← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28
القسم الأول من سفر المزامير [1-41] يمثل سفر التكوين، وما يشغل قلوب المرتلين هو خلاص كل إنسانٍ بالمسيَّا. وفي القسم الثاني [42-72] يمثل سفر الخروج وما يشغل قلوبهم هو خلاص الكنيسة بالمخلص. وهذا القسم الذي يمثل سفر اللاويين ما يشغلهم هو الهيكل الجديد ابتداءً من خرابه حتى إقامته وتكميل بنائه وبركته.
في هذا القسم يُشار إلى الهيكل أو المَقدِسْ تقريبًا في كل مزمور. سرّ عظمة الهيكل هو أنه يمثل مسكن الرب الإله وسط شعبه على الأرض. إنه يود أن يتحدث معهم، ويعلن أحكامه وخلاصه لهم. إنه يظهر لشعبه ويحفظهم، وهم يقتربون إليه بالصلاة والتسبيح لله في هيكله.
ما ورد هنا يحثنا على اللقاء مع رئيس كهنتنا الأعظم، ربنا يسوع المسيح، الذي يخدم الهيكل السماوي، يدخل بنا إلى مفهوم جديد للعبادة.
تُنسب المزامير 73-83 لآساف، ومزامير 84-88 لقورح ماعدا مز 86 لداود النبي؛ والمزمور 89 لإيثان.
المَزْمُورُ الثَالِثُ وَالسَبْعُونَ
كثيرًا ما نقف مع آساف في حيرة حين نرى الأشرار ناجحين وأغنياء، وفي ترفٍ وسعادة [2-12]، بينما يعاني الأبرار من المتاعب والتجارب والضيقات [13-14]، فنتساءل: أين هي العدالة الإلهية؟
واجه المزموران 37 و49 نفس المشكلة، لكن هذا المزمور واجه هذه المصاعب بأكثر صراحةٍ. واجه أيوب وإرميا أيضًا ذات المشكلة.
وردت كلمة "قلب" ست مرات في هذا المزمور؛ حالة القلب تكشف إن كان الشخص يعيش في الحق، له خبرة حياة مع برّ الله وصلاحه، أو إن كان بعيدًا عن الحق الإلهي.
آساف: بحسب ما ورد في أخبار الأيام (1 أخ 23: 2-5) قسّم داود اللاويين الثمانية وثلاثين ألفًا إلى أربعة أقسام (24000 + 6000 +4000 + 4000). القسم الأخير مكون من
4000 لاويًا، عُينوا للجانب الموسيقي للعبادة. من هذا القسم مجموعة مختارة من 288 مغنيًا ينقسمون إلى 24 فرقة تحت قيادة قادة للتسبيح من بينهم آساف وجرشون Gersho. كان آساف يضرب على الدفوف. نفهم من (1 أي 16: 5) أنه كان إمام الموسيقى المقدسة؛ وبجانب كونه موسيقيًا كان واضعًا للمزامير ونبيًا. هذا ويرى بعض الآباء والدارسين أن المزامير المنسوبة لآساف أو غيره من الموسيقيين هي من وضع داود النبي، وأنه قدمها لهم لوضع اللحن الموسيقي لها.يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "آساف" تعني "المجتمع"، وليس بالضرورة المجتمع اليهودي الذي قتل الرب يسوع. فمن المجتمع اليهودي تخرَّج أبناء الكباش، أي الرسل مثل بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وبرثلماوس وغيرهم من الرسل. هؤلاء كانت تعبر عليهم أحيانًا ما جاء في المزمور أفكار مرّة عن نجاح الأشرار. لكن سرعان ما يكتشفون الحق الإلهي.
* يقول البعض أن المزامير كلها لداود، وهي من وضعه. وأما آساف وغيره من رؤساء المرتلين فتُعنون أسماؤهم على بعضٍ منها، لأن المذكورين أوقعوا نغماتها على الآلات الموسيقية.
1 إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ. 2 أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي. 3 لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ.
يقف المرنم في حيرة، فهو لا يشك في صلاح الله وبرّه وعدله [ع1]، لكنه عاجز عن تفسير مشكلة الشر، إذ يرى المتكبرين والمتشامخين في ترفٍ عظيمٍ. لعله كان يخشى لئلا تنحرف قدماه عن الحق، ويجتذبه نجاح الأشرار، أو يشك في عدالة الله ضابط الكل، أو أن عبادته لله وطاعته لوصاياه لا ينفعه في شيءٍ.
*الآن فلنقترب من تلك الصلاة التي وجدناها في المزامير، وقد تحدث داود نفسه في عدة نصوص عن الأباطيل العالمية. يؤكد دومًا أن خيرات هذا العالم المزعومة باطلة، خاصة في المزمور الثامن والثلاثين الذي يقول فيه بالحقيقة كل الأشياء باطلة. كل إنسان حي يسير في صورة الله، إلا أنه باطلًا يضج (يقلق). يُذخر ذخائر ولا يدري مَن يضمها! (مز 39: 5-7). وفي نص آخر يقول: "حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يتمجدون؟" (راجع مز 94: 3)، لأن لهم هنا ظِل المجد، لكن حين يرحلون عن الحياة لا يحظون بمنفعة الفداء. ولا يزال داود نفسه يضم إلى المجموعة مزمور 72 الذي يعلن فيه، تحت عنوان آساف (مز 73: 1) أنه سقط في بادئ الأمر تقريبًا في هذا الأمر، تصارعه آلام غير قليلة، إذ رأى الأشرار أثرياء وأغنياء في هذا العالم، ينعمون بالرغد والوفرة، بينما هو، الذي يبرر قلبه (قابل مز 73: 13) [أو يزكىَّ قلبه]، كان تحت الآلام والضيقات!
وها هو يستاء اِستياءً شديدًا في بادئ الأمر، لكنه يقوم فيما بعد ويستنير بضربات الرب، ويتعلم سيرة من يخضع خضوعًا حقيقيًا بموهبة معرفة الله [1].
*لا أجد في أي مكان أن آساف البار قد اِضطرب بأية ضيقة، بينما احتمل داود فعلًا العديد من المتاعب الشديدة المحفوفة كلها بالمخاطر. لأنه يتحدث عن أتعابه هو، وعلى هذا الأساس استمد المزمور عنوانه، لا كأنه عن "آساف البار"، بل "لأجل آساف البار". كما يظهر في النسخة المتاحة. وينكشف ذلك بالأكثر من المزامير المكتوبة باللغة اليونانية، حيث يظهر داود على أنه صاحب المزمور شخصيًا، الذي كُتب للمدعو آساف ولآخرين أيضًا لينشدوه. لكنه مكتوب أيضًا في نفس العنوان، إن مزامير داود انتهت (قابل مز 72: 20)، ومع هذا فكيف انتهت أو تمت؟! لأنه بعد استمرارنا في قراءة المزامير العشرة التالية، تظهر العناوين متضمنة "مزامير لداود" بل حتى النهاية! [2]
إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ،
لأَنْقِيَاءِ القَلْبِ [1].
قبل أن يعلن المرتل مرارة نفسه التي يجتاز فيها أحيانًا حين يرى الأشرار المقاومين لله ولمؤمنيه يعيشون في رغدٍ، ويتمتعون بسلطانٍ، يؤكد أنه واثق في صلاح الله وبرِّه وعدله.
لا يكف المؤمن الحقيقي عن التسبيح لله وتمجيده، حتى وإن بدت الأمور حوله فيها كثير من الارتباك.
*"يا لصلاح إله إسرائيل"، ولكن لمن؟ "لأناسٍ مستقيمي القلوب" (راجع مز 73: 1)... هكذا يقول في مزمور آخر: "مع القديس تكون قدوسًا، مع الطاهر تكون طاهرًا، ومع الأعوج تكون ملتويًا" (مز 18: 25). لا يمكن أن يكون الله بأية طريقة ملتويًا. حاشا! فما هو عليه هو عليه! ولكن كما أن الشمس تبدو لطيفة لمن له عينان نقيتان سليمتان معافتان وقويتان، فهي بالنسبة للأعين الضعيفة تبدو كالسهام القاسية المندفعة ضدها. تنعش الأولى، وتضر الأخيرة، مع أنها هي نفسها لم تتغير، إنما الإنسان هو الذي يتغير. هكذا عندما تبتدئون في الاعوجاج مع الله، يبدو الله لكم ملتويًا. فما يكون لكم عقابًا يكون بالنسبة للإنسان الصالح فرحًا [3].
*"إنما صالحٌ الله لإسرائيل لأنقياء القلب" (مز 73: 1). يتضح النمو في الكمال الفضائلي (الأخلاقي) منذ بدايات المزمور. فلا يمكن حقًا لأي إنسان أن يقول إن الله صالح إلا الذي يعرف هذا الصلاح، لا من نجاحه الذاتي، ولا من ثرواته، بل من عمق الأسرار السماوية، وسمو مقاصد الله. لأنها تُقدر لا بمظاهر الأشياء الحاضرة، بل بمنافع الأشياء العتيدة (المستقبلة أو الآتية)، ومن ثم فالله صالح دائمًا للبار، سواء تعذب هذا البار بالآلام الجسدية، أو سادت عليه العقوبات المرة، فهو دائمًا يقول: "إن كنا قد قبلنا الخيرات من يد الرب، فلماذا لا نحتمل السيئات؟" (أي 2: 10) LXX. فهو يتهلل، لأنه يتأدب (يعاقب) هنا، ليجد تعزية في المستقبل.
إنه يدرك أن من نال الخيرات في هذه الحياة، قد نال جزاءه (مت 6: 2). والإنسان الذي لم يجاهد أو يُجرب في صراع متعدد الصعاب، لا يقدر أن يكون له رجاء في المجازاة العتيدة.
لكن الذي يتألم ويصارع... يتهلل في هذا العالم، إما لأنه يدفع ثمن خطاياه هنا، أو لأنه يعرف أن ثمة نعمة وفيرة فائضة مع الرب، إن كان يتألم ظلمًا عن اسم المسيح، أو لأجل عمل صالح، فمكتوب: "لأنه أي مجد إن كنتم حين تُخطئون تُعاقبون وتحتملون (العقاب)، بل إن كنتم تصنعون خيرًا وتتألمون، فهذا فضل (نعمة) عند الله، لأنكم لهذا دُعيتم حقًا. فإن المسيح مات أيضًا لأجلنا تاركًا لنا مثالًا؛ لكي تتبعوا خطواته، الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد!" (1 بط 2: 20-23).
هكذا البار، حتى وهو في عمق الضيقة يظل بارًا. لأنه يبرر الله ويتوب، معترفًا أن آلامه أقل من خطاياه، متعهدًا أن يبقى حكيمًا دائمًا. لأن الحكمة الحقيقية الكاملة لا تُسلب بعذابات الألم والضيق، ولا تفقد طبيعتها، لأنها تُلقي الخوف خارجًا بمقصدها الغيور المحب (قابل أي 4: 18). تمامًا كما يعرف الحكيم أن الآلام في هذا الجسد لا تقارن بالمجد العتيد، وأن جميع آلام الزمان الحاضر، لا يمكن أن تساوي المجازاة العتيدة (رو 8: 18).
لهذا فإن الله بالنسبة له الذي يعرف زمان الحصاد، هو صالح دائمًا. وكمزارع صالح، يحرث حقله هنا بمحراث الامتناع الصارم عن (الشهوات) حقًا. ويُنقي أرضه هنا بمنجل الفضائل الذي يستأصل الرذائل إن جاز التعبير. وهو يُسمَّد هنا بتواضعه وانسحاق نفسه حتى الأرض، لأنه يعرف أن "الله يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة" (مز 113: 7).
حقًا لو لم يُحسب بولس الرسول العالم كنفاية (dung) ما استطاع أن يربح المسيح نفسه (في 3: 8). ومثل هذا الإنسان يسهر على محصوله هنا، ليُخزِّنه فيما بعد هناك دون هَمٍ. ولهذا فالله بالنسبة له دائمًا صالح؛ لأنه يرجو دومًا الصالحات من الله.
تأملوا نقطة أخرى، "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" (مز 73: 1). فهل الله ليس صالحًا للجميع؟
حقًا هو صالح للكل، لأنه مخلص جميع البشر، خاصة للمؤمنين. لهذا أتى الرب يسوع ليخلص ما قد هلك (لو 19: 10).
حقًا جاء ليحمل خطية العالم" (يو 1: 29)، وليشفي جراحتنا، لكن ليس الجميع يرغبون في العلاج! كثيرون يتجنبونه! لئلا يَحقن القُرح بالعقاقير، ويفقد سطوته. لهذا السبب يشفي الذين يريدون الشفاء ولا يرفضونه.
لهذا من يرغبون في العلاج يستعيدون صحتهم، أما الذين يقاومون الطبيب ولا يطلبونه فلا يتمتعون بصلاحه، لأنهم لا يختبرونه! ومن نال الشفاء يستعيد صحته. لهذا فالطبيب صالح بالنسبة للذين أعاد إليهم عافيتهم.
من ثَمّ الله صالح لأولئك الذين غفر خطاياهم، لكن إن كان لإنسان خطية لا علاج لها في روحه، فكيف يُقيِّم الطبيب على إنه صالح، بينما هو يتحاشاه؟ ولهذا كما قلت قبلًا، شرح الرسول بحق أن الله "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1 تي 2: 4)، هو صالح لكل الناس.
أما نعمة صلاح الله الخاصة، فهي مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين الذين ينالون عونًا من إرادته الصالحة ونعمته. لكن حين يقول المرتل أيضًا: "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" فإنه ينقل مشاعر الذين لا يعرفون كيف يتمتعون بما يخص الله، عدا أنه صالح نحو كل شيء وهو في الكل [4].
لعل المرتل هذا يقصد أن الله صالح لكنيسته (إسرائيل الجديد)، التي يليق بها أن يكون أعضاؤها أنقياء القلب.
الله صالح ومحب لكل البشرية، خاصة الذين يتمتعون بنقاوة القلب.
أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ.
لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي [2].
إن كان المرتل يُزكي نفسه، أنه يؤمن بصلاح الله، ويراه صالحًا، لكنه يبقى حذرًا من نفسه، لئلا تزل قدماه عن استقامة القلب ونقاوته، فيتشكك في صلاح الله. "من كان قائمًا فليحذر لئلا يسقط".
* تقال الأقدام والخطوات عن الأفكار. هذه استعارة لطيفة، لأنه كما أن الأقدام والخطوات تنزلق في الطريق الشاقة، كذلك الأفكار إذ تتعلق في وقت الشدائد، تنزل إلى ما لا يليق.
*متى تتحرك القدمان إلا عندما لا يكون القلب مستقيمًا... تتحرك القدمان لتسلكا في الضلال، وتزل الخطوات للسقوط، ليس بالكامل وإنما "كادت" أن تسقط.
*فيما يلي حقًا يضع داود خبرته الشخصية حين يقول: "أما أنا فكادت تزل قدماي، كادت تزلق خطواتي، لأني غرت من الخطاة، إذ رأيت سلام الأشرار!" (مز 73: 2-3)، وهو بالتأكيد لا يتحدث عن أقدام جسدية، ولا عن خطوات جسدية، بل عن استقامة القلب التي يقول عنها في مزمور آخر: "لا تأتني رجل الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحني" (مز 36: 11). لهذا يجب علينا دائمًا أن نسأل الرب، ليرشد خُطى أرواحنا، لئلا تقسط وتنزلق في نوعٍ ما من مستنقع الخطأ! فلا نقوى على الثبات. أيضًا سبب سقوط داود أنه غار من سلام الأشرار (الخطاة). لكننا ينبغي أن نغير في الحُسنى (في الصالحات)، لا بما هو ملآن خزيًا، كما يقول الرسول بولس أيضًا: "حسنة هي الغيرة في الحسنى كل حين" (غل 4: 18) [5].
يرى القديس جيروم أن الحديث هنا بخصوص الهراطقة الذين وإن كرروا اسم المسيح، لكن الله لا يسكن في وسطهم، إذ يكرمون الله بشفاههم وقلوبهم بعيدة عنه. إنهم يتآمرون ضد الكنيسة [6].
*لنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات... لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظةٍ وحذرٍ لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا، فكادت تزل قدماي" [ع2]. كأن النبي يقول: يلزمنا ألاَّ نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها [7].
لأَنِّي غِرْتُ مِنَ المُتَكبِرِينَ،
إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ [3].
يقدم لنا المرتل السبب لخوفه من أن تزل قدماه وتنزلق خطواته، ألا وهو ما يتمتع به الأشرار المتكبرون من سلام. إنه سلام العالم وليس سلام المسيح الداخلي.
*ألاحظ الخطاة وأراهم في سلامٍ. أي سلام؟ سلام وقتي، زائل، ساقطً، أرضي، ومع هذا فأنا أطلب هذا من الله. أرى الذين لا يخدمون الله ينالون ما أشتهي لكي ما أخدم الله [8].
*لا ترتبكوا لحقيقة أنه حسب السلام شرًا. فإنكم تجدون حقًا في الإنجيل أيضًا سلامًا يرفضه المسيح، كما يقول هو نفسه: "سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم، أعطيكم أنا" (يو 14: 27) لأن هناك سلام لا يكون حجر عثرة، وسلامًا يكون! أما الذي لا يكون حجر عثرة فهو سلام الجسد، والذي يعثر هو سلام التظاهر (الرياء). لهذا أيضًا يقول النبي: "سلام سلام، وليس سلام" (حز 13: 10). فليهرب إذن من سلام الأشرار، لأنهم يتآمرون ضد البريء ويجتمعون على مضايقة البار (حك 2: 12)، ويقهرون الأرملة ويسحقون تواضعها! [9]
4 لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. 5 لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَّاسِ، وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ. 6 لِذلِكَ تَقَلَّدُوا الْكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ. 7 جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ الشَّحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ الْقَلْبِ. 8 يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالشَّرِّ ظُلْمًا. مِنَ الْعَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ. 9 جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ. 10 لِذلِكَ يَرْجعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ. 11 وَقَالُوا: «كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ؟ وَهَلْ عِنْدَ الْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟» 12 هُوَذَا هؤُلاَءِ هُمُ الأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى الدَّهْرِ يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً. 13 حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلًا وَغَسَلْتُ بِالنَّقَاوَةِ يَدَيَّ. 14 وَكُنْتُ مُصَابًا الْيَوْمَ كُلَّهُ، وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ.
أمام هذه المشكلة الخطيرة رأى المرتل أن العلاج هو عرضها على الله نفسه في الهيكل المقدس. هذا ما فعله حزقيا الصالح حينما أرسل إليه أشور يهدده، فقد بسط الرسائل كلها أمام الرب (2 مل 19: 14). هكذا يمكن للمؤمن إذ يعرض مشاكله بصراحة وإيمان أمام الرب في هيكله المقدس، يجيبه الرب ويقدم له الحلول.
عندما تطلع المرتل إلى مستقبل الأشرار غيَّر فكره [ع17-19]، وخجل من نفسه [ع21-22]. لقد اِكتشف أن الأشرار سرعان ما يختفون، ويسقطون في شباك خداعهم.
لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ،
وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ [ع4].
لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَاسِ،
وَمَعَ البَشَرِ لاَ يُصَابُونَ [ع5].
لا يقف الأمر عند تمتع الأشرار المتكبرون بالسلام الزمني، وإنما كثيرًا ما لا تصيبهم كوارث عند موتهم، ولا يصابون بالأمراض، وكأنهم نوع خاص من البشر، لا يشاركون بقية البشرية متاعبهم ومصائبهم.
يرى القديس أغسطينوس أنه لا يجوز لنا أن نحسد الأشرار فإن إبليس نفسه لا تصيبه كوارث ومصائب، لكن جهنم محفوظة له.
*أليس الشيطان نفسه لا يتعرض لكوارث مع البشر، ومع هذا فقد أعد له عقاب أبدي؟ [10]
* إنهم لا يحرثون ولا يزرعون ولا يحصدون ولا يتعبون بعمل الأيدي، كما أمر الله بالعمل الذي صار جلدًا وتأديبًا للبشر على معصية آدم، كقول الله: "بعرق جبينك تأكل خبزك".
*يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أن الذين يدنسون أنفسهم بكل صنوف الخطايا والشر ومع ذلك لا توجد علامات منظورة لملكية الشيطان عليهم (أي أن تُجرب أجسادهم)، ولا تحل بهم أية تجربة تتناسب مع أفعالهم، ولا يتحملون أي عقاب، هؤلاء بؤساء وأشقياء. لأنه لا يوهب لهم علاج خفيف وسريع في هذا العالم، بل بسبب غلاظة قلوبهم يستحقون عقابًا أشد في تلك الحياة، إذ يذخرون لأنفسهم "غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5)، حيث "دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ" (إش 66: 24).
كأن النبي قد تحيّر إذ رأى القديسين يخضعون لخسائر متنوعة وتجارب، بينما رأى الأشرار ليس فقط يعبرون حياتهم في هذا العالم بغير أي تأديب مملوء ذلًا، بل يتمتعون بغنى عظيم وتنعمٍ وفيرٍ في كل شيء. فاشتعل النبي بغيظٍ غير مضبوط وغيرة، معلنًا: "أما أنا فكادت تزلُّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنهُ ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يُصابون" (مز 73: 2-5). إذ يعاقبون فيما بعد مع الشياطين، لأنه لم يوهب لهم في هذه الحياة أن يؤدبوا مع بني البشر في عِداد الأبناء [11].
*رأينا أن الغني الذي كان يرتدي الأرجوان والبز والحرير (لو 16: 19-24) في عالمه قد اتكأ إلى مائدةٍ، وأقام وليمةً كبيرةً كل يوم. وحينما كان في عذاب الجحيم (الهاوية)، لم يستطع أن يستلقي ويستريح، لكن في صعوبةً بالغة رفع عينيه فقط إلى إبراهيم ، ولم يرفع جسده كله، وسأله أن يرسل لعازرَ ليغمس طرفَ إصبعه فقط في الماء ليبلل لسانه. لهذا "ليس في موتهِ راحة، ولا في ضيقته قوة" (مز 73: 4)، لأنه لا قيمةَ للضربات بعد الموت.
لهذا وبينما كان داود في حياة الجسد، استعد للضرباتِ ليقبله الربُ كواحدٍ قد خضع للتأديب.
فكروا مرةً أخرى، أرجوكم، في أيوب القديس الذي تغطَىَ جسدهُ كلهُ بالقروح، وعانت كلُ أطرفه من الضيقات، وامتلأ جسدهُ كلهُ ألمًا، حتى أذاب كتل أوراق الأرض بإفرازات جراحه الفاسدة، وإذ لم يقدر أن يستريح في هذا الجسد، وجد الموت راحة له! وإذ فكر في حاله قال: "الموت راحة للإنسان".
لهذا لم يتوتر لآلامه وينزعج، ولا تقلقل في ترك حديثه. لأنه كما يشهد عنه الكتاب المقدس: "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). بل بالحري وجد قوةً في معاناته وآلامه!
بها تقوَّى في المسيح. لهذا فإن كلًا من أيوب وداود لأنهما ضُربا (تأدبًا) هنا، كانت لهما قوة في ضيقاتهما، لأن "الأبَ يؤدبُ الابنَ الذي يقبله" [(أم 3: 12) LXX؛ (عب 12: 6)]. لكن الذين لا يُؤدَبون هنا، لا يُقبلون كبنين هناك! وهناك هم "ليسوا في تعبَ الناس، ومع البشر لا يصابون" (مز 73: 5)، لأنهم يُضَربون مع الشيطان إلى الأبد [12].
* يسأل إرميا: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" (إر 12: 1) لأنه مكتوب: "لأن الرب مكافئ طويل الأناة" (راجع 2 تس 1: 5).
غالبًا ما يضع زمانًا طويلًا للذين سيدينهم أبديًا. لكن أحيانًا يضرب الله سريعًا، ليسرع بمساندة الأبرياء الخائفين. هكذا أحيانًا يسمح الله القدير للشرير بزمنٍ طويلٍ حتى يتطهر بالأكثر طريق الأبرار. وأحيانًا يقتل الأشرار بخراب سريع، حتى بهلاكهم يُقوي قلوب الأبرار [13].
لِذَلِكَ تَقَلَّدُوا الكِبْرِيَاءَ.
لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ [6].
إذ يتحدث المرتل عن مرارة نفسه من جهة الظالمين، غالبًا ما كان يتطلع إلى بعض العظماء وأصحاب المراكز العليا الذين يمارسون الظلم في عجرفة. وبروح الكبرياء يحسبون كأن ليس إله ليردعهم. إنه يتطلع إلى أطواق الذهب التي يقلدون بها رقابهم وثيابهم الثمينة، فيرى أن وراء هذه القلادات الذهبية توجد سلاسل تكبل نفوسهم، ووراء الثياب الزاهية الثمينة يوجد رداء الظلم تلتحف به أعماقهم.
يزيِّنون أجسامهم بالذهب والثياب الفاخرة، لكن نفوسهم عارية بسبب الكبرياء والظلم.
يرى القديس أغسطينوس في هؤلاء الأشرار الظالمين أنهم يزينون الخارج بالقلادات والثياب الفاخرة، فيحسبهم من يراهم أنهم في غاية السعادة. لكن هذا المظهر يخفي أعماقهم التي لا يراها الأشرار أنفسهم ولا الذين حولهم. من الخارج سعادة وقتية وصحة وغنى وسلطان، وفي الداخل قلق ومخاوف وضمير معذب ولا راحة!
* "لذلك تقلدوا الكبرياء" [6]. لاحظوا هؤلاء الناس المتكبرين الذين بلا انضباط!
لاحظوا الثور المُعد للذبح، فإنه يُسمح له أن يبقى في حرية، ويخِّرب ما يريد، وذلك حتى يحل يوم ذبحه...
يشير الكتاب المقدس في موضع آخر أنهم كمن هم يُعدون للذبح، وتُركت لهم الحرية الشريرة (أم 7: 22)...
إنهم يتغطون من كل الجوانب بشرورهم. يستحقون بحقٍ أن يكونوا بؤساء، إذ لا يرون ولا يُرون، لأنهم مرتدون ثيابًا، ولا يُنظر ما في داخلهم. لأنه من يستطيع أن يرى ما بداخل الأشرار، يدرك أنهم سعداء إلى حين، ويمكنه أن يرى ضمائرهم المعذبة، ونفوسهم مُغلفة بقلاقل مذهلة من جهة الشهوات والمخاوف، ويراهم بؤساء حتى وهم يُدعون أنهم سعداء [14].
*سيَطر عليهم كبرياؤهم، وتغطوا بآثامهم وشرهم (مز 73: 6). فالإثم يوفر غطاءً رديًا.
إن أراد أحدٍ أن يكسونا به يجب علينا أن نخلعه، وإلا يأتي معنا إلى القضاء (الدينونة).
وإن حاول أحد أن يخلع رداءنا الروحي الذي تسلمناه لا نقبل ذلك.
اخلعوا ثوبَ الإثمِ، والبسوا غطاء الإيمان والصبر الذي بهما غطى داود نفسه في الصوم، لئلا يفقد ثوب الفضيلة. الصوم نفسه غطاء، فحقًا ما لم يغطِ الصوم المقدس القديس يوسف لعّرتَه الزانية الشهوانية (قابل تك 29: 12).
لو أن آدم اختار أن يغطي نفسه بذلك الصوم لما تعرَّى! لكن لأنه تذوق من شجرة الخير والشر، معاندًا المنعَ السماوي، ومتعديًا على الصوم (كاسرًا لقانونه)، الذي فُرض عليه بتناوله طعام "الانصياع للشهوة الحسية"، فقد عرَفَ أنه عريان (قابل تك 3: 6-11). لو صام لحفظ ثوب الإيمان، وما رأى نفسه عاريًا. فلننأى نحن عن تغطية ذواتنا بالإثم والشر، لئلا يُقال عن أحدنا "لبس اللعنة كثوبٍ" (مز 109: 18). فقد كسا آدمُ نفسه بكساءٍ ردي، وراح يتلمس أغطية من أوراق الشجر! لهذا نال حُكم اللعنة. (تك 4: 11) ولبس اليهود لعنةً؛ إذ كُتِب عنهم: "حفظ إثمهم كما الشحم (الدهن)، جاوزوا تصوراتِ قلوبهم" (مز 73: 7)، لأنه من "الدهن" تشتق كلمة "سمين" أي "غني" [15].
*عندما كان الإسرائيليون في محنة كانوا يزدادون بالأكثر في العدد، ولكن عندما تركهم لأنفسهم هلكوا جميعًا. ولماذا نتحدث عن أمثلة من القدماء؟ ففي وقتنا هذا، لننظر أليس الأمر هكذا، عندما يكون الغالبية في حال يُسرٍ، ينتفخون، ويعادون كل أحدٍ، وينفعلون بالغضب عندما تكون لهم سلطة... ولكن عندما تزول عنهم السلطة يصيرون لطفاء ومتواضعين، ويشعرون بحالهم الطبيعي. لهذا يقول الكتاب: "الكبرياء أمسك بهم إلى النهاية، انطلق الشر كما من السمنة" (راجع مز 73: 6) LXX[16].
جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ الشَحْمِ.
جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ القَلْبِ [7].
إذ ينال الأشرار فوق ما كانوا يتوقعون صاروا كمن هن في سمنةٍ أفسدت شكلهم، وأضرَّت عيونهم التي صارت كما لو كانت بارزة، وليس في وضعها الطبيعي.
هذا ما يحدث أحيانًا بالنسبة لأجسامهم المنظورة، فكم بالأكثر بالنسبة لنفوسهم وأعماقهم التي تفقد جمالها وبصيرتها الداخلية.
بالنسبة لتصورات القلب، فربما تشير إلى ما كانوا يتوقعون نواله، أو ما كانوا يخططون له، أو يهدفون إليه.
يرى القديس أغسطينوس في مَثل لعازر والغني توضيحًا لذلك. فلعازر الفقير كانت الكلاب تلحس قروحه، وإذ مات جاءت ملائكة تحمل نفسه بكرامة عظيمة. أما الغني فكان يلبس الثياب الفاخرة ويعيش حياة رغيدة، وإذ مات دفن، وربما اهتم كثيرون بالمشاركة في جنازته. الأول ربما لم يجد من يدفن جثته، لكن الملائكة كرّمته!
* يقول القديس أثناسيوس: "إن نعومة وخصب معيشتهم زاد وفاض مثل شحمٍ ثمين خارجًا، فمن ذلك تمكن الخبث في قلوبهم، واعتادوا عليه حتى صار لهم عادة وإدمانًا".
يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالشَرِّ ظُلْمًا.
مِنَ العَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ [8].
حينما يسخر إنسان بآخر، غالبًا ما يلوم نفسه ولو خفية. أما الأشرار المتكبرون فيسخرون بإخوتهم في داخلهم، ولا يخجلون من التعبير عن سخريتهم بالحديث علانية وبروح متعالية.
*يتكلم الناس بضغينة ولكن بخوف (داخلي)، أما هؤلاء فكيف؟ "بالشر من العلاء يتكلمون". ليس فقط يتكلمون بالشر، وإنما أيضًا علانية في مسمع الجميع، في تشامخٍ: "إنني سأفعل هذا"؛ أنا سأُعرفك ماذا أفعل بك!"، "ستعرف مع من أنت تتعامل"، "لن أتركك تعيش". يمكن أن تكون مثل هذه الأفكار فيك أيها المتكبر، لكن لا يليق أن تنطق بها [17].
* أعني أن أفكارهم وكلامهم كان شرًا، حتى تجاسروا أن يتكلموا على الله العلي بالتجديف، وينسبوا إليه ظلمًا، بقولهم إن الله لا يبالي بما يفعله الناس من الشرور.
جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَمَاءِ،
وَأَلسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ [9].
إن كان التائبون يقولون مع الابن الأصغر: "أخطأت يا أبتاه إلى السماء وقدامك"، فإن الأشرار المتكبرين ينطقون ضد السماء.
يظنون أنهم كائنات فائقة يمكنهم أن يقاوموا السماء والسمائيين، ويسلكوا في الأرض كما بألسنتهم، ما يقولونه يُنفذ تحت كل الظروف، يأمرون فيُطاعون.
*"جعلوا أفواههم ضد السماء وألسنتهم تعبر فوق الأرض"...
إنه لا يفكر في أنه يمكن أن يموت فجأة وهو يتكلم، إنما يهدد كمن يعيش على الدوام. فكره يعبر فوق الضعف الأرضي، ولا يعرف ماهية نوعية الإناء الذي يلتحف به. إنه لا يعرف ما هو مكتوب في موضع آخر عن مثل هؤلاء البشر: "تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم، في ذلك اليوم تهلك كافة أفكارهم" (مز 146: 4). أما هؤلاء الناس إذ لا يفكرون في يومهم الأخير، يتكلمون في كبرياء، ويجعلون أفواههم في السماء، متجاوزين الأرض. لو أن لصًا لا يفكر في يومه الأخير، أي يوم محاكمته الأخيرة عندما يُرسل إلى السجن، لا يوجد من يكون رهيبًا أكثر منه، وكان يليق به أن يهرب [18].
*"جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض" (مز 73: 9). نحن نعرف معنى جعلوا أفواههم في السماء (أو حرفيًا جهة السماء)، من الابن الأصغر أحد الابنين الذي عاد إلى أبيه، قائلًا: "أخطأتُ يا أبتاه إلى السماء وقدامك" (لو 15: 18). لكن الذين يظنون أن الحرية في الخطية، قد أُعطِيتْ لهم بواسطةِ حتمية المولد بشكل ما، إنما يجعلون أفواههم ضد السماء، ومثل هؤلاء لا يستبقون سماءً ولا أرضًا، إذ يعتقدون أن حياةَ الإنسانِ محكومةٌ بمسارِ النجوم، حسب ظنهم، فلا يتركون شيئًا للتدبير الإلهي [19].
لِذَلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا،
وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ [10].
إذ يرجع شعب الله أو المؤمنون الحقيقيون إلى هذا التساؤل بخصوص نجاح الأشرار المتكبرين، يصيرون كمن يمسك بكأس مملوءة سمًا أو سكرًا، لا ليتذوقوه، بل يشربونه بالكامل. يدخلون في نوع من الارتباك، لا يعرفون كيف يفسرون ما يحدث مع الأشرار.
لعله يقصد أنه إذ يسمح الله بتأديب شعبه بواسطة الأشرار، كما حدث عندما سمح بالسبي البابلي، فإنه إذ يرجع الشعب إلى الله يردهم إلى أرض الموعد، فيرتوون بخيرات الأرض.
وَقَالُوا: كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ،
وَهَلْ عِنْدَ العَلِيِّ مَعْرِفَة؟ [11].
هذه هي لغة الأشرار المتكبرين، فإن الحياة المترفة الرغيدة دون تقديس تقود إلى نوعٍ من الإلحاد العملي. في تشامخٍ يظنون أن الله في سماواته لا يبالي بالأرض، ولا ينشغل بمعرفة شئون البشر.
*اُنظروا أي فكر يعبر بهم. اُنظروا الناس الظالمين هم سعداء، والله لا يبالي بالأمور البشرية. هل بالحقيقة يعرف ما نحن نفعله [20].
*لهذا فإن الذين كانوا في الخطية قالوا: "كيف يعلم الله، وهل عند العلي معرفة؟" (مز 73: 11)، فهم يفترضون أن المعرفة ليست في الله! لأن الخطاة يمكثون حقًا في الرغد العالمي [21].
هُوَذَا هَؤُلاَءِ هُمُ الأَشْرَارُ،
وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى الدَهْرِ،
يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً [12].
إذ ينشغل الأشرار بجمع المال ومحبته، يرون في الذهب أثمن من العدل. ولكي تستريح ضمائرهم يدَّعون أن الله لا يبالي بالبشرية، وليست لديه معرفة بأمورهم.
*النفس الجسدانية التي تهتم بالأمور المنظورة الأرضية، تبيع عدلها (برّها)". أي نوع من العدالة يبقى من أجل اقتناء الذهب، إذ يبدو كأن الذهب أثمن من العدالة نفسها. أو كما لو أن إنسانًا ينكر ما أودعه آخر لديه، فإن الخسارة التي تلحق بمن ينكر الوديعة أعظم من تلك التي تلحق بمن فقد ما سلمه كوديعة، فإن الأخير يفقد ثوبًا (أودعه) والأول يفقد أمانته [22].
حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلًا،
وَغَسَلْتُ بِالنَقَاوَةِ يَدَيَّ [13].
بعد أن عبَّر المرتل عن أنات قلبه حين كان يرى الأشرار المتكبرين في حالة رغدٍ وأصحاب سلطانٍ وبصحةٍ، وقد جعلوا أفواههم ضد السماء وسكانها، والأرض والساكنين فيها، لا يبرر المرتل نفسه. إن انشغاله بسلام الأشرار الباطل لا يفيده شيئًا. يرجع المرتل إلى الله ليعلن أنه وإن زكىّ قلبه ودوافعه الداخلية من جهة عبادة الله، وإن حاول أن يغسل يديه أو سلوكه بالنقاوة، فباطلًا يفعل بدون نعمة الله.
لعله يقول: وإن حلت بي الضيقات والمتاعب لا أتذمر فإنني لست أبرر نفسي، إنما أنت هو برِّي ومخلصي ومجدي! لا أعود انشغل بما أحسبه ظلمًا، إنما لأركز كل بصيرتي وكل طاقاتي نحوك يا مبرر المؤمنين بك. لن أطلب مكافأة في هذا العالم!
*يقول المرنمِّ نفسه: "حقًا قد زكيّتُ قلبي باطلًا، وغسلت يّديَّ وسط الأبرياء (الأنقياء)" (مز 73: 13). هذا يعني أن الخطاة ينعمون بكثرة الخيرات، يرون أن كل الأشياء تسير سيرًا حسنًا ونافعًا لهم، بينما أُسحق أنا وأنضغط تحت وطأة ضيقات عديدة. باطلًا إذن سلمتُ نفسي للنقاوة، وكرَّستُ نفسي لسيرة حياة معتدلة مستقيمة.
حقًا يقول: "غسلتُ يَديَّ وسط الأنقياء"، لكي لا يبدو كمن يزعم النقاوة لنفسه، بل كواحدٍ يسعى سعيًا دؤوبًا نحوها [23].
*نحن نعلم أن القديسين يُصابون بأمراض ومآسٍ وعوزٍ، وربما يُجربون حتى يقولوا: "حقًا، قد زكيت قلبي باطلًا، وغسلت بالنقاوة يديَّ" (مز 73: 13)...
إن ظننت أن عماك سببه الخطية، وأن المرض الذي غالبًا ما يستطيع الأطباء إبراءه هو شهادة على غضب الله، فإنك تحسب اسحق خاطئًا، لأنه صار غير مبصرٍ تمامًا، حتى خُدع عندما بارك إنسانًا لم تكن في نيته أن يباركه (تك 27).
وستتهم يعقوب بالخطية، إذ صار بصره عاجزًا، حتى لم يستطع أن يرى أفرايم ومنسى (تك 48: 10)، مع أنه ببصيرته الداخلية وروح النبوة استطاع أن يرى مقدمًا الأحداث المقبلة، وإن المسيح يأتي من النسل الملوكي (تك 49: 10).
هل من ملك أكثر قداسة من يوشيا؟ لقد ذُبح بسيف المصريين (2 مل 23: 29).
هل يوجد قديسون أسمى من بطرس وبولس؟ مع هذا سُفك دمهما بسيف نيرون.
لا نتكلم بعد عن بشرٍ، ألم يحتمل ابن الله عار الصليب؟ [24]
وَكُنْتُ مُصَابًا اليَوْمَ كُلَّهُ،
وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ [14].
يقول المرتل: ينجح الأشرار كما في كل أوجه الحياة، ويشعرون كأنهم في أمانٍ دائمٍ خالدٍ. أما أنا فأسعى من جانبي أن أتمم إرادتك، وأطيع وصيتك، وأتحاشى الخطية، وأطلب حبك، ومع هذا تلاحقني التأديبات مع كل صباح يومٍ جديد، وتحل بي الضيقات اليوم كله.
يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل مع كل صباحٍ جديدٍ حيث يشرق عليه شمس البرَّ فيمتلئ بنور الحق، يتأدب فلا ينشغل بما يدور حوله خاصة نجاح الأشرار الزمني، إنما تتهلل نفسه التي عبرّ بها الرب من ظلمة الليل إلى نور الصباح.
*إنه يوجد عبور للنفس ذاتها في هذا الفكر، فإنه إذ تقذفها الزوابع تبلغ إلى الميناء...
خلال الخطر يعبر (المرتل) إلى الصحة... التأديب هو تصحيح. من يؤدب يُصلح أمره. التصحيح بالنسبة للأشرار مؤجل، أما بالنسبة لي فغير مؤجل. الأول إصلاحه يأتي مؤخرًا وقد لا يأتي، أما إصلاحي فيتحقق في الصباح [25].
*في نفس الوقت يشهد أن حديثًا كهذا لم يصدر عنه، دون ما عقاب. لأنه يقر أنه تأدَّب اليوم كله، لأنه قال إنه قد زكَّى قلبه للرب عبثًا (قابل مز 73: 14). لكن بعد أن تقوَّم تمامًا بتلك الضربات. لأنه يقول في التو: "مُتَّهميَّ في الصباح"، أي علانية وعلى الملأ. لأنه نور الحق سطع عليه وأمسك به، ولم يدعه يحتفظ بالأقوال التي رددها.
لهذا انسكب نور الحق على روحي، وأثبت بطلاني ودحضني، لأنني بالخطأ تكلمت. "زكيت قلبي باطلًا" لأنني تفوهت بتلك الأشياء، كأنني جالس في ظلمة، ووقعتُ فريسة الندم عند تذكرها. لكن من قلب نادم، سطع نور الحب، لكي يصير في قلبي نار متقدة" (قابل إر 20: 9). الذي جعل في قلبي بداية اليوم بمفهومٍ روحيٍ، ومن ثم حينما أشرق النهار، وبزغ فجره لي، ووجدت نفسي وكأنني وسط الصباح، وأدركت أنني كنت خارج ظلمة جيل أولاد الله. اعتقدت في بادئ الأمر، أن خالق العالم في عنايته بأجيال البشر، قد جبل كل الأشياء لصالحنا حتى بتلك الأمور المحزنة أو التي تعطينا قليلًا من المسرة. ومع ذلك، فقد ارتبكت فيما بعد، بتلك الآراء الجامدة، وفقدت الاعتقاد الذي كان صالحًا! [26]
15 لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هكَذَا، لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ. 16 فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هذَا، إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ. 17 حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ، وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ. 18 حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى الْبَوَارِ. 19 كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! اضْمَحَلُّوا، فَنُوا مِنَ الدَّوَاهِي. 20 كَحُلْمٍ عِنْدَ التَّيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ التَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ.
لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هَكَذَا لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ [ع15].
إذ نخطئ حين نفكر هكذا عن عدم العدالة والظلم الذي يلحق بنا، بينما ينجح الأشرار، فإن تحدثنا بهذه الأفكار نُعثر الضعفاء في الإيمان، ونحطم أبناءنا، الجيل الجديد. بمعنى آخر يليق بالمؤمنين في حكمة ألا ينطقوا بما تَعبر بهم من أفكار غبية مؤقتة، فإنهم قد يدركون خطأهم ويستردون سلامهم، لكن الذين تعثَّروا بسبب كلماتهم قد لا يرجعون إلى الرب، ولا تستريح نفوسهم.
يرى القديس أمبروسيوس إن هذا التفكير من جهة نجاح الأشرار يدفع الشخص إلى تزكية قلبه باطلًا، مع أنه لو رجع إلى الكتاب المقدس لأدرك أن توزيع الأنصبة في العالم لا يقوم على استحقاقات الأشخاص، إنما لحكمة إلهية، من أجل التمتع بالخيرات الأبدية.
*لهذا اتجهت إلى قلبي، وقلت لنفسي: "لو قلت هكذا إنني زكيت قلبي باطلًا" (مز 73: 15)، وأجابني صوت الله وقال: "هوذا جيل بنيك الذي قسمت نصيبه". وهذا يعني: هوذا تجد في الكتاب المقدس: يا ابن آدم إنني وزعت الأنصبة على بنيك حتى أن الثروة تمنح للأشرار من قَبيل الصدقة لا عن استحقاق. فلا المكافأة بالأموال كانت مجازاة للفضيلة، ولا كان الفقر الشديد من جهة أخرى عقابًا للخطية، لكن تحدث تلك الأمور دون ما تمييز، لأنها تمضي في الحياة كما يتدفق نهرٌ ما [27].
فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا،
إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ [16].
ليس من خليقة ما يمكنها أن تدرك عناية الله الفائقة وتدبيره الإلهي. فإن أحكام الله تعلو عن أحكامنا كما تعلو السماوات عن الأرض. محاولة تحليل ونقد ما يحدث حولنا فيه مضيعة للوقت، ويسبب مرارة للنفس.
يظن الإنسان إنه قادر على إدراك الأمور، وأنه يحكم من واقع معرفته التي يعتز بها، وإن كانت أمور كثيرة مخفية عنه، لا يقدر أن يعرفها. مثل هذا الإنسان -كما يقول القديس أغسطينوس- تزل قدماه وتنزلق خطواته فيسقط عن الحق.
* واعتبرتُ أن هذا الأمر حق، وفكرت أنني أعرف أنه كان حقًا (قابل مز 73: 16)، وفي اتساقٍ وانسجامٍ كاملٍ مع تدبير الله، لكنني ارتبكت دون داعٍ بهذه الأمور، التي ما كان ينبغي لي أن أشغل نفسي بها [28].
حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ،
وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ [17].
ماذا يعني بقوله: دخلت إلى مقادس الله"؟
في السماء نرى مركبة الكاروبيم (الشاروبيم) الحاملة لله، وفي قدس الأقداس في الهيكل نرى كاروبين على تابوت العهد، حيث يمثلان عرش الله. يرى فيلون اليهودي أن كلمة "كاروب" معناها "معرفة". وقد تبعه في ذلك القديس إكليمنضس السكندري، ويرى القديس جيروم في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية.
انطلاق المرتل إلى مقادس الله إنما يكشف عن اشتياق الله، لا أن نكون بلا معرفة، وإنما أن تتقدس عقولنا وقلوبنا وننعم بالمعرفة الصادقة، فتتكشف لنا أسرار عناية الله، وتدبيره للخلاص وحبه لكل البشرية، إذ يريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4).
إذ يحق لنا بالمسيح يسوع أن ترتفع أعماقنا إلى قدس الأقداس السماوية، ونصير بالمعرفة الحقيقية أشبه بالكاروبيم الحاملين الله، ندرك مصير الأشرار الناجحين والمصرين على شرهم ومقاومتهم للسماوي، وظلمهم لإخوتهم بني البشر!
*من ثم، فلأنني اعتقدت أنني اعتنقت المعتقد الصحيح، وأدركت المؤنة بتلك الأمور، قلت لنفسي: "إذا هو تعب في عينيّ، حتى دخلت مقادس الله، وانتبهت إلى آخرتهم" (مز 73: 16-17) وهذا يعني: التعب الوحيد الباقي لي، هو أنني ينبغي أن أذهب إلى مقدس الله حيث الشاروبيم" (قابل خر25: 17-22) أي -إلى عمق المعرفة- وألا أنشغل بالآراء الخاملة غير الأكيدة، لأن "حديث الأحمق مثل حملٍ في الطريق" (سيراخ 21: 16).
فلندخل إذن إلى مقدس المعرفة المقدسة، وحجال الحق (الغرف الداخلية). فلا يكون لنا عمل آخر (سواه)؛ لأن الحكمة تجتذبنا بعيدًا عن فكر المشقة، فإن يعقوب لم يكدّ حقًا (قابل تك 27: 20)، حيث سبب المشقة جهله، لأن من لا يعرف أن الجعالة قد أُعدت للأبرار فوق، لا ينتعش ولا يبتهج بكدِّه، بل بالحري ينحني وينكسر بالعمل الذي ينشأ عن افتقاده للمعرفة، لهذا، فلندخل إلى مقدس الله، حيث الشاروبيم، الذين فيهم تذكر المعرفة المقدسة، والنور الأبدي والحقيقي [29].
*إن لم أعبر بكل هذه عبور نهر الأردن، وأحطم الأمم الذين يعيشون في داخلي، لن أستطيع أن أدخل إلى قدس الأقداس وأستريح (مز 73: 17)، ولا أن أصير شريكًا في مجد الملك [30].
*لا يموت القديس بطريقة، والخاطي بطريقة أخرى. الذين يبحرون على نفس البحر يتمتعون بذات الهدوء ويعانون نفس العاصفة. الموت العنيف بالنسبة للص لا يختلف في شيءٍ عنه بالنسبة للشهيد. الأطفال لا يولدون بطريقة بالنسبة للزنا والدعارة، وبطريقة أخرى بالنسبة للزواج الطاهر. بالتأكيد تعرَّض ربَّنا واللصان لذات عقوبة الصلب [31].
حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ.
أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى البَوَارِ [18].
إذ يدخل المؤمن إلى المقادس الإلهية، ويتشبه بالكاروب مخزن المعرفة الصادقة، يكتشف أن النجاح والغنى والأمان، الأمور التي يظن الأشرار أنهم يتمتعون بها، إن لم تدفعهم إلى التوبة والرجوع إلى الله بالندامة مع الشكر تصير لهم مزالق، ويسمعون ما ورد في عظة موسى النبي الوداعية: "في وقتٍ تزل أقدامهم؛ إن يوم هلاكهم قريب، والمهيَّآت لهم مسرعة" (تث 32: 35). كما قيل: "ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرهم" (مز 35: 5). "بالغداة كعشب يزول، بالغداة يزهر فيزول؛ عند المساء يجز فييبس" (مز 90: 6). "لأنه ما هو رجاء الفاجر عندما يقطعه، عندما يسلب الله نفسه" (أي 27: 8).
*إنهم مخادعون، ومحتالون. وإذ هم مخادعون يعانون أيضًا من الخداعات. ما هذا إلا لأنهم محتالون يعانون هم من الاحتيال. يرغبون في القيام بدور الخداع على الجنس البشري في كل شرورهم، فإذا بهم هم أنفسهم يسقطون تحت الخداع، وذلك باختيارهم الخيرات الأرضية ونسيانهم الأبدية...
"أسقطتهم إلى البوار"... لا يقول: "أنت أسقطتهم إلى أسفل"، لأنهم ارتفعوا (تشامخوا إلى فوق)، كما لو أنهم بعد أن ارتفعوا إلى أعلى ألقيتهم أنت إلى أسفل. ولكن فيما هم يرتفعون بذات التصرف سقطوا إلى أسفل. فإنه هكذا إن الارتفاع إلى أعلى هو سقوط إلى أسفل [32].
*عندما لا تتجاوب النفس البشرية بالشكر مع خيرات الله غير المتناهية التي هي مجازاة الأعمال الصالحة، تكون هذه النفس ملعونة بعدلٍ بنفس القدر الذي تنعمت فيه بالرحمة. لذلك أيضًا قال صاحب المزامير: "حقًا في مزالق جعلتهم، أسقطتهم إلى البوار" (مز 73: 18). هذا لأن الملعونين لم يعادلوا الخيرات الإلهية بأعمال صالحة، إذ لم يهتموا بأنفسهم وهم في هذه الأرض، وانغمسوا في ملذات كثيرة، ولم يَجْلِبْ عليهم تقدمهم في هذا العالم إلا هلاك النفس. لذلك قيل للرجل الغني الذي كان يتعذب في لهيب جهنم: "اُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك" (لو 16: 25). ومع أنه كان شريرًا إلا أنه استوفى الخيرات هنا، حتى يستوفي أيضًا مقدارًا أكثر من البلايا هناك، بمقدار ما تشبث بطريقه ولم يغيرها بالرغم من الخيرات التي أخذها [33].
*هذا هو إذن أول افتراض للمعرفة، أن الأمور التي في العالم إنما تقع وليدة الصدفة. أما الأمر الثاني فهو أنه "حقًا في مزالق جعلتهم!" (مز 73: 18)، مثل النجاح الباهر والأرباح العالمية ووفرة الغنى. أو ربما تُجمع بطريق الأعذار، لئلا يُظن أن قلة ورعهم هي بسبب العوز أو بسبب ألم مُر أو حزن، مما يدفعهم إلى الاختلاس والسرقة والرغبة في السلب تحت وطأة أو شدة الفاقة، لأنهم اغتنوا بالثروة، وارتفعوا بالكرامات، لا طلبًا لما هو أشْرف في الحياة أو التمتع بالبهجة، بل لكي تتوقف الشكوى، فتتجمع وتتراكم الضيقة!
من ثم، فإن أناسًا من هذا القبيل، يُطرحون وهم يرتفعون، فليس الأمر إحسانًا، بقدر ما هو مصيبة، حينما لا يُحتمل ولا يثبت الاستمرار في هبة طويلة الأمد، ويُزال العذر الناجم عن الفشل. لأنه أية شكوى تحمل ثقلًا أعظم من تلك الشكوى الإلهية، التي تجدونها في سفر النبي ميخا:
"يا شعبي ماذا صنعت بك، أو هل أخزيتك أو هل أضجرتك؟ أجبني.
ألم أُصعدك من أرض مصر، وخلصتك من بيت العبودية؟" (مي 6: 3-4) LXX.
انظروا كيف ينطرح الأشرار وهم يرتفعون، وكيف تكف شكواهم ويتراكم عقابهم. وإذ تفيض عليهم الإنعامات السماوية، لا ينبغي أن يهجروا مُعطي الرخاء وطمأنينة الحياة بل بالحري يطيعونه. ولكن كما أن عدل الله عظيم، هكذا أيضًا انتقامه صارم. لأن الشرير دائم التمسك بشرِّه، وبخصوصه تجدون مكتوب أيضًا: "قد رأيت الشرير عاليًا عاتيًا فوق أرز لبنان، وعبرت ونظرت، فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36). إن سرعة فنائيته تفوق الظن! فجأة ترى شريرًا قويًا في هذه الحياة، وإذ تعبر به، سرعان ما يختفي عن الوجود. كم يظهر الظل بعيدًا عن الأرض وكم يستمر لبُرهةٍ قصيرةٍ! انقلوا خُطاكم وسرعان ما يزول الظل، وإن كان ثمة اضطراب هنا، ارفعوا خطاكم إلى الأشياء العتيدة، وسوف تكتشفون أن الشرير الذي اعتقدتم أنه هنا لن يكون هناك، لأن من هو "لا شيء" هو غير موجود. حقًا و"الرب يعرف خاصته" (2 تي 2: 19)، لكنه لا يتعرف على الذين هم غير موجودين؛ لأنهم لم يعرفوا ذاك الذي هو كائن (قابل خر 3: 14) [34].
كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً!
اضْمَحَلُّوا فَنُوا مِنَ الدَوَاهِي [19].
يقف المرتل في دهشة إذ رأى الخراب يحل بالأشرار فجأة، تحل بهم المصائب المرعبة، فيضمحلوا ويفنوا، وكأن لا وجود لهم، إذ حرموا أنفسهم بأنفسهم من العون الإلهي والرحمة والخلاص.
وكما قيل في نبوة عن إسرائيل: "حينما تيبس أغصانها تتكسر، فتأتي نساء وتوقدها، لأنه ليس شعبًا ذا فهم، لذلك لا يرحمه صانعه، ولا يترأف عليه جابله" (إش 27: 11). كما قيل: "لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم" (إر 13: 14).
*حقًا إنهم كالدخان عندما يصعد إلى فوق يفنى، هكذا هم يفنون [35].
كَحُلْمٍ عِنْدَ التَيَقُّظِ يَا رَبُّ،
عِنْدَ التَيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ [20].
إذ يحل يوم الرب العظيم تستيقظ البشرية، وتقف أمام الديان كمن كانت حياتهم على الأرض حلمًا عبر. لقد عبر العالم كحلمٍ لا وجود له في الحقيقة.
*إنه وهم للإنسان أن يرى في منامه أنه وجد كنوزًا. إنه إنسان غني، ولكن إلى لحظة استيقاظه... يذهب الفقير لينام، والغني صار غنيًا في نومه. إذ يقوم يجد نفسه قد فقد ما كان ينعم به أثناء نومه. يجد هؤلاء (الأشرار) البؤس الذي أعدوه لأنفسهم [36].
* مدينة الله هي أورشليم السمائية، فالذين لبسوا صورة السماوي وتشبهوا بتواضع المسيح ومسكنته باختيارهم، صورتهم مكرمة في مدينة الله. وأما الذين لبسوا صورة الأرض فتُرذل صورتهم، ويسمعون منه "لست أعرفكم، اذهبوا عني يا فعلة الإثم".
*إن كنا في مدينتنا، أي في هذه الحياة، نحسب صورة الله كلا شيء، يلزمنا أن نخشى أن يُحط بصورتنا لتصير لا شيء في مدينته، أي في الحياة الأبدية [37].
*لهذا، فبالنسبة للأخير، يقول داود أيضًا، "كفوا عن الوجود، وفنوا بإثمهم، كحلمٍ من يتيقظ" (مز 73: 19-20). وهذا يعني: توقف الأشرار عن الوجود، واختفوا كحلمٍ يضمحل بمجرد استيقاظ الإنسان من النوم، لأنهم في ظلمةٍ، وفي الظلمة يمشون (مز 82: 5)، ولا يتبقى أثر من عملهم الصالح، بل يشبهون من يرى حلمًا. والمرء يحلم في الليل، والليل في الظلام، وبنو الظلمة محرومون من شمس البرً (مل 3: 20، 4: 2)، ومن ثناء الفضيلة، لأنهم ينامون دائمًا ولا يسهرون. قيل عنهم حقًا: "ناموا سنتهم (نومهم) ولم يجدوا شيئًا" (مز 76: 5)، لأنهم حقًا حينما تنفصل نفوسهم عن أجسادهم، ويتحررون حقًا من نوم الجسد، لا يجدون شيئًا، ولا يملكون شيئًا. يفقدون ما ظنوا أنهم يملكونه. لأنه حتى إن اكتظ الأحمق الغبي بالثروات، يتركها للغرباء، ولا يهبط مجد بيته معه إلى الهاوية (مز 49: 17) [38].
*وتوضح أيضًا الأحداث المتعاقبة، كيف أنه لا توجد صورة مثل ذلك الإنسان بل يفني، طالما أن صورته لا توجد في مدينة الرب، أي أورشليم العليا (مز 73: 20). لأن الرب صوَّرنا (رسمنا) بحسب صورته ومثاله، كما يعلِّمنا قائلًا: "هأنذا يا أورشليم قد نقشتُ أسوارك" (إش 49: 16)، فإن سلكنا حسنًا، تستمر تلك الأيقونة السماوية فينا، وإن سلك أحد سلوكًا ردَّيًا، تفنى تلك الصورة فيه (أو تتشوه)، أي أيقونة ذاك الذي انحدر من السماء، وتبقى في هذا الإنسان صورة الإنسان الأرضي (فقط). على هذا الأساس، يقول الرسول أيضًا: "وكما لبسنا صورة الترابي (الأرضي). فلنلبس أيضًا صورة الآخر السماوي" (1 كو 15: 49). لهذا تستمر صور الصالحين تشرق في مدينة الله. لكن إن اِنحرف أحد إلى الخطايا المميتة ولم يتُب، تتحطم أيقونته فيه أو بالأحرى ينطرح، كما انطرح آدم وطُرد من الفردوس (تك 2: 21-24) لكن من يسلك بأسلوبٍ مقدسٍ مكرمٍ، يدخل مدينة الله (رؤ 3: 12). ويأتي بصورته الشخصية، فيشرق في مدينة الله هذه. "في مدينتك يا رب تفنى صورهم إلى لا شيء" (مز 73: 20) LXX. لأن الذين كسوا أنفسهم بأعمال الظلمة، لا يمكنهم أن يشرقوا في النور.
لنوضح بمثال من العالم، تأملوا كيف تستمر صور الحكام الصالحين في المدن، بينما تتحطم صور الطغاة [39].
21 لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي، وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. 22 وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. 23 وَلكِنِّي دَائِمًا مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى. 24 بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. 25 مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ. 26 قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ. 27 لأَنَّهُ هُوَذَا الْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ. 28 أَمَّا أَنَا فَالاقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَّيِّدِ الرَّبِّ مَلْجَإِي، لأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ.
لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي،
وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ [21].
الآن وقد أدرك المرتل أن الأشرار مع كل ما نالوه من غنى ونجاح، فقدوا صورة الله فيهم، فصار لا وجود لهم في مدينة الله، صاروا كما لو كانوا قد فنوا، لم يأخذ موقف الشماتة، بل دفعه هذا لمراجعة نفسه. دخل في ندامة وحزن داخلي على خطاياه.
جاء في كتابات القديس أغسطينوس: "لأنه ابتهج قلبي، تغيرت في كليتاي".
*يمكن أيضًا أن تفهم: "لأنه ابتهج قلبي" في الله، "تغيرت أيضًا كليتاي"، أي تغيرت شهواتي وصرت طاهرًا بالكلية [40].
وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ.
صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ [22].
لا يدَّعي المرتل أنه قد أدرك بالتمام خطة الله، وعرف أسرار عنايته الإلهية، بل يعترف بأنه جاهل، يقف أمام الله كمن لا يفهم شيئًا. إنه لا يحكم على الأغنياء الأشرار كصاحب معرفة، فهو لا ييأس من خلاصهم.
*يليق بنا ألا نيأس حتى من هؤلاء الذين نقول عنهم مثل هذه الأمور [41].
* صرت عندك لجهلي كالبهيمة، مع أني لم أفارقك، بل دائمًا معك بالقلب والنية.
*لما سمع أنبا بيمين أنّ أنبا "نستير" موجود في المجمع (أي في الدير) اشتاق جدًا أن يراه، وأخبر أب الدير لكي يرسله ليزوره، لكنه رفض أن يرسله وحده. وبعد بضعة أيام شعر وكيل الدير ببعض أفكار تضايقه، فتوسل إلى أب الدير أن يرسله إلى أنبا نستير، فصرفه قائلًا: "خذ أبّا بيمين معك." ولما جاء وكيل الدير إلى أنبا نستير أخبره بأفكاره فشفاه منها. وبعد ذلك سأل أنبا نستير أنبا بيمين قائلًا: "من أين أتيت بمثل هذا التواضع أنه مهما حدث من اضطرابٍ في المجمع لا تتكلم ولا تتدخل لكي تضع حدًّا للنزاع؟" ولما ضغط الشيخ أنبا نستير على أنبا بيمين أجاب قائلًا: ”اغفر لي يا أبي، فعندما دخلتُ المجمع (في بدء رهبنتي) قلتُ لنفسي: أنا والحمار واحد، فكما يُضرَب الحمار ولا يتكلم ويُشتَم ولا يُجيب، هكذا أكون أنا، كما قال داود النبي الطوباوي: "صرتُ كبهيمٍ عندك" (مز 73: 22)".
فردوس الآباء
*بطرقٍ أخرى أيضًا ينتفع الذين يعيشون حياة الفقر، لأنهم بعدم تركيز قلوبهم على المذخَّر هنا على الأرض، يلتحفون بملكوت السماء، ويتمِّمون بوضوح تصريح المرتل داود النبي القائل: "صرتُ كبهيمٍ عندك" (مز 73: 22). لأنه كما أنّ الحيوانات الأليفة في أدائها لمهامها الخاصة تكتفي بالغذاء الذي يُبقي على حياتها فحسب؛ هكذا أيضًا الذين يعيشون الفقر يعتبرون أن استعمال الفضة أمرٌ تافه، ويؤدّون أعمالهم اليدوية لأجل غذائهم اليومي وحده. هؤلاء يمتلكون أساس الإيمان، ولأجلهم تكلّم الرب عن عدم اهتمامهم بالغد قائلًا: "اُنظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ... وأبوكم السماوي يقوتها" (مت 6: 26). وبهذا الكلام يتشجّعون (لأن الله هو الذي قاله)، وبثقةٍ يهتفون بكلام الكتاب: "آمنتُ لذلك تكلّمت" (مز 116: 10).
*"صرت كبهيمٍ عندك، ولكنني دائمًا معك". بمعنى إنني أتبعك كحيوان مطيع، فلا اضطرب بسبب طبيعة الطريق. لتقودني على الدوام سواء كان الطريق قصيرًا أو طويلًا أو صعبًا. إنه لن يجعلني مضطربًا سواء كان ضيقًا أو منحدرًا أو شديد الانحدار. فإنني أقول لنفسي، ما دمت صالحًا ستقودني حسنًا...
لهذا لن أنفصل عن صحبتك، وإنما دائمًا أنا معك، أقتدي إثر خطواتك مطيعًا اللجام، وأسير أينما ذهبت بي سواء كان الطريق سهلًا أو وعرًا، واسعًا أو ضيقًا. فإنني أتشجع بحكمتك وأتكل على صلاحك. إنني أعرف أن ما تفعله صالح ونبيل [42].
وَلَكِنِّي دَائِمًا مَعَكَ.
أَمْسَكْتَ بِيَدِي اليُمْنَى [23].
إذ يسلم المرتل نفسه لله كي يقوده كما يشاء، فإنه يعترف أيضًا بأنه صار كبهيمٍ عندما انشغل بالأرضيات.
*وإذ يلُتفت إلى تلك الأمور ويتأملها، كان النبي فرحًا متهللًا، بينما كان مضطربًا قليلًا. لهذا السبب يقول: "لأنه ابتهج قلبي، واسترخت حقواي، وصرت كلا شيٍء، ولا أعرف وصرتُ كبهيمٍ عندك، ولكني دائمًا معك" (مز 73: 21-23). وهو يقول ما معناه: "حينما علمتُ أن الله يعتني ويهتم بشئون البشر، استراحت حقواي". وهذا يعني: بعد طول التعب المضني الذي سَبّبَه جهله القديم، استراح خلال معرفة الخير السماوي ومعرفة النعمة. لأن هناك حقوي النفس، حقواه اللتان تضطربان فينا بسبب الضغط الذي يحدثه جهلنا، لكنهما تستريحان، إذ تجدان راحةً في معرفة التعليم السماوي، وتقويان بالاعتماد على نوع ما من السند الذي تجلبه الوصايا السماوية. ثم يقول: "لهذا أدركت أنني تعبت باطلًا لأنني لم أكن أعرف ما هو حق".
"صرت كبهيم!" يضيف بحق قوله: "عندك" أو "أمامك"، أجل، فبالمقارنة مع ساكني السماء، فالإنسان ليس إلا بهيمًا؟ فالنجوم أيضًا، وإن كانت تشرق ساطعة، تنزوي وتختفي عند بزوغ الشمس. يقول موسى أيضًا: "لم أؤهل من أمس، من حين كلمت عبدك، بل أنا ضعيف وثقيل اللسان" (خر 4: 10) LXX. هكذا يبدو الإنسان بهيمًا أعجمَ بالمقارنة، لا أقول بالمسيح، بل حتى بالملائكة، لكن حتى إن كان الأمر كذلك، لا نيأس، لأن الربَ يحفظ البشرَ والبهائم كليهما معًا (مز 36: 6). ومن ثم فلأنني لم أتعلم من ذاتي بل منك، فإنني ألتصق بك دومًا حتى أكف عن أن أكون بهيمًا، وحينئذ تقول لي "وأما أنت فقفْ هنا معي" (تث 5: 31). فالإنسان الذي بجهله انحدر إلى الحماقة ونقص المعرفة، الذي يزن بميزان البهيمة، يبدأ من جديد فيصير إنسانًا، حينما تشمله نعمة الله. فهو حقًا إن اقتدر بالعقل والنعمة، لأثبت أنه إنسانًا بتلك الحقيقة عينها. ومن ثم يتهلل أنه انفصل عن الحيوانات العجماوات، ودخل في شركة البشر الذين يفتقدهم الله ويحميهم. لأنه من هو الإنسان إلا الذي يفكر الرب فيه ويفتقده؟ (قابل مز 8: 4) [43]
* بالحقيقة صرت كبهيمٍ، عندما اشتهيت الأرضيات من الله، لكنني لن أفارقك يا إلهي [44].
*كل البشر، ونحن أنفسنا، لسنا دومًا مع الله، بالمعنى الذي يتحدث الله نفسه بالمرتل قائلًا: "أنا مقيم دائمًا"، والذي يجيب عليه المرتل: "نعم، لتمسكني بيمينك" (مز 73: 23).
الله ليس مع كل البشر بالمعنى السليم الذي به أنت وأنا يكون لنا حين نبارك شخصًا، فنقول: "الرب معك".
ما أقصده هو هذا: أخطر بؤس للإنسان أن يكون بدون الله، بمعنى ألاَّ تكون له علاقة داخلية مع ذاك الذي هو الحياة والوجود ذاته. أضف إلى هذا ألاَّ يتذكر أنه في خطة الله الأصلية من نحو الإنسان، أن تحقيق مثل هذه العلاقة أمر ممكن.
عندما لا يكون للإنسان علاقة مع الله بهذا المعنى الداخلي لا يتذكر الله. وبهذا لا يطلب أن يدرك الله، ويتعرف على طرقه، ولا يجد فيه لذة يومية. أقول إنه ليس مع الله، مع أن الله معه...
لكي أوضِّح ما أقوله بطريقة أفضل، فلا تخطئ في هذه النقطة الهامة كأنها أمر تافه، أقدم لك مثالًا مما يحدث كل يومٍ في العالم.
تصور أنك تقابل شخصًا لم تتعرف عليه قط، لكنه يقول لك: "نعم، إنك تعرفني". ولكي يذكرك بذلك يصف لك في شيءٍ من التفصيل أين قابلك ومتى وكيف حدث ذلك. لكن بعدما يخبرك بكل هذه الأمور، لا تزال تقول له: "آسف، فإنني لست أعرفك". فإن كان هذا صحيحًا، فإنه يعني أن أمورًا أخرى تشغل ذهنك، فنسيت هذا الشخص تمامًا، وقد زال كل أثر لمعرفتك السابقة له.
لكن افترض أنك أخيرًا تذكرت الشخص، فإنك ترجع إلى فكرك السليم من نحوه. وبالتدريج إذ تقضي معه وقتًا تصير ذاكرتك من نحوه كاملة، تتذكر كل ما نسيته. ليس هذا فقط، وإنما تتعرف عليه أكثر فأكثر في أمور تفصيلية.
الآن على نفس المثال الذي قدمته لتطبقه على روحك، كيف يمكنك أن تتذكر الله، وكيف تنمو في سيرك اليومي معه.
يوجد رجال ونساء، مع إنهم في دار الإيمان، إلاَّ أنهم ليسوا مع الله. إنهم لا يدركون أنه حتى الأشياء التي تدعى صالحة ومبهجة على هذه الأرض بالحقيقة ضارة إن سببت لنا أن ننسى الله.
عندما لا نثق فيه، عندما نتجاهله أو ننساه، فإننا نكون لسنا معه. هذا يسبب ضررًا لنفوسنا على الدوام [45].
بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي،
وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي [24].
ما هو رأي الله أو مشورته التي تهدينا وتقودنا إلى المجد سوى كلمة الله.
*لهذا السبب يقول داود، إذ قد افتقده (الرب): "أمسكت بيميني، وأصعدتني بمجدٍ" (مز 73: 23-24)، هذا هو النص الذي تسلمناه وهو يتفق مع النسخة اليونانية، لأن اليونانية تقول εκρατεσασ τεα χηεριοσ أي "أمسكتَ باليد" τεσ δεξιασ μου " يميني" [أي "أمسكت بيميني".]
يتلقى الإنسان إرشادًا طيبًا حينما يمسك الله بيمينه، بيد الله نفسه. مثل هذا يمكنه القول: "الرب عن يميني، فلا أتزعزع" (مز 16: 8).
لو أن آدم كان قد اختار أن يكون له الرب عن يمينه، ما خدعته الحيّة، لكن لأنه نسي وصية الله، وتمم إرادة الحية، أمسك الشيطان بيده، وجعلها تمتد لشجرة معرفة الخير والشر، ليقطف أشياءً حُرَّمت عليه! وفيه عبر الحكم إلى جميع الناس، وبدأ المعاند يقف عن يمين كل إنسان. من هنا أيضًا جاءت تلك اللعنة ضد يهوذا "ليقف شيطان عن يمينه" (مز 109: 6). وإن كانت تلك اللعنة قاسية، فإن تلك البركة التي بها تنحل رباطات اللعنة، هي بركة في غاية الأهمية جدًا.
لهذا فإن الرب يسوع الذي أخذ قضية الإنسان وحالته، وضع الشيطان عن يمينه هو تمامًا كما نقرأ في سفر زكريا (زك 3: 1)، هكذا حيث يقف ميراث آدم فهناك وقف المسيح. وكرياضيٍ صالحٍ، سمح للشيطان أن يقف عن يمينه (أي يمين الرب)، لكي يطرحه وراءه، قائلًا: "اِذهب يا شيطان!" (مت 4: 10). وحينئذ طُرحَ المُعاند من موضعه ورحل.
ولكي لا يقف الشيطان عن يمينك، يقول لك المسيح: "تعال، اتبعني" (مت 19: 21). لهذا تنبأ داود سلفًا بمجيء الرب الذي نزل من السماء ليحررنا من قوة الخصم المُعاند، إذ قال: "الرب عن يميني فلا أتزعزع". أما من كان الشيطان عن يمينه فيتزعزع.
تبرر داود إذن فيما قاله: "أمسكت بيميني" أي، حتى لا أخطئ الآن، وحتى أتخذ موضعي في مكان الاتكال والثقة، إذ كنت قبلًا أترنح وخطواتي متقلقلة!
كم كان قول الرسول حكيمًا حقًا! لأن الرب إذ رآه منزعجًا مضطربًا مدّ يمينه، ولم يدعه يسقط، بل تبعه ليمشي دون خوف (مت 14: 30-31). وعند تمتعه بخلاصه، ماذا قال بطرس إلا تلك السطور النبوية: "أمسكتني بيميني، وفي مشيئتك قدتني، وأصعدتني بمجدٍ"؟ وما هي اليد اليمني إلا قوة النفس العاملة (التي لا تكف عن الجهاد)؟ وإن قُيدتْ بمشيئة الرب، لا يعوزها شيء، ولا تفتقر إلى شيء. ولا تحتاج إلى أية مساعدة أو معونة من هذا العالم! [46]
مَنْ لِي فِي السَمَاءِ؟
وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ [25].
إن كان الله هو المعين والسند والحصن وواهب المعرفة الخ، فإنه شهوة النفس ونصيبها الأبدي؛ هو كل شيء بالنسبة لها.
هكذا كان (الله) هو كل شيء بالنسبة لهم، فلا تُحسب السماء ولا ملكوت السماوات شيئًا إن قورنت بهذا الذي يشتاقون إليه.
*إنه يعني أنت هو كل شيء بالنسبة لي... ليس شيء ما في الأعالي أو أسفل أشتهيه، إنما أشتاق إليك وحدك [47].
* إني لم أشتهِ شيئًا مما في السماء، ولا على الأرض، إلا أن أكون معك. وأنت تعلم أن قلبي قد ذاب من هذا الاشتياق يا خالق قلبي وعارف ضميري.
*أولًا عُدْ إلى نفسك مما هو خارج عنك، عندئذ قدم نفسك ثانية لذاك الذي خلقك. فهو مصدر كل سعادتنا وصلاحنا الكامل.
*أن تعبد الله هو أن تحبه، وتشتهي أن تراه، وتترجى وتؤمن أنك ستراه.
هذا هو الشوق إلى السعادة، أن تبلغ إليه، إذ هو السعادة عينها.
اسأل نفسك: إلى أي مدى يزداد حبك؟ الإجابة هي أن قلبك هو معيار تقدمك.
الآن نحن نراه بطريقة غامضة، إذ يتزايد حبنا، لكن عندئذ سنراه بوضوحٍ.
أيها الأحباء، لا يأتينا هذا الحب من عندنا، بل بالروح القدس الذي أُعطي لنا...
هناك لا توجد بعد خطية، ولا يوجد شيء باطل، بل نلتصق به بالحب، ذاك الذي نئن مشتاقين إليه.
سنعيش إلى الأبد في تلك المدينة التي نورها الله، ونجد فيه تلك السعادة التي نجاهد الآن من أجلها.
*لتدركوا أيها الأحباء أن فرح كل الأفراح يتحقق بالبهجة في الثالوث الذي خُلقنا على صورته.
* أينما توجهت نفس الإنسان، فإنها إن لم تتجه نحوك تجمع لقلبها الأحزان، حتى إن اِلتصقت بما هو محبوب لديها. إن كان هذا المحبوب خارج الله، فإنها تلتصق بالحزن. لأن هذه الأمور الجميلة لا وجود لها بدونك... هب لي أن أسبحك من أجل هذه الأشياء، يا إلهي، خالق كل هذه الأشياء. لكن لا تدع محبة هذه الأشياء تلتصق بنفسي. لا يوجد في هذه الأمور موضعًا للراحة، لأنها أمور غير باقية، بل تعبر وتختفي من حواسنا [48].
* يقول القديس: "ماذا ينتظرني في السماء؟ ومعك لا أريد شيئًا في الأرض!" (راجع مز 73: 25). هذا يعني: إنك نصيبي، أنت وفرت لي كل الأشياء، لا أطلب شيئًا سوى أن أمتلكك نصيبًا لي!
لم أخضع لأي مخلوق في السماوات، كما يفعل الأمم، وما رغبتُ شيئًا من ثروة وملذات الحياة الغاشة في هذا العالم. لستُ معتازًا، لأنك أنت أصعدتني...
وإذ لا شيء لي، فإني أملك كل شيء (2 كو 6: 10)؛ لأني أملك المسيح، ذاك الآب الذي لم يشفق في السماء عليه، بل بذله لأجلنا أجمعين. كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيءٍ (رو 8: 32)؟ كما قال الرسول. لأن كل الأشياء هي في المسيح، الذي به كان كل شيءٍ، وفيه يقوم الكل مجتمعًا (كو 1: 16-17). لهذا إذ أملك كل شيءٍ فيه، لا أطلب مجازاة، لأنه مكافأة الجميع، لهذا قال المسيح لمن يصير كاملًا، "اَحمل صليبك واتبعني" (مر 8: 34؛ مت 16: 24؛ لو 9: 23؛ مت 10: 38). لأن من يتبعه لا يصير كاملًا بالمجازاة، بل بالكمال يصير كاملًا لأجل المجازاة. لأن المتمثلين بالمسيح ليسوا صالحين بسبب الرجاء، بل لحبهم للفضيلة، لأن المسيح صالح بالطبيعة. وليس رغبةً في نوال مكافأة! لهذا تألم لأنه سُر أن يصنع صلاحًا، لا لأنه أراد أن يكتسب نموًا في المجد من جرَّاء آلامه!
لهذا من يريد أن يقتدي بالمسيح، لا يصنع ما لنفعه هو، بل ما هو لمنفعة الآخرين.
ولهذا السبب عينه يضعف بالنسبة لنفسه، بينما يصير أقوى بالنسبة للآخرين، بازدياد الفضيلة [49].
قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي.
صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَهْرِ [26].
أمام حب المؤمن الفائق نحو الله يضعف جدًا حتى يبدو كأن جسمه وقلبه قد فنيا، ليملأ الله كل كيانه الداخلي.
*يقول المرنم حقًا: "قد فني لحمي وقلبي، صخرة قلبي الله" (مز 73: 26). حقًا إن الأمور الباقية (الخالدة)، لا تأتي إلا بعد زوال الأرض وفنائها. لهذا يفنى الجسد حينما تموت الجسديات. والذين يحملون في أجسادهم إماتة يسوع المسيح (2 كو 4: 10)، أيضًا يفنون، لأنه إذ يعمل المسيح فيهم (2 كو 4: 12)، تموت كل شهوة أو ميل نحو الخطية.
من هذا يُشار إلى أن قلب الإنسان يفنى حينما تموت الأفكار الشريرة التي القلب مصدرها. لهذا قد يخفي النسيان كل الأرضيات، والذين بوركوا بالقلب الطاهر النقي، فاستحقوا أن يعاينوا الله، يأتيهم إله قلوبهم (مت 5: 8).
ليقتربوا إليك ولا ينفصلوا عنك، لأن الله القريب لا يرد الذين يقتربون إليه فقط (يو 6: 37، يع 4: 8)، بل يريد أن يكون سبب خلاص للجميع، لا أن يموتوا.
حقًا إنه لا يرفض أحدًا إلا الذي قرر أن يفصل نفسه من أمام وجهه [50].
*المسيح هو الكل، فمن يترك الكل لأجل المسيح، يجد ذاك في محل الكل، ويقدر أن يعلن بحرية: "نصيبي هو الرب" [51].
*إن كانت الكلمة اليونانية "إكليروس
Kleros" معناها "نصيب"، فإن رجال الكهنوت دُعوا هكذا، إما لأنهم ينتمون إلى نصيب الرب، أو أن الرب نفسه هو نصيب الكهنة.الإنسان الذي يقتني الرب ويقول مع النبي: "الرب هو نصيبي" لا يمكن أن يقبل شيئًا بجانبه [52].
* المسيح هو القداسة التي بدونها لا يقدر أحد أن يعاين وجه الله.
المسيح هو خلاصنا، إذ هو المخلص والفدية في نفس الوقت.
المسيح هو كل شيء بالنسبة لنا، فمن يترك شيئًا من أجله، يجده مقابل ما قد تركه، فيستطيع في حرية أن يقول: "نصيبي هو الرب" [53].
*المسيح علة كل الخيرات، منه تنبع كل المواهب للمحتاجين.
هو الغنى (أف 2: 4) الحقيقي، وليس غنى خارجًا عنه.
هو الأمان العظيم، صالح بدم صليبه ما في السماء وما على الأرض (كو 1: 20).
منه المحبة، ومن يحب أخاه يتعلم منه كيف يحب... كل من يحب أخاه يسكن المسيح فيه، لأنه الحب الحقيقي الذي نقض سياج العداوة (أف 2: 14) الذي شيدته الحية بين آدم والله. (الرسالة الثالثة)
لأَنَّهُ هُوَذَا البُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ.
تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ [27].
إذ يقبل الله النفس البشرية كعروس سماوية، فإن تعلقت بشهوات زمنية، وأحبت العالم تصير كمن زنت وراءه.
*الآن تحب النفس عريسها، فماذا تطلب منه، من عريسها الذي تحبه...؟ (المؤمن الحقيقي) يحبه وحده، يحبه لا لنوال شيء ما، إنما يجد فيه كل الأشياء، إذ به كان كل شيء (يو 1: 3).
*لكي يُظهر أنه ليس فقط لا يُسلمنا بل ولا حتى يتركنا ما لم نرد نحن ذلك، اسمعوه يقول: "أليست آثامكم صارت فاصلة بيني وبينكم" (إش 2: 59) LXX، وأيضًا: "هوذا البعداء عنك يبيدون" [27] [54].
*إذ نرنم "البعداء عنك يبيدون"، يليق بنا أن نسعى لتجنب كل الشهوات الشريرة.
* قد فنيَ قلبي من اشتياقي أن أكون معك دائمًا، لأن الذين يتباعدون منك بقبائحهم يهلكون، والذين يتركونك يا عريس النفوس الحقيقي والملتصقون بالشياطين هم زناة، فتستأصلهم وتبيدهم.
أمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي.
جَعَلْتُ بِالسَيِّدِ الرَبِّ مَلْجَإِي،
لأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ [28].
الاقتراب إلى الله هنا يضاد الابتعاد عنه والزنا وراءه [ع27]. إذ يدرك المؤمن اقتراب الله منه، يجد مسرته في اقترابه هو من الله. يجد في الله ملجأ له، وفرصة لمناجاته والحديث معه وعنه.
*يا إخوة، ماذا تنالون أكثر. فإنه ليس شيء أفضل من الاقتراب إلى الله، حين نراه وجهًا لوجهٍ (1 كو 13: 12) [55].
*ليس القديس بولس وحده الذي يقول إنه يجب أن نتحد مع الله، فلا ندع شيئًا يفصلنا عنه. ألم يعبّر النبي على هذا الأمر بقدرٍ مساوٍ وبإيجازٍ شديدٍ للغاية، عندما يقول: "الاقتراب إلى الله حسن لي" [56].
مثل هذا الالتصاق يَشهد به ذاك الذي يقول عنه الرسول: "المحبة فلتكن بلا رياء، كونوا كارهين للشر، ملتصقين بالخير" (رو 12: 9) [57].
في السماء لا تكون لنا خبرة الاحتياج، ولهذا سنكون سعداء. إذ نكون مكتفين، ويتحقق هذا بإلهنا. وسيكون هذا لنا بالنسبة لكل الأشياء التي نتطلع إليها هنا أنها عظيمة القيمة. هنا تطلبون الطعام كأمرٍ ضروري، هناك يكون الله طعامكم. هنا تطلبون الأحضان الجسدية، "الاقتراب إلى الله حسن لي" [ع28]. هنا تطلبون الغنى، فكيف تحتاجون إلى كل هذه الأمور هناك، حيث تقتنون ذاك الذي خلق كل الأشياء؟ أخيرًا لكي يقيمكم في أمان يقول الرسول الكلمات الخاصة بتلك الحياة: "يكون الله الكل في الكل" (1 كو 15: 28) [58].
*هل التصقت بالله؟ لقد أنهيت رحلتك، وستبقى في مدينتك الحقيقية [59].
*الآن إن كنتم تحبون ما قد صنعه، فكم بالأكثر يلزم أن نحب ذاك الذي خلقها. إن كان العالم جميلًا، فكم يكون مبدع العالم؟ لهذا مزقوا قلوبكم وأبعدوها عن محبة المخلوقات لكي ما تلتصقوا بالخالق. عندئذ القول بما هو مكتوب في المزمور: "الاقتراب إلى إلهي حسن لي" [60].
*النفس التي تهجر خالقها لتحب المخلوق زانية. ليس شيء أكثر طهارة أو أكثر بهجة من محبته. فإن تركتموه واحتضنتم غيره تصيرون دنسين.
أيتها النفس، إن أردت أن تتأهلي لحضنه، اتركي الأمور الأخرى هذه، والتصقي به دون توقع لمكافأة. لهذا يقول المرتل: "الاقتراب إلى الله حسن لي". في العبارة السابقة: "هوذا البعداء عنك يبيدون". بعد ذلك كأنه يرغب أن يظهر ما هو الزنا، لذا أضاف: "الاقتراب إلى الله حسن لي"، لست أطلب شيئًا سواه. الالتصاق به هو صلاحي، صلاحي الذي بلا أي رجاء للعودة عنه [61].
*عندما تبلغون إلى هذه الحالة السعيدة للكمال، ستحسبون كل ملذات هذا العالم نفاية، وتستطيعون القول مع النبي: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" [62].
* بالتأكيد الشيطان هو موجه الاتهام ضد القدِّيسين. إنه لا يقدر في حضرة ديان كهذا أن ينسب اتهامًا خاطئًا باطلًا ضدنا... فهو يعرف مع من يتكلم. لهذا يلجأ إلى القول بشيءٍ صادق. فإن خصمنا الذي يحسدنا على وجودنا في ملكوت السماوات، ولا يريدنا أن نكون هناك حيث طُرد هو منه، يقول: "هل مجانًا يَعبد أيوب الله؟" (أي 1: 9). يتهم خصمنا أيوب دون أن ينظر إلى قلبه.
يليق بنا أن نحرص على حبنا لله، ليس من أجل مكافأة. فإنه أيّ نوع من المكافأة هذه التي يعطيك الله إياها؟ مهما أعطاك فهو أقل من ذاته.
لا تعبد الله تلقائيًا لكي ما تقبل منه شيئًا.
اعبده دون أن ترجو مقابل، وعندئذ تتقبله هو، فإن الله يحفظ نفسه لك لتتمتع به.
إن كنت تحب ما خلقه، فكم يكون خالق العالم؟ لذلك انزع من قلبك محبة المخلوقات لكي ما تلتصق بالخالق، وعندئذ تقول ما جاء في المزمور: "خير لي أن اَلتصق بإلهي" (مز 72: 28) [63].
* يُقال أن ابنة صهيون هي أورشليم، لكونها تحت جبل صهيون. وأيضًا الكنيسة المسيحية وأبوابها هي هياكل في العالم كله. وأيضًا أبوابها التي تدخل إلى كنيسة المسيح هي العهدان القديم والجديد ومعلموها وأحبارها.
* يمكن تقسيم الأشخاص الذين وصلوا إلى المرحلة التي تلي مرحلة الطفولة إلى نوعين: ينمو البعض بواسطة الدراسة والتفكير، بينما البعض الآخر ينمون باِتحادهم مع كلمة الله، وارتباطهم بالحب العميق (مثل هذه النفوس تشبه داود وبولس). فيقولون: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 73: 28). وأيضًا من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ لا الموت أو الحياة، ولا الأمور الحاضرة ولا الآتية، ولا أي شيء آخر يمكن أن يفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (رو 8: 35، 38-39).
على الجانب الآخر يوجد أشخاص آخرون، هؤلاء يهربون من خطيئة الزنا لخوفهم من العقاب، فيبقون غير فاسدين وطاهرين، لكنهم يرفضون الشر من خلال الخوف لا الرغبة.
لكن يوجد من هم أكمل، الذين يتحدون في عدم فساد مع طهارة الله، ويسمى هؤلاء "بالملكات" لاتصالهم بالملك.
يُسمى الأشخاص الذين يزرعون الفضيلة نتيجة للخوف "بالسراري". فالسراري... لا يشاركن في عظمة الله ونبله. إذ كيف يمكن أن يفصل الشخص، الذي ينقصه العقل المدبر بالفضيلة، نفسه من الشر بخنوع العبيد؟ تُشير كلمة "ملكات" إلى الأشخاص الذين اِستحقوا الوقوف إلى جانب اليمين من الملك. وهو يقول لهم: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). ويقول لهؤلاء الذين هم أقل في المستوى: "خافوا من الذي بعد ما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم" (لو 12: 5) [64].
*حواس النفس الخمس المدركة إن نالت النعمة من فوق وتقديس الروح، كانت هي حقًا الخمس عذارى اللواتي نلن حكمة النعمة من فوق. وأما إن بقيت على طبيعتها كانت جاهلة، فتنكشف أنها من مواليد العالم، لكونها لم تَنبذ عنها روح العالم، مع أنها في غرورها، تزعم أنها عرائس العريس حقًا بلطف منطوقها ورزانة منظرها، لأنه كما أن النفوس التي تلتصق بالرب بكليتها فيه، تفتكر وتصلي وتسعى وتتلهف إلى محبة الرب (مز 72: 28)، كذلك النفوس المربوطة بحب العالم تشتهي أن يكون تصرفها على الأرض، فهناك تسعى، وهناك تشغل أفكارها، وهناك يسكن عقلها تمامًا.
*في ضعفي أصرخ: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟
يعيشون في رغدٍ، كأنهم أسعد الكائنات البشرية.
لا يعانون من أمراض خطيرة،
ولا تلحق بهم كوارث.
يموتون وهم كمن في سلامٍ!
يظنون أنه ليس إله!
يقيمون من أنفسهم أنصاف آلهة.
ويئن الأبرار والصدِّيقون من ظلمهم!
*أتطلع إليك فأدرك صلاحك!
ترتفع عينا قلبي عن الأحداث،
فأرى برَّك وحبك وحنانك.
أراك لا تحابي كائنًا ما في السماء أو على الأرض.
يمتلئ قلبي فرحًا، وتنطلق نفسي بتسبيحك!
*هب لي استقامة قلب ونقاوته،
فأعاين جلالك، وأتعرف على أسرار صلاحك!
تسكب صلاحك فيَّ،
فاستعذب صلاحك غير المدرك.
احفظني في برَّك،
فلا تزل قدماي ولا تنزلق خطواتي،
ولا يتسلل الشك إلى أعماقي من جهة صلاحك.
*في أعماقي كنت أشتهي السلام الزمني.
تحرمني منه إلى حين، لتملئ أعماقي بسلامك الأبدي.
تهبه للأشرار المتكبرين، فيمتلئ كأس شرهم ما لم يرجعوا إليك.
*ينتحر الأشرار العظماء بزينة أجسادهم.
يرتدون القلادات الذهبية حول أعناقهم،
بينما تئن نفوسهم من ثقل سلاسل الخطية.
يسيرون في أُبهة وعظمة بثيابهم الثمينة.
ولم يدركوا أنهم مع حواء وآدم يختفون وراء شجرة التين عراة.
يا لهم من بؤساء.
إنهم كالثور الذي يتركه صاحبه يفعل ما يشاء،
فإذا به يُعد للذبح!
*في تشامخ يجعل الأشرار أفواههم في السماء.
ويمشون كما بألسنتهم إلى الأرض.
يظنون أن ما تنطق به شفاههم يُطاع تحت كل الظروف!
*لأقترب إليك يا إلهي،
فإنك تقترب أنت إليَّ.
أنشغل بك وتستريح نفسي فيك.
أتعرف على أحكامك،
وأُدهش لسموّ حكمتك الفائقة.
لك المجد يا كلي الحب والحكمة!
*"طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8)...
كونوا بسطاء وأبرياء، حينئذ تصيرون كالأطفال الذين لا يعرفون الشر الذي يحطم حياة البشر.
في بداية الأمر لا تتكلم على أحدٍ بالسوء، ولا تعطيٍ أذنًا لمن يغتاب آخر ويتكلم عنه بسوءٍ. فإنك أن أصغيت وصدقت ما تسمعه من تشويه للسمعة تُحسب شريكًا مع المتكلم بالشر في الخطية. عندما تصدق الكلام، هذا يدفعك أن تضيف من عندك شيئًا ضد أخيك. فتصير مُدانًا باقتراف الخطية عينها التي قذف بها الآخر.
تشويه السمعة شر، بل هو شيطان متحرك. أنه لا يهب سلامًا بل صراعًا. تحَّفظ منه، فتعيش في سلام ٍمع كل أحدٍ.
لتلبس القداسة التي لا تشاكل الشر، بل تهب ثباتًا وفرحًا.
مارس الصلاح، أعطِ ببساطةٍ من ثمار تعبك جميع المحتاجين، لأن إرادة الله هي أن توزع هباته على الجميع... فمن يعطي يكون بلا لوم. فكما استلم من يد الله هكذا يكمل خدمته بأمانة ولا يتذبذب في العطاء، ولا يرتبك بين إعطائه فريق وامتناعه عن العطاء لفريق آخر.
إذا ما تمت هذه الخدمة ببساطةٍ، تُحسب مجيدة في عيني الله.
من يخدم بتواضعٍ يدخل في عشرة مع الله.
احفظ هذه الوصايا كما قدمتها لك، فتصير توبتك وتوبة أهل بيتك بسيطة، ويصير قلبك نقيًا وبلا عيب! [65]
*إعداد القلب هو عدم تعلم ترك المناقشات الشريرة. إنها تشبه لوحًا من الشمع ناعمًا مهيئًا للكتابة عليه.
*إذ تطهرت تستطيع أن تدرك ما هو غير منظور بالنسبة لغير الطاهرين. إذ تنزع الكلمة التي تسببها الأشراك المادية من عيني نفسك، فتشاهد الرؤية الطوباوية متألقة في السماء الطاهرة التي لقلبك.
*لا تجعل فمك مستعدًا بل قلبك... إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمس حواسنا الخارجية، ولا نقول: "ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟" [66]
* غيرّ القلب فتتغيّر الأعمال! اقتلع الشهوات واغرس المحبّة، فكما أن الشهوة (محبّة المال) أصل كل الشرور (1 تي 6: 10) هكذا المحبّة أصل الصلاح [67].
*إن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، ما دام يتمرّغ في الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته [68].
*ماذا يعني هذا؟ إن الاتّجاه السليم للنفس نحو الحق لهو أثمن في عينيّ الله من العبادات، فإن الله يسمع تنهُّدات القلب التي لا يُنطق بها [69].
*كن متسلّطًا على قلبك مثل ملك، لتجلس في عمق التواضع، تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء الحلو أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل [70].
*ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق [71].
*"قلبًا نقيًا أخلقه فيَّ يا الله" (مز 51: 10). إنه يطلب مثل هذه الخلقة، ليس كمن ليس له قلب، وإنما إذ أفسده يشتهي أن يرجع ويكون نقيًا [72].
* هوذا السماء داخلك إن كنت طاهرًا والملائكة فيها تنظرهم مشرقين.
_____
[1] Prayer of David 3: 1:1.
[2] Prayer of David 3: 1:2.
[3] On Ps 73.
[4] Prayer of David 3: 2:3.
[5] Prayer of David 3: 3:5-6.
[6] St. Jerome: Commentary on Jeremiah 3: 2: 2-3.
[7] In Josh 5:1.
[8] On Ps 73.
[9] Prayer of David 3: 3:5-6.
[10] On Ps 73.
[11] Cassian, Conferences 7:31.
[12] Prayer of David 3: 3:8-9.
[13] Morals on the Book of Job 5: 35.
[14] On Ps 73.
[15] Prayer of David 3:4:10-11.
[16] In Acts, homily 6.
[17] On Ps 73.
[18] On Ps 73.
[19] Prayer of David 3:5:12.
[20] On Ps 73.
[21] Prayer of David 3:5:14.
[22] On Ps 73.
[23] Prayer of David 3:6:15.
[24] Letter 68, to Castrutius 1.
[25] On Ps. 73.
[26] Prayer of David 3: 6:16.
[27] Prayer of David 3: 6:17.
[28] Prayer of David 3: 6:18.
[29] Prayer of David 3:6:17-19.
[30] عظة 25: 7.
[31] Against Jovinianus, Book 2: 24.
[32] On Ps. 73.
[33] Pastoral Care, 3:26.
[34] Prayer of David 3:7:21-22.
[35] On Ps. 73.
[36] On Ps. 73.
[37] Sermon 26: 5.
[38] Prayer of David 3: 8:23.
[39] Prayer of David 3: 8:24.
[40] On Ps. 73.
[41] On Ps. 73.
[42] On Divine Providence, Discourse 5: 25.
[43] Prayer of David 3: 9:25-26.
[44] On Ps. 73.
[45] On the Trinity, 12-14.
[46] Prayer of David 3:10:27.
[47] The Epistle to Romans, homily 5.
[48] Robert Llewellyn: The Joy of the Saints, p.54, 241, 248.
[49] Prayer of David 3:11:28
[50] Prayer of David 3:11:29.
[51] Letter 66 to Pammachius, 8.
[52] Ep. to Neoptian, 5.
[53] Ep. 116: 8.
[54] Homilies on St. John, homily 68: 2.
[55] On Ps. 73.
[56] The Way of life of the Catholic Church, 16.
[57] Sermon 216: 5.
[58] Sermon 255: 8.
[59] Sermon 137: 1.
[60] Sermon 21: 6.
[61] Sermon 21: 6.
[62] Sermon 173: 5.
[63] Sermons, 21: 5.
[64] عظة 15 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.
[65] Shepherd, Commandments 2.
[66] Sermons on N.T. Lessons, 62:5.
[67] Ser. on N. T. hom 22.
[68] Ser. on Mount 2:44.
[69] Adv. Eunom 1:37.
[70] Ladder, Step 7:39.
[71] In Luc. hom 21.
[72] Commentary on the Proverbs of Solomon, Fragment 8: 22.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 74 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 72 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/s7fb3pg