← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14
الباب الثاني
(1 أي 10)
الأصحاح العاشر
كشفت الأصحاحات التسعة السابقة عن الحقائق التالية:
1. جوهر العهد القديم هو خطة الله الخلاصية للبشر، أو رد الإنسان إلى ما كان عليه قبل السقوط، حيث يستعيد صورة الله ومثاله، بغض النظر عن جنسه وثقافته وإمكانياته ووطنه. يشتاق الله أن يجمع البشرية من كل الأمم والشعوب في وحدةٍ وتناغمٍ، تحمل انعكاس بهاء الله عليها.
هذا لن يتحقق إلا بنزول كلمة الله متجسّدًا في عالمنا، وتقديم نفسه ذبيحة حُبِّ كفّارية، وإقامة مملكته في القلوب، بكونه المُخَلِّص ملك الملوك ورب الأرباب. هذا دفع الكاتب إلى تسجيل سلسلة الأنساب من آدم حتى ما بعد السبي البابلي.
لقد كان اليهود يترقَّبون المسيّا ابن داود ليملك إلى الأبد، لكن مع طول فترة السبي البابلي، وفقدان الرجاء في إقامة ملك من نسل داود، والعودة إلى الهيكل المُحَطَّم في أورشليم، كادت سجلات بيت داود تضيع عن أذهان الكثيرين بالرغم من قيام بعض الأنبياء في السبي نفسه كي يفتحوا باب الرجاء في تحقيق وعود الله بالخلاص الإلهي المسياني.
2. مع ما اتَّسمت به البشرية من فساد منذ سقوط آدم وحواء، وُجِدَ في كل جيلٍ قلة قليلة تشتاق إلى الالتصاق بالله. هذه القلة قد تتقلص لتكون شخصًا واحدًا، أو عائلة صغيرة واحدة في العالم كله. فقد جاء وقت لم يكن فيه من يسلك في طريق الرب سوى هابيل، وفي الجيل الذي تلاه شيث، وبعده أنوش الخ. وجاء وقت فسد فيه العالم ولم يوجد من يلتصق بالله سوى عائلة نوح التي تضم ثمانية أشخاص.
يعتزُّ الله مُحِب البشر بهذه القلة، ويُقِيم معهم عهودًا، كما فعل مع نوح وإبراهيم. مع هذا لم يستخف الله بالأكثرية الفاسدة، فقد أعدَّ خطة لخلاص العالم ببذل ابنه الحبيب الذي تجسد في ملء الزمان، ليضم من كل الأمم والشعوب كنيسة مقدسة تُشارِك السمائيين الأبدية المتهللة.
3. إن كان قد وُجِدَ شخص واحد (كأخنوخ) أو اثنين (أخنوخ ومعه إيليا) قد تأهلا لنقلهما إلى السماء مؤقتًا، إذ سيأتيان ويستشهدان في أيام ضد المسيح القادم في نهاية الدهور، فإن البشرية كلها خضعت للموت. وباسم البشرية كلها يقول الرسول بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من هذا الجسد المائت؟!" (راجع رو 7: 24). باسم كل الأمم والشعوب دون استثناء، يقول الرسول: "وأنتم إذ كنتم أمواتًا بالذنوب والخطايا" (رو 2: 1). كأن هذه الأنساب منذ آدم تصرخ: من هو الطبيب القادر أن يُقِيمَنا من الموت؟! ومتى يأتي؟
4. أنهى سلسلة الأنساب بذكر نسل شاول الملك، ولم يذكر عنه سوى أمرًا واحدًا، وهو رواية موته أو انتحاره التي اقتبسها من صموئيل الأول الأصحاح 31 كلمة بكلمة. غير أنه يُضِيف إليها عبارتين: "فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب، من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه، وأيضًا لأجل طلبه إلى الجان للسؤال، ولم يسأل من الرب فأماته" [13-14]. هذا ما حلَّ بنا نحن الخطاة، فدُعينا "أبناء المعصية"، "بلا إله في العالم" (أف 2:2، 12).
5. انتهت مملكة شاول بفشلٍ تامٍ، وتدخَّل الله بنعمته من شاول إلى داود بن يسَّى. يذكر كاتب السفر موت شاول المفاجئ بعدما نبذه الله، فيجعل ذلك مقدمة لقصة داود التي تستغرق بقية السفر كله[1].
6. الآن إذ يبدأ في عرض تاريخ داود ونسله من الملوك، يُرَكِّز سفرا أخبار الأيام على بيت الرب لا على العرش الملكي. فما يشغل هذين السفرين يُكَمِّل ما ورد في أسفار صموئيل والملوك. يود هذان السفران أن يدخلا بنا إلى خبرة عربون الأبدية، وهي الالتصاق بالله والتسبيح له مع السمائيين بلا انقطاع.
يؤكد سفرا أخبار الأيام أن الفلسطينيين استطاعوا أن يُحَطِّموا حياة شاول وأبنائه، وينكلوا بهم.
بعد أن عرض الكاتب في الأصحاحات التسعة الأنساب ليكشف عن أن الله ضابط التاريخ، يُسَجِّل الأسماء حتى التي يمحوها الزمن على الأرض، أراد الحديث عن رجل الله داود النبي الذي أَعَدَّ كل شيءٍ لإقامة العبادة التي هي ظل السماويات. فكان لابد أن يتحدث عن موت شاول، ليؤكد الحقائق الآتية:
1. الله الذي أرسل صموئيل ليمسح الصبي داود ملكًا في يده التاريخ، يُسَلِّمه العرش في الوقت المُعَيَّن.
2. لم تمتد يد داود لتُحَطِّمَ مملكة شاول، فيتسلَّم العرش، بالرغم من محاولات شاول المستميتة للخلاص منه بكل وسيلة.
3. لم يمد داود يده على مسيح الرب، بالرغم من رفض الله شاول؛ إنما قام الوثنيون بهذا العمل، فالشر يُهلِك نفسه بنفسه: شاول الشرير وأسرته قتلهم الأشرار.
4. سمح الله بقتل أبناء شاول، حتى لا يدخل داود في صراع معهم بعد موت أبيهم، خاصة وأنه كان يحب يوناثان بن شاول كنفسه.
5. انتهت حياة شاول بانتحاره، وكأن ما حطَّمه وحطَّم أسرته وعرشه، إنما إرادته الشريرة.
6. انتحر شاول، وانتحر حامل سلاحه، فلم تُنقِذه قوته ولا اعتماده على الذراع البشري.
7. عرَّى الفلسطينيون شاول وبينه، وكأنه خرج من العالم عريانًا، في عارٍ وخزي.
8. إذ عصى شاول الرب، والتجأ إلى الشيطان يطلب مشورته، وضع سلاحه في بيت الأصنام (الشيطان)، وكأنه نال ما اشتهته نفسه!
9. سُمِّر رأسه في بيت داجون، لأن عينيه لم ترتفعا إلى إله السماء، فسُمِّر الرأس كما في مساكن الهاوية.
10. إذ صنع شاول خيرًا مع يابيش جلعاد، سمح لهم الرب أن يفعلوا خيرًا بعظامه، وكأن الله ردَّ له حتى الخير الذي فعله معهم.
11. نُزِعَ العرش من شاول وبنيه، لأنه عصى الرب ولجأ إلى الشيطان، ليُسَلِّم العرش لإنسان الله داود الذي كان يعشق كلمة الله ولا يطيق إبليس وعبادته!
في التسعة الأصحاحات الأولى لا يروي الكاتب حدثًا مُعَيَّنًا، إنما ما شغل قلب الكاتب وأوضحه بشيءٍ من التفصيل في بداية الأصحاح العاشر هو المعركة الخطيرة التي قامت بين الفلسطينيين وبني إسرائيل، وكانت ثمرة هذه المعركة:
هروب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين [1].
سقوط قتلى في جبل جلبوع [2].
إصابة الملك (شاول) وقتل أبنائه [3-4].
انتحار الملك، هو وحامل سلاحه [5].
احتلال الفلسطينيين مدن إسرائيل [7].
تعرية جثث الملك وبنيه، وحمل الأعداء رأس الملك وسيفه [9].
تسمير رأس الملك في معبد وثني [10].
إبراز عِلَّة ما حدث، ألا وهي خيانة شاول للرب والتجاؤه إلى الجان يسأله [14].
انتهى الأمر باستلام داود المملكة [14].
هكذا يبدأ الكاتب بهذا الحدث بالرغم من وجود أحداث كثيرة تَمِسُّ حياة الآباء البطاركة إبراهيم واسحق ويعقوب وأيضًا رجال إيمان سابقين لهم. ما يشغل فكر الكاتب هو وجود معركة بين الله وإبليس، وإذ التصق الإنسان بعدو الخير صار هاربًا ومتشرِّدًا، بل وفقد كرامته كملكٍ، كما فقد رجاءه، فسقط في حالة من اليأس والإحباط، تعرَّى من نعمة الله، وفقد سلاح الإيمان، وصار في سخرية من إبليس نفسه الذي للأسف كان يلجأ إليه حاسبًا أنه قادر أن يُشْبِعَ احتياجاته وملذَّاته.
لكن الكلّي الصلاح يحوِّل حتى الشرور فرصة ليهبنا الصلاح. فيُقِيم ابن داود وربُّه ملكًا في أعماقنا (لو 17: 21)؛ وهذا هو ما يشغل السفر كله.
جاء الحديث عن موت شاول وأولاده في (1 صم 31: 1-13).
ركَّز الكاتب على موت شاول أول ملك لإسرائيل. كانت له بداية صالحة، لكن نهايته تُمَثِّل مأساة، لأنه كان غير أمين فيما للرب، وعصى كلمة الله (1 أخ 10: 13-14).
سجَّل لنا (1 صم 13-31) كيف انحرف شاول تدريجيًا؛ قدَّم ذبيحة في تسرُّعٍ ليغتصب العمل الكهنوتي؛ وأيضًا حسد داود وحاول قتله. لم ينتهز الفرص التي قدَّمها له الله للتوبة. أخيرًا التجأ إلى الشيطان (الجان) ليُعِينَه، وختم حياته بارتكاب خطية الانتحار.
كان حامل السلاح أمينًا حتى الموت، لقد قبل أن يموت ولا يرى سيده في عارٍ، فكيف نخون نحن ربنا يسوع الذي مات لأجلنا؟!
هنا نرى التمايز الذي جعله الوحي الإلهي بين أسفار صموئيل والملوك وسفري أخبار الأيام، فنجد في سفري صموئيل أخبارًا عديدة عن شاول الملك، إذ يشملان كل تاريخه، بينما في أخبار الأيام نرى وجهة نظر الله، إذ نجد أصحاحًا واحدًا عن شاول، أما بقية سفر أخبار الأيام الأول وجزء من سفر أخبار الأيام الثاني فتشمل تاريخ أسرة داود، فداود هو محور السفرين وليس شاول.
في الواقع إن كاتب الأخبار مهتم بمُلْكِ داود وأورشليم والهيكل كأدوات الله المختارة للخلاص، لذلك مَرَّ مرورًا سريعًا على شاول، وذكر فقط نهايته المُخزِية لفتح المجال لاعتلاء داود العرش. كشف السفر عن السببين الرئيسين لموته، وهما:
1. من أجل عصيانه كلام الرب.
2. "لأجل طلبه الجان للسؤال، ولم يسأل من الرب، فأماته وحوَّل المملكة إلى داود بن يسَّى" (1أي 10: 13- 14). ولكن بالرجوع إلى (1 صم 13: 8، 14)، نجد أن العصيان الذي بسببه رُفِضَ شاول كان تجرؤه على تقديم ذبيحة مُحرَقة وذبيحة سلامة بنفسه دون أن يصبر وينتظر صموئيل النبي والكاهن.
أخطأ شاول إذ "لم يسأل من الرب" قبل موقعة جلبوع. كان قد مضى عامان على وفاة صموئيل النبي وليس هناك دليل على إقامة نبي آخر مكانه، فكان الطريق الوحيد ليسأل شاول الله هو خلال رئيس الكهنة، إما بتقديم الذبيحة أو الأوريم والتميم، لذلك لَمَّح عزرا الكاهن والكاتب أن سبب العقوبة الإلهية لموت شاول هو عصيانه للنظام الكهنوتي المُرَتَّب من الله، والذي يجب أن يرتبط به الملك ويخضع له كما يخضع رعايا المملكة.
1. جاء في (1 صم 31: 1) أن الفلسطينيين سَمَّروا جسد شاول على سور بيت شأن، وقيل هنا أنهم سمَّروا رأسه في بيت داجون، أي كل منهما يُكَمِّل الآخر.
2. لم يذكر الكاتب هنا أن أهل يابيش أحرقوا جثث شاول وبنيه قبلما دفنوا عظامهم.
3. جاء في سفر صموئيل أنهم دفنوا عظامهم تحت الإيلة، وجاء في أخبار الأيام أنها تحت البطمة. ربما أن بعض الناس في تلك الأيام سمُّوا هذه الشجرة إيلة، والبعض الآخر سمُّوها بطمة.
|
1-2. |
|
|
3-7. |
|
|
8-10. |
|
|
11-12. |
|
|
13-14. |
* من وحي 1 أي 10: ليَمُتْ إنساني العتيق، ولتُقِمْ إنساني الجديد على صورتك!
1 وَحَارَبَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ إِسْرَائِيلَ، فَهَرَبَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمَامِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَسَقَطُوا قَتْلَى فِي جَبَلِ جِلْبُوعَ. 2 وَشَدَّ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَرَاءَ شَاوُلَ وَوَرَاءَ بَنِيهِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ يُونَاثَانَ وَأَبِينَادَابَ وَمَلْكِيشُوعَ أَبْنَاءَ شَاوُلَ.
وَحَارَبَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ إِسْرَائِيلَ،
فَهَرَبَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمَامِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ،
وَسَقَطُوا قَتْلَى فِي جَبَلِ جِلْبُوعَ. [1]
بعد أن استعرض الأنساب أو تاريخ بني إسرائيل من الخليقة إلى السبي البابلي (586 ق.م) في الأصحاحات السابقة، عاد الكاتب إلى فترة بداية مملكة إسرائيل. لم يبدأ باستلام شاول المُلْك، إنما بموته، لكي ينقلنا إلى عصر داود بكونه الملك الذي اختاره الله، والذي نال وعدًا بأن نسله يملك إلى الأبد، وقد تحقَّق بمجيء ملك الملوك، ابن داود، الذي يملك على قلوبنا أبديًا، ويُقِيم من كنيسته الملكة التي تجلس عن يمينه. يُعَلِّق يوسيفوس المؤرخ اليهودي على ما جاء في هذا الأصحاح[2]، قائلاً بأنه إذ يفتتح الحديث عن شاول الملك بهذه المعركة، كأن الكاتب يود أن يقول بأنه ليس في حياة شاول شيء حسن يستحق أن نذكره له. لقد ملك لمدة عشرين عامًا كما بدون ثمر صالح، وانتهت حياته بيديه، لكن بسماح الله، كأن الرب قتله [14].
كانت هذه الفترة من أسوأ الفترات في حياة إسرائيل، فقد أصرَّ الشعب على إقامة ملك، الأمر الذي أحزن قلب صموئيل النبي (1 صم 8: 6). فمع تحقيق نُصرات على بعض الأمم، إلا أن الملك أخطأ، وعِوض التوبة عن خطاياه، ما كان يشغله هو كرامته الشخصية أمام الشعب. فانتهت حياته بسقوط الشعب مع ملكهم أمام الفلسطينيين. وكأن مُحَصِّلة إصرار الشعب على إقامة ملك كسائر الأمم، وإصرار شاول على كرامته الذاتية هو الدمار للملك والشعب!
v يا للجنون؟ ألا يدري هذا الإنسان المتكبِّر أن مجده يزول ويتبخَّر كالحلم، وأن العظمة والسلطان ليست هي إلاَّ سراب خدَّاع[3].
v صلَّى (الفريسي) مع نفسه وليس مع الله، لأن خطيَّة الكبرياء ردَّته إلى ذاته[4].
v يلزمه ألا يُمَجِّد نفسه ولا ينطق بما يمدح ذاته، ولا يجد لذة في الاستماع لمديحٍ آخر له، بل يخدم كل شيءٍ خفية، غير عاملٍ من أجل المظهر أمام الناس، بل يطلب مدح الله وحده، ويتأمل في مجيئه المجيد المهوب، كما يتأمل في خروجه من هذا العالم، وفي البركات المُعَدَّة للأبرار والنار المُعَدَّة لإبليس وملائكته (مت 25: 41)[5].
ما كان يشغل قلب الشعب هو الأمور الزمنية لا ملكوت الله، فنالوا مَلِكًا حسب شهوة قلوبهم، مُحِبًّا للكرامة الزمنية، ففقد هو وشعبه الزمنيات والأبديات.
يرى القديس باسيليوس الكبير أن عمل الحيَّة، أي الشيطان، هو إفساد طبيعتنا فلا ننظر إلى فوق بل ننحني كالحيوانات نحو التراب نطلب الأرضيات، لذا ينصحنا، قائلاً: [رأس البهائم تتطلَّع نحو الأرض، أما رأس الإنسان فقد خُلِقَتْ لتنظر نحو السماء، وعيناه تتَّجهان إلى فوق، لهذا يليق بنا أن نطلب ما هو فوق، وببصيرتنا نخترق الأرضيَّات[6].]
وَشَدَّ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَرَاءَ شَاوُلَ وَوَرَاءَ بَنِيهِ،
وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ يُونَاثَانَ وَأَبِينَادَابَ وَمَلْكِيشُوعَ أَبْنَاءَ شَاوُلَ. [2]
أخطأ شاول الملك، فحلَّت الكارثة بالشعب، كما حصد أبناؤه ثمرة أعمال أبيهم.
كثيرًا ما يدهش البعض، متسائلين: ما ذنب الشعب؟ وما هي جريمة الأبناء؟ يسمح الله بذلك لا ليُعاقِبَ الشعب بسبب خطايا القائد، ولا الأبناء بسبب الآباء، إنما لكي يدفع الشعب كما الأبناء ألا ينحرفوا وراء أخطاء القادة والوالدين. هذا ما يؤكده السيد المسيح بقوله: "من أحبَّ أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقّني" (مت 10: 37).
v يأمرنا الكتاب المقدس بطاعة والدينا. نعم، ولكن من يُحِبّهم أكثر من المسيح يخسر نفسه. هوذا العدو (الذي يضطهدني لأنكر المسيح) يحمل سيفًا ليقتلني، فهل أفكر في دموع أمي؟ أو هل أحتقر خدمه المسيح لأجل أبٍ، هذا الذي لا أرتبط بدفنه إن كنت خادمًا للمسيح (لو 9: 59-60)، ولو إنّني كخادم حقيقي للمسيح مدين بهذا (الدفن) للجميع[7].
3 وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ عَلَى شَاوُلَ فَأَصَابَتْهُ رُمَاةُ الْقِسِيِّ، فَانْجَرَحَ مِنَ الرُّمَاةِ. 4 فَقَالَ شَاوُلُ لِحَامِلِ سِلاَحِهِ: «اسْتَلَّ سَيْفَكَ وَاطْعَنِّي بِهِ لِئَلاَّ يَأْتِيَ هؤُلاَءِ الْغُلْفُ وَيُقَبِّحُونِي». فَلَمْ يَشَأْ حَامِلُ سِلاَحِهِ لأَنَّهُ خَافَ جِدًّا. فَأَخَذَ شَاوُلُ السَّيْفَ وَسَقَطَ عَلَيْهِ. 5 فَلَمَّا رَأَى حَامِلُ سِلاَحِهِ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ شَاوُلُ، سَقَطَ هُوَ أَيْضًا عَلَى السَّيْفِ وَمَاتَ. 6 فَمَاتَ شَاوُلُ وَبَنُوهُ الثَّلاَثَةُ وَكُلُّ بَيْتِهِ، مَاتُوا مَعًا. 7 وَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ فِي الْوَادِي أَنَّهُمْ قَدْ هَرَبُوا، وَأَنَّ شَاوُلَ وَبَنِيهِ قَدْ مَاتُوا، تَرَكُوا مُدُنَهُمْ وَهَرَبُوا، فَأَتَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَسَكَنُوا بِهَا.
وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ عَلَى شَاوُلَ،
فَأَصَابَتْهُ رُمَاةُ الْقِسِيِّ،
فَانْجَرَحَ مِنَ الرُّمَاةِ. [3]
أساء شاول إلى طول أناة الله، فظن أنه كملكٍ صاحب سلطان لا يخضع للقانون، ولا يوجد من يقف أمامه ويُحاسِبه، وإذا بالعدالة الإلهية تلحق به وتواجهه في الوقت المناسب، فنُزِعَ عنه سلطانه، وفقدت أسرته كرامتها كبيتٍ ملوكي، واستلم داود المُضطَهد العرش.
v كثير من الأشخاص المُهمِلين جدًا يستخدمون رأفة الله علة ليزيدوا من جرم خطاياهم، ويفرطوا في إهمالهم قائلين هكذا: "لا توجد جهنم، لا توجد عقوبة مُقْبِلة. الله يغفر لنا كل خطايانا". لإغلاق أفواههم يقول الحكيم: "لا تقل: رحمته عظيمة، فيغفر كثرة خطاياي" (سي 5: 6)، وأيضًا: "كما أنه كثير الرحمة، هكذا هو كثير التأديب" (سي 16: 12)[8].
v الآن إن كانت قوانين البشر تُراعَى بحرصٍ، كم بالأكثر يلزم بالنسبة لقوانين الله. يقول إنسان: "لكنه هو صالح". إلى متى ننطق بهذه الغباوة؛ أقول غباوة، ليس لأن الله غير صالح، وإنما أن يفكر في صلاحه ليحقق هذا الهدف... أصغوا إلى الكتاب المقدس القائل: "لا تقل رحمته عظيمة فيغفر كثرة خطاياي" (سي 5: 6). لم يأمرنا أن نقول: "رحمته عظيمة". إنه لا يوصينا بهذا، بل بالحري يريدنا أن نقول هذا على الدوام وذلك بالهدف التالي الذي يثيره بولس الرسول بكل أنواع البراهين. يقصد لا تعجب برأفات الله بالنظر إلا إنك تخطئ وتقول: "رحمته تزيل كثرة خطاياي"... وإنما لكي لا نيأس بسبب خطايانا، وإنما نتوب فإن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 2: 4)، لا إلى شرٍ أعظم[9].
v يقول (الرب) على لسان النبي: "يا ابني لا تزيد خطية على خطية وتقول رحمة الله عظيمة" (سي 5: 5-6). "غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 2: 4). فمن هو رحيم مثل الله، الذي يغفر كل خطايا الراجعين إليه، ويجعل الزيتونة البرية شريكة في دسم الزيتونة، كذلك من هو حازم مثله حتى يقطع الأغصان الطبيعية لعدم إيمانها؟ (رو 11: 17-24)[10].
أكثر من مرة صوَّب شاول رمحه نحو داود ليقتله، لكن الرمح لم يبلغ داود، لأن الرب حفظه من أجل نقاوة قلبه. أما شاول الملك إذ صوَّب أحد الجنود رمحه نحوه، أصابه بجرحٍ خطيرٍ في الحال، وكأنه شرب من الكأس التي ملأها ليسقي بها داود.
فَقَالَ شَاوُلُ لِحَامِلِ سِلاَحِهِ:
"اسْتَلَّ سَيْفَكَ وَاطْعَنِّي بِهِ،
لِئَلاَّ يَأْتِيَ هَؤُلاَءِ الْغُلْفُ وَيُقَبِّحُونِي".
فَلَمْ يَشَأْ حَامِلُ سِلاَحِهِ، لأَنَّهُ خَافَ جِدًّا.
فَأَخَذَ شَاوُلُ السَّيْفَ،
وَسَقَطَ عَلَيْهِ. [4]
هنا نلاحظ في موقف شاول الجريح الآتي:
ا. أدرك شاول أنه بقدر ما كان يسعى بكل جهده لنوال كرامة زمنية، إذ يسقط بين يَدَي الفلسطينيين ينال إهانات مُرَّة. هكذا يتعرَّض أصحاب الكرامات أو محبو الكرامات العظيمة إلى خطر التشهير به والسخرية بهم.
ب. من لا يُعطِي المجد لله في نجاحه، يستطيع غير المؤمنين أن يسيطروا عليه ويُشَهِّروا بجثمانه.
ج. إذ عصا شاول الوصية الإلهية أكثر من مَرَّة، لهذا حتى في لحظات موته طلب من حامل سلاحه أن يستلَّ سيفه ويقتله، حتى لا يسخر به العدو، لم يسمع له بل عصاه.
فَلَمَّا رَأَى حَامِلُ سِلاَحِهِ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ شَاوُلُ،
سَقَطَ هُوَ أَيْضًا عَلَى السَّيْفِ وَمَاتَ. [5]
فَمَاتَ شَاوُلُ وَبَنُوهُ الثَّلاَثَةُ وَكُلُّ بَيْتِهِ،
مَاتُوا مَعًا. [6]
ظن شاول وأبناؤه وكل بيته أنهم أسرة ملوكية، لها عِصْمتها، ليس من يقدر أن يَمِسَّها، إذا بهم يسقطون تحت الحُكْمِ في يوم واحد، دُفعة واحدةّ.
وَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ فِي الْوَادِي أَنَّهُمْ قَدْ هَرَبُوا،
وَأَنَّ شَاوُلَ وَبَنِيهِ قَدْ مَاتُوا، تَرَكُوا مُدُنَهُمْ وَهَرَبُوا،
فَأَتَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَسَكَنُوا بِهَا. [7]
بالإيمان تمتَّع إسرائيل بأرض الموعد بروح النصرة والقوة والنجاح، وبالخطية فقدوا الكثير، وحلَّ بهم الدمار.
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
8 وَفِي الْغَدِ لَمَّا جَاءَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ لِيُعَرُّوا الْقَتْلَى، وَجَدُوا شَاوُلَ وَبَنِيهِ سَاقِطِينَ فِي جَبَلِ جِلْبُوعَ، 9 فَعَرَّوْهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَسِلاَحَهُ، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ لأَجْلِ تَبْشِيرِ أَصْنَامِهِمْ وَالشَّعْبِ. 10 وَوَضَعُوا سِلاَحَهُ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِمْ، وَسَمَّرُوا رَأْسَهُ فِي بَيْتِ دَاجُونَ.
وَفِي الْغَدِ لَمَّا جَاءَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ لِيُعَرُّوا الْقَتْلَى،
وَجَدُوا شَاوُلَ وَبَنِيهِ سَاقِطِينَ فِي جَبَلِ جِلْبُوعَ، [8]
فَعَرُّوهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَسِلاَحَهُ،
وَأَرْسَلُوا إِلَى أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ
لأَجْلِ تَبْشِيرِ أَصْنَامِهِمْ وَالشَّعْبِ. [9]
يمارس الهندوس عادة كهذه، فإنهم إذ ينتصرون على أعدائهم يحملون البشارة إلى أصنامهم باحتفال وموكب عظيم[11].
وَوَضَعُوا سِلاَحَهُ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِم،
وَسَمَّرُوا رَأْسَهُ فِي بَيْتِ دَاجُونَ. [10]
داجون: من أهم آلهة الفلسطينيين الذي كانوا يعتقدون أنه الإله الذي يُرْسِلُ المطر ويُزوِّدهم بالمحاصيل الوفيرة. لذلك كانوا يبنون له معابد أينما استقرُّوا في بلد تزرع الحبوب في كنعان. وعندما يحلُّ الجفاف يصرخون إليه كي يُرسِلَ لهم مطرًا. وإذا اشتد الضيق يُقَدِّمون له أطفالهم ذبائح لإرضائه، وكانوا يستخدمون المعابد لإذلال الأسرى، والتشهير بهم بكل وسيلة كنوعٍ من التسلية وتمجيد داجون (قض 16: 23-30)، حاسبين في هذا تكريمًا للأصنام واعترافًا بقوتها.
وَلَمَّا سَمِعَ كُلُّ يَابِيشِ جِلْعَادَ بِكُلِّ مَا فَعَلَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ بِشَاوُلَ، [11]
قَامَ كُلُّ ذِي بَأْسٍ وَأَخَذُوا جُثَّةَ شَاوُلَ وَجُثَثَ بَنِيهِ
وَجَاءُوا بِهَا إِلَى يَابِيشَ،
وَدَفَنُوا عِظَامَهُمْ تَحْتَ الْبُطْمَةِ فِي يَابِيشَ،
وَصَامُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. [12]
لم ينسَ رجال بأس يابيش جلعاد أن شاول سبق فأنقذ مدينتهم (1 صم 11)، فأرادوا أن يردُّوا له موقفه الصالح بعد وفاته.
إن كان الله قد سمح بتأديب شاول حتى في طريقة موته، لكن سمح لأبطال يابيش جلعاد أن يأخذوا جثث شاول وأبنائه ويحملوها إلى يابيش، فمع ما لشاول وأبنائه من مساوئ وشرور، غير أنهم شعروا بالالتزام باحترامه هو وأبنائه كقادة لهم حتى بعد موتهم والتنكيل بهم. هكذا يليق بالمؤمن أن يعطي الكرامة لمن له الكرامة، سواء في الكنيسة أو العمل أو الدولة أو الجيش (1 تس 5: 12-13؛ رو 13: 1-7).
كذلك لم يحمل داود النبي أيَّة مشاعر للانتقام أو التشفِّي في شاول الذي حمل له شاول عداوة مُرَّة بلا سبب.
13 فَمَاتَ شَاوُلُ بِخِيَانَتِهِ الَّتِي بِهَا خَانَ الرَّبَّ مِنْ أَجْلِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي لَمْ يَحْفَظْهُ. وَأَيْضًا لأَجْلِ طَلَبِهِ إِلَى الْجَانِّ لِلسُّؤَالِ، 14 وَلَمْ يَسْأَلْ مِنَ الرَّبِّ، فَأَمَاتَهُ وَحَوَّلَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى دَاوُدَ بْنِ يَسَّى.
فَمَاتَ شَاوُلُ بِخِيَانَتِهِ الَّتِي بِهَا خَانَ الرَّبَّ مِنْ أَجْلِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي لَمْ يَحْفَظْهُ.
وَأَيْضاً لأَجْلِ طَلَبِهِ إِلَى الْجَانِّ لِلسُّؤَالِ [13]
أعطى سببين لموته: أولاً أخطأ شاول بعصيانه للرب. إنه لم يحفظ كلمة الرب (1 صم 13، 15). دين شاول لعدم إخلاصه لكلام الرب. هذا الجحود للأسف كان سمة كل ملوك إسرائيل (المملكة الشمالية) وبعض ملوك يهوذا.
ثانيًا: بالتجائه إلى الجان يطلب المشورة عوض الالتجاء إلى الله (1 صم 28). يحسب الكاتب أن التجاء شاول للعرافة دون الالتجاء إلى الله أفسد كل جوانب حياته.
وَلَمْ يَسْأَلْ مِنَ الرَّبِّ،
فَأَمَاتَهُ وَحَوَّلَ الْمَمْلَكَةَ إِلَى دَاوُدَ بْنِ يَسَّى. [14]
لقد سبق فطلب شاول إرشاد الله (1 صم 28: 5-6)، أما هنا فلم يطلب إرشاده.
هذا التناقض يكشف عمَّا في قلب شاول، فإنه وإن كان قد سبق فطلب إرشاد الله، وذلك عندما لم تكن أمامه وسيلة أخرى. وربما عندما طلب الله مارس ذلك في حرفية قاتلة، دون الثقة في الله والاتكال الحقيقي، فقد عُرِفَ شاول بأنانيته يطلب مجده الشخصي وشعبيته لا مجد الله، كما اتَّسم بروح العناد والتمرُّد الدائم.
أُعطيت لداود الكثير من الفرص للخلاص من شاول (1 صم 31: 3-4)، لكنه لم يمد يده على مسيح الرب بالرغم من وعد الله له باستلام العرش؛ وإذ مات شاول بكاه ورثاه بكل حبٍ وإخلاص، دون تسرُّع في استلام الحُكْم.
لم يتعجَّلْ داود في الاستيلاء على العرش رغم معرفته أن الله رفض شاول، واختاره ملكًا. في تأنٍّ وترقُّب لعمل الله وتسليمٍ كاملٍ بين يديه، لم يتعجَّلْ الأحداث، حتى يتسلَّمَ العرش من يد الله في الوقت المناسب.
"فأماته" مع أنه هو الذي قضى على حياته (1 صم 31: 3-4). بعناده المُستمِر وتمرُّده (1 صم 15: 22-23) تخلَّت نعمة الله عنه، وتركته ليحقق إرادته الشريرة، فانتحر بإرادته.
نهاية شاول الملك تُمَثِّل الإنسان الجسداني العتيق، الذي يلزم أن يموت، ويحتل مكانه داود الملك المُمَثِّل للإنسان الجديد الروحاني الذي على صورة خالقه. وكما يقول الرسول بولس: "أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور. وتتجدَّدوا بروح ذهنكم. وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرِّ وقداسة الحق" (أف 4: 22-24).
v "كل مجد ابنة الملك من داخل" (مز 45: 14)... الإنسان الذي يربط بين محبة الآب الذي يرى في الخفاء (مت 6:6) ويصلي ويعمل دون أن يكون هدفه مجد الناس بل مجد الله (مت 6: 10) يكون مثل ابنة الملك، كل مجده من الداخل. لا تبحث عن الملابس اللائقة بمن هو على صورة الخالق، كقول الرسول "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه (كو 3: 9-10)، فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رآفات ولطفًا وتواضعًا ووداعة وطول أناة (كو 3: 12)، مثل هذا الإنسان يتزيَّن من الداخل في إنسانه الداخلي. أيضًا يحثنا الرسول "أن نلبس الرب يسوع" (رو 13: 14). لا في إنساننا الخارجي، بل بحيث يسيطر فكر الله كلية على فكرنا. غير إني أعتقد أن الملابس الروحية المنسوجة يتم نسجها بالكلمة البناءة خاصة إذا كانت مصحوبة بالعمل الإيجابي. أيضًا كما يتم نسج الملابس على نول، تتشابك فيه الخيوط هكذا بالنسبة للكلمة المصحوبة بالعمل الإيجابي، فهي تُشْبِه اللباس المقدس للنفس التي امتلأت بأقوال الفضيلة والعمل بها[12].
v "غنوا للرب أغنية جديدة، أحسنوا العزف بالرباب لإكرامه" (مز 33). غنوا للرب أغنية حقًا جديدة، أي اعبدوا الرب، "لا بعتق الحرف، ولكن بجدة الروح" (رو 7: 6)
الإنسان الذي لا يفهم الناموس بطريقة حرفية، بل يدركه بمفهوم روحي، يستطيع أن يُغَنِّي أغنية جديدة، لأن العهد القديم شاخ وولَّى، وظهرت لنا الأغنية الجديدة المجددة بتعاليم الرب، فهو الذي يجدد مثل النسر شبابنا (مز 103: 5)، "وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16) "والذي يمتد إلى ما هو قدام" (في 3: 13) يتجدد أكثر فأكثر. والذي يتجدد يصلي دائمًا لله أغنية حقًا جديدة.
حقًا يطلق تعبير جديد... على شيء استثنائي وحديث. عندما تصف تجسد الرب الذي يفوق كل طبيعة، فأنت تُغَنِّي أغنية جديدة غير اعتيادية. وعندما تشرح ميلاد العالم وتجديده كله، بعد أن شاخ بالخطية، الميلاد الجديد الذي جدده تجديدًا شاملاً، فأنت تُغَنِّي أغنية حقًا جديدة. كذلك عندما تتكلم عن القيامة، فأنت تُغَنِّي أغنية حقًا جديدة وحديثة[13].
v في مياه المعمودية صلبتَ إنساني القديم بكل شهواته.
ووهبتَني الإنسان الجديد الذي على صورتك.
اسمحْ لي مع كل يوم يُصلَب إنساني العتيق بكل أعماله.
مرِّر الخطية في فمي، فلا أشتهيها ولا أُستعبَد لها.
مع كل صباح ألتصق بك بالأكثر،
فيتجلَّى بهاؤك على فكري وقلبي وكل حواسي.
أُحسَب بالحق عضوًا في جسدك يا ابن داود.
v ليَمُتْ شاول وأبناؤه وكل أهل بيته.
لتُحَطِّمْ كل فسادٍ في داخلي،
وليحيا داود، ويملك في قلبي.
تُقِيم ملكوتك في داخلي،
فأنعم بسلطان ملوكي حتى على أفكاري.
تنزع عنِّي كل ما هو غريب عنك.
وتهبني أن أصير بالحق أورشليمك المقدسة.
v تعال يا ابن داود وربَّه،
ولتُعْلِن مجدك في داخلي!
فتصير أعماقي سماءً جديدة،
لن يتسلل إليها فساد أو خطية.
بل تتجدَّد مع كل صباح، فتتهلل نفسي بك!
يرى القديس جيروم أن سفري أخبار الأيام الأول والثاني هما خلاصة العهد القديم[1]. يُوَجِّهان أنظارنا بروح الله القدوس، ليُعِيد نظرتنا نحو التاريخ المقدس منذ آدم إلى السقوط تحت السبي مع وجود وعد إلهي بالعودة من السبي، ليكشفا عن الحاجة إلى ابن داود، كلمة الله المتجسد، مُخَلِّص العالم، القادر وحده أن يُقِيمَ ملكوته الإلهي في داخلنا (لو 17: 21).
لا نعجب إن خصَّص سفرا الأخبار من بين الخمسة وستين أصحاحًا، أصحاحًا واحدًا عن أول ملك لإسرائيل أي شاول (أصحاح 10) سجَّل فيه موته، بينما خصَّص تسعة عشر أصحاحًا عن مُلْكِ داود (1أي 11-29)، وذُكِرَ اسمه في السفريْن أكثر من 220 مرة. بهذا يكشف عن مدى اهتمام السفريْن بشخصية داود. لكنهما ليسا سفريْن دفاعيين عن العرش الملوكي الداودي. إنهما ينطلقان بنا إلى عرش ابن داود ملك الملوك، لننعم بحياةٍ ملوكية روحية سامية. لهذا ما شغل سفر أخبار الأيام الأول في تاريخ شاول هو موته، لكي لا يكون لفكره الشرير مَوْضِع في قلوبنا، بل نقتدي بشخصية داود الملك البار.
هذا ما دفعني لتقديم الأفكار الرئيسية عن شخصية كل من الملكيْن كما وردت في العظات الثلاثة التي للقديس يوحنا الذهبي الفم عن داود وشاول.
لكي نفهم ما قدَّمه لنا القديس يوحنا الذهبي الفم بخصوص "داود وشاول"، يلزمنا التعرُّف على الظروف التي ألقى فيها القدِّيس هذه العظات.
عظات
التماثيل
عظات على داود وشاول
لماذا تحدَّث القدِّيس عن
داود وشاول؟
داود النبي والإمبراطور ثيؤدوسيوس
علاج عملي مع فكر عميق!
العظة
الأولى
1. الاهتمام بالقِيَم الصحيَّة
2. نقاوة قلب داود
3. سمو داود
إلى قِيَم العهد الجديد وهو في ظل الناموس
4. عدم انحراف داود عن هدفه
5. تدقيق داود في سلوكه الروحي
6. نظرة داود العجيبة لمن يطلب
قتله
7. داود صاحب العين البسيطة
8. داود صاحب القلب المُتَّسِع
العظة
الثانية
دعوة للاعتزاز بداود النبي!
9. داود قائد معركة أم
حارس وحافظ لأعدائه؟
10.
داود قائد معركة أم مُعَلِّم أو كاهن أو أسقف أم مذبح للرب؟
11. تَمَتُّع داود بنصرة
روحية فريدة!
12. تَمَتُّع داود
بإكليل البرِّ لا تاج شاول
13. تواضع داود أمام من وهبه
إحساناته!
داود بحكمةٍ يطلب من شاول
أن يُراجِع نفسه
14. مشاعر صادقة بلا مداهنة!
العظة
الثالثة
التردد على المسارح المنحلّة
دعوة للاقتراب من داود النبي
15. بمحبة
داود للأعداء فرَّح قلوب البشر وأبهج السمائيين
16. بمحبة داود
للأعداء سما إلى مَرْتَبةِ الشهداء
17. الصوت اللطيف هزَّ
كيان المتكلم والسامع
18. الصوت اللطيف
فجَّر دموعًا من قلب شاول الصخري
19. باللطف غلب داود وحشية العدو
العدو يشهد للطف داود
لماذا عدَّد داود إحساناته لشاول؟
شاول يدرك مكافأة الله لداود!
الملك يستجدي داود ليحرس نسله!
من وحي "داود وشاول": رحلة
مُمْتِعة في رفقة داود النبي
من أقوال الآباء عن
داود كرمزٍ للسيد المسيح
1. داود يفتقد
إخوته والسيد المسيح يفتقد البشرية
2. انتهار إخوته له في الميدان
3. داود قاتل الأسود والدببة
4. داود يقتل جليات والسيد المسيح يقتل الشيطان وينزع سلطان الخطية
5. شاول يصوّب رمحه على داود
6. نزول داود من الكوّة
ارتبطت هذه العظات بما تُدعَى عظات التماثيل، وغالبًا ما ألقاها على الشعب بعدها مباشرة.
في عام 387م شرعت الحكومة المركزية للإمبراطورية الرومانية الشرقية أن تتهيَّأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور ثيؤدوسيوس، وخمس سنوات على اشتراك ابنه الشاب أركاديوس معه في السلطة. ولما كانت مثل هذه الاحتفالات تحتاج إلى بعض المال، صدر أمر إمبراطوري بفرض ضريبة جديدة إضافية، يبدو أنه كان مُغالى فيها، الأمر الذي استاءت منه كل المملكة، لكن لم يستطع أحد أن يعترض. أما في أنطاكية، فقد حدث أثناء قراءة القرار في الميدان، أن عبَّر بعض الحاضرين عن شعورهم بالاستياء، لكن الوالي أَبَى أن يصدر أمره للجنود بالهجوم على شعب أعزل.
وسط جموع شعبية تضم من كل صنفٍ، سرعان ما سرت هذه الصرخات لتُثِيرَ هياجًا فثورة. في لمح البصر، دون أي تفكير وبغير أي ضابطٍ، انطلق البعض يُحَطِّم تماثيل الإمبراطور والإمبراطورة وابنهما، ورموها في الأوحال والقاذورات.
تم هذا كله في لحظات مملوءة ثورة حماسية، تبعها هدوء، حيث أفاقوا من سُكْرِهم، وأحسُّوا ببشاعة جريمتهم، وباتوا خائفين يتوقعون مصيرهم ومصير مدينتهم من عقابٍ شديدٍ. فقد ارتبكت المدينة بأسرها، كبيرها مع صغيرها، ولم يَعْرِفْ أحد ماذا يكون العمل.
بلغ إلى الإمبراطور ما حدث، فأرسل قائديْن من عنده هما الليبكوس Allebichus وقيصاريوس، اللذين وصلا أنطاكية، وأعلنا سقوط امتيازات المدينة، ونقل العاصمة إلى اللاذقية، كما أغلقا الأندية والمسارح، وألقيا القبض على بعض وُجهاء المدينة الذين حامت الشبهات حوْلَهم، فصودرت ممتلكاتهم، وطُرِدَتْ نساؤهم من بيوتهن. كما أعلن القائدان إصدار الأمر بحرق المدينة وقتل كل شعبها لولا تَدَخُّل بعض النساك والرهبان، ومن بينهم الناسك مقدونيوس. فقد نزلوا من الجبال والأديرة والتقوا بالقائديْن، وطلبوا منهما الانتظار حتى يمكن تقديم شفاعة لدى الإمبراطور.
يرى Baur أن القدِّيس يوحنا سيم كاهنًا في 26 فبراير سنة 386م[2]، أي في السنة السابقة لهذا الحدث. من واقع أُبوَّة الكاهن يوحنا الذهبي الفم الذي يؤمن أن الكاهن أب العالم كله للمؤمنين وغير المؤمنين، حثَّ الأب بطريرك أنطاكية فلافيان الشيخ أن يذهب إلى القسطنطينية، ويطلب العفو عن الجميع. ومن جانب آخر خاف القدِّيس أن يحمل المؤمنون كراهية للإمبراطور، فيسقطون في الإدانة، ويهاجمونه بكلمات غير لائقة في غيابه!
وجد الأب الأسقف فلافيان Flavian (فلابيانوس) نفسه مُلتزِمًا أن يتدخَّل لدى الإمبراطور، يُهَدِّئ من غضبه تجاه المدينة، أما عظماء الوثنيين ووجهائهم، فقد خافوا على أنفسهم، ولم يجسروا أن يفعلوا شيئًا، الأمر الذي أساء إلى نفوس الوثنيين.
أسرع الأب البطريرك إلى القسطنطينية، رغم كبر سنه وإرهاقه بالصوم إذ كان وقت الأربعين المقدسة، وكان الرهبان والنساك يتضرعون لدى القائديْن بأنطاكية، كما كان الناس مذعورين، يسمعون من يومٍ إلى يومٍ إشاعات مُتعارِضة، تارة يتوقعون العفو، وأخرى يُهَدِّدهم الموت. فهرعوا إلى الكنيسة ليقتنصهم الكاهن يوحنا بعظاته، فينثر من دُرَرِ قلبه وفَمِه أحاديث فيَّاضة تُنعِش قلوبهم المُنكَسِرة وتُشَدِّد عزائمهم الواهية، تدفعهم إلى التوبة والرجوع إلى الله، ليس خوفًا من موت الجسد أو خسارة ممتلكات أرضية، وإنما شوقًا إلى نور الأبدية خلال مراحم الله غير المتناهية.
ألقى الكاهن في بداية خدمته الوعظية سلسلة من العظات الخالدة (21 عظة)، التي وَجَّهت أنظار أنطاكية، بل وخارج أنطاكية إليه. فقد استطاع أن يبعث من الظروف العصيبة فرصة للكرازة والتبشير، وعوض الخوف الذي ملأ قلوب الأنطاكيين، اهتدى كثير من الوثنيين إلى المسيحية، وتذوق كثير من المسيحيين محبة الله وسلامه بالتوبة الصادقة، فتحوَّلت الكارثة إلى بركة لكثيرين[3].
في ذلك الوقت كان البطريرك أو أسقف أنطاكية قد بلغ القسطنطينية، فأسرع إلى البلاط الملكي رغم شدة تعبه، والتقى الإمبراطور، ليقول له:
[إني لستُ رسولاً لشعب أنطاكية، بل أيضًا سفير الله. جئتُ إليك باسمه أُنبِئك: إن غفرتَ للناس سيئاتهم وهفواتهم، يغفر لك أبوك السماوي سيئاتك وزلاتك...
اذكرْ ذلك اليوم الرهيب، حين نلتزم جميعًا بتقديم حساب عن أعمالنا...
يَمْثُل كل السفراء بين يديك ببهاء الذهب وكثرة الهدايا ووفرة المال، أما أنا فلا أُقَدِّم لك غير شريعة يسوع المسيح المُقَدَّسة، والمثال الذي أعطانا إياه على الصليب لكي نستحق غفران خطايانا...]
امتلأ قلب الإمبراطور من مخافة الله عند سماعه هذا الخطاب فقال: "إن كان ربُّنا وسيدنا يسوع المسيح قد صار لأجلنا عبدًا، وسَلَّمَ ذاته للصليب، وإن كان قد سأل أباه المغفرة لصالبيه، فكيف أتجاسر مُتَرَدِّدًا في المغفرة لأعدائي؟"
بهذا عاد الأب البطريرك يحمل بشائر العفو، فخرجت الجماهير تستقبله بفرحٍ وتهليلٍ. واحتفل مع شعبه بعيد الفصح المجيد. بدأ الأب يوحنا يُرَدِّد آيات الشكر والتسبيح، لأن شعب أنطاكية كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجِدَ[4]، مُسَجِّلاً لنا ذلك في عظته الحادية والعشرين حيث لا ينسى أن يبرز الأسقف فلافيان كبطلٍ مسيحيٍ احتمل المشقات والأتعاب من أجل راحة أولاده. لكن نُسِبَتْ الأحداث بالأكثر ليوحنا، وبقي أمر واحد شدَّ أنظار الشعب بل والعالم المسيحي في ذلك الوقت، وهو شخصية الكاهن يوحنا التي أُعجِبَ بها المسيحيون والوثنيون خلال عظاته التي سُمِّيَت: "عظات التماثيل".
إن كانت عظات التماثيل لها شهرتها التي وجَّهت أنظار العالم المسيحي نحو القديس يوحنا الذهبي الفم ككوكبٍ مُنِيرٍ، فإنه يليق بنا ألا ننسى عظاته الثلاث على داود وشاول[5] التي ألقاها بنفس المناسبة، غالبًا ما ألقى هذه العظات قبل وصول الأب البطريرك من القسطنطينية ومعه قرار العفو، وربما كان قد وصل إلى أنطاكية فعلاً وفرح الكل بالقرار.
ركَّز القدِّيس على ما ورد في سفر صموئيل الأول، خاصة أصحاح 24 عن شاول ومعه ثلاثة آلاف رجل مُنتخَبين من جميع إسرائيل، كانوا يقتفون أثر داود لقتله، وإذ دخل شاول في كهفٍ وحده، وكان في يدي داود أن يقتله، أشار عليه رجاله: "هوذا اليوم الذي قال لك عنه الرب، هأنذا أدفع عدوك ليدك، فتفعل به ما يحسن في عينيك"، رفض داود مشورتهم. قطع داود طرف جبة شاول، وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه (1 صم 24: 4-5).
جاءت هذه العظات تكشف عن سمو شخصية داود، وعن دوره في تحويل شاول المُصَمِّم على الخلاص منه إلى الاعتراف ببرِّه، والتأكد من استلامه العرش. تُقَدِّم لنا هذه العظات جوانب كثيرة من شخصية داود.
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
ربما يتساءل البعض: لماذا تحدَّث القديس يوحنا الذهبي الفم عن داود وشاول في هذه المناسبة، خاصة وأن الكل كانوا ينتظرون مجيء البابا البطريرك حاملاً بُشرَى العفو عن مدينة أنطاكية، تُرَى ماذا كان في ذهن البطريرك؟ من يُمَثِّل داود؟ هل الإمبراطور الذي عفا عن الشعب الثائر ضده أم الشعب نفسه الذي عانى من الضرائب الثقيلة؟
1. لم يكن يشغل قلب الأب الكاهن يوحنا من الذي يُمَثِّل داود، ومن الذي يُمَثِّل شاول الملك؟ إنما ما شغله أن يتمتَّع كل من الإمبراطور والشعب بالشركة الحيَّة مع الله، وأن يحرص الكل على نقاوة قلوبهم، ونموهم الدائم في الإيمان الحيّ العملي، ولا يسقط أي طرف منهما في الغضب أو في البرِّ الذاتي.
2. ما يؤكده القدِّيس في عظاته الثلاث هو عمل النعمة الإلهية في حياة المؤمنين، فلم يكن مُمكِنًا لداود أن يُقابِلَ الشرَّ بالخير، والبغضة بالحب، وتشامُخ شاول بالتواضع ما لم تعمل نعمة الله فيه.
3. ما شغل القدِّيس هو إبراز قوة الكلمة الرقيقة اللطيفة في قلب المُتكلِّم وأيضًا المُستمِع. وإمكانيات الإنسان في تغيير حياة الأشرار، مهما بلغت قسوة قلوبهم وفساد أفكارهم.
تبقى هذه العظات الثلاث كنزًا، يغرف منه المؤمن ما دام في الجسد، حيث يرى في ظلمة العالم والأحداث المؤلمة التي تواجهها الكنيسة كما المؤمن فرصة لتتلألأ حياة الكنيسة ككلٍ والمؤمن كعضوٍ فيها، مثل كوكبٍ يحمل انعكاس بهاء شمس البرِّ، ينطلق المؤمن من مجدٍ إلى مجدٍ، جاذبًا معه كثيرين إلى الأمجاد الأبدية.
4. هذا ولا يفوت القدِّيس الإشارة إلى الكشف عن مفهوم القيادة في حياة داود النبي، فقد كان له دوره الفعَّال في حياة القادة العسكريين الذين حوله وكان يقودهم بروح الوداعة، مُحَوِّلاً مواقع المعارك إلى مراكز عبادة وشهادة لضرورة ممارسة التسامح واللطف والحنو حتى مع الأعداء.
يرى البعض أن الإمبراطور ثيؤدوسيوس، وإن كان قد أخطأ بفرض ضريبة مُبالَغ فيها تُمَثِّل ثقلاً على الشعب، وذلك من أجل الاحتفال بعيد تجليسه، ومشاركة ابنه له في الحكم، غير أنه يُشْبِه داود من جوانب أخرى، منها الآتي:
1. لقد أخطأ شعب أنطاكية في طريقة تعبيره عن رفضه هذه الإضافة في الضرائب، إذ حطَّموا تماثيله هو وأسرته الملكية. إنهم يُمَثِّلون ما فعله شاول ورجاله في التعامل مع داود، إذ أرادوا قتله هو ورجاله دون ذنبٍ ارتكبوه.
2. كان داود تحت ضغط رجاله الذين طالبوه بالخلاص من حياة شاول، الذي كان يُهَدِّد حياته وحياة من معه. هكذا أشار مشيرو الإمبراطور بحرق المدينة، لئلا يفقد الإمبراطور مهابته وقدرته على إدارة إمبراطوريته.
3. أَعَدَّ داود رجاله لقبول قِيَمه الصالحة خلال عِشْرَتِهم له، لذلك بسهولة حوَّل الكهف كما إلى كنيسة، وصار القائد أسقفًا أو كاهنًا. هكذا التزم الإمبراطور بالتحرُّك بالمغفرة حتى يُعَلِّمَ شعبه في الإمبراطورية بالقدوة أن يكونوا غافرين لإخوتهم.
4. افتري شاول على داود مع أنه أنقذه من مخاطر كثيرة بإخلاصٍ بشجاعةٍ، وها هو داود يعفو عن شاول الطالب قتله، وكان يليق بشاول أن يعرف خطأه ليتوب. هكذا غفر الإمبراطور للشعب، وكان يلزم للشعب أن يتوب ويرجع إلى الله.
5. إذ قطع داود طرف جبة شاول، ضربه قلب لأنه شعر بأنه يحمل في أعماقه شعور الاستياء من شاول، إذ كان داود حريصًا على أبديته ونقاوة قلبه قال لرجاله أنه لا يليق به أن يمد يده على مسيح الرب، وهو بهذا يُوَبِّخ نفسه ويطلب من الله ألا يسمح بوجود أي أثر للاستياء من شاول في فكره أو قلبه. هكذا إن كان الإمبراطور قد عفا عن المدينة، كان يليق به ألا يتوقف عند هذا، بل يفحص أعماقه لئلا يوجد فيه فكر استياء يُفْسِد خلاص نفسه.
1. اتَّسمت كتابات القديس يوحنا الذهبي الفم كأبٍ وراعٍ ورجل الكتاب المُقدَّس بالتركيز على الجوانب العملية في حياة المؤمنين مع الفكر العميق لكلمة الله. فقد عُرِفَ هذا الأب بالربط بين السلوك العملي في المسيح يسوع مع الثقة في عمل النعمة الإلهية المجانية. يرى في إنجيل المسيح المُرشِد العملي لكل جوانب الحياة اليومية مع التأمل في السماويات والتمتُّع بالمعرفة للأسرار الإلهية.
2. يدعونا القدِّيس في حياتنا العملية إلى الاقتداء بالطوباوي داود النبي، لكن هذا لا يتحقق إلا بالاقتراب من داود النبي والتعرُّف عليه، والدخول إلى أعماق أفكاره وأسراره في الرب.
3. يعالج في عظاته الثلاث هذه بعض التساؤلات التي تبدو صعبة.
4. القديس يوحنا الذهبي الفم كقائدٍ حيّ يؤمن بأن المؤمن المُخْلِص والأمين في الرب لا يتوقف عن بث روح القيادة فيمن هم تحت رعايته ومن هم حوله.
5. يحرص القدِّيس على بث روح التوبة الدائمة والنمو الروحي المُستمِر في حياة المؤمنين.ٍ
6. الخط الرئيسي للعظات الثلاث هو الكشف عن سمات شخصية داود النبي وقيمه المستقيمة أو الصحيحة sound values، غير أنه يُقَدِّم بين الحين والآخر، أو مع كل عرض لسمة مُعَيَّنة بعض التداريب العملية الإيجابية والسلبية لكي يَتَمَتَّع المؤمن بشخصية حيَّة متكاملة. تارة يعالج بعض الأمراض الروحية المنتشرة، وأخرى يتحدث عن تقدِّيس اللسان وفاعليته في الحياة الداخلية، وثالثًا يعالج بعض الظواهر الاجتماعية الخاطئة مثل الذهاب إلى المسارح المُنْحَلَّة غير الهادفة للبنيان، وأيضًا يتعرَّض لبعض المشاكل الأسرية. إن ما يشغله حياة الإنسان المتكاملة من كل الجوانب.
اقتصر الترقيم في نصوص العظات الثلاث لذهبي الفم الواردة هنا على القِيَم المستقيمة في حياة داود النبي وحدها لإبرازها.
كثيرًا ما يُكَرِّر القدِّيس هذا الاصطلاح: "القِيَم الصحيحة أو المستقيمة أو الصحية sound values". فماذا يعني بها؟
يفتتح القدِّيس عظته الأولى بتقديم مثالٍ عملي في حياتنا. فمتى أُصيب إنسان بمرضٍ جسدي يحتاج إلى العلاج حتى ينتزع جذوره، كما يحتاج إلى من له مهارة طبية عظيمة لاقتلاع هذه الجذور، فكم بالأكثر في حالة المرض الروحي؟ إنه يحسب من لا يتمتَّع بقِيَم صحية لا يتمتع بنفس سليمة وبالتالي فإنه في احتياج إلى علاجٍ في جدّية ومثابرة!
v عندما يُصَاب جسم بنوعٍ من الالتهاب الأليم لمدة طويلة ويصعب عليه التخلُّص منه، يحتاج إلى زمنٍ طويل ومجهود عظيم من جانبٍ، ومن الجانب الآخر يحتاج إلى مهارة عظيمة في استخدام علاجات حتى تُنزَع جذوره بطريقة سليمة. يمكنك أن ترى هذا أيضًا بالنسبة للنفس. عندما تريد أن تقتلع هوى النفس الذي تأصَّل عميقًا واستقر فيها، لا يكفي حثها لمدة يوم أو يومين لإصلاحها[6].
اختيار القديس يوحنا الذهبي الفم الاصطلاح "القِيَم السليمة أو المستقيمة" يكشف عن اهتمامه بالدخول إلى أعماق النفس والفكر والقلب، فقد يمارس إنسان بعض أعمال حسنة، لكنها لا تصدر عن قِيَم تنبعث من فكره وعواطفه وأحاسيسه، أي من إنسانه الداخلي، تقوم على معرفة صادقة ونامية.
مَسِيحُنا بتجسده صار إنسانًا كاملاً، يطلب تقدِّيس كل كياننا الداخلي والخارجي. فلا يتجاهل إنجيله العقل البشري الذي وهبنا الله إيّاه، بل يُقَدِّسه ويقوده روح الله فيسمو على الدوام.
في عظات القدِّيس عن "داود وشاول"، أراد أن يبرز في مقدمة عظته الأولى الفارق بين الشخصيتين، وهو أن الاثنين يحملان ذات الطبيعة البشرية التي تتعرَّض للمرض، لكن داود النبي حريص كل الحرص على سلامة صحته الروحية، يصرخ إلى إلهه الطبيب السماوي القادر على شفاء هذه الطبيعة، وفي الوقت نفسه لا يتوقف عن الاهتمام بخلاص نفسه والجهاد المستمر معتمدًا على نعمة الله. هذا ما يبرزه القديس يوحنا الذهبي الفم في كتاباته، خاصة في هذه العظات الثلاث.
داود له أخطاؤه، لكنه حريص على اقتلاعها من جذورها بالعمل الإلهي مع جهاده القانوني، ورغبته في النمو الدائم والتَمَسُّك بالقِيَم الصحية المقدسة. وشاول له أعمال تبدو صالحة، لكنه لا يبالي بنقاوة قلبه ومجد الله فيه، إنما يشغله المظهر الخارجي وشعبيته ومركزه أمام الناس.
إن كان القديس يوحنا الذهبي الفم قد كشف في بداية حديثه عن الحاجة إلى طبيب قادر على شفاء النفس مع التزامنا بالجدّية في جهادٍ مُستمِرٍ لتحقيق ذلك، الآن يُقَدِّم لنا بارًا يشهد له الله نفسه، وهو داود النبي. هذه الشهادة تقوم على نقاوة قلبه!
يليق بنا ونحن نتشبَّه بهذا البار انشغالنا بشهادة فاحص القلوب، المُهتَم بأعماقنا.
حين يشهد الله لإنسان بنقاوة قلبه، لا يخشى نظرة الناس إليه، بل حتى حكمه هو على نفسه. يقول الرسول: "لأنه إن لامتنا قلوبنا، فالله أعظم من قلوبنا، ويعلم كل شيء" (1يو 3: 20). يقول القديس إكليمنضس السكندري: [سلطان الله أعظم من الضمير الذي ينتمي للنفس، لأن حُبَّ الله يعرف كل شيء[7].]
لا تقف نقاوة قلوبنا عند حُكْمِ ضمائرنا التي يمكن أن تخدعنا، إنما نطلب حُكْمَ الله نفسه الذي ليس شيء خفي عنه، إذ نترنم قائلين: "الظلمة ليست مُظلِمة بالنسبة لك... فالظلمة بالنسبة لك هي كالنور"، لا تستطيع أن تحجب شيئًا عنك.
v دعونا نشيد بأحد القدِّيسين، حتى نُقَدِّم أمام أعينكم نصيحة واضحة فعَّالة، تكون أشبه بنموذج يقترح فضيلة الرجل البار، تقتدون بها وتمارسونها بأنفسكم.
من هو هذا الذي نستشهد به في الحديث عن الرحمة؟ من هو سوى ذاك الذي نال شهادة من الأعالي، بطريقة رائعة في هذه الحالة؟ تذكَّروا قول الكتاب المقدس "وجدتُ داود بن يسَّى رجلاً حسب قلبي" (أع 13: 22؛ 1صم 13: 14؛ مز 89: 20).
الآن، إذ يُقَدِّم الله رأيه هذا، لا يوجد أي مجال للمعارضة، فإن الله لا يحكم عن محاباة، ولا عن كراهية، إنما يُقَدِّم قراره على طهارة النفس ذاتها[8].
أشار القديس يوحنا الذهبي الفم في مقدمة عظته أننا في حاجة إلى إدراك خطورة أمراض نفوسنا والحاجة إلى مهارة وإمكانية الطبيب الإلهي، فنلجأ إليه في جدّية وبمثابرة. أما علامة صحة النفس، فتتعدَّى التصرُّفات الخارجية أو السلوك الظاهر، إنما تمس نقاوة القلب بشهادة فاحص القلوب نفسه، كما شهد لداود بن يسّى. الآن يكشف لنا المستوى الذي بلغه هذا البار في ظل الناموس الموسوي.
أقصى ما يشتهيه حتى رجال الله في ظل الناموس أن يسلكوا حسب الشريعة الموسوية التي تمنعنا من الاعتداء على أحدٍ بالظلم، لنرتفع إلى مستوى أعلى، فإن اعتدى علينا أحد لا نَرُد اعتداءه بشرٍ أعظم، إنما نكتفي أن نرد له ما فعله بما يعادل عمله دون المبالغة في الانتقام. هذا المستوى كان يستصعبه جدًا من عاشوا في ظل الناموس، إذ تثور أعماقهم وتطلب الانتقام من المُعتدِي بأكثر مما فعل حتى لا يعود فيعتدي بالظلم مرة أخرى.
استطاع داود البار خلال نعمة الله أن يَعْبُرَ هذه الدرجة ليصعد إلى درجات أعظم، فلم يرُد شرّ شاول بشرٍ معادلٍ، ولا بشرٍ أقل، ولا بالعفو، إنما ارتفع ليرد شرَّه بالخير. بهذا صعد داود إلى وصية العهد الجديد. آمن أنه بالخير لا يُحَطِّم شر شاول فحسب، بل يُحَوِّل عيني قلبه ليشتاق أن يمارس الخير عوض الشر، والحب عوض الكراهية، والرحمة عوض العنف.
ونحن في عهد النعمة، يليق بنا أن نتشبَّه بداود البار، الذي لم يحتمل حتى مجرد الاستياء من شاول الذي بذل كل جهده لقتل داود، إنما أراد في نقاوة قلبه أن يحب شاول، ويقدم له خيرًا عوض شرّه. هذا ما شهد به شاول نفسه (1 صم 24: 17).
v ها أنتم ترون لا يوجد ما هو أروع في عصر النعمة من التحرُّر من الاستياء (من المعتدين) بالغفران للأعداء عن خطاياهم وعن أعمالهم المفسدة، وذلك بعد موت المسيح، وبعد غفران الخطايا العجيب؛ وتقديم التوجيهات نحو القِيَم الرائعة. أما في العهد القديم، فعلى العكس سمحت الشريعة أن تُفقَأ عين مقابل عين، وسن بسنٍ (لا 24: 20)، وأن يكون الانتقام من فاعل الشر مُعادِلاً لما ارتكبه (المعتدي)، فمن مِن المستمعين لا يدهش من وجود شخص يفوق معيار الشرائع (الموسوية) ويبلغ إلى قِيَم العهد الجديد؟...
الآن لكي نقتني بأكثر دقةٍ معرفة فضيلته، اسمحوا لي أن أُكَرِّر الكلمات التي قيلت سابقًا، وأشير إلى حنو هذا المبارك الذي أظهره لشاول[9].
العجيب في شخصية داود البار أن سموَّه وبلوغه إلى قِيَم العهد الجديد وهو يعيش في عصر الناموس، لم يكن فلسفة عقلية يناقشها ويدافع عنها، إنما بالأكثر منهج حياة عملي مُعَاش. كلَّفَه هذا السمو الكثير، يدفع الثمن لا عن تَغَصُّب، بل بلذة وفرح. أما تكلفة خبرة التمتُّع بالقِيَم السامية فهي الآتي:
أ. الصبر أو طول الأناة؛ فقد وضع في قلبه أن يحتمل بمسرة بدون تذمُّر. هذا الصبر يُقِيَم منه ملكًا صاحب سلطان على عقله وقلبه وأحاسيسه ومشاعره، بهذا يُتوَّج بإكليل الصبر. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأن داود انشغل بأمرٍ واحدٍ: كيف ينجح في نوال إكليل الصبر.
ب. الكشف عن هذه القِيَم السامية وإيضاحها، لا بمناقشات غبية، بل بممارسة الحنو الرائع الفائق للطبيعة البشرية.
ج. الثبات وعدم الانحراف يمينًا أو يسارًا. لم يكن ممكنًا للقادة العسكريين المُحيطِين بداود، الهاربين يجولون من موضعٍ إلى موضعٍ حتى لا ينظرهم شاول، والمنتخبين من جبابرة البأس من الجيش، أن يجدوا فرصة للخلاص من شاول ولا يستغلُّوها.
لقد شاهدوا شاول يدخل الكهف بمفرده، فانطلقوا إلى داود يبشرونه بالفرصة الذهبية لقتل شاول الشرير، واستلام داود للعرش حسب وعد الله له.
فوجئوا بداود يرفض أن يمدَّ يده على شاول، أو يسمح لأحدهم بهذا. في منطقهم العسكري، بل والبشري، أن شاول المعتدي الظالم لن يتغيَّر من موقفه، ولا خلاص منه إلا بقتله.
كشفوا أفكارهم لداود، أما هو فبنقاوة قلبه رفض أفكارهم ولم يَقْبَلْ أن يحيد عن الحياة السامية في الرب يمينًا أو يسارًا.
يُصَوِّر لنا القديس يوحنا الذهبي الفم الموقف؛ فإن داود وحده كان مُعتنِقًا مبدأ مواجهة الشر بالخير، وكل الذين حوله وهم عسكريون وعانوا الكثير من مقاومة شاول ومن معه لهم. ويودّون أن يستريحوا من هذه المعاناة، خاصة وأنهم كانوا يدركون ما في شاول من حسدٍ وغيرةٍ ورغبة في الخلاص من داود. ففي نظرهم الحل الأوحد لمشاكلهم هو قتل شاول. وأن الفرصة التي بين أيديهم الآن فريدة، قد لا تتكرَّر.
حاولوا إقناع داود بأن قتل شاول ليس فيه خلاص من المتاعب بقدر ما هو تحقيق لخطة الله الذي دفع شاول لأياديهم.
استطاع داود بتقواه أن يؤكد لهم أنه بالحق وهبهم فرصة فريدة أن يسقط شاول بين أياديهم، لا للخلاص منه ومن مقاومته له ولهم، وإنما للسمو في حياتهم بالعفو عنه. آمن داود أن الخير أقوى وأعظم من الشر، والنور يُحَطِّم الظلمة، ونجح في إقناعهم بسرعة أن يعفوا عن شاول، ولا يَمِسُّوا حياته.
نستطيع أن نقول إن داود لم ينحرف عن هدفه تحت كل الظروف!
v ركَّز هذا الرجل التقى على أمرٍ واحدٍ لا غير، وهو كيف ينجح في نوال إكليل الصبر، وإيضاح القِيَم السليمة للحنو الرائع الفائق للطبيعة...
لم يتأثَّرْ هذا الطوباوي (بالذين يثيرونه ضد شاول)، بل استمر في المحافظة على ثباته، بالرغم من حث (الآخرين) وتقديم النصيحة له.
يُلاحَظ أنه ليس فقط لم يتأرجح بواسطة مشورات الآخرين، ولم يخف منهم، بل جذبهم إلى فكره السليم... وما هو أعظم أنه نجح في إقناع الآخرين أن يأخذوا اتجاهاته، خاصة متى كان الآخرون أناسًا غير مُعتدِلين ولا لطفاء، بل كانوا عسكريين انهمكوا وتعبوا من الصراع، وفقدوا الأمل بسبب المصاعب الكثيرة التي واجهوها، وصاروا مشتاقين إلى الراحة قليلاً، وكانوا يُدرِكون أن حلَّ متاعبهم يَكْمُن في قتل العدو في لحظة...
فمع أن عددًا كبيرًا من العسكريين كانوا يحثونه (على قتل شاول)، فإن هذا الرجل النبيل كان قادرًا أن يتغلَّب عليهم جميعًا، كي يسلكوا على منواله ويعفوا عن العدو...
لاحظوا أنهم لم يقولوا له إن الذي يصارعك صنع شرورًا كثيرة ضدّك، ذاك الذي اشتاق إلى موتك، والذي هاجمنا بمتاعب صعبة. إنما إذ عرفوا أنه لا يبالي بهذه الأمور، أوردوا له حكمًا مُعطَى له من العلي، قائلين إن الله يُسَلِّمه له... إنهم يعنون: هل بالحقيقة تنتقم لنفسك؟ إنك تخدم الله، وتُتَمِّم أحكامه.
كلما قالوا هذا، كان يزداد تصميمًا على العفو عنه، عالمًا أن الله سلَّمه له في يديه، ليهبه فرصة كي يبرهن بالأكثر أنه يسلك بالكمال.
بالنسبة لكم إذن، عندما ترون عدوَّكم يسقط في أياديكم، احسبوا هذا فرصة لا لمعاقبته، بل للعفو عنه...
لم يكن ما يشغله هو أن ينجح في نوال العرش، والتمتُّع بالحُكْمِ الملكي، فإذ كان شاول في يديه عفا عنه، حتى لا يقول أحد بأن عظمة المركز أثارت فيه غضبه.
مع إدراكه أن بالعفو عن شاول سيرجع إلى حيله القديمة، مما يُعَرِّضه إلى مخاطرٍ أعظمٍ، لم يُرِدْ أن يُهلِكَه[10].
لم يمد داود يده ليقتل شاول الذي بذل كل جهده لقتل داود ورجاله، إنما اكتفى بقطع طرف جبة شاول، ومع هذا ضربه قلبه، ولم يحتمل أن يقطع طرف جبة مسيح الرب!
لقد شعر أنه وإن كان لم يؤذِ شاول نفسه، غير أن تجاسره ليقطع طرف جبته علامة على وجود شعور بالاستياء من شاول. شوقه نحو نقاوة قلبه أحزنه، فضربه قلبه، مشتاقًا ألا يتسلل أي شعور أو فكر ضد شاول.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود شعر كأن عاصفة من الاستياء قد هبَّت في أعماقه، فخشي لئلا تتحطم سفينة قلبه. بسرعة تيقَّظ داود، والتجأ إلى الله ليهبه هدوءًا في أعماقه.
لم يشعر أحد من الذين حوله أن داود قد ضربه قلبه، غير أن هذه الضربة لقلبه تمَّت بإرادته المقدسة في الرب، فصارت أشبه بالقائد لمركبة وشعر بأن الخيل سينحرف فيهلك، لذا ضبط الخيل كما بلجام قبل أن تنحرف المركبة. كان داود قائدًا لمركبة أعماقه الداخلية، كان قائدًا ساهرًا ويقظًا، لا يستهين بأدنى احتمال للانحراف. دان نفسه عن ضعف لم يشعر به أحد ممن هم حوله، لا لكي يدينه أحد، وإنما لكي لا يحمل صورة خالقه مُحِب البشر.
v ألا ترون عاصفة الاستياء الشديدة التي هبَّت؟ ومع هذا لم يتجاوز هذا، ولم يُغرّق السفينة. فقد تيقَّظ القائد سريعًا بالتفكير الحسن، وصار في هدوءٍ عوض العاصفة. "ضربه قلبه"، ووضع لجامًا لغضبه، كما لحصانٍ ثائرٍ وفي هياجٍ شديدٍ. هذا ما تُحِبُّه نفوس القدِّيسين، فيقومون قبل أن يسقطوا، ويسيطرون على أنفسهم قبل أن يرتكبوا خطية، إذ هم يقظون، ودائمًا ساهرون.
ربما تسألون: وما الفرق بين الجسد والثياب؟ إنهما أمر واحد. لقد كان قويًا بما يمكنه ألا يتمادَى، بل دان نفسه بشدة حتى من أجل هذا.
"ضربه قلبه" على قَطْعِه طرف الجبة، وقال لرجاله: "حاشا لي من قِبَل الرب". بمعنى: ليت الرب يرحمني، حتى إن كانت عندي النيّة، لا يسمح الرب أن أُتَمِّمَ ذلك، ولا أن أتمادى فأُخطئ. بمعنى، إذ عرف أن القِيَم السليمة لهذا الأمر غالبًا ما تفوق إمكانية الطبيعية البشرية، وتتطلب نعمة من الأعالي، وكان في منتصف الطريق لارتكاب الجريمة صلَّى إلى الله أن يحفظ يديه من التلوث[11].
إن كان شاول يطلب قتل داود بكل وسيلة، لم ينظر إليه داود كعدوٍ بل كابنٍ له، كطفلٍ نبيلٍ.
في جهالة يتصرَّف. لذا جاء ردُّ فعل داود هو محاولة إنقاذ شاول من الحسد والكراهية والغضب، الأمور التي سيطرت على أعماقه.
v وجَّه هذا الرجل صلاته في طريق مُضَاد (لما طلبه رجاله)، فسأل الله ألا يسمح له بالانتقام لنفسه، مُعَبِّرًا عن هذا بقوله: "حاشا لي من قِبَل الرب أن أمدَّ يدي إليه"، مُتحدِّثًا عن العدو كما لو كان ابنًا، كما لو كان طفلاً نبيلاً[12].
لعل أول لقاء فيه تعرَّف الملك شاول على الصبي داود، وأدرك إمكانياته الفائقة خلال إيمانه الحيّ برب الجنود، كان على أرض المعركة مع جليات الجبار، خرج داود مُنتصِرًا، يُقَدِّم سيف جليات لخيمة الاجتماع، علامة شكره لله والاعتراف بأنه هو القائد الحقيقي للمعركة.
كانت فرصة رائعة يحتضن فيها شاول داود كابن له، لا كمُنافِسٍ له حتى وإن مدحته النساء، بأنه غالب الربوات بينما مدحن شاول كغالب للألوف.
عين شاول الشريرة حوَّلت نظرته من احتضانه كابنٍ له إلى الغيرة منه كمُنافِسٍ خطير، يمكن أن يغتصب منه العرش.
أما داود وهو أصغر من شاول وأقل منه في المركز والإمكانيات والعمر، فبعيْنه البسيطة تعامل مع الملك كأبٍ مع ابنه. صار الصبي أبًا، والملك الأكبر عمرًا أشبه بابن في عينيّ داود.
هذه الأُبوَّة التي تبدو مناقضة للطبيعة والعُرْف، سكبت في قلب داود وفكره فهمًا وحكمة. فعندما عفا داود عن شاول ولم يقتله، كما لم يسمح لأحدٍ من رجاله أن يَمِسَّه، تعامل داود مع شاول، كأبٍ يتحدَّث مع ابنه. لقد عاتب داود شاول، لكن أراد ألا يجرح مشاعره، فقدَّم له أعذارًا، بأن مقاومة شاول له، ومحاولته قتله جاءت من المشورات التي قدَّمها المحيطون بشاول له. داود كأبٍ يتحدث مع شاول ابنه، يود أن ينزع عنه العار، فلا ينسب تصرفاته إلى قلبه الشرير وإرادته الفاسدة، وإنما إلى المُشِيرين حوله. هكذا يفعل الآباء الحكماء مع أطفالهم حتى يفتحوا الطريق أمام أبنائهم لمراجعة أنفسهم وتغيير أفكارهم الشريرة إلى التفكير بروح الصداقة.
قدَّم داود أساسيْن للعفو عن شاول:
أ. الأول أن ما فعله شاول كان بسبب نصائح المُشيرِين الأشرار حوله. وكأن داود يُعْلِنُ لمن حوله أنه يود أن ينقذ شاول من مشيريه.
ب. الأساس الثاني للعفو هو حتى وإن كان شاول قد أخطأ، فهو كمسيح الرب، لا يجوز أن يمد أحد يده عليه. من أجل الرب نفسه يلزم تكريم شاول.
v لم يعفُ عنه فحسب، بل قدَّم له أعذارًا.
انظروا كيف كان فهيمًا وحكيمًا، بالرغم من أنه في فحصه لحياة شاول، لم يجد فيها شيئًا صالحًا. مع هذا لم يستطع (داود) أن يُقدِّمَ دعوى ضده في شيء أخطأ في حقه، أو أنه أساء إليه، مع أن العسكريين الذين معه كانوا مُستعدِّين أن يناقضوا هذا، إذ يعرفون شرَّه عن خبرة عملية.
اتجَّه (داود) إلى طريق آخر ليُبَرِّرَ هذا (العفو) على أساس مركزه وعمله، فلجأ إلى شرعيته، قائلاً: "هو مسيح الرب". إنه يعني: ماذا تقولون؟ إنه بغيض، رديٍء تمامًا، يحمل رائحة جرائم بلا حصرٍ، ويحمل حقدًا شديدًا ضدنا؟ مع هذا فهو ملك؛ إنه حاكم، عُهِدَ إليه أن يرأسنا. عوض دعوته ملكًا، ماذا قال؟ "إنه مسيح الرب"، مُزَوِّدًا إيّاه بالكرامة ليس على أساس مركزه هنا على الأرض، بل على أساس القرار الصادر من العُلو. إنه يقصد: هل تظهرون استخفافًا في الكرامة بالعبد رفيقكم؟ احترموا الرب. خافوا ذاك الذي منحه السلطة.
إن كنا نخشى ونهاب الضباط الذين يُقِيمهم الملك، حتى إن كانوا فاسدين، حتى إن كانوا جشعين، حتى إن كانوا ظالمين وما إلى ذلك، فلا نحتقرهم من أجل شرورهم، بل نهابهم من أجل كرامة الذي أقامهم، كم بالأكثر يليق بنا أن نفعل هذا فيما يخص الله[13].
يقارن القدِّيس يوحنا الذهبي الفم بين شاول صاحب القلب المُغلَق والضيِّق، وداود صاحب القلب المُتَّسِع حتى لمن يهينه. شاول في ضيق أُفُقِه وانغلاق قلبه، لم يستطع أن ينطق اسم داود على شفتيه، بل قال لابنه يوناثان: "لماذا لم يأتٍ ابن يسّى إلى الطعام؟" (1صم 20: 27) دعاه ابن يسّى ليُحَقِّرَ من شأنه، لأن أباه كان بسيطًا وفقيرًا، راعي غنم. أما داود، فحين طلب رجاله منه أن يسمح لهم بقتله، لم يذكر شاول باسمه، ولا قال عنه "ابن قيس" للاستخفاف بشأنه، ولا دعاه ملكًا، إنما دعاه بما هو أعظم: "مسيح الرب"! شتَّان ما بين قلب شاول وقلب داود!
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الكلمات الرقيقة والألفاظ اللطيفة، حتى بخصوص الأعداء المُقاوِمين لنا، تُغَيِّر قلوبنا من الغضب أو حتى من مُجَرَّد الشعور بالاستياء إلى اللطف والحب. وكأن أفضل علاج عملي لتحرير قلوبنا من روح الغضب هو تقدِّيس كلماتنا حتى المُوَجَّهة للمُقاوِمين لنا.
v لم يستطع (شاول) أن يدعو هذا القدِّيس (داود) باسمه بأية وسيلة، وذلك بسبب شدة العداوة. عوض هذا في أثناء الاحتفال بعيدٍ في مناسبةٍ ما، سأل: أين ابن يسّى؟ (1صم 20: 27) استخدم هذا الاسم عنه، من جانبٍ بسبب كراهيته لاسمه، ومن جانب آخر لكي يُحَطِّمَ سمعة هذا البار بالإشارة إلى خِسَّة مركز أبيه، غير مُدرِكٍ أنه ليس شهرة الوالديْن، بل سمو النفس، يجعل من الإنسان مشهورًا وبارزًا!
على أي الأحوال، لم يكن داود مثله هكذا، فإنه لم يدعُه باسم أبيه ليس لأن مركزه خسيسًا جدًا ومُحتقرًا، ولم يذكر اسمه بدون لقبٍ، إنما أشار إلى مركزه، وإلى سلطانه، في براءة دون أن يحمل عداوة في نفسه.
أحبائي الأعزاء، ليتكم تقتدون بهذا الرجل، وتتعلَّمون أولاً هذا الدرس، فلا تطلقون أسماء بذيئة على أعدائكم مُطلَقًا، بل تتحدثون عنهم بألقابٍ مُكرَّمةٍ. لتكن أفواهكم معتادة أن تدعو الذين يعتدون عليكم ظلمًا بألقاب مُكَرَّمة تدل على الرغبة في خدمتهم. وبالتالي إذ تسمع النفس هذا، تتعلَّم من اللسان فيَتغيَّر القلب نحو (العدو). الكلمات ذاتها هي خير علاج لغضب القلب[14].
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
بحكمةٍ يفتتح القديس يوحنا الذهبي الفم عظته الثانية عن "داود وشاول" بتطويبه المُستمِعين إليه من أجل اعتزازهم بشخص داود.
اقتبس القدِّيس كلمات بولس الرسول: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه (الشرور) يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط، بل أيضًا يُسرُّون بالذين يعملون" (رو 1: 32). يُعَلِّق على هذه العبارة، قائلاً بأن الذين يُسَرُّون بفاعلي الشر هم أشر من الذين يمارسون الشر. ولعله يقصد أن من يمارسون الشر يسقطون فيه، ربما عن إهمالٍ أو ضعفٍ، أما الذين يُسَرُّون بهم، فهم مُصِرُّون على مدح الشر بإرادة ونيَّة شريرة. فمدحهم للأشرار أشر من الذين يمارسون الشر. بنفس الصورة الذين يُسَرُّون بفاعلي الصلاح أعظم من الذين يمارسونه. لهذا فإن القدِّيس لا يُطَوِّب داود النبي وحده على قِيَمه المستقيمة، بل ويُطَوِّب المُعجَبين بداود لممارسته هذه القِيَم المستقيمة.
يقول القديس إكليمنضس الروماني: "قال الله: إن من يعمل مثل هذه الأمور ومن يُسَر بفاعليها، مكروهون لدى الله[15]".
v إذ مدحتم صبر داود، أُعجب بولعكم وتعلُّقكم بداود. ها أنتم ترون ليس فقط ممارسة الفضيلة والمباراة فيها، بل والسرور والإعجاب بالذين يمارسونها يجلب مكافأة ليست بقليلةٍ. وبالمثل ليس محاكاة الرذيلة فقط وإنما السرور بالذين يعيشونها يكون مصدرًا للمجازاة. في الواقع توجد ملاحظة هامة بأن ذلك أشر من الذين يعيشون في الشر. الدليل على أن هذا حق، ما يُقَدِّمه بولس بقوله بعد أن قدَّم قائمة بكل نوعٍ من الرذيلة، مُوَجِّهًا الاتهام لجميع الذين يطأون شرائع الله، أكمل متحدثًا عن هؤلاء الناس: "الذين إذ عرفوا حُكْمَ الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضًا يُسَرُّون بالذين يعملون. لذلك أنت بلا عذر أيها المائت" (راجع رو 1: 32-2: 1).
ألا ترون أنه يتحدث هكذا بقصد إظهار أن الأخيرين أشر من الأولين؟ أخيرًا، فإن الذين يبلغون إلى مدح الخطاة يستحقون عقوبة أكثر من الذين يخطئون، وهذا حق. هذا القرار (بمدح الخطاة) يصدر عن فكرٍ فاسدٍ ومرضٍ غير قابل للشفاء.
ها أنتم ترون أن من يشجب الخطية بعد ارتكابها، فإنه في النهاية ينجح في الشفاء مما ارتكبه، بينما الذين يمدحون الشر، يعزلون أنفسهم عن الشفاء الذي يتحقق بالتوبة. لهذا فإن بولس مُحِقٌ في تأكيد أن الأخيرين أشر من السابق عنهم.
هكذا كما أن الذين يمدحونهم سيشاركونهم نفس العقوبة، وربما أكثر منهم. هكذا من يمدحون الصالحين، ويُعجَبون بهم، سيشاركونهم الأكاليل التي سينالونها.
يمكنكم أن تروا نفس الأمر في الكتاب المقدس، في قول الله لإبراهيم: "أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه" (تك 12: 3). يمكنكم أن تروا نفس الحالة في الألعاب الأولمبية، فإنه ليس فقط المصارع يتزين بالإكليل، هذا الذي يحتمل المتاعب ويقوم بالمجهود، بل حتى المُعجَب بالغالب يتمتَّع بشبع ليس بقليلٍ من ذاك التصفيق.
لهذا عينه أطوب ليس فقط الإنسان النبيل على قِيَمه السليمة، بل وأُطوِّبكم أنتم من أجل ولَعكم به. لقد حارب وانتصر وتكلَّل، وأنتم سررتم بالنصرة، فتنالون نصيبًا ليس بقليلٍ من الإكليل[16].
يكشف هنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن سرّ اهتمام الكنيسة بالاحتفال اليومي بأعياد أحد أو بعض القديسين وتعتز بهم، فهي تود أن يُسر المؤمن بمن يسلكون في المسيح يسوع، فيعجب بعمل الله فيهم ومعهم، ويقتدي بهم، ويشاركهم إكليلهم السماوي، ولا يُسر بالذين يفعلون الشر حتى لا يشاركهم جزاءهم الأبدي. من يتشفع بالقدِّيسين مقتديًا بسيرتهم، يشترك في الحقيقة في المجد معهم وفي الأكاليل التي يتوَّجون بها، ويصير أيقونة حية للمسيح مقتفيًا آثارهم.
تطلع القديس يوحنا الذهبي الفم إلى داود وهو يتحدث مع رجاله ليقنعهم بضرورة العفو عن شاول، وعدم مسِّه بسوءٍ مهما كانت النتائج. وقف في حيرة ماذا يقول عن داود العجيب. هل هو قائد معركة أم حارس وحافظ لأعدائه؟ كما يهتم بخلاص تلاميذه العسكريين المُرافِقين له، هكذا حسب نفسه حارسًا لشاول، لا من القتل فحسب، وإنما أيضًا من الهلاك الأبدي. لقد دافع عنه أمام العسكريين كي لا يمدوا أيديهم إليه، كما حرص على خلاص شاول بحواره معه بعد أن عفا عنه.
v لكي تكون المسرة أروع والنفع أعظم، ها أنا أُذَكِّركم بالقصة.
بعد أن سُجِّلَتْ الكلمات التي استنكرت قتله، يكمل المؤرخ: "لم يدعهم يقومون على شاول (ويقتلونه)" (1 صم 24: 7)، راغبًا في نزع اشتياقهم للدم، بشجاعة. فإنه لا يمكن إنكار وجود خصوم كثيرين مع ما يظهرونه من قِيَم سليمة، ومع بغضهم للقتل، لا يقاومون الذين يميلون إلى القتل.
لم يكن داود من هذا النوع. فمع كونه كمن استلم وديعة وفي نيّته أن يحفظها، ليس فقط لم يضع يديه على عدوه بنفسه، وإنما منع أيضًا الذين يريدون أن يفعلوا هكذا معه، عاملاً كحارسٍ وحامٍ للعدو.
هكذا فإنكم لا تخطئون أن تقولوا إن داود وليس شاول كان في هذه اللحظة كمن هو في خطرٍ.
في الواقع لم توجد فرصة للصراع، إذ كان مشغولاً بمجهوداته ليُخَلِّصه بكل وسيلةٍ من خططهم، ولم يكن خائفًا أن يُقتَل كما كان العسكريون، فقد تغلَّب على الغضب والرغبة في قتل رفيقه... لقد وَجَّهوا التهمة أما المُتَّهم (شاول) فكان نائمًا خلالها. وبينما كان العدو (داود) يُدافِع عنه، إذا بالله يأخذ قراره ويكافئه[17].
مرة أخرى يقف القدِّيس في دهشة متسائلاً في أعماقه: ترى هل داود التقي قائد معركة أم هو مُعَلِّم أم كاهن أو أسقف أم مذبح؟
يراه المُعَلِّم الصالح، فإن ما يشغله ليس فقط ألا يمد يده لقتل شاول، وإنما كمُعَلِّمٍ تقي يحرص أيضًا ألا يمد أحد تلاميذه في الرب إلى الشر. إن كانوا كعسكريين يرافقون داود كي يحفظوه من مكائد شاول ومحاولته لقتله، فهو أيضًا يرافقهم لكي يحفظهم من أي تصرُّف شرير أو فكر غير مُقَدَّس. إنه يهتم بخلاص نفسه كما بخلاصهم كتلاميذ محبوبين لديه.
يراه أيضًا الكاهن أو الأسقف، فأينما وُجِدَ داود التقي حسب نفسه في حضرة الرب، كمن في هيكل مُقَدَّسٍ. لقد كان الكهف في عينيّ داود كنيسة مقدسة يمارس فيها عمل التعليم، تحدَّث مع مُرافِقيه كأسقف أو كاهن مع شعبه. كما تحدَّث أيضًا مع شاول بعد ذلك ليُرشِدَه إلى طريق خلاصه. كان يكرز بالحق، ويحرص على خلاص الكل.
مارس داود عمل التعليم بالعمل كما بالكلام، مع مُرافِقيه كما مع المقاومين معه.
يراه القديس يوحنا الذهبي الفم أشبه بأسقفٍ أو كاهن يُقَدِّم ذبيحة الحب وتقدمة الوداعة والرحمة. كما يراه أشبه بفدية، مُقَدِّمًا حياته مبذولة بعفوه لمقاومه طالب نفسه، ويراه أيضًا أشبه بمذبحٍ مُقَدَّسٍ وهيكل للرب لا يسمح بأي فكرٍ غير لائق أن يكون له موضع فيه.
v إنكم ترون إنه لم يكن ممكنًا بدون عمل الله أن ينجح (داود) في السيطرة على هؤلاء الشديدي الهياج، لقد وُجِدَتْ نعمة الله على شفتي الرجل المُلهَم تُقَدِّم نوعًا من هذه الكلمات المُقْنِعَة.
على أي الأحوال لم تكن مساهمة داود بقليلةٍ، فقد سبق فشكَّلهم في الماضي، لذلك وجدهم في اللحظة الحاسمة مُستعِدِّين وراغبين (فيما تعلَّموه منه).
ها أنتم ترون أنه لم يكن كقائد لفِرق (جيشٍ) يأمرهم، وإنما ككاهنٍ، وقد كان الكهف كنيسة في هذه المناسبة.
كان كمن سيم أسقفًا يُقَدِّم لهم عظة. وبعد العظة قدَّم نوعًا من الذبيحة الرائعة غير العادية، لا بتقديم ثور كذبيحة ولا ذبح حملٍ، بل ما هو أعظم منهما، قدَّم لله وداعةً ورحمةً، ذابحًا الغيظ (الخفي) غير العامل فيه، قاتلاً الغضب، ومُميتًا الأعضاء التي على الأرض.
لقد عمل كفدية وكاهنٍ ومذبحٍ. كل شيء صدر منه، الفكر الذي قدَّم لطفًا ورحمة، ووداعة القلب، الأمور التي جعلها تقدمات (لله)[18].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن إحدى القِيَم الصحية التي اعتنقها داود النبي واعتز بها، هي تَمَتُّعه بالنصرة الداخلية بالرب العامل فيه. فالمؤمن ينطلق من نصرة إلى نصرة في معركة، أرضها هي القلب، وسلاحها هو الرب، والعدو هو إبليس وأعماله وإكليلها قائم في السماء.
يرى القدِّيس أن هذه المعركة التي دخل فيها داود فريدة وخفية. معركته ضد جليات لا تُقارَن بهذه المعركة الفريدة:
أ. معركته الأولى ضد شخص متوحش يسخر بالله ويُعَيِّر صفوف شعبه، أما الثانية فمعركة ضد إبليس والخطية.
ب. المعركة الأولى سلاحها حجر صغير ومقلاع باسم رب الجنود، والثانية بدون أسلحة.
ج. الأولى غنيمتها أودعت في خيمة الاجتماع - سيف جليات -، والثانية غنيمتها أودعت في الفردوس، أي نفس داود التي تنطلق إلى أورشليم العليا.
د. في نهاية المعركة الأولى عاد داود وشاول يستقبلهما نسوة يُغَنّين ويرقصن من أجل النصرة، والثانية خرجت طغمات السمائية في عجبٍ من داود الذي بلغ هذا السمو الروحي الفائق.
هـ. في المعركة الأولى لم نسمع عن تقديم ذبيحة لله. أما في الثانية فقد تمَّ تقديم ذبيحة ثمينة. فقد نجح داود في تقديم ذبيحة يُسَرُّ بها الله، ذبيحة الحب الأخوي الباذل بروح التواضع. فامتناعه عن قتل شاول، ومنعه رجاله من ذلك يُحسَب ذبيحة روحية يَشْتَمَّها الله رائحة رضا، يدعوها القدِّيس يوحنا "ذبيحة سامية".
و. لا تحتاج المعركة الثانية إلى نصب تذكاري يُسَجِّل هذه النصرة، إنما هي مُسَجَّلَة في السماء، حيث يُكتَبُ اسم الغالب في سِفْرِ الحياة.
v عندما قدم هذه الذبيحة السامية نال النصرة، ولم يكن محتاجًا إلى نصب تذكاري.
المشكلة أن شاول قام وترك الكهف، ولم يكن يعرف ما قد حدث. "ثم قام داود بعد ذلك وخرج" (1 صم 24: 8)، مُتطلِّعًا نحو السماء بعينيْن متحررتيْن من القلق، وكان في هذا الموقف في مسرةٍ أكثر مما كان عليه عندما طرح جليات أرضًا، وقطع رأس المتوحش.
بالحقيقة كانت النصرة أكثر روعة من السابقة، فالغنيمة أكثر ملوكية والمكسب العظيم أعظم مجدًا، والنصب التذكاري أكثر إعجابًا.
في المرة الأولى كان محتاجًا إلى مقلاعٍ وحجارة والدخول إلى خط معركة، أما في هذه الحالة، فكان الفكر يُعد كل شيءٍ. لقد تحققت النصرة بدون أسلحة، وأُقيم النصب التذكاري بدون سفك دمٍ.
لذلك عاد لا يحمل رأس متوحشٍ، بل مميتًا الغيظ، وقد هدأت الثورة.
أودع الغنيمة ليس في أورشليم، بل في السماء، المدينة العليا.
في هذه الحالة لم توجد نسوة خرجن للقاء معه يرقصن ويُرَحِّبن به بالمديح، بل هتفت طغمات الملائكة مُتعجِّبة من قِيَمه السليمة وبساطته.
بالحقيقة عاد، وقد سبَّب جراحات كثيرة للعدو، فمن جهةٍ أنقذ حياة شاول، ومن جهة أخرى نخس العدو الحقيقي، إبليس بضربات كثيرة[19].
كانت النصرة في نظر المُرافِقين لداود هي قتل شاول، واستلام داود تاج المُلْكِ. أما داود فكان يُدرِكُ أن معركته ليست مع إنسانٍ، بل مع أجناد الشر الروحية في السماويات كقول الرسول بولس (أف 6: 12).
معركة داود لا مع الرغبة في الانتقام من شاول الذي دخل في عداوة معه بلا سبب، إنما مع مجرد الاستياء الداخلي منه، إذ يشتهي نقاوة قلبه تمامًا.
سبق وأدركنا أن داود قد خرج من المعركة، وقد امتلأ قلبه بالمسرّة، لأنه غلب إبليس، وأقام نصبه التذكاري في أورشليم العليا، وحمل غنائمه إلى السماء!
الآن يقارن الذهبي الفم بين داود حامل إكليل النصرة لا بتحدِّيه لنيران الأتون مثل الثلاثة فتية، ولا للأسود الجائعة مثل دانيال، إنما لنيران الخطية المُهلِكة وأسود الشهوات والمشاعر الخاطئة الأكثر خطرًا من الأسود الجائعة.
v ها أنتم ترون أن هذا المخلوق (إبليس) يكون سعيدًا وفرحًا عندما نصير في استياء من أحدٍ، وندخل في معارك، ونهيج على بعضنا البعض. لذلك يُصدَم عندما نكون في سلامٍ واتفاقٍ، ونضبط استياءنا، وينحط بكونه عدو السلام، وخصم الاتفاق وأب الحسد.
لذلك أبرز داود يده اليمنى وقد حملت تاج رأس تُقَدَّر قيمته بالعالم كله، وذلك كما في حالة أفضل المصارعات، حيث يُقَدِّم الأباطرة غالبًا أكاليل على الأيدي اليمين للمُصارِعين بدل من وضعها على رؤوسهم. هكذا أيضًا يُكَلِّل الله اليد اليمنى التي تنجح في سحب السيف دون تلطيخه بالدم، عارضًا نصل السيف غير مُلطَّخ، مُقاوِمًا فيض الغيظ العنيف.
لم يَظْهَرْ (داود) حاملاً تاج شاول، إنما ظهر حاملاً إكليل البرِّ. لم يظهر بثوبٍ ملوكيٍ أرجوانيٍ، إنما الْتَحَفَ بالرحمة التي تفوق الطبيعة البشرية، الثوب الأكثر بهاءً من أي ثوبٍ.
لقد ترك الكهف ببهاءٍ مُدهِشٍ، كما ترك الثلاثة فتية الأتون (دا 3). كما أن النار لم تُهلِكهم، هكذا نار الغيظ لم تُهِلك هذا الرجل. في حالتهم لم تَدْخُلْ النار الخارجية إليهم وتلتقِ بهم، أما هو فكانت جمرات النار تحترق في الداخل، لكنه رأى الشيطان كأتون يحترق في الخارج...
إنه ليس بالأمر غير اللائق بالنسبة لكم أن تستدعوا دانيال في هذا الأمر. فكما خرج من الجب، وقد غلب الوحوش المفترسة، هكذا خرج هذا الرجل من الكهف، مستفيدًا بالأكثر من الوحوش الأشر. أقصد كما وُضِعَت الأسود في مناطق مختلفة حول الأول (دانيال)، هكذا هاجمت الأهواء هذا الرجل، الأسود الأشد افتراسًا عن غيرها، وهي استياؤه من الأخطاء الماضية (لشاول) والأخطاء المُرعِبة المُنتظَرة في المستقبل. غير أنه صدَّ الوحوش وسدَّ أفواههم، مُعَلِّمًا بالعمل أنه ليس شيء أكثر أمانًا مثل العفو عن العدو، وليس شيء أكثر خطرًا مثل التخطيط للانتقام والتدبير لجرح الآخرين...
إنني أُعلِنُ بأن هذا القدِّيس مُطَوَّب كما ترون، ليس لأن عدوه مُنبطِح تحت قدميه، بل لأنه عفا عنه حين كان في قبضة يده، وذلك بقوة الله من جانب وبقِيَمه السليمة من جانب آخر...
تَطَلَّع (الذين معه) إلى داود ليس بعد كإنسان قابل للموت بل كملاكٍ حتى أمام الله؛ فقد حصد هو شخصيًا نفعًا أعظم الآن هنا أكثر من ذاك الذي عُفي عنه، وكسب نصرة أكثر بهاءً مما لو قتل شاول. أخيرًا هل كان يمكن أن يقتني بقتله عدوه أكثر مما ناله بعفوه عنه؟
فكروا في هذا في أنفسكم، متى كان في سلطانكم ذاك الذي يؤذيكم، فإن العفو عنه أفضل وأنفع لكم من قتله. فمن يقتل في حالات كثيرة يدين نفسه، ويكون له ضمير شرير، ويكون أمامه شبح خطيته في كل يومٍ وفي كل ساعةٍ. أما الذي يعفو ويصبر لوقتٍ قليلٍ فسيفرح ويتهلل، متوقعًا تحقيق رجائه، متطلعًا إلى مكافأة الصبر من الله[20].
تحمل الفضيلة مكافأتها فيها، كما تحمل الخطية فسادها فيها. لقد سجَّلَت السماء كما على نصب تذكاري أبدي تحدِّي داود حتى لمشاعر الاستياء ممن أراد قتله، وبمسرة عفا عنه ولم يمد يده إليه، ودعاه "مسيح الرب". يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود نال عربون هذا الإكليل وهو بعد في هذا العالم، لا باستلامه العرش، وإنما بنصرته الداخلية وتواضعه أمام من عفا عنه ولم يَمسّه بأذى، وتحدَّث معه بروح التواضع في رقّةٍ ولطفٍ.
v هلم ننظر ماذا حدث بعد ذلك: "خرج داود من الكهف، ونادى وراء شاول، قائلاً: يا سيدي الملك. ولما الْتَفَتَ شاول إلى ورائه، خرَّ داود على وجهه إلى الأرض وسجد" (راجع 1صم 24: 8). هذا أقل ما يعكسه أنه كسب عدوه. إنها علامة لنفس غير عادية لا تنتفخ بالإحسانات التي قدَّمتها للقريب، ولا تصرَّف كما يفعل عامة البشر، الذين يستخفون بمن يُقَدِّمون لهم إحساناتهم كأنهم عبيد. لم يسلك الطوباوي داود هكذا، لقد أظهر ضبطًا لنفسه أعظم حتى بعد تقديمه إحسانات. علة ذلك إنه لا ينسب ما حققه من إنجازات إلى مبادراته هو، بل ينسب الكل إلى النعمة الإلهية. لذلك فمع إنه أنقذ حياته، سجد لمن أنقذه ودعاه ملكًا، وأشار إلى نفسه كعبدٍ له. بهذا التصرُّف كبح نزوته، مهدئًا من استيائه، ونازعًا عنه حسده[21].
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: لماذا قال داود لشاول: لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك (حياتك)؟ (1صم 24: 9)، كيف يقول داود هذا وهو يَعْلَمُ أن الكل يحملون محبة وتقديرًا له؟ يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود لا يتصوَّر أنه يوجد حول شاول من ينطق بكلمة ضد داود، لأنهم في أعماقهم يحملون مشاعر إعجاب وحُبَّ لداود. إنما قال هذا لكي يراجع شاول نفسه، ويُدرِك أن الذي دفعه لهذه العداوة الحسد والبغضة ليس الناس بل أفكاره الشريرة. لأنه حتى يوناثان بن شاول كان في علاقة محبة شديدة مع داود، وكان رجال الجيش الذين حَوْلَ شاول مُعجَبين بداود. ما يحمله شاول من عداوة وخبث دافعه أعماقه الشريرة.
لم يُرِدْ داود أن يُحَطِّمَ نفسية شاول، بل أظهر له كأن ما يفعله هو من مشورة الأشرار. وكأن داود لا يلوم شاول، بل يعذره على موقفه العدائي. هذا التصرُّف كما يراه القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا ما يمارسه الوالدان مع طفلهما حينما يخطئ.
v غالبًا ما يستخدم الآباء والأمهات (الوالدان) نفس الأسلوب مع أطفالهم. فالوالد (أو الوالدة) ينفرد بطفله الذي يتمادى في الخطأ، ويرتكب أخطاء كثيرة، فمع اقتناعه أن الطفل مارس الخطأ باختياره، إلا أنه في حالات كثيرة يلقي باللوم على الغير، مستخدمًا نفس الأسلوب، قائلاً: إنني أعلم أن ما تفعله ليس خطأك أنت، بل قادك آخرون إلى الخطأ... فهم الملومون. وإذ يسمع الطفل هذا يسهل عليه تحويل بصره تدريجيًا عن الخطية، والرجوع بسهولة إلى حياة الفضيلة.
على أي الأحوال، فَعَلَ بولس نفس الأمر وهو يكتب إلى أهل غلاطية (غل 1: 7). فبعد حديثٍ طويلٍ واتهاماتٍ لا توصف وجَّهها ضدهم، ففي نحو نهاية الرسالة قال هكذا: "ولكنني أثق بكم في الرب، أنكم لا تفتكرون شيئًا آخر، ولكن الذي يزعجكم سيحمل الدينونة أيَّ من كان" (غل 5: 10)؛ إذ رغب أن يزيل الاتهامات المُوجَّهة ضدهم، حتى يُشفوا تدريجيًا من أخطائهم، وينجحوا في الصعود إلى مركز دفاع.
هذا ما فعله داود بقوله: "لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك (حياتك)؟" بهذا يُظهِر أن آخرين هم الذين دفعوه إلى هذا وأفسدوه. فإن ما يهمه هنا هو أن يُقَدِّم دفاعًا عن الاتهامات المُوجَّهة ضده. عندئذ في دفاعه عن الاتهامات المُوجَّهة ضده، قال: "هوذا قد رأت عيناك اليوم كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف، وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقتُ عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي، لأنه مسيح الرب هو" (1 صم 24: 10).
بمعنى آخر، بينما هؤلاء الآخرون افتروا عليه، يقول إنني أصعد لأُقَدِّمَ دفاعًا بالأعمال، وأُحَطِّم بتصرفاتي الاتهامات. فلا حاجة للكلمات، لأن الأحداث نفسها تنجح في التعليم بأكثر وضوحٍ عن أي كلمة للكشف عن نوع هؤلاء الناس (الذين يدعون شاول للخطأ)، ومن أنا، وأن النقد المُوجَّه ضدِّي هو افتراء باطل. للشهادة عن ذلك لا أستدعي أحدًا، بل أقوم بذلك بنفسي وحدي، فأنا كفيل بهذا[22].
تكشف تصرُّفات داود النبي عن أعماقه المملوءة لطفًا وحنوًا.
لم يكن في حاجة أن يُدافِعَ عن نفسه أمام شاول ومن معه، إنما ترك تصرُّفاته تشهد له في صمتٍ.
حقًا لقد صرخ في أعماقه إلى الله لكي يهبه نقاوة أكثر، إذ ضربه قلبه عندما قطع طرف جبة شاول، لكن الله استخدم حتى هذا التصرُّف شهادة عملية عن لطف داود. وما كان يمكن لشاول ومن معه أن يقبلوا دفاعًا عن داود بالكلام.
هذا واستمر حنو داود حتى موت شاول وبعد موته. فعندما سمع عن موت شاول وأبنائه الثلاثة وحامل سلاحه في المعركة، لم يشغله خلو الكرسي له، وأنه حان الوقت لاستلام العرش الذي مُسِحَ عليه كملكٍ على يد صموئيل النبي وهو صبي صغير. إنما الْتَهَبَتْ أحشاؤه بالحزن الشديد عليهم، فمزَّق ثيابه هو وجميع الرجال الذين معه وندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء على شاول وابنه يوناثان (2 صم 1: 11-12).
فيما يلي تعليقات القديس يوحنا الذهبي الفم على سلوك داود وتصرُّفاته في حياة شاول وبعد موته:
v إذ فسدت إرادة القاضي (شاول) والشهود (المُحيطين به)، فإنه مهما وُجِدَت من شهادات، يسقطون في الشك. لهذا دبَّر وجود براهين تجعلهم صامتين وفي خجلٍ شديدٍ. ما هي هذه البراهين؟ طرف الجبّة التي أخذها، وقال: "انظرْ طرف جُبَّتك بيديّ... وعدم قتلي إياك" (1صم 24: 11). هذه شهادة صامتة، لكنها أكثر وضوحًا من الشهادات التي بالكلام. يقول: لو لم أكن ملاصقًا لك، وواقفًا بالقرب من شخصك، لما استطعت أن أقطع جزءًا من ثوبك.
ألا ترون كيف صدر خير من تحرُّك داود في البداية؟ أقصد، لو لم يتحرك بالاستياء، ما كنا نتعرَّف على قِيَمه السليمة (المستقيمة)، فإن كثيرًا من الناس، لديهم الانطباع أن ذاك العفو لم يكن ثمرة قِيَم مستقيمة، بل بسبب حالة دهشة (مفاجئة). لو كان الأمر كذلك لما قطع ركن من الجُبَّة، إنما كان مزّقها بالكامل... لم يكن لديه دليل آخر يقنع به عدوَّه سوى ما فعله. فإذ حرَّكه الاستياء وتمَّم القطع، صار لديه برهان لا يَقْبَلُ الجدل على رعايته له.
لذلك، إذ جلب شهادة صادقة وواضحة، لهذا دعا عدوَّه شخصيًا ليكون قاضيًا وشاهدًا على اهتمامه، قائلاً: "لا تخطئ وأنت تنظر بوضوحٍ اليوم أنه ليس في يديّ شر ولا جرم، وأنت تصيد نفسي لتأخذها" (راجع 1صم 24: 11)... يقول: "إنني لستُ أتحدَّث عن أحداث ماضية، إنما ما حَدَثَ اليوم هو برهان كافٍ لي. أضف إلى ذلك أنه كان يمكنه أن يورد أعمال لطف كثيرة تمَّت سابقًا لو أراد ذلك...
كان (داود) هكذا وديعًا، ومُتحرِّرًا من كل عجرفة، وكانت عيناه تُرَكِّزان على أمرٍ واحدٍ وهو حُكْم الله...
لم يكن هذا الأمر وحده البارز، إنما عند سماعه أن (شاول) قد سقط في المعركة، مزَّق ثيابه، وألقى التراب على نفسه، وقدَّم مرثاة يمكنكم أن تَنْطَقوا بها إن فقدتم ابنًا وحيدًا مُخْلِصًا، ونَظَّم تأبينًا، ونطق بصرخات مُرَّة، وصام حتى المساء، ولعن الموضع نفسه الذي استقبل دم شاول. لقد قال: "يا جبال جلبوع، لا يكن طلّ ومطر عليكن" (2صم 1: 21)، "يا جبال الموت، لأن هناك قد انتزع ملجأ الجبابرة".
هذا غالبًا ما يحدث مع الوالديْن، إذ يغلقان بيتهما، ويترنَّحان بالأسى في الشارع بطولِه الذي يسيران فيه إلى جنازة ابنهما. هكذا سلك هذا الرجل، فلَعنَ الجبال التي فيها تمَّ الذبح. وها هو يكره حتى المكان الذي سقط فيه (شاول). إنه يقول: لا يكون المطر النازل من العلو على الموقع، الذي وُجِدَ فيه مطر دم أصدقائي هناك.
كان يُرَدِّد اسميهما (شاول وابنه يوناثان) مرات ومرات بلا توقُّف، قائلاً: "شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما" (2صم 1: 23). إذ لم يكن ممكنًا له تقبيل جسديهما (لعدم وجودهما)، ها هو يُطَوِّقهما بهذيْن الاسميْن، مُهَدِّئًا حزنه قدر المستطاع بذكر اسميهما، مُهَدِّئًا من بشاعة الكارثة...
في رأيه أنه ما كان يمكن ممارسة الحياة مع عزل الواحد عن الآخر.
هل أنتم منزعجون لهذا؟ هل أنتم تبكون؟ هل أفكاركم مُرتبِكة؟ وعيونكم تتحوَّل وتستعد لسكب الدموع؟[23]
أسأل كل واحدٍ منكم أن يتذكَّر ذاك الذي احتمل العداوة والأذية، ومع ذلك هل لا تزال أذهانكم مُنفعِلة بالحزن؟
كان (داود) مُتعلِّقًا بهما وهما أحياء، ويرثيهما عند موتهما، ليس للاستعراض، بل من أعماق الذهن والنفس[24].
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
في وسط هذه الضيقة المُرَّة وُجِدَتْ مجموعة ظنُّوا أن تعزيتهم تتحقَّق بالتمتُّع بالمسارح الخليعة عوض الالتجاء إلى الله الذي يهب الصبر مع الفرح والسلام، كما ينقذ مؤمنيه من الحزن المُهلِك المصحوب باليأس. لهذا افتتح القدِّيس عظته الثالثة مُوضِّحًا خطورة الذهاب إلى المسارح التي تُثِير الشهوات، وتُفْسِد طهارة الفكر، فتُوَلِّد اليأس مع روح الانشقاق حتى داخل الأسرة. بينما انطلق داود النبي في سموٍ يَعْبُر فوق كل أشكال الصبر في تعامله مع الملك شاول الذي لم يتوقَّف عن مُقاوَمة داود طالبًا رأسه.
عُرِفَتْ المسارح المُنحلَّة بارتباطها بالإغراء على الرجاسات خلال الأغاني المثيرة للشهوة، والحركات غير اللائقة، والملابس المُعثِرة التي تنصب الشباك للسقوط في الزنا والانحلال، فلا يجد الإنسان سعادته في الحياة الأسرية. فيَحرِم المترددون عليها أنفسهم من الجو الكنسي الملائكي، بل وترفض الكنيسة أن يُعَرِّجوا بين الحياتين، فتحرمهم من الشركة في الأسرار المقدسة.
هنا يستعرض القدِّيس اشتياق الكنيسة إلى توبتهم، فيرجعون إلى الحياة المُقَدَّسة في الرب. يرفض القدِّيس عنف أتباع نوفاتيان Novatian الذين ينكرون إمكانية المغفرة للخطايا بعد العماد[25].
افتتح العظة بقوله: [أميل إلى التفكير في أن كثيرين من الذين هجرونا قبلاً، وتركونا لأجل المسارح المحظورة هم حاضرون اليوم. أود أن أوضح أن الذين هم وراء الأبواب المقدسة، لا يبقون هناك خارجًا على الدوام، بل يرجعون ثانية عندما يُصلَح أمرهم... فالرعاة يفرزون الحملان المُصابَة بالجرب بعيدًا عن الحملان السليمة، حتى يتخلَّصوا من المرض الخطير، ويعودوا مرة أخرى إلى الحملان السليمة بسلامٍ، حتى لا ينقل المرضى هذا الوباء إلى كل القطيع.
لتتأكدوا من هذا، إننا نريد أن نعرف هؤلاء الناس... هؤلاء الذين حُرِموا من حفظ شرائع لله وبقوا في الخارج لهم في نفس الوقت رجاء صالح. إن أرادوا إصلاح خطاياهم التي من أجلها صاروا خارج الكنيسة، يستطيعون أن يعودوا ثانية بضميرٍ صالحٍ[26].]
يدعو القدِّيس أهل أنطاكية إلى الصبر، وعوض انتقاد الإمبراطور على فرضه ضرائب ثقيلة، أن يتزيَّنوا بطول الأناة واحتمال من يُسِيئون إليهم. كما يسألهم عوض كلمات النقد اللاذعة، أن ينطقوا بكلماتٍ رقيقةٍ نافعةٍ لهم وللمُستمِعين إليهم. لاحظ القدِّيس أن البعض لجأوا إلى المسارح بحجة أنهم يُنفِّسون عن شعورهم بالضيق بسبب تصرُّفات الإمبراطور. إنه يدعوهم إلى طلب التعزيات الإلهية خلال التوبة، والاقتداء بطول أناة داود النبي، عوض البحث عن الملذَّات الجسدية.
من أهم ملامح كتابات القديس يوحنا الذهبي الفم، ارتباطه ببعض شخصيات من الكتاب المُقَدَّس بل وتعلُّقه بهم، خاصة مُعَلَّمنا بولس الرسول وأيوب البار. فمن كلماته:
[ماذا يحدث لي؟ لنهرب سريعًا، فإن بولس يستولي عليَّ، ويبعد بي خارج الموضوع!
أنتم تعلمون أنني كثيرًا ما أطارد فكرة معينة، وإذا بي أسقط فجأة على بولس، فيحتجزني بقوة عن كلامي، ولا أقدر أن أنفصل عنه حتى النهاية[27].]
[إني أحرص على قراءة رسائل الطوباوي بولس مرتيْن أسبوعيًا، وغالبًا ثلاث دفعات أو أربع كل أسبوع عند الاحتفال بذكرى الشهداء والقدِّيسين. أنعم بالبوق الروحي بسرور، أنهض متقدًا بالرغبة في التعرُّف على الصوت العزيز عليَّ. يخيل لي أني أهواه تمامًا، بل كأنه حاضر أمام بصيرتي. أمسك به، وأتحدَّث معه.]
ولقد قال إنيانوس من Celeda في القرن الخامس، إن القدِّيس يوحنا لم يصف الرسول العظيم بولس، بل كان كمن يُقِيمه من الأموات، ليجعل منه مثلاً حيًا للكمال المسيحي.
أما في الفترة الأخيرة من حياة القدِّيس يوحنا، حيث دخل في لُجَّة التجارب، فقد وجد في أيوب البار صديقًا. تعلَّقَت نفسه به كشريك معه في الآلام، متى كتب عنه ينسى نفسه. كتب: "يبدو لي أن حُبِّي للبطل قد جرفني بعيدًا عن الموضوع الماثل أمامي[28]".
v اذكروا أنه من المعتاد بالنسبة للرسَّامين الذين يعزمون على تقديم صورة لشخصٍ ما أن يقتربوا منه ويمكثوا بجواره يومًا أو يومين أو ثلاثة لكي يتأكدوا أنهم يُقَدِّمون الصورة بدقةٍ بدون خطأ بالجلوس المُتكرِّر معه. ولما كان هدفنا أن نقدم مشهدًا لا للخطوط العريضة لجسد (داود) بل للجمال والكمال الروحي لنفسه. نزمع أن يجلس داود ملتصقًا بكم اليوم حتى يمكنكم جميعًا أن تتطلعوا إليه، وينطبع كمال البار على نفوسكم شخصًا شخصًا، وأيضًا وداعته ولطفه وكل فضيلةٍ له.
وفي النهاية إن كانت الصور الجسدية تُعطِي نوعًا من الراحة لمشاهديها، بالأكثر يتحقَّق ذلك بصور النفس. بينما لا يمكن رؤية الأولى في كل وضع، ويلزم الجلوس في مكان مُعَيَّن معه، فإنه لا يوجد ما يمنعكم بالنسبة لرؤية الثانية، ترونها أينما وُجِدْتم. وذلك بوضعها في أعماق الذهن أينما كنتم، فتنظرونها على الدوام، وتنالون منها منافع كثيرة... إن وضعتم صورة داود على الدوام أمام أعينكم، وتحملقون فيها، فإنه مع الوقت مرة فأخرى بالتطلع إلى صورة الفضيلة تنالون شفاءً كاملاً، وتتمتَّعون بالقِيَم السليمة النقية[29].
يُقَدِّم لنا الذهبي الفم مقارنة بين من يقاومنا ويحمل عداوة ضدنا ويُسَبِّب لنا أضرارًا، وبين الشرور التي صبَّها الملك شاول مرارًا وتكرارًا بالرغم من إحسانات داود وحنوِّه عليه. أي عذرٍ نُقَدِّمه لأنفسنا نحن الذين نعيش في عهد النعمة، وليس في ظلِّ الناموس الموسوي مثل داود؟!
يبدو أن القدِّيس قد جذبه منظر بعض مُرَوِّضي الأسود ملوك الغابة، وقد صارت هادئة مثل الحيوانات المستأنسة. هكذا بالكلمات الطيبة وأعمال المحبة نُرَوِّض أعداءنا، فتتغيَّر طبيعتهم من الوحشية (إن صحَ التعبير) إلى الصداقة والأُلفة والوداعة والحب!
بطول أناتنا وحُبِّنا لأعدائنا، لا نفقد شيئًا، ولا نصير في غبنٍ، بل بالأكثر ننعم بسمعة طيبة، ونصير بالأكثر محبوبين لدى الجميع، بل وموضع سرور الله.
ما احتمله داود من متاعب واضطهادات من شاول لم يُسَبِّبْ له مرارة، بل صار بالحق رجل المزامير والتسابيح، لا في عصره فحسب، بل إلى يومنا، مصدر فرح وتعزيات. صار داود مشهورًا حتى لدى الطغمات السماوية التي تُسَرُّ بمحبي أعدائهم والمملوءين فرحًا خلال التسبيح لله.
ازداد داود مجدًا على الأرض وفي السماء، ولا يزال فعَّالاً في حياتنا بمثاله العجيب وتسابيحه. أما شاول المُقاوِم له، ففقد عرشه، وحلَّ به وبابنه موت مُشِين، وهو ينتظر عقوبة أبدية!
v لا يقل أحد: لي عدو شرير وفاسد وعنيد، يثير الاشمئزاز. مهما تقول عنه لا يوجد من هو أشر من شاول الذي أنقذه داود في مواقفٍ كثيرةٍ، دبَّر بشخصه مكائد كثيرة بلا عددٍ، ومع هذا كان داود يُقَدِّم له إحسانات مُقابِل شروره، وكان مُصِرًّا على شرِّه.
أية دعوى تُقَدِّمها بعد ذلك؟ هل اغتصبوا جزءًا من أرضك، هل اقتحموا ممتلكاتك، وتعدُّوا إلى حدود بيتك، وسرقوا عبيدك، وأَضَرُّوك، وكانوا جشعين، ونزلوا بك إلى الفقر؟ مع هذا لم يأخذوا حياتك، الأمر الذي كان ذاك الرجل (شاول) مُصَمِّمًا عليه. وإن كانوا مُصَمِّمين على أخذ حياتك، ربما حاولوا هذا في مناسبة واحدة، وليس مرة تلو المرة مثله. وإن كرَّروا ذلك مرات، مع ذلك لم ينالوا منك منافع هكذا، إذ لم يسقطوا تحت يديك مرة ومرتين وعفوتَ عنهم. وإن حدث هذا، فلا يزال داود أكثر سخاءً.
إنه لأمر مستحيل لإنسانٍ في ظل تدبير العهد القديم أن يبلغ قِيَمًا عميقة، أما الآن بعد مجيء النعمة، فقد أُعطيت مثل هذه المحاسن العجيبة.
لم يسمع داود عن مثل العشرة آلاف وزنة والمئة دينار (مت 18: 23-30). لم يسمع الصلاة التي تقول: "اغفروا لهم ما عليهم، كما يغفر لكم أبوكم السماوي" (راجع مت 6: 14). لم يرَ المسيح المصلوب، ولا الدم الثمين يفيض، ولا سمع الكلمات التي بلا عدد عن القِيَم السليمة. لم ينتفع بالبركات التي بلا عدد من القِيَم السليمة. لم ينتفع ببركات الذبيحة العجيبة، ولا اشترك في دم الرب. عوض هذا تربَّى في ظل الشرائع غير الكاملة التي لم تتطلب هذه الأمور، مع هذا نال ذروة القِيَم السليمة التي لعهد النعمة.
بينما أنتم كثيرًا ما تستاءون من أضرارٍ ماضية، وتتذمَّرون، إذا به على النقيض، فمع الخوف مما سيحدث مُستقبَلاً، ولديه إدراك كامل أنه إن أنقذ حياة الرجل، فالمدينة تفقد حصانتها بالنسبة له، وحياته تهلك، ومع هذا لم يكف عن تقديم رعاية (لعدوِّه). لقد فعل كل ما في استطاعته ليَحمِي ذاك الذي يحمل له عداوة. من استطاع أن يقتني صبرًا أعظم من هذا؟
بالنسبة لكم، فلتتعلموا أيضًا مما حدث في أيامنا. على أي الأحوال، إنه يمكننا أن نتصالح مع كل شخصٍ يحمل عداوة لنا إن أردنا. أي شيء يمكن أن يكون أكثر شراسة من الأسد، ومع هذا فالناس يُرَوِّضونه. فإن التدريب بمهارة يُقَدِّم ما هو أفضل في الطبيعة، والحيوان الأكثر شراسة، ويُحسَب ملكًا، يصير أكثر لطفًا من قطيع الغنم، ويتحرَّك في الأسواق دون أن يُسَبِّبَ رُعْبًا لأحدٍ. فأي عذرٍ لنا؟ أيّة حجة لنا إن كانت الوحوش تُرَوَّض، إن ادَّعينا بأن البشر لا يمكن تهدئتهم أو جذبهم لأخذ موقفٍ ودِّيٍ معنا؟
بالحقيقة الشراسة بالنسبة للحيوانات ترجع إلى الطبيعة، أما بالنسبة للكائن البشري، فهي ضد الطبيعة، فإن كنا نغلب الطبيعة، فأي عذر لنا عندما ندَّعي أن حرية الإرادة لا يمكن إصلاحها؟... ليتنا نُرَكِّز على أمرٍ واحدٍ، لا على عدم معاناتنا من الضرر الذي يصيبنا من أعدائنا، وإنما أن نجعلهم لا يؤذون نفوسنا. فإننا لا نضطرب حتى إن كيَّلوا لنا متاعب بلا حصرٍ. فداود لم يُعانِ من شيءٍ بالرغم من أنه طُرِدَ وصار هائمًا، كان موضع مؤامرات لإنهاء حياته، عوض هذا صار بالأكثر مشهورًا ومهوبًا أكثر من الآخر (شاول)، وصار بالأكثر محبوبًا لدى كل أحدٍ، ليس لدى البشر فقط، بل لدى الله نفسه.
فوق هذا كله أي ضررٍ حلَّ بالقدِّيس من احتماله هذا كله من شاول في ذلك الوقت؟ أليست تسابيحه يُغنَّى بها إلى يومنا هذا؟ ألم يصر مشهورًا على الأرض وبالأكثر في السماء؟ أليست خيرات لا تُوصَف تنتظره، حتى في ملكوت السماوات؟
ومن الجانب الآخر أي خير حصل عليه هذا المسكين الشقي بمكائده الرهيبة هذه؟ ألم يفقد مركزه الملكي، وحلَّ به وبابنه موت يُرثَى له، سقط تحت اتهامات وَجَّهها إليه الكل، وما هو أشر من هذا تنتظره العقوبة الأبدية التي سيلقاها؟[30]
لم نسمع عن داود أنه تذمَّر على الله الذي سمح بوجود شاول مُقاوِمًا له بكل عنفٍ. لقد حسب وجوده إحدى بركات الرب له، إذ مارس الصلاة لأجله، وطلب له الرحمة من الله، فارتفع إلى رُتْبَةِ الشهداء، ونال إكليلاً مُضاعَفًا ثلاث أو أربع مرات. بينما حُسِبَ شاول كمن قتل داود مرات ومرات، حُسِبَ داود كمن استُشهِد مرات ومرات، فهو شهيد الحب والصبر وطول الأناة.
كثيرًا ما نخسر بسبب مُداهنة الأصدقاء لنا بكلمات معسولة، أما الأعداء فيدفعوننا إلى التعرُّف على أخطائنا إن انتقدونا عن حقٍ، أو إلى التمتُّع ببركات الصبر والاستشهاد.
v ألم يُخَطِّطْ ليُحَطِّمَ حياتي، ويسعى نحو قتلي؟
يُحسَب هذا العمل بالنسبة لك استشهاد، بشرط أن تَعتبر من بين البركات التي قُدِّمَت لك هو من يُخَطِّط (مؤامرات) في عداوة ضدّك، وتبقى مُصَلِّيًا لأجله، بل تطلب من الله أن يرحمه. ليت انطباعنا في كل شيءٍ أن الله لم يمنع (شاول) من قتل داود، بل بالحري لنضع في اعتبارنا أن داود نال إكليلاً مُضاعَفًا ثلاث أو أربع مرَّات خلال مكائد شاول.
ها أنتم ترون أن الذي أنقذ حياة العدو الذي ألهب رمحه ليصوبه نحو رأسه (1 صم 19: 9، 10)، والذي كان في وضع يسمح له بطرده، ومع ذلك عفا عنه داود، مع إدراكه أنه بعد العفو عنه سيعود إلى حيله القديمة، وقد قتله مرات بلا عدد، غير أن بقتله مرات بلا حصر، نال داود أكاليل الاستشهاد. يقول الرسول بولس أيضًا: "أموت كل يومٍ لأجل الله" (راجع 1كو 15: 31)...
كثيرون يشعرون أنه إذا أُسيء إلى سمعتهم، وصاروا موضع شك بواسطة أعدائهم، فهذا أكثر من الموت، لا يمكن احتماله أيًّا كان نوعه. هلمّوا نفحص هذا جيدًا. هل تحدَّث أحد عليك بالشر، فدعاك زانيًا وداعرًا؟ إن قالوا هذا عن حق، أَصلِحْ طُرُقَك، أما إن كان كذبًا، فلتضحك عليه ولا تحتقره، بل افرحْ وتهللْ، حافظًا توجيه الرب في هذا الأمر: "طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السماوات" (مت 5: 11-12). وأيضًا: "افرحوا وتهللوا إذا أخرجوا اسمكم كشريرٍ باطلاً" (راجع لو 6: 32-33).
حتى إن كانوا مُحقّين فيما يقولون، فإن قبلتَ كلماتهم بلطفٍ بدون أن تؤذيهم أو تشتمهم، بل تتنهد بمرارة، وتدين أخطاءك، تحصد مكافأة ليست بأقل من الحالة الأولى (أي قبولك الإهانة والتعيير ظلمًا)...
الأصدقاء غالبًا ما يُداهِنوننا لأجل منفعة، بينما الأعداء يضعون خطايانا أمامنا، إذ لمحبتنا لذواتنا لا نرى سقطاتنا. في مرات كثيرة يقتني الأعداء نظرة دقيقة فينا، وذلك بسبب عداوتهم. وإذ يُوبِّخوننا، يجتذبوننا لإدراك حاجتنا إلى الإصلاح. بهذا فإن عداوتهم لنا تصير مَصْدَرًا لمنفعة عُظْمَى، ليس فقط لأننا نشكرهم على أنه بذكرهم إيَّاها ندرك خطايانا، وإنما لأننا بذلك نتخلَّى عنها. أقصد أنه عندما يُوَبِّخك عدو عن خطية يعرفها ضميرك، فتئن بمرارة وتسأل الله عنها، فإنك للحال تَتَخلَّى عن كل خطية. بالتأكيد، ليس أمر أكثر تطويبًا عن هذا؟ أي طريق أكثر سهولة للتحرُّر من الخطايا مثل هذا؟[31]
في مَثَلِ الفرِّيسي والعشَّار (لو 18: 14) يُصَوِّر القديس يوحنا الذهبي الفم الفرِّيسي وقد هاجم العشَّار حتى في صلاته قائلاً إنه ليس مثله يرتكب خطايا كثيرة وخطيرة. وقد انتفع العشَّار من مَوْقِف الفرِّيسي، فلم يُعاتِبه بكلمة، ولا برَّر نفسه، كما يفعل كثيرون، إنما بانسحاق قلب قال: "اللهم ارحمني أنا الخاطي"، فخرج مُبَرَّرًا. يُعَلِّق القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً:
v أترون اليقظة؟ لقد قَبلَ التوبيخ، وطهَّر نفسه. لقد عرف خطاياه، وتَرَكَها. الاتهام بالخطية أدَّى إلى ترك الخطية، وبغير قصد، صار عدوُّه نافعًا له. أقصد أي مجهود طُلِبَ من العشَّار لكي يسرع وينبطح أرضًا، ويسهر، ويعطي خيراته للمحتاجين، ويجلس طويلاً في التراب، حتى يتخلَّى عن هذه الخطايا؟
قيل إنه بدون أي شيء من هذا النوع ترك كل شرِّه بكلمة، بالتوبيخات وإساءة الأعداء لنا، إن قبلناها بروحٍ صادقة! فإنها نافعة لنا سواء كان ما يقولونه كذبًا أو حقيقيًا، فلماذا ننزعج؟ لماذا نبكي؟ إن لم تؤذِ نفسك، يا من أنت قابل للموت، لا يستطيع صديق أو عدو أو الشيطان نفسه أن يؤذيك.
بالحقيقة حيث أن الذين يُسيئون إلينا وينشرون الإشاعات، هؤلاء الذين تبلغ مؤامراتهم الحياة نفسها (أي يُدَبِّرون لقتلنا)، فإنهم يعملون لصالحنا، ويُضَفِّر بعضهم لنا إكليل الاستشهاد، إن قدَّمنا البرهان (العملي)، بينما يستهجن البعض خطايانا، إذا بهم يجعلوننا أبرارًا كما في حالة العشَّار، فلماذا نثور عليهم؟
ليتنا لا نقول: هذا وذاك أثارني، وفلان قادني للتصرُّف بطريقة مُشِينة. فإننا في كل حالةٍ نحن مسئولون عن ذلك. أقصد، إن كنا قد أعددنا أنفسنا لإظهار القِيَم السليمة، حتى الشيطان لا يقدر أن يدفعنا إلى الغضب. هذا واضح في داود![32]
في مقارنة القديس يوحنا الذهبي الفم لشخصية داود بشخصية الملك شاول، يبرز قوة صوت داود، فيرى في صوته قاهرًا لكل مشاعر استياء أو بغضة في قلبه، كما يراه قاهرًا لروح العداوة التي في قلب شاول وفكره.
يُعَلِّق القدِّيس على كلمات شاول: "أهذا صوتك يا ابني داود" (1 صم 24: 16)، فإنه لم يقل: "أهذه كلماتك"، بل "أهذا صوتك؟!" فقد ينطق الإنسان بكلمات لينة ولطيفة، لكن صوته لا يحمل روح الحب والحنو، فلا يكون لهذه الكلمات فاعليتها، لا في حياة المتكلم ولا في حياة المُستمِع. صوت داود أصلح أعماق داود نفسه، فضربه قلبه حين قطع طرف جبة شاول صارخًا إلى الله أن يهبه روح الحُبِّ والقوة، كما أصلح أعماق شاول الذي لم يكن قادرًا أن ينطق اسم داود ببنت شفتيه، الآن بانسحاق يقول له: "يا ابني داود".
صوت داود فتح بابًا للمنافسة بين قلبي داود وشاول، كل منهما يود أن يُكْرِمَ الآخر. فداود الذي رفض الانتقام من شاول حين كان بين يديه نائمًا يقول له "أنا عبدك، يا سيدي الملك"، حاسبًا نفسه عبدًا لمن أنعم عليه بالعفو عوض الانتقام لنفسه. وفي انسحاق، قال شاول له: "أنت أبرَّ منيّ".
إن كان الجواب الليِّن يصرف روح الغضب، فإن الصوت اللطيف يدعونا أن نَتَمَتَّع بقوة الصوت المقدس:
موسى بصوته المُتفاعِل مع الصليب (عصا الرب)، شق البحر لتقف المياه من هنا وهناك عاجزة عن الحركة، وبصوته أعاد للمياه طبيعتها.
وتلميذه يشوع بن نون بصوته أمر الشمس والقمر أن يتوقفا فأطاعاه.
وإيليا النبي بصوته توقفت السماء عن أن تُمطر، وبصوته أنزلت مطرًا. طلب من السماء أكثر من مرة نارًا فسمعت له.
والتلاميذ والرسل بأصواتهم باسم يسوع المسيح أخرجوا الشياطين وطردوا الأمراض.
ما أحوجنا أن نحمل صوت ابن داود في داخلنا، العامل في قلوبنا فتصير أيقونة لقلب ربِّنا يسوع مُحِب البشرية، والعامل في قلوب من نلتقي بهم، فيتمتَّعون بملكوت الله في أعماقهم معنا!
يُمَيِّز الذهبي الفم بين كلمات داود الرقيقة، وصوته الذي يعلن بنبرته عن روح التواضع وحب السلام. لم يقل شاول: "أهذه كلماتك يا ابني داود"، إنما قال: أهذا صوتك يا ابني داود؟" (1 صم 24: 16)، وقد علَّق القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا عن فاعلية صوت داود.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود وهو أصغر سنًّا من شاول الملك، بصبره وطول أناته تعامل مع الملك كأبٍ نحو ابنه، فلم يَقْبَلْ أن ينتقم منه، حتى وإن بذل الملك جهده لمرات كثيرة أن يتخلَّص منه. كان من ثمرة هذا العمل التقوي الوديع، أن شاول عند سماعه صوت داود انجذب إليه بروح التوبة في دموعٍ لتثور في أحشائه مشاعر أُبوَّة نحو داود، فدعاه ابنه.
v عندما تخلَّلَتْ كلمات داود (قلب شاول) نزعت عنه العداوة، وتعرَّف عليه كقدِّيس، واستبعد عن نفسه الألم (الغضب) الذي وُجِدَ فيه تحت تأثير الآخرين...
كما أنه في الليل لا نتعرَّف حتى على الأصدقاء، وعندما يطلع النهار، نعرفهم متى تَطَلَّعنا إليهم من بعيدٍ، هذا هو أيضًا الطريق الطبيعي بالنسبة للعداوة. مادمنا في خصامٍ مع آخرين، نسمع أصواتهم بطريقة مختلفة، ونَتَطَلَّع إلى وجوههم باشمئزاز، لكن عندما نترك الغيظ، فإن صوتهم الذي كان قبلاً يبدو فيه عداء، ونحسبه معاديًا، يضربنا باللطف والمَسَرَّة، ونظرتنا لهم التي كانت قبلاً فيها عداء وغير مُحَبَّبَة تَحْمِلُ اشتياقًا ونعمة.
هذا ما يحدث عند هبوب عاصفة أيضًا، فإن السحاب الكثيف لا يسمح بظهور جَمَالَ السماء. فإنه حتى إن كانت لنا نظرة ثاقبة فائقة، لا نستطيع أن نخترق السحب لنرى البهاء السماوي... لكن عندما يَحِلُّ دفء الشمس إلى لحظات، ويُبَدِّد الغيمة، تَظْهَرُ الشمس وتكشف عن جَمَالِ السماء.
هذا أيضًا ما يحدث عند شعورنا بالغيظ، فإن العداوة تعمل كغيمةٍ أمام أعيننا وفي آذاننا، وتجعل الصوت والرؤية بشكلٍ مختلفٍ. أما متى استخدم إحدى القِيَم السليمة، ينزع جانبًا العداوة، ويُبَدِّد غيمة الوصمات، عندئذ تصير الرؤية والسمع صادقيْن.
هكذا كانت خبرة شاول، عندما اخترق غيمة العداوة، تعرَّف على صوت داود، قائلاً: "أهذا صوتك يا ابني داود؟" أي نوع من الصوت كان هذا؟ إنه الصوت الذي طرح جليات، واختطف المدينة من الخطر، وأعاد كل شخصٍ كان في خطر العبودية والموت إلى السلام والحرية، وقمع جنون الإنسان، وكسب لحسابه منافع كثيرة عجيبة.
في الواقع، هذا هو الصوت الذي طرح المُتَوَحِّش المُرعِب (جليات)؛ فقوة الصلاة قهرته أمام الحَجَرِ. لم يطلق الحَجَرَ فحسب، إنما قال أولاً: "أنت تأتي إليَّ بآلهتك، وأما أنا فآتي إليك باسم رب الجنود هذا الذي أنت تَسِبُّه اليوم"، وبعد ذلك صوَّب الحَجَرَ. وجَّه الصوت الحَجَرَ، فأصاب المُتَوَحِّش، فقتل وقاحة العدو.
لماذا تتعجَّب، إن كان صوت الشخص البار يُقمِعُ السخط ويُحَطِّم الأعداء، إن كان يطرد حتى الشياطين؟
يشوع بن نون كمثال مُجَرَّد، قال: "لتقف الشمس والقمر"، ففعلا ذلك (يش 10: 12-13). بنفس الطريقة جعل (موسى) البحر يتوقَّف، وردَّه مرة أخرى (خر 14: 21، 26). هكذا الثلاثة فتية أطفأوا قوة النار، بتسابيحهم وصوتهم (دا 3: 24، 50) LXX.
هكذا تشجَّع شاول عند سماعه هذا الصوت، وقال: "أهذا صوتك يا ابني داود؟!" بماذا أجابه داود؟ "أنا عبدك يا سيدي الملك". عندئذ حدثت منافسة ومباراة، من الذي يُقَدِّم كرامة أعظم للآخر. واحد جعل من الآخر قريبًا له (ابنه)، والثاني دعاه سيده.
ما يقصده هو مثل هذا: إني مهتم بأمرٍ واحدٍ فقط؛ سعادتك وتَقَدُّمك في الفضيلة. أنت تدعوني ابنك، وأنا أُحِبُّك ومُغرَم بك، إن قبلتني كعبدٍ لك، بشرط أن تنزع عنك استياءك مني. فلا تشك فيَّ من جهة أي شر، ولا تظن إني أتآمر ضدك، وأُحارِب ضدك. بهذا تَمَّمَ الوصية الرسولية التي تأمرنا أن نتفوَّق في تكريم بعضنا البعض (رو 12: 10)، على عكس ما يجري عامة بين البشر الذين هم أشر من الوحوش، والذين لا يحتملون أن يبدأوا هم بمديح إخوتهم، مُعْتَقِدِين أنه من العار والإهانة أن يمدحوا أحدًا. أي شيء يحمل سخرية أكثر من هذه الغباوة؟ أي شيء مُخْجِل أكثر من هذا الغرور وهذا الجهل؟... إن كنتَ تبدأ بالمديح، فالله يَمْدَحك، وهو أعظم من الكل...
ليتنا لا ننتظر أن ننال الكرامة أولاً، بل نسرع لنكرِّم القريب، ودائمًا نبادر نحن بالمديح، ولا نظن أن هذه الفضيلة تافهة وقليلة، إن كنا لطفاء ومُحِبِّين في مديحنا للغير. إن أهملنا هذا، نُحَطِّم الكثير من الصداقات ونخلق عداوات كثيرة...
ليتنا لا نوجد ناقصين أيها الأحباء الأعزاء، بل نفعل هذا في غيرة. إن أمكن لنكون نحن المُبادِرين بالاهتمام بالذين نلتقي بهم، أيّا كانوا هم، وذلك بمدحهم، والاهتمام بهم في كل شيءٍ.
وإن بادر أحد فرد له التكريم بطريقة أعظم. هذا ما يحثنا عليه بولس بقوله: "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في 2: 3)[33]
نقف جميعًا بإجلال أمام موسى النبي وهو يضرب الصخرة في البرية بالعصا، فيتفجَّر ينبوع مياه يروي الشعب. وكما يقول الرسول بولس إن الصخرة كانت تتبعهم، والصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)، الذي بصليبه فجَّر ينابيع مياه النعمة الإلهية واهبة الحياة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن داود تشبَّه بموسى، أما عصاه فهي مَحَبَّته وحنوّه وكلماته اللطيفة التي ضرب بها قلب شاول الصخري أو المُتَحَجِّر، ففَجَّرَ دموعًا.
يليق بنا ألا ندهش إن رأينا البشر قد تَحَجَّرَتْ قلوبهم، فبروح الحب والتواضع والوداعة مع اللطف في المسيح يسوع تَلِين هذه القلوب، وتُقَدِّم توبة لله بدموعٍ وانسحاق قلبٍ.
v هذا ما فعله داود بكونه بادر بإظهار التكريم، وعندما قُدِّم لهم تكريم، ردَّه بتكريم أعظم، قائلاً: عبدك يا سيدي الملك". انظروا أية منفعة عظيمة اقتناها عندما قال داود ذلك؛ إذ لم يعد شاول يحتمل أن يسمع صوته دون أن يبكي. لقد بكى بمرارة مُعْلِنًا بدموعه استقامة روح داود وقِيَمه السليمة التي غرسها داود. أي شيء أكثر طوباوية من إصلاح النبي عدوَّه في وقتٍ قصيرٍ، رابحًا نفسًا عطشى للدم والقتل، وفجأة نزل به إلى النوح والتنهدات؟
إني أُعجَب به أكثر من موسى عندما أفاض مجاري ماء من صخرة صمَّاء، كما أدهش بالأكثر من داود الذي أفاض مجاري دموع من عينيْن حجريتيْن.
الأولى غلبت الطبيعة، والأخيرة غلبت الإرادة الحُرَّة.
الأولى حَدَثَتْ بضرب الصخرة بعصا، والأخيرة بضرب القلب بكلمته، لا لتُسَبِّب تلفًا، إنما لتهبه نقاوة ووداعة. الأمر الذي أحدثه في الواقع بتقدِّيم شهادة أعظم للطف أكثر من الأول.
إذ استحق داود المديح والإعجاب العظيم، لأنه لم يُلَطِّخْ سيفه بقطع رأس ذاك العدو، إلا أنه إذ قام بتغيير إرادة ذلك الإنسان، وجعله في حالة أفضل وجذبه إلى طرقه الرقيقة، استحق أكاليل أعظم.
إحسانه الأخير أعظم من الإحسان السابق. مَنْحه عطية الحياة لا تُعادِل قيادته له إلى القِيَم السليمة، سحبه من الغيظ واللهث نحو القتل الظالم، ومنعه من ارتكاب جريمة القتل، ساحبًا إيَّاه من الخبل الذي يقود إلى الخطأ الرهيب[34].
يقول الرسول بولس إنه حَارَبَ وحوشًا في أفسس (1 كو 15: 32). وقام داود النبي بترويض الملك شاول بلطفه وحنوِّه، فنزع عنه روح الوحشية والقسوة والعناد.
v عندما يكون عدوّك تحت سلطانك، لا يكن ما يشغلك هو أن تنتقم لنفسك، وبعد أن تُخضِعَه لإساءات لا حصر لها تتخلَّص منه، إنما ما يشغلك أن تهتم به، كيف تجتذبه للّطف، ولا تمتنع عن أن تعمل وتتكلم بكل وسيلة حتى تغلب باللطف وحشيته.
في النهاية ليس شيء أكثر فاعلية من اللطف. يقول أحدهم: "اللسان اللَيِّن يكسر العظام". أي شيء أكثر صلابة من العظام، ومع ذلك إن وُجِدَ أحد جامدًا وعنيدًا، فإن استخدام اللطف معه يغلبه. وقيل أيضًا: "الجواب اللين يصرف الغضب" (أم 25: 15؛ 15: 1). بهذا فإنه من الواضح أنك أنت لا عدوّك الذي تجعل الآخر هائجًا أو في مصالحة معك...
عندما ترى عدوَّك، أو يخطر على فكرك، فلتَنْسَ كل الأعمال المؤذية التي عانيت منها منه، أو ما قيل لك عنها، فإن وردت على عقلك ألقها للشيطان. بالحري اجمعْ ما سبق أن قاله أو فعله معك وكان نافعًا، فإن قُمْتَ بتغيير هذه الأمور في فكرك للحال تُحَلُّ عداوتك له...
عندما نكون في غضبٍ لن ننجح في أن نقول أو نخبر عن شيءٍ بنَّاء، ولكن عندما نتخلَّص من هذا الشعور، فإننا لن ننطق بكلمة جارحة أو نسمع آخرين ينطقون بألفاظ نابية عنه.
هذا الأمر ليس صعبًا، ففي الحقيقة طبيعة ما يُقَال تُضايقنا بسبب مشاعر العداوة التي فينا، فعندما نسمع نفس الكلمات من أصدقائنا الذين يَمْزَحون معنا، أو من أطفالٍ صغار، لا نعترض عليهم، ولا نغضب عليهم، بل أحيانًا نضحك، أو نتحوَّل عنها، فلا نسمعها بمفهومٍ ملتوٍ ولا بذهنٍ مملوءٍ غضبًا مُسبَّقًا. هكذا في حالة الأعداء أيضًا إن كنتم تطفئون روح الغيظ، وتهجرون العداوة، لا يُصيبكم ضرر من أي شيء يُقَال[35].
لا يتوقَّف القديس يوحنا الذهبي الفم عن دعوتنا للاقتداء بداود النبي في لطفه وحنوِّه لشاول الذي حَسَبَ قلبَه صخرة جامدة أو وحشًا كاسرًا أعنف من الأسود، والآن يكشف في عجبٍ عن فاعلية الحنو في حياة هذا الملك العنيف. فقد سحبه حنو داود ليتهم الملك نفسه ليس أنه شرير فحسب، إنما ما هو أبشع أنه يواجه الخير بالشر عوض أن يتغيَّر عن شرِّه. لم يتغيَّرْ قلب شاول بالحوار والجدال، إنما أفحمه داود بلطفه، فحوَّله من قاتل يشتهي سفك دم داود البار إلى أبٍ، فيدعو داود ابنه. يتحوَّل هذا الذئب إلى حَمَلٍ وديعٍ، وأتون قلبه الناري إلى ندى يُطْفِئ نيران غضبه.
v ما حدث بدقة هنا هو أن مُرتكِب الخطأ اتَّهم نفسه بنفسه بصرامة شديدة، بينما لم ينطق المُعتدَى عليه بشيء.ٍ
لم يقل مُرتكِب الشر: "لقد فعلتَ بي خيرًا" فحسب، بل قال: "لقد جازيتني خيرًا". بمعنى لقد عوَّضتني عن المكائد، وعن العنف، وعن تلك الشرور التي بلا حصر باللطف الشديد. ومع هذا لم أصر بلطفك في حالةٍ أفضل، بل في شرِّي قاومتك. عوض أن أَتغيَّر أنا، ثابرتَ أنت على سلوكك وقدَّمتَ لي الحنو.
كم من الأكاليل يستحقها داود من أجل كل حكمة من هذه الكلمات؟...
إننا نرى فضيلة داود، لا من الكلمات التي نطق بها داود فقط، بل حتى مما قاله شاول. بالحقيقة إذ قدَّم نطقه بلطفٍ ووداعةٍ، فإن هذا غيَّر الآخر (شاول)...
لقد قال شاول: "أهذا صوتك يا ابني داود؟" (1صم 24: 16). يا للتغيير العظيم الذي حدث فجأة، ذاك الذي لم يكن يحتمل أن يدعوه باسمه، عوض البغضة التي أُشير إليها، حسبه قريبًا له ودعاه ابنه. أي شيء أكثر طوباوية مما فعله داود، الذي حوَّل القاتل إلى أبٍ، والذئب إلى حملٍ، الذي ملأ أتون الغضب بندى ثقيل، وحوَّل الثائر إلى الهدوء، وهدَّأ كل لهيب الغيظ؟
اخترقت كلمات داود هذه ذهن هذا الرجل الثائر، وحققت تغييرًا شاملاً، كما يظهر من هذه الكلمات. إنه لم يقل: "أهذه كلماتك يا ابني داود؟ بل قال "أهذا صوتك يا ابني داود؟" لقد تشدَّد عزمه بالنُطْقِ ذاته، كما يسمع الأب صوت ابنه، قادمًا من مكانٍ ما، فيتأثر لا عند رؤيته، بل وعند سماع صوته. هكذا أيضًا بالنسبة لشاول عندما اخترقته كلمات داود أزالت العداوة وأدرك أنه بارٌ...
لنصغِ إلى ما قاله: "أنت أَبرَّ مني، لأنك جازيتَني خيرًا، وأنا جازيتُك شرًّا" (1 صم 24: 17). ألا ترون كيف دَانَ (شاول) شرَّه، ومدح فضيلة الرجل البار، واعتذر دون أي ضغطٍ من أحدٍ؟ لتفعلوا أنتم هكذا: عندما يكون عدوُّكم تحت سلطانكم عوض اتهامه، اعتذروا له، فيتَّهم نفسه. إن قُمْنا باتهامه، فإنه من جانبه يُثَار، بينما إن اعتذرنا نحن، يتأثر بلطفنا ويتَّهم نفسه على مبادرته. بهذه الوسيلة فإن الاتهام يكون فوق أي شك، ويتحرَّر هو من كل حقدٍ[36].
يعرف داود متى يصمت، ومتى يتكلم، وإن تكلم فبماذا يتكلم، وما هو دافعه للكلام، وما هي حدود كلامه. إنه لم يتحدث عن فضائله ومواقفه اللطيفة مع شاول، طلبًا لمكافأة أو لتعيير شاول والاستهزاء به، إنما لمنفعة شاول كي يقتدي به.
v في النهاية، إن كان فَمُ شاول قد نطق بهذا، فإن حكمة داود ومهارته هي التي زرعت هذا في قلبه. لقد قال: "أخبرتني اليوم عن الأمور الصالحة التي فعلتها معي، بعدم قتلك إيَّاي، عندما دفعني الرب بيدك" (راجع سيراخ 28: 12).
لقد قدَّم له شهادة عن فضيلة أخرى، وهي أنه قدَّم هذا الإحسان إذ لم يصمت ولا تغاضى عنها، بل جاء للتو وتكلم عنها، وهو في هذا لم يطلب الافتخار، إنما فعل هذا ليتعلَّم (شاول) خلال الأعمال ذاتها، أنه كان مهتمًا ومشغولاً به، وليس بمكائده وشروره.
أشار إلى إحسانه له، لكي يجلب منافع على أعلى مستوى. فإنكم إن فعلتم هذا وأعلنتم هذا بدون هدف صالح تكونون مُجَرَّد ساخرين (بمن قدَّمتم له المنفعة)، أما إن فعلتموه لتُقنِعوا الشخص بخطئه، وتُظهِروا إساءة فهمهم لكم، فيكون ذلك رعاية لهم ولنفعهم.
هذا ما فعله داود بدِقةٍ، إذ لا يطلب لنفسه مجدًا، بل يود أن يقتلع الكراهية التي في (شاول). هذا هو السبب لمدحه لنفسه، لنفعه ولإظهار إحسانه[37].
وقف شاول بكل إمكانياته كملكٍ عاجزًا عن تقديم مكافأة تليق بداود. لقد أدرك شاول أخيرًا أن ما قدَّمه له داود من حنوٍ وعفوٍ عن جرائمه التي ارتكبها في حقه إنما لله نفسه، لذا حسب أن الله مدين له بهذه الأعمال الفائقة، وهو وحده يستطيع أن يكافئه.
أدرك شاول أنه إن ترك له كرسي العرش مُقابِل ما قدَّمه له، فهذا لا يكفي، بهذا يُعَلِّمنا شاول أنه ليست من مكافأة بشرية يمكن أن توفي من يُحِبُّ أعداءه حقه.
v لهذا بحث عن طريقٍ لمكافأته، فوجد أنه عاجز عن تقديم ما يُقابِل ذلك، فحسب أن الله نفسه كمدين له (يرد له ما فعله من خير)، قائلاً له: "فإذا وجد رجل عدوَّه، فهل يُطلقه في طريق خيرٍ؟ فالرب يجازيك خيرًا عما فعلته لي اليوم هذا".
أخيرًا، ماذا يمكنه أن يرد له مقابل الإحسانات التي منحها إيَّاه، حتى إن قدَّم له المملكة بكل مدنها؟ أقصد إنه ليست المدن والمملكة تكفي. فقد وهبه داود حياته ذاتها، وهو ليس له حياة أخرى ليُقَدِّمها له مُقابِل ما وهبه داود. لقد علَّم كل أحد أن المكافأة التي تأتي من عند الله أعظم، عندما نُقَدِّم إحسانات بلا حصر لأعدائنا، بينما نَتَقَبَّل عكس ذلك (شرورًا) منهم.
عندئذ قال: "والآن، فإني عَلِمْتُ أنك تكون ملكًا، وتثبت بيدك مملكة إسرائيل، فاحلِفْ لي الآن بالرب إنك لا تقطع نسلي من بعدي، ولا تبيد اسمي من بيت أبي" (1صم 24: 21).
كيف (يا شاول)؟ أخبرني، هل أنت مُطَّلِع على هذا؟ أنت بجانبك الجيوش، ومعك الثروة، والأسلحة، والمدن، والخيول، والجند، ولك المصادر الملكية، بينما هذا الإنسان وحده، مهجور، ليس له مدينة يسكن فيها، بلا مأوى، فكيف يحدث هذا؟
أخبرني، لماذا تقول هذا؟ بسبب سلوكه، فإنه وإن كان إنسانًا أعزل بلا سلاحٍ، لم يكن قادرًا أن يغلب المُسلَّحين، الذين معهم معدات، لو لم يكن الله معه. أما وقد كان الله في صفه كان أقوى منهم جميعًا.
ألا ترون كيف نال شاول قِيَمًا سليمة بعد أن كان ماكِرًا؟
ألا ترون كيف صار في استطاعته أن يجتاز كل شرِّه، ويتغيَّر ويرجع إلى حالٍ أفضل؟
دعونا لا نيأس من خلاصنا، حتى وإن سقطنا في أعماق الشر، يمكننا أن نقتني ضبط أنفسنا مرة أخرى، ونصير إلى حالٍ أفضل ونترك الشر[38].
يترقَّب الإنسان في علاقته الطيبة مع الملك أن يُغدِقَ عليه الملك من كَرَمِه، حسب إمكانياته كملكٍ. الآن نرى شاول الملك يستجدي إنسانًا هاربًا من وجهه.
v ماذا قال له بعد ذلك؟ "فاحلِفْ لي الآن بالرب، أنك لا تقطع نسلي من بعدي، لا تبيد نسلي من بيت أبي" (1صم 24: 21).
يُقَدِّم الملك طلبًا لدى مواطنٍ عاديٍ. الذي يرتدي التاج، يستجدي الهارب من أجل نسله. هذه علامة فضيلة داود، يسأله بجرأة العدو. الآن، إن كان يسأله أن يحلف، فهذا ليس بسبب عدم ثقته في سلوك داود، إنما لإدراكه خطورة الضرر الذي سيصيبه. "احلفْ لي أنك لا تقطع نسلي من بعدي". لقد ترك عدوه حارسًا لنسله، ووضع ذريته في يديه، كما لو أن تلك الكلمات تأخذ هاتين اليدين، وتجعلهما شفيعتين لدى الله.
ماذا كان رد الفعل لدى داود؟ هل سخر بمرارة لهذا الموقف؟ لا، بل للحال وافق ووهبه هذا الإحسان. عند موت شاول، لم يقم بقتل نسله، بل قدَّم أكثر مما أقسم به، فإن من نسله من كان أعرج، أحضره إلى بيته، وجعله يشترك معه على مائدته، ومنحه أعظم كرامة، ولم يخجل منه. إذ لم يستبعده عن نظره، ولا حسب مائدته الملوكية تُهان بسبب الطفل العاجز، بل حسب ذلك فخرًا له وموضوع مسرَّتِه (2صم 9).
حقًا، تَلَقَّن كل الذين كانوا يتناولون معه الطعام درسًا رائعًا في القِيَم المستقيمة، إذ عرفوا أن الذي يتمتَّع بهذا التقدير معه هو من نسل شاول. الذي سبَّبَ أذى لداود، وفي خجلٍ، تعيَّن عليهم أن يكونوا في سلامٍ مع أعدائهم، حتى إن كانوا أكثر شراسة من الوحوش المُفترِسة.
حقًا، لو أنه مُجَرَّد أَمَرَ بتقديم طعامٍ من مَصْدَرٍ آخر، وقرَّر أن يضع نظامًا لمعونته، لكان ذلك أمرًا رائعًا، فكم بالأكثر أنه جعله يشاركه مائدته، فإن ذلك مثال فائق للعادة عن القِيَم الصالحة.
أقصد إنكم تعرفون جيدًا أنه ليس من السهل أن تُحِبُّوا الأعداء، فكم بالأكثر محبة أبناء الأعداء.
كثيرون عند موت أعدائهم يصبُّون الغضب على أبنائهم. لم يكن هذا الإنسان النبيل هكذا، بل اهتم بعدوِّه وهو حيّ، وعند موته قدَّم شهادة لأبنائه عن إحسانه له.
أيّة مائدة أكثر قُدْسِية من هذه، فهي تفيض بالبهجة الصالحة وبركات كثيرة هكذا؟
فالمُضِيف ملاك أكثر منه كائن بشري، يحتضن ويحب نسل ذاك الذي وضع مكائد كثيرة لاصطياد حياته، وانتهت أيامه واحتل مكانه.
لتفعلوا هكذا مثله أيها الأحباء الأعزاء، تهتمون بأبناء أعدائكم وهم أحياء وعند موتهم. وهم أحياء تربحون آباءهم بهذا، وباهتمامكم بنسل الراحلين تربحوا الكثير من إحسان الله، وتتزيَّنون بأكاليل بلا حصر، وتكونون موضوع صلوات كل أحدٍ، ليس فقط الذين يتمتَّعون بإحساناتكم، بل والذين يشاهدونكم. هذا سيكون لنفعكم في ذلك اليوم، وسيكون الأعداء مدينين لكم بالدفاع عنكم بفيضٍ في وقت الدينونة. ستُكَفِّرون عن الكثير من خطاياكم، وتتأهَّلون للمكافأة. فإنكم وإن كنتم تفشلون مرات بلا حصرٍ في رفع الصلاة المشهورة: "اغفروا لأعدائكم، فيغفر لكم أبوكم سقطاتكم"، فإنكم بكل ثقة تنالون غفرانًا لكل خطاياكم، وتعيشون هنا برجاءٍ صالحٍ، ويكون كل أحدٍ ودودًا نحوكم لصالحكم.
أخيرًا، كيف أن هؤلاء الذين يرونكم مُحِبِّين لأعدائكم ولأبنائهم لا يطلبون منكم أن يكونوا لكم أَحِبَّاء وأصدقاء، ويعملون كل شيء لأجلكم؟ وعندما تتمتَّعون بهذا الإحسان العظيم من الله، ويُصَلِّي كل أحدٍ معًا لصالحكم، فأي تعبٍ يحلُّ بكم، ومن تكون له حياة أكثر طوباوية مما لكم؟[39]
v هَبْ لي أن أكون في صُحْبتِك، يا صاحبَ القِيَم المستقيمة!
دستورك هو نقاوة القلب واستقامة النفس.
إذ لا تسمح لأحد يحتلُّ أعماقك إلا القدوس.
تُسَبِّحه النهار والليل، وتُقَدِّم له ذبيحة الشكر.
فرَّحتَ قلوب البشرية بحُبِّك ولطفك وحنوِّك.
وتمتَّعتَ بمديح الله لك لا مديح الناس.
قلبك يا ابن يسّى مثل قلب إلهك مُحِب البشر.
v رأيتُك محبًا للصمت، قليل الكلام.
في صمتك أراك أيقونة السماء المُتهلِّلة.
وفي حديثك تلهب قلبي بالحب لله وللبشر.
جذبتَ قلبي بِصَمْتِك، كما بكلماتك العذبة وتسابيحك!
v حيَّرتني، فأنت رجل الآلام، وفي نفس الوقت مُرَتِّل إسرائيل الحلو.
لم تفارقك قيثارتك، حتى وأنت طريد وهارب.
مع كل صباحٍ، تعزف مزموريْن حتى في وسط الضيق.
ومع كل مساءٍ، لا تغمض عينيك ما لم تُسَبِّح إلهك.
v اسمحْ لي أن أهمس في أذنيك متساءلاً: كيف استطعتَ أن تقنع العسكريين الذين معك،
بالعفو عن شاول الذي يحمل كل مرارة نحوك؟
كيف استجابوا لك، وهم أصحاب خبرة بالملك الشرير؟
كيف أطاعوك، وهم يدركون أن قلب شاول لن يتغيَّر؟
v أجبتني: لماذا تتعجب، وهم في كل يوم يرونني في وسط آلامي مُتهلِّلاً.
أشعر دومًا أن السماء ليست ببعيدة عني، فلم أكن أسرد لهم شيئًا عن خداعات شاول.
كانوا يرونني وأنا أسكب الدموع أمام إلهي، قائلاً:
أَصرخ إليك لتهبني القلب النقي والروح المستقيم.
أُصَلِّي من أجل تقدِّيس الشعب كله.
وألتمس منك أن تفتح عينيّ الملك ورجاله، كي يلتصقوا بك.
v كنتُ حزينًا على شاول، لأنه لم يُدرِك أني أحبه.
كنتُ مُستعِدًا أن أموت، ويحيا هو وكل الشعب.
لم أشعر يومًا ما أن نصيبي هو العرش، ولا انشغل قلبي بمجد العالم.
v لا أخفي عنك، أحيانًا كنتُ مُرَّ النفس. أرفع قلبي إلى إلهي، فتتحوَّل المرارة إلى عذوبة.
كنت أشتكي نفسي متى عبر فكر استياء عليَّ، وبدموع أنطرح أمام إلهي قائلاً:
يا سيدي، هوذا البشر يُرَوِّضون الأسود.
وهوذا الطبيعة في طاعة خدمت شعبك.
هل يصعب عليك أن تُحَوِّل شراسة شاول إلى رقة؟
هل يستحيل عليك أن تُشْرِقَ في قلبه، فتُحَطِّم الظلمة، وتطرد منه رئيس قواتها!
لتعمل نعمتك فيه، لا لكي يترفَّق بي، وإنما ليترفق بقلبه وفكره ونفسه!
v تَقَدَّم إليَّ رجالي وقلوبهم مملوءة بهجة.
إننا نخبرك ببشرى عظيمة وفريدة.
هوذا الرب الذي وعدك بالعرش يُحَقِّق وعده.
هوذا شاول نائم في الكهف بمفرده.
لتستل سيفك وتقطع رأسه كما فعلت بجليات!
هوذا اليوم يُسَلِّمه إليك، فتجلس على العرش.
ستستريح بقية أيام عُمْرِك، ونستريح نحن معك.
أشرتُ إليهم ليصمتوا، وقلتُ لهم: حاشا لي أن أُخطِئ وأمد يدي إلى مسيح الرب.
أجابوني: إنك لا تنتقم لنفسك، هوذا الرب قد سلَّمه إلى يدك!
v اقتربتُ من شاول وقطعتُ طرف جبته وهو نائم.
ضربني قلبي، وأدركتُ أنه يوجد فكر استياء فيَّ نحوه.
صرختُ إلى إلهي لينتزع كل فكر لا يُسَرُّ به.
استراح قلبي وغمرتني نعمة الله!
v خرج شاول من الكهف، وخرجتُ وراءه.
ناديتُه وسجدتُ حتى الأرض: أنا عبدك يا سيدي الملك!
سألتُه أن ينظر إلى جبّته ليُدرِكَ أنه كان بين يديَّ.
لم أرد أن ينسحق أمامي فألقيتُ باللوم على من هم حوله يشوهون صورتي قُدَّامَه.
بكي إذ شعر بحنو صوتي وبُحبِّي له.
لأول مرة يدعوني "ابنه داود"!
أَدْرَكَ أنني سأستلم العرش، وسألني أن أحلف ألا أُسِيء إلى نسله.
إنه لم يدرك ما في قلبي، فإني لن أُسيء إليه، وبعد مماته لا أُسيء إلى نسله.
v إذ روى لي داود قصته هذه، أدركتُ لماذا تجسد كلمة الله من نسله،
وقَبِلَ خالق السماء والأرض أن يُدعَى "ابن داود"!
إنه يعتز بالحبِّ، حب الإنسان لكل البشرية!
v إلهي، هَبْ لي قلب داود المُحِب!
هَبْ لي أن تنفتح كل أبواب نفسي للبشرية، فلا أعرف بين البشر عدوًّا.
أُحِبُّ الكل، وأخدم الكل، وأشتهي الموت من أجل الكل!
v جلستُ في هدوءٍ مع نفسي، وصرختُ في أعماقي:
طوباك يا من بحُبِّك لمقاوميك حُسِبْتَ مع الشهداء.
بالحبِّ لأعدائك صرتَ يا داود مُعَلِّمًا للعسكريين حولك.
بالحب تزيَّنتَ بأكاليل نصرات فريدةّ.
بالحُبِّ ضربتَ قلب شاول الحجري، فأفاضت عيناه دموعًا ثمينة!
بحُبِّك العجيب تحوَّل الكهف إلى كنيسة، وصرتَ مُعَلِّمًا وكاهنًا ومذبحًا،
بالحبِّ تحمل جنسية سماوية، تنطلق في يوم الرب إلى أورشليم العليا كما إلى بيتك.
تقف أمام العرش الإلهي كما في مسكنك!
صلِّ لأجلي لأحمل سمة الحب من ابن داود السماوي.
قدم لنا قيصريوس أسقف Arles تفسيرًا رمزيًا لقصة داود وجليات عن القديس أغسطينوس، جاء فيه:
v عندما أرسل (يسى) ابنه داود لينظر إخوته، يبدو أنه كان رمزًا لله الآب. أرسل يسى داود يبحث عن إخوته، وأرسل الله ابنه الوحيد الذي قيل عنه: "أخبر باسمك إخوتي" (مز 22 (21): 23). بالحقيقة جاء المسيح يبحث عن إخوته، إذ قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). "فقال يسى لداود ابنه: خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات واركض إلى المحلة إلى إخوتك" (1 صم 17: 17). الإيفة يا إخوة هي ثلاث كيلات؛ في هذه الكيلات الثلاث نفهم سر الثالوث. لقد عرف إبراهيم هذا السر جيدًا عندما تأهل لإدراك سرّ الثالوث في الثلاثة أشخاص تحت شجرة البطمة بممرا، فأمر أن يُعجن ثلاث كيلات دقيق (تك 18: 6). إنها ثلاث كيلات، لذلك أعطى يسى ذات الكمية لابنه. وفي العشر قطع من الجبن ندرك الوصايا العشر للعهد القديم. هكذا جاء داود ومعه الثلاث كيلات والعشر قطع من الجبن، ليفتقد إخوته الذين كانوا في المعركة، إذ كان المسيح قادمًا بوصايا الناموس العشر وسر الثالوث ليحرر الجنس البشري من الشيطان[40].
v الآن، إذ جاء داود انتهره أحد إخوته قائلاً: "لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة؟" وبخ هذا الأخ حاسدًا داود رمز ربنا، متمثلاً بالشعب اليهودي الذي افترى على المسيح الرب.
مع أنه جاء لخلاص الجنس البشري، إذ أهانوه باتهامات كثيرة: "لماذا تركت الغنم ونزلت إلى المعركة؟" ألا تحسب هذا ما نطق به الشيطان بشفتيه، حاسدًا خلاص البشر؟
أليس كمن يقول للمسيح: "لماذا تركت التسعة وتسعين خروفًا، وأتيت تطلب الخروف الواحد المفقود لترده إلى حظيرة الغنم، بعدما حررته بعصا الصليب من يد جليات الروحي، أي من قوة الشيطان؟ لماذا تركت هذه الغنيمات القليلة؟
لقد نطق بالصدق، لكن بروح شرير متعجرف. لقد أراد يسوع أن يترك التسعة والتسعين خروفًا لكي ينشد الواحد ويرده إلى حظيرته، أي إلى صحبة الملائكة[41].
v كما أن داود الذي في تحدّيه أمسك بأسدٍ، فلنطلب من داود الروحي، المسيح، أن يمسك بالأسد، ويحطم كل مجمع الوحوش[42].
v عندما مُسح داود بواسطة الطوباوي صموئيل قبل مجيئه إلى هنا قتل أسدًا ودبًا بغير أسلحة، كما أخبر الملك شاول بنفسه. لقد قتل أسدًا ودبًّا بدون أي سلاح، كما قال بنفسه للملك شاول.
يرمز كل من الأسد والدب إلى الشيطان، إذ تجاسرا على الهجوم ضد بعض من غنم داود فخنقتهما بقوته. فقد خُنقا بقوة داود، لأنهما تجاسرا ليهاجما قطيعه... كان ذلك رمزًا في ذلك حين، أيها الإخوة المحبّوبون، وقد تحقق في ربنا يسوع المسيح، إذ خنق الأسد والدب عندما نزل إلى الجحيم ليحرر القديسين من أنيابهما.
علاوة إلى هذا، فلتصغوا إلى النبي وهو يتوسل إلى شخص ربنا: "خلّص نفسي من السيف، وحيدتي من قبضة الكلب. خلّصني من فم الأسد" (مز 21: 20-21) LXX. كما تكمن قوة الدب في قدمه والأسد في فمه، هكذا يُرمز للشيطان بهذين الوحشين. هكذا قيل بخصوص شخص المسيح لكي تُسحب الكنيسة من اليد أي من قوة الشيطان وفمه[43].
يكمل قيصريوس أسقف Arles تفسيره الرمزي لقصة داود وجليات عن القديس أغسطينوس، قائلاً:
v إذ جاء داود وجد الشعب اليهودي حالاًّ في وادي البطم Terebinth لمحاربة الفلسطينيين، لأن المسيح - داود الحقيقي - كان يجب أن يأتي كي يرفع الجنس البشري من وادي الخطية والدموع. لقد وقفوا في الوادي في مواجهة أمام الفلسطينيين. كان (الشعب الإسرائيلي) في وادٍ، لأن ثقل خطاياهم أنزلهم إلى أسفل. على أي الأحوال، كانوا واقفين غير متجاسرين على محاربة الأعداء. لماذا لم يجسروا على ذلك، لأن داود رمز المسيح لم يكن قد جاء بعد.
هذا حق أيها الأعزاء الأحباء. من يقدر أن يحارب الشيطان قبل أن يحرر ربنا المسيح الجنس البشري من سلطانه؟ الآن كلمة "داود" تعني "كقوي في اليد". من هو أقوى يا إخوة من ذاك الذي غلب العالم كله متسلحًا بالصليب وليس بسيف؟!
وقف أبناء إسرائيل 40 يومًا ضد الأعداء؛ هذه الأربعين يومًا تشير إلى الحياة الحاضرة التي فيها لا يكف المسيحيون عن الحرب ضد جليات وجيشه، أي ضد الشيطان وملائكته (رقم 4 يشير إلى الفصول الأربعة للعام، 10 إلى كمال الزمن.)
من المستحيل لنا أن نغلب إن كان المسيح - داود الحقيقي - لم ينزل بعصاه التي هي سرّ الصليب. حقًا لقد كان الشيطان حرًا قبل مجيء المسيح أيها الأعزاء المحبوبون، لكن بمجيئه تحقق ما ورد في الإنجيل أنه لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي، وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً (مت 12: 29). لهذا الهدف جاء المسيح وربط الشيطان.
ربما يقول أحد: إن كان قد رُبط، فلماذا لا يزال للشيطان سلطان؟ بالحقيقة أيها الإخوة الأعزاء له سلطان عظيم، لكن على أتباعه الفاترين المهملين، الذين لا يخافون الله بالحق. إنه مربوط ككلب في سلاسل، لا يقدر أن يعض أحدًا، إلا النفس التي ترتبط به بإرادتها، باعتمادها على الأنا وهذا أمر خطير. الآن ترون يا إخوة أي غباء أن يُعضَّ إنسان من ذاك الذي هو في مركز كلب مربوط بسلاسل. لا ترافق (الشيطان) بملذات العالم وأهوائه، فلا يجسر أن يعضك. يستطيع أن ينبح ويقلقك لكنه يعجز تمامًا عن أن يعضك، ما لم تُرِد أنت ذلك.
إنه لا يؤذيك قسرًا إنما بإغرائك. إنه لا يسلبنا رضانا إنما يطلب ذلك.
جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين. لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده. ذهب رمز المسيح (داود) إلى المعركة، يحمل عصا في يده ضد جليات. بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق في ربنا يسوع المسيح - داود الحقيقي - إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحي، أي الشيطان.
لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوي جليات: في جبهته، حيث لم توجد عليها علامة الصليب. كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذي ضُرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع، لأنه هو الحجر الحيّ الذي كُتب عنه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هذا صار رأسًا للزاوية" (مز 117: 22).
وقف داود على جليات وقتله بدون سيف، إنما استخدم سيف جليات نفسه. هذا يشير إلى أنه عند مجيء المسيح يُهزم الشيطان بذات سيفه. حقًا إن الشيطان بمكره وظلمه الذي أجراه ضد المسيح، فقد سلطانه على كل المؤمنين بالمسيح.
وضع داود أدوات جليات في خيمته، ونحن كُنا أداة في يد الشيطان، لذلك يقول الرسول: "لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضائكم عبيدًا للبرّ للقداسة" (رو 6: 19). وأيضًا: "ولا تقدموا أعضائكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 13).
حقًا لقد وضع المسيح أدوات عدوه في خيمته، عندما استحققنا نحن الذين كنا مسكنًا للشيطان أن نصير هيكلاً للمسيح، وهو يسكن فينا. يؤكد الرسول أن المسيح يسكن في داخلنا بقوله: "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3: 16-17). يكرر بولس الرسول نفسه أننا نسكن في المسيح بقوله: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). ويقول ربنا يسوع لتلاميذه في الإنجيل: "إني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (يو 14: 2).
حقيقة إصابة جليات في جبهته دون أي عضو آخر يرمز إلى أمر يحدث لنا. عندما يُرشم طالب العماد على جبهته يكون ذلك بمثابة ضربة لجليات الروحي، هزيمة للشيطان. يحمل على جبهته مسحة الروح، وكأنه قد وُسم بالعبارة "قدس للرب"، خلالها يتمتع بنعم السيد المسيح التي تقدس الفكر (الجبهة) كمدخل لحياة الإنسان الداخلية.
خلال نعم المسيح يُطرد الشيطان من قلوبنا، لذا نحاول قدر المستطاع بمعونته ألا نقبل الشيطان في داخلنا مرة أخرى بإرادتنا، بأعمالنا الشريرة وأفكارنا الماكرة الفاسقة. لأنه في هذه الحالة (إن قبلناه) يتحقق فينا المكتوب... "إذ خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير" (مت 12: 43-45).
الآن، مادمنا بنعمة المعمودية قد تخلصنا من كل الشرور بدون استحقاق سابق من جانبنا، فلنجاهد بمعونة الرب كي نمتلئ بالبركات الروحية. كلما أراد الشيطان أن يجرنا يجدنا دومًا مملُوءين من الروح القدس ومرتبطين بأعمال صالحة، بهذا يتحقق فينا القول: "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 10: 22)[44].
صوّب شاول رمحه الخشبي والمنتهي بقطعة حديد حادة وقاتلة للخلاص من داود، لكن الرمح انطلق إلى الحائط لا إلى داود. هكذا إذ حاول عدو الخير أن يتخلص من رب المجد يسوع صوّب رمحه عليه، أي الصليب الخشبي والمسامير الحديدية، فأصاب الحائط أي جسد السيد المسيح، ولم يُصب لاهوته.
v عندما انسحبت الأرواح من ذلك الملك الذي كان يسكنه شياطين، إذ سبّح (داود) مستخدمًا آلته (الموسيقية) لهذا الغرض، ضربه برمحه (وهو قطعة خشب مُجهّزة بحديدٍ). لكن تلقفت الحائط الرمح عوضًا عنه. وها نحن نرى أن الحائط هو المبنى الأرضي، والذي نفهمه بأنه جسده، والذي نراه على الصليب والحديد. أما داود الذي هو المسيح والملك، فلم يتألم (بلاهوته). لأن اللاهوت لا يعاني من الصليب والمسامير[45].
أرسل شاول رسلاً إلى بيت داود لقتله، فأخبرته ميكال ابنة شاول وزوجة داود بالأمر، وأنزلته من الكوة ليلاً هاربًا فنجا. أخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب. ولما جاء رسل شاول لأخذ داود، قالت إنه مريض. وإذ صعد الرسل ليروا داود، إذا بهم لم يجدوا داود على الفراش بل وجدوا الترافيم ولبدة المعزى تحت رأسه.
يرى القديس غريغوريوس النيصي في هذا العمل، يشير داود إلى السيد المسيح الذي لم يستطع الموت أن يحطمه، بل قام، وترك الأكفان في القبر!
v اسم ميكال معناه "ملك reign"، لأن الخطية ملكت على طبيعتنا إلى ذلك الزمان...
تشير الكوّة إلى العودة إلى النور مرة أخرى في ذاك الذي عُرف للجالسين في الظلمة وظلال الموت (مت 4: 16).
ظهرت صورته على السرير، إذ قال الملاك للَّواتي كنّ يطلبن الرب في القبر: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟ ليس هو ههنا؛ لكنه قام" (لو 24: 5؛ مت 28: 6).
اللّواتي كنّ يطلبن الرب رأين القبر الذي دُفن فيه من يطلبونه فارغًا من جسده. رأين فقط الأكفان موضوعة فيه. لذلك نرى أن صورة داود على السرير تشير إلى قيامة الرب في القبر، إذ به تحقق زوال موتنا، وذلك خلال الذبيحة الكفّارية[46].
_____
[1] العهد القديم، الترجمة اليسوعية، المكتبة الشرقية، بيروت 1991.
[2] Antiquities of the Jews, 6:14:7-9 .
[3] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 309. عظة 20.
[4] In Easi 2.
[5] A Discourse on Ascetical Discipline, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 35-36).
[6] Hexam. Hom 9.
[7] Ep. 14:3.
[8] On John, Homily 28: 1.
[9] On Ephesians, Homily,4.
[10] Our Lord's Sermon on the Mount, 2:14:48.
[11] James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, N.J, 1972, article 362.
مراجع المُلحق:
[1] Baker’s Pictorial Introduction to the Bible, 1967,13 1 Chronicles.
[2] Rev. Chrysostomus Baur: John Chrysostom and His Time, Translated by Sr. M. Gonzaga, Belmont USA, 1988, vol 1, part 1, p. 104 f.
[3] N & PNF, s.2, vol 9, p11.
[4] Soz, 8: 23. Theodoret 5: 20.
[5] St. John Chrysostom, Old Testament Homilies, volumes 1, Homilies on Hanna, David and Saul, translated by Robert Charles Hill, 2003. (PG 54:675-708)
[6] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[7] PL 93:104
[8] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[9] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[10] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[11] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[12] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[13] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[14] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 1.
[15] Epistle 1:35:6.
[16] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[17] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[18] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[19] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[20] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[21] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[22] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[23] غالبًا ما ألقى القدِّيس هذه العظة قبل وصول بطريرك أنطاكية ومعه قرار العفو، فقد كانوا منزعجين ومُرتبكِين، ودموعهم لا تجف. لذا طالبهم القدِّيس أن ينظروا داود الذي لم ينزعج لما يحلُّ به بسبب عداوة شاول له، إنما كان يحبه ويحب ناثان ابنه في حياتهما كما عند مماتهما. لقد سكب الدموع عليهما بكل إخلاص! هكذا يليق بأهل أنطاكية أن يتطلَّعوا إلى الإمبراطور بكل حبٍ وتقديرٍ، فيُحوِّلوا الدموع المُرَّة بسبب الضيقة إلى دموع حبٍ! هنا إذ يتحدَّث عن شخص داود النبي، يشتهي أن يقترب المستمعون إلى داود ويلتصقون به، ويعيشون معه، فيرسمون صورته في أعماق نفوسهم، ويشاركونه حياة البرِّ التي يعيشها في الرب، ويتمتعون بالقِيَم السامية التي يعتنقها ويعيشها.
[24] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 2.
[25] إذ يتحدث عن منع غير التائبين من الشركة في الأسرار الإلهية، يرى بعض الدارسين أن هذه العظة ليتورجية ألقيت أثناء القداس الإلهي (سرّ الإفخارستيا).
[26] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[27] In Ego Don PG 56: 146.
[28] Ep. ad Olympias 2: 9.
[29] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[30] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[31] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[32] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[33] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[34] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[35] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[36] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[37] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[38] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[39] St. John Chrysostom, Homilies on David and Saul, Homily 3.
[40] Caesarius of Arles: Serm. 121:1, 2. راجع تفسير 1 صم 17 من سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"
[41] Caesarius of Arles: Serm. 121:3. راجع تفسير 1 صم 17 من سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"
[42] Fragments on Jeremiah 28:1.
[43] Caesarius of Arles: Serm. 121:4. راجع تفسير 1 صم 17 من سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"
[44] Caesarius of Arles: Serm. 121:5-8. راجع تفسير 1 صم 17 من سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"
[45] On the Inscriptions of the Psalms 2:16:269-270.
[46] On the Inscriptions of the Psalms 2:16:372-73.
← تفاسير أصحاحات أخبار أول: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أخبار الأيام الأول 11 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير أخبار الأيام الأول 9 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/4jtmhfv