← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16
تعلمت في طفولتي من الجو الكنسي في صعيد مصر ما لهذا المزمور من امتياز، فغالبًا ما كان الآباء الكهنة والرهبان يطلبون من المتألمين أن يتغنوا بهذا المزمور. وقد اعتاد البابا كيرلس السادس أن يكتب الآية الأولى من هذا المزمور للذين يسألونه البركة.
يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور يُقدم للمؤمنين القادمين إلى أورشليم للتمتع بالهيكل، كما بجناحين يحتضنهم ويحفظهم خلال الشعور بالحضرة الإلهية الصادقة واهبة السلام الداخلي.
يرى البعض أن هذا المزمور أروع لؤلؤة بين مزامير التعزيات. ويقول
Muis بأنه لا يُوجد في اللاتينية أو اللغات الحديثة ما يضاهي جمال هذا المزمور، ولا توجد قطعة شعرية في اليونانية واللاتينية تقارن بهذه القطعة الشعرية العبرية [1].مزمور مسياني، ليس فقط لأن الشيطان اقتبس الآيتين 11، 12 (مت 4: 6؛ لو 4: 10-11) في أثناء التجربة في البرية، وإنما لأن ما ورد فيه يتمتع به المؤمن في المسيح يسوع صخرتنا الحقيقية، كما كان اليهود القدامى أيضًا يحسبونه مزمورًا مسيانيًا.
يكرر المرتل اسم الله، ذاكرًا أربعة ألقاب له: وهي Gel-yohn (العلي)؛ شاداي (القدير) وهو اسم الله الخالق؛ وألوهيم (الله)؛ يهوه (الرب) الذي يسكن وسط شعبه.
* هذا المزمور هو الذي من خلاله تجاسر الشيطان أن يجرب ربنا يسوع. لهذا ليتنا نصغي إليه، حتى نتسلح، ونستطيع أن نقاوم المجَّرب، ليس بأن نجسر بأنفسنا، بل بذاك الذي جُرب قبلنا، حتى نغلب متى جُربنا. التجربة بالنسبة له لم تكن إلزامية، إنما كانت تجربة المسيح هي لتعليمنا... لندخل إذن من الباب، كما تقرأون في الإنجيل. وما هو الدخول من الباب؟ هو دخول بالمسيح القائل: "أنا هو الباب" (يو 10: 7). والدخول بالمسيح هو الاقتداء به [2].
1 -2. |
||
3 -13. |
||
14 -16. |
||
من وحي مز 91 |
1 اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. 2 أَقُولُ لِلرَّبِّ: «مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ».
اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ،
فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ [1].
كثيرًا ما يعاني الإنسان -حتى الطفل- بالشعور بالغربة والعزلة، حتى صرخ المرتل: "أبي وأمي قد تركاني"، لكن المؤمن خائف الرب يشعر بالطمأنينة والحرية وهو في حضن الله. إنه يشعر بالدفء الأبوي الإلهي مع الشعور بالرعاية والطمأنينة.
الكلمة العبرية المترجمة هنا "الساكن" تحمل مع السكنى نوعًا من الحماية.
مسيحنا -رأس الكنيسة- في حضن الآب، هذا السرً لا تقدر أن تتعرف عليه خليقة سماوية أو أرضية، فإنه يقول "من عند الآب خرجت". وكأنه خرج ليحملنا فيه، ويدخل بنا إلى ستر العلي، نستقر أبديًا في الأحضان الإلهية.
*هكذا تفكر النفس التي تحب الله: الله هو موضعها؛ ولا تعرف موضعًا آخر تسكن فيه، ولا تقطن في موضعٍ إلا في الله، كما هو مكتوب: "الرب مسكن لنا إلى جيل الأجيال". إذًا حيثما يوجد المسيحي الحقيقي، يسكن في الله، ويسكن الله فيه، ولا يتكل على الموطن ولا الموضع. لهذا لا يحتاج إلى التنقل من موضعٍ إلى موضعٍ مثيله. لأجل هذا أتوسل إلى محبتك أن تخدم إلهك بالمحبة الإلهية، كما أنت وحيثما وُجدت [3].
* الذي سلَّم نفسه بجملته إلى عون إله السماء، ذاك يلبث مستورًا من كل ضرر. أيضًا يقول القديس أثناسيوس: إن عون العلي هو شرائع الله، لأنها أُعطيت لنصرتنا مقابل الأعداء غير المنظورين، فالذي يستتر بسننها يسكن في هذا العون.
* ذاك الذي يسكن في يسوع... كما يقول الرسول (2 كو 5: 1)، يبني بيته بدون أيادٍ بشرية، هذا البيت الذي بناه الرب للقابلتين في مصر (خر 1: 21)، "يسكن في ستر إله السماء [4].
* عندما تعاني من متاعب العالم التي يصبها الشيطان على البشر علانية أو خفية كما في حالة أيوب، تشجع، وكن طويل الأناة، فإنك تسكن تحت حماية العلي، كما يعبر عن ذلك المزمور. فإنك إن تركت عون العلي دون نوال قوة لعونك، تسقط... لا تخف عندما تتمثل بالمسيح. لأنه عندما جُرب ربنا لم يكن إنسان (معه) في البرية. لقد جربه (إبليس) سريًا، وهُزم، كما هُزم عندما جربه علانية... من يقتدي بالمسيح هكذا فيحتمل كل متاعب هذا العالم برجائه في الله لا يسقط في شبكة، ولا تحطمه مخاوف مرعبة. إنه الساكن في ستر العلي، يقطن تحت حماية الله [5].
أَقُولُ لِلرَّبِّ: مَلْجَأي وَحِصْنِي.
إِلَهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ [2].
حين يشعر الإنسان بكثرة الأعداء وقوتهم، ويدرك ضعفه يبحث عن ملجأ يحتمي فيه. هذه هي إحدى بركات الحرب الروحية مع إبليس وقوات الظلمة، إنه يكشف عن حاجته إلى الله كملجأ له، وكحصنٍ لحياته. يجد في الله الصدر الوحيد الكفيل بالاتكاء عليه.
ليكثر الأعداء ولتتشدد مقاومتهم لي، فإني وإن ارتعبت في البداية، لكنني أرى في الله حمايتي. إنه القدوس القادر لا أن ينقذني من فساد الخطية ويحميني منها، وإنما يمتعني بالقداسة. اختفي فيه فلا ارتعب من عنف الأعداء وقسوتهم، بل أنعم بقوة إلهية فائقة. فيه أختفي وأستتر ببرِّه وحكمته وكماله؛ تكتسي نفسي بسمات سماوية هي من فيض النعمة الإلهية.
*بحق قال: "ملجأي"؛ إذ يوجد مضطهدون كثيرون، وأنت وحدك ملجأي. توجد جراحات كثيرة، وأنت وحدك الطبيب [6].
* إني محاصر بواسطة الأعداء، لهذا فأنت ملجأي... مادمنا مستمرين في حياة الخطية بالتأكيد نحن لا نتكل عليه، لكن إذ نضع نهاية للخطية يصير رجاؤنا موثوقًا فيه [7].
3 لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ وَمِنَ الْوَبَإِ الْخَطِرِ. 4 بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. 5 لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ، 6 وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ. 7 يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرِبْوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ. 8 إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ الأَشْرَارِ. 9 لأَنَّكَ قُلْتَ: «أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي». جَعَلْتَ الْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ، 10 لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ، وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ. 11 لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ. 12 عَلَى الأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. 13 عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ.
لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ،
وَمِنَ الْوَبَأ الْخَطِرِ [3].
جاءت ترجمة "الوبأ الخطر" في القديس جيروم [8] "الكلمة القارسة"، ويقول إنها في العبرية جاءت "المكتومة"، لأن الهراطقة دائمًا يعدون بأسرار عميقة مظلمة لكي يتلفوا ويمزقوا ما هو حق وواضح.
إن كان إبليس صيادًا خبيثًا، فدوره الرئيسي أن يدرب من له على نصب الشباك والفخاخ لاصطياد النفوس لحسابه. هذه الفخاخ كثيرة ومتنوعة، من خطايا وهرطقات. أما عمل السيد المسيح فهو أن ينقذ نفوس مؤمنيه من الفخاخ فتفلت منها وتطير، كالعصفور الذي يفلت من فخ الصيادين.
* مما ينجيك؟ "من فخ الصياد، ومن كلمة قاسية". الخلاص من فخ الصياد حقًا بركة عظيمة، ولكن كيف يكون الخلاص من كلمة قاسية هكذا؟ كثيرون يسقطون في فخ الصياد من كلمة قاسية. ما هذا الذي أقوله؟ الشيطان وملائكته ينصبون فخاخهم كصيادين، والذين يسلكون في المسيح يسيرون بعيدًا عن هذه الفخاخ. لأنه لا يجسر أن ينصب فخه في المسيح. إنه ينصبه على حافة الطريق، لا في الطريق. إذن ليكن طريقك هو المسيح، وبهذا لا تسقط في فخاخ الشيطان...
ولكن ما هي الكلمة القاسية، يصطاد الشيطان في فخاخه كثيرين بالكلمة القاسية. كمثال الذين يعترفون بالمسيحية وسط الوثنيين يحتملون إهانات من الوثنيين... كما أن المسيحي الذي يعيش بين الوثنيين ويخاف من إهاناتهم يسقط في فخ الصياد، هكذا من يعيش بين المسيحيين ويسعى أن يكون أكثر اجتهادًا وأفضل من البقية، عليه أن يحتمل إهانات من المسيحيين أنفسهم... إذ يقولون له: "إنك قدير، وبار، إنك إيليا، إنك بطرس، لقد نزلت من المساء!" إنهم يهينونه أينما سلك، ويسمع كلمات قاسية من كل جانب. فإن خاف وترك طريق المسيح يسقط في فخاخ الصيادين [9].
*أقوال الهراطقة تصيد نفوس الأميين، وتزعجها بزيادة.
* "اتكل عليه، لأنه ينجيني من فخ الصياد". في هذا الدهر يوجد صيادون كثيرون يرغبون في اصطياد نفوسنا. وكما يقول النبي: "انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين" (مز 124: 7). نلاحظ في مرات كثيرة أن في الكتاب المقدس يلعب الصيادون دورًا معاديًا. كمثال نمرود العملاق الذي كان دائمًا متمردًا على الله، كان صيادًا. وأيضًا هكذا كان عيسو... نقرأ في سفر الأمثال: "عيني الزانية شبكة الخاطي" [راجع أم 6: 25] LXX. من ينظر إلى امرأة بشهوةٍ يرتكب زنا في قلبه (مت 5: 28). توجد شباك كثيرة حيث توجد خطايا كثيرة؛ وحيث يوجد صيادون كثيرون توجد شباك. تعاليم الهراطقة هي مصائد الموت [10].
* يوجد صيادون كثيرون في هذا العالم يضعون المصايد لنفوسنا. نمرود العملاق كان صيادًا قديرًا أمام الرب (تك 10: 8-9). عيسو أيضًا كان صيادًا، إذ كان خاطئًا. في كل الكتاب المقدس لا نجد صيادًا كعبدٍ أمينٍ، إنما نجد صيادي سمك أمناء... مادمنا نحن في حالة النعمة فإن نفوسنا تكون في سلام، لكن ما أن نبدأ نلهو بالخطية حتى تصير نفوسنا مضطربة، مثل قارب تخبطه الأمواج [11].
بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ،
وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي.
تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ [4].
يُقصد بِخَوَافِيهِ ريش الطائر الناعم. كثيرًا ما يشبه الله نفسه بالطائر الذي يحتضن صغاره بجناحيه.
يرى القديس غريغوريوس النيسي أن الله خلق الإنسان على صورته، وبالتالي له جناحان. ولعله لا يقصد جناحين بالمفهوم الجسدي، إنما الروحي، يعيش في جنة عدن وتطير أعماقه كما بجناحين في جو سماوي.
يرى القديس جيروم أن الله يحوط حولنا بكلمته التي هي الحق، فنصير في حمايته كما بترسٍ، أي ترس الحق القادر أن يحطم الباطل والخداع والكذب الذي للهراطقة.
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يدعونا أن نختفي بين ذراعي الله وتحت جناحيه، فيحيط الله بنا من كل جانب، حتى لا يحل بنا خوف ولا تصيبنا أذية: [كن حريصًا ألا تفارق هذا الموقع، فلا يجسر عدو أن يقترب إليك [12].]
* إن كانت الدجاجة تحمي صغارها تحت جناحيها، كم بالأكثر تكون في أمان تحت جناحي الله، من الشيطان وملائكته والقوات التي تطير في وسط الهواء مثل الصقور لكي تقتنص الصغار الضعفاء؟ [13]
*من الذي يظللك؟ إله السماء بالطبع، كما تظلل الدجاجة فراخها (مت 23: 37)، والنسر فراخه. في هذه النزعة عينها تقول التسبحة في سفر التثنية إن الرب يحمل شعب إسرائيل على منكبيه كالنسر يحميهم (تث 32: 11). يمكن أيضًا تفسير هذه الآية بخصوص المخلص، إذ على الصليب يهبنا حماية جناحيه. "تحت أجنحته تحتمي" (مز 91: 4). "طول النهار بسطت يديَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاومٍ" (رو 10: 21). رفع يديّ الرب نحو السماء لم يكن لطلب العون، وإنما لحمياتنا، نحن خلائق البائسة.
"حقه يحيط بك بترسٍ" (راجع مز 90: 4)، بمعنى أن حقه يحميك من كل الجوانب [14].
* نجد ذات الفكر في سفر التثنية (تث 32: 11). يبسط الرب كالنسر جناحيه علينا نحن فراخه الصغار. هنا يُشبه الرب بالنسر الذي يحرس صغاره. التشبيه لائق بالله بكونه الآب، وكالدجاجة التي تحمي فراخها لئلا يخطفها صقر... "بخوافيه يستر عليكم" إنه يُرفع على الصليب، ويبسط يديه ليحمينا. "وتحت جناحيه نحتمي". تتطلعوا إلى يديه المصلوبتين، وكما يقول النبي، إن لدغتكم الحية تُشفون. حتى إن كنتم تجولون في برية هذا العالم، ولدغتكم عقرب، أو أفعى، أو صل، أو أي مخلوق سام، فلتطمئنوا أنكم سوف تبرأون، فالحية (النحاسية) تُرفع في البرية (عد 21: 8-9) [15].
* "حقه يحيط بنا بترسٍ". ترسنا دائري، أي يحمينا من كل الجوانب. إنه ليس مجرد ترس، وإنما هو أيضًا حصن. "يا رب كأنه بترسٍ تحيطه (تكللنا) برضاك" (راجع مز 5: 12). هل بالحقيقة يُكلل أحد بترسٍ. لاحظوا ماذا تقول (العبارة)؟ "يا رب يكللنا بترس رضاك". ماذا يعني هذا؟ إنك تحرسنا وتجعلنا منتصرين، وبعد النصرة تعطينا إكليلًا. "حقه يحيط بك بترسٍ". ولما كان المرتل قد قال بأن الرب سيخلصنا من الكلمة المهلكة، فإنه يمكننا أن نفهم هذه الكلمة التي للهلاك هي تعليم الهراطقة والفلاسفة واليهود. هذه الكلمة الحادة ليست الحق بل الكذب [16].
*تحطم أورشليم نفسها بخطاياها ومع هذا أية حنو يبقى! بأي دفءٍ يعبر عن حنوه، كأم نحو رضيعها. في كل موضعٍ في الأنبياء نجد ذات الصورة الخاصة بالجناحين، في أغنية موسى (تث 32: 11)، وفي المزامير (مز 91: 4)، مشيرًا إلى حمايته العظيمة ورعايته [17].
* يصعب معرفة من نطق بالكلمات الآتية ولمن وجهها: "حوّلي عني عينيك، فإنهما قد غلبتاني، شعرك كقطيع المعز الرابض في جلعاد" (نش 5:6). يظهر أن السيد المسيح هو الذي يوجه هذه الكلمات إلى النفس النقية، ولو أني أعتقد أنه يمكن أن تُوجه إلى العروس. على أي حال سأعرض الآن معناها كما يظهر لي. قرأت في الكتاب المقدس في عدة مناسبات أن الأجنحة تُنسب إلى الله، كما يقول النبي: "احفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استرني" (مز 8:17). وأيضًا: "بخوافيه يظللك، وتحت أجنحته تحتمي" (مز 4:91). واقترح موسى ذلك في سفر التثنية: "كما يحرك النسر عشه، وعلى فراخه يرف، ويبسط جناحيه، ويأخذها ويحملها على منكبيه" (تث 11:32). ويقول السيد المسيح: "يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 37:23). تتوافق هذه التعبيرات مع ما كنا نفترضه. فإذا قال النص المقدس الموحى به، لأي سبب سرِّي لا نعرفه أن الطبيعة الإلهية لها أجنحة، لذلك يكون الإنسان الأول الذي خلق على حسب صورة الله، شبيها له في كل شيءٍ (تك 26:1). أستنتج من ذلك أن الإنسان الأول خُلق بأجنحة (روحية) حتى يكون شبيها بالطبيعة الإلهية. ويتضح أن كلمة "أجنحة" يمكن أن ترمز إلى الله. فهي قوة الله ونعمته وعدم فساده وكل شيءٍ آخر. وامتلك الإنسان جميع هذه الصفات، طالما كان على شبه الله في كل شيءٍ، ولكن ميلنا إلى الشر سلب منا الأجنحة. (فلم نعد تحت حماية أجنحة الله، بل نُزعت منا أجنحتنا الخاصة). لذلك ظهرت لنا نعمة وبركة الله وأنارت عقولنا حتى تنمو لنا أجنحة من خلال الطهارة والبرً بعد أن ننبذ الرغبات الدنيوية ونتجه إلى الله بكل قلوبنا [18].
*مثل نسرٍ بسط الرب جناحيه علينا، نحن الطير الصغير. هناك يقارن الرب بالنسر الذي يحرس صغاره. التشبيه مناسب، أن الله يحمينا كأب، وكدجاجة تحمي صغارها، لئلا يختطفنا صقر. يمكن أيضًا تقديم تفسير آخر. إنه بجناحيه يظلل عليكم (مز 91: 4). إنه يرتفع على الصليب، ويبسط يديه ليحمينا، "وتحت جناحيه تلجأون" [19].
لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْل،ِ
وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ [5].
كثيرًا ما يشير الليل بظلمته إلى إبليس رئيس قوات الظلمة، فمن يختفي في المسيح يسوع، النور الحقيقي، لن يقدر عدو الخير أن يقتنصه. إنه لا يستطيع إبليس بكل حيله وقواته وأعماله الشريرة أن يغتصبه.
أما السهم الذي يطير في النهار، فيرى كثير من آباء الكنيسة أنه يشير إلى الهراطقة الذين يقتبسون من الكتاب المقدس الذي هو نور الحياة ويفسدون تفسيره. هذه هي السهام التي تطير في النهار، والتي تسيء استخدام كلمة الحياة.
* خوف الليل هو الاغتيال الخفي والخيانة المجهولة التي تحدث في الليل؛ وأيضًا الشهوات الجسدية التي قد تهيج ليلًا. أما السهم الطائر في النهار فهو المقاومة الظاهرة.
* "لا تخشى من خوف الليل". لا يخشى البار الليل بل النهار. "هلم أيها البنون استمعوا إليّ فأعلمكم مخافة الرب" (مز 33: 12). هؤلاء الذين هم أبناء النبي ليس لهم خوف الليل ولا مخافة الظلمة، بل مخافة النور والنهار...
لا يصوِّب الشيطان سهامه في النهار لئلا تُرى، لأن كل ما يفعل في النور واضح بواسطة النور (أف 5: 13).
قد يعترض البعض: إن كان الشيطان لا يصوب سهامه في النهار، فماذا يعني المرتل بالعبارة التالية: "ولا من سهم يطير في النهار"؟ ما هو السهم الذي يطير في النهار؟ إنه تعليم الهراطقة الذي يطير هنا وهناك في النهار -خلال كل ناموس الله- ببحثهم المُقلق للشهادة ضدنا، حتى يسلبوا منا كل الحق بتفاسيرهم. "ولا من وبأ يسلك في الدجى (الظلمة)" (مز 91: 6).
لم يقل "يقف" بل "يجول" (يسلك)، فإن الهراطقة لن يثبتوا عند معتقداتهم، بل دائمًا يغيرون آراءهم، يتحركون إلى الخلف وإلى الأمام.
*إننا مُحاصرون بجيوش الأعداء، فإنهم حولنا من كل جانب. الجسد الضعيف سيصير قريبًا ترابًا، إنه واحد ضد كثيرين، يحارب ضد فرق هائلة. إلى أن يحل، إلى أن يأتي رئيس العالم، ولا يجد خطية فيه. إلى أن يحين ذلك، فلتنصت في أمانٍ إلى كلمات النبي: "لا تخف من رعب الليل، ولا من سهمٍ يصير في النهار..." (مز 5:91) [20]
*إن كنت بارًا، لا يقدر أحد أن يخيفك. إن كنت تخاف الله لن تخاف شيئًا ما. "الصديق كأسد يثبت" (أم 28: 1). وبحسب كلمات داود: "لا أخشى من خوف الليل" (راجع مز 91: 5) وهكذا. يضيف أيضًا: "الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب ملجأ حياتي ممن ارتعب؟" (راجع مز 27: 1) وأيضًا: "وإن قام عليّ جيش لا يخاف قلبي" (مز 27: 3). هل ترى شجاعة النفس التي تلاحظ وصايا الله وثباتها [21]؟
وَلاَ مِنْ وَبَأٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى،
وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ [6].
كما يؤكد الله أن عينيه على خائفيه من أول السنة إلى آخرها، ورعايته لا تتوقف نهارًا وليلًا، هكذا فإن المقاوم من جانبه لا يترك فرصة إلا ويستغلها لتحطيم أولاد الله. فيحاول أن يرهبهم في الليل، ويطلق سهامه في النهار [5]، يبعث بالأوبئة في ظلمة الدجى أو منتصف الليل، وهلاكه في الظهيرة وسط النهار.
ليعمل إبليس بكل طاقاته وتحت كل الظروف، فإن خائفي الرب محفوظون في الله ملجأهم، حيث لا يقدر سهم أن يخترقه، ولا بأن يعبر خلاله؛ حماية الله فيها كل الكفاية، يهب الأمان على الدوام، نهارًا وليلًا، بل وفي كل ساعة. لن يُصاب مؤمن إلا بسماح من الله ولبنيانه.
* لماذا يقول: "في الظهيرة"؟ الاضطهاد حار جدًا، هكذا الظهيرة تعني الحرارة الشديدة... الشيطان الذي في الظهيرة يمثل حرارة الاضطهاد الصاخب [22].
* "ولا من هلاكٍ يفسد في الظهيرة". نقرأ في سفر التكوين أن يوسف أقام وليمة لإخوته في الظهيرة، وفي نشيد الأناشيد مكتوب: "أين ترعى، أين تربض (تستريح) عند الظهيرة" (نش 1: 7). القديسون هم الذين عند الظهيرة يرعون ويستريحون، بينما يتشكل الشيطان مثل ملاك نور (2 كو 11: 14)، ويتنكر خدامه كخدام للبرّ باطلين. لذلك فإن أريوس وغيره من الهراطقة يدعون شياطين الظهيرة [23].
*أما سادس صراع لنا فهو موجه ضد ما يسميه اليونانيون بالضجر، أو ما يصح لنا أن ندعوه بالملل أو تعب القلب، وهو وثيق الصلة بالاكتئاب. يلاحق النساك بوجه خاص، وهو عدو خطير كثير التردد على سكان الصحراء. لا يزعج الراهب عادة إلا في الساعة السادسة، مثل الحُمَّى التي يقع المرء فريسة لنوباتها، وما تسببه من ارتفاع شديد في حرارة المريض، خلال ساعات معينة منتظمة. وأخيرًا فثمة شيوخ يُعلنون أن هذه الروح هي "شيطان الظهيرة" الذي ورد ذكره في المزمور التسعين [24].
*شيطان الضجر، الذي يقال له أيضًا "شيطان الظهيرة" (مز 6:91)، هو أخطر الشياطين. إذ يهجم على الراهب حوالي الساعة الرابعة من النهار (10 صباحًا)، ويجعل النفس تدور كما في دوامة حتى الساعة الثامنة من النهار (الساعة 2 بعد الظهر).
يبتدئ أولًا بأن يجعل الإنسان يترقب الشمس وهو في غمٍ وضيق صدر، فيراها تتحرك ببطءٍ، كأنها لا تتحرك قط، ويبدو كأن ساعات النهار قد صارت خمسين ساعة. وبعدما يتراكم عليه الضجر، يحثه الشيطان لكي ينظر من نافذته، أو يخرج من قلايته يترقب الشمس، وكيف أن الوقت لا يزال الساعة التاسعة. ثم يجعله يحملق هنا وهناك لعله يجد أحد الإخوة القريبين منه خارج (قلايته)، ويثير في داخله الغيظ من المكان الذي يقطن فيه، ومن نمط حياته وعمله، ويضيف إليه هذا الفكر أنه لا توجد محبة بين الإخوة، ولا يوجد هنا من يعزيه.
وإذا حدث في هذه الأيام أن أساء إليه أحد، فإن الشيطان يذكره بذلك لكي يزيد من حنقه وغيظه.
بعد ذلك يثير فيه الاشتياق للسكنى في أماكن أخرى، حيث يكون من السهل أن يمارس عملًا آخر أكثر نفعًا لسد حاجاته وأقل قسوة.
ويضيف إليه الشيطان أن إرضاء الإنسان لله لا يتوقف على مكانٍ معينٍ، وأنه يمكننا أن نعبد الله في كل مكان. ثم يربط هذه الأفكار بأفكارٍ أخرى، كأن يذكره بأقاربه والحياة الهادئة الهنيئة الأولى، ثم يتنبأ له بحياة طويلة مملوءة بمصاعب الجهاد النسكي. وهكذا يستخدم كل حيلة وحيلة لكي يخدع الراهب فيجعله ينهي هذه الحياة ويترك قلايته. هذا الشيطان يلحق به شيطان آخر ولكن ليس في الحال.
أما إذا قاوم الراهب هذه الحروب وانتصر، تستقر النفس في سلام وتمتلئ بفرحٍ لا ينطق به [25].
*تقف الشياطين التي تثير النفس بإلحاح وتزعج النفس حتى الموت، أما الشياطين التي تثير حركة شهوة الجسد فتتقهقر بأكثر سهولة من الأولى.
أضف إلى هذا أن بعض الشياطين تشبه الشمس المشرقة أو التي تغرب، تلمس جانبًا واحدًا من النفس أو آخر، أما "شيطان الظهيرة" فقد اعتاد أن يغلف النفس كلها ويُغرق الذهن.
لهذا السبب فإن العزلة (الوحدة) مع غلبة الشهوات أمر حلو، إذ لا يعود يبقى منها إلا مجرد ذكريات، أما الحرب (الروحية) فلا تكون بعد شديدة بقدر ما نفكر فيها مليًا [26].
*لقد تبرهن بجلاء أنه يوجد في الأرواح النجسة عدة شهوات مثل البشر. فالبعض تقوي الفسق واللهو، وبعضها تعمل في قلوب من تأسرهم بالكبرياء الباطل.. وأرواح أخرى حاذقة في الكذب، بل وتوحي للبشر بالتجديف، ويظهر ذلك مما جاء علانية في (1 مل 22:22) "أخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ". وبسبب هذه الأرواح ينتهر الرسول من هم مخدوعون بها، إذ هم "تابعون أرواحًا مضلَّة وتعاليم شياطين في رياءِ أقوالٍ كاذبة" (1 تي 1:4، 2). وهناك نوع آخر من الشياطين يشهد عنهم الكتاب أنهم بْكم وصمْ. وبعض الأرواح تُقوي الشهوة والدنس، إذ يعلن هوشع النبي قائلًا: "لأن روح الزنى قد أضلَّهم، فزنوا من تحت إلههم [27]" (هو 4: 12).
وبنفس الطريقة يعلمنا الكتاب أنه توجد شياطين الليل والنهار والظهيرة (مز91: 5، 6). ولقد لقبت الشياطين بأسماء كثيرة في الكتاب المقدس [28]... هذه الأسماء لم ترد اعتباطًا، بل تشير إلى شراستها وجنونها تحت أسماء هذه الحيوانات المفترسة المتباينة الضرر والخطورة بالنسبة لنا (إذ لُقبت أسودًا وأفاعٍ).. [29]
*إنَّه عدو ماكر ومخادع، لا يمكننا -بدون نورك- أن نُدرك طرقه الملتوية، ونعرف أشكال وجهه المتعددة. فتارة نراه ههنا، وأخرى هناك!
تارة يظهر كحَمَلٍ، وأخرى كذئبٍ!
تارة يظهر كنورٍ، وأخرى كظلامٍ!
إنَّه يعرف كيف يغيِّر شكله، ويُشكِّل خططه، حسب ظروف الإنسان وأوقاته، فلكي يخدع المتعبين يحزن معهم!
ولكي يجذب القلوب المبتهجة يلوِّث أجواء أفراحهم!
ولكي يقتل الحارِّين بالروح يظهر لهم في شكل ملاك نور!
ولكي ينزع أسلحة الأقوياء روحيًا يظهر في شكل حَمَل!
ولكي يفترس ذوي الحياء يتحوّل إلى ذئبٍ!
وفي كل خداعاته، يُخيف البعض بمخاوف ليليّة، والآخرين بسهام تطير في النهار. هؤلاء ينزلق بهم إلى الشر في الظلمة، والآخرين يحاربهم علانيّة في وقت الظهيرة (مز91)!
فمن يقدر أن يميّز طرق مكره المختلفة؟!
من يقدر أن يُحصِى أنيابه المرعبة؟!
سهامه يخْفيها في جعبته، وحيَله يخبئها إلى اللحظة المناسبة للسقوط!
إلهي... أنت رجائي... بدون نورك - الذي به نرى كل شيءٍ - يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله.
يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ،
وَرَبَوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ.
إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ [7].
لاحظ القديس جيروم أن المرتل لم يقل "عن يسارك"، بل "عن جانبك"، وأن الساقطين عن جانبه ألف، بينما الساقطون عن اليمين ربوات (عشرات الألوف). فمن ناحية ليس للمؤمن يسار، لأنه يستخدم اليسار كأنه يمين، وكأن المؤمن له جانبان وكلاهما مقدسان، أي على اليمين، وليس عن اليسار. ومن جانب آخر فإن عدو الخير يحارب المؤمنين بالأكثر من الجانب الأيسر، الشهوات الشريرة.
*طبيعيًا عندما يعين اليمين دون اليسار، فإن كلمة "جانب" تحل محل "اليسار". بالتأكيد ليس بالحق للإنسان البار يسار. "من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضًا" (مت 5: 39) كما ينصحنا الرب. لاحظ أنه لم يقل "الأيسر أيضًا"، لأن ما يُقدم ليس الخد الأيسر بل خد أيمن آخر. سأوضح بوضوحٍ شديدٍ القول بأن البار له خدان من الجانب الأيمن. كمثال أهود الذي ورد في سفر القضاة قيل عنه أنه له يدان من الجانب الأيمن، لأنه بار وقتل الملك السمين الغبي. "يسقط عن يمينك" (مز 91: 7) يوجد كثيرون جدًا يتربصون منتظرين عن يمينك، وليس كثيرون يخططون ضد الشمال. يسقط ألف عن جانبنا وربوات عن يميننا. حيث توجد معارك أعظم تكون النصرة بالطبع أعظم. قليلون يتربصون ويهاجمون عن جانبنا، وكثيرون عن يميننا [30].
*"يسقط عن جانبك ألف، وربوات عن يمينك"... لم يقل المرتل "عن يسارك" لأن الإنسان البار ليس له يسار. لذلك جاء في الإنجيل: "من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا" (مت 5: 39). لم يقل الرب: "حول له الأيسر"، لأنه بالحق الخراف ستقف على الجانب اليمين، والجداء على اليسار (مت 25: 33)... جانب البار، يشير على الضعف الجسدي؛ والجانب الأيمن يشير إلى كمال النفس. بالآم الجسد والأصوام والعفة، يسقط ألف. وأما الجانب الأيمن حيث حرية الروح وتعليم النقاوة والقداسة يسقط أعداد ضخمة من العدو. "إليك لا يقترب" بمعنى أنهم يهلكون قبل أن يقتربوا إليك [31].
*بالنسبة لنا نحن البشر الحياة سباق؛ نحن نصارع هنا، ونكلل في وضع آخر. لا يمكن لإنسانٍ أن ينزع الخوف بينما الحيات والعقارب تهاجم سبيله من كل جانب. يقول الرب: "لأنه قد روى في السماوات سيفي" (إش 34: 5)، فهل تتوقع أن تجد سلامًا على الأرض؟ لا، لأن الأرض تنبت شوكًا وحسكًا فقط، وترابها هو طعام للحية (تك 3: 14، 18). "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). نحن نطوَّق بجنود الأعداء من كل جانب. الجسد الضعيف قريبًا يصير رمادًا، واحد مقابل كثيرين. إنه يحارب ضد خصومات رهيبة. لم يُحل (الجسد)، لم يأتِ بعد رئيس العالم، ولا يجد فيه خطية (يو 14: 30)، إلى الآن لا تصغون إلى كلمات النبي وأنتم في أمان: "لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار..." (مز 91: 5-7). عندما يضايقك جنود العدو، عندما يصير مزاجك مصابًا بحمى، وعندما تثور أهواؤك، عندما تقول: "ماذا أفعل؟" عندئذ تجيبك كلمات إليشع: "لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم" (2 مل 6: 16). إنه يصلي: "يا رب افتح عينيه فيبصر". وعندما تنفتح عيناك ترى مركبة نارية مثل مركبة إيليا تنتظرك لتحملك إلى السماء (2 مل 2: 11). عندئذ تغني بفرح: "انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا" (مز 124: 7) [32].
* بقوله ربوات تحارب عن اليمين، وألوف من الجانب الأيسر، يعني أن الأعمال اليمينية المرضية لله يحاربها جمع من القوات المضادة من اليسار. وقال القديس ايسيشيوس إن كثيرين يهلكون من أمور تظنون أنها يمنى ومرضية، لأنهم يتحاججون بحقوقٍ، ويسقطون في ورطة للهلاك، لكن الذين يستعينون بالله يرون الانتقام منهم، وأما إليهم فلا يقتربون.
إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ،
وَتَرَى مُجَازَاةَ الأَشْرَارِ [8].
للأسف في لحظات الضعف يرتبك بعض المؤمنين حين يرون نجاح الأشرار وازدهارهم بينما يتعرض القديسون لمتاعب كثيرة. لكن يليق بهم أن ينتظروا ليروا في يوم الرب العظيم مجازاة الأشرار على مستوى أبدي.
يرى البعض في هذه العبارة نبوة عن مجيء السيد المسيح الأخير، ففي مجيئه الأول تقدم مخليًا نفسه، ومسلمًا نفسه للموت موت الصليب من أجل العالم. وفي مجيئه الثاني يأتي في مجده ويتم مجازاة الأشرار الذين سخروا بعمله الخلاصي، واضطهدوا جسده، أي كنيسته، وأصروا على ذلك بدون توبة.
* "إنما بعينيك تنظر، وترى مجازاة الأشرار". ستنظر إلى جثث الموتى، وتدهش لعظمة الرب المخلص الإلهي. سترى مجازاة الخطاة التي يستحقونها. سقوط الخطاة هو موتهم. هذا كله يعني أنك تجعل الرب ملجأك، وفي أمان تتطلع إلى مجازاة الهراطقة، إذ حميت نفسك من تعاليمهم [33].
لأَنَّكَ قُلْتَ أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجأي.
جَعَلْتَ الْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ [9].
في العبارة السابقة يرى البار ما سيحل بالأشرار المصرين على شرهم من عقوبة أبدية. أما هنا فيعلن البار أنه وإن عانى من ضيقات وتجارب في هذا العالم، فإن هذه جميعها ليست عقوبة لهلاكه، إنما هي فرصة ثمينة للتمتع بخبرة الالتجاء إلى الله كملجأ، والعلي كمسكنٍ يحميه ويدفع عنه ضربات العدو.
* لأنه مرارًا كثيرة يُبتلى الصديق أيضًا بشرورٍ، لكنها ليست ضربة بل تجربة، كما أصابت أيوب الصديق. وأما بالنسبة للخطاة فهذه الشرور لا يُقال عنها إنها تجربة بل ضربة.
* تقال الكلمات السابقة للإنسان البار باسم الرب، الآن يوجد تغير في الأشخاص؛ هنا نجد تأمل البار، مجاوبًا الرب: "أنت يا رب ملجأي". الذي يقول هذا إنسان بار. "جعلت العلي حصنًا لك" [34].
لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ،
وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ [10].
الضربات موجهة للجميع، لكن بالنسبة للشرير تخترق أعماقه، وتحطم نفسه. أما بالنسبة للبار فما يحسبه العالم شرًا يصير بالنسبة له تجربة تزيده بهاءًا، وتزكية. لا تقدر التجربة أن تخترق خيمة نفسه ولا تبلغ إلى قلبه أو عقله أو إرادته المقدسة.
ليضرب العدو بكل قوته، فليس له سلطان على المؤمن بدون سماح الله مخلصه، وإن سمح إنما لتزكيته.
*بجلد يسوع نتحرر من الجلد. كما يقول الكتاب المقدس عن الإنسان البار: "لا تدنو ضربة (سوط) من خيمتك" (مز 91: 10) [35].
*إن كان الرب نفسه قد جُلد وهوجم بضيقات وتجارب، فمن مِنَ الأبرار لم يُضرب بسياط الشيطان؟ لنضع في حسباننا المعنى: "لا تدنو ضربة من خيمتك". هذا معناه أن الشيطان يزأر في الخارج، ويحاول أن يثير آلامًا حسية، لكن خيمة النفس أو العقل التي هي خيمة الإيمان لن تخرب [36].
*أكتب متوسلًا إليك ألا تحسب مرضك الجسدي (إصابتك بالعمى) حلّ بك بسبب خطية. عندما فكر الرسل في المولود أعمى وسألوا ربنا ومخلصنا: "من أخطأ: هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟" قيل لهم: "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو 9: 3) [37].
*لم تستطع خطية من ضربات الشيطان أن تقترب من جسد الرب. لذلك قاوم الرب التجارب من العدو ليرد النصرة للبشرية. لهذا جعل من الشيطان ألعوبة، حسبما أعلن داود أيضًا: "لوياثان هذا خلقته ليُلعب فيه" (مز 104: 26).
*مرة أخرى يقول: "يسحق المُتهم الباطل" (راجع مز 72: 4). وأيضًا: "كسرت رؤوس لوياثان على المياه" (مز 74: 13-14). وفي سفر أيوب يعلن الرب أن لوياثان هذا صار ألعوبة يُمسك به في هذه التجربة: "ستسحب لوياثان بصنارة سمك" (راجع أي 40: 24) [38].
الأب خروماتيوس
لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِك،َ
لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرْقِكَ [11].
يطبق العلامة أوريجينوس ما ورد في المزمور التسعين على المسيحيين، "لأنه يوصي ملائكته بك، لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز 11:91)، فيُعلق: [إن المستقيمين هم من يحتاجون إلى معونة ملائكة الله، حتى لا يسقطهم الشيطان، ولا يخترق قلوبهم سهم يطير في الظلام [39].]
يعتقد بعض اليهود [40] أن نفوس الأبرار يستقبلها ثلاثة ملائكة صالحون، يصحبونها ويختبرونها، وأما نفوس الأشرار فيتلقفها ثلاثة ملائكة أشرار. وآخرون يعتقدون أن ثلاث فرق من الملائكة الخدام السمائيين أو من فرق السلام ترافق البار (عند رحيله) [41].
الفرقة الأولى تتغنى: "إنه سيدخل في سلام".
والفرقة الثانية يقولون: "سيستريح في مخدعه".
والثالثة: "هذا هو السالك في البرّ" (إش 2:57).
وعندما يموت شرير ثلاثة فرق من الملائكة الأشرار يصاحبونه مغنين: "لا سلام للأشرار، قال إلهي" (إش21:57) [42].
يعتقد اليهود أن الملائكة حضرت جنازة إبراهيم [43]، وقامت بدفن موسى [44]، وأنهم يُحضرون نفوس الأبرار إلى السماء [45]. وأن ملاكًا يُعلن عن مجيء القادمين الجدد إلى الهاوية [46].
لما كانت لحظات الموت لها مهابتها لهذا أوضح الكتاب مرافقة الملائكة للمؤمنين الحقيقيين في هذه اللحظات الحاسمة. يقول السيد المسيح عن لعازر المسكين: "فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم" (لو22:16). تشتهي الملائكة كخدام للمخلص أن نتمتع بالخلاص، ونشاركهم مجدهم السماوي، بل ويعملون لمعاونتنا في خلاصنا. يساعدون في إصعاد نفوس المؤمنين الحقيقيين، وبالأخص الشهداء، مهللين لهم: "يا لهذا! [47]"
وفي صلوات الجنازات يطلب الكاهن عن نفس الراقد: "لتحمله ملائكة النور إلى الفردوس".
وبحسب التقليد اليهودي يقود رئيس الملائكة ميخائيل نفوس الأموات [48]. ويذكر يهوذا الرسول أن صراعًا قام بين ميخائيل رئيس الملائكة وإبليس عند موت موسى (يه 9:1).
*عندما تنطلق النفس فجأة من ثقل الجسد الملتصق بها، وذلك بفعل الموت، ترتعب، إذ يثيرها رؤية وجه الملاك، مستدعي النفوس، وتتحقق أن مسكنها الأبدي قد أعد [49].
*إذ تترك النفس الجسد، يحدث عزل الأبرار عن الخطاة فورًا، عندئذ تقودهم الملائكة إلى المواضع التي يستحقونها [50].
*إن كنا نحتاج إلى مرشد عند عبورنا من مدينة إلى أخرى، كم بالأكثر تحتاج النفس إلى من يشير إليها نحو الطريق عندما تكسر قيود الجسد وتعبر إلى الحياة العتيدة؟! [51]
*سيجتمع حشد عظيم ليُشاهدوك وأنت تقاتل مدعوّا للاستشهاد.
إذا خضت المعركة، فلتقل مع بولس: "صرنا منظرًا للعالم، للملائكة والناس" (1 كو 9:4). فكل العالم، كل الملائكة إلى اليمين وإلى اليسار، كل الناس، بمن فيهم من هم في جانب الله (تث 29:32؛ كو12:1)، والآخرون كلهم سينصتون إلينا ونحن نكافح من أجل مسيحيتنا.
فإما أن تبتهج بنا ملائكة السماء، وتصفق الأنهار بالأيدي، وتفرح الجبال، وتصفق كل أشجار الوادي بأغصانها" (مز 8:97؛ إش 12:
55) LXX، أو الله لا يسمح أن تغمر الفرحة الخبيثة العالم السفلي ابتهاجًا بسقوطنا [52].*عند انحلال خيمتنا هذه، والبدء في دخول الأقداس، في عبورنا إلى أرض الميعاد، أولئك الذين هم حقًا مقدسون، ومكانهم في قدس الأقداس، سيرون في طريقهم الملائكة تحُفُّهم، فإذا وصلوا إلى المسكن الإلهي يتوقفون لتحملهم الملائكة على أكتافها، وترفعهم بأياديها. هذا كله رآه النبي بالروح، إذ قال: "يوصي ملائكته بك، لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز11:91). فما كُتب في هذا المزمور هو بلا شك أقرب انطباقًا على المستقيمين منه على الرب.
أما بولس ففي معالجته لهذا السرّ نفسه يدعم الإيمان بأن البعض سوف يُحملون فوق السحاب بواسطة الملائكة، في قوله: "ثم نحن الأحياء الباقين، سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء" (1 تس17:4) [53].
*"لأنه يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك" (مزمور 91: 11).. إذ أن البار هو من يحتاج لعون ملائكة الله، حتى لا تطيح به الشياطين، وحتى لا يخترقه سهم يطير في الظلمة.
*لا تكفّ عن الصلاة حتى لا تجد الشياطين موضعًا تزرع فيه الزوان في حقلك (مت 13: 25). لا تشفق على جسدك وتجعله ينام، بل بالحري انهض لتسبِّح. إن كنتَ لا تعرف أن تسبِّح، فاشكر الله وقُل: "المجد لك يا رب"، وقُل هذه الكلمة مرات عديدة، وإذا استطعت فقُل ألف مرة: "المجد لك يا الله"، والرب سيرسل لك ملاكه ليعينك على طرد الشياطين. ولا تَخَفْ منهم (إش 8: 12)، لأنه قد أُعطي لك ملاك حارس كما قال الكتاب: "ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجِّيهم" (مز 34: 7). وقال أيضًا في موضعٍ آخر: "يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11). ولا تجعل رجاءك في الملائكة وحدهم وتقول: "إنهم يحرسونني”، بل لا تكفّ عن الصلاة، لأنهم مكلَّفون بك حتى يسجِّلوا برّك ويقدموه إلى الله [54].
أنبا ثيؤفيلس البطريرك
*احفظ نفسك من الكسل، لأنه يثقِّل الجسد حتى لا يدعه يصلِّي.
ليكن جهادك في الصلاة والصوم، لأنه لا شيء يجعل الشياطين تهرب مثل الصلاة (مر 9: 29). فإذا كانوا يعوِّقونك عن النوم في الليل ويعذبونك ويقلقونك، فانهض وصلِّ لكي تطردهم مثل الهباء (مز 35: 5)، وأنت تجد راحة.
لا تقُل إنّ ساعة الصلاة لم تأتِ بعد، بل لا تكفّ عنها في كل وقتٍ، لأن الصلاة سهم يطرد الشياطين. وإذا ظهر لك الشيطان مثل كوكب الصبح أمام عينيك، فاعلم أن الذي ظهر لك هو الشيطان وليس هو الرب، وذلك لكي يُلقي نفسك في العُجب.
يقول القديس جيروم إن إبليس اقتبس هذه العبارة ليجرب السيد المسيح، لكنه لم يقتبس معها العبارة التي تلحق بها. اقتبس الأولى التي تخص ضعف المخلص بكونه صار إنسانًا، لكنه لم يورد ما يخص السلطان الذي يهبه السيد المسيح لكنيسته حيث تطأ إبليس وكل جنوده.
*إننا نقدر أي سلطان وُهب لنا، عندما نتحقق أننا نُزود بسلطاِن ضد الحيات والعقارب، بواسطة طريق حياتنا الرسولية. ليتنا نصلي للرب أن ذاك الذي أعطى سلطانًا للأبرار يعطينا نحن الذين لا نزال أطفالًا صغارًا، في ظل برِّه، حتى نقتدي بالرسل، ونُعان باستحقاقاتهم في المسيح يسوع ربنا [55].
عَلَى الأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ،
لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ [12].
تحمل هذه العبارة نبوة عن السيد المسيح المعصوم من الخطأ، والذي لا يمكن أن يهلك؛ فإنه وإن كان لا يحتاج إلى معونة ملائكية، لكن الملائكة أظهرت شوقًا عظيمًا لخدمته عند ميلاده، وأثناء تجربته، وآلامه، وقيامته وصعوده! ومع هذا فقد ظن عدو الخير أنه قادر أن ينصب له شبكة ليسقطه في الخطية من خلال هذه العبارة.
لقد أدرك إليشع النبي قيمة العون الملائكي، فلم يخشَ إحاطة جيش أشور بالجبل الذي يسكنه للقبض عليه (2 مل 6: 16). تحمل الطغمات السماوية حبًا فائقًا لنا بكونهم العبيد رفقاءنا يودون أن يخدموا سيدهم خلالنا (رؤ 22: 9).
إنها حقيقة مفرحة يعلنها الكتاب المقدس أن الملائكة والبشر يكونون أسرة واحدة [56].
* نعم، لقد ولَّى الله الملائكة النورانيين على حراسة الناس، لا سيما على الصديقين، كما كتب الرسول في الأصحاح الأول من رسالته إلى العبرانيين، قائلًا: "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14). فإن هؤلاء الملائكة يدفعون الصديقين إلى سمو النظر والعمل لئلا تعثر سيرتهم بحجر الذلة والمعصية. وأيضًا يرفعون بمعونتهم الضعفاء الرأي في وقت سلوكهم بمشقة، لئلا يعثروا بفكرهم ويصيروا مداسًا للشيطان.
*بخصوص مساندة الملائكة يتكلم كما إلى إنسان ضعيف (وليس عن المسيح) [57].
عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ.
الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ [13].
كثيرًا ما يُدعى الشيطان بالأسد والتنين والحية، ويتشبه الأشرار بالشيطان أبيهم. هكذا أرادوا هلاك السيد المسيح فصلبوه، ولكنه بالصليب حطم سلطانهم، واهبًا مؤمنيه سلطانًا على قوات الظلمة.
وهبنا الله أن نسحق العدو تحت أقدامنا. وكما يقول الرسول: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20). يقول معلمنا لوقا البشير: "فرجع الرسل بفرح، قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك. فقال لهم: رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء" (لو 10: 17-19). ويقول يوحنا الإنجيلي: "أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم، لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم" (1 يو 4: 4).
يقول القديس كيرلس الكبير: [نزل ابن الله الوحيد، كلمة الله، من السماء لذلك سقط (الشيطان كالبرق) [58].]
*يشتكي كثيرون حقًا ضعف البشرية ووهنها، لكن يفوقهم جميعًا القدِّيسان أيوب وداود بأسلوبهما المتميز.
اتسم الأول بالوصول إلى الهدف مباشرة، وبقوةٍ وحِدَّةٍ مع سمو الأسلوب ورفعته، ذاك الذي أثارت حفيظته الآلام الكثيرة من التجارب.
بينما كان الآخر ممنونًا (يملأه الحبور والامتنان)، هادئًا ولطيفًا، يؤمن بقضيته بأكثر رقة! ومن ثم كان يعكس حقيقةَ حال ما أَّلمَ به كإيلٍ ليكون نموذجًا يُحتذى به لدى الآخرين (قابل مز 42: 2).
لا تنزعجوا أن مدحتُ ذلك النبي العظيم مشبهًا إيَّاه بحيوان مفترس! إذ يُتلى على مسامعكم ذلك القول المأثور الذي قيل للرسل: "كونوا حكماء كالحيَّات، وبسطاء كالحمام" (مت 10: 16)...
تشَّبه المسيح أيضًا بالأيل، لأنه جاء إلى الأرض، وداس فوقَ الحَّية أي الشيطان، دون أن تصيب نفسه أية أذية، وكشف عَقِبه له (راجع تك ؛ مز 40 (41):9)، لكنه لم يُلدغ بسُمها، ومن ثم قيل له: "على الصّل والحيات تطأ" (مز 91: 13).
فلنكن إذن أيائل، لنقدرَ أن ندوسَ الحيَّات.
نصير أيائل إن تبعنا كلمةَ المسيح الذي يُعِّد الأيائل، ويجعلها لا تخشى لدغات الحَّيات، وإن جُرح أيٌ منها عَرضًا ينزع ألمها بإبادة خطيتها.
عن تلَك الأيائل، يقول الربُ لأيوب: "هل راقبتَ الغزلان حين تتودد معًا؟ أَتحسبُ الشهور التي تكملِّها، أو تعلم ميقاتَ ميلادهن، هل ولدَّتَ ذُريتهن أَو وَضعِتَ أولادَهن (صغارهن)، دون خوف؟" (أَي 39: 1-3).
تعلموا كيف يحيا صغار تلك الغزلان دون خوف! فليعلمكم إشعياء حينما يقول: "ويلعب الرضيعُ على سرب الصِّل، ويمد يده على جُحر الحياَّت، ولا تلدغه (لا يناله سوء إش 11: 8، 9) وهو يقصد أطفالَ الكنيسة... [59]
*هذا العمل الذي تحقق بتجسد مخلصنا يفوق أي شيء آخر، لذلك استوطنت القداسة في كل الأرض، كما أن الظلام الذي يحجب الحقيقة قد أُبطل [60].
*نحن نطأ الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، شكرًا للسلطان الذي يُعطى لنا بالمسيح. هؤلاء الذين هم في المسيح يتأهلون أيضًا للنظرة الإلهية، حتى يعدهم أنه يكون معهم ويحفظهم، ويخلصهم في كل موضع، ويعلن عنهم أنهم مثمرون. "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20) [61].
*أتريد أن تكون من نوعية الشخص القادر أن يضع قدميه على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، وتطأ التنين والصل (مز 91: 13)؛ (إبليس) الملك التافه الذي ما أن يملك فيك حتى يعد مملكة الخطية. هكذا مع كل هؤلاء المخربين الذين اعتادوا أن يملكوا فيك بعمل الخطية، فإن يسوع ربنا وحده سيملك فيك (وينزعهم)، له المجد والسلطان إلى أبد الأبد، آمين [62].
* هذه كلها هي الشيطان وقواته، إذ أعطانا ربنا سلطانًا عليها لكي نطأها، بقوله: قد أعطيتكم سلطانًا أن تدوسوا على الحيات والعقارب وعلى كافة قوة العدو. فكل من يضبط غضبه ذاك يدوس على التنانين، والذي يكسر الكبرياء بالتواضع يطأ على الأسد. والذي ينزع من قلبه السم ومن نظره الحسد فهو يدوس على ملك الحيات الذي من كثرة حسده، وشدة سمه، يقتل بنظره. والذي يتعفف عن الفواحش يسحق رؤوس الحيات المتمرغة بالأرض.
* "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماوات" (لو 10: 17). لم يكن في السماوات عندما قال: "أرفع كرسي فوق الكواكب" (إش 14: 13)، إنما سقط من عظمته وسلطانه... إنه لم يسقط من السماء، لأن البرق لا يسقط من السماء، لأن السحب هي التي تخلقه. فلماذا يقول: "من السماوات"؟ هذا لأنه كما لو كان ساقطًا من السماوات، وذلك كالبرق الذي يحدث فجأة. في ثانية واحدة يسقط الشيطان تحت نصرة الصليب... وكما أن البرق يخرج ولا يرجع إل موضعه، هكذا سقط الشيطان ولم يرجع إلى سلطانه. "ها أنا أعطيكم سلطانًا" [63].
14 «لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ. أُرَفِّعُهُ لأَنَّهُ عَرَفَ اسْمِي. 15 يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقْ، أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. 16 مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي».
لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ.
أُرَفِّعُهُ، لأَنَّهُ عَرَفَ اسْمِي [14].
يختم المرتل هذا المزمور بحديث إلهي مفرح [14-16]، حيث يقدم الله لأحبائه الملتصقين به وعودًا إلهية تنعش القلوب بتعزيات سماوية. إذ تتعلق نفوسنا بالسماوي يرفعنا كما إلى السماء، فلا يقدر العدو أن يصطادنا في فخاخه التي ينصبها لنا. إنه ليس فقط ينجينا، بل ويرفعنا، أي يسكب علينا نوعًا من الكرامة أو المجد، لأننا عرفنا اسمه، أي صرنا أصدقاء له، نسلك حسب وصاياه.
* هذه هي كلمات الله للكنيسة: "لأنه صب حبه فيَّ أنجيه" [14]... نحن أيضًا الذين نتعب على الأرض، ولا نزال نعيش في التجارب، ونخشى على خطواتنا لئلا تسقط في الفخاخ، نسمع صوت الرب إلهنا يعزينا: لأنه صبّ حبه فيَّ أنجيه، أرفعه، لأنه عرف اسمي" [64].
* اسم الله هو مجده وجلاله، يعرفه ذاك الذي يعبده إلهًا واحدًا بإيمان مستقيم بريء من عبادة الأوثان، ومن المعتقدات الفاسدة، ويصنع مشيئته، ويعتصم باٌتكال عليه، ويحفظ وصاياه. فهو ينجو من كافة الأضرار بمعونته.
يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبُ لَهُ.
مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقِ.
أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ [15].
قيل عن السيد المسيح كنائب عن البشرية: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديدٍ ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7). مؤكدًا لنا أنه يليق بنا أن نتبع خطواته، واثقين أن الصلوات والتضرعات هي مصدر كل البركات، وطريق النجاة والمجد.
* لا تخف حين تكون في ضيق، كما لو كان الرب ليس معك. ليكن الإيمان معك، فيكون الله معك في تعبك. توجد أمواج في البحر، وهي تلطم (سفينتك) لأن المسيح نائم. نام المسيح في السفينة بينما كاد الناس أن يهلكوا (مت 8: 24-25). إن كان إيمانك نائمًا في قلبك يكون المسيح كأنه نائم في سفينتك، لأن المسيح يسكن فيك بالإيمان. عندما تبدأ تُلطم بالأمواج أيقظ المسيح من النوم، أيقظ إيمانك فتتأكد أن لا يتركك [65].
مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ،
وَأُرِيهِ خَلاَصِي [16].
إنه يرينا خلاصه، أي يكشف لنا الأمجاد الأبدية التي يعدها لنا.
*زمن الأيام له نهاية وعدد محدد. حسنًا يقول المرتل: "عرفني يا رب نهايتي ومقدار أيامي كم هي، فأعلم كيف أنا زائل" (مز 39: 4). أيام الحياة المعطاة تحت الشمس هي أيام البطلان. حتى وإن كانت حياتنا التي نعيشها الآن صالحة ومملوءة بالاستنارة، فإنه سيحل محلها أفراح أعظم، يقول عنها الله: "من طول الأيام أشبعه" (مز 91: 16) [66].
* ما هو طول الأيام؟ الحياة الأبدية...! هذا الطول هو ذاك الذي بلا نهاية، يعدنا بالحياة الأبدية في طول الأيام. بالحقيقة هذه تُشبع، لذا يقول: "أشبعه". أي طول للزمن إن كان له نهاية، ولا يشبع، لهذا لا يُقال عنه "طول الأيام". إن كنا طامعين، فلنطمع في الحياة الأبدية، فإن مثل هذه الحياة طويلة بلا نهاية [67].
* إذا صرخ (يدعوني)، أي إذا تضرع بهمةٍ ونشاطٍ، يستجيب له، ويكون معه في وقت حزنه، وليس فقط ينقذه، بل ويمجده أيضًا، ويملأه طول عمرٍ، كما أطال عمر سمعان الشيخ، وأراه خلاصه، أعني ابنه مخلص العالم، لأجل ذلك قال: "فإن عيني قد أبصرتا خلاصك".
*تباركك نفسي يا من نزلت إلى أرضنا.
صرت لي مسكنًا وملجأ،
وقبلتني مسكنًا لك.
صرت لي طريقًا آمنًا.
تحملني فيك وتنطلق بي إلى أحضان أبيك!
*لينصب ذلك الصياد الماكر فخاخه.
فإنه لا يقدر أن ينصبها في طريقي،
لأنه لا يقدر أن يقترب إلى المسيح طريقنا.
ينصب فخاخه على جوانب الطريق.
يبذل كل جهده لكي انحرف يمينًا أو يسارًا.
لن اترك مسيحي،
فلا أسقط في فخاخه وشباكه!
*تظللني بجناحيك،
وتخفيني في حضنك.
تصير أنت ترسًا لي،
وحقك مجنًا يحميني.
ليطلق العدو كل ما في جعبته.
فلا أخشاه ليلًا ولا نهارًا.
سهامه لا تقدر أن تلمسني،
ما دُمت أنت تحوط بي.
*من ينحرف عنك يمينًا بالبرّ الذاتي،
أو شمالًا بشهوات الخطية،
يسقط في فخاخ إبليس وتقتله سهامه النارية.
لألتصق بك، وأختفِ فيك.
فلا تدنو إليّ ضربة من العدو.
*ملائكتك تشتهي أن تخدم أولادك.
من أجلك يحملونهم على الأيادي،
فلا يعثرون بحجر!
*وهبتنا سلطانًا على إبليس وكل قواته،
فلا يستطيع أن يغوينا مادمنا في أحضانك!
*أسبحك وأمجد اسمك.
وفي وسط الضيق أتلامس مع عمق أفكارك.
تكشف لي أسرار خلاصك،
وتدخل بي إلى عربون سماواتك!
_____
[1] W. S. Plumer: Ps. 91.
[2] On Ps. 91 (90).
[3] الرسالة الأربعون.
[4] On Psalms Homily 20.
[5] On Ps. 91 (90).
[6] On Psalms، homily 68.
[7] On Psalms Homily 20.
[8] On Psalms، homily 68.
[9] On Ps. 91 (90).
[10] On Psalms، homily 68.
[11] On Psalms Homily 20..
[12] On Ps. 91 (90).
[13] On Ps. 91 (90).
[14] On Psalms، homily 68.
[15] On Psalms Homily 20.
[16] On Psalms Homily 20.
[17] Homilies on Matt 74: 3.
[18] عظة 15 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.
[19] Homilies on Psalms، 20.
[20] Letters, 22:3.
[21] Sermon 105: 6.
[22] On Ps. 91 (90).
[23] On Psalms، homily 68.
[24] De institutis caenoborum، Book 10:1.
[25] القديس مار أوغريس البنطي: إلى أناتوليس Anatolius عن "الأفكار الثمانية"، 7.
[26] القديس مار أوغريس البنطي: توجيهات إلى أناتوليس Anatolius عن "الحياة العاملة"، 25.
[27] "فضلوا بعيدًا عن إلههم".
[28] راجع (مز 13:116؛ لو 19:10؛ يو 30:14؛ أف 12:6).
[29] Cassian، Conferences 7:32.
[30] On Psalms، homily 20.
[31] On Psalms، homily 68.
[32] Letter 22 to Eustochium، 3.
[33] On Psalms، homily 68.
[34] On Psalms، homily 68.
[35] Commentary on Matt 4: 27: 24.
[36] On Psalms، homily 68.
[37] Letter 68 to Castrutuis، 1..
[38] Tractate on Matthew 14: 5.
[39] Hom. in Num.، 5، 3.
[40] The Jewish Encyclopedia، Angelology.
[41] Tosef. Shab. 17:2; Shab، 119b.; ket. 104 a.، Hag. 16a
[42] Ket. 1049، Num. R 11.
[43] Testament of Abraham A. 20.
[44] Deut R. 11; Targ. Yer. Deut. 39:6.
[45] Testament of Abraham A 20; Targ. Yer. Song of Solomon، 4:12; Luke 16:22.
[46] Ber. 18b.
[47] Origen، Hom. in Judic.، 7،2.
[48] Jean Daniélou: The Angels and Their Mission، (trans. by David Heimann)، 1993، p. 96.
[49] De Anima، 53.
[50] Quaest. Orth.، 75. منسوبة إليه))
[51] Hom. In Lazar. 2:2.
[52] Exhortation to Martyrdom، 18 (ACW).
[53] In Num. hom. 5، 3. See also Eusebius، Comm. in Is.، 66: "The angels will lead the elect to their blessed end، when they will be lifted up، carried as was Elias on an angelic chariot، amid the rays of heavenly light.”
[54] رسالة القديس أنبا ثيئوفيلس إلى الرهبان، 4 (فردوس الآباء).
[55] On Psalms، homily 68.
[56] W. S. Plumer: Ps. 91.
[57] Commentary on Matt. 1: 4: 6.
[58] Commentary on Luke, homily 64.
[59] Prayer of David 4:1:4.
[60] الرسالة الفصحية الأولى، ترجمة د. ميشيل بديع عبد الملك، مايو 2004، ص 16.
[61] Glaphyra on Genesis، 3: 4.
[62] On Joshua، homily 11: 6.
[63] Commentary on Tatian's Diatessaron, 10: 13.
[64] On Ps. 91 (90).
[65] On Ps. 91 (90).
[66] Commentary on Ecclesiastes 277. 7.
[67] On Ps. 91 (90).
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 92 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 90 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/mh8323x