10 - ي
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 73 - 74 - 75 - 76 - 77 - 78 - 79 - 80
[73 - 80]
عندما نتحدث عن تأديبات الله لمؤمنيه وأيضًا موقف الأشرار المتكبرين منهم تُثار بعض الأسئلة حول عدالة الله:
أين هي العدالة الإلهية؟ أين هي عنايته بقديسيه؟
لماذا يسمح لأولاده بالضيق؟
أما المرتل فيقدم نفسه وحياته إجابة حية للمتسائلين:
73 |
||
74 |
||
75 |
||
76 |
||
77 |
||
78 |
||
79 |
||
80 |
||
تساؤلات حول عناية الله من وحي المزمور 119(ي) |
73 يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي. فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ.
"يداك صنعتاني وجبلتاني،
فهمني فأتعلم وصاياك" [73].
في كل الأجيال تثور الأسئلة السابقة حول عدالة الله وعنايته خاصة عندما تحل بالإنسان ضيقات لا ذنب له فيها، أما المرتل فعوض تقديم الأسئلة يُعلن عن حاجته إلى إدراك أسرار أحكام الله والتعرف عليها، لأننا خليقته التي لا تشك قط في عدالة خالقها وحبه اللانهائي ورعايته. فالضيقة لا تدفع المرتل إلى التساؤلات بروح الشك واليأس وإنما بالأحرى إلى طلب كشف حكمة الخالق والآب السماوي له، أي إلى الرغبة في التعلم. إنه واثق أن الله الذي خلقه يهتم به ويدبر أمور حياته. وكما يقول موسى النبي: "أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟!" (تث 6:32).
يقول أيوب: "أذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟!" (أي 9:10). إن كان الفخاري يعتز بالإناء الخزفي الذي يشكّله من الطين فبالأولى الله الذي أقام آدم من التراب، وقد صوّره على صورته ومثاله، ووهبه عطية العقل والإدراك... أما يقدم له علمًا وفهمًا متزايدًا ليدرك أسرار حكمة الله فيشكر ويسبح؟! يقول الله لإرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (إر 5:1) ليعلن عن مدى اهتمامه به ورعايته... إن كان الله يعرفنا قبل أن نولد، فهو يطلب منا أن نعرفه ونتعرف على سماته وحكمته، فنلتقي معه على مستوى الحب الحق المتبادل والقائم على المعرفة الصادقة الفائقة.
بقوله "يداك" يرى البعض أنه يشير إلى ابن والروح القدس، إذ يقول الله في صيغة الجمع: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 26:1).
*
يُقال إن يديْ الله الآب هما ابن الوحيد والروح القدس، إذ هما (مع الفارق) واردتان عن مصدرٍ واحد ولا تفارقانه أبدًا، ولا ينحل اتحادهما، لكنهما متلاصقتان مع الجسد ومتمايزتان فيما بينهما. كذلك ابن الوحيد والروح القدس صادران عن الآب وحده ومتصلان به وببعضهما في وحدة اللاهوت، ومتمايزان من جهة الأقانيم... لذلك كتب أيوب الصديق في الأصحاح العاشر بإلهام إلهي: "يداك كونتاني وصنعتاني، أفتبيدني؟!" (انظر أي 8:10). لقد استعار داود المغبوط هذا القول من أيوب المطوّب.يرى القديس أغسطينوس أن تعبير "يديْ الله" يشير إلى السيد المسيح وحده أو إلى ابن والروح القدس.
* يدا الله هما قوة الله... لنفهم يديْ الله قوة الله وحكمته، أعُطي اللقبان للمسيح الواحد (1كو 24:1)، حيث يُفهم أيضًا تحت رمز "ذراع الرب" (إش 1:53) إذ نقرأ: "لمن اُستعلنت ذراع الرب؟".
أو ليفهموا يديْ الله: ابن والروح القدس؛ حيث أن الروح القدس يعمل مع ابن..."
* أخيرًا ربما يقرر أن أحد القديسين تقبل التقديس من ابن والروح القدس، قائلًا: "يداك صنعتاني وجبلتاني" [73](79).
أما تكراره "صنعتاني" و"جبلتاني" فيرى البعض أنه يشير إلى خلقة الجسد والنفس، وكأن الله خالق الإنسان بكليته يهتم أيضًا بكل احتياجاته الجسدية والروحية، فإن كان يهتم ببنيان النفس وخلاصها فهو أيضًا يمجد معها الجسد الذي يقوم في يوم الرب العظيم... يهتم به في هذا الزمان الحاضر كما في الدهر الآتي، يهتم حتى بعدد شعور رؤوسنا.
* تشكَّل هيكل أجسادنا ونفوسنا بيد الفنان الإلهي نفسه(80).
ويرى البعض في هذا التكرار إشارة إلى خلقة الإنسان وتجديده في مياه المعمودية على صورة خالقه.
ما دام الله هو الخالق والمجدد لخلقتنا لذلك لا يشك المؤمن قط في عناية الله به، إنما في دالة البنوة يصرخ:
"فهمني فأتعلم وصاياك" [73].
* أنت يا رب صنعتني إنسانًا فهيمًا. إذن فهمني، وكمِّل ما نقص مني من الفهم.
أنت جبلتني لكي أكون من خاصتك، وهذه الخصوصية لا تصير إلا بعمل وصيتك. لأنك في الابتداء فرضت على وصية واحدة، لكن الآن إذ صارت سقطاتي كثيرة احتاج إلى وصايا كثيرة. لك أن تُفهمني فأتعلمها، حتى إذا ما أفهمتني إياها أتممها. أما الأشرار فيغتمون ويقولون: هذا غير نافع لنا، ومقاوم لأعمالنا ويجعلنا في عار بعصياننا للشريعة".
* "فهمني فأتعلم وصاياك" [73]... عندما علم مخلصنا تلاميذه قال في البشارة بحسب القديس متى الإنجيلي: "كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجلٍ عاقلٍ" (مت 24:7). إذن هل يمكن العمل بهذه الوصايا دون أن أفهمها؟!
يقول أبوليناريوس: [عن هذا الإدراك يقول بولس الرسول أيضًا: "افهم ما أقول، فليعطك الرب فهمًا في كل شيء" (2تي 7:2). هذه الطلبة موجهة إلى الخالق، وهي طلبة منطقية، تعني: تعهد خليقتك، كمِّل الكائن المفكر وهبه التعقل والإدراك والفهم. ذاك الذي أعددته ليحيا في حبك، اجعله يعيش في حبك بمعرفته إرادتك، لأنه منذ البدء احتاج الإنسان إلى التعلم...]
يقول القديس أغسطينوس أنه يمكنه أن يقدم لشعبه ما يستمعون إليه من كلمات، أما الفهم فهو عطية إلهية. يقدم الكلمات للآذان، أما الله فيقدم الفهم للقلوب.
* يتحقق الاستماع بواسطتي، لكن من يقدم الفهم؟
إني أتحدث مع الأذن لكي تستمع، لكن من يتحدث مع قلبك للفهم؟
بلا شك يوجد من ينطق بشيء من الحق يدخل قلبك، فلا يقف الأمر عند ضجيج الكلمات التي تضرب أذنك، بل يوجد شيء من الحق يدخل قلبك. يوجد من يتحدث مع قلبك وأنت لا تراه.
إن كان لكم فهم يا إخوة فالحديث موجه إلى القلب. الفهم هو عطية القلب.
إن كان لكم فهم، من ينطق بهذا في قلوبكم إلا ذاك الذي يُوجه إليه المزمور: "فهمني فأتعلم وصاياك"(81)؟
74 مُتَّقُوكَ يَرَوْنَنِي فَيَفْرَحُونَ، لأَنِّي انْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ.
تساؤل المرتل داود ينبع عن ثقته في الله خالقه، الذي أقامه كائنًا عاقلًا، ولا يبخل عليه بالكشف عن إرادته الإلهية، واهبًا له المعرفة والفهم. لهذا إذ يتطلع خائفوا الرب إلى داود يجدون فيه مثلًا حيًا للحوار مع الله وسط الآلام فيفرحون ويطمئنون، مشاركين إياه ثقته في الرب.
"الذين يخافونك يبصرونني ويفرحون،
لأني بكلامك وثقت" [74].
علامة الشركة الحقيقية أنه إذ يتعزى عضو في وسط آلامه يفرح معه خائفوا الرب ويتعزون، وما يتمتع به أحدهم يحسبونه عطية للجميع. وكما يقول داود النبي: "يسمع الودعاء فيفرحون، عظموا الرب معي ولنعلِ اسمه معًا" (مز 2:34). "الصديقون يكتنفونني لأنك تحسن إليَّ" (مز 7:142).
* يبصر أتقياء الله أعمالي الحسنة ببصيرة حسية، وفضائل نفسي ببصيرة عقلية، ويفرحون لثقتي في كلامك.
* يأخذونني قدوة عندما ينظرونني، كيف؟ "بكلامك وثقت"، وينتظرون أن ينالوا ذات المنافع.
* ليس كل الذين يرون البار يفرحون، فإنه بالنسبة (للأشرار) حتى التطلع إلى البار يكون ثقيلًا، لأن حياته لا تشبه حياة الآخرين، وسُبله مختلفة عن سبلهم (الحكمة 14:2-15)، لهذا يرون البار في غير نقاوة. وبقدر ما يكون التطلع إلى البار ثقيلًا بالنسبة لهم يكون مفرحًا بالنسبة للإنسان التقي.
يمكن أن تفهم كلمة "يبصر" إما بطريقة حسية، وتعني الإنسان الظاهر، وإما بمفهومٍ روحي ويعني نفسه (الإنسان الداخلي)، أي أفكاره وعقله وحكمته؛ بهذا نرى البار فنبتهج به ونفرح بمعرفته.
* يمكن أن نفهم ذلك هكذا أن خائفي الرب كاملون، ولا يعوزهم شيء (مز 1:34)، وأبرار... يريدون أن يتقدم الكل ويستفيدون، وهم يبتهجون بكل ما يرضي الله، متشبهين بسكان السماء الذين يفرحون بالتائبين (لو 7:15).
ويمكن أيضًا أن تعني بأن (خائفي الرب) هم أقل تقدمًا، يبصرونني فيفرحون لأني بكلامك وثقت. يرونني أرغب الحياة في اتحاد كامل مع كلامك هذا، لكيما تتفق أفكاري وأفعالي مع تعليمك، وبسبب خوفهم من السقوط تحت طائلة العقاب الخاص بالأشرار والخطاة حسب أحكامك، يمتنعون عن الشر. إنهم يخافونك بطريقة بها يبصرونني فيفرحون، خلال امتناعهم عن الخطية، لا عن حزنٍ أو اضطرارٍ (2كو 7:9)، وإنما بغيرة كي يستعيدوا القوة، لأنهم هم أيضًا يثقون في كلامك.
يرى القديس أغسطينوس أن خائفي الرب هنا هم الكنيسة التي هي جسد المسيح، تبصر ذاك الذي وثق في كلام الله فيفرحون... أي يبصرون أعضاء في جسد المسيح فيفرحون من أجل ثقتهم في كلمات الرب. وكأن المؤمنين يرون إخوتهم المشاركين لهم في الإيمان يفرحون بهم من أجل إيمانهم بكلمة الله.
75 قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي.
"قد علمت يا رب أن أحكامك عادلة،
وبحق أذللتني" [75].
ثقتي في كلامك تثير الأشرار وتفرح خائفيك [74]، أما من جهة نفسي فإنني أدرك عدالة أحكامك وأن ما تسمح به لي من تأديبات أو ضيقات أو ظلم الأشرار إنما عن استحقاق، فأنا خاطئ ومحتاج إلى المذلة كسندٍ لي. إنني خلال المصاعب أتمتع بعونك دون أن أفقد رجائي فيك؛ وخلالها أتدرب على الجهاد الروحي فأتمتع بسلسلة من النصرات. بنعمتك التمس عنايتك وسط الآلام فأثبت بالأكثر فيك.
* كل ما يحدث هو بحكمة الله. والمؤمن يعتقد بأن "أحكام الله عادلة"، لكنه ما لم يحصل على "علم" فإنه لا يعرفها. أما غير المؤمن، فعلى العكس، ليس فقط ليس لديه هذا الإيمان وإنما يتجنى أيضًا على العناية الإلهية بخصوص هذه الأحكام.
إذن يوجد من يؤمن بها وأيضًا من لا يؤمن بها. من يبلغ إلى حالة أفضل لا يقف عند الإيمان فقط بل و"يعلم"، أي تصير له معرفة أحكام الله وكل ما يحدث للإنسان، فقد قبل النبي هذه المعرفة.
"قد علمت" تختلف عن "قد آمنت" [66]. فإن من يؤمن قد لا تكون له المعرفة بذات القدر. قال يسوع للذين آمنوا به: "إن ثبتم في كلامي فإنكم تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 32:8). قال "تعرفون" للذين آمنوا، حيث لا يُعطي الإيمان بالضرورة المعرفة؛ لذلك يميز الرسول بولس بين الإيمان والمعرفة، وبين الإيمان والحكمة، وذلك في قائمة مواهب الروح (1كو 8:12، 9).
"قد علمت يا رب أن أحكامك عادلة، وبحق أذللتني"، تعني أذللتني حسب الحق وحسب حكمك.
كثيرًا ما أُلاحظ في كثير من المواضع في الكتاب المقدس، خاصة في المزامير، إن كلمة "أذللتني" تشير إلى "طرحتني في التجارب".
عجيب هو الله أبونا في محبته لنا، فإنه ليس مثل عالي الكاهن الذي لم يردع أبناءه عندما أخطأوا (1صم 13:3)، إنما يؤدب ومع تأديبه يعطينا "معرفة" و"علمًا" إن سألناه. قد يسبب التأديب مذلة مؤقتة، لكن المعرفة واكتشاف حكمة الله تحول المذلة إلى شكر وفرح وتسبيح مع تعزيات سماوية فائقة.
76 فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي، حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ.
بالحق دخل المرتل إلى المذلة [75]، وها هو بالرحمة يتمتع بالتعزية الإلهية [76]. يبدأ بالحق ويليه الرحمة وقد ارتبط الاثنان معًا كقول المرتل "كل سبل الرب رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته" (مز 10:25). إنه لم يطلب من الله أن يرفع عنه عصا التأديب، إنما طلب مع ما ناله من معرفة إلهية وسط الضيق ألا يُحرم من رحمة الله التي قدمها وعدًا عامًا لكل البشر، وخاصًا بكل مؤمنٍ، إذ يقول:
"فلتأتِ على رحمتك لتعزيني،
نظير قولك لعبدك" [76]
* من كان ضعيف الرأي وقليل الإيمان لا يتحقق أن الله يسمح بالمحن والشدائد بحكم عادل فيتضجر، وأما الواثق بالإيمان الكامل يعرف أنها تحدث بحقٍ واجب، فيطلب التعزية من رحمته، أي من كلمته أو ابنه الوحيد، الذي جاء ليعزي المحزونين حسبما وعد بلسان إشعياء النبي أنه من قبل ابن تأتي الرأفة التي تحيي دارسي ناموس الله، أعني به المقدس، دراسة عملية.
* تعلم النبي كمناضل أن يحتمل كل ما يصيبه، فلا يطلب في صلواته أن تبعد عنه الآلام التي تحزنه، إنما يطلب في وقت الحزن من الله كلمة تعزية قوية تسمح له أن يحتمل الآلام بفرحٍ كاملٍ وسلامٍ. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). عندئذ يقول: ارحمني فأختبر التعزية وأجد الشجاعة.
إنه مثل الرسول بولس الذي كان يطلب التعزية عندما جُرب، فكان ينعم بها، لذلك قال: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقتنا" (2كو3:1-4). فإنني أستطيع بعد نوالي هذه التعزية أن أعزي من هم في حزنٍ أو ضيقةٍ. طوبى لمن يستطيع القول: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز19:94).
* رحمة الآب هي (بتجسد) ابن، الذي يعزي قلوبنا الساقطة تحت سلطان (طغيان) إبليس... تحنن على عبيدك كما وعدت بالتعزية.
* لتأتِ على رحمتك لتعزيني وتشجعني؛ فإن كثيرين إذ ينالون تعزية ينخدعون، حاسبين أنهم نالوها من حكمتهم وبعقلهم، أما أنا فلكي لا أضل مثلهم، فالنسبة لي، أنا عبدك "لتأتِ على رحمتك نظير قولك".
* حقًا يبدأ هنا أولًا بالحق الذي به نتذلل حتى الموت، وذلك بحكم ذاك الذي أحكامه هي برّ، بينما نتجدد للحياة وذلك بوعد ذاك الذي بركاته هي نعمة من عنده. لهذا يقول: "نظير قولك لعبدك" [76]، أي حسب ما وعدت به عبدك. سواء كان ذلك هو التجديد الذي به صار لنا التبني بين أبناء الله، أو الإيمان والرجاء والمحبة، حيث يُبني الثلاثة فينا، وهي تأتي من مراحم الله؛ مع هذا فإنه في هذه الحياة المملوءة بالعواطف والمتاعب توجد تعزيات البؤساء لا أفراح المطوبين.
77 لِتَأْتِنِي مَرَاحِمُكَ فَأَحْيَا، لأَنَّ شَرِيعَتَكَ هِيَ لَذَّتِي.
"ولتأتني رأفتك فأحيا،
فإن ناموسك هو درسي" [77].
إن كان المرتل ينسب كل تعزية إلى نعمة الله السخية المجانية لا إلى قدراته الفكرية أو إرادته القوية، فإنه يشعر بالدين بحياته كلها لرأفات الله؛ بها يحيا، وبناموسه أو وصيته يتأمل ويدرس ويتلذذ.
* الطبيعة الإنسانية بكاملها في حاجة إلى "رأفات الله" حقًا، فإنها ما لم تأتِ لا نستطيع أن نحيا الحياة الحقيقية، الحياة المستترة "مع المسيح في الله" (كو 3:3).
لنتعلم أيضًا القول: "ناموسك هو درسي"، ولنكرس أنفسنا لدراسة الأسفار المقدسة.
* في كثير من المواضع الأخرى، وليس هنا فقط، نجد ذكر "رأفات" الله، لهذا يلزمنا أن نتأمل أن ابن الوحيد الجنس والروح القدس الواهب الحياة هما رأفات الله.
يُدعى الله -حسب تعليم الرسول المملوء حكمة- "أبو الرأفة" (2كو 3:1).
إذ تقيم مراحم الله ورأفاته المؤمن -وهو في وسط ضيقاته- كما من الموت فيحيا ويلهج في ناموس الرب بلذة، يعكف على دراسته ولا ينشغل بافتراءات المتكبرين، يترك الأشرار في شرهم يسكبون عليه العار والخزي. ينشغل المؤمن بوعود الله اللذيذة الواهبة الحياة ويرتبك الأشرار في خزيهم. يتمتع المؤمن بثمر كلمة الله اللذيذة وينال الأشرار ثمر مخالفة الوصية.
78 لِيَخْزَ الْمُتَكَبِّرُونَ لأَنَّهُمْ زُورًا افْتَرَوْا عَلَيَّ. أَمَّا أَنَا فَأُنَاجِي بِوَصَايَاكَ.
"وليخزَ المتكبرون،
لأنهم خالفوا الشرع على ظلمًا.
وأنا كنت مثابرًا على وصاياك" [78].
أدرك المرتل عدالة أحكام الله، ففي عينيْ نفسه يرى أنه مستحق كل تأديب، لكن خلال مراحم الله ينعم بالتعزيات الإلهية وسط الضيقات، وخلال رأفاته يتمتع بالحياة، إذ ينعم بالشركة مع الآب في ابنه بروحه القدوس. والآن ما هو موقف المتكبرين الذين يفترون على المرتل ويضيقون عليه؟ بينما هم منهمكون في تدبير المؤامرات ونصب الشباك الخفية إذ بالله يخزي خططهم، بينما ينهمك المرتل في الجهاد في تنفيذ الوصية الإلهية بغير ارتباك.
* إذ أحصل على عونك يخزى الأشرار والبشر أعداء الحق، وبينما هم في عارٍ وخزيٍ إذ بي لا انتفخ بل أناجي بوصاياك.
* لا ينطق النبي بهذه الصلاة ضد المتكبرين الذين ظلموه أو افتروا عليه، وإنما لصالحهم. فإنه طالما لا يعي الخاطي خطيته لا يخجل منها، أما إن صار في وعي بها فإنه يشعر بالخجل... لأتعلم أنهم إنما افتروا على زورًا، أما أنا فلا أفعل شيئًا إلا أن أثابر على وصاياك.
* حينما تسمعون الخطاة يُلعنون في الكتاب المقدس، فلتدركوا أن ذلك يخص المتكبرين كما قلت، أي الذين يدافعون عن خطاياهم. أيضًا كلما سمعتم المساكين يطوّبون لا تحسبون هذا يحدث مع كل المسيحيين، بل فقط مع المسيحيين الودعاء والمتضعين بقلوبهم(82).
79 لِيَرْجعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ وَعَارِفُو شَهَادَاتِكَ.
"وليرجع إليَّ الذين يتقونك ويعرفون عجائبك"[79].
يطلب المرتل للمتكبرين الخزي، أي الشعور بالخطية، لتوبتهم؛ كما يدعو خائفي الرب كي يجتمعوا معه في الإيمان فينعموا بتعزيات الله ورأفاته. يرى البعض أن داود النبي نطق بهذه الكلمات ليعلن رغبته في التمتع بصداقة القديسين، هؤلاء الذين تركوه بعد قتله أوريا الحثي، إذ حسبوا ذلك عارًا، لا يليق بخائفي الرب(83). إنه يطلب من الله أن يرجعوا إليه ليعيش بين أتقيائه، فقد رجع هو بكل قلبه إلى الله وصار بلا عيب بهذا يعرف متقوا الرب كيف صارت حياة داود أعجوبة.
* يريد النبي من متقي الرب أن يتجهوا إليه ويقتربوا منه حتى ينالوا النعمة التي صار هو فيها.
80 لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلًا فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْلاَ أَخْزَى.
"وليصر قلبي بلا عيب في عدلك،
لكي لا أخزى" [80].
إذ يطلب للمتكبرين التوبة ولخائفي الرب التمتع بذات النعمة التي نالها لا ينسى في النهاية نفسه، طالبًا النمو في الحياة التي بلا عيب، أي البارة. لقد قدم الخطاة أولًا للتمتع بالتوبة ثم المؤمنين للشركة معًا في الحياة الإيمانية الحية، وأخيرًا يطلب من أجل نفسه كي يتوب عن خطاياه، وينمو لعله يبلغ قمة الكمال، فلا يلحقه قلق أو خزي.
* كيف يمكن لقلب الإنسان أن يصير بلا عيب، أو حسب المترجمين "كاملًا"؟ بفرائضك! وما هي ثمرة ذلك؟ إننا لا نخزى، لأن كل الخطايا تستوجب الخزي.
يجيب المرتل على التساؤلات حول عدل الله وعنايته:
1. الإنسان هو خليقة الله موضع حبه، لا يليق به أن يتشكك في صلاح الله وعنايته به. عوض التساؤلات يلزم طلب المعرفة والتعلم [73].
2. أبدع الله في خلقة الإنسان بكل كيانه الجسدي والنفسي والروحي... فهل يهمله بعد الخلقة؟
3. حبك يتطلب حزمك معي وتأديبك لي وإذلالي إلى حين [75].
4. يهب الله مع التأديب "معرفة" لمن يسألها، تحول المذلة إلى تسبيح.
5. يطلب المؤمن مراحم الله بكونها وعدًا شخصيًا له من قبل إلهه [76]، تقيمه كما من الموت إلى الحياة [77].
6. يتهلل قلب المؤمن بعطايا الله ووعوده بينما يخزى الأشرار المتكبرون بمخالفتهم الوصية [78].
7. بينما ينشغل المتكبرون بالمؤامرات يتمتع المؤمن بشركة مع خائفي الرب [79]، ويتنقى قلبه فيصير بلا عيب [80].
* أنت جابلي، هل للجبلة أن تسألك عن عدلك؟
خلقتني كائنًا عاقلًا،
فهب لي عطية الفهم عوض التساؤلات الكثيرة.
إنني كإنسان أقدم تفاسير وكلمات للآذان،
أما أنت فتهب القلوب فهمًا، فتدرك عدلك!
* كثيرون يتساءلون عن عدالتك؟
هؤلاء يرونني فرحًا في أحزاني،
لثقتي في مواعيدك وكلماتك،
فيقتدون بي ويطمئنون ويفرحون!
هكذا أنت تعزيني،
فأعزي من هم حولي!
* ثقتي في وعودك تثير الأشرار وتفرح خائفيك.
لقد تأكدت أن كل المتاعب هي لخيري،
نعمتك أكيدة حتى في أمرّ لحظات حياتي!
أحكامك عادلة، ورعايتك فائقة على الدوام.
أما الأشرار فيتجنون على عنايتك.
* تسمح لي بالتجارب فأتذلل إلى حين،
لكن مع المذلة تهبني علمًا ومعرفة،
هكذا تحول حكمتك تذللي إلى شكر وتسبيح مع تعزيات سماوية.
لست أطلب رفع عصا التأديب،
بل أطلب أن تقدم لي معرفة وسط الضيق ورحمة مع التأديب!
* هب للمتكبرين الخزي،
هؤلاء الذين صبوا الظلم عليّ.
لا أطلب نقمة لنفسي،
إنما أطلب أن تفضحهم أمام أعينهم فيرجعون إليك.
أنني اشتهي خلاصهم لا هلاكهم!
* بالحب اشتهي توبة المتكبرين،
وبالحب أطلب شركة خائفيك!
ليجتمعوا معي، وأنا معهم... فنصير واحدًا فيك!
هب لي نقاوة القلب فأصير بلا عيب!
_____
(79) Of the Holy Spirit, Book 3, 3:33.
(80) Sermon 228:1.
(81) On The Gospel of St. John, tract. 40:6.
(82) Sermon 48:3.
(83) Bethany Parallel Commentary on O.T., P 1163.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 119 (قطعة
11) |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 119 (قطعة 9) |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jwp2h95