدَّمته له كلا شيءٍ، بينما الكلمة الطيبة تشبه الندى الذي يُرَطِّب من شدة الحرارة (الغيظ). لهذا يحسب الإنسان الكلمة الطيبة الخارجة من قلب مُخلص ونقي أفضل من العطايا المادية.
من يريد أن يُوَبِّخ إنسانًا على خطأ مُعَيَّن أو خطية ما، لا يختار الوقت الذي يُقَدِّم فيه عطية للشخص، لأن الكلمة القاسية تفسد قيمة العطية، (وتقديم العطية أثناء النصيحة يفسدها). للعطية وقت وللتوبيخ وقت بأسلوب يليق بمن يوبخه.
v لا تستخفّوا بهذا النفع العجيب الذي تنعمون به خلال الاستضافة، ولكن يومًا فيومًا جاهدوا أن تقتنوا لأنفسكم مكسب هذه التجارة الرائعة، بمعرفة أن ربّنا يتطلَّع إلى كَرَم الروح، لا إلى تقديم كميات كبيرة من الطعام، ولا تقديم مائدة غنية، بل تقديم البشاشة، لا بالكلمات وحدها بل أيضًا بالحُبّ من القلب والذهن المًخْلِص. لذلك قال حكيم ما: "أما ترى أن الكلام أفضل من العطية الصالحة" (راجع سي 18: 16).
في حالاتٍ كثيرة رأيتم أن الاهتمام بالكلمة قد أعانت الشخص المحتاج ليرجع على قدميه متهللًا أكثر من العطية. راعوا هذا، ولا تستصعبوا مقابلة الزائرين؛ عوض هذا فإننا من جانب نحن في موقف من يُخَفِّف من فقرهم، نفعل هذا بحُبٍ وبشاشةٍ، لا كمن يعطي شيئًا، بل يعطي نفعًا في غاية العظمة. ومن جانبٍ آخر إن لم نستطع أن نفعل ذلك، ليتنا لا نكون غير مهذبين معهم، فنُقَدِّم على الأقل اهتمامًا بالكلمة متجاوبين مع متاعبهم[15].
v لا يستطيع أحد أن يقول: "أنا فقير، ليس لديّ طريق ما لإظهار الرحمة." إن كنت غير قادر على العطاء مثل الأغنياء الذين ألقوا في الخزانة، فأعطي فلسين كالأرملة، وسيحسب الله هذا أعظم من تقدمات الأغنياء (مر 12: 41-44؛ لو 21: 1-4).
هل ليس لديك هذا؟ فإنك لا تزال لك القوة أن ترحم، وبهذه القوة تُمارِس الرحمة في خدمة المرضى. هل لا تستطيع هذا؟ تستطيع أن تُعزِّي أخاك بالكلمات. بهذا كن رحيمًا معه بكلماتك، وأصغِ إلى القائل: "الكلمة أفضل من العطية" [16].
افترض أنك لا تستطيع أن تُمارِس الرحمة بالكلمات. مع ذلك إن كان أخوك ثائر عليك، يمكنك أن ترحمه وتسنده وسط هياجه، حاسبًا أن العدو العام (إبليس) يُسيء معاملته، وبدلًا من أن ترد عليه بكلمة قاسية وتزيد من ارتباكه؛ لتصمت وتترفَّق به وبنفسه، لتسرقها من يد العدو.
حتى إن عاد الأخ إلى الهياج عليك مرة أخرى يمكنك أن تترفَّق به وتعفو عن خطيته نحوك حتى تتمتَّع أنت بالمغفرة من قبل الله. في الحقيقة يقول الله: "اغفروا يُغفَر لكم" (لو 6: 37)، وبهذا تجدون معونة ورحمة لنفس أخيكم بالعفو عن خطاياه نحوكم[16].
الأب دوروثيؤس من غزة
v إن التزم أحد أن يستجدي صدقة بسبب الجوع، وبسبب استجدائه يضطر أن يسلك في خجلٍ، وبسبب خجله يحتمل الخزي، عندئذٍ تحت ثقل الكآبة يشعر بالتعقيد مصحوبًا بظلمة تحل على نفسه. يليق بمن يهتم بمثل هؤلاء أن يكون طويل الأناة، ولا يسلك بطريقة تُزيد من كآبتهم واستفزازهم. يليق به أيضًا أن يُخَفِّف بالتشجيع من طبيعته المُتَّسِمة بالكآبة[17].
الأحمق يهين الآخر ويخزيه،
وعطيّة الإنسان الحاسد تُعَتِّم العيون [17].
لا يعرف الإنسان الأحمق كيف يلاطف ليكسب الآخرين بالحنو مع الحكمة، إنما ينتقد على الدوام بروح العنف والقسوة، فيُحَطِّم نفوس من يتعامل معهم.
أما الحاسد، فإنه وإن قدَّم عطايا لإخوته، لكنه فاقد المحبة الصادقة، فلا يشتهي نجاحهم وتَقَدُّمهم بسبب أنانيته الخفية؛ هذه العطايا تعتم عيون الغير، إذ لا يدركون ما في أفكاره وما في قلبه من حسدٍ، كما تعتم عينيه، فيظن أنه أَدَّى واجبه على أكمل وجه بتقديم العطايا دون إصلاح قلبه.
يرى القديس جيروم[18] أن الكلمة اللاتينية للحاسد هي invidus جاءت في اليونانية بأكثر قوة بمعنى الذي يقذف بتعويذة ساحرة spellcaster. فالحاسد يتأذَّى بنجاح الآخرين وتَقَدُّمهم. إن كان بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، فإنه لا يكف عن أن يبثّ روح الحسد في الإنسان لا لنفع ما يقتنيه، وإنما ليثير بغضته ضد الناجحين.
قبل أن تتكلم تعلَّم،
وقبل أن تمرض اعتن بصحتك [18].
وقبل أن تحكم افحص نفسك بأمانة،
فتجد الكفّارة ساعة الافتقاد [19].
كما يهتم الإنسان بصحته الجسدية، خاصة عندما يعاني من مرضٍ، يليق به أن يُعِدّ نفسه للمجد الأبدي، ليتمتَّع بالعفو الكامل في يوم افتقاد الربّ [19].
21 قَبْلَ الْمَرَضِ كُنْ مُتَوَاضِعًا، وَعِنْدَ ارْتِكَابِ الْخَطَايَا أَرِ تَوْبَتَكَ. 22 لاَ يَحْبِسْكَ شَيْءٌ عَنْ قَضَاءِ نَذْرِكَ فِي وَقْتِهِ، وَلاَ تُحْجِمْ عَنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ حَتَّى الْمَوْتِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الرَّبِّ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. 23 قَبْلَ الصَّلاَةِ أَهِبْ نَفْسَكَ، وَلاَ تَكُنْ كَإِنْسَانٍ يُجَرِّبُ الرَّبَّ. 24 اُذْكُرِ الْغَضَبَ فِي أَيَّامِ الاِنْقِضَاءِ، وَوَقْتَ الاِنْتِقَامِ عِنْدَ تَحَوُّلِ الْوَجْهِ. 25 فِي وَقْتِ الشِّبَعِ اذْكُرْ وَقْتَ الْجُوعِ، وَفِي أَيَّامِ الْغِنَى اذْكُرِ الْفَقْرَ وَالْعَوَزَ. 26 بَيْنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشِيِّ يَتَغَيَّرُ الزَّمَانُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَرِيعُ التَّحَوُّلِ أَمَامَ الرَّبِّ. 27 الْحَكِيمُ يَتَحَذَّرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي أَيَّامِ الْخَطَايَا يَحْتَرِزُ مِنَ الْهَفَوَاتِ. 28 كُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ الْحِكْمَةَ، وَيَعْتَرِفُ لِمَنْ يَجِدُهَا. 29 الْعُقَلاَءُ فِي الْكَلاَمِ يُتِمُّونَ أَعْمَالَهُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَيُفِيضُونَ الأَمْثَالَ السَّدِيدَةَ.
قبل أن تمرض تواضع،
وعند ارتكاب الخطايا أثبت رجوعك (لله) [20].
v من يحب الأرضيات وشهواتها لا يفكر في أن يكون مع المسيح بعد انتقاله، ولا يقدر أن يقول: "غريب أنا على الأرض"، إذ هو مهتم بما للأرض. أما من يقول "لا تُخفِ عني وصاياك" فهو قديس... لذلك يطلب النبي من الله أن يكشف له عظائم وصاياه للحياة السماوية[19].
لا يمنعك شيء من إيفاء نذرك من غير إبطاء،
ولا تنتظر الموت لتكون بارًا [21].
يقول المرتل: "لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون ولك يُوفى النذر" (مز 65: 1)؛ "انذروا وأوفوا للرب إلهكم يا جميع الذين حوله ليقدموا هدية للمهوب" (مز 76: 11). ماذا يعني الوفاء بالنذر سوى تقديم ذبيحة التسبيح والشكر مع الطاعة بفرحٍ لوصية الله المحبوبة!
v "لك يُوفى النذر" (مز 65: 1) في أورشليم. فإننا سنكون هناك كاملين، أي نكون في قيامة الصديقين كاملين. هناك يُوفى كل نذرنا، ليس من جهة النفس وحدها، بل والجسد أيضًا، لا يعود بعد قابلًا للفساد، لأنه لا يعود بعد ليكون في بابل، بل يصير الآن جسدًا سماويًا ويتغيَّر...
سيغلب السلام، وستنتهي الحرب. وعندما يغلب السلام، فستغلب تلك المدينة التي تُدعَى رؤية السلام (أورشليم). لا يعود يوجد بعد كفاح مع الموت. أما الآن فيا لخطورة الموت الذي نكافحه!
v لا تتلكأوا في النذر، فإنكم ستوفون النذور ليس بقوتكم. إنكم ستفشلون إن كنتم تعتمدون على أنفسكم. أما إن اعتمدتم على ذاك الذي تنذرون له، فإنكم تصيرون في أمانٍ وتوفون النذور. "أنذروا وأوفوا للرب إلهكم". ما الذي يلزمنا أن ننذره نحن جميعًا؟ أن نؤمن به، ونترجَّى منه الحياة الأبدية، ونحيا بالتقوى حسب القياس اللائق بكل البشر[20].
v ماذا ننذر ونوفي يا إخوة؟ آمنوا به، ترجُّوا منه الحياة الأبدية والحياة الصالحة حسب المستوى العام. يوجد مستوى عام لكل البشر. "لا تزنِ" هي وصية للمتزوجين كما لغير المتزوجين... لذلك يلزمنا نحن جميعًا أن ننذر ما هو يخص الإيمان والعدل والعفة أو الرحمة، وبمعونة ذاك الذي ننذر له ذلك نوفي...
ينذر البعض ألاَّ يسمحوا أو يرغبوا في ألاَّ يعرفوا أحدًا في المستقبل، حتى وإن كانوا حاليًا غير متزوجين. هؤلاء نذرهم أعظم من السابقين. آخرون ينذرون هذه البتولية منذ بدء حياتهم، فلا يمارسون قط مثل أولئك الذين حاولوا لكنهم فيما بعد تركوا ذلك؛ هؤلاء أعظم الكل[21].
قبل أن تنذر، هيِّئ نفسك،
ولا تكن كإنسانٍ يُجَرِّب الربّ [22].
يليق بالإنسان ألاَّ يجرب الربّ في صلواته ونذوره لاختيار طريقٍ مُعَيَّن، ولا يتعجَّل في النذر (قض 11: 29-40).
تذكَّر غضبه في يوم موتك،
وفي وقت العقاب عندما يُحَوِّل الرب وجهه [23].
يليق بنا أن نطلب من الله المشورة والنعمة لنسلك حسب مرضاته حتى النفس الأخير، ونبغض ما يبغضه هو.
v لتبغض الرياء، وكل ما لا يسر الربّ. لا تهجر وصايا الربّ، إنما احتفظ بما تسلمت بدون إضافة ولا حذف. لتعترف عن معاصيك في الكنيسة، لا تأتِ لصلاتك بضميرٍ شريرٍ. هذا هو طريق الحياة[22].
في وقت الشبع اذكر وقت الجوع،
وفي أيام الغِنَى اذكر الفقر والعوز [24].
يليق بالمؤمن في وقت شبعه أن يذكر عطايا الله له، إنما وهو يستخدم الثروة لشبعه يذكر الجائعين!
v إذ نرى الله لا يسمح لنا أن نُبتلَع في فيضان تلك المتاعب عندما تحلّ علينا، ليتنا لا نسمح لأنفسنا أن نصير مستهترين عندما تعبر. نذكر إننا عندما كنا حزانى عزَّانا. لنشكره الآن أننا مبتهجون. في آلامنا أعطانا راحة ولم يتركنا. ليتنا لا نخون أنفسنا في وقت اليسر بانحرافنا إلى الكسل. يقول أحدهم: "في وقت الشبع لا تنسى وقت الجوع" (راجع سي 18: 24). لذلك نفكر في يوم الفرج وقت التجربة. وبالنسبة لخطايانا لنعمل بذات الطريقة. إن كنت قد أخطأت، وقبلت المغفرة، قَدِّم تشكُّرات، ولكن لا تنسَ الخطية، لا لكي تحث نفسك بالتفكير فيها، إنما لكي تُعَلِّم نفسك ألا تكون متهاونًا، وتنتكس مرة أخرى في ذات الفخاخ (عب 6: 4)[23].
من الصباح إلى المساء يتغيَّر الزمن،
وكل شيءٍ يمرّ سريعًا في حضرة الربّ [25].
v لا تعرف ما يُقَدِّمه لك أي يوم: "ما بين الصباح والمساء يتغيَّر الجو". في موضع آخر نُنصَح بوصية مفيدة: "لنسر ما دام لنا النور، لئلا يدركنا الظلام" (راجع يو 12: 35).
يقول الشخص المهمل: عندما أصير شيخًا ألجأ إلى علاج التوبة. هذا البائس لا يعرف أنه متى اعتاد شخص أن يرتكب خطايا على انتظار التوبة، لن يتأهَّل لنوال ثمر التوبة، أو يتأهَّل لها بصعوبة[24].
v هنا الأزمنة راكبة على العجلات لتنتقل، وخلالها يُوزع يوميًا الغنى والفقر.
مَن هو اليوم غني لعله غدًا يفتقر، والفقير الآن لعله بعد قليل يغتني؟
المريض يُشفَى، ومَن هو معافى يمرض، فهذا العالم وفعالياته منسوج على التغييرات.
الطفل يكبر، والرجل يشيخ، والشيخ يموت، لأنه لا توجد قامة كاملة بدون تغيير في العالم.
عبر الصباح، ويأتي الظهر، ويدنو المغيب، ويأتي المساء، ويحل محلها.
النهار شهي ومنظره محبوب وجماله بهي، والليل يمشي ويدخل عوضه ويفسده[25].
الحكيم فيه مخافة الله في كل شيءٍ يعمله،
وفي أيام الخطايا يحترص من الهفوات [26].
v مخافة الرب هي اللجام الذي يوقف انطلاق الإنسان نحو ارتكاب الشرّ، ويجذبه للخلف حينما يُستعبد للجري وراء شهواته الكريهة، ليس فقط في حياته الخارجيّة، بل وعلى وجه الخصوص في حياته الداخليّة الخفية[26].
v الإنسان الذي يعيش في تذكُّر الله كل حين يمتلئ بالمخافة، حتى عند مقاومته فكر شهوة يمر على نفسه، فيصير مرتعبًا بسبب هذا الفكر. لكن يهرب الفكر في الحال أمام مخافة النفس، كالعصفور الذي يهرب من أمام الإنسان الذي يقلق راحته. الخوف واحترام قوانين الناس يحافظان على الجسد ضد الشهوات. والمخافة وخجل الإنسان أمام الله يحافظان على النفس ضد أفكار الشرّ. لأنه إذ يعرف أن الله يراه في كل حين، يُراقِب نفسه باستمرار لكيلا يخطئ[27].
القديس مار فيلوكسينوس
كل إنسانٍ عاقلٍ يعرف الحكمة،
ويمدح من يجدها [27].
يقول الحكيم: "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي يجد الفهم" (أم 3: 13). يليق بالمؤمن العاقل أن يطلب الحكمة ويَجِدّ في البحث عنها ويسأل الرب لاقتنائها، ويمدح كل من يقتنيها، فإنها تهب الحياة المُطوَّبة، كما تُقدِّم له الغِنَى والمجد الحقيقيين الدائمين.
يتساءل القديس الذهبي الفم: هل كان القديس بطرس فقيرًا ليس له ما يعطيه للمقعد؟ يرى العلامة أوريجينوس أن الحكمة التي نقتنيها هي ناموس الرب، وهي أثمن من الذهب والفضة.
v هذا يعني خير لي الناموس الصادر عن فمك؛ الذي هو المسيح. إني أستهين بالقطع الذهبية والفضية البَرَّاقة، لكي أَتَلَذَّذ بناموس فمك وأَتَنَعَّم به.
يمكننا القول بأن "ناموس الفم" هو ترتيب الكلمات الصادرة عن فم الله: الكلمات الأولى قيلت للمبتدئين، بينما الكلمات التالية قيلت لمن تسلم الأولى حتى يبلغوا الكمال[28].
الحكماء في الكلمات يجعلون الآخرين حكماء،
ويمطرون الأمثال السديدة [28].
إذ يسعى الإنسان أن يكون حكيمًا، فليدرك أن الله يهبه الحكمة متى سعى بصلواته وسلوكه أن يتمتَّع إخوته بالحكمة من عند الله، فما يشتهيه لإخوته في جديةٍ يفتح الباب له ولهم.
30 لاَ تَكُنْ تَابِعًا لِشَهَوَاتِكَ، بَلْ عَاصِ أَهْوَاءَكَ. 31 فَإِنَّكَ إِنْ أَبَحْتَ لِنَفْسِكَ الرِّضَى بِالشَّهْوَةِ، جَعَلَتْكَ شَمَاتَةً لأَعْدَائِكَ. 32 لاَ تَتَلَذَّذْ بِكَثْرَةِ الْمَآدِبِ، وَلاَ تُلْزِمْ نَفْسَكَ الإِنْفَاقَ عَلَيْهَا. 33 لاَ تُفْقِرْ نَفْسَكَ بِالْمَآدِبِ، تُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ فِي كِيسِكَ شَيْءٌ، فَإِنَّكَ بِذلِكَ تَكْمُنُ لِحَيَاتِكَ.
يُشَبِّه القديس باسيليوس النفس بالفارس الذي يعرف كيف يُرَوّض فرسه ويقوده، فيكون هو والفرس في أمان. أما إذا كان الفارس عديم الخبرة، فبقيادته الخاطئة يُسَبّب لنفسه وللفرس أَذيّة وهلاكًا.
v النفوس التي لا يلجمها العقل، ولا يسيطر عليها الذهن، ويقمع شهواتها من لذَّات وآلام، ويُدَبِّرها ويُوَجِّهها (توجيها سليمًا)، هذه النفوس تهلك كالحيوانات العجماوات. لأن عقولهم تسحبها الشهوات، كما تسحب الخيول الجامحة سائقيها[29].
v انظر الآن يا حبيب إلى ما أقول: اعلم أنه كما أن الحصان إنما يكون جيدًا من جهة إسراعه في الخدمة المُحَدَّدة له، لكنه يحتاج إلى مُرَوِّض يركبه ويثنيه إلى الموضع الذي يريده، لأن البهيمة وحدها لا تعرف ما ينبغي فعله. وكما أنه إذا رُكِب الحصان، فلابد أن يستعمل الأمور الطبيعية له أعني أن يثب ويقفز، فإذا دَبَّر راكبه أسباب حركاته جيدًا زال الضرر وحصلت المنفعة.
وكما أن الراكب لا يكفيه أن يُدَبِّر الحصان فقط، بل وأن يقتني أيضًا معرفة واعتيادًا للثبوت عليه، حينئذ تكتمل بذلك الحاجة والسلامة للراكب والمركوب. أما إذا لم يُدَبِّره جيدًا، ولم يكن عارفًا ومعتادًا الثبوت عليه، يحيد الحصان في دفعات كثيرة عن الطريق المستقيمة... ويخرج إلى طرق شاهقة وعرة، فيتعثَّر ويسقط معه راكبه، ويصيران كلاهما في شدةٍ. وسبب ذلك جميعه غفلة راكبه، إما لكونه لم يكن عارفًا برياضته، ولا معتادًا الثبوت عليه، وإما لأنه أهمل سياسته وتدبيره وردّه إلى الطريق المستقيمة.
كذلك أيضًا بهذا المثال خلق الله الإنسان، وجعل فيه عقلًا يعقل به إكرامًا للنفس التي خلقها مع الجسد. فإذا ما تدبَّرت النفس جيدًا، ومارست عمل الرئاسة كما ينبغي، وأَلجَمَت حركات الجسد تنجو وتخلص الجسد من السقوط في الشدة. أما إذا توانت، ولم تُدَبِّر حركات الجسد كما يجب، وتغافلت وكسلت وأطلقت لجام الجسد، فمن أجل أن لا فكر له، يخرج إلى الطرق الوعرة وتسقط النفس معه في هذه الشرور. هذا ليس من أجل شرٍ في الجسد - حاشا لله - بل من أجل أن النفس لم تُدَبِّره كما يجب[30].
v نور الجسد هو العين، وبصيرة النفس هي العقل المخلوق فيها بالطبع، ولستُ أقول إن العقل غير النفس كأنهما منفصلان أحدهما عن الآخر. كلا، بل أن النفس والعقل مرتبطان باتِّحاد. لأن العقل هو قوة طبيعية للنفس. وهو أحشاؤها، خُلِقَ معها، وليس غريبًا عنها ولا دَخَل إليها بعد زمان[31].
v إذا ما تحرَّكَت النفس إلى معقولها الذي هو العقل (هذا الذي جعله الثالوث القدوس خالق كل شيءٍ مغروسًا فيها منذ جبلها)، وفكَّر العقل فيما ينبغي ويليق بالله، حينئذ تصير النفس مخلصة، وتهرب من جميع استعمالات الأهواء.
وعندما تسبق النفس فتنظر حركات الجسد وتضبطها، حينئذ تكون في هدوءٍ وورعٍ يليقان بها. فإذا ما صارت في المناظر الفاضلة كطبيعتها، تبقى مُتفكّرة في جميع أعمال الله ومجده بخوفٍ وهدوءٍ، من غير قلقٍ. بل دفعات تجدها في دهشٍ، ناظرة قدَّامها إلى الثالوث، تفكر في مجد اللاهوت الذي لا يُدرَك من أجل عظمة نوره. وتبقى مُتفكِّرة في ذلك النور الطوباوي والحكمة التي بلا نهاية وعدم الاضطراب. فإذا ما حفظت النفس عقلها متيقظًا كطبيعتها، وتفكَّرت فيما ينبغي، لابد للعقل أن يكون في ثيؤريا (تأمل) الأعمال الممجدة وكل ما هو للسلام[32].
لا تتبع أهواءك، بل اكبح شهواتك [29].
في حديثه عن ضبط النفس، يُحَذِّرنا من الانحراف نحو الشهوات والأهواء وحياة الترف، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. كما يُطَالِبنا بالتعقُّل في مجابهة المسئوليات المادية.
v إن كان الذين تلزمهم الضرورة أن يعبروا بحارًا واسعة، هؤلاء متى كانوا متيقظين يحافظون على حياتهم، لأنه حتى وإن كانت الأمواج هائجة أثناء إبحار قواربهم، فإنهم يُنقذون أنفسهم بأن يمسكوا بأي شيء على الشاطئ. أما إن كانوا سكارى، فإنهم وإن قاموا بمحاولات لا حصر لها لكي يسبحوا إلى الشاطئ، فإن الخمر يغلبهم، فيغرقون وسط الأمواج ويفارقون الحياة.
هكذا النفس أيضًا إن سقطت بين أمواج هائجة وسط دوامة تيارات الحياة، فإنها بجهادها الذاتي لا تقدر أن تتغلَّب على محبة الجسد، كما تعجز عن أن تعرف (بذاتها) أنها نفس إلهية خالدة مرتبطة بجسد مادي قابل للموت مملوء بالشهوات... وإن هذا هو محك لاختبارها، فإن سمحت لنفسها أن تتلوَّث بالشهوات الجسدية، فإنها تهلك ويكون هلاكها وخروجها من دائرة الخلاص نتيجة إهمالها وسكرها بالجهل واستخفافها بالصلاح. إن الجسد كنهر غالبًا ما يبتلعنا بالملذات الدنيئة[33].
v تجد الخطية لها عونًا في المادة، ويصير الجسد عرشًا لها. أما النفس العاقلة فإنها إذ تفهم هذا، تُلقي عنها عبء المادة، وتنهض من تحت ثقلها، وتدرك الله القدير، وتغسل الجسد بحرصٍ من غير أن تأتمنه، إذ هو عدو لها وخصم. بهذا يتوّج الله النفس، إذ تغلب الشهوات والشرور[34].
v الإنسان الحُرّ هو ذاك الذي لا تستعبده الملذات (الجسدية)، بل يتحكَّم في الجسد بتمييزٍ صالحٍ وعفةٍ، قانعًا بما يعطيه الله، مهما كان قليلًا، شاكرًا إياه من كل قلبه.
عندما يأتي كل من العقل المحب لله والنفس إلى الفهم، عندئذ يسهل ترويضه (الجسد) ولو بغير إرادته، ويمكن للنفس بواسطة العقل أن تخمد كل حركة حيوانية[35].
v الذين لا يقنعون بالكفاف، بل يطلبون المزيد (بشهوة)، يستعبدون أنفسهم للشهوات التي تقلق وتدخل فيها كل الأفكار الرديئة والهواجس، أي كل ما هو شرير، مع إنه يلزمنا أن نحصل على أشياء صالحة جديدة. وكما أن الثياب المغالى في طولها تعوق المسافرين عن السير، هكذا الرغبة المغالى فيها نحو المقتنيات تعوق النفس عن أن تجاهد وتخلص[36].
يناجي القديس أغسطينوس الربّ طالبًا عمل النعمة فيه، إذ لا يستطيع بقدراته الشخصية أن يتحرَّر من الأهواء والشهوات، ففي اعترافاته يعلن عن حاجته إلى عمل الله فيه، ليُتَمِّم ما يوصيه به.
v سمعت صوت إلهي يوصيني: "احترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكرٍ" (لو 21: 34). الخمر بعيد عني، لترحمني لئلا يقترب السُكر مني.
على أي الأحوال النهم يحاول أحيانًا التسلل ليمسك بعبدك. لترحمني، فيبتعد عني! إذ لا يستطيع أحد أن يكون عفيفًا ما لم تهبه ذلك (حك 8: 21).
إنك تعطينا الكثير عندما نُصَلِّي. وكل ما نلناه من أمورٍ صالحة حتى قبل الصلاة، تسلَّمناه منك. والحقيقة التي عرفناها مؤخرًا أننا نلناها منك.
لم أكن يومًا ما سكيرًا، لكنني أعرف سكيرين كثيرين، بك صاروا أناسًا سامين للغاية. فهذا هو من عملك أنت أن هؤلاء الذين لم يكونوا قط هكذا وكان يلزم ألاَّ يكونوا هكذا، صاروا هكذا. إنها أعمالك كي يتعلَّموا من الذي عمل فيهم هكذا.
لقد سمعت أيضًا بيانًا آخر من لدنك: "لا تتبع أهواءك، بل اكبح شهواتك" (راجع سي 18: 29).
خلال معونتك سمعت بيانًا آخر أحببته جدًا: "إن أكلنا لا نزيد، وإن لم نأكل لا ننقص" (1 كو 8: 8). بمعنى آخر، لا يجعلني الأول غنيًا، ولا الأخير فقيرًا.
سمعت أيضًا بيانًا آخر: "قد تعلَّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه... وأن أستفضل وأن أنقص.
أستطيع كل شيءٍ في المسيح الذي يقويني" (في 4: 11-13)... إنه يقويني حتى أستطيع ذلك. هب لي يا من أوصيت، ولتوصي بما تريده.
اعترف هذا الرجل (القديس بولس) أنه استلم ذلك، لهذا يفتخر في الربّ (1 كو 1: 31).
سمعت إنسانًا آخر يصلي كي يأخذ، قائلًا: "انزع عني نهم البطن" (انظر سي 23: 6). واضح من هذا أيها الإله القدوس أنك أنت الذي تعطي، وأنك تعمل بما أمرت أن يُعمل[37].
v يليق بالإنسان أن يكون روحيًا لكي يحفظ الشريعة روحيًا؛ لا يكون هذا خلال الشريعة، إنما بواسطة النعمة، أي ليس خلال الوصية، وإنما خلال العطية المجانية، ليس خلال دافع الحرف، وإنما دافع الروح. الآن يبدأ الإنسان أن يتجدَّد في الداخل حسب النعمة بشرط ألاَّ يتبع ما يُحِبّه في ذهنه ولا يُوَافِق ما يلح عليه الجسد والذي يبغضه. هذا لا يعني أنه خالٍ من الشهوات الشريرة تمامًا، وإنما لا يتبعها (18: 30)[38].
v إطاعة الوصية "لا تشتهِ" (خر 20: 17) شيء، ومحاولة الامتناع عن أن يمارسها الشخص شيء آخر. حيث يتبع الإنسان ما هو مكتوب: "لا تتبع هواك".
ولكي تعرف أن بدون نعمة المُخَلِّص لا يستطيع أحد تنفيذ الوصية الأولى أو الأخرى. لكي تمارس البرّ في عبادة الله الحقيقية، حارب في صراعٍ داخلي مع الشرّ الداخلي للشهوة، وأن تحقق البرّ الكامل بعدم وجود خصم نهائيًا. لأن من يحارب يتعرَّض دائمًا للخطر، وأحيانًا يُجرَح حتى وإن لم يسقط. أما من ليس له عدو فيتمتَّع بسلامٍ كاملٍ.
ويُقَال بحقٍ أنه بلا خطيةٍ ذاك الذي لا تعيش الخطية فيه. ولا يعلن ذاك الممتنع عن الأعمال الشريرة: "لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشرّ الذي لست أريده فإياه أفعل" (رو 7: 20)[39].
v ما هو تحقيق الصلاح إلاَّ التوقُّف عن الشرّ وإنهائه؟ وما التوقُّف عن الشرّ سوى ما يقوله الناموس: "لا تشته" (رو 7: 7؛ خر 20: 17)؟ الاشتهاء ليس هو إتمام الصلاح، لأنه هو الانتهاء من الشرّ... لذلك يقول: "أما أن أفعل الحسنى فلست أجد" (رو 7: 18).
إنني عاجز عن تحقيق ما يُقَال: "لا تشته". فماذا أحتاج؟ تحقيق: "لا تتبع أهواءك" (سي 18: 29). لتفعل هذا ما دامت الشهوات غير القانونية حاضرة في جسدك... لا تُسَلِّم نفسك لشهواتك، فإنك إن تبعتها تعطيها قوة. وبإعطائك قوة لها كيف تنتصر على أعدائك وأنت تسندهم ضد نفسك بقوتك؟ إذن ما هي الحرية الكاملة في الربّ يسوع القائل: "إن حرركم الابن فبالحقيقة أنتم أحرار؟" متى توجد الحرية الكاملة تمامًا؟ حين لا يوجد أعداء، وعندما "آخر عدو يبطل هو الموت" (1 كو 15: 26)...
ليتنا نتوسَّل نحن الجرحى إلى الطبيب، لنُحمَل إلى الفندق لكي نُشفَى (بواسطة الراعي الصالح لو 10: 30-35). إنه هو الذي يعد بالصحة، الذي يترفَّق على الإنسان الذي تُرِك بين حيّ وميت على الطريق بواسطة اللصوص[40].
يربط الأب فلجنتيوس تلميذ القديس أغسطينوس بين هذه العبارة وقول السيد المسيح: "من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية. إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي" (يو 12: 25-26).
v كيف من يحب نفسه يهلكها؟ يفعل هذا من يتبع أهواءه العنيدة، ذاك الذي يرضيها أكثر مما يجب. لهذا يُحَذِّرنا الكتاب المقدس بالكلمات: "لا تتبع أهواءك" (سي 18: 29). إن تبعتها تخسر نفسك، لأن هذا السلوك هو خارج الطريق الذي يقود إلى الفضيلة. ذلك مثل السلوك المعاكس: من يبغضها في هذا العالم يخلصها... حقًا ما لم تمت لا تحمل ثمرًا لك[41].
v لذيذة هي الحياة الحاضرة ومملوءة بالملذَّات الكثيرة، لكن ليس للكل، بل للذين ينجذبون إليها. فإذا تطلَّع أحد إلى السماء، ونظر الأمور الجميلة هناك، للحال يستخفّ بهذا الحياة، ولا يبالي بها. وذلك كما أن جمال أي شيء يُعجَب به، حينما لا يُرَى ما هو أجمل منه، ولكن إذ يظهر ما هو أفضل يُستخَفّ بالسابق. لذلك إن كنا نختار التطلُّع إلى ذلك الجمال، ونلاحظ سمو الملكوت هناك، نُحَرِّر أنفسنا من القيود الحاضرة، فإن التعاطف مع الأشياء كما يقول المسيح يجلبنا إلى هذا: "من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية؛ إن كان أحد يخدمني فليتبعني" (يو 12: 25– 26).
تبدو الكلمات كأنها لغز، لكنها ليست كذلك، بل هي مملوءة بحكمةٍ عظيمةٍ. ولكن كيف: من يحب حياته يهلكها؟ عندما يُمارِس شهواتها غير اللائقة، عندما يُشبِع شهواته حيث كان يلزم غير ذلك. ذلك ينصحنا أحدهم: "لا تتبع هواك" (راجع سي 29:18)[42].
إن ملأت نفسك بالشهوة في اللذة،
تجعلك سخرية أعدائك [30].
v ليس فقط هذا الضبط للنفس مستحق للمديح بالاعتدال في الطعام، وإنما أيضًا الاعتدال في الشهوة. إذ مكتوب: "لا تتبع أهواءك، بل أكبح شهواتك، فإنك إن أبحت لنفسك الرضا بالشهوة جعلتك شماتة لأعدائك" (راجع سي 18: 29-30). ويقول بعد ذلك: "الخمر والنساء تُضَلِّل الحكماء" (راجع سي 19: 2). يُعَلِّمنا بولس الاعتدال في الزواج نفسه، فمن لا يكون عفيفًا في الزواج يُحسَب هذا نوعًا من الزنا، ويكسر قانون الرسول[43].
v الإنسان وهو مُتَقدِّم على كل هذه (المخلوقات) في الكرامة، لم يفهم وتجاهل تبعية الله والرغبة في أن يتشبَّه بخالقه، وصار عبدًا لشهوات الجسد. "إنه يُقارَن بالبهائم البليدة وصار يشبهها".
تارة يشبه حصانًا شهوانيًا، يصهل على امرأة صاحبه (إر 5: 8).
وتارة مثل ذئبٍ خاطفٍ، يتربَّص للغرباء (حز 22: 27).
وفي وقت آخر بسبب خداعه لأخيه، يجعل من نفسه ثعلبًا خسيسًا (حز 13: 4).
حقًا توجد غباوة متزايدة، إذ يتشبَّه ذاك الذي خُلِقَ على صورة الخالق بالبهيمة التي بلا عقلٍ. إنه لا يعرف بنيانه منذ البداية، ولا يرغب في أن يفهم التدابير العظيمة التي صُنِعَت لأجله؛ على الأقل أن يتعلَّم كرامته منها، إنما لا يبالي بالحقيقة، ملقيًا عنه صورة السماوي، ليأخذ صورة الترابي. ولكيلا يبقى في الخطية، من أجله "الكلمة صار جسدًا، وحلَّ بيننا" (يو 1: 14)، "وأخلى نفسه حتى أطاع إلى الموت، موت الصليب" (في 2: 8).
إن كنتم لا تبالون بأصلكم الأول، فمن أجل الثمن الذي دُفِعَ عنكم اقبلوا على الأقل شيئًا من التفكير في كرامتكم، وتطلَّعوا إلى ما قُدِّم عوضًا عنكم، وتحقَّقوا مما تأهَّلتم له. لقد اُشتريتم بدم المسيح الثمين، فلا تكونوا عبيدًا للخطية. افهموا كرامتكم، فلا تتشبَّهوا بالبهائم البليدة.
"طريقهم هذا عثرة لهم" (مز 48: 13) LXX. الله الذي يُدَبِّر شئوننا يعوقنا عن السلوك في الشر، فيضع عوائق وموانع حتى ننفر من الحياة غير المُتعقِّلة، بعد ذلك نبتهج بلساننا. القلب يُؤمَن به للبرّ، والفم يُعترَف بالإيمان به لخلاصنا (راجع رو 10:10). اضطهد بولس كنيسة المسيح، لقد سلبها، وضغط من جانبه بالشر (أع 8: 3)، وبعد ذلك ابتهج بفهمه، مُعلِنًا للمَجْمَع أن هذا هو المسيح (أع 9: 22)[44].
v "مثل الغنم للهاوية يُسَاقون؛ الموت يرعاهم" (مز 49: 14).
هذا الذي يقود إلى السبي أولئك الذين يشبهون البهائم، ويُقارَنون بالقطعان البليدة مثل غنمٍ، التي بلا عقلٍ ولا قدرةٍ على الدفاع عن نفسها، وهو عدو نزل بهم إلى سجنه، وسَلَّمهم إلى الموت ليرعاهم. فإن الموت قد ملك عليهم من أيام آدم حتى قيادة موسى (رو 5: 14)، حتى جاء الراعي الحقيقي وبذل حياته من أجل قطيعه، وأقامهم معًا وقادهم (يو 10: 3-18) من سجن الهاوية إلى فجر القيامة، وسَلَّمهم للأبرار، أي لملائكته لكي يرعوهم.
"ويسودهم المستقيمون في الصباح (الغداة)". كل مؤمنٍ يصحبه ملاك مستحق أن يتطلَّع إلى الآب في السماء. هؤلاء المستقيمون إذن، يسودون عليهم عندما يتحررون من أقسى عبودية مُرَّة، ويسودونهم في الصباح، بمعنى عندما يتقدَّمون في شروق النور.
تأملوا في كل مجموعات الكلمات المكتوبة. عندما كان الإنسان في كرامةٍ لم يفهم، صار يُشبه بهائم بليدة. ذاك الذي له كرامة، ولم يعرف نفسه بسبب الخطية الساكنة فيه، صار يُشبه بهائم بليدة. لذلك إذ تَغَرَّب عن كلمة الله، وصار بهيمة عجماء، ساقه العدو مثل قطيع غير مُعتنى به، وألقى به في الهاوية، وسَلَّمه إلى الموت ليرعاه.
لذلك إذ يخلص من هذا، ويتحرَّر من الراعي الشرير (الموت)، يقول: "الرب راعي" (مز 23: 1). لا يعود بعد موت بل حياة، وعوض السقوط تكون قيامة، وعوض الخداع يكون الحق.
"ومعونتهم تبلى في الهاوية" (مز 48: 14) LXX. ربما يتكلم هنا عن الموت، إذ لا يمكن بكل عونه أن يحفظ من رعاهم، هذا الذي يُحَطّمه (المسيح) الذي له سلطان على الموت (عب 2: 14)، فإن كل معونتهم قديمة وضعيفة. في ذلك الوقت معونة هؤلاء الذين خُدِعُوا في الفكر، وكانوا متشامخين بسبب الثروة أو المجد أو السلطان، يظهرون باطلًا.
"تبلى في الهاوية" إذ يتحقَّق ضعفهم. أو ربما معونة الأبرار الذين خلصوا بالرب تنحل في الهاوية، إذ لم ينالوا بعد الوعود، لأن الله أَعَدَّ لنا ما هو أفضل، وهو أن الذين سبقونا "لن يكملوا بدوننا" (عب 11: 40).
"إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية، لأنه يأخذني" (مز 48: 15) LXX. واضح أنه يتنبأ عن نزول الرب إلى الجحيم، هذا الذي يخلص نفس النبي مع آخرين، ولا يبقى هناك[45].
لا تستمتع بالترف الزائد،
حتى لا تُلزم نفسك بنفقاتها [31].
v ماذا نفعل بخصوص هذه الحقيقة وهي أن الرسول نفسه قَدَّم لنا قائمة ضخمة من الرذائل، وأشار من بينها إلى السُكر وختمها بالتحذير من أن نأكل خبزًا مع من يخطئون بمثل هذه الأمور؟[46]
v إنه لأمر مثير للشفقة، مُذكِّرًا إيَّانا بمدى خطورة الأكل مع الذين هم يخطئون بالنهم حتى في بيوتهم[47].
لا تصير شحَّاذًا بإقامة مآدب ولا تقترض مالًا،
وليس في كيسك شيء [33].
بالنسبة للشره أو النهم أو شهوة البطن، فإن كثير من الآباء خاصة النُسّاك يحسبون ترويض شهوة البطن يهب نصرة على كل الأفكار والتجارب. وقد خَصَّص القديس مار فيلوكسينوس أسقف منبج Mabbug في ميامره الثلاثة عشر ميمرًا للحديث عن النهم. أبرز فيه أن شهوة البطن أكثر الأهواء دنسًا، تحرمنا من الفكر المُتعقِّل، وهي باب كل الشرور، تستعبد النفس كما الجسد، وتعوق الحنو، بكونها ضد الصوم فهي تُحَطِّم الصلاة وتُسَبِّب الخمول[48].
يُمَيِّز مار فيلوكسينوس بين الجوع وشهوة البطن، فالجوع هو عطية من الخالق تسند الصحة دون السقوط في شهوة البطن التي تُحَطِّم سلطان الإنسان وتستعبده لشهوات أخرى. خلق الله الإنسان إلهًا على بطنه، يقوتها ولا يُستعبَد لها.
يُقَدِّم لنا مار فيلوكسينوس مشكلة شهوة البطن خلال ثلاثة أمثلة خطيرة: آدم في بساطته خلال شهوة البطن (تك 3: 6)، وعيسو فقد باكوريته وبركاتها لنفس السبب (تك 25: 34)، وشعب إسرائيل خلال شهوة البطن عبدوا العجل الذهبي ونسوا الله (خر 32: 19).
فيما يلي بعض مقتطفات من هذا الميمر:
v الشخص الذي يخنع تحت هذه الشهوة الدنيئة، يعجز عن أن يَقْبَل نير التلمذة للمسيح... ما أن تصير المِعْدَة سيدة على الجسد، حتى تأمر وتُخضع كل إرادته، وعوض الطريق الصاعد إلى السماء، تريه الطريق الآخر الذي ينحدر إلى الهاوية[49].
v شهوة البطن هذه أكثر دناءة من كل الأهواء. ما أن يصير الشخص خادمًا لها، ويحمل نيرها على كتفيه، لا تعود تسمح له بالراحة من خدمته لها. إنه يخدمها ليلًا ونهارًا، وترسله في كل موضعٍ تشتهيه مثل خادم مُرهِق، لا في طريقٍ نظيفة بل في طرقٍ مملوءة عثرات، وإلى موضع به أمور ضارة، محب شهوة الأشياء ليس لديه عينان ترى النور، لأنه حتى إن أراد ذلك، فإن ثقل الطعام يجعلانهما تظلمان. النهار بالنسبة له ليل، والليل موت مضاعف[50].
v خلق الله الحيوانات لأمرين، بينما كل ما لحياتهم هو الأكل، يقومون بعمل خدمة للجنس البشري، أما الإنسان النهم فيأكل ولا يعمل. بينما هو غيور لأجل المائدة، يكون مُتجرِّدًا من كل الأعمال الهامة. النفس التي تخدم البطن لا تُدرِك الله، إذ هي ميتة عن كل أفكار المعرفة، وعن التأمل في الله، حيث أن معرفة النفس تصدر عن استنارة الجسم وأعضاء الجسم. واستنارة الجسم تصدر عن تقليل الطعام، لكن بالتأكيد الإنسان النهم مُثقل بنيرين، وهما ظلمة الأفكار وثقل الجسد[51]
القديس مار فيلوكسينوس
v اسمح لخليقتك الأرضية أن تقتدي بالخليقة السماوية، يا خالقي العجيب!
أقف مع كل المسكونة، كما في خورُس عاجزٍ عن التعبير عن تدبيرك العجيب!
تُقَدِّم للجسد الترابي احتياجاته، فيشبع ويرتوي، ولنفسي الحب والحنو والفرح والخلود.
تحتضنّي برعايتك، فلا يعوزني شيء.
v خطيتي حدرتني إلى الحرمان من الحياة؛
فتحت الهاوية فاهها لتبتلعني وليس من مُنقِذٍ.
نزلتَ إلى الأرض، وتجسدتَ لكي أقترب إليك.
قبلت الموت، لكي بقيامتك أطأ على الموت تحت قدمي!
قبلت الجراحات في جسدك، فألبسته المجد عِوَض العار والخزي.
وُضِعَ إكليل الشوك على رأسك، فأزهر وقَدَّم لي ورود سماوية.
ضُرِبَ جنبك بالحربة فأفاض دم وماء. بدمك طَهَّرتني أيها البار من خطاياي،
وبالماء وهبتني بروحك القدوس روح التبنِّي.
كُلما تطلَّعتُ إلى تدبير خلاصك أَقِف في حيرة؛
من يقدر أن يصف حُبَّك ومراحمك؟!
قَدَّمتَ لي عفوًا كاملًا، وألبستني ثوب برِّك.
لو بلغت أيامي ألف سنة فهي كقطرة ماء من بحر الأبدية، وذرة رمل في الصحراء.
كشفت لي عن طول أناتك وفيض رحمتك!
v بحُبِّك لكل البشرية تُوَبِّخ وتُؤدِّب وتُدَرِّب وتُعلِّم،
وترد الخراف الضالة لا إلى جنة عدن،
بل إلى الفردوس لتضمّها إلى خورُس السمائيين.
v لُطفك بالبشر لا يُوصَف، وعطاؤك لا يُقَدَّر.
هب لنا اللطف فنُقَدِّم لإخوتنا مما وهبتنا:
الكلمة العذبة مع العطايا الروحية والنفسية والمادية.
مهما قَدَّمنا، فإننا نغرف من مخازن حُبِّك لنغتني ونُقَدِّم لإخوتنا.
هب لنا طول أناتك، فلا ندين أحدًا قبل الأوان.
هب لنا من تواضعك، مهما قدَّمنا لإخوتنا من كرامة،
لن نبلغ الصف الأخير الذي حُجِزَ لك وحدك يا أيها المصلوب عنَّا!
v ارتفاعك على الصليب هو الدواء الوحيد لشفاء أمراض نفسي.
من أجلي قَدَّستَ نفسك وأنت القدوس،
وكعضوٍ في جسدك أنذر حياتي لك،
مشتهيًا أن تتقدَّس كل البشرية معي.
فَرِّح قلبي برجوعي مع كل البشرية إليك.
لنسمع صوتك العجيب:
اليوم تكونون معي في الفردوس.
ليصعد إليه قلبي الآن، ولا أؤجل حتى ولا إلى لحظة.
حقًا من الصباح إلى المساء يتغيَّر الزمن.
لقد أَشرقتَ عليّ يا شمس البرّ،
فلا أنتظر إلى المساء، بل أرتمى في أحضانك،
وأصرخ مع يعقوب أبي: "لا أطلقك إن لم تباركني!" (تك 32: 26)
v لتُرافِقني، فأَتمتَّع بحضورك الإلهي كل لحظات عمري.
لا أتبع أهوائي، لأن حُبَّك يُقَدِّسني.
من يكبح شهواتي، سوى شهوة التمتُّع بالاتحاد بك؟!
لا أُعانِي بعد من النهم، لأن خبز هذا العالم لا يهب الحياة.
لا أُنفِق على الملذات وموائد العالم،
لأن قلبي وفكري وحواسي وعواطفي وكل طاقاتي ممتصة بالكامل في حُبِّك!
_____
[1] Didache, 10:1-3.
[2] Cf. Reg. Brev. 32.
[3] المطمار هو خيط البناء الذي يضمن به استواء الحائط ووضعه الرأسي.
[4] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 160.
[5] Adv. Haer., 2:25. ترجمة دكتورة إيفا إدوارد بدمياط
[6] Tractates on John 63:1.
[7] The Trinity, FOTC, vol. 45, p. 269-271.
[8] Tractates on the Gospel of John, FOTC, vol. 90, p. 42-45.
[9] نيافة الأنبا مكاريوس.
[10] Homilies on Philippians, hom. 5.
[11] On Philippians, Homily 4.
[12] Paedagogus, FOTC, vol. 23, p. 56-78.
[13] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 156.
[14] فردوس الآباء، ج 1، ص 477.
[15] Homilies on Genesis, 18-45.
[16] Spiritual Instructions 14:156.
[17] On Priesthood 3.
[18] St. Jerome, commentary on Galatians, FOTC, vol. 121, p. 117-120.
[20] On Ps. 76.
[21] Sermon 135: 1.
[22] Didache 4: 12-14.
[23] Concerning The Statues, Homily 12: 1
[24] Sermon 309: 1.
[25] الميمر 16 على الغني ولعازر (لو 16: 19-31) (راجع نص بول بيجان والدكتور بهنام سوني)، الميمر ا43، على الغني ولعازر لأجل يوم الجمعة ختام الصوم المقدس، قبطي.
[26] ميمر 6: 181.
[27] ميمر 6: 175-176.
[28] المؤلف: مزمور 119، 1996، ص 156.
[29] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 96.
[30] راجع دير السريان: القديس باسيليوس، 2003، ص 66-68.
[31] راجع دير السريان: القديس باسيليوس، 2003، ص 63.
[32] راجع دير السريان: القديس باسيليوس، 2003، ص 63-64.
[33] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 142.
[34] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 50.
[35] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 56.
[36] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 57.
[37] Confessions, FOTC, vol. 21, p.301-305.
[38] Letter 175 to Bishop Asellicus.
[39] Four Anti-Pelagian Writings, FOTC, vol. 86, p. 76-87.
[40] Tractates on the Gospel of John, FOTC, vol. 88, p. 135-149.
[41] Commentary on St. John the Apostle and Evangelist, homily 67, FOTC, vol. 1.
[42] On John, Homily 67: 1
[43] Letter 63: 32
[44] Homily 19:8, (On Ps 48 LXX). Unto the End, A Psalm for the Sons of Core on the Prosperity of the Wicked.
[45] Homily 19:9, (On Ps 48 LXX). Unto the End, a Psalm for the Sons of Core on the Prosperity of the Wicked.
[46] Ep. 22:3.
[47] Ep. 39:5.
[48] Robert A. Kitchen: The Discourses of Philoxenos of Mabbug, p xxxix.
[49] Discourse 10:1, 2.
[50] Discourse 10:3.
[51] Discourse 10:20.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 19 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب |
تفسير يشوع ابن سيراخ 17 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/m28wrbq