← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20
في الترجمة السبعينية ينقسم المزمور 147 حسب النص العبري إلى مزمورين، الأول المزمور 146 ويضم الآيات 1 إلى 11، والثاني المزمور 147 ويضم الآيات من 12 حتى نهاية المزمور.
جاء هذا المزمور في العبرية كما في الكلدانية والفولجاتا بدون عنوان، ونُسب في ترجمات أخرى لحجَّي وزكريا النبيين.
يرى البعض مثل القديس يوحنا الذهبي الفم [1] أن هذا المزمور كُتب أثناء انشغال اليهود بإعادة بناء مدينة أورشليم بعد العودة من السبي كما يظهر من العددين 2 و13. فقد رجع اليهود تدريجيًا، وعاد تعمير أورشليم. تحقق هذا بالرب نفسه الذي كان يعمل في قلب كورش ملك فارس ومادي لصالح شعبه [2].
1. يسكب التسبيح جمالًا روحيًا ممتعًا على شعب الله [1؛ مز 27: 4؛ 29: 2؛ 149: 4].
2. بالتسبيح يجتذب الرب النفوس البعيدة "منفيّي إسرائيل"، ليبني بهم أورشليم العليا المقدسة فيه، ويوحدهم معًا [2].
3. بالتسبيح يشفي الرب الإنسان الداخلي [3].
4. بالتسبيح يرفع الله النفوس الوديعة كما إلى السماء، أما الأشرار الجاحدون له فيهبطون.
5. بالتسبيح ننعم بحياة الشركة مع القدوس، يقدم لنا مياه نعمته العاملة فينا.
6. التسبيح ينبوع حقيقي للبركات الإلهية [14-20].
1. |
||
2. |
||
3. |
||
4. |
||
5 -11. |
||
12 -18. |
||
19 -20. |
||
من وحي المزمور 147 |
جاء عن الترجمة القبطية والسبعينية مثل عنوان المزمور السابق: "مرسوم بهللويا. لحجَّي وزكريا".
سَبِّحُوا الرَّبَّ،
لأَنَّ التَّرَنُّمَ لإِلَهِنَا صَالِحٌ.
لأَنَّهُ مُلِذٌّ.
التَّسْبِيحُ لاَئِقٌ [1].
كم كانت بهجة الكل حين أعيد بناء أورشليم بعد العودة من السبي البابلي! هكذا يليق بالمؤمن وهو يتمتع في أعماقه بعمل روح الله القدوس، الذي يقيم مدينة الله في قلبه أن يختبر الحياة السماوية المتهللة، ويتذوق لذة التسبيح لملك الملوك.
يقول المرتل عن خبرة يومية في كل حياته: "الترنم ملذ"، أي يهب عذوبة داخل النفس، يشبعها بالفرح والبهجة. وفي نفس الوقت يقول: "التسبيح لائق"، إذ يليق بكل كائن عاقل أن يتعرف على خالقه وملِكَه، الرحوم، محب خليقته. "حسن هو الحمد للرب، والترنم لاسمك أيها العلي، أن يخبر برحمتك في الغداة" (مز 92: 1-2).
*قيل لنا: "سبحوا الرب"؛ هذه قيلت لكل الأمم، وليس لنا وحدنا...
كأننا نسأل: لماذا يلزمنا أن نسبح الله؟ قال: "لأن المزمور صالح"...
لسانكم يسبح، ولكن إلى حين، دعوا حياتكم تسبح على الدوام. بهذا يكون المزمور صالحًا.
المزمور هو أغنية، ليس أي نوع من الأغنية، بل أغنية على المزمار Psaltery. المزمار نوع من أدوات الموسيقى أُخترع للموسيقى. لذلك من يغني المزامير، لا يرنم بصوته فقط، إنما يستخدم آلة موسيقية تُدعى مزمارًا، فتصاحب يداه صوته.
أتريد أن ترنم مزمورًا؟ لا تدع صوتك وحده يسبح الله، بل لتكن أعمالك في تناغم مع صوتك...
لكي تُبهج الأذن رنم بصوتك، ولكن لا يكن قلبك صامتًا، وأيضًا هكذا تكون حياتك. لا تحمل في قلبك خداعًا، رتل مزمورًا للرب.
عندما تأكل وتشرب رنم مزمورًا، لا بمزج أصواتٍ عذبةٍ تناسب الأذن، بل وبالأكل والشرب باعتدال بطريقةٍ اقتصادية بغير تطرف. إذ يقول الرسول: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيءٍ لمجد الله" (1 كو 10: 31)...
بعد الأكل والشرب إذ ترقد للنوم على سريرك لا ترتكب أي فسادٍ، ولا تتعدى الحدود المسموح بها حسب شريعة الله. ليكن مضطجع الزواج طاهرًا. لا يكن الإحساس بالشهوة بلا ضابط. كرِّم زوجتك على سريرك، لأنكما عضوان في المسيح، خلقكما أنتما الاثنين، وجددكما بدمه. بهذا العمل تسبح الله، ولا يكون التسبيح صامتًا.
ماذا يحلّ بك عند نومك؟ لا تسمح لضمير شرير أن يثور فيك، لتكن طهارة نومك تسبيحًا لله [2].
*المزمور صالح، ويحسن الترنم به للرب، ويلذ به، إن كان يرفع العقل إليه، ويمنع ميل النفس إلى الأرضيات.
*ما معنى "ليكن الترنم مُسرًا لإلهنا"؟ يقول ليكن الترنم مقبولًا؛ بالحري المطلوب أيضًا هو حياة المرتل مع الصلاة والدقة في السلوك [3].
*يظهر هنا أن التسبيح في ذاته صالح، والمزمور يقدم أمورًا صالحة كثيرة. إنه يعزل العقل عن الأرض، ويعطي النفس أجنحة، ويجعل (الأجنحة) خفيفة قادرة على الطيران في الأعالي. لهذا يقول بولس: "مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب" (أف 5: 19)... توجد حاجة للتسبيح من أجل حياة المرتل وصلاته والانسجام [4].
*لم يقل النبي: "المزمور صالح"، بل "الترنم بأغنية مقدسة هو صالح"، إنه ليس ترنم بالصوت بل بالقلب. كم من كثيرين أصحاب أصوات صالحة لكنهم خطاة، فتسبيحهم رديء. من يسبح بالقلب يسبح حسنًا، يغني للمسيح في ضميره!
"التسبيح لائق"، أي نغني له بأغنية مفرحة.
يليق به التسبيح بتسبحة مفرحة، لا بالصوت بل بالضمير الصالح! [5]
الرَّبُّ يَبْنِي أُورُشَلِيمَ.
يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ [2].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه العبارة تُظهر أن المزمور وُضع عند العودة من السبي، حيث يشتهي المرتل بناء مدينة أورشليم، وتجميع الشعب المسبي.
إن كان كورش قد أصدر أمرًا بالسماح للمسبيين أن يرجعوا، لكن هذا العمل هو من قبل الرب نفسه.
إذ أُخذ الشعب اليهودي إلى السبي، صاروا في مذلةٍ. لقد فقدوا أورشليم، مدينة الملك العظيم، وصاروا منفيين في أرض السبي. هذا ما تفعله بنا الخطية، حيث تحرمنا من التمتع بالحياة السماوية، وتذل النفس بالميل إلى الفساد، ولا يمكن بناء أورشليمنا الداخلية في أعماق النفس دون التدخل الإلهي نفسه.
يبدو أن المرتل كان ينعم بمنظر الشعب الراجع من بابل، وقد اجتمعوا معًا لبناء أورشليم. قام نحميا ببناء المدينة أولًا (نح 2: 5)، وبعد ذلك الأسوار حيث كمل العمل (مز 147: 13؛ نح 3: 1؛ 6: 15). لكن الحقيقة أن الذي قام بالبناء هو الله الذي عمل في قلب نحميا وغيره. وكما يقول المرتل: "إِذَا بَنَى الرَّبُّ صِهْيَوْنَ يُرَى بِمَجْدِهِ" (مز 102: 16).
"يجمع متفرقي إسرائيل"، وذلك حسب وعده الإلهي (تث 30: 3؛ إش 11: 12؛ 56: 8)، وبالفعل رد المسبيين من بابل.
ربما يتساءل البعض: ما دام المزمور يمثل دعوة للتسبيح، فما ارتباط ذلك بالله كباني لأورشليم وجامع منفيي إسرائيل؟
ليس من طريق للتمتع ببناء أورشليم الداخلية، واختبار عربون أورشليم السماوية، والتحرر من أسر إبليس مثل حياة التسبيح الداخلية الحقيقية.
إذ يقدم المرتل دعوة لكل الأمم أن تسبح الله، لا باللسان فقط، وإنما بالسلوك حتى بأسلوب الأكل والشرب والنوم. الآن يكشف لنا المرتل عن الدافع الرئيسي لهذا التسبيح الدائم، وهو بناء الله لأورشليم، وجمعه الذين سبوا من بني إسرائيل.
ماذا يعني المرتل بأورشليم وبإسرائيل هنا؟
ا. يشعر الشعب في العهد القديم بتنازل الله ومحبته، إذ وهبهم مدينة أورشليم كمسكن له وسط شعبه، مدينة الله المقدسة.
ب. يتطلع المؤمن إلى أعماقه، فيجد قلبه قد صار هيكلًا مقدسًا لله، وصارت أعماقه أورشليم الجديدة.
ج. بنظرة مستقبلية مملوءة رجاء يثَّبت المؤمن عينيه على أورشليم العليا، حيث يشترك مع الطغمات السماوية في تسبيحٍ أبديٍ لا ينقطع.
أما إسرائيل ففي فكر القديس أغسطينوس تعني "رؤية الله"، وكأن المؤمن وهو يرى الله تتهلل نفسه وتسبح الله على الدوام.
*يوجه كلماته، لا إلى المدينة، بل إلى سكانها، كما في كل السفر، هكذا يفعل هنا. إنه يحثهم دومًا وينصحهم أن يقدموا الشكر لله من أجل إحساناته، لا من أجل المباني والمتاريس الآمنة، بل لأجل عنايته الإلهية [6].
*شعب أورشليم هو بعينه شعب إسرائيل. إنها أورشليم الأبدية في السماوات، ومواطنوها هم الملائكة...
يفرح كل مواطني هذه المدينة العظيمة المتسعة السماوية برؤيتهم لله. يركزون أنظارهم على الله نفسه. أما نحن فتائهون عنها. لقد انسحبنا منها بسبب الخطية، ولم نعد بعد مقيمين هناك، إنما انحدرنا بالفساد، ولا نعود إليها.
تطلع الله إلى تجولنا، وقام بإصلاح الموضع الساقط، أي "يبني أورشليم"...
أرسل إلى سبينا ابنه كمخلصٍ. قال له: "خذ حقيبة، وضع فيها ثمن الأسرى". لقد أخذ لنفسه جسدنا المائت وبه الدم الذي بذله لأجل خلاصنا. بهذا الدم "جمع متفرقي إسرائيل"...
إذ يجتمع المتفرقون في يد البنَّاء، يتشكلون في المبنى.
كيف يلزم أن يجتمع هؤلاء الذين بسبب القلق يسقطون من يد لبنَّاء؟
انظروا ذاك الذي نسبحه، انظروا لمن نحن مدينون له أن نسبحه كل حياتنا! [7]
يَشْفِي الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ،
وَيَجْبُرُ كَسْرَهُمْ [3].
ببناء أورشليم يشفي انكسار قلوب الذين حُملوا إلى السبي بسبب خطاياهم وخطايا آبائهم، وذاقوا مرارة المذلة، وعانوا من الشعور بغضب الله عليهم.
لقد جاء السيد المسيح ليبني بنفسه أورشليمه فينا، ويردنا من سبي الخطية، وينزع عارنا عنا، واهبًا إيانا حرية مجد أولاد الله.
إن كانت الخطية قد مررت حياة الإنسان، وكسرت قلبه بروح القلق والاضطراب، فإن التسبيح السليم يشفي بفرح الروح انكسار القلب، ويرد له سلامه الحقيقي.
*يستعرض (المرتل) الكارثة وطريق الله المعتاد، إذ يهب راحة للمتواضعين. وذلك كما يقول بولس: "الذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رو 4: 17). هكذا يقول المرتل: "يشفي المنكسري القلوب" [3]، مظهرًا أنه حتى وإن كنا غير مستحقين، فإننا إذ نحن عمله لا يتركنا. لن ينسى صنعته. هكذا يقول بولس أيضًا: "لكن الله الذي يعزي المتضعين" (2 كو 7: 6)، وأيضًا: "أعطى احتمالًا للخائرين" (راجع إش 57: 15). ويقول المرتل في موضع آخر: "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17). فإن أردت التمتع بالتعزية، فلتتواضع ولتكن منسحقًا في عقلك [8].
*"يشفي المنكسري القلوب". ها أنتم ترون الآن كيفية إعادة بناء أورشليم. هوذا القلب المنكسر قد أُصلح! القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله.
"يضمد جراحاتهم". أنت تجرح قلبك، والرب يضمد جراحاته.
السامري الذي كان في طريقه من أورشليم إلى أريحا ضمد الجراحات التي تنزف دمًا وكدمات ذاك الذي كان مُلقى في الطريق. هذا هو الشخص المناسب الذي قدمه الكتاب المقدس: "يضمد جراحاتهم"، لأنه قد شفي قلوبهم المنكسرة، وضمد جراحاتهم [9].
يُحْصِي عَدَدَ الْكَوَاكِب.
يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ [4].
إن كان التسبيح يهب النفس جناحي الحب الله والناس، فتنطلق كما في حرية لتمارس الحياة شبه السماوية، فإنها تجعل من المؤمن أشبه بكوكبٍ منير في سماء الروح، يُسر بها الله نفسه وخدامه السمائيون. يعتز الله بأولاده، ويهبهم روح التحدي ضد ظلمة الضلال.
ينشغل الله بإحصاء عدد الكواكب الجامدة، ويدعو كلًا منها بأسماء، فكم بالأكثر يهتم بالمؤمنين به ككواكب تتلألأ على مستوى أبدي. يعرف عددهم، ولا يُحرم أحد من اهتمامه وعنايته، ما لم يرفض الشخص عمل الله. إنه يدعونا بأسمائنا. "هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي" (إش 43: 1-2). "لكي تعرف إني أنا الرب الذي يدعوك باسمك" (إش 45: 3). في عتابٍ مملوء محبة يقول: "دعوتك باسمك، لقبتك، وأنت لست تعرفني" (إش 45: 4). يقول السيد المسيح عن نفسه: "فيدعو خرافه الخاصة بأسماء" (يو 10: 3).
يقول القديس ديديموس الضرير إن معرفة الله لكل شيءٍ ليس بالأمر العجيب، إنما من أجل عنايته يعلن أنه يحصي عدد الكواكب، كما يحصي شعور رؤوسنا [10]. إنه يهتم بما يبدو لنا أنها أمور تستحق الإحصاء كالكواكب، كما يهتم بما يبدو غير مستحق لذلك كعدد شعور رؤوسنا.
يرى بعض الآباء أن "الكواكب" تشير إلى المؤمنين الحقيقيين الذين يضيِئون ببهاء المسيح الساكن فيهم في جلد السماء (تك 22: 17). وكما يقول دانيال النبي: "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 12: 3)؛ هؤلاء محصيون أمام الله ومعروفون بأسمائهم.
إذ يفقد البعض رجاءهم في الخلاص من الخطية وإعادة بناء النفس الداخلية، نتطلع إلى الله ضابط الكل، الذي يعرف الكواكب بأسمائهما، وهو واضع قوانينها وأنظمتها وحركاتها.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله الذي اعتاد أن يحصي الكواكب غير المحصية، ويحركها بنظامٍ معينٍ، يجمع شعبه من كل مكان، بل ويهتم بكل واحدٍ منهم، إذ يعرف كل واحدٍ باسمه.
*الكواكب هي أنوار معينة في الكنيسة تسند ليلنا، وقد تحدث الرسول عنها: "في وسط جيل معوَّج وملتو تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم" (في 2: 15). هذه الكواكب يحصيها الله. هؤلاء جميعًا الذين سيملكون معه، هؤلاء جميعًا يجتمعون في جسد ابنه الوحيد، يحصيهم، ويبقى يحصيهم. أما غير المستحقين فلا يُحصون...
*يُظهر (المرتل) أن التسبيح في ذاته صالح، والمزمور قادر على تقديم بركاتٍ كثيرة. إنه يعزل عقله عن الأرض، ويهب نفسه جناحين، ويهبهما نورًا، ويرتفع بهما.
ليت كل واحدٍ منكم يُحسب أنه يضيء في الظلمة، أو يرفض أن يُضلله إثم العالم المظلم؛ فإن كان لا يضل ولا يُهزم، يصير مثل كوكبٍ أحصاه الله بالفعل [11].
*لا يحصي سفر العدد غير الطاهرين وغير المقدسين الذين يهلكون، بل جميع الذين يخلصون.
أتريد الدليل على أن عدد القديسين محصي لدى الله؟ اسمع ما يقوله داود النبي عن كواكب السماء: "يحصي (الله) عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4).
لم يكتفِ المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذين اختارهم، وإنما قال أيضًا إن شعورهم محصاة (مت 10: 30)... وهو لا يقصد بذلك الشعور التي نقصها بمقصٍ، ونلقي بها في النفاية... إنما قوة النفس وكثرة الأفكار التي تنبع عن قوة الإدراك والفهم [12].
*بعد أن شُفيت جراحاتهم حولهم إلى كواكبٍ، "يحصى عدد الكواكب".
بالحقيقة عددهم كبير. حقًا كثيرون أخطأوا وقد شفاههم.
إنه "يحصي عدد الكواكب"، ولا يحصى عدد الجرحى، بل الذين قد صاروا كواكب.
الرب يحصى الذين يستحقونه، مناديًا كل واحدٍ باسمه.
إنه يعضد المتواضعين، فيحولهم إلى كواكب". يقول دانيال النبي إن الأبرار يضيئون كالكواكب، والأثمة يُطرحون إلى أسفل، وفي الوسط المسرعين إلى الأعالي [13].
* العدد الذي به يحصى الله القديسين يتم بنظامٍ معين روحي. لقد قيل: "يحصي عدد الكواكب. يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4) [14].
* توجد حقيقة هامة ذكرها كاتب غير مسيحي (أفلاطون في كتابه "جمهورية أفلاطون" بتصرف)، فقال: "إن الشمس في المحسوسات، مثل الله في المعقولات". فهي تعطي ضوءًا للعين، مثلما يعطي الله نورًا للعقل. والشمس هي أسمى ما يمكن أن نراه، والله هو أسمى ما نعرفه بفكرنا"...
لقد صدق الشعراء في وصف الشمس بأنها لا تضعف، وأنها تجلب الحياة وتلدها، وما إلى ذلك. الشمس التي لا تتوقف عن الحركة في مدارها وعن العطاء.
كيف تجعل الشمس ناحية من الأرض نهارًا والأخرى ليلًا؟ ما الذي يؤسس ويحفظ النظام الثابت لليل والنهار؟ من الذي يسبب بداية فصول السنة وانتهاءها بانتظام؟
لننتقل الآن إلى القمر. هل تعرف طبيعة القمر وأحواله ومقاييس ضوءه ومداره؟
هل تعرف لماذا يسيطر القمر على سماء الليل، كما تسيطر الشمس على سماء النهار؟
ولماذا يعطي القمر الجرأة لحيوانات البرية، بينما تجعل الشمس الإنسان ينهض مستيقظًا للعمل؟
هل تعرف ما الذي يربط مجموعة الثريا معًا، ويحفظ الجوزاء في مكانها؟
نقرأ في الكتاب المقدس: "هل تربط أنت عقد الثريا، أو تفك عقد الجبار؟" (أي 38: 31) الذي يفعل هذا هو الله، الذي "يحصي عدد الكواكب، يدعوها كلها بأسماء" (مز 147: 4) [15].
5 عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ. لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ. 6 الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ، وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ. 7 أَجِيبُوا الرَّبَّ بِحَمْدٍ. رَنِّمُوا لإِلهِنَا بِعُودٍ. 8 الْكَاسِي السَّمَاوَاتِ سَحَابًا، الْمُهَيِّئِ لِلأَرْضِ مَطَرًا، الْمُنْبِتِ الْجِبَالَ عُشْبًا، 9 الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا، لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ. 10 لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْلِ. لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ. 11 يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ، بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ.
عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ.
لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ [5].
إذ هو الخالق القدير، ليس فقط خلق تلك الكواكب التي لا تُحصي، وإنما يحصي عددها ويدعوها بأسماء، وكأنه يهتم بكل كوكبٍ.
ربما يتساءل أحد، قائلًا: إنني لن أنكر عظمة الخالق، ولا قدرته الفائقة، لكن أين رعايته لي، وأنا أعاني من ضيقات كثيرة؟ إني اشعر مع أرسطو أنه خلق العالم وأوجد قوانينه الطبيعية، حركه ثم تركه، يبقي في سماواته لا علاقة له بخليقته.
لهذا يجيب المرتل: "لفهمه لا إحصاء". هو يحصي الكواكب ويدعوها بأسماء، أما فهمه فليس من كائنٍ يقدر أن يعرف أسراره وخطته. وكما جاء في إشعياء: "أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا، ليس عن فهمه فحص، يعطي المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثر شدة... أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة النسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون". (إش 40: 28-31).
عظمة الرب وقدرته، ليس فقط أنه عظيم وقدير، وإنما يجعل الملتصقين به عظماء وقديرين، يهبهم ما يبدو مستحيلًا. وكما أن صلاح الله يتجلي في أن يحول حتى ما يبدو شرًا إلى خيرٍ وصلاحٍ، يحولنا من الضعف البشري إلى جبابرة بأس.
بروح الوداعة نثق في وعوده، فننعم بقوة خلاصه. يقول الرسول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا؟!" (رو 11: 23-24).
* "عظيم هو ربنا". إذ يمتلئ المرتل بالفرح يفيض بكلماته بقوة، ومع ذلك كان إلى حدٍ ما عاجزًا عن التكلم...
"وعظيمة هي قوته، ولا عدد لفهمه". ذاك الذي يحصى الكواكب هو نفسه لا يُمكن أن يُحصى.
كيف نفسر هذا؟ من يمكنه أن يتأهل حتى لتخَّيل معنى "ولا عدد لفهمه"...؟ مهما احتوى هذا العالم من أمورٍ غير محدودة، فهي غير محدودة بالنسبة للإنسان، لكنها ليست كذلك بالنسبة لله، فهي محصية حتى بالنسبة للملائكة.
فهمه يتعدى كل آلات حاسبة، إنها غير محصية بالنسبة لنا. الأعداد نفسها من يعدها؟ ماذا إذن بالنسبة لله الذي به كان كل شيء؟ وأين صنع كل الأشياء؟ ولمن قيل: "أنت نظَّمت كل الأشياء في مقياسٍ وعددٍ ووزنٍ"؟ (حك 11: 20) أو من الذي يقدر أن يعِّد أو يقيس أو يزن، المقياس والعدد والوزن أنفسها، بينما وضع الله نظامًا لكل الأشياء؟ لهذا "لا عدد لفهمه".
لتخمد الأصوات البشرية، ولتسكن الأفكار الإنسانية، ليتها لا تمتد نحو الأمور التي لا يمكن وصفها كي ما تصفها [16].
*لا تسأل كيف (يجمع شعبه) وبأية وسيلة، فعظمته بلا حدود، إذ يقول: "ليس لعظمته حدود" (راجع مز 145: 3). وكما أن عظمته بلا حدود هكذا أيضًا فهمه...
معرفته عجيبة؛ من ثمَّ يقول المرتل أيضًا: "عجيبة هذه المعرفة فوقي، ارتفعت لا أستطيعها". (مز 139: 6) وبالتالي أحكامه لا تُفحص، لذا يقول: "أحكامك لجة عظيمة" (مز 36: 6). ما دام هو عظيمًا، وقويًا، ولا يمكن إدراكه، لا تكن فضوليًا تسأل كيف يحدث هذا [17].
*بعد أن تعلم أسرار حكمة الله الخفية، يقول إن هذه الحكمة لا يُمكن بلوغها ولا إدراكها، "عظيم هو ربنا، وعظيم القوة، لحكمته لا حدود" [5]، بمعنى أنه ليس من طريق لإدراكها [18].
الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ،
وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ [6].
مسيحنا الذي جاء ليقيم ملكوت الله في داخلنا، يهبه لنا إن سلكنا بروح الوداعة والتواضع.
"الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض". يريد الله أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). فمن يعترف بضعفه، ويسلك بروح التواضع يرفعه الرب كما بجناحي حمامة، ويطير كما في السماء. وأما من يُصر على شره، فبثقل الخطية يهبط مع فرعون وجيشه في الأعماق كحجرٍ (خر 15: 5).
حينما يقول المرتل "يضع الأشرار إلى الأرض"، إنما يعني أنه تحت إصرار الأشرار على شرهم، يسمح الله لهم أن يهبطوا تحت ثقل خطاياهم إلى الأرض، ولا يستطيعوا القيام أو الانطلاق نحو السماوات. وذلك كما أصر فرعون على مقاومته للحق الإلهي، فتركه يمارس قسوة قلبه.
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة وردت بعد القول: "لا عدد لفهمه"، وذلك لأنه إذ يشعر الإنسان بعجزه عن فهم الأسرار الإلهية، يليق به أن يكرِّم الكتاب المقدس، كلمة الله، حتى إن بدا له أنه غير واضح، وبروح الوداعة ينتظر ليعطيه الرب فهمًا، دون أن ينتقد غموض الكلمة، أو يتهم الكتاب بوجود متناقضات.
إن كان الله يسمح بوجود غموضٍ، إنما لكي نقرع فيفتح لنا. هذا القرع على الباب الإلهي نافع للإنسان.
*لئلا يقول بعض الأغبياء: ماذا تفيدنا المعرفة الدقيقة للكواكب؟ لهذا يشير المرتل أيضًا إلى العناية التي يقدمها للكائنات البشرية بهذه الطريقة. إنه لا يقول: "الرب يعين الودعاء"، بل ما هو أعظم، "يرفع"، كمن يتحدث عن أبٍ محبٍ.
الآن ماذا تعني "يرفع"؟ الفوز الساحق، والسمو، والمسك باليد.
ألا ترون أيضًا قوته في العمل في كل حالةٍ، برفع المتواضعين والهبوط بالمتشامخين؟ [19]
* تشير الكلمات: "ليأت إلى (جنته)" (نش 4: 16) إلى إعطاء حرية الاختيار مثل "ليتقدس اسمك" "ولتكن مشيئتك". وكما توضح هاتان الفقرتان حرية الاختيار، فإن صلاة العروس "ليأت إلى" تشير إلى الله مانح ثمار الفضيلة وإلى نزول العريس من أجل حبه للبشرية.
لا يمكن لنا أن نرتفع إلى أعلى السماوات بدون أن ينزل هو إلى الودعاء ويرفعهم (مز 147: 6)، لذلك تنادي النفس التي ترتفع إلى أعلى الله الذي لا حدود له، وتصلي له لكي ينزل من علياء عظمته حتى يتمكن من يعيشون على الأرض أن يقتربوا منه.
وبينما كانت تتكلم، يجيب الرب "هأنذا" (إش 58: 9). سمع الرب ما كان يدور بخلد العروس، ومنحها سؤل قلبها، وأتى إلى جنتها عندما كانت ريح الجنوب تهب، والتقط ثمار أطيابها، واِمتلأ بثمار الفضيلة، وتكلم عن وليمته، قائلًا: "قد دخلْتِ جنتي يا أختي العروس. قطفت مرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اِشربوا واِسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
هل ترى الآن كيف تفوق عطية العريس ما تطلبه العروس؟ أرادت العروس ينابيع من الأطياب في حديقتها وأن تهبّ على نباتاتها ريح الجنوب في منتصف النهار، وأن ينال راعي الحديقة الثمار حسب اختياره... جعل العريس الأشجار تُنتج الخبز الذي خلطه بعسله بدلًا من الثمار المختارة [20].
أَجِيبُوا الرَّبَّ بِحَمْدٍ.
رَنِّمُوا لإِلَهِنَا بِعُودٍ [7].
يليق بنا أن نتحدث مع كل شخص بلغته. الله ينبوع الفرح السماوي، فمن يود الحديث معه يلزمه أن يتعلم لغة الشكر أو الحمد، مع الترنيم أو التسبيح. فالقلب الشاكر ينفتح على الله، ويُقال عنه ما قيل عن موسى: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 33: 11). أما القلب المتذمر، فلن يقدر أن يسمع صوت الله، وإن سمعه لا يفهمه، وبالتالي لا يقدر على الدخول في حوار حب مع خالقه ومخلصه.
* "ابتدئوا للرب بالاعتراف". إن أردت البلوغ إلى فهم واضح للحق، ابتدئ بهذا.
إن أردت العبور من طريق الإيمان إلى بلوغ الحقيقة "ابتدئ بالاعتراف".
أولًا اتهم نفسك، وسبِّح الله... وماذا بعد الاعتراف؟ ليتبع ذلك الأعمال الصالحة.
"رنموا لإلهنا بالقيثارة"... ليس فقط بالصوت، وإنما أيضًا بالأعمال [21].
*بعد الإشارة إلى إنجازات الله، يحثهم (المرتل) على التسبيح، قائلًا: "اصرخوا إلى الرب بالاعتراف (الحمد)"، أي بالشكر في غيرة عظيمة [22].
*"رنموا لإلهنا بقيثارة". للقيثارة أوتار كثيرة، إذا انكسر أحدها لا يمكن العزف عليها. هكذا الإنسان الصالح، حتى وإن كان قديسًا إن افتقر إلى فضيلةٍ واحدةٍ لا يستطيع أن يشترك في تقديم تسبحته! [23]
الْكَاسِي السَّمَاوَاتِ سَحَابًا،
الْمُهَيئ لِلأَرْضِ مَطَرًا،
الْمُنْبِتِ الْجِبَالَ عُشْبًا [8].
كثيرًا ما يشير السحاب إلى القديسين، الذين إذ تُغفر خطاياهم، لا تثقل نفوسهم لتهبط إلى الأرض، أو تغوص في الأعماق كحجرٍ، بل تطير كسحابٍ نحو السماء، وترتفع من مجدٍ إلى مجدٍ.
الله في حبه للبشرية يهيئ للأرض مطرًا، فيحول البراري القاحلة إلى جناتٍ مثمرةٍ. ما هو هذا المطر إلا نعمته الإلهية التي تنزل إلى قلوبنا، فتقيم ملكوتًا إلهيًا داخلنا؟
"المنبت الجبال عشبًا"، تكسوها بالجمال، وتجعلها صالحة لرعاية الغنم، ويرتفع عليها الرعاة بقطعانهم بفرحٍ وبهجةٍ. هكذا يعمل الله في حياة أولاده، فيقيم منهم جبالًا مقدسة، تصير مراعٍ خضراء ترعى فيها نفوس كثيرة، حيث تجد فيها كلمة الله طعامًا روحيًا ينعشها.
في العبارات السابقة أوضح القديس أغسطينوس أن ما ورد في الكتاب المقدس يبدو أحيانًا غامضًا حتى نقرع على الباب، فيهبنا الله فهمًا، ونتمتع بخبرات مفرحة. كما أوضح أن الله يرفع الودعاء الذين بروح التواضع يطلبون من الله الفهم، ولا يأخذون موقف النقد بروح الكبرياء والتشامخ.
الآن يقدم المرتل تشبيهًا عمليًا. عندما تمتلئ السماء سحابًا تختفي السماء وتبدو غامضة، وإذ تُمطر السحب تأتي الأرض بثمار كطعامٍ للإنسان والحيوان. هكذا السحب هنا هي غموض النبوات في الكتاب المقدس، لكن متى تحققت يدرك المؤمن الأسرار الإلهية، ويتقبل هذا المطر، أي الفهم المقدم لنا من الأعالي، ليجعل أرضنا مثمرة ومتهللة!
*انظروا إلى حكمته، فقد أشار (المرتل) إلى الأمور الصالحة التي للنفع العام والمقدمة لكل واحدٍ، غالقًا أفواه (الأشرار) بذات الفيض الذي يقدمه الله. بمعنى آخر إن كان هكذا يقدم عناية عظيمة حتى بالنسبة لغير المؤمنين حتى يجمع سحابًا، ويرسل مطرًا للشرب، ويهب حيوية للأرض، كم بالأكثر يعمل لنفعكم يا من تُدعون شعبه الخاص [24].
*لئلا يقول شخص متبلد: بماذا تنفعني السماوات؟ للحال يشير إلى حاجة البشرية، مظهرًا هذه الإضافة لماذا يكسي السماوات بالسحاب. يقول: من أجلكم؛ لكي يمدكم بالمطر، فالمطر هو لأجلكم، حيث يجعل العشب ينمو... إنه يرسل المطر للشرب، ويهب الأرض حيوية وبهجة، وبالأكثر هو لنفعكم أنتم الذين تُدعون شعبه الخاص [25].
*"المهيئ للأرض مطرًا". تحتاج الأرض إلى المطر، ينبوع التعاليم الإلهية، لتعطي ثمرًا.
"المنبت الجبال عشبًا". الكتاب المقدس يدعو إبراهيم جبلًا، وإرميا وإسحق والأنبياء جبالًا مقدسة. هذه الجبال تضم محاصيل وعشبًا. فالإنسان يحصل على المحاصيل منهم، والحيوانات تحصل على العشب [26].
الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا،
لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ [9].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ويعطي البهائم غذاءها، ولفراخ الغربان التي تدعوه".
إن كان الله قد خلق الحيوانات لخدمة البشر، فإنه يعتني بالحيوانات، فيرسل مطرًا على الجبال، لكي تنبت عشبًا كطعامٍ للحيوانات.
وتمتد رعاية الله إلى فراخ الغربان التي تبدو لنا بلا نفع، لكن الله الذي طبيعته الحب والرعاية يسمع صرخاتها، ويرسل لها طعامها. حقًا إن فراخ الغربان لا نفع لها للإنسان، وعاجزة عن حماية نفسها وتدبير أمورها، والله لا يتغاضى عن صرخاتها التي قد لا يسمعها أحد. كم بالأكثر تكون رعاية الله واهتمامه بالبشر، خاصة الذين يسبحونه، وهم من خاصته.
ليس للبهائم القدرة على النطق، لكن الله يعرف ما تسأله داخليًا، وما تحتاج إليه، فيقدم لها طعامها. كما يسمع لصرخات فراخ الغربان الجائعة، فيهبها طعامًا.
يقول القديس أغسطينوس إن هذه العبارة تحمل مفهومًا رمزيًا. فالقطيع الذي يعطيه الله غذاءه يشير إلى قطيع المسيح العاقل الذي يهبه طعامًا روحيًا يشبع أعماقه. أما بالنسبة للغربان فهي تشير إلى الأمم، وإن كانت قد عاشت زمانًا تتعبد للأوثان وتقاوم الحق الإلهي، غير أن فراخ الغربان تدعو الله لكي تخلص، فقد ترك الأمم آباءهم الوثنيين، ودعوا الله، فقدم لهم الإيمان الحي طعامًا لنفوسهم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم [27] فيض عناية الله الفائقة، فإنه إن كان يهتم بالسحاب ليجلب أمطارًا تنبت الجبال عشبًا لتجد الحيوانات طعامها، وذلك لصالح الإنسان، فإنه يهتم حتى بفراخ الغربان التي تبدو كأنها بلا منفعة، أفلا يهتم بالأكثر بالبشر الذين يحسبهم خاصته. "والآن هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي" (إش 43: 1).
*يقول: "انظروا إلى طيور السماء"، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة، ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنه من البديهي لا يحدث هذا. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.
ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟
لم يقل الرب ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن القلق.
وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق، ولا يربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون أن نقلق.
داود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سرِّي: "تفتح يدك، فتُشبع كل حي رضًى" (مز 145: 16). وأيضًا "المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه" (مز 147: 9) [28].
*"المنبت الجبال عشبًا، والمعطي للبهائم طعامًا". إن كنت إنسانًا ستحصل على فهمٍ روحيٍ للأسفار المقدسة. إن كنت بهيمة للحمل، تحصل فقط على الحرف [29].
* "لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ". لم يذكر طائر آخر سوى فراخ الغربان، وليس الغربان ذاتها. الغراب لا يخلص، إنما صغاره يُنقذون. نحن صغار الغربان، لأننا وُلدنا من آباء وثنيين. نحن نقرأ أقوال سليمان الحكيم: "العين التي تسخر من أبيها أو تحتقر حديث أمها تقورها الغربان في الوادي"، يقول الغربان وليس فراخ الغربان. لأن الإنسان الذي يشبه الغربان أو يتسم بصفاته لا يمكن أن يخلص. الغراب المبعوث من الفلك لا يعود إليه. كان في الفلك مع بقية المخلوقات أثناء الطوفان، بعد الطوفان طُرد خارجًا.
نحن إذن فراخ الغربان، نصرخ إليه ونخلص [30].
لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْل.
لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ [10].
يعمل الله بالقليل كما بالكثير، ففي خلاصه لا يحتاج إلى إمدادات عسكرية "قوة الخيل"، ولا موارد بشرية "ساقي الرجل"، إنما يخلص بقدرته الإلهية ومحبته الفائقة للبشرية.
* "لا يُسر بقوة الخيل". قوة الخيل هي الكبرياء. لأن الخيل يبدو كمن يتهيأ ليحمل الإنسان عاليًا...
في الواقع للخيل رقبة ترمز لنوعٍ من التشامخ. ليت البشر لا يتشامخون كمن يستحقون هذا، ويظنون أنهم مرتفعون بامتيازاتهم السامية، كما من فرسٍ جامح [31].
*إذ كانوا ضعفاء، وغير مسلحين، ومُجردين من كل شيءٍ، لاحظوا كيف كانوا في حالٍ يجعلهم في رعبٍ، يقدم لهم الله العون في ضعفهم بالكلمات: "لا يُسر بقوة الخيل، ولا يرضى بساقي الرجل [32]."
*"لا يُسر بقوة الخيل". مكتوب في المزامير: "باطل هو الفرس للأمان"، وفي موضع آخر في الكتاب المقدس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر". كانت الوصية ألا يربي ملك إسرائيل خيلًا. لكن سليمان الذي حصل على مركبات من مصر صار ضحية للشهوة.
"لا يرضى بساقي الرجل". يُسر الرب بالذين يتقونه (يخافونه). خوف واحد يطرد مخاوف كثيرة. أليس من الأفضل أن تخاف من واحد، فلا تخاف الكثيرين، من أن تخاف الكثيرين لكن لا تخاف الواحد؟ [33]
يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ،
بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ [11].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يُسر الرب بخائفيه، وبالذين يتكلون على رحمته".
إنهم لا يتكلون على ما لديهم من قوة عسكرية "قوة الخيل"، ولا ما يتمتعون به من قوة جسمانية "ساقا الرجل"، وإنما ما يحملونه من قوة البنوة لله، فيسلكون في تقوى الأبناء، وينعمون بإمكانيات إلهية من قبل أبيهم السماوي.
الله كأبٍ ليس فقط يهتم باحتياجات مؤمنيه كما يفعل مع الحيوانات والطيور حتى فراخ الغربان الجائعة، وإنما يُسر بهم ويحتضنهم. يكمن سروره بهم في تقواهم ويقوتهم في محبته لهم ورحمته عليهم. هذا هو سرّ جمالهم الداخلي وقوتهم.
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يربط بين مخافة الرب والرجاء في رحمته، فالخوف دون الاتكال على رحمة الله يحطم الإنسان باليأس.
*اللص يُخاف منه، والحيوان المتوحش يُخاف منه، والإنسان الظالم صاحب السلطان يُخاف منه جدًا.
"يُسر الرب بالذين يترجون رحمته". انظروا يهوذا الذي خان ربنا، لقد خاف، لكنه لم يترجَّ رحمته...
حسن جدًا أن تخاف، ولكن فقط إن كنت تثق في رحمة ذاك الذي تخافه. لقد مضى (يهوذا) في يأس وشنق نفسه.
بحكمةٍ لتخف الرب هكذا، بأن تثق في رحمته [34].
12 سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ، سَبِّحِي إِلهَكِ يَا صِهْيَوْنُ. 13 لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِكِ. بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ. 14 الَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَمًا، وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ. 15 يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي الأَرْضِ. سَرِيعًا جِدًا يُجْرِي قَوْلَهُ. 16 الَّذِي يُعطِي الثَّلْجَ كَالصُّوفِ، وَيُذَرِّي الصَّقِيعَ كَالرَّمَادِ. 17 يُلْقِي جَمْدَهُ كَفُتَاتٍ. قُدَّامَ بَرْدِهِ مَنْ يَقِفُ؟ 18 يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فَيُذِيبُهَا. يَهُبُّ بِرِيحِهِ فَتَسِيلُ الْمِيَاهُ.
سَبِّحِي يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ.
سَبِّحِي إِلَهَكِ يَا صِهْيَوْنُ [12].
إذ يبدأ هنا في الترجمة السبعينية (المزمور 147)، نجد عنوانه: "مرسوم بالليلويا، لحجَّي وزكريا".
إذ يتطلع المرتل بروح النبوة إلى العائدين من السبي إلى أورشليم، يدعو أورشليم للقيام بعملها الرئيسي، ألا وهو التسبيح للرب إلههًا.
حقًا بالعودة إلى أورشليم كانت هناك مسئوليات والتزامات على الجميع من قيادات وكهنة ولاويين وشعب، لكن العمل الأول هو التسبيح والشكر لله. يشكرون الله بألسنتهم، كما يشكرونه بأفكارهم وعواطفهم المقدسة، وأيضًا بحبهم لله ولبعضهم البعض.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم [35] أن أول الإحسانات وأعظمها جميعًا أن ينسب الله نفسه لهم، فيقول "إلهكِ". هذا التعبير يتضمن فيه كل الإحسانات الإلهية، إذ يحسبهم خاصته وورثته.
*ألا ترون عظم المنافع في شيء من التفصيل؟
أولًا: وفوق الكل قوله: "إلهكِ" [12]. بهذا التعبير يضم كل هذه المزايا معًا، إذ اختاركِ خاصته، وجعلك ميراثًا له، مفضلًا إياك مع أنه سيد عام للكل. هذا هو ذروة الخيرات.
ثانيًا: أن يشيد المدينة في أمان [13].
ثالثًا: يُكثر عددهم [13].
رابعًا: يحررهم من وجود حروب واضطراب، ليس في المدينة فقط، بل وفي كل جنسهم [14]...
يضيف إلى ذلك ميزة أخرى، وهي خصوبة الأرض ووفرة ثمارها [14] [36].
*يحتوي هذا المزمور على نبوة عن رجوع العبرانيين من سبيهم، وإعادة بناء أورشليم.
*قول النبي: "سبحي يا أورشليم" لا يقصد المدينة وحوائطها ومبانيها، بل سكانها. هكذا إذ يقول ربنا: "يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليكِ"، لا يقصد المدينة، بل سكانها الذين كانوا في ذلك الحين. وبنفس الطريقة بالنسبة لصهيون.
*قوله هنا يدل على أن أورشليم العليا الحرة التي هي أمنا نحن المؤمنين أجمعين، وعلى صهيون التي هي الكنيسة المقدسة جماعة الأبكار المكتوبين في السماء كقول الرسول الإلهي. أما عوارض أبوابها المُحكمة فهي التعاليم والمعتقدات المستقيمة التي تدخلنا إليها. وأما بركة الرب في كثرة بنيها التي تعم الأرض... وتملأ المؤمنين وتشبعهم بالمواهب الروحية.
*يمكننا القول بأن السلام مثل الحياة الأبدية هو نهاية كل ما نقيمه. لأن مدينة الله التي كرسنا لها هذا الحديث المطوَّل، قد وُجه إليها الحديث في هذا المزمور المقدس: "سبحي يا أورشليم الرب، سبحي إلهك يا صهيون. لأنه قد أسس أبوابك، بارك أبناءك داخلك. الذي جعل تخومك سلامًا..." أعتقد إني لا أثقل على قرائي إن تكلمت بأكثر إمعانًا، لأن السلام هو الهدف الأساسي لهذه المدينة التي أتكلم عنها، السلام له سحره وافتنان عزيز على الجميع.
سلام الجسد هو نظام أعضائه المكونة له، وسلام النفس غير العاقلة هو هدوء شهواتها. وسلام النفس العاقلة هو التوافق المتناغم بين الفكر والسلوك.
السلام بين النفس والجسد، هو الحياة المدبرة والصحة للإنسان الحيّ بكليته.
السلام بين الإنسان المائت والله، هو الطاعة حسب تدبير الناموس الأبدي بالإيمان.
السلام بين الشعب هو الاتفاق بتدبير حسن.
سلام البيت هو التدبير المتوافق في نظام بين الساكنين فيه.
سلام المدينة السماوية، هو التدبير الكامل في تناغمٍ تامٍ للذين في شركة مع الذين ينعمون بالله وقناعتهم فيما بينهم في الله.
سلام هذا كله هو تدبير كل الأمور لوضعها في مكانها اللائق [37].
*"سبحي يا أورشليم الرب، سبحي إلهك يا صهيون" [12]. أورشليم هي رؤية السلام؛ فحيث يوجد تأمل في الله سبح الله.
لتمجدي أيتها الكنيسة الرب، لأنكِ بدأتِ أن تؤمني به، وتقتني السلام، وأيضًا بدأتِ أن تنظري السلام، أورشليم رؤية السلام.
إذ أتمتع بالحقيقة بالمعرفة، وأنعم بقلعة التأمل، أقول: سبحي الرب [38].
لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِك.
بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ [13].
في العبارتين 13 و14 يقدم لنا المرتل أربع بركات تمتعت بها أورشليم بإعادة بنائها، وتتمتع بها نفوسنا بكونها مدينة الله:
1. أمان المدينة [13] بإقامة عوارض قوية لأبوابها ضد أي غزو يمكن أن يهاجمها. هنا إشارة إلى اهتمام المؤمن بتقديس حواسه، سائلًا الله أن يقيم حراسة عليها حتى لا تتسلل الخطية إلى أعماق النفس.
2. السعادة الداخلية [13] لسكان المدينة حيث تحل بركة الرب عليهم.
3. السلام القومي [14].
4. فيض وبركة في المحصولات [14].
إذ تُدعى أورشليم إلى عملها الرئيسي عند عودة المسبيين، ألا وهو التسبيح لله بفرحٍ عظيمٍ، يليق بها أن تشدد عوارض أبوابها، لماذا؟
لكي تغلق الأبواب، كما قيل في مثل العذارى الحكيمات حيث دخلن إلى العرس، وُأغلق الباب، فلا تدخل العذارى الجاهلات.
بغلق الباب لا يُسمح للشر أن يدخل، ومن جانب آخر تبقى العروس مع عريسها كما في حجال الملك.
ليدخل عريسنا السماوي إلى قلوبنا، أورشليمه الجديدة، ولا يسمح لخطية ما أن تتسلل حيث يوجد القدوس.
*لا تسمحوا لأحدٍ أن يخرج، أو لأحدٍ أن يدخل. لا يخرج أحد، فإننا فرحون! لا يدخل أحد، نحن نخاف (الرب)...
عندما تدخلون، سيُقال: أنتم فقط كونوا في عداد العذارى الحاملات الزيت معهن! [39]
*يقول النبي: يا أيها الساكنون بأورشليم وصهيون امدحوا الرب إلهكم، مسبحين إياه، لأنه قوى صيانتكم وحفظكم، وجعل مدخل مدينتكم منيعًا، حتى لا يستطيع أعداؤكم الدخول إليها. ويكثر بركة بنيكم وشعبكم. أما قوله "فيكِ" (داخلكِ)، فمعناها أن نموهم لا يكون في الشتات والغربة، بل داخل تخومكم وفي أرضكم، وجعل الأمان والطمأنينة في حيازتكم.
*ماذا يعني أنه يشدد العوارض؟ إنه يقيم أمانًا، يقول إنه يجعلهم لا يُقهرون [40].
*إنه يقصد أنه يحقق النمو ليس للمشتتين أو الشعب المبعثر، بل للمجتمعين معًا "داخلك" [41].
*"يحب الرب أبواب صهيون أكثر من مساكن يعقوب". تحدثنا عن الأنبياء أنهم أبواب صهيون... لنرى ما هي عوارض الأبواب. الأنبياء بحق هم عوارض الكنيسة، لا نقدر أن ندخل الكنيسة إلا من خلالهم.
رفض مرقيون العهد القديم، لكن بدونه لا يقدر أن يدخل إلى العهد الجديد. من جانب آخر، لتقبلوا الأنبياء، ولتدخلوا من خلالهم...
"كل الذين جاءوا قبلي هم سراق ولصوص". اللهم إلا إذا وهبني الرب امتياز أن أكون عارضة في أبواب صهيون [42].
الَّذِي يَجْعَلُ تُخُومَكِ سَلاَمًا،
وَيُشْبِعُكِ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ [14].
الله في محبته ليس فقط يعطي بركات، إنما "يُشبع" ويفيض بأفضل العطايا. بقوله "شحم الحنطة"، يعني أفضل أنواعها.
أما الإحسان الثاني فهو أن يجعل المدينة آمنة.
والثالث أن يزيد من عددهم ويكثرهم.
والرابع أن يحررهم من الحروب والاضطرابات، ليس فقط في المدينة بل على مستوى الشعب كله، لا في مناسبة أو مناسبتين أو ثلاث، وإنما على الدوام.
*كيف يتهلل جميعكم!
أحبوا السلام يا إخوتي!
عندما تصرخ محبة السلام في قلوبكم نبتهج جدًا...!
محبة السلام... يا أبناء الملكوت، يا مواطني أورشليم، ففي أورشليم رؤية السلام!
كل محبي السلام سعداء فيها، يدخلونها عندما تُفتح الأبواب وتغلق وتتقوى عوارضها...
هذا ما تتبعونه وتشتاقون إليه: هذا ما تحبونه في بيوتكم وفي أعمالكم وفي زوجاتكم وفي أبنائكم وفي عبيدكم وفي أصدقائكم وفي أعدائكم...
ما كنتم تصرخون به منذ لحظات عند الإشارة إلى السلام، تصرخون به عن اشتياق. صراخكم كان عن عطشِ (للسلام) وليس عن ملءٍ، فهناك (في السماء) سيكون البرّ الكامل حيث السلام الكامل [43].
*النشيط الذي يضاعف غلته، يملأ بيدره، ويساند أيضًا المحتاجين في زمن العوز. تمتلئ أهراؤه من كل الخيرات، وخزائنه الداخلية من الكنوز. وآكلو خبزه يشبعون من الدسم، والشاربون من إنائه لن يعوزهم الفرح، ومن جميع غلاته يتنعمون إلى الأبد [44].
*"يشبعك من أفضل الحنطة". هل لأورشليم أفضل الحنطة؟ أجب أيها اليهودي. إن كان ليس لديها، فالضرورة تقتضيه إلى الالتجاء للتفسير الروحي، في تطلعك إلى بقية المزمور...
الكلمة الإلهية هي غنى متزايد، تحوي في داخلها كل بهجة. كل ما تشتهيه تجده فيها. وذلك كما حدث مع اليهود عندما كانوا يأكلون المن كان كل واحدٍ يتذوق نوع الطعام الذي يشتهيه. كمثال، إن كان جائعًا إلى تفاحة أو كمثرى أو عنب، أو خبز أو لحم يجد طعم المن مطابقًا لاشتياقه. ونحن نتقبل في جسد المسيح، الذي هو كلمة التعليم الإلهي، أو تفسير الأسفار المقدسة المن حسبما نشتهي.
إن كنت قديسًا تجد فيها انتعاشًا، إن كنت شريرًا تجد فيها كربًا [45].
*"يجعل تخومك سلامًا". الإنسان الذي ليس في سلام مع أخيه، ليس في تخوم أورشليم [46].
*مرة أخرى يعلمهم هنا ألا ينسبوا كل شيءٍ إلى التربة ونوع الجو، بل إلى العناية الإلهية [47].
*ترمز الساحات المترابطة للدار المحيطة بالخيمة إلى التفاهم والمحبة والسلام بين المؤمنين، ويفسرها داود بهذه الطريقة عندما يقول: "الذي يجعل تخومك سلامًا" (مز 147: 14) [48].
يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ فِي الأَرْض.
سَرِيعًا جِدًّا يُجْرِي قَوْلَهُ [15].
إن كان قد سبق فتحدث عن عطاياه لشعبه، فإنه يؤكد أنه محب لكل البشر. "يرسل كلمته في الأرض، سريعًا جدًا يجري قوله" [15]. عنايته تحتضن الأرض كلها بمسرته الفائقة. لهذا يرسل كلمته التي تعني أوامره الخاصة بعنايته ورعايته للعمل سريعًا جدًا في كل العالم.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه عند الخلقة أمر الرب البشر أن يثمروا ويكثروا، وتحقق الأمر سريعًا. أما في إعادة الخلقة حيث أمر الرب التلاميذ أن يمضوا إلى العالم أجمع، ويتلمذوا الأمم، ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، فإن هذا القول تحقق عاجلًا وبسرعة أكثر من الأمر الأول. وأن كرازة الإنجيل ملأت المسكونة من المسيحيين أبناء آدم الجديد المولودين في برء من الفساد، ومنحهم الحياة التي لا يتعقبها الموت (الأبدي).
*إنه يتحدث عن الكرازة الإنجيلية التي لتعاليم الرسل، لذلك يكمل فورًا: "سريعًا جدًا يجري قوله".
في كل بقعة سُمعت الكلمة، وفي كل العالم بلغت تعاليم الرسل.
لاحظوا سرعة انتشار الكلمة. إنها لم تكتفِ بالشرق، بل أرادت أن تنتشر في الغرب [49].
*بعد قوله: "سبحي إلهكِ" [12]، فلئلا يظن أي غبي أنه إله اليهود وحدهم، أظهر كيف أنه ينتمي إلى العالم كله، وتمتد عنايته الإلهية إلى كل الأرض، فينطلق مما هو خاص إلى ما هو عام، ثم إلى العناية بالمسكونة. لهذا بعد قوله: "يُرسل كلمته إلى الأرض"، أضاف: "سريعًا جدًا يجري قوله". الآن، قال هذا ليُظهر أنه لا يهتم فقط بمدينتنا، بل وبالعالم كله.
"كلمته" هنا تعني أمره، أو عمل رعايته الإلهية [50].
الَّذِي يُعْطِي الثَّلْجَ كَالصُّوفِ،
وَيُذَرِّي الصَّقِيعَ كَالرَّمَادِ [16].
إذ نزل كلمة الله إلى الأرض متجسدًا لكي يضم البشر معًا، ويقيم منها جسده، الكنيسة الجامعة، فإنه يجعل منها ثوبًا أبيض كالثلج، كما حدث عند تجليه (مت 17: 2). أقام كنيسته المقدسة المجيدة، التي بلا دنس ولا غضن (أف 5: 27).
في نفس الوقت يقدم للبشرية التي تتقدس فيه نفسه كثوب برٍّ ترتديه.
*بينما كان البشر غير مؤمنين، باردين (في المحبة) كسالى، صنع لهم ثوبًا من هذا الصوف.
فلتُبسط على الصليب، لكي ما تغتسل من الدنس، وتتطهر بالإيمان، ولكي لا يكون بها غضن [51].
*تجري كلمة الله بسرعة، وتنتشر كالثلج، والثلج نفسه كالصوف.
لتطرد أيها الرب دنسي، لتنزع كل ما هو دنيء. هب ثلجك، نقاوتك، لأذهان المسيحيين، أي نرتدي ثوبك.
المسيح هو لباسنا. إن أردنا أن نقتنيه كثوبٍ، فلنكن طاهرين كالثلج [52].
أما أن يجعل الصقيع كالرماد، فذلك لأن الرماد يرتبط بالتوبة والتواضع. يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان الذي يريد أن يتعلم ويلتقي بالله، يكتشف أنه في ظلمة كما في صقيع، ويحتاج إلى التوبة بروح التواضع.
*إذا ما دُعي إنسان ليتعلم عن الله، فليُقال له: "اقبل الحق". وإذ يبدأ في الرغبة لقبول الحق يجد نفسه عاجزًا. يرى نفسه كمن هو في نوعٍ من الظلمة، وبسببها لم يكن يرى...
لا تتجولوا في الصقيع، بل اتبعوا الإيمان.
وإذ أنتم تسعون في أن تروا وأنتم عاجزون، توبوا عن خطاياكم، فإن الصقيع يُذرى كالرماد.
توبوا عن كونكم معاندين لله، توبوا عن إتباعكم طرقكم الشريرة. إنكم تأتون إلى هذه الحالة حيث يصعب عليكم الرؤية للنعيم، وسيكون لكم الصقيع نافعًا لكم حيث يذريه الله كالرماد.
أنتم أنفسكم لازلتم صقيعاً بل مثل الرماد، لأن الذين يتوبون يغلفون أنفسهم في الرماد، ويشهدون يا إخوتي أنهم مثل الرماد، قائلين لله: "أنا رماد". يقول الكتاب: "احتقرت نفسي وتبددت، حسبت نفسي ترابًا ورمادًا" (انظر أي 30: 19) Vulgate.
عندما تحدث إبراهيم مع الله، قال: "أنا تراب ورماد" (تك 18: 27)، هذا هو تواضع التائبين [53].
يُلْقِي جَمْدَهُ كَفُتَاتٍ،
قُدَّامَ بَرْدِهِ مَنْ يَقِفُ؟ [17]
بعد أن شبه الكنيسة بثوب المسيح المجيد الذي يصير كالثلج بلا دنس ولا غضن، يشبه المؤمنين بالجليد الشديد الصلابة، والذي لا يُقارن بالثلج.
مع شدة صلابته يصير الجليد كفتات خبز يأكله البعض وينتفعون به. يقدم لنا القديس أغسطينوس الشهيد استفانوس مثالًا لذلك، فقد كان كالجليد الصلد وقف أمام المضطهدين بقوة، واحتمل بفرح رجمه بالحجارة.
* "يرسل بلَّوره (جليده) كفتاتٍ"... ما هو البلور crystal (الجليد)؟ إنه جامد جدًا، إنه متجمد للغاية، لا يذوب بسهولة مثل الثلج.
عندما يصير الثلج جامدًا لمدة سنوات كثيرة، ومع تعاقب الأجيال، يدعى بلورًا (جليدًا). هذا يرسله (الله) مثل فتات الخبز.
ماذا يعني هذا؟ كان جامدًا للغاية، لا يمكن مقارنته بالثلج بل بالبلور؛ لكنهم يصيرون كطعامٍ للآخرين. يصيرون نافعين أيضًا للغير [54].
*"قدام برده من يقف؟" مكتوب أنه في الأيام الأخيرة تبرد محبة الكثيرين... ليت الله يهبنا ألا يزحف أي برد إلى قلوبنا. إننا لا نرتكب خطية إلا بعدما تبرد المحبة. لهذا، ماذا يقول الرسول؟ "كونوا حارين في الروح. إلهنا نار آكلة". إن كان الله نارًا، فهو نار لكي ينزع برد الشيطان.
طبيعة الميت أنه بارد، وطبيعة الحيّ أنه دافئ. فإن صار أحد باردًا ومات، يرسل إليه كلمته ويذيب (برده) [55].
يُرْسِلُ كَلِمَتَهُ، فَيُذِيبُهَا.
يَهُبُّ بِرِيحِهِ، فَتَسِيلُ الْمِيَاهُ [18].
* "يرسل كلمته فيذيبها" ليت الثلج لا ييأس، ولا الصقيع، ولا الجليد (البلور).
فمن الثلج كما من الصوف يصنع ثوبًا.
ومن الصقيع يجد أمانًا في التوبة...
وأيضًا يدعو حتى الذين إلى فترة طويلة كانوا جليدًا جامدًا، فإنهم لن يكونوا جامدين أمام رحمة الله. إنه "يرسل كلمته فيذيبها"...
إنهم جامدون خلال الكبرياء... لا تيأسوا حتى بالنسبة للجليد.
اسمعوا قولًا من الجليد: "كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا" (1 تي 1: 13). لماذا أذاب الله الجليد؟ حتى لا ييأس الثلج من نفسه. إذ يقول: "لكنني لهذا رُحمت، ليُظهر يسوع المسيح فيَّ أنا أولًا كل أناةٍ، مثالًا للعتيد أن يؤمنون به للحياة الأبدية" (1 تي 1: 16). عندئذ دعا الله الأمم: "لتذوبوا يا أيها الجليد. تعالوا أيها الثلج".
"روحه يهب، فتسيل المياه". هوذا الجليد والثلج ذابا، وتحولا إلى مياه. "من كان عطشانًا، فليأتي ويشرب" (راجع يو 7: 17).
كان شاول جليدًا قاسيًا، اضطهد استفانوس حتى الموت. الآن بولس في المياه الحية، يدعو الأمم للينبوع (المسيح) [56].
*هنا -في رأيي- يقدم سمة قوة الله غير المُقاومة وغير المحدودة في إنتاج أمورٍ من اللاوجود، ويغير ويشكِّل هذه الأمور لتحقق رغبته.
أحيانًا يغيِّر الأشياء نفسها، وفي أوقات أخرى يحرك الأمور الباقية في طرق عمل أخرى، ويسمح لعملياتها الخاصة أن تتوقف لتقوم بأعمال مناقضة للأولى.
هذا ما فعله أيضًا في حالة الأتون. كانت فيه نار، لكنها لم تحرق، بل على العكس الذين ألقوا فيها تمتعوا بنوعٍ من الندى مُسِرٍ للغاية (دا 3).
وفي حالة اليهود كان يوجد بحر، ولكن عوض المياه التي تُغرِّق، ساروا فيه، وكان في صلابة أكثر من الصخر (خر 14).
كانت هناك أرض في حالة داثان وأبيرام (ومن معهما)، ولكن عوض أن تسند أجسامهم غاصوا فيما هو أصعب من الغرق في بحرٍ (عد 16).
عصا هرون كانت خشبًا جافًا، وأنتجت ثمرًا مسرًا أكثر من النباتات التي كانت في الأرض (عد 17).
في حالة بلعام كانت حماره أكثر غباوة من أي حيوان آخر، وقدمت للرجل الذي كان يضربها دليلًا ليس بأقل مما تقدمه كائنات بشرية عاقلة.
كانت هناك أسود في حالة دانيال أظهرت حنوًا أكثر مما تظهره الأغنام، لم تُلغِ طبيعتها لكن سلوكها قد تغيَّر [57].
19 يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. 20 لَمْ يَصْنَعْ هكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ، وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا. هَلِّلُويَا.
يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ،
وَإِسْرَائِيلَ بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ [19].
*ما هو "البرّ"؟ وما هي "الأحكام"؟ فإن ما عانت منه البشرية كما جاء قبلًا حين كانت ثلجًا وصقيعاً وجليدًا، إنما عانته بسب كبريائها وتشامخها على الله.
لنرجع إلى أصل سقوطنا، وننظر إلى ما هو بالحق يُرتل به في المزمور: "قبل أن أُذلل أنا ضللت" (مز 119: 67). لكن من يقول هذا، يقول أيضًا "خير لي أنك أذللتني، فأتعلم برَّك" (مز 119: 71). هذا البرّ تعلمه يعقوب الذي جعله يصارع مع الله نفسه الذي جاء على هيئة ملاك. لقد أمسك به (بالله)، وبذل جهدًا عنيفًا ليمسك به، وفاز بأن يمسكه. سمح (الله) لنفسه أن يُمسك، في رحمة، وليس في ضعفٍ. لذلك صارع يعقوب وغلب. لقد أمسك به وحين بدا كأنه غلب سأله أن يباركه (تك 32: 24 إلخ.)...
ليت الإنسان يُجاهد لكي يمسك، يمسكه بشدة، إذ يمسكه بعد تعبٍ. هذه هي أحكامه التي أعلنها الله ليعقوب وإسرائيل [58].
لَمْ يَصْنَعْ هَكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ،
وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا.
هَلِّلُويَا [20].
يرى القديس أغسطينوس أن ربنا يسوع المسيح أعلن نفسه لشاول الطرسوسي الذي كان قاسيًا كالجليد، وإذ ذاب كرز شاول أو بولس للثلج أي للأمم لكي يذوب الأمم أيضًا.
لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم [59] أن المرتل بدأ مزموره بالحديث عن العطايا الخاصة بشعبه، ثم انتقل إلى رعايته للعالم كله، فهو محب لكل البشرية، يعود الآن فيتحدث عن اهتمامه بشعبه.
يختم القديس يوحنا الذهبي الفم [60] تفسيره لهذا المزمور بتقديم تفسير روحي رمزي، متطلعًا إلى أورشليم كرمزٍ لأورشليم العليا، وصهيون كرمزٍ لكنيسة العهد الجديد.
*لاحظوا كيف ينتقل مرة أخرى من معالجة الأمور العامة إلى الخاصة، متحدثًا عن الامتيازات التي لليهود كي يحثهم على غيرةٍ أعظم. فبعد أن بدأ المزمور بالحديث عن الأمور المادية، وما هو لنفع أجسادهم من أمانٍ وخصوبةٍ وسلامٍ، هنا يرتفع بالمقال إلى الأمور العلوية، فيشير إلى أعطاء الناموس الذي كان امتيازًا خاصًا، حتى يسحبهم عن الشر، ويقودهم إلى الفضيلة، وينير عقولهم.
لهذا قدم أيضًا حديثًا عن كل جانبٍ من هذا، قائلًا: أي شعب مثل هذا؟ هذا الجنس العظيم الذي إلهه قريب منه..." (راجع تث 4: 7).
بالمثل يقول داود: "الرب مجرى الرحمة والقضاء لجميع المظلومين. عرّف موسى طرقه، وبني إسرائيل رغباته". (راجع مز 103: 6-7) [61]
*لتملأ حياتي بالفرح السماوي،
فأختبر عذوبة التسبيح!
لساني يهتف لك،
وقلبي وعواطفي وكل إحساسي ترنم لك.
أغني بفمي وشفتي،
وأغني بكل أعضاء جسمي وطاقاتي.
ليسلك كل عضو كما يليق به،
فيشهد لجلالك، ويختبر الشركة معك.
ويتحول كل كياني إلى قيثارة،
يعزف عليها روحك القدوس أنشودة حب!
أرنم لك بالصوت كما بالصمت والعمل!
*يهبني التسبيح جناحين،
فتطير نفسي كما إلى السماء!
بالتسبيح أتمتع بحبك وحب إخوتي.
أختبر عربون السماء والشركة مع السمائيين.
بالترنم تعتزل نفسي محبة الزمنيات،
وتنطلق متحررة لتنعم بالسماويات.
*هب لي حياة التسبيح الداخلي الحقيقي،
فأتأهل لبناء أورشليم في أعماقي!
تقيم ملكوتك في قلبي،
وتنير عيني، فأعاين مجدك.
* بالتسبيح والشكر أستعرض جراحاتي لك.
هي من صنع إرادتي الشريرة،
هي ثمر إهمالي وخطاياي،
أنت هو السامري (الحارس) الصالح.
تضمد جراحات نفسي،
وتجبر كسور عظامي!
*تفرح قلوبنا حين نتطلع إلى الكواكب وسط ظلمة الليل.
وتُسر أنت يا إلهي أن ترى مؤمنيك كواكب منيرة.
هب لنا بالتسبيح أن تتلألأ كما في وسط ليل الضيقات.
لتشتد ظلمة الليل، فيزداد بهاء أولادك.
تحصيهم ككواكبٍ معروفة لديك،
واهبًا لكل منَّا اسمًا تعتز أنت به!
لن تستطع ظلمة الخطية أن تفسد بهاءك المشرق في أعماقنا.
نعمتك تقيم منا كواكب لن يخفيها ظلام الضلال!
*تسبحك نفسي أيها الصالح القدير.
وسط الضيق تطمئن نفسي،
تحول مرارتي إلى عذوبة فائقة.
تصمت أعماقي وتنتظر،
فأنت إله المستحيلات، ليس لعظمتك حدود.
هب لي روح الوداعة فأتكل عليك.
ترفع أعماقي إليك وبفرح تُسر بأعمالك.
أقرع بابك، فتهبني فهمًا لحكمتك وسلامًا لقلبي!
تمسك بيدي، وتحملني على منكبيك.
تنزل إليّ لتحملني إلى سماواتك.
*أنت هو سلاحي الحقيقي.
أنت واهب النصرة في كل معركة.
هب لي ألا أتكل على قوتي البشرية،
ولا أتشامخ بإمكانيات باطلة!
أختفي فيك وسط الضيق،
فأشعر بالأمان وتتهلل نفسي بك.
في أحضانك الإلهية تطمئن نفسي وتسبحك.
أخشاك بروح التقوى وأحبك.
لا أريد أن أحزنك بخطاياي،
وإن سقطت أثق في مراحمك.
لا ينقطع التسبيح من أعماقي،
فإنك لا تُسر بهلاكي، بل برجوعي دائمًا إليك!
*اخترتني بمراحمك لأكون من خاصتك،
تقيم مدينتك في داخلي،
مدينة متهللة بك،
عملها الأول التسبيح لك، ودستورها السلام الحقيقي.
سلام بين النفس والجسد، إذ يقودهما روحك القدوس.
تناغم بين العقل والعاطفة، وبين الفكر والسلوك.
سلام مع الله والناس.
*تقيم من أعماقي أورشليم جديدة، أي رؤية الله.
أراك، فأتأمل في حبك، وأسبحك!
تشتاق بالأكثر نفسي إليك وتعطش.
تمجدك، فتطلب المزيد من التعرَّف عليك.
*حلولك في نفسي المتهللة بك يفيض عليّ بالبركات العجيبة.
أتمتع بالأمان فلا أخشى محاربات العدو.
أنعم بالسلام فلا مجال لصراع داخلي.
أختبر السعادة، فأشعر أني أسعد كائن على الأرض.
تحول أعماقي إلى جنة تحمل ثمار روحك القدوس.
دخولك حوّل أعماقي إلى عرسٍ مفرح.
*لتسكن يا مخلصي في أعماقي.
تنزع عني دنسي،
وتهبني ثوب برِّك أرتديه.
أكتشف بحضورك أنني كنت في ظلمة كصقيع،
أحتاج إلى التوبة بروح التواضع.
أدرك أنني وإن كنت جامدًا كالجليد،
فإن كلمتك قادرة أن تذيبه.
حلولك يفيض في داخلي بمياه نعمتك.
وجودك يحرك كل شيءٍ لبنيان نفسي.
لك التسبيح يا من بالحق تحبني!
_____
[1] On Ps. 147.
[2] On Ps. 147 (146).
[3] On Ps. 147.
[4] On Ps. 147.
[5] Homilies on Psalms, homily 57.
[6] On Ps. 147.
[7] On Ps. 147 (146).
[8] On Ps. 147.
[9] Homilies on Psalms, homily 57.
[10] Cf. Commentary on Job 5: 9: 10.
[11] On Ps. 147 (146).
[12] In Lev. hom 1.
[13] Homilies on Psalms, homily 57.
[14] Evagrius of Pontus: Scholia on Ecclesiastes 6: 1: 15.
[15] العظة اللاهوتية الأولى: عظة رقم 27 عظة تمهيدية ضد أتباع يونيموس، 30.
[16] On Ps. 147 (146).
[17] On Ps. 147.
[18] On the Incomprehensible Nature of God, homily 1: 26.
[19] On Ps. 147.
[20] عظة 10 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.
[21] On Ps. 147 (146).
[22] On Ps. 147.
[23] Homilies on Psalms, homily 57.
[24] On Ps. 147.
[25] On Ps. 147.
[26] Homilies on Psalms, homily 57.
[27] On Ps. 147.
[28] عظة ربنا يسوع المسيح على الجبل.
[29] Homilies on Psalms, homily 57.
[30] Homilies on Psalms, homily 57.
[31] On Ps. 147 (146).
[32] On Ps. 147.
[33] Homilies on Psalms, homily 57.
[34] On Ps. 147 (146).
[35] On Ps. 147.
[36] On Ps. 147.
[37] The city of God 1. 9: 11, 13.
[38] Homilies on Psalms, homily 57.
[39] On Ps. 147 (146).
[40] On Ps. 147.
[41] On Ps. 147.
[42] Homilies on Psalms, homily 57.
[43] On Ps. 147 (146).
[44] الرسالة الحادية والأربعون، 2 (ترجمة الرب سليم دكاش اليسوعي).
[45] Homilies on Psalms, homily 57.
[46] Homilies on Psalms, homily 57.
[47] On Ps. 147.
[48] Life of Moses, 186.
[49] Homilies on Psalms, homily 57.
[50] On Ps. 147.
[51] On Ps. 147 (146).
[52] Homilies on Psalms, homily 57.
[53] On Ps. 147 (146).
[54] On Ps. 147 (146).
[55] Homilies on Psalms, homily 57.
[56] On Ps. 147 (146).
[57] On Ps. 147.
[58] On Ps. 147 (146).
[59] On Ps. 147.
[60] On Ps. 147.
[61] On Ps. 147.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 148 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 146 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/b8p97a6