← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30
الأصحاح الثامن والعشرون
بعد أن تحدَّث بن سيراخ عن "بعض الخطايا الخطيرة وثمارها المُرَّة"، يحدثنا عن "حُبّ الانتقام والخصام" كخطية لا تليق بصورة الله فينا التي هي الحُبّ والرحمة.
[1] (ت: 1) |
||||
[2 -7] (ت: 2-9) |
||||
[8 -12] (ت: 10-14) |
||||
[13 -26] (ت: 15-30) |
||||
* من وحي سيراخ 28: ردّ صورتك فيَّ! |
1 مَنِ انْتَقَمَ، يُدْرِكُهُ الانْتِقَامُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَيَتَرَقَّبُ الرَّبُّ خَطَايَاهُ.
الانتقام من أول الخطايا التي مارسها الإنسان (تك 4: 14-15، 23-24). بدأ سيراخ بملاحظة أن الذين يطلبون الانتقام من إخوتهم، يُطالِبون هم أنفسهم عما ارتكبوه من أخطاء وخطايا. قيل لقايين: "كل من قتل قايين، فسبعة أضعاف يُنتقَم منه" (تك 4: 15).
من يطلب الانتقام يُدرِكه انتقام الربّ،
الذي بالتأكيد سُيعاقِبه على خطاياه [1].
سَجَّل لنا سفر التثنية نفس المفهوم: "لي النقمة والجزاء، في وقت تزل أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب وما هُيئ لهم مسرع" (تث 32: 35)، وأكد الرسول بولس ذلك: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الربّ" (رو 12: 19).
يقف القديس باسيليوس الكبير في دهشة وهو يتطلَّع إلى الإنسان وهو في حالة هياجه. إذ يفقد سماته الطبيعية كإنسانٍ، وتتغيَّر حتى ملامحه، ويصير أشبه بإنسانٍ آخر.
تُرَى هل تحوَّل الإنسان إلى وحشٍ، أو دخله شيطان فغيَّر كل كيانه؟!
v من يقدر أن يصف بدقة مثل هذا الشرّ؟! كيف أن سريعي الغضب، ما أن تتملكهم ذريعة بالصدفة، حتى يصرخوا ويصيحوا ويهاجموا في خزيٍ لا يقل عن خزي البهيمة أو الوحش الذي ينفث سمًا! مثل هذا الشخص لا يوقفه شيء حتى يقع أذى ضخم لا يمكن علاجه، وكأن فقاعة من غضب تنفجر وتغلي، تصب جامات مُلتهِبة بلا هوادة. ليس حد سيف ولا نار، ولا أي شيء آخر مُروِّع يمكنه أن يوقف ويحجز نفسًا مندفعة في جنون بالغضب.
لا يقدر أحد على إيقاف الممسوسين من الشياطين، هكذا لا يختلف الغَضْبي عنهم، لا في المظهر ولا في ميول نفوسهم.
لأن الذين يتوقون إلى الانتقام يغلي الدم في قلوبهم، وكأنه يتأجَّج وينفث كما من نارٍ مشتعلةٍ هائجةٍ. ينفجرون ويظهر غضبهم للعيان، فيبدو الإنسان الغاضب مختلفًا عن الإنسان المألوف للجميع، والذي اعتاد عليه الكل، وكأنه وضع على وجهه قناع كالذي يرتديه من يقف على مسرح. والقريبون منه لا يرون في عينيه تلك التعبيرات المعتادة، لكن تبدو في نظرته علامات الجنون، وتتوقَّد في عينيه النيران. ويسن أسنانه كخنزير برِّي يخرج إلى القتال. يحتقن وجهه ويمتلئ بالدماء، ينتفخ جسمه ويثقل، وتنفجر أوعيته الدموية. تتسارع أنفاسه في وحشية، وكأن في داخله عاصفة تثور. صوته يعلو ويتهدج ويبلغ أقسى درجات الارتفاع، ولا يفهم أحد ماذا يقول، يتدفق بلا هوادة، يتسارع بلا ترتيبٍ ولا منطق وبغير وضوحٍ[1].
2 اِغْفِرْ لِقَرِيبِكَ ظُلْمَهُ لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَايَاكَ. 3 أَيَحْقِدُ إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّبِّ الشِّفَاءَ؟ 4 أَمْ لاَ يَرْحَمُ إِنْسَانًا مِثْلَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ عَنْ خَطَايَاهُ. 5 إِنْ أَمْسَكَ الْحِقْدَ وَهُوَ بَشَرٌ؛ فَمَنْ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ؟ 6 اُذْكُرْ أَوَاخِرَكَ وَاكْفُفْ عَنِ الْعَدَاوَةِ. 7 اُذْكُرِ الْفَسَادَ وَالْمَوْتَ، وَاثْبُتْ عَلَى الْوَصَايَا. 8 اُذْكُرِ الْوَصَايَا وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى الْقَرِيبِ. 9 اُذْكُرْ مِيثَاقَ الْعَلِيِّ وَأَغْضِ عَنِ الْجَهَالَةِ.
اغفر لقريبك الظلم الذي مارسه،
فتُمحَى خطاياك متى صلّيت [2].
لا يطلب ابن سيراخ من الحكيم عدم الانتقام فقط، بل يلزمه أن يغفر لمن عمل على أذيته، فيسمع له الله ويغفر خطاياه [2]، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. وكما يُعَلِّمنا السيد المسيح أن نُصَلِّي: "اغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12). يُعَلِّق السيد المسيح على هذه الصلاة: "إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي؛ وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم" (مت 6: 15). أوضح السيد المسيح هذا المبدأ بِمَثَلِ العبد غير الغافر لزميله (مت 18: 23-25).
حقًا الله الكلي الحب والرحمة يشتاق أن يغفر لنا خطايانا، لكن إذ لا نغفر نحن لإخوتنا لن ننعم بالحب الإلهي. إصرارنا على الانتقام من المقاومين لنا يحجب عنا التمتُّع بروح الحُبّ والتواضع، وبالتالي نُحرَم من قبول مراحم الله علينا.
v يلزم ألا يغضب (المؤمن) على قريبه بلا سببٍ، ولا يتبنَّى السخط ضد أحدٍ، ولا يردّ الشر بالشر. يليق به أن يُشتَم لا أن يَشْتِم، ويُضرَب عن أن يضرب، ويُسَاء إليه عن أن يخطئ، وأن يُسلَب عن أن يَنهِب[2].
أيحتفظ الإنسان بالحقد على قريبه،
ثم يلتمس من الربّ الشفاء؟ [3]
من يحتفظ بالحقد يُصَاب بمرضٍ خطيرٍ يحرمه من الشفاء من خطاياه.
v يُفَضِّل الله الحُبّ فوق كل شيءٍ. كما في صنع الثوب الملوكي الأرجواني الأزهار والصبغة التي يُصنَع منها لون الثوب تحسب أثمن شيءٍ، هكذا لا شيء يُدعم الحب مثل عدم تذكُّرنا أخطاء المقاومين لنا... إنه لأمر حلو أن نحب شخصًا أخطأ إلينا عن أن نبغضه[3].
v لماذا نتمثَّل بالمجانين، يفترس كل واحدٍ الآخر، نُحارِب أجسادنا؟ اسمع ما يقوله العهد القديم، كيف يهتم جدًا بهذا الأمر: "طرق المنتقمين تؤدي إلى الموت" [راجع أم 12: 28] LXX. "أيحقد إنسان على إنسانٍ، ثم يلتمس من الرب الشفاء؟ " (راجع سي 28: 3)[4]
v لا تكن غضوبًا مع أحدٍ، ولا تحمل حقدًا، مُسامِحًا كل تعدياتهم. فقد قيل: "أيحقد إنسان على إنسانٍ ثم يلتمس من الرب الشفاء" (راجع سي 28: 3). "اغفروا يُغفَر لكم" (مر 11: 25)[5].
هل يمكن ألا يرحم إنسانًا مثله،
ثم يسأل لنفسه الرحمة من الله؟ [4]
في مثل السيد المسيح الذي يعلن فيه عن السقوط العام للطبيعة البشرية (مت 18: 23-35) يدعونا للترفُّق بالساقطين، فيترفَّق الله بنا.
إن أمسك الغضب باستمرار وهو بشر،
فمن سيُكَفِّر عن خطاياه؟ [5]
v من اللائق ومن المُكرَّم جدًا أن يمارس الإنسان المسيحية، فلا يطلب دم (زوجته) الزانية، نقتبس له المكتوب: "اغفر لقريبك ظلمه، فإذا صليت تُمحَى خطاياك. أيحقد الإنسان على آخر، ثم يلتمس من الربّ الشفاء؟ أم لا يرحم إنسانًا مثله، ثم يصلي لأجل غفران خطاياه؟ إن أمسك الحقد وهو بشر، فمن يكفر خطاياه" (راجع سي 28: 2-5). بهذا يمكننا القول: "اغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن لمن لنا عليهم" (مت 6: 12). وجاء في الرسول: "لا تجازوا أحدًا عن شرٍ بشرٍ" (رو 12: 17)[6].
اذكر نهاية حياتك، وكُفَّ عن العداوة،
واذكر الهلاك والموت، واثبت على الوصايا [6].
الطريق العملي لتهدئة النفس من الرغبة في الانتقام هو تذكُّر الموت ويوم الدينونة. يحثنا الكتاب المقدس وآباء الكنيسة أن نتأمل في يوم رحيلنا ولقائنا مع المسيح في يوم الدينونة العظيم.
v جيد هو تذكُّر الموت (سي 28: 6؛ 41: 1)، لكي يعرف الإنسان أنه مائت، ويدرك أن المائت ليس أبديًا. فإن من هو ليس أبديًا بالتأكيد سيترك هذا الدهر، ولو بغير اختياره. لذلك بالتذكُّر الدائم للموت يتعلَّم الإنسان أن يفعل الصلاح بإرادته الحُرَّة.
القديسان برصنوفيوس ويوحنا
اذكر الوصايا، ولا تبثّ غضبك على قريبك،
تذكَّر ميثاق العليّ، وأغفل الأخطاء [7].
يليق بالمؤمن خلال محبته لخلاص كل البشرية كإخوة له، أن يتطلَّع إلى من يُسِيء إليه كمريضٍ يحتاج إلى الحُبِّ والحنو واللطف والهدوء كأدوية لمساندته على خلاص نفسه. بنفس الروح يدعونا القديس أغسطينوس إلى التطلُّع نحو من يُسِيء إلينا كابنٍ صغير مُصَاب بحمّى، نترفَّق به ولا نتضايق منه، بل نحتضنه حتى يُشفَى منها.
v يجب أن يُعامَل فاعل الشر كما بواسطة طبيب الذي لا يغضب على المريض، وإنما يحارب المرض. هكذا تُهاجَم الرذيلة، ويُصلح من ضعف النفس... كمثال يُصلَح الكبرياء بالمطالبة بممارسة التواضع. والكلام الباطل بالصمت، والكسل بالعمل، والشراهة بالامتناع عن الطعام، والتذمُّر بالاعتزال من جماعة الإخوة[7].
10 أَمْسِكْ عَنِ النِّزَاعِ؛ فَتُقَلِّلَ الْخَطَايَا. 11 فَإِنَّ الإِنْسَانَ الْغَضُوبَ يُضْرِمُ النِّزَاعَ، وَالرَّجُلَ الْخَاطِئَ يُبَلْبِلُ الأَصْدِقَاءَ، وَيُلْقِي الشِّقَاقَ بَيْنَ الْمُسَالِمِينَ. 12 بِحَسَبِ الْحَطَبِ تَضْطَرِمُ النَّارُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَكُونُ غَيْظُهُ، وَبِحَسَبِ غِنَاهُ يُثِيرُ غَضَبَهُ، وَبِحَسَبِ شِدَّةِ النِّزَاعِ يَسْتَشِيطُ. 13 الْخُصُومَةُ عَنْ عَجَلَةٍ تُضْرِمُ النَّارَ، وَالنِّزَاعُ عَنْ عَجَلَةٍ يَسْفِكُ الدَّمَ. 14 إِذَا نَفَخْتَ فِي شَرَارَةٍ اضْطَرَمَتْ، وَإِذَا تَفَلْتَ عَلَيْهَا انْطَفَأَتْ، وَكِلاَهُمَا مِنْ فَمِكَ.
تجنَّب المخاصمة، فتُقَلِّل خطاياك،
فالإنسان العنيف الطبع يلهب المخاصمة [8].
v اطرد ظلمة الغضوب الذي تراه بِصَمْتِك، وتعود تقتني الفرح في قلبك، والسلام في الإخوة والأخوات الذين يشبهونك في الفكر، والغيرة والاهتمام بحفظ كنائس الرب[8].
v لا تُعالِجوا الشر بالشر، ولا تحاولوا أن يغلب بعضكم البعض، في مثل هذه الأمور. لأنه في التناحر على الفوز بالغلبة بالشر، يكون الغالب دائمًا شقيًا بائسًا، إذ يرحل ومعه خطيته الأعظم. لهذا لا يصبح ذاك الذي يجازي عن شرٍ بشرٍ كاملًا... أَوْقِف الشر بالصمت! لكنك حين تستقبل في قلبك عاصفة غضب هذا الشخص، تقتدي بالريح، فتضرب ما لفحك بضربة مضادة. لا تستخدم عدوك كمعلمً، فيما تكرهه! لا تحاكيه في ذلك. لا تكن إن جاز التعبير، مرآة للمندفع بالغضب، مظهرًا نفس الشكل في داخلك مثله.
لقد احمَّر لونه؛ أتريد لونك يشبه لون الخمر؟ عيناه حمراوان كجمر النار[9].
v العفيف في الرغبة في الكرامة هو أيضًا متواضع. والعفيف في الغِنَى قانع، ويحقق قياس الإنجيل في الفقر. الذي يتحكَّم في السخط والغضب هو لطيف. بالحق ملاحظة العفة الحقيقية تضبط اللسان، وتضع حدًا للعينين، وتطهر الأذنين من سماع النميمة بحُبّ استطلاع. أما من لا يحفظ هذا كله فإنه ليس بعفيفٍ بل جامح[10].
v من يستخدم ذكاءه ومهارته في تدمير الغير فهو شرير؛ أما من يعمل بذكاءٍ وفي حزمٍ لتجنُّب الأضرار التي يخزنها له الغير فهو يتعرَّف على ما هو لصلاحه بحكمة، مقتنيًا التعقُّل الممدوح.
أصغِ باجتهاد إلى صوت النفس المُتعقِّلة، فستعرف أن بها مركز يستخدم التعقُّل لتقديم مشورة صحية لنفسها كما لقريبها، وهذا أمر ممدوح[11].
الرجل الخاطئ يُضايق أصدقاءه،
ويبث التنافر بين المُسالِمين [9].
تضطرم النار حسب كمية الخشب، هكذا أيضًا تضطرم النار حسب عناد المخاصمة[12].
وبحسب قوة الإنسان يكون غضبه، وبحسب غناه يزداد سخطه [10].
v الإنسان الذي يقيم سلامًا مع آخر للحال بعدما يكون قد ثار ضده، يعالج غضبه لكنه لا يعالج حقده، لذلك فانه يبقى مستاءً من أخيه. لأن الغضب شيء، والحقد شيء آخر، والتهيج (الثورة) شيء ثالث، والاضطراب شيء آخر.
ولكي تفهم الأمر بوضوح أكثر، أعطيك مثالًا: لكي يشعل الإنسان نارًا يأخذ قطعة من الفحم، وهذه هي الكلمة التي أساء بها أخوك إليك، إن احتملتها تكون قد أطفأت الفحم. ولكن إن فكرت: "لماذا يقول لي هذا ذلك القول؟ إنني أيضًا أرد عليه قائلًا كذا وكذا. إنه لو لم يقصد الإساءة إليَّ ما كان قد قال لي هذا. لذلك يجب عليّ أن أرد الإساءة بالمثل". بهذا التفكير تضع بعض الوقود أو ما أشبهه لتبدأ النار. وبذلك ينتج دخانًا الذي هو الاضطراب. والاضطراب هو حركة في الأفكار وتقليب لها، تثير القلب وتهيجه.
أما التهيج فهو عمل انتقامي ضد من أساء إليك. وهذا يبعث نحو الجسارة. وقد قال القديس مرقس: "سوء النية إذ تغذّيها الأفكار، تهيج القلب، ولكن الصلاة تقتلها".
مع أنك لو احتملت تلك الكلمات الصغيرة التي نطق بها أخوك، لأطفأت قطعة الفحم الصغيرة قبل أن تنتج اضطرابًا. ومع هذا فإنك إن أردت تقدر أن تطفئ حتى الاضطراب في بدايته بالصمت والصلاة، بل وبمجرد انحناءه من القلب. أما إذا داومت في التدخين، أي تهيج القلب وإثارته بالأفكار القائلة: "لماذا فعل بي كذا؟.. وأنا أيضًا أَردّ له المثل، فإنه بهذا يشتعل القلب ويتولَّد التهاب التهيج. وإن أردت أيضًا تقدر أن تطفئ حتى التهيج قبل أن يبلغ إلى الغضب.
لكن إن داومت على إثارة نفسك وتهيجها، فإنك تكون كمن يضيف إلى النار وقودًا. وهكذا تنتج لهيبًا، الذي هو الغضب. والغضب إذا استمر يتحوَّل إلى حقد، الذي لا يقدر أن يتحرَّر منه الإنسان إلا ببذل دمه (أي عرقه وجهده وتعب نفسه)[13].
الأب دوروثيؤس
v سؤال: ما هو الفرق بين المرارة والسخط والغضب والصياح (أف 4: 31؛ مز 58: 5)؟
الإجابة: الفارق بين السخط والغضب أظن أنه في النزعة والدافع، حيث أن ألم أحدهما الذي يثير الغضب يمتد فقط إلى النزعة (أو الميل)، كما يُظهر بوضوح القائل: "اغضبوا ولا تخطئوا" (مز 4: 5؛ أف 4: 26). أما الإنسان الساخط، فيمتد دافعه، إذ قيل عن الساخط إنه كالحية (مز 58: 5). فقد كان هيرودس ساخطًا على صور وصيدا (أع 12: 20). أما امتداد السخط فيبلغ إلى الصياح، فتُعلَن المرارة بتصميمٍ مُرعِبٍ للغاية مع حقدٍ في القلب متعمدٍ (أف 4: 31)[14].
v الغضب يتجاهل الإخوة بعضهم البعض، وكذا يتناسى الآباء والأبناء ما بينهم من رابطة طبيعية. لأن الأشخاص الغضوبين يبدأون أولًا بتجاهُل أنفسهم، ثم يتجاهلون بالحقيقة كل أصدقائهم. مثلما تندفع السيول من أعلى الجبل فتجرف أمامها كل شيءٍ في الأودية يعترض طريقها، هكذا نوبات الغضب التي يصعب السيطرة عليها تجعلها تكتسح أمامها كل من يعترض طريقها. الذين يمتلكهم السخط لا يحترمون كبار السن، ولا يهتمون بحياة الصلاح، ولا تعنيهم صلة القرابة القوية، ولا الإحسانات التي قَدَّمها لهم أناس من قبل، ولا أي شيء آخر مُكَرَّم.
السخط نوع من جنون قصير الأمد. وغالبًا ما يؤذي الغَضْبي أنفسهم في اندفاعهم نحو الانتقام، غير مبالين بمصالحهم الشخصية. فما أن يتذكروا الذين أحزنوهم، يبدون كمن لدغهم ذباب الخيل في كل أنحاء جسمهم، فيثور سخطهم، ويقفز في داخلهم، ولا يهدأون حتى يفعلوا شيئًا يؤذي من أثارهم، وربما يتلقون هم أنفسهم الضرر، مثلما تتهشم أشياء بعنفٍ، فيصيبها تلف بالغ أكثر من التلف الذي قد تحدثه حين تصطدم بأشياء صلبة[15].
النزاع عن تسرُّعٍ يُضرِم النار،
والمخاصمة بحماسٍ تسفك الدم [11].
إذا نفخت في شرارة اضطرمت، لكن إذا بصقت عليها انطفأت،
وكلاهما يصدران من فمك [12].
من لا يهرب من جو المخاصمة، يزداد قلبه لهيبًا نحو الانتقام. هذا وتضطرم نيران الغضب في لسانه، فيبدأ بالكلام العنيف كشرارة لا نعرف إلى أي مدى تلهب نيران النقمة (يع 3: 5-6).
يُقَدِّم لنا القديس باسيليوس دورة الغضب؛ إذ كثيرًا ما تتحوَّل مشاعر الغضب الداخلية إلى صراعٍ وشجارٍ، والشجار يُوَلِّد أخطاء، والأخطاء تدفع إلى الضرب، والضرب يُسَبِّب جراحات، والجراحات قد تدفع إلى الموت. توقُّف الغضب في مراحله الأولى المُبَكِّرة أسهل بكثير من توقُّفه في مراحله المتأخرة.
كيف تُوقِف الغضب في بدء مراحله؟ تَذَكَّر أن ما يهينك به شخص ما في الواقع ليس إهانة، لأن إبراهيم أب الآباء، قال عن نفسه إنه تراب ورماد، وداود حسب نفسه دودة لا إنسانٍ. لنتشبَّه بموسى الذي أساء إليه هرون ومريم، فعِوض التفكير في الإهانة التي لحقت به، صلَّى لأجلهما.
v أخبرني، هل يبدو الهدوء على محيّاك؟ صوته متهدج، فهل صوتك أنت رقيق؟
فإن صدى الصوت في الصحراء لا يكون مثلما يفعل من يرد على المسيء إليه. بالعكس فإن الصدى لا يرد إلا على الكلمة بكلمة مثلها، بينما الذي يصارع الآخر يرد عليه بكلمات أخرى إضافية. لأنه ما هي طبيعة الكلام الذي يقوله المتشاحنون سويًا؟ يقول أحدهما للآخر إنه شخص تافه ابن تافه، فيرد عليه الآخر أنه عبد ابن عبد.
يقول أحدهما: إنه عامل مسكين، فيقول الآخر: يا متشرد!
يقول واحد: يا أحمق، فيرد الآخر يا مجنون.
وهكذا يتبادلون الإساءات فيما بينهما كالسهام المرتدة. هذه هي شتائم اللسان التي تتسارع، ثم لا يلبث أن يحل بينهما الانتقام من خلال الأفعال. لأن السخط يولد الصراع والشجار، والشجار يولد الخطأ، والخطأ يولد ضربات، والضربات تولد جراحات، والجراحات غالبًا ما تؤدي إلى الوفاة.
هكذا فلنوقف الشر منذ البداية مبكرًا جدًا! لنزيل الغضب من نفوسنا، بكل جهدٍ ممكن. بهذا نستطيع أن نستأصل الكثير من الشرور مع الأهواء، فالشر نوع من الجذور، ونوع من المنابع[16]
v هل بصق عليك، واعتبرك نكرة؟ تَقَبَّل هذا الفكر عنه، أنك مأخوذ من تراب الأرض، وأنك إلى الأرض والتراب تعود (تك 3: 19). من يُطَبِّق هذا الفكر على نفسه أصلًا ومن قلبه، يجد أن كل تحقيرٍ له هو أقل من الحقيقة. بهذا لا تعطي لعدوك أية فرصة للانتقام، فتُظهِر له أنك لا تعصف بك الإساءة. فتثمر لنفسك إكليلًا عظيمًا للمثابرة، جاعلًا جنون الآخر نقطة البدء لحكمتك. لهذا إن كنت تنصت إلى غضبه، فستضيف بإرادتك مزيدًا من الإهانات لذاتك...
هل يدعوك أحمق ومتسوِّلًا لا تستحق شيئًا؟ قل إنك أنت نفسك "دودة" (مز 23: 6)، ومولود من حمأة "كومة روث"، مثلما قال داود[17].
15 النَّمَّامُ وَذُو اللِّسَانَيْنِ أَهْلٌ لِلَّعْنَةِ، لإِهْلاَكِهِمَا كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمُسَالَمَةِ. 16 اللِّسَانُ الثَّالِثُ أَقْلَقَ كَثِيرِينَ، وَبَدَّدَهُمْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ، 17 وَهَدَمَ مُدُنًا مُحَصَّنَةً، وَخَرَّبَ بُيُوتَ الْعُظَمَاءِ، 18 وَكَسَرَ جُيُوشَ الشُّعُوبِ، وَأَفْنَى أُمَمًا ذَاتَ اقْتِدَارٍ. 19 اللِّسَانُ الثَّالِثُ طَرَدَ نِسَاءً فَاضِلاَتٍ، وَسَلَبَهُنَّ أَتْعَابَهُنَّ. 20 مَنْ أَصْغَى إِلَيْهِ لاَ يَجِدُ رَاحَةً، وَلاَ يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. 21 ضَرْبَةُ السَّوْطِ تُبْقِي حَبَطًا، وَضَرْبَةُ اللِّسَانِ تَحْطِمُ الْعِظَامَ. 22 كَثِيرُونَ سَقَطُوا بِحَدِّ السَّيْفِ، لكِنَّهُمْ لَيْسُوا كَالسَّاقِطِينَ بِحَدِّ اللِّسَانِ. 23 طُوبَى لِمَنْ وُقِيَ شَرَّهُ، وَلَمْ يُعْرَضْ عَلَى غَضَبِهِ، وَلَمْ يَحْمِلْ نِيرَهُ وَلَمْ يُوثَقْ بِقُيُودِهِ، 24 فَإِنَّ نِيرَهُ نِيرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقُيُودَهُ قُيُودٌ مِنْ نُحَاسٍ. 25 الْمَوْتُ بِهِ مَوْتٌ قَاسٍ، وَالْجَحِيمُ أَنْفَعُ مِنْهُ. 26 لكِنَّهُ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الأَتْقِيَاءِ، وَلاَ هُمْ يَحْتَرِقُونَ بِلَهِيبِهِ، 27 بَلِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الرَّبَّ يَقَعُونَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، فَيَشْتَعِلُ فِيهِمْ وَلاَ يَنْطَفِئُ. يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ كَالأَسَدِ، وَيَفْتَرِسُهُمْ كَالنَّمِرِ. 28 سَيِّجْ مِلْكَكَ بِالشَّوْكِ. 29 اِحْبِسْ فِضَّتَكَ وَذَهَبَكَ، وَاجْعَلْ لِكَلاَمِكَ مِيزَانًا وَمِعْيَارًا، وَلِفَمِكَ بَابًا وَمِزْلاَجًا، 30 وَاحْذَرْ أَنْ تَزِلَّ بِهِ، فَتَسْقُطَ أَمَامَ الْكَامِنِ لَكَ.
الغضب يُفقِد السيطرة على الإرادة وعلى الحواس والجسد، خاصة اللسان. متى ثار في الفكر أو القلب يُفقِد الإنسان سيطرته على لسانه، فينطق أحاديث بلا ضابطٍ، وتثور أعضاء جسمه بروح العنف، ويحمل في داخله حركات السخرية والعنف الجسماني، وهكذا يتولَّد من الغضب والسخط أعمال شريرة غير محصاة! في اختصار يُفقِد الغضب الحرية ويُقِيم من نفسه أَمة (عبدة) بلا سلطان!
v الغضب يجعل الألسنة مطلقة العنان، والأحاديث بلا ضابطٍ. كذلك العنف الجسماني وتصرُّفات الاستهزاء والسب والاتهامات والضرب وغير ذلك من الأعمال الشريرة غير المحصية تُولَد من الغضب والسخط[18].
v بسبب الغضب لا تُلجَم الألسنة، ولا تُخرَس الشفاه، ولا تُقيَّد الأيدي، بل يتولَّد من الغضب وأهوائه ومن السخط ومشاعره ما لا يُعَد ولا يُحصَى من هياج وثورات وتوبيخات ونميمة وضربات وأمور أخرى بلا حصر. بالسخط أيضًا يُسَنُّ حد السيف، فتتجرأ يد الإنسان على قتل إنسانٍ[19].
اِلعنوا الإنسان النمام والمُخادِع،
فإنه يُهلِك كثيرين من المُسالِمين [13].
عدم ضبط اللسان يشعل بالأكثر الشرارة. فقد تحطَّمت كثير من الأمم تمامًا بسبب شرارة صغيرة صدرت عن لسانٍ غير مضبوط.
النميمة تزعزع الكثيرين وتُشَتِّتهم من أُمّة إلى أُمّة،
وتهدم مدنًا مُحَصَّنة، وتقلب بيوت العظماء [14].
v الحسد جرثومة وأصل الشرور، فمنه ينبعث القتل والبغضة والنميمة والسلب واشتهاء ضرر الغير وما أشبه ذلك. فمن منكم لا يعرف أنه بالحسد يتشبَّه إبليس الذي بحسده دخل الموت إلى العالم.
النميمة تطرد نساء فاضلات،
وتسلبهن ثمار أعمالهن [15].
أحشويرش الملك سمع لنميمة السكرى، فطرد الملكة وشتي الفاضلة (إس 1: 17).
من يُكَرِّس نفسه للنميمة لا يجد راحة،
ولا يسكن مطمئنًا [16].
v يا تُرَى، ما معنى أن ننقطع عن أكل اللحم، ونحن لا ننقطع عن أكل لحم قريبنا بالنميمة والغيبة؟ وما معنى أن نصوم عن الأكل، ونحن لا ننقطع عن الأفكار الرديئة والزنا والحقد والبغض؟
احذر أن تصوم فقط عن اللحم وتفتكر أن هذا هو ما يُطلَب منك. الصوم الحقيقي هو الامتناع عن كل رذيلة: "ابعدوا عن كل إثم" (إش 8: 5)، وهو مغفرة كل إساءة للقريب؛ هو ترك الديون للمحتاجين: لا تصوموا لكي تخاصموا، وتترافعوا لدى المحاكم[20].
v ألعلنا نستطيع أن نجد إنسانًا آخر مثل بولس الرسول يمكنه أن يقول: "لي اشتهاء أن أنطلق، وأكون مع المسيح" (في 1: 23)؟
من جهتي لن أستطيع أن أقول مثل بولس، لأنني أعرف إنني إذا انطلقت فإن كل ما هو خشب وعشب وقش (1 كو 3: 12) فيَّ يجب أن يُحرَق. هذا الخشب الموجود فيَّ هو النميمة، والإفراط في الشرب والسرقات وغيرها من الأخشاب التي تراكمت على الأساس الموجود في بيتي. كل ذلك يغيب عن كثير من المؤمنين، كل واحد منا يظن أنه طالما لم يزنِ ولم يرتكب الفحشاء يخلص؛ ولا ندرك أنه "لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد، بحسب ما صنع، خيرًا كان أم شرًا" (2 كو 5: 10). ولا نضع أمامنا الذي قال: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض. لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" (عا 3: 2)، ليس على بعض ذنوبكم، والبعض الآخر لا أعاقبكم عليها[21].
ضربة السوط تُسَبِّب جرحًا،
وضربة اللسان تكسر العظام [17].
يظن البعض أن الكلمات لا تُسَبِّب لهم ضررًا، لكن الخبرة العملية تكشف عن مدى خطورة عدم ضبط اللسان، إذ حطَّم أناسًا وعائلات وأممًا.
كثيرون يسقطون بحدّ السيف،
لكنهم ليسوا بذات الكثرة كالساقطين بسبب اللسان [18].
v إن استطعنا أن نرى كيف جُرِح إنساننا الداخلي بكل خطية!... ألم تقرأ: السيوف تجرح، ولكن ليس كما يجرح اللسان [18]. لذلك فإن النفس تُجرَح باللسان، كما أيضًا بالأفكار الشريرة والشهوات الرديئة، إذ تنكسر وتتحطَّم بأعمال الخطية. إن كنا قادرين أن نرى كل هذه الأمور وندرك ندبات النفس المجروحة، بالتأكيد سنقاوم الخطية حتى الموت.
على أي الأحوال كما أن الذين يعانون من الهذيان وفقدان رشدهم لا يشعرون أنهم مجروحون، لأنهم فقدوا أحاسيسهم الطبيعية. هكذا لا نستطيع أن نشعر بخطورة جراحاتنا ومدى بؤس النفس الذي تُسَبِّبه الخطية، إن أُصبنا بجنون محبة اللذَّات العالمية والسُكْرِ بالرذيلة[22].
طوبى للإنسان الذي يحتمي منه، ولا يتعرَّض لغضب اللسان،
ولا يجُرّ نيره، ولا يوثق بقيوده [19].
فإن نيره نير من حديد،
وقيوده قيود من نحاس [20].
الموت به موت شرير،
والهاوية خير منه [21].
لا يتسلَّط اللسان الشرير على الأتقياء،
ولا يحترقون هُمْ بلهيبه [22].
التقوى أو مخافة الربّ تُخَلِّص الإنسان من نير اللسان وعبوديته [22-26]. إن لم يسيطر الإنسان على لسانه، فاللسان يسيطر عليه؛ أو من لا يستعبد لسانه، لسانه يستعبده.
الذين يتركون الربّ يسقطون تحت سلطانه، فيشتعل بينهم ولا ينطفئ.
يُطلَق عليهم كالأسد، ويفترسهم كالنمر [23].
كما أن المُزارِع يحفظ ملكيته بسياج، هكذا يليق بالحكيم أن يحفظ لسانه من القذف. الأشخاص غير المبالين الذين يزلُّون بواسطة ألسنتهم، يسقطون ضحية للمُتفرِّجين (أم 13: 3؛ 21: 23).
انظر، سيِّج ممتلكاتك بالشوك،
وأغلق على فضتك وذهبك [24].
في كل صباحٍ يطلب المؤمن: "ضع يا ربّ حارسًا لفمي، احفظ شفتي" (راجع مز 141: 3).
v أيها الأخ المحبوب أندراوس، أنصت: إنّ الذين ينالون عملات خالصة نقية من الملك، إذا حافظوا عليها بغيرةٍ واهتمامٍ تحتفظ ببريقها ونظافتها. ولكنهم إذا لم يعتنوا بـها، فهي لا تتلوث فحسب، بل ربما تضيع أيضًا. لهذا السبب قال أحد الحكماء: "صرّْ ذهبك وفضتك" (راجع سي 28: 24).
إنني أقول لك لا أن تربطها بإيمانٍ غير متردِّدٍ فحسب، بل أيضًا أن تختمها بالتواضع وطول الأناة مع الصبر الذي به مَنْ يحتمل يخلص. إنني أقول لك أمرًا جريئًا بالله الذي يسمح لي بذلك: الرب يسوع الوسيط العظيم ابن الآب المُبارَك مُعطِي الروح القدس المحيي يخبرك بواسطتي أنا آخر الكل: "خطاياك الكثيرة مغفورةٌ لك" (لو 5: 20؛ 7: 48)، خطاياك منذ ولادتك حتى الآن! بقبولكم هذا الفرح العظيم الذي لا يُعبَّر عنه، تحبونه بكل قدرتكم، مُقَدِّمين ثمرًا يليق بالتوبة (مت 3: 8)[23].
القديسان برصنوفيوس ويوحنا
v ليت كل واحد يُرَحِّب بالصوم بحماسٍ بكونه أم لكل تقديس وإماتة وخضوع الجسد (1 كو 9: 27)، ويختار التعهُّد بهذا العمل: يسيج ممتلكاته بالشوك [24]، كما يقول أحد حكمائنا[24].
v أيها الإخوة الأحباء، نتحاشى بشجاعة ونتجنَّب كلمات الذين ينتشر كلامهم كآكلة (2 تي 2: 17)، وكما يقول الرسول: "المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 14: 33). هكذا يُحَذِّرنا (الحكيم): سَيِّج أذانك بالشوك، ولا تسمع اللسان الشرير [24][25].
v لمن كُتِب: "سيج ملكك بالشوك، وصُر فضتك وذهبك. واجعل لكلامك ميزانًا ومعيارًا، ولفمك بابُا ومزلاجًا" [24–25]؟
ملكك هو عقلك، وذهبك هو قلبك، وفضتك هي حديثك. "كلام الرب نقي كفضة مصفاة في بوطة (بالنار)" (مز 12: 6). العقل الصالح ممتلكات صالحة. وبالتالي فإن الحياة الداخلية النقية هي ممتلكات ذات قيمة. سيِّج هذه الممتلكات إذن بالفكر، احفظه بالشوك، أي بالرعاية التقية، لئلا تندفع عليه أهواء الجسد المفترسة وتسبيها، وتهاجمها العواطف العنيفة، وتتعدَّى على حدودها وتحمل كرومها.
احفظ حياتك الداخلية. لا تهملها، ولا تستخفّ بها، كأنها تافهة، فإنها ممتلكات قيِّمة. بالحقيقة هي ثمينة، ثمارها لا تفسد فقط إلى حين، لكنها تبقى لكي تستخدم للخلاص الأبدي[26].
v اربط كلماتك لئلا تجري في طيش وتصير مُتسيِّبة، فترجع خطايا بكثرة الكلام. لتضيق عليها فترجع إلى حدودها. فالنهر الذي يفيض يجمع بسرعة وحلًا... رزانة العقل له لجام يلجمه، يقوده ويُوَجِّهه[27].
اجعل لكلامك ميزانًا ومعيارًا،
ولفمك بابًا ومزلاجًا [25].
يرى الشهيد كبريانوس أن المؤمن يسيج أذنيه من سموم الهراطقة، بانسحابه من الذين هربوا من الكنيسة. أما الرسول فيأمرنا: "ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخٍ يسلك بلا ترتيبٍ. وليس حسب التقليد الذي أخذه منا" (2 تس 3: 6). إذ لا يمكن أن توجد شركة بين الإيمان والعدو.
من كان ليس مع المسيح، فهو ضد للمسيح، وهو عدو لوحدته وسلامه، ولا يستطيع أن يتحد معنا. إن جاءوا بالصلوات والإصلاح فليُسمَع لهم. وإن هاجموا باللعنات والتهديدات يُرفضَوا[28].
v واضح أننا نُدَنِّس أنفسنا عندما نتحدث بكل ما يمر على فكرنا ونتكلم عن أمورٍ يلزم ألاَّ نناقشها، فتصير مصدر خطايا، بالرغم من معرفتنا أنه يليق بشفاهنا أن تُغلَق بفهمٍ (أم 15: 7)، ويليق بنا أن نجعل لكلامنا ميزانًا ومعيارًا [25][29].
v "أغلق بابك" (إش 26: 20) في وجه العدو. "زِنْ كلماتك بالميزان، واجعل لبابك مزلاجًا" (راجع سي 28: 25). أنت تعلم كيف أُكَلِّمك، فافهم الأمور التي أقولها. كِدّ لكي تُحكِمها، وأنت تجد الكنوز المخبّأة فيها بحسب الله، وأعطِ فيها ثمرًا يليق بالله، ولا تُخزِ شيبتي، إذ أُصلِّي لأجلك نهارًا وليلًا. لعل الله يعطيك أن تفهم وأن تعمل بمخافته، آمين[30].
v لتعبر من هذا العالم، لتصعد الآن إلى الصليب؛ ارتفع عن الأرض، انفض التراب عن قدميك (مت 10: 14)، استهن بالخزي (عب 12: 2). لا تشترك مع الكلدانيين في إشعال نيران الأتون حتى لا تحترق معهم (دا 3: 23) بواسطة غضب الله. لتحسب كل شخصٍ أفضل منك (في 2: 3)، ابك على ميتك (سي 22: 11).. اربط كلماتك بإحكام في النير، واصنع لبابك مزلاجًا (راجع سي 28: 25)[31].
القديسان برصنوفيوس ويوحنا
v ضع بابًا ومزلاجًا على الفم (راجع سي 28: 25). لأن شرورًا بلا حصرٍ تصدر عن الثرثرة، العائلات تُهدَم، والصداقات تُمزق، ومآسي لا حصر لها تحدث. لا تشغل نفسك يا إنسان بأمور قريبك. لكنك أنت كثير الكلام، وبك ضعف. تحدث عن أخطائك أمام الله. هكذا يتحوَّل الضعف إلى عدم ضعف، بل وإلى نفع. تحدَّث عن ضعفاتك لأصدقائك الذين هم بحق أصدقاء وأتقياء، وتثق فيهم، حتى يُصَلُّوا من أجل خطاياك. إن تحدَّثت عن أخطاء الآخرين، فلن تنتفع شيئًا، ولا تقتني شيئًا، بل تُدَمِّر نفسك[32].
v لنطلب معونته لكي نتمم اجتهادنا بالعمل، ونحفظ فمنا جاعلين مزلاجًا لعقلنا، لا يكون مُغلَقًا دائمًا، بل ليُفتَح في الوقت الملائم... لذلك يقول الحكيم سليمان: "للسكوت وقت، وللتكلم وقت" (جا 3: 3). لو كان واجبًا أن يُفتَح الفم دائمًا لما لزم له وجود باب، ولو كان واجبًا أن يغلق دائمًا لما لزمت له حراسة. فالباب والحراسة لكي يعمل كل شيءٍ في وقته. يقول آخر: "اجعل لكلامك ميزانًا ومعيارًا" (راجع سي 28: 29)، أي أن نلفظ كلامنا باحتراس وازنين إياه ومُفَكِّرين فيه[33].
v ليكن لفمك باب يغلق، وعند الحاجة يرفع. ليغلق بإحكام حتى لا يستطيع أحد أن يثير صوتك للغضب، فترد الشتيمة بشتيمة[34].
واحذر أن تزل بلسانك،
لئلا تسقط فريسة أمام الكامن لك [26].
طريق واحد لتجنُّب الخطايا، الهروب من النزاعات، لأن الإنسان المُحِب للخصام يُمَزِّق الصداقات (أم 15: 18؛ 16: 28). المخاصمون يضعون وقودًا على النار (أم 26: 20-21؛ يع 3: 5-6)، خاصة إن كانوا أغنياءً وأصحاب سلطان (8: 1-3؛ 13: 2)، وقد تؤدي الخصومات إلى سفك دماء (22: 24؛ 27: 15).
v وهبت الإنسان الأول سلطانًا على كل الخليقة الأرضية،
لا ليستعرض جبروته، بل ليتمتَّع برعايتك له.
في عنادي فقدت الحب والحنو والرحمة، إذ زالَت صورتك المقدسة من أعماقي.
عوض الحزن على ما أفسدته، سيطر حب الانتقام والتشامخ على مشاعري وإرادتي.
حُبّنا للانتقام يجعلنا أهلًا أن يُنتقَم منَّا!
بحُبِّنا للانتقام نسلب عملك، إذ تقول: "لي النقمة أنا أُجازِي يقول الرب" (رو 12: 19).
v حَوِّل عينيّ عن تصرفات إخوتي، فأرى خطاياي، وأطلب الرحمة لهم ولي.
افتح قلبي للحب، فأستعذب الحنو على الساقطين.
أغضب على خطاياي وخطايا إخوتي ولا أغضب عليهم، فكلنا ننتظر رحمتك.
لأكره المرض لا المريض، فليس من إنسانٍ لا يتعرَّض للمرض.
v دَرِّبني أن أهرب من المخاصمة بالصمت المقدس. فيتهلل قلبي بعملك العجيب في الخطاة!
لينطلق قلبي من معارك العالم، ولينضمّ إلى خورُس السمائيين.
عِوَض الدخول في منازعاتٍ وجدالٍ، بالحُبّ أطلب سلامًا وفرحًا ونعمةً لإخوتي ولي!
طَهِّرني بالتمام، فلا أُفسِد وقتي في المخاصمات، ولا أذنيّ في الاستماع للغضب.
v عِوَض إلقاء الوقود في نيران الغضب، هَبْ لي أن أسكب مياه الحُبّ واللطف والحنو.
لا تسمح للغضب أن يتحوَّل إلى حقدٍ، ولا الحقد إلى تهيّج، ولا التهيّج إلى انتقام،
بل بروحك القدوس أطفئ فيَّ كل انفعال غير لائقٍ.
عذوبة الشركة معك يا إلهي، تنزع مرارة غضبي على أخي!
v عوض أن أنفخ بفمي في شرارة الغضب، هب لي أن أتفل بفمي على الشرارة فتنطفئ!
هب لي أن أقتدي بموسى النبي الذي صلَّى من أجل هرون ومريم اللذيْن أهاناه (عد 12: 13).
v هب لي ألا يتحرَّك لساني في غضبي، وأَقِم حراسة من عندك للساني الداخلي.
لتُطفِئ يا رب شرارة لساني في بدء انطلاقها، لئلا تتحوَّل إلى أتون مميت.
انزع عنّي خشب النميمة، لئلا أحترق أنا به.
v احفظني من لساني، واحميني من نيره القاسي،
وحَرِّرني من قيوده المُرَّة، وأطفئ نار غضبه!
لتُقَدِّسه فيتأهَّل للتسبيح مع السمائيين.
إن روَّضته، يسكب حلاوة وعذوبة ولطفًا.
وإن لم يتروَّض يفترسني كأسدٍ أو نمرٍ.
سَيِّج فمي بنعمتك، فلا تخرج منه كلمة جارحة،
v ضع يا رب لفمي حارسًا من قِبلك.
فأعرف متى أتكلم ومتى أصمت.
إن تكلمت، فهبني أن تتكلم أنت بي،
وإن صمت، فلتتجلّى أنت في داخلي.
_____
[1] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[2] A Discours on Ascetical Discipline, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 34-35).
[3] Homilies on Matthew 79.
[4] Homilies on Matthew, 68: 5.
[5] Homilies On Heb. 9: 8
[6] Treatises on Marriages ..., FOTC, vol. 27, p.120-122.
[7] Reg. Fus. 51.
[8] Letter 65 to Atorbius.
[9] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[10] Reg. Fus. 16:3.
[11] Homily On The Beginning Of Proverbs, 11
[12] بحسب NRSV: وبحسب العناد يزداد الصراع.
[13] توجيهات بخصوص التداريب الروحية، 52.
[14] Regulae brevius tractatae, 55.
[15] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[16] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[17] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[18] Sermons 10 FC 86, P. 74.
[19] Against Those Who Are Prone to Anger. ترجمة د. جرجس كامل يوسف
[20] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 290.
[21] Homilies on Jeremiah. Homily 20:3.
[22] Sermons, vol. 2, p.136-138.
[23] Book of Letters 115.
[24] Festal Letters, FOTC, vol. 118, p.103-104.
[25] Letters, FOTC, vol. 51, p.191-193.
[26] Duties Of The Clergy, Book 1, Ch. 3:11.
[27] Duties Of The Clergy, Book 1, Ch. 3:12.
[28] St. Cyprian the Martyr, Letters 44, FOTC, vol. 51, p. 171-193.
[29] Commentary on Matthew 11: 12.
[30] فردوس الآباء، ج 3، سؤال 48، ص 311.
[31] Letters, FOTC, vol. 113, p.63-64.
[32] On Hebrews, Homily 21: 8.
[33] المطران أبيفانيوس، القديس يوحنا الذهبي الفم، ص 39.
[34] Duties Of The Clergy, Book 1, Ch. 3:13.
← تفاسير أصحاحات سيراخ: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51
تفسير يشوع ابن سيراخ 29 |
قسم تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب (اقرأ إصحاح 28 من سفر حكمة يشوع بن سيراخ) |
تفسير يشوع ابن سيراخ 27 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/dpm32ts