14- ن
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 105 - 106 - 107 - 108 - 109 - 110 - 111 - 112
[105-112]
عذوبة كلمة الله في فم المرتل لا تعني مجرد لذة فكرية، وإنما هي عذوبة خبرة وتمتع بالنور الحقيقي بعدما ألقته الخطية في ظلمة القبر وحكمت عليه بالموت الأبدي. يبعث الله بكلمته كنورٍ يشرق على العالم المظلم بمعرفة الشر، فتدخل إلى قلب المؤمن لتنير أعماقه وتكشف له عن عالم الروح. عوض خبرة الشر وعالم الإثم يتمتع المؤمن بخبرة برّ الله الساكن في نور لا يُدنى منه، فيرتل قائلًا: "بنورك يا رب نعاين النور".
يرى القديس كيرلس الكبير أن الإيمان هو السراج، وكلمة الله المتجسد هو النور، إذ يقول: [كلمة الله هو موضوع إيماننا، وهو النور. فالسراج هو الإيمان، إذ كان هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آتيًا إلى العالم (يو 9:1)(99).]
105. |
||
106. |
||
107. |
||
108. |
||
109. |
||
110. |
||
111. |
||
112. |
||
كلمة الله نور وحياة من وحي المزمور 119(ن) |
105 سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي.
"مصباح لرجلي كلامك،
ونور لسبيلي" [105].
كلمة الله نور مثل المنارة الذهبية المتقدة سرجها بلا انقطاع في هيكل الرب، ومثل عمود النور الذي كان يقود شعب بني إسرائيل في البرية نهارًا. أينما كنا سواء في الهيكل أو في الطريق فإن كلمة الله هي القائد الحقيقي الذي ينير لنا الطريق.
لماذا يدعوها: "مصباح لرجلي"؟ إنها لا تنير العينين فقط فتنال فهمًا وحكمة، وإنما تنير للقدمين كي يسيرا في الطريق الملوكي، فلا يكفي للمؤمن أن يتعرف عليه خلال الاستنارة الإلهية، إنما أن يسير فيه حتى يبلغ غايته. وكأن غاية الوصية ليس فقط الكشف عن إرادة الله لنا، إنما تبدد من أمامنا ظلمة الطريق الخاطئ، وتكشف لأقدامنا طريق الحق فنتبعه.
إذ يتحدث المرتل في ضعفه لم يقل عن الوصية أنها شمس بل مصباح. ففي هذه المرحلة لا تستطيع عيناه على معاينة الشمس، إنما يكفيها مصباح فينير ويبدد الظلام ويقودها إلى السيد المسيح، شمس البر، كلمة الله المتجسد، وكما يقول القديس بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار ويطلع الصبح في قلوبكم" (2 بط 19:1). عندئذ يُقال: "وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم، ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراجٍ أو نور شمسٍ، لأن الرب الإله ينير عليهم، وهم سيملكون إلى أبد الآبدين" (رؤ 4:22، 5).
في العهد القديم كان للمنارة الذهبية طقسها الخاص، من جهة سُرجها السبعة ونوع الزيت والفتائل، وكان ديمومة إنارتها أمرًا جوهريًا في حياة هذا الشعب. فقد كان ذلك رمزًا إلى حاجة الطبيعة البشرية إلى الاستنارة الإلهية حتى تُنزع عنها طبيعة الظلمة، وتحمل الشركة مع المسيح النور الحقيقي الذي ينير العالم.
إن كان السيد المسيح هو "الطريق" الذي يقود إنساننا الداخلي إلى حضن الآب، فإنه هو أيضًا النور الذي يكشف لنا هذا السبيل الملوكي فلا ننحرف عنه.
*
كان النور بالحق مخفيًا ومحتجبًا في ناموس موسى، لكن لما جاء يسوع، أشرق إذ رُفع البرقع وأعلنت في الحال وبالحق البركات التي قُدم ظلها في الحرف(100).* إذا أدرك أحد كلمة الله وتمتع باللوغوس في كل تصرف حتى عندما يرفع قدمه في كل خطوة يخطوها فإنه لا يمكن أن يتعثر، لأنه يقتني "المصباح" ويستخدمه. وعلى العكس إن قبل المصباح وبدَى كأنه قد آمن به لكنه لم يحمله في كل تصرف، ولا تطلع مع "اللوغوس" في كل سلوكه أين يضع قدمه، أقصد خطوات الروح، فمثل هذا الإنسان يرتكب خطأ مزدوجًا، لأنه أدرك اللوغوس ولم يستخدم كلمة الله أينما وُجد...
يمكننا القول إنه عندما جاء "كلمة الله" اللوغوس من السماء، أضاء كل مؤمن في داخله دون أن ينقص اللوغوس. خلال اللوغوس -المصباح والنور- تولدت مصابيح كثيرة من النور الفريد، فيقول كل من أدرك نعمة "كلمة الله"، السراج المنير، "أتطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ؟" (راجع 2كو3:13) تحت كل الظروف، إذ قبلنا كلمة الله نتهيأ لنتحرك في كلماتنا وسلوكنا وفكرنا مستخدمين السراج الذي نضعه أمامنا. فإنه "ليس أحد يوقد سراجًا ويغطيه بمكيال أو يضعه تحت سرير، بل يضعه على منارة لينظر الداخلون النور" (لو 16:8)... فإنه ليس بيننا من أضاء سراجه وصار مدركًا اللوغوس، يجعله عاطلًا بوضعه تحت إناء، أي تحت المكيال (لو33:11؛ مت15:5)، أو تحت سريره، بل يضعه على منارة؛ والمنارة هي موضع السراج...
بحسب التفسير الأول "موضع المنارة" هي نفسك، حيث يجب أن تكون موضعًا لكلمة الله.
وبحسب التفسير الثاني: فكر في فمك، وفي الكلمات التي ينطق بها عندما تفتحه لكلمة الله (اللوغوس)، وذلك بوضع السراج على منارة، أي في فمك.
الداخلون إليك ينظرون النور (لو33:11؛ مت15:5) سواء حسب التفسير الأول (أي متجليًا في نفسك) أو التفسير الثاني (معلنًا في كلماتك وفي فمك). لهذا يقول الكتاب المقدس: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة" لو35:12. السراج هو كلمة الله، اللوغوس، الذي قبلناه والذي به آمنا بالله (الآب)، ليظل مشتعلًا ولا ينطفئ أبدًا. "نور الصديقين أبدي، وسراج الأشرار ينطفئ" (أم 9:13).
كان في خيمة الشهادة (خر21:27) السراج موقدًا حتى يراه الذين يخدمون الله ويمارسون طقوسهم ويصيرون مستنيرين به. هكذا بنفس الطريقة يوقد سراج في الكنيسة، خيمة الشهادة (الجديدة).
"سراج الجسد هو العين" (مت22:6؛ لو34:11). الجسد الكامل يمثل الكنيسة، والسراج الذي يمثل عينها هو البصيرة الروحية في الإنسان. [يربط أوريجين بين المعرفة والعمل] من يدرك اللوغوس، لا يقدر كعين أن يقول لليد: ماذا تفعلين؟ ولا اليد تقول للعين: "لا حاجة لي إليكِ" (1كو12:12)، لأن اليد لا ترى لكنها هي التي تمارس (الحياة المسيحية) دون أن ترى الحقائق الروحية.
هناك اختلاف بين الذين يدركون اللوغوس (كلمة الله)، فالبعض يدركه مصباحًا والآخرون يدركونه نورًا... العذارى الجاهلات كان لهن مصابيح منطفئة (مت2:25)، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله" (يو20:3). كذلك يوبخ يسوع الذين لا ينتفعون دائمًا من النور، الذي معهم ساعة أو لحظة (يو35:5) عند استخدامهم هذا السراج. يقول يسوع: "كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة" (يو35:5).
إنني في حاجة إلى أمرين: مصباح لرجلي، ونور قوي لكل سبلي؛ عندما أسير في الطريق أحتاج إلى سراج أمام خطواتي، لكنني بعد ذلك أحتاج أيضًا إلى نور قوي.
يرى المرتل أن سياحته في هذا العالم تتطلب الاستنارة بتعاليم الله، التي تقوده في الطريق الملوكي مهما كانت المخاطر التي يتعرض لها.
* أشعة الكلمة مستعدة سرمديًا أن تشرق ما دامت نوافذ النفس مفتوحة خلال الإيمان البسيط.
* السراج هو الشريعة بالنسبة للذين يسلكون في الظلمة قبل أن تشرق عليهم شمس البر (ملاخي 20:3)، والنور الحقيقي ليس مصباحًا بل هو الشمس التي تضيء على الذين قد تناهي الليل بالنسبة لهم وتقارب النهار (رو12:13). في هذا النهار يمكننا أن نسلك بلياقة (رو13:13).
في اختصار كلمة الله هي مصباح للمؤمن، "لأن الوصية مصباح والشريعة نور" (أم 23:6)؛ إن عاشها بالروح يكون منيرًا، وإن توقف عند الحرف يصير منطفئًا كمصابيح العذارى الجاهلات.
في هذا العالم نحتاج إلى مصباحٍ منيرٍ وسط ظلمة هذه الحياة، فنسلك الطريق الملوكي، حتى نرى الرب وجهًا لوجه فننعم بالنور الأبدي.
عاش رجال العهد القديم قبل مجيء شمس البر يستنيرون بمصباح الشريعة، أما رجال العهد الجديد فيتمتعون بنور شمس البر، بكونهم قد صاروا أبناء نهار.
* من يرفض قبول نور كلمة الله ينبغي أن يخشى عقاب الظلمة الأبدية(101).
* ترجّوا واحتملوا حتى يعبر غضب الله على الليل الذي هو أب الأشرار. لقد كنا نحن أبناء الليل، كنا أحيانًا ظلامًا (أف 3:2؛ 8:5)، وها هي تظهر أثاره في جسدنا إذ نحن أموات بالخطايا (رو 10:8) حتى يميل النهار وتهرب الظلال (نش 17:2)(102).
* قيل هذا أيضًا عن المسيح، فقد قيل أنه أُعطى نورًا للأمم كما يقول إشعياء النبي: أعطيتك كنورٍ لكل الأمم، لكي تكون أنت خلاصي إلى أقاصي الأرض. لهذا يقول داود "مصباح لرجلي كلمتك، ونور لسبيلي"(103).
* ليست خليقة، سواء كانت عاقلة أو لها قوة فهم، تنير بذاتها، بل تستنير بالشركة مع الحق الأبدي.
يرى القديس جيروم أن النور هنا لا يشير إلى تبديد الظلام فحسب بل إلى بعث روح الفرح في المؤمنين. ولعل العذارى الحكيمات في استقبال العريس كن يحملن مصابيحهن متقدة وهن أمام شمس البرّ، لا مجال للظلمة، لكن كتعبيرٍ عن الفرح.
* خلال كل الكنائس الشرقية، حتى حين لا توجد رفات للشهداء عندما يُقرأ الإنجيل توقد الشموع بالرغم من أن الفجر ربما يكون قد ظهر في السماء، ليس لأجل تبديد الظلمة بل للشهادة للفرح. ولهذا فإن مصابيح العذارى في الإنجيل دائمًا مشتعلة. ويخبرنا الرسل أن تكون الأحقاء مُمَنْطَقَة والمصابيح في الأيدي متقدة. ونقرأ عن يوحنا المعمدان "كان السراج الذي يضيء" حتى خلال رمز النور المادي يُقدم النور الذي نقرأ عنه في المزمور: "سراج لرجلي كلامك يا رب، ونور لسبيلي"(104).
لقد أشرق الإنجيل بالنور الذي كان مختفيًا وراء الحروف في العهد القديم.
* الإنجيل، العهد الجديد، يخلصنا من النظام القديم، نظام الحرف، ويُعلن عن سمو النظام الجديد. هذا هو نظام الروح متحققًا بنور المعرفة ومنتميًا بطريقة لائقة إلى العهد الجديد لكنه يوجد مخفيًا أيضًا في الكتب في القديم(105).
106 حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ، أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ.
في الظلمة يسلك الإنسان بخوفٍ وقلقٍ، متوقعًا السقوط في حفرة أو في هوة أو التعثر بحجرٍ، أما السالك في النور فالطريق بالنسبة له مكشوف، لذا يسير فيه بشجاعةٍ ويقينٍ، لا يخاف الانحراف ولا العثرة ولا المذلة. لذا إذ وجد المرتل في الوصية الإلهية نورًا لسبيله قال:
"حلفت فأقمت على حفظ أحكام عدلك" [106].
يرى القديس أغسطينوس أن القَسَم هنا يعني الإصرار على السلوك في النور وحفظ أحكام عدل الله.
* تُحفظ أحكام الله البارة بالإيمان، وذلك عندما لا يُظن أن أي عمل صالح يكون بلا مكافأة، ولا أية خطية لا يُعاقب عنها وذلك حسب أحكام الله البارة.
* يجب أن نتساءل هنا: ماذا تعني "حلفت"؟ لقد قطع الرب عهدًا على مختاريه (مز4:88)، وبعد قطعه العهد قبله المؤمن. هذا العهد قائم بين الله والمؤمن كقَسمٍ بقبوله العهد المقطوع مع الله. بقبولنا العهد نكون قد قطعنا عهدًا نحن معه، وهو أن نقوم على حفظ أحكام برّ الله.
أثبت أحكام برّ الله في نفسي، وعندما أثبتها يحدث لي ما قاله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "أحكام الصديقين عدل" (أم 5:12). هذه الأحكام هي أحكام "برّ" الله.
متى تأتي هذه الأحكام؟ عندما "حلفت"، أي ثبَّت هذه الأحكام فيَّ.
* كلمة "حلفت" لا تعني النطق باسم الله، وإنما هي تعبير عن التحدث بكلمات لا تغيير فيها، وحفظ (العهد) دون ضعف، وذلك بالتنفيذ الحقيقي للعمل فيكون كمن أقسَم (فنفذ).
107 تَذَلَّلْتُ إِلَى الْغَايَةِ. يَا رَبُّ، أَحْيِنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ.
إذ أنارت الوصية للمرتل سبيله انفضحت أمام عينيه خطيته، وأدرك بشاعتها، فتذلل جدًا إلى الغاية، طالبًا مراحم الله وعمله الخلاصي. أدرك أن الموت قد ملك على نفسه وأهلكها، لذا يحتاج إلى كلمة الله النور لكي يرد لها الحياة، فيقول:
"تذللت جدًا للغاية،
يا رب أحيني كقولك" [107].
* تذللت إما بسبب هجوم الأعداء أو بسبب مقاومة (شهوات) الجسد لنا شخصيًا، والتي تأتي علينا بإرادتنا.
* يقول: حتى وإن كان لأي سبب أو علة أنتفخ وأتكبر وأفتخر لأنني ملك وحكيم ونبي، لكنني "تذللت إلى الغاية"؛ لأن الله "يستهزئ بالمتكبرين هكذا يعطي نعمة للمتواضعين" (أم34:3).
"يا رب أحيني كقولك" الكائنات المحرومة من العقل تحيا ولكن كخليقة غير عاقلة، أما الكائنات العاقلة فتحيا حسب العقل، لأنها خُلقت بطبيعة عاقلة.
لكن الجزء الأكبر من الخليقة العاقلة -أتحدث هنا على وجه الخصوص عن البشر- لا يعيشون "كأقوال الله"، وإنما حسب كبرياء (اهتمام) الجسد (رو6:8) وأفكاره. قليلون جدًا هم الذين يعيشون "كأقوال الله".
108 ارْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي يَا رَبُّ، وَأَحْكَامَكَ عَلِّمْنِي.
إذ يختبر المرتل النور بعد الظلمة والحياة المُقامة بعد الموت، يقول:
"تعهدات فمي باركها يا رب،
وأحكامك علمني" [108].
إذ غمرت المرتل نعمة الله، وأنارت الوصية حياته أراد تقديم ذبائح روحية مقبولة لدى الله، فقدم تعهدات الشكر والحمد لله تحت كل الظروف، ذبائح إرادته الحرة.
ماذا يعني ب "تعهدات فمي" حسب النص القبطي، أو "ارتضى يا رب بطوعيات فمي" في الترجمة السبعينية، أو"ارتضى بكلمات فمي" في السريانية؟
إذ تمتع المرتل بالحياة المقامة تعهد أن يعيش بناموس المسيح، أو ناموس الحياة الجديدة، فيمارس الحياة الروحية بما تحمله من جوانب إيجابية كالحب والشركة مع الله وملائكته وقديسيه، وجوانب سلبية كالامتناع عن طرق الشر، هذا مع بعض التعهدات الأخرى، كأن يصمم إنسان على البتولية أو الحياة النسكية إلخ. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). كل هذه التعهدات التي تتناغم مع الوصية الإلهية لا يقدر المؤمن أن يحققها ما لم تعمل الوصية فيه بكونها بركة الرب فيه، فيهبه الرب قوة للتنفيذ كما يعلمه أحكامه ويقوده بنفسه حتى لا ينحرف في تعهداته خارج دائرة الروح.
بالإيمان الحي والثقة في إمكانية الله وخلال الحب المتقد فينا نتعهد أن نقدم حياتنا ذبيحة حب لله يوميًا، ولتعمل الوصية فينا فننال بركة الرب ونكون تحت قيادته.
* "تعهدات فمي باركها يا رب؛ وأحكامك علمني"... بمعنى لتجعلها ترضيك؛ لا ترذلها بل وافق عليها.
تُفهم تقدمات الإرادة الحرة التي للفم على أنها ذبائح الحمد، تُقدم في اعتراف الحب، وليس عن الخوف من الالتزام، كما قيل: "أقدم لك تقدمة الإرادة الحرة" (مز6:5).
* نطلق على الأعمال التي نود أن نمارسها بإرادتنا طواعية "تعهدات" فمنا. نذكر على سبيل المثال: "وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن" (1كو25:7)، يقصد البتولية التي لم يصدر عنها وصية أو أمر لكنني أمارسها طوعًا، إذ اختار النصيب الصالح أو النصيب الأفضل (1كو38:7)؛ هذه اقبلها يا رب! هكذا في باقي أمور حياتنا نكتشف أننا نتمم بعض الأعمال كعبيدٍ يتلقون الأوامر، وننفذ الأخرى طوعًا.
"وأحكامك علمني" [108]. يقول إنني أعرف جيدًا أن أحكامك بعيدة عن الفحص (رو33:11)، ومع هذا علمني إياها لكي إذ أتعلمها أقوم بتنفيذها، وأبتهج بأحكامك الصالحة.
109 نَفْسِي دَائِمًا فِي كَفِّي، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا.
إذ يرى المرتل في الوصية عهدًا بين الله والإنسان أو "ديالوج Dialogue" حبٍ من الجانبين، فيه يختبر المؤمن قوة الكلمة كمصباحٍ ينير له طريق غربته وكنورٍ أبديٍ يلازمه في الأمجاد السماوية، وكقوة قيامةٍ تهب حياة جديدة وبركة، يطلب من الرب أن يعلمه أحكامه ويقوده بنفسه. أما المرتل ففي دالة البنوة وطاعة الحب يعلن تسليم حياته في يدي الله، وانشغال كيانه كله بناموسه، قائلًا:
"نفسي في يديك كل حين،
وناموسك لم أنسه" [109].
أدرك المرتل أن الأخطار تحوط به من كل جانب، ففي مواقف كثيرة كان على عتبة أبواب الموت، تارة خلال خطط شاول الملك ضده، وأخرى خلال ابنه أبشالوم والذي خطط له مشيره الشخصي أخيتوفل. لم يجد لنفسه مأوى آمن إلا يدي الله، فيطلب أن تُحفظ هناك. بين يدي الله لا نفكر في المخاطر التي تحل بنا ولا في عداوة الآخرين إنما نجد لذتنا في ناموس الرب ونرتبط بالحق.
يقول القديس أغسطينوس أنه جاء في بعض النسخ: "نفسي في يدي". على أي الأحوال إنها في يد الله حيث يعود المؤمن بالتوبة كالابن الراجع إلى أبيه ليسلمه حياته ونفسه فيحييها، أو هي في يد المؤمن يقدمها لله تقدمة محبة لكي يهبها الحياة.
* "نفسي في يدي"... تكون نفس أي إنسان بين اليدين حين يكون في وسط مخاطر... إذن يقول البار: بالنسبة لي فإني أموت كل يوم، أنا في خطر دائم من أجل (ارتباطي) بكلامك، ومن أجل الحق... ولكنني لم أنسَ ناموسك، لأن خطر الموت لا يقدر أن ينسيني ناموسك.
يمكننا أن نفهم هذه العبارة بطريقة أخرى، وهي أن نفسي دائمًا في كفي، أي أنها دائمًا تمارس الأعمال الصالحة، لأن "اليد" أو "الكف" تُطلق دائمًا على العمل.
كأن نفسي في يدي الله العامل فيّ، إذ يحول وصاياه إلى خبرة حياة وعمل في حياتي اليومية، وأما أنا فمن جانبي أتجاوب مع هذا العمل بعدم نسياني لناموسه. فما أمارسه حسب ناموس المسيح إنما هو هبة الله ونعمته لي.
* لأن نفوس الأبرار في يد الله" (حك1:3)، هذا الذي في يده نحن وكلماتنا (حك16:7)... يمكن فهم "نفسي في يديك"... على أنها كلمات الإنسان البار لا الشرير، هذا الذي يعود إلى الآب ولا يرحل عنه (لو12:15، 24)... في موضع آخر يقول: "إليك يا رب رفعت نفسي" (مز1:25).
110 الأَشْرَارُ وَضَعُوا لِي فَخًّا، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَضِلَّ عَنْهَا.
نفسي محفوظة بين يديك تحميها وتسندها، عاملًا فيها لتتجاوب مع عمل نعمتك. أما الأشرار فلا يستسلموا ولا يتوقفوا بل بالأكثر يقاومونني بكل وسيلة.
"أخفي الخطاة لي فخًا،
ولم أضل عن وصاياك" [110].
* متى يحدث هذا إلا أنه بسبب أن نفسه في يدي الله، أو أن نفسه في يده يقدمها لله كي يحييها.
* أنهم مثل صيادي الحيوانات غير العاقلة يضعون فخاخًا لاصطيادها، هكذا يفعل الشيطان وجنوده. لقد ملأوا العالم كله بالفخاخ، وملأوا الحياة بالشباك.
يقول: نصب هؤلاء لي فخاخًا في كل موضع، ومع هذا فإنني حفظت وصاياك على الدوام ولم أضل بعيدًا عنها. وفي مزمور آخر بعد ذلك يقول: "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين" (مز 7:124).
111 وَرِثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي.
إذ تفتح الوصية الإلهية عيوننا لنرى يدي الله مبسوطتين لاحتضاننا ندرك أن كل فخاخ العدو لا تقدر أن تصطادنا، عندئذ نتمسك بها كميراثٍ أبديٍ ويبتهج قلبنا بها.
"ورثت شهاداتك إلى الأبد،
لأنها بهجة قلبي هي" [111].
اكتشاف المؤمن لقوة كلمة الله يهبه الغيرة ليعلن أنها ميراثه الشخصي ونصيبه ليس إلى حين بل أبديًا، يقبلها بفرح وبهجة قلب فلا يتزعزع أبدًا.
يرى العلامة أوريجينوس أن "شهادات الرب" تعني قبول الوصية برضى، والشهادة للحق أي للمسيح أمام الناس بلا خجل، مجاهدًا حتى الموت. هذه الشهادات تهب المؤمن فرحًا كما قيل عن الرسل: "ذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه" (أع41:5).
* لقد اقتناها ميراثًا وذلك إلى الأبد، لأنها لا تحمل فيها مجدًا زمنيًا للبشر الذين يطلبون الأمور الباطلة، بل تحمل المجد الأبدي للذين يتألمون إلى زمن قصير والذين يملكون بلا نهاية. لذلك جاءت الكلمات التالية: "لأنها بهجة قلبي هي"؛ فمع أحزان الجسد توجد بهجة القلب.
112 عَطَفْتُ قَلْبِي لأَصْنَعَ فَرَائِضَكَ إِلَى الدَّهْرِ إِلَى النِّهَايَةِ.
أخيرًا فإن الوصية جذابة للقلب الذي ينفتح على الأبدية ليرى المكافأة.
"عطفت قلبي لأصنع فرائضك إلى الأبد من أجل المكافأة" [112].
* "عطفت" قلبي نحو شريعتك، نحو "فرائضك"، نحو "أوامرك"، لأني عرفت أن هناك مكافأة تنتظرني. هذه المكافأة هي "ملكوت الله"؛ "ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشرٍ، ما أعده الله للذين يحبونه" (1كو9:2).
ربما نتساءل: هل نصنع فرائض إلى الأبد؟ حتمًا لا! لكن إن كان الحب هو جوهر الفرائض الإلهية، فيبقى الحب أبديًا. بهذا تحسب أعمال الفرائض أبدية.
* الذي يقول "عطفت قلبي" سبق فقال "أمل قلبي إلى شهاداتك" [26]، وذلك لكي تفهم أن ذلك عطية إلهية وأيضًا هي عمل الإرادة الحرة.
هل نصنع برَّ الله إلى الأبد؟ هذه الأعمال التي نتممها لأجل احتياجات أقربائنا لا يمكن أن تكون أبدية حيث يتوقف الاحتياج إليها. لكن إن كنا لا نمارسها عن حب لا تكون برًا. أما إذا مارسناها عن حب، فهذا الحب أبدي، وله مكافأة أبدية مخزونة لأجله.
1. إن كانت الظلمة قد سادت العالم، لا نخاف مما فيه من عثرات أو أشراك أو فخاخ، مادمنا نمسك بمصباح حكمة الله المنير [105] الذي يبدد ظلام الجهل والحماقة.
2. إذ نختبر نور كلمة الله ندخل في عهد ثابت مع الله، فيه نعلن ولاءنا وطاعتنا له [106].
3. تكشف كلمة الله عن الموت الذي ملك علينا بالخطية لتهبنا الحياة [107].
4. بكلمة الله نقدم من جانبنا تعهدات بكامل حريتنا يباركها الرب [108]، كما نتعهد بتسليم حياتنا له [109].
5. كلمة الله تكشف لنا عن فخاخ العدو وتحمينا منها [110].
6. كلمة الله ميراث لنا يعكس علينا روح البهجة [111]، بها ننال مكافأة أبدية [112].
* كلمتك هي المنارة التي تنير مقادسك في داخلي،
وعمود النور الذي يقود كل كياني في الطريق إلى كنعان السماوية.
تبدد كل ظلمة في أعماقي لتعلن نورك السماوي.
أحملها أينما وجدت، فلا أتعثر في الظلمة!
* في العهد القديم كانت النبوات مصباحًا،
حملته حتى دخلت إليك فرأيتك يا شمس البرّ.
أشرقت عليّ بنورك الإلهي الأبدي، فجعلتني نورًا للعالم.
* أشرقت بنور الروح عليّ،
فحملتني من الحرف القاتل إلى الروح المحيي.
أدركتك وراء حروف الكتاب،
وتلاقيت معك أيها النور الفريد!
* كلمتك هي نور الفرح والبهجة.
لأحملها مع العذارى الحكيمات فأدخل معهن في صحبة شمس البرّ.
لا تحتاج السماء إلى مصباحي،
بل أنعم أنا بنور الفرح في عرسٍ أبديٍ لا ينقطع.
* إذ تنير لي كلمتك اكتشف خطاياي فأتذلل،
وأدرك قوة مواعيدك، فأحيا بقولك.
أقدم لك نفسي التي في يدي تقدمة حب،
أسلمها لك فتتعهدها بنفسك وتحييها.
* تنير لي كلمتك فاكتشف الفخاخ المنصوبة،
حسبوني كحيوانٍ مفترسٍ وأرادوا اصطيادي وقتلي.
* كلمتك تنير لي عن ميراثي الأبدي ومكافأتي،
فأجاهد بروح الفرح والبهجة.
أجري إليك وأضع نفسي بين يديك فتحييها وتحميها.
_____
(99) In lus. 11:33-36.
(100) On Principitis 4:1:6 (Die griechischen christichen Schrifsteller, 4:302.)
(101) Sermon 76:3.
(102) Confessions 13:14 (15).
(103) Select Demonstration, 1:10.
(104) Against Vigilantius, 7.
(105) Com. On John 1:6:36.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 119 (قطعة
15) |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 119 (قطعة
13) |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rd6y52g