← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29
هذا المزمور هو خاتمة مزامير هلليل المصرية Egyptian Hallel. وهو خاص بمدخل الليتورجيا التي تُقام ربما عند باب الهيكل المدعو باب البرّ [19].
اعتاد اليهود أن يسبحوا في عيد الفصح المزامير 113-118. بهذا فإن السيد المسيح سبَّح هذه المزامير قبل ذهابه إلى البستان للقبض عليه (مت 26: 30). وكأن هذا المزمور هو سند للمؤمن بالمصلوب عندما يسقط الظلم عليه، حيث يتلمس يد الله القوية، ويرى الله يفتح له أبواب الحرية، ويحسب نفسه غير أهلٍ أن يشارك السيد المسيح آلامه.
تطلع إليه آباء الكنيسة الأولين أنه مزمور مسياني. فقد صرخت الجماهير بالعبارتين (25-26) للفصح الجديد (مت 21: 9). كما اقتبس السيد المسيح العبارتين 22-23 في حواره مع قادة اليهود (مت 21: 33-46).
اقتبس منه العهد الجديد (عب 13: 6؛ مر 12: 10-11؛ أع 4: 11، 1 بط 2: 7؛ مر 11: 9).
يربط التقليد اليهودي هذا المزمور بعيد المظال. وجاء في المشناه Mishnah أنهم كانوا يلوحون بحزمة من سعف النخل وفروع الآس (نبات عطري) والصفصاف في بدء الترنم به وعند نهايته، ثم يضعون فروع الصفصاف على المذبح
كمزمور ليتورجي يُستخدم في الأعياد، خاصة عيد المظال وعيد الفصح. نلاحظ أن كل الفئات تشترك فيه: الشعب والكاهن والملك، كما توجد تسبحة شخصية يتغنى بها المؤمن في حديث شخصي مع الرب.
تزود (المزامير 15، 24، 118) مدخل الليتورجيا في المناسبات الخاصة بتقديم الشكر له.
كان الحجاج القادمين إلى أورشليم للاحتفال بعيد المظال يسبحون (المزمور 118). كما يظهر من صُلب المزمور نفسه، إذ نلاحظ الآتي:
أ. يشير (ع 15) إلى خيام الصديقين التي كان يعيش فيها المحتفلون بعيد المظال لمدة ثمانية أيام.
ب. يشير (ع 24) إلى "اليوم"، فقد كان عيد المظال له تقديره الخاص عند اليهود فيدعونه "العيد" (نح 8: 14؛ مز 81: 4) دون ذكر اسم العيد، إذ هو عيد مميز.
ج. وردت كلمة "هوشعنا" في (ع 26) وهو القرار الذي كان يتردد في هذا العيد، أو "مبارك الآتي باسم الرب". وهو نفس القرار الذي اُستخدم عند دخول السيد المسيح إلى أورشليم كملكٍ.
د. أُشير إلى الأنوار في (ع 27)، وهو طقس بارز لعيد المظال.
كما كان هذا المزمور يُستخدم في طقس عيد الفصح أثناء ملء الكأس الرابع من الخمر.
تستخدم العبارات (24-29) كلحنٍ خاصٍ بعيد القيامة في كثير من الكنائس في الشرق والغرب.
تستخدمه الكنيسة القبطية في قراءات اليوم الثاني من عيد الصليب، بكون الصليب هو تمجيد لاسم يسوع المصلوب: "يمين الرب صانعه ببأس" [15]، يمين الرب مرتفعة، يمين الرب صانعة ببأسٍ [16]، "إلهي فأرفعك" [28].
لهذا المزمور أهمية خاصة في حياة الكنيسة كما في حياة المؤمن الداخلية الشخصية:
1. هو المزمور الأخير من مزامير هلليل المصرية، يُسبح على لسان الشعب وهو خارج من مذلة عبودية فرعون. وكأنه قد سبح به الشعب أثناء تهليله بالخروج تحت قيادة موسى النبي مستلم الشريعة وهرون الكاهن. إنه مزمور كنيسة العهد الجديد المتهللة بالحرية التي صارت لها في المسيح يسوع كلمة الله ورئيس الكهنة السماوي.
2. مزمور أو تسبحة جماعية شخصية، تارة يستخدم صيغة الجمع وأخرى صيغة المفرد بالتناوب. إذ كان يشترك في تسبيح هذا المزمور الشعب والملك والكهنة كما كل مؤمن صادق ومخلص في علاقته مع الله مخلصه.
3. إنه تسبحة كل مؤمن يلمس يمين الرب الصانعة ببأس، يختبر قوة الصليب في حياته. هو تسبحة الأجيال كلها إلى أن يأتي الرب على السحاب في مجده ومجد أبيه، فتردد الكنيسة الجامعة: "خلصنا، مبارك الآتي باسم الرب" [26]. وهي تسبحة كل يوم يعيشه المؤمن فيشعر أنه يوم الرب لا يومه هو الذاتي، فيتغنى: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه" [24].
4. يمكن أن ندعو هذا المزمور "هوشعنا" [25]. بكونه تسبحة دخول السيد المسيح إلى أورشليمنا الداخلية، ليملك في قلوبنا، ويعلن نصرته على الشر، ويسترد ما قد سلبه إبليس! كما يمكن دعوته: "أبواب البرّ المفتوحة للرب".
1 -4. |
||
5 -21. |
||
22 -25. |
||
26 -27. |
||
28. |
||
29. |
||
من وحي المزمور 118 |
1 اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 2 لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ». 3 لِيَقُلْ بَيْتُ هَارُونَ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ». 4 لِيَقُلْ مُتَّقُو الرَّبِّ: «إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ».
يُفتتح المزمور بتسبيح جماعي، يردده كل الشعب بروح الفرح والقوة، يشكرون الرب على غنى رحمته.
تقف الجماعة كلها لتدعو بيت هرون الكهنوتي وكل أتقياء الرب، ليشكروا الرب على مراحمه الغزيرة الدائمة إلى الأبد.
اِحْمَدُوا الرَّبَّ، لأَنَّهُ صَالِحٌ،
لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1].
من الذي يدعو كل البشرية "أحمدوا الرب لأنه صالح..." ربما الملك في ذلك الحين أو رئيس الكهنة. إنه صوت كل مؤمنٍ الذي يتمتع بروح الملوكية، فيشتهي أن يرى البشرية كلها كنيسة المسيح الواحدة المقدسة، تسبح الله من أجل رحمته التي سجلها عمليًا على الصليب بسفك الدم الثمين!
*بما أن الرب صالح، وبما أن رحمته دائمة إلى الأبد، لا يشاء موت الخاطي، بل يريد رجوعه وتوبته، فإذا أيها المشغولون بالخطايا اعترفوا له، معترفين بذنوبكم، واشكروه على رحمته.
لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ:
إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [2].
يطلب المرتل من بيت إسرائيل أن يذكروا أعمال الله معهم منذ أطلقهم من عبودية فرعون، وجاء بهم إلى أرض الموعد كعربون لحرية مجد أولاد الله، مقدمين ذبيحة شكر لله، ومنهم تجسد كلمة الله ليقدم الخلاص للعالم كله.
* "فليقل بيت إسرائيل إنه صالح. إن إلى الأبد رحمته" [2 LXX]. لماذا يشير إلى بيت إسرائيل الذي عانى من السبي بلا حدود.
فقد اُستعبد في مصر، واُقتيد إلى أقاصي الأرض، وعانى متاعب لا حصر لها في فلسطين.
يقول: حقًا إنهم على وجه الخصوص شهود لخيراته الكثيرة، وتمتعوا أكثر من غيرهم.
أتعابهم ذاتها علامة على رعايته العظيمة.
وإن فحصت الأمر بدقةٍ، فإنهم يلتزمون بتقديم التشكرات على مجيء المسيح منهم فوق كل شيء.
أقصد إن كانوا قد عانوا من محنٍ، فبسبب جحودهم، لا بسبب من جاء (يسوع المسيح).
فقد جاء إليهم وكما ترون، وأخبرهم دومًا: "لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). كما قال للتلاميذ: "إلى طريق أمم لا تمضوا... بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 10: 5، 6). وقال للمرأة الكنعانية: "ليس حسنًا أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب" (مت 15: 26).
صنع كل شيء في الواقع، وشغل نفسه بخلاص هذا الشعب. الآن إن أظهروا أنهم ليسوا أهلًا لهذا الإحسان، فليفكروا في انحطاطهم وجحودهم الزائد [1].
لِيَقُلْ بَيْتُ هَارُونَ:
إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [3].
بعد الطلب من الشعب، يطلب من بيت هرون أن يقدموا ذبيحة حمد وشكر لله، لأنه اختارهم للعمل الكهنوتي.
فمن أجلهم أنزل نارًا من السماء لمساندتهم، وتزلزلت الأرض وابتلعت الذين مارسوا هذا العمل في حسدٍ لبيت هرون، كما جعل عصا هرون تفرخ لتؤيدهم.
*هنا يدعو الكهنة كجماعة متميزة للتسبيح، مظهرًا إلى أي مدى يسبق الكهنوت الآخرين؛ كلما كانت أهميتهم (في الخدمة) أكثر من غيرهم يتمتعون بكرامة أعظم من الله، ليس لأجل كهنوتهم فحسب، وإنما لأجل أمور أخرى [2].
لِيَقُلْ مُتَّقُو الرَّبِّ:
إِنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [4].
يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم الأسباب التي بسببها لا يشعر البعض بأن رحمة الله عظيمة وإلى الأبد، وبالتالي يعجزون عن تسبيحه كما يجب:
أ. الذين لديهم مشكلة في بصيرتهم الداخلية، فكما لا تستطيع العين الضعيفة أن تنظر في الشمس بسبب ضعفها، هكذا الضعفاء روحيًا يعجزون عن رؤية وإدراك معرفة الله، وذلك بسبب سمو حكمته التي تفوق الإدراك البشري.
ب. وجود شهوات شريرة في حياة الجهال، تحرمهم وتعوقهم عن رؤية رحمة الله.
ج. الجهل والانحراف في إدراك حقيقة الأمور والتطلع إليها. وذلك كمن لا يحتمل أن يرى أبًا يؤدب ابنه، فيظن أنه ينتقم منه، ولا يعمل لنفعه.
د. من يخطئ في حكمه، فلا يعرف ما هو صالح مما هو شرير.
هـ. من لا يبالي بخطاياه.
و. من لا يدرك الفارق بين الله الذي لا يُعبر عنه والكائنات البشرية.
ز. من لا يعرف حقيقة أن الله لا يريد أن يعلن كل شيءٍ دفعة واحدة، بل يعلن حكمته جزئيًا حسبما يقتضي الأمر. إذ لا يليق بالإنسان أن يبالغ في التعرف على أمورٍ لا يستطيع إدراكها، أو لم يحن الوقت المعين لإعلانها.
*أتقياء الرب هم الأمميون الذين صارت لهم رحمة الله بحضور ربنا الذي أنقذهم من عدم الإيمان ومن عبادة الشياطين، وأنارهم، وزادهم نعمة أفضل من غيرهم... بما أن النعمة فاضت على الجميع على السواء، لأجل هذا يحث النبي داعيًا الكل إلى الشكر لله.
5 مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ. 6 الرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي الإِنْسَانُ؟ 7 الرَّبُّ لِي بَيْنَ مُعِينِيَّ، وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي. 8 الاحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى إِنْسَانٍ. 9 الاحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ. 10 كُلُّ الأُمَمِ أَحَاطُوا بِي. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 11 أَحَاطُوا بِي وَاكْتَنَفُونِي. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 12 أَحَاطُوا بِي مِثْلَ النَّحْلِ. انْطَفَأُوا كَنَارِ الشَّوْكِ. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ. 13 دَحَرْتَنِي دُحُورًا لأَسْقُطَ، أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي. 14 قُوَّتِي وَتَرَنُّمِي الرَّبُّ، وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا. 15 صَوْتُ تَرَنُّمٍ وَخَلاَصٍ فِي خِيَامِ الصِّدِّيقِينَ: «يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ. 16 يَمِينُ الرَّبِّ مُرْتَفِعَةٌ. يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ». 17 لاَ أَمُوتُ بَلْ أَحْيَا وَأُحَدِّثُ بِأَعْمَالِ الرَّبِّ. 18 تَأْدِيبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي. 19 اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ الْبِرِّ. أَدْخُلْ فِيهَا وَأَحْمَدِ الرَّبَّ. 20 هذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ. الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ. 21 أَحْمَدُكَ لأَنَّكَ اسْتَجَبْتَ لِي وَصِرْتَ لِي خَلاَصًا.
بعد الصوت الجماعي المفرح الذي يدعو كهنة الله وقديسيه للتسبيح [1-4]، يبدأ التسبيح بصوتٍ منفردٍ، ربما يقوم به الملك كما في العدد 28، أو رئيس الكهنة أو شخص متميز، حتى تتفاعل الجماعة مع الفرد. ويشعر الكل أن التسبحة يلزم أن تكون جماعية وشخصية في نفس الوقت. فالجماعة لا تُفقد العلاقة السرية بين الإنسان والله. والعلاقة الشخصية للمؤمن لا تغنيه عن العمل الجماعي.
مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ،
فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ [5].
إن كان المرتل تحول من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد، فإن المرتل حين يسبح، إنما يعبد الرب باسم الجماعة كلها، لأنه يحملها في قلبه. وحين تتعبد الجماعة بالروح والحق، إنما تقدم لله كل إنسان بشخصه، لأنها أم لجميع البشرية، وتشتهي ألا يهلك أحد.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، إنه هنا يظهر صلاح الله وحنوه، فهو لا ينقذ من الضيق لأجل استحقاقنا، ولا من أجل أعمالٍ صالحةٍ فعلناها، وإنما من أجل الضيقة نفسها. فعندما أنقذ شعبه قال: "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم" (خر 3: 7). لم يقل رأيت فضيلة شعبي وتقدمهم، بل رأيت مذلتهم، وسمعت صراخهم. فهو أب رءوف يتحرك لخلاصهم من أجل الضيقة ذاتها. أما قول المرتل: "وأخرجني إلى السعة" أو "إلى الرحب"، فيكشف عن السبب الذي لأجله يسمح الله بالضيق: [الآن سمح بضيقتهم، لكي يجعل المتضايقين في حال أفضل وأسمى.]
*كتب الرسول: نحن نفتخر بالأحزان، عالمين أن الحزن ينشئ صبرًا، والصبر امتحانًا، والامتحان رجاءً، والرجاء لا يخزى، لأن محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رو 5: 5). وكما أن المصارع لا يسأل زوال الجهاد، بل يلتمس القوة والمعونة ومؤازرة عروضه، كذلك الصديق لا يطلب رفع الشدة عنه، لئلا يعدم الثواب، بل يسأل الرب الصبر.
الرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ.
مَاذَا يَصْنَعُ بِي الإِنْسَانُ؟ [6]
لا يخاف خائف الرب إنسانًا ما، حتى إن اجتمعت كل البشرية كجيشٍ ضده، فإن حضرة الله في أعماقه تملأ حياته بتعزيات الروح وفرح السماء. نعمة الله تهبه منظورًا مستقبليًا مفرحًا.
*يقولون: لماذا لا تسندكم (العناية الإلهيّة) حين تُضطهدون...؟ أي شر يصيبنا مادمنا نتطلع إلى الموت كانطلاق، به نذهب إلى الرب، وكأنما هو تغيير في الحياة، نخرج من حياة إلى حياة أخرى...؟!
يقول كل منّا بثقة: "الرب لي معين فلا أخاف، ماذا يفعل بي الإنسان؟" (مز 118: 6). "فإن نفوس الأبرار في يد الرب لا يمسها أذى" (حك 3: 1)... إنهم يضطهدوننا ليس لأنّنا فعلة شر، لكنهم يظنون إنّنا كمسيحيين نخطئ ضدّ الحياة، وإنّنا نعمل ضدّ أنفسنا [3].
*لم يقل: "سوف لا أتألم إنما "لا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان"، بمعنى إن كنت أتألم إلا إني لا أخاف، وكما قال بولس أيضًا: "إن كان الله معنا، فمن علينا؟" (رو 8: 31). في الواقع كانت أمور بلا حصر ضده، لكنه لم يستخدمها بطريقة خاطئة... كان أسمى وأعلى فوق كل المخاوف...
الله يحبكم يا أعزائي، لهذا فهو يجتذبكم بعيدًا من كل شيء ولا يربطكم به. إنه يتلف كل شيء ويسحبكم إليه [4].
*سأل أخ أنبا موسى: "ماذا يفعل الإنسان في التجربة التي تأتي عليه والفكر الذي من العدو؟" فأجابه الشيخ عليه أن يبكي أمام نعمة الله لكي يُعينه، وبسرعة سيجد راحةً إذا قدّم توسلاته بمعرفةٍ، لأنه مكتوب: "الرب معينٌ لي، فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان؟!" (مز 118: 6؛ عب 13: 6)".
فردوس الآباء
الرَّبُّ لِي بَيْنَ مُعِينِيَّ،
وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي [7].
ما يشغل قلب المرتل أن الله هو معينه، لا يطلب الانتقام من أعدائه، أي الشياطين والخطايا، إنما يترك أمرهم في يدي الله.
يحارب المؤمن في جهاده الروحي ضد إبليس والخطية، تحت قيادة رب المجد نفسه الذي جنده، "رئيس (قائد) خلاصنا" (عب 2: 10)، القائد الذي غلب إبليس على الصليب، ولا يزال يغلبه خلالنا (رؤ 8: 37).
*يصوب الشيطان سهامًا ضدي، لكن أنا معي سيف.
هو معه قوس، أما أنا فجندي أحمل سلاحًا ثقيلًا...
إنه حامل قوسٍ لكنه لا يجسر أن يقترب إليّ، إذ يلقى بسهامه من بعيد [5].
* لا ندع اليأس يتملكنا، إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين ومتضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للإنسان [6].
*تضر الشيّاطين فقط الذين يخافون منها، الذين لا تحميهم يد الله القويّة العالية؛ الذين لم يتلقّنوا سرّ الحق. لكن الشيّاطين تخشى الأبرار.
*في إحدى الليالي اتخذ الشيطان شكل امرأةٍ، وقلَّد كل حركاتها، لإغواء أنطونيوس، أما هو إذ امتلأ عقله بالمسيح، وإذ فكَّر في روحانية النفس، أطفأ جمر خداع العدو.
حاول العدو أن يجذبه بنشوة الملذات، أما هو فإذ امتلأ غضبًا وحزنًا، حوَّل تفكيره إلى تهديد الله (للإنسان) بالنار والدود الذي لا يموت، فجاز التجربة دون أن يُمسَّ بأذى.
كل هذا أخزى عدوَّه، لأنه إذ كان يعتبر نفسه كإله هزأ به شابٌ.
ذاك الذي افتخر على اللحم والدم اضطر أن يهرب أمام إنسان في الجسد، لأن الرب كان يعمل مع أنطونيوس. الرب الذي من أجلنا أخذ جسدًا، يهب الجسد نُصرةً على إبليس حتى يستطيع كل من يحارب بإخلاصٍ أن يقول: "لستُ أنا، بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10).
وأخيرًا لما عجز التنين عن غلبة أنطونيوس، ووجد نفسه أنه قد طُرد تمامًا من قلبه، صرَّ على أسنانه، كما هو مكتوبٌ، وخرج عن شكله وظهر لأنطونيوس كولدٍ قبيحٍ في شكلٍ منظور يتفق مع عقله. وإذ تظاهر بالتذلُّل أمامه لم يشأ أن يُلحّ عليه بأفكار فيما بعد، لأنه لما تنكَّر هُزِم أمامه.
وأخيرًا، تكلم بصوتٍ بشريٍّ، وقال: "لقد خدعتُ كثيرين، وطرحتُ كثيرين، ولكنني برهنتُ على ضعفي، إذ هاجمتُك وهاجمتُ كل جهودك وأتعابك كما هاجمتُ كثيرين غيرك".
فسأله أنطونيوس: "مَنْ أنت يا من تتكلم هكذا معي؟"
أجاب بصوتٍ أسيفٍ: "أنا صديق الزنا، وقد التحفتُ بالإغراءات التي تدفع الشبان إلى الزنا، وأنا أُدعى روح الشهوة.
كم خدعتُ كثيرين ممن أرادوا أن يعيشوا بالاحتشام!
وما أكثر أهل العفة الذين أقنعتهم بإغراءاتي!؟
أنا الذي من أجلي يوبِّخ النبي أولئك الذين سقطوا قائلًا: "روح الزنا قد أضّلكم" (هو 4: 12)، لأنهم بي قد أُعثِروا.
أنا الذي ضايقتك كثيرًا، وغُلِبتُ منك كثيرًا!"
أما أنطونيوس، فإذ قدَّم الشكر للرب، قال له بكل شجاعةٍ: "إذًا فأنت حقيرٌ جدًا، لأنك مظلم القلب، وضعيف كطفلٍ، ومن الآن لن أجزع منك، لأنّ "الرب معيني، وأنا سأرى بأعدائي" (مز 118: 7).
وإذ سمع هذا هرب في الحال مرتجفًا من الكلام، ولم يجسر حتى على الاقتراب إلى الرجل.
*إنه لأمرٌ عجيبٌ أنّ شخصًا وحيدًا في بريّةٍ كهذه لم يخشَ الشياطين التي هاجمته، ولا وحشية الوحوش والزحافات، لأنها كانت كثيرة جدًا، ولكنه حقًا كما هو مكتوب: "توكل على الرب مثل جبل صهيون" (مز 125: 1)، بإيمانٍ لا يتزعزع ولا يضطرب، حتى هربت الشياطين منه، ووحوش البرية سالمته كما هو مكتوب (أي 5: 23).
بستان الرهبان
الاِحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ،
خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى إِنْسَانٍ [8].
وسط الاحتفالات بالعيد، إذ يتلامس المؤمن بحب الله الفائق وعمله الخلاصي، يعترف بثقته في الرب التي ترفعه تمامًا فوق كل اتكال على ذراعٍ بشريٍّ، حتى على ذراعه هو وقدراته وحكمته وخبرته ومعرفته.
*ليس شيء أكثر وهنًا من هذا الرجاء. إنه أضعف من نسيج العنكبوت. أو بالحري ليس فقط ضعيفًا بل ومحفوف بالمخاطر. الذين لهم هذه العادة الخاصة بالثقة في الناس يتحققون من هذا، فإنهم يسحبون على الأرض بواسطة نفس هؤلاء الناس.
أما الرجاء في الرب فعلى العكس ليس فقط قويًا بل وفيه أمان، غير معرض للتغير. لذلك قال بولس: "الرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي" (رو 5: 5). ويقول حكيم آخر: "انظروا الأجيال القديمة، انظروا هل ترجى أحد الرب وخزي" (سي 2: 10)... إن خزيتم، فلأنكم لم تترجوا كما ينبغي [7].
*يطابق هذا القول ما ورد في نبوة إرميا: "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه" (إر 17: 5)... ومبارك هو الرجل المتكل على الرب، ويكون مثل الشجرة المغروسة على المياه المتأصلة في الرطوبة، ولا تخاف الحر، وورقها أخضر، وفي وقت القحط لا تزال تثمر.
الاِحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ،
خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ [9].
ماذا يقصد هنا بالإنسان؟ إذ يتطلع المؤمن أثناء خروجه من عبودية فرعون، يدرك أن ما حدث ليس بقوة موسى النبي ولا هرون ولا غيرهما من القادة، إنما هو عمل إلهي سماوي فائق! يستخدم الله الرؤساء والقادة، لكنه هو العامل الحقيقي، الذي يبني البيت، ويحرس المدينة، ويهب النمو والثمر لكرمه.
* (إلى الكاهن نيبوتيان) تجنب التسلية مع أهل العالم، خاصة الذين بسبب كرامتهم ابتلعهم الكبرياء. أنت كاهن المسيح الفقير والمصلوب الذي عاش على خبز الغرباء. إنه لأمر مُخزٍ بك أن يقف أمام بابك القنصل والرجال اللكتور lectors (موظفون مهمتهم إفساح الطريق للحاكم الروماني في الاحتفالات العامة)، وإن كان حاكم الولاية يجد مأدبته عندك أفخم من تلك التي في قصره. إن قدمت عذرًا بأنك ترغب في التشفع في البائسين والمظلومين، فإن القاضي العالمي يختلف عن رجل الدين الذي ينكر ذاته، ولا يكون غنيًا، فإنه سيقدر قداستك أكثر من ثروتك [8].
كُلُّ الأُمَمِ أَحَاطُوا بِي.
بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [10].
لعل المرتل هنا هو الملك، وقد أحاطت به الأمم الوثنية التي لا تطيق عبادة الله الحي. إنها صورة رمزية كملكٍ روحيٍ لا يتوقف عدو الخير بكل قواته عن مقاومته.
*يدعو النبي (الله) من أجل أوجاع البشر المختلفة، وأيضًا القوات الشريرة، ومحاربي الإيمان بالمسيح، لأن هؤلاء جميعهم يحوطون بالصديق، ويجتهدون على سقوطه، لأن سيرته تخاصمهم وتوبخهم. لكنه بقوة المسيح يقهرهم ويطردهم مهما كانوا.
*علة الحسد هو سعادة الإنسان الذي وُضع في الفردوس، إذ لم يطق الشيطان الامتيازات التي نالها الإنسان. مع أنه تشكل من الطين اُختير ليقطن الفردوس.
بدأ الشيطان يتطلع إلى الإنسان كخليقة سفلية، إلا أنه كان له رجاء في الحياة الأبدية، بينما وهو من طبيعة أسمى منه سقط، وصار جزءً من الوجود السفلي [9].
أَحَاطُوا بِي وَاكْتَنَفُونِي.
بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [11].
تارة يصفه الكتاب المقدس كتنين رهيب أو أسد يزمجر أو تمساحٍ يفترس الخ، وأخرى كثعلب صغير لا قوة له. فإن واجه الإنسان عدو الخير بقدراته الذاتية يرتعب أمام هذا العدو العنيف، وإن اختفى في نعمة الله يراه حقيرًا. عاجزًا عن الإضرار به.
قيل عن إبليس في سفر أيوب: "أتلعب معه كالعصفور، أو تربطه لأجل فتياتك؟" (أي 41: 5). الطير الذي يُروض يمكن اللعب به لأجل التسلية والترفيه، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للوياثان. لأجل التسلية تُصطاد الطيور، وتوضع في أقفاص، لتقف حولها الفتيات الصغيرات يتمتعن برؤيتها. في بعض البلاد غير المتقدمة يقوم الآباء بربط الطيور بخيط لكي ما يلهو به أطفالهم كنوعٍ من التسلية.
*جلس الشيطان وقوات الظلمة ورؤساؤها منذ تعدى آدم الوصية في قلبه وعقله وجسده كأنه عرشهم. لهذا جاء الرب وأخذ جسده من العذراء. لأنه لو شاء أن ينزل إلينا بلاهوته المكشوف بدون جسد، من كان يستطيع الإنسان أن يحتمل ذلك؟ لهذا تكلم مع الناس بواسطة الجسد كأداة. بهذه الوسيلة قضى على أرواح الشر التي كانت قد اتخذت لها كرسيًا في الجسد، أي عروش العقل والفكر التي سكنت فيها، فقام الرب بتطهير الضمير وجعل لنفسه عرش العقل والأفكار والجسد [10].
أَحَاطُوا بِي مِثْلَ النَّحْلِ.
انْطَفَأُوا كَنَارِ الشَّوْكِ.
بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ [12].
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن كنيسة المسيح هي النحلة الحكيمة التي مع صغرها تنتج عسلًا وشمعًا. أما الهراطقة، فإنهم يحاولون التشبه بالكنيسة لكي يبثوا عقائدهم الخاطئة. إنهم ليسوا نحلًا، وإنما "مثل النحل".
*إن النحلة بصيغة المفرد التي كُتب عنها في سفر الأمثال هي كنيسة المسيح، لأنها تنتج عسلًا وشمعًا، وينتفع بها الملوك والعامة. تعاليمها لذيذة ومعتقداتها الإلهية مستقيمة. وقد شُبهت بالنحلة، لأن النحلة مُكرمة بسبب حكمتها، وهي صغيرة الحجم، لكنها قوية بشوكتها التي تلدغ بها من يهجم لإتلاف عسلها. كذلك كنيسة المسيح قبلت الحكمة وأكرمتها... ويُظن أنها صغيرة لعدم استعمالها العلم العالمي (الفلسفة)، لكنها بكلمة الحق تشق وتُمزق كلمة الهراطقة الذين يهاجمونها لإفساد تعليمها.
هذه النحلة واحدة وفريدة، أما الهراطقة فكثيرون، ولم يدعُهم النبي نحلًا، بل مثل النحل، لأنهم زنابير يشبهون النحل وليسوا نحلًا. إنهم لا ينتجون عسلًا ولا شمعًا يُنتفع به، بل يفسدون عمل الخير، ويجتهدون على إتلاف ما كان جيدًا.
وأيضًا دعاهم مثل النحل، لأن بكلامهم المموه يلذذون السماع، ويصنعون عسلًا ينقط من شفتي الزانية كما قال الحكيم. وعندما يلدغون بشوكتهم يهلكون أنفسهم ويبادون. فأقوال هؤلاء تترضض مثل الشوك؛ وتنسحق تحت مداس الأقوياء بالمسيح، ويحترقون بها في نار لا تُطفأ.
إنهم يهجمون على النفس بالشهوة والغضب بشدة، ويوقدوا حريقهم السريع كالنار في أشواكهم، لكن الصديق يقهرهم بقوة الرب الإله.
*"حينئذ جاءوا وألقوا الأيدي على يسوع وأمسكوه"، فتم القول النبوي: "أحاطوا بي مثل النحل بالشهد، وتوقدوا كالنار في الأشواك" (مز 118: 11)، وأيضًا: "قد أحاطت بي كلاب كثيرة، ثيران سمينة أحدقت بي" (مز 23: 12). فيا للصبرٍ الذي يليق بالمخلص وحده! في السماء الكاروبيم والسيرافيم لا يجسرون على التحديق بمجده الذي لا يُحد، بل يسترون وجوههم بأجنحتهم كأنما بأيديهم، بينما على الأرض تقبض على جسده أيدٍ متعدية على الناموس، وكان هو صابرًا! هل رأيتم عظمة طول أناة السيد، ومحبة ذاك الذي أنتم عبيده؟
[11]دَحَرْتَنِي دُحُورًا لأَسْقُطَ.
أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي [13].
*عندما تبلغ الأمور إلى درجة اليأس من الرجاء البشري يقوم الله بالمساعدة من جانبه. حدث هذا في حالة جليات (1 صم 17)، وأيضًا بنفس الطريقة مع الرسل. لذلك قال بولس: "لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يقيم الأموات" (2 كو 1: 9) [12].
*ينبغي علينا أن نصلي في كل حين، قائلين مع داود: "تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك، فما زلَّت قدمايَ" (مز 5:17)، "وأقام على صخرةٍ رجليَّ. ثبَّت خطواتي" (مز 2:40). الله هو المدبر لقلوبنا غير المنظورة، والذي يقدر أن يوجه رغباتنا نحو الفضيلة، لأن لديها الاستعداد للانحراف نحو الرذيلة، إما بسبب نقص معرفتها للخير أو للذتها بالهوى. ويظهر ذلك بوضوح في قول النبي: "دحرْتني دحورًا لأسقط"، معلنًا ضعف إرادتنا الحرة. ثم يقول: "وأما الرب فعضدني" (مز 13:118)، معلنًا عون الله لإرادتنا [13].
الأنبا بفنوتيوس
قُوَّتِي وَتَرَنُّمِي الرَّبُّ،
وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا [14].
هذه التسبحة الرائعة: "قوتي وتسبحتي (ترنمي) هو الرب، وقد صار لي خلاصًا"، تسبحة النصرة التي كثيرًا ما كان يرددها الأنبياء (خر 15: 2؛ إش 12: 2) وتنشدها الكنيسة، خاصة في يوم الجمعة العظيمة.
يعلق الأب أنسيمُس الأورشليمي على كلمة "صار"، قائلًا بأن ابن الله كان وكائن ولم يزل كائنًا، أي هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، لكنه "صار" بالنسبة لنا. وذلك كقول الرسول بولس: "صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداء" (1 كو 1: 30). فعندما نصير حكماء به، ونتبرر من خطايانا، ونتطهر ونخلص من عبودية الخطية، يُقال عنه إنه صار لنا حكمة وبرًا إلخ. هكذا أيضًا يقال إن الله الآب صيره مسيحًا وربًا، لا يعني أنه لم يكن مسيحًا ولا ربًا، ثم صار هكذا. وإنما عندما خضعنا له بالإيمان صار لنا ربًا، أي عرفناه أنه رب وملك على الكل. بهذا المعنى يقول المرتل: "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا. أي إني عرفت بأن الخلاص منه وأيضًا القوة، فأسبحه.
* "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا". وكأنه يقول: "هو قوتي وعوني". الآن ما هي قوة قوله "تسبحتي"؟ مجدي وتسبحتي وزينتي وسموي! إنه ليس فقط يحرر من الخطر، وإنما يجعل الإنسان ساميًا ومشهورًا. في كل موضع يمكنكم أن تروا الخلاص مرتبطًا بالمجد.
إنه يلمح إلى شيء مثل هذا... يقول: "بالنسبة لي هذه هي أغنيتي الدائمة، وصراخي المستمر، والتسبحة التي أقدمها له، هذا هو دوري أن أسبحه باستمرار.
ليت أولئك الذين فسدوا بالأغاني الشيطانية يدركون الضرر المخيف الذي يخضعون له، مقدمين العذر بأنهم يجدون في أغاني الشيطان مرحًا، بينما يمجد المرتل المخلص باستمرار [14].
*أخيرًا فإن مصدر خلاصنا يعلمنا ليس فقط ما ينبغي علينا أن نفكر فيه، لكن أيضًا أن نعرف في كل شيءٍ ما ينبغي أن نعمله. إنه يقول: "لا أستطيع من ذاتي أن أعمل شيئًا، ولكن أبي الحال فيَّ هو يعمل الأعمال" (يو 30:5؛ يو 10:14).
يقول بحسب الطبيعة البشرية التي أخذها إنه لا يستطيع عمل أي شيءٍ من نفسه، بينما نحن التراب والرماد نظن أننا لسنا في حاجة إلى معونة الله في ما يتعلق بخلاصنا. هكذا لنتعلم في كل شيءٍ أن نشعر بضعفنا الطبيعي، وفي نفس الوقت ندرك معونته، فنقول مع القديسين: "دحرتني دحورًا لأسقط، أما الرب فعضدني. قوتي وتسبحتي الرب، وقد صار لي خلاصًا" (مز 13:118-14)، "لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت، إذ قلت قد زلّت قدماي، فرحمتك يا رب تعضدني" (مز 17:94-19). ناظرين أيضًا أن قلوبنا تتقوى في مخافة الرب وفي الصبر، فنقول: "وكان الرب سندي، أخرجني إلى الرحب" (مز 18: 18-19).
وإذ نعلم أن المعرفة تنمو بالتقدم في العمل، نقول: "لأنك تضيء مصباحي أيها الرب، يا إلهي أنر ظلمتي، لأن بك أخلص من التجربة، وبك أتحصن". حينئذ نشعر نحن أنفسنا بالانتماء إلى الشجاعة والصبر، ونسير في طريق الفضيلة مباشرة وبسهولة عظيمة وبغير جهد، فنقول: "إنه الله الذي يمنطقني بالقوة، ويجعل طرقي كاملة، الذي يجعل قدميّ كقدميّ الإيل، ويجلسني في الأعالي، ويعلم يديّ الحرب" [15].
صَوْتُ تَرَنُّمٍ وَخَلاَصٍ فِي خِيَامِ الصِّدِّيقِينَ.
يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ [15].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "صوت التهليل والخلاص في مساكن الأبرار".
كان خورس المسبحين يرددون عددي 15، 16 بكونهما القرار.
*لم تكن مساكن الأبرار مزخرفة ومزينة بفرشٍ ووسائدٍ، بل كانت مزينة بالصدقة والرحمة وضيافة الغرباء مثل خيمة إبراهيم وأمثاله. فكل من يجعل مسكنه بريئًا من الظلم والاغتصاب، يكون فيه صوت الابتهاج والخلاص.
أيضًا مساكن الأبرار في هذه الحياة هي هياكل الله، وفي الدهر العتيد هي المنازل المُعدة لهم في ملكوته. وفي كليهما يوجد صوت الابتهاج مع التمجيد على الخلاص. وأما مساكن الأشرار، ففيها صراخ وقتال وشتائم، أجارنا الله منها.
أما ثيؤدورس فقال إن غذاء الأبرار في الدهر العتيد فهو الابتهاج مع التمجيد لله.
*لا تسمع شكوى ولا نحيب، حديثهم بعيد عن هذه المشتقات والصيحات. يموتون ولهم نفس الشعور... لأن الموت في نظرهم ليس موتًا. يرافقون الموتى بالتسابيح، ويسمون هذه الشعائر توصيلًا (لموضع الراحة) وليس جنازات [16].
يَمِينُ الرَّبِّ مُرْتَفِعَةٌ.
يَمِينُ الرَّبِّ صَانِعَةٌ بِبَأْسٍ [16].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يمين الرب صنعت قوة. يمين الرب رفعتني. يمين الرب صنعت قوة" [15-16].
*يمين الرب هو ابن الله، وأيضًا أعماله وقدرته التي بها يقوي شعبه وخاصته في مواجهة الذين يضطهدونهم، ويرفعهم، ويقهر أعداءهم.
أما تثليث كلمة "يمين" فتدل على أن الله المثلث الأقانيم صنع بالإنسان ثلاثة أنواع من إحسانه:
أولًا: يمين الله صنعت قوة، عندما أخذ ترابًا وجبل الإنسان على صورته ومثاله.
ثانيًا: عندما أخذ أقنوم ابنه الطبيعة البشرية، ورفعها إلى فوق أعلى السماوات بصعوده، ومجدّها بمفاخر فائقة.
ثالثًا: صنعت قوة عندما قدمت للإنسان مواهب الروح القدس التي هي شفاء الأمراض وصنع الآيات وأجناس الألسنة، وما شاكل هذا.
وكما قال بولس الرسول: "أستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويني".
*يجب أن تُفهم يد (الله) بطرقٍ كثيرة. فهي إما القوة التي تعاقب أو تخدم العقاب؛ عادة يُشار إليها في الكتاب المقدس كأداة للسخط (رو 9: 22)، أو قوة للحماية والحراسة. جاء في الكتاب المقدس: "لا يقدر أن يخطفها أحد من يدي" (راجع يو 10: 28) [17].
لاَ أَمُوتُ بَلْ أَحْيَا،
وَأُحَدِّثُ بِأَعْمَالِ الرَّبِّ [17].
يمين الرب تعطي قوة لمن كانت معتقداته يمينية (مستقيمة)، وأعماله توجب له الوقوف عن يمين الديان العادل، وترفعه، وتبلغ به إلى عدم الموت الحاصل من الخطية، حتى يقول: "فلن أموت بعد، بل أحيا وأحدث بأعمال الرب" [17]. وإحساناته. أيضًا تنجيه من مصارعة معيشة الأشرار الجابلة للموت.
*يقول: "لا أموت" الموت الآخر الذي أشار إليه المسيح بقوله: "من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًا وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد" (يو 11: 25-26) [18].
تَأْدِيبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ،
وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي [18].
* "تأديبًا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني"... لا يشكر المرتل لأنه يتحرر (من الضيق)، وإنما يدرك أيضًا النعمة العظيمة التي نزل فيها، فأشار إلى فائدة التجربة. ما هي؟ يقول: "تأديبًا أدبني الرب". هذه هي قيمة المخاطر، فإنها تجعل الإنسان في حالة أفضل [19].
*التأديب (أو التوبيخ) هو دليل على الرعاية المُحبَّة، وهو يقود إلى الفهم.
يظهر المعلِّم هذا التوبيخ حين يقول في الكتاب: "كم مرَّة أردتُ أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37). ويقول الكتاب أيضًا: "زنوا وراء الأصنام والحجر، وقرَّبوا محرقاتهم للبعل". إنه لدليل عظيم على حبِّه، فمع أنه يعرف خزي الذين رفضوه، وأنهم جروا بعيدًا عنه، مع ذلك يحثَّهم على التوبة. ويقول بحزقيال: "أما أنت يا ابن آدم، لا تخف أن تكلِّمهم، فربَّما يسمعون" (راجع حز 2: 6). ويقول لموسى: "اذهب وقل لفرعون أن يُطلق شعبي. ولكن أنا أعلم أنه لن يطلقهم." هنا يظهر كلا الأمرين: أُلوهيَّته، التي تظهر من سابق علمه بالذي سوف يحدث، وحبُّه، بإتاحته الفرصة لهم أن يختاروا التوبة لأنفسهم.
وباهتمامه بالشعب وبَّخهم في إشعياء قائلًا: "هذا الشعب أكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمُبتعد عنِّي" (إش 29: 13). ويقول أيضًا: "باطلًا يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15: 9). هنا رعايته المُحبَّة تظهر خطاياهم والخلاص جنبًا إلى جنب [20].
*كل من يؤمن يقبله الرب، لكنه يؤدب كل ابن يقبله (عب 12: 6). وفي تأديبه له لا يسلمه للموت. لأنه مكتوب: "أدبًا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني" (مز 118: 18) [21].
*من يقبل تأديب الرب بنشاطٍ ينتفع منه، ويصلح رأيه وأعماله، ولا يُسلم للموت الذي يلحق ملازمي القبائح. لهذا يسمح الرب بسقوط أخصائه في شدائدٍ، ليكسبوا من المحن والتجارب البرء من موت الخطية. لأن الرسول يقول: "الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابنٍ يقبله" (عب 12: 6). إن صبرتم على التأديب بأن الله يعاملكم كبنين، لأن من هو الابن الذي يؤدبه أبوه. وإن كنتم خالين من التأديب... فأنتم إذن نغول لا بنين.
اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ الْبِرِّ.
أَدْخُلْ فِيهَا، وَأَحْمَدِ الرَّبَّ [19].
لم يكن يُسمح للاشتراك في موكب العيد سوى لأتقياء الرب الذين يدخلون من أبواب البرّ. "ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات، فيدخل ملك المجد" (مز 24: 7).
*يتجاسر بعضكم فيفسر النبوة التي تقول: "ارتفعي أيتها الأبواب، وأنتم أيها الرؤساء، ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات ليدخل ملك المجد" (مز 24: 7).
البعض يفسرها أنها تنطبق على حزقيا، وآخرون منكم أنها تعني سليمان. لكنها لا تخص الأخير ولا الأول، ولا أحد الملوك الآخرين. فإن كانت تشير إلى ملكٍ، فهي تشير إلى مسيحنا وحده. هذا الذي ظهر بلا جمالٍ ولا مجدٍ كقول إشعياء وداود، والكتاب المقدس كله.
إنه هو رب الجنود، الذي بإرادة الله (الآب) أسبغ عليه الكرامة، وقام أيضًا من الأموات وصعد إلى السماوات. وكما أعلن المزمور والكتاب المقدس أنه رب الجنود، ومن ثم يسهل عليكم أن تقتنعوا بالأحداث الماثلة أمام أعينكم [22].
*الفضائل العامة والجامعة هي أربع: البرّ (العدل) والفطنة والرجولة (النضوج) والعفة.
هذه الأربع لها أبواب للدخول فيها، وهي الأعمال الصالحة الجزئية.
هذه الأبواب، تُفتح لمن يقبل بنشاط تأديب الرب، والمهتم بخلاص نفسه. وتُغلق لمن لا يقبل تأديب الرب وللشرير.
وكما أن أبواب السوء التي هي المعاصي مفتوحة لمن يُريد الراحة الزمنية ولا يهتم بخلاص نفسه، ومغلقة بالنسبة للأبرار، فأبواب الفضائل تفتح أبواب السماوات لمن يقرع عليها. أما أبواب الرذائل فتفتح لمتبعيها أبواب الجحيم.
*إذ يصعد ربنا إلى الآب في نصرةٍ، يصدر أوامره للملائكة، قائلًا: "افتحوا لي أبواب البرّ، أدخل فيها وأحمد الرب" (مز 118: 19). هذه الأبواب التي يتحدث عنها الملائكة في المزمور الثالث والعشرين (24): "ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات، فيدخل ملك المجد" (مز 24: 7، 9).
يليق بالأبواب أن تؤمر بأن ترفع مداخلها وذلك حسب تدبير وسرّ الجسد، وفي توافقِ مع نصرة الصليب.
إنه يعود فيدخل إلى السماء بأكثر قوة (حيث يدخل بكنيسته معه) عما كان عليه عند نزوله إلى الأرض [23].
*يقف المسيح بباب نفوسنا. اسمعوه يقول: "هأنذا واقف على الباب أقرع، فإن فتح أحد لي، أدخل إليه، وأتعشَّ معه وهو معي" (رؤ 3: 20).
وتقول الكنيسة متحدثة عنه: "صوتُ أخي يطرق الباب".
يقف، لكن ليس وحده، إذ يُحضر أمامه الملائكة قائلين: "ارتفعي أيتها الأبواب، وأيها القوات". أية أبواب، تلك التي يترنم بها المرتل، وفي موضع آخر أيضًا: "افتحي لي يا أبواب البرّ" (مز 118: 19).
إذن افتحوا أبوابكم للمسيح، ليدخل إليكم.
افتحوا أبواب البرّ، أبواب العفة، أبواب الجرأة والحكمة.
آمنوا برسالة الملائكة، "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، ليدخل ملك المجد، رب الصباؤوت".
بابكم هو الاعتراف الجهوري عاليًا بصوتٍ مؤمنٍ: إنه باب الرب، الذي يشتاق الرسول أن ينفتح له، إذ يقول: "حتى يفتح لي (الرب) بابًا للكلام لأعلن (أجاهر) بسرّ المسيح" (كو 4: 3).
فلينفتح إذن بابكم للمسيح.
لا تفتحوه فقط، بل ارفعوه إن كان فعلًا بابًا دهريًا، وغير محكوم عليه بالهلاك، إذ هو مكتوب: "ارتفعي أيتها الأبواب الدهريات".
لقد ارتفعت قائمة باب إشعياء النبي، حينما لمس الساروف شفتيه، ورأى إشعياء رب الصاباؤوت (إش 6) [24].
*تُفتح أبواب (البرَّ) للذين تأدبوا، للذين نزعوا خطاياهم. الإنسان الذي يؤدب يمكنه أن يقول بثقة: "افتحوا لي أبواب البرّ".
تُفهم العبارة بالتأويل الرمزي، إنها أبواب السماء التي أُغلقت بالنسبة للأشرار، والتي يلزمكم أن تقرعوا عليها بالفضيلة والصدق والبرّ [25].
هَذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ.
الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ [20].
يبدأ الدخول من أبواب البرّ بصيغة المفرد ثم الجمع، ولعله يشير إلى دخول المسيح الأول كبكر القائمين من الأموات الذي يسبقنا بصعوده إلى السماء، فيفتح أبوابها لمؤمنيه الذين منه يُحسبون صديقين.
كان للأبواب أو أقواس الزينة الخاصة بمناطق مقدسة أسماء ذات مدلولات معينة. كمثال عند جبل سيناء 4000 درجة تبلغ بالسائح أو الحاج إلى قمة الجبل، يعبر الإنسان إليها خلال "باب الاعتراف".
*الذي يدخل أبواب فضائل كثيرة ينتهي إلى بابٍ واحدٍ، ليس له ثانٍ، وهو ربنا يسوع المسيح، كقوله: "أنا هو باب الخراف، إن دخل بي أحد، فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يو 10: 9).
هذا الباب لا يدخله أحد سوى الأبرار، لأنه يؤدي إلى معاينة الله، ولن يعاينه غير أنقياء القلب.
إلى هذا الباب الواحد تهدينا أبواب الفضائل وأبواب التعاليم.
أيضًا الشريعة والأنبياء طرقوا لنا منهجًا إلى المسيح المؤدي إلى حضن الله أبيه، وإلى ملكوت السماوات. هذا يبلغه السالكون الطريق الشاقة من الباب الضيق، لا الذين يحبون الراحة والسعة في هذا العالم.
*الآن يمكن فهم أبواب صهيون بصفتها مضادة لأبواب الموت. يوجد إذن باب واحد للموت والإثم، أما باب صهيون، فهو ضبط النفس. وهذا ما يقصده النبي القائل: "هذا باب الرب، والصديقون يدخلون فيه" (مز 20:118).
كما يوجد الجبن، وهو باب للموت؛ في حين الشجاعة هي باب صهيون.
نقص التعقل هو باب الموت، وعلى العكس التعقل هو باب صهيون.
وفي مقابل جميع أبواب "العلم الكاذب الاسم" (1 تي 20:6) يوجد باب واحد يجابهها، هو باب المعرفة المنزهة عن الكذب.
ولكن إذا وضعنا في الاعتبار أن "مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ" (أف 12:6)، يمكن القول إن كل قوة ورئيس عالم هذه الظلمة، وكل واحدٍ من "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 12:6)، هو باب للجحيم والموت.
*عندما صلَّى أبونا يعقوب أيضًا في بيت إيل رأى السماء قد انفتحت، وسُلَّم يصعد إلى أعلى (تك 28: 2). هذا الذي رآه يصعد هو رمز مخلِّصنا، وباب السماء هو المسيح. هذا يطابق قول السيِّد المسيح: "أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلُص" (يو 10: 9). وقال داود أيضًا: "هذا هو باب الرب، والصدِّيقون يدخلون فيه" (مز 118: 20).
السُلَّم الذي رآه يعقوب هو رمز مخلِّصنا، الذي بواسطته يصعد الصدِّيقون من المملكة السفلى إلى المملكة العُليا [26].
* لننطرح قدّام الرب ونسأله بدموعٍ أن يجعلنا رحومين، ويصالحنا معه، ويعيدنا إلى ممارسة الحب الأخوي الذي كان لنا، اللائق والمقدّس.
إنه باب البرّ الذي يفتح الطريق للحياة، كما هو مكتوب: "افتحوا لي أبواب البرّ، أدخل فيها، وأحمد الرب. هذا هو باب الرب، والصدّيقون يدخلون فيه" (مز 118: 19-20).
الحب يقود إلى أعالٍ لا يُخبر بها!
الحب يوحِّدنا مع الله، إذ "المحبّة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: 8؛ أم 10: 2)...
بالحب يصير مختارو الله كاملين، وبدونه ليس شيء يرضي الله.
بالحب يأخذنا الرب إليه.
بالحب يحملنا يسوع المسيح الذي أراق دمه عنّا بإرادة الله، وأعطانا جسده عن جسدنا، ونفسه عن نفوسنا.
انظروا أيها الأحبّاء، كم هو عظيم -الحب- ومدهش! كماله لا يمكن وصفه...!
يجلس الكاملون في الحب بالنعمة الإلهيّة في مجالس القدّيسين، ويظهرون عند إعلان ملكوت المسيح.
*توجد أبواب الموت، وأبواب الهلاك، كما توجد أبواب الحياة أبواب ضيقة وكرب... خلالها يدخل الذين يتأدبون، والذين هم مستقيمون. إنها ضيقة وكرب كما ترون... أما أبواب الهلاك فواسعة وفسيحة [27].
*"هذا الباب للرب، الصديقون يدخلون فيه" (مز 118: 20). خلال هذا الباب، دخل بطرس وبولس وكل الرسل والشهداء، واليوم لا يزال القديسون يدخلون فيه. خلال هذا الباب، دخل اللص كأول واحدٍ مع الرب. ليكن لكم إيمان فتترجوا دخولكم فيه.
لم يقل المزمور إن الرسل والشهداء، بل الصديقون يدخلون فيه.
كل إنسانٍ يعيش في برّ ويتأهل أن يكون بين عبيد الرب المحبين يدخل منه، فإن الرب لا يطلب دم الذين يشهدون له، وإنما الإيمان الذي خلاله سفكوا الدم. إن كان إيماننا قويًا حتى الاستشهاد، فهذا يكون لحسابنا.
أَحْمَدُكَ لأَنَّكَ اسْتَجَبْتَ لِي،
وَصِرْتَ لِي خَلاَصًا [21].
كما تسبحه الجماعة هكذا يسبحه كل عضو في الجماعة شخصيًا. فالخلاص مُقدم للجميع كما هو عطية إلهية، تُقدم لكل عضوٍ في الجماعة.
*إنه يشكر، ليس من أجل ما وُهب له، وإنما من أجل ما تعلمه. هذا في الواقع السبب الذي سُمع له [28].
*يعترف الصديقون للرب، ويستجيب لهم، ويصير لهم خلاصًا.
22 الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. 23 مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا. 24 هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. 25 آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ!
يُقال إن الشعب كان يدور في موكب حول المذبح كل يوم من أيام عيد المظال، وفي اليوم الثامن يدورون سبع مرات وهم يسبحون. وبعد السبي صار الكهنة يفعلون هذا في "دار الكهنة".
الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ،
قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ [22].
حجر الزاوية هو أهم حجر في البناء، يربط الحوائط معًا في الأساس، وأيضًا يوجد حجر زاوية يربط قوس الباب معًا وهو في أعلى الباب يربط القوس بضلعيه عن اليمين واليسار على شكل حرف V، بدونه ينهار الباب، ولا يقدر أحد أن يعبر إلى المبنى.
كأن حجر الزاوية مخفي في الأساس أسفل المبنى، وظاهر في الباب في أعلى المدخل، فهو الخفي والظاهر، الأول والآخر، بدونه لا يقوم المبنى، وبدونه لا يدخل أحد.
إنه حجر الزاوية المرذول من الأشرار، يطلبون صلبه مع الكتبة والفريسيين. وهو المحبوب من الأبرار، يقيم منهم مبنى على الصخر، بل ويجعل منهم حجارة حية.
يقول القديس ديديموس الضرير: [الذين يقبلون الإنجيل، والمولودون من زرع لا يفنى هم جنس مختار ومُزكى. وفي نفس الوقت يصيرون حجارة حيَّة مبنيين على قمة الحجر الحي، المختار والمُكرم، أساس الرسل والأنبياء، لكي يُقام بيت الله الروحي [29].]
*هذا الحجر معناه هو ذاته ربنا يسوع المسيح كما جاء في الإنجيل المقدس. من أجله جاء في نبوة إشعياء قوله: "هأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان (منتخبًا)، حجر زاوية، كريمًا أساسًا مؤسسًا، من آمن (به) لا يخزى" (إش 28: 16).
من أجله أيضًا جاء في نبوة دانيال: "قُطع حجر بغير يدين" (دا 2: 34)، وهو ربنا يسوع المسيح الذي وُلد من القديسة مريم البتول التي لم تعرف رجلًا، هذا الذي وضعه أساسًا لكنيسته المقدسة.
هذا الحجر الذي رذله البناؤون، الذين هم الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود الذين دعاهم الروح القدس في نبوة حبقوق: "ويل للباني مدينة بالدماء، والمؤسس قرية بالإثم" (حب 2: 11)، هؤلاء لم يقبلوا إنذاره.
صار رأس الجامعة الذي ضم الطائفتين: الذين آمنوا من أهل الختان، والذين من الأمم. هذا الاتحاد لم يحدث من قبل البشر، ولا الملائكة، لكنه من عمل الرب الذي جمع في أقنومٍ واحدٍ اللاهوت والناسوت، كما ضم الشعوب المتفرقة إلى إيمان واحد. وهذا أمر عجيب في أعيننا.
*سيكافئ الرب التابعين له المخلصين، الذين يحملون هذه الأعمال بحبٍ وبهجةٍ وتقوى، ويستخدمهم في إنشاء المبنى الخاص به، حيث يسرعون نحوه كحجارة حيَّة تتشكل بالإيمان، وتصير صلدة للغاية بالرجاء، وتتحد معًا بالمحبة [30].
* لتتأملوا فقط في وضع المسيح بين اليهود والأمم، أليس هو حجر الزاوية؟
إنكم تشاهدون في حجر الزاوية نهاية حائط وبداية آخر. فتقيسون حائطًا إلى هذا الحجر، ومنه أيضًا تقيسون حائطًا آخر، لذلك فإن حجر الزاوية الذي يربط الحائطين يُحصى مرتين، لهذا فإن يكنيا في رمز للرب كان كما لو كان على مثال حجر الزاوية، فإذ لم يسمح له أن يملك على اليهود، بل عبروا إلى الأمم، كذلك بالنسبة للمسيح "الحجر الذي رفضه البناؤون، قد صار رأسًا للزاوية" (مز 118: 22). فينبغي أن يصل الإنجيل إلى الأمم [31].
*بدون حجر الزاوية الذي هو المسيح لا أرى كيف يمكن للبشر أن يُبنَّوا في بيت الله، لكي يسكن الله فيهم [32].
*نتعلم من بطرس (1 بط 2: 5) أن الكنيسة هي جسد وبيت الله مبني بحجارة حية [33].
*يدعو بطرس ربنا يسوع المسيح حجرًا مختارًا وثمينًا، يتشكل بمجد اللاهوت وسموه. يدعوه حجر الزاوية، لأن خلال إيمان واحد يربط الشعبين -إسرائيل والأمم- معًا في وحدة [34].
*كما أن الرب هو النور الحقيقي الذي يأتي إلى العالم للدينونة، هكذا عند مجيئه يعطي بصرًا للعميان، ويعمى الذين ينظرون في الطريق الخاطئ. إنه هم أيضًا حجر الزاوية المختار، يكرم الذين يربطون أنفسهم به في الإيمان، ويعلن ذاته لهم كأساس يُعتمد عليه. أما الذين لا يؤمنون، فلا يكون لهم ثمينًا، بل حجر صدمة وصخرة عثرة، يحسبه البناؤون كلا شيءٍ ويرذلونه. هؤلاء البناؤون هم الكتبة والفريسيون [35].
*لكي يظهر أنه هو نفسه كان هذا الحجر، قال عنه: "كل من سقط على ذلك الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (لو 20: 18).
اجتمع قادة الشعب معًا ضده، وأرادوا إسقاطه، لأن تعاليمه لم تسرهم. لكنه قال: "من سقط هو عليه يسحقه"، لأنه قاوم الوثنية من بين أمورٍ أخرى: "أما الحجر الذي ضرب التمثال، فصار جبلًا كبيرًا، وملأ الأرض كلها" (دا 2: 35) [36].
*يقصد بالبنائين اليهود، معلمي الناموس، والكتبة والفريسيين، لأنهم رفضوه، قائلين: "إنك سامري وبك شيطان" (يو 8: 48)، وأيضًا: "إنه ليس من الله، بل يضل الشعب" (راجع يو 7: 12) [37].
* قيل عن أنبا مقار إنه بينما كان مرةً ذاهبًا إلى مصر مع الإخوة، سمع واحدًا ينوح قائلًا: "إذا سقط عليَّ مبنى من حجارة لا أموت، ولكن إذا سقط عليَّ كوخٌ من بوص، فإني أموت."
تعجّب الشيخ من هذا الحديث، ولما رآه الإخوة متعجِّبًا ألقوا بأنفسهم على قدميه متوسلين إليه قائلين: "قُلْ لنا، يا أبانا، معنى هذا القول."
فقال لهم: "يوجد سرٌّ عظيمٌ في هذا القول يا أولادي، هنا الحجر يُشبَّه بربنا يسوع المسيح كما هو مكتوبٌ بخصوصه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيبٌ في أعيننا" (مز 118: 22-23؛ مت 21: 42).
هذا هو أيضًا الحجر الحقيقي الكثير الثمن الذي لأجله باع التاجر كل مشتهيات قلبه واشتراه (مت13: 45-46)، ووضعه في خفايا قلبه، وقد وجده أحلى من العسل والشهد (مز 19: 10).
هذا هو ربنا يسوع المسيح، لأنّ الإنسان الذي يحفظ هذا الحجر في قلبه سيأخذ أجرًا في مجد ربنا يسوع المسيح في ملكوت السماوات الأبدي.
في الحقيقة إنّ ربنا يسوع المسيح قد جعل وجهه مثل حجر صلب، حسب قول الرسول: "الصخرة كانت هي المسيح" (1 كو 10: 4). وقد "بذل ظهره للضاربين، وخدّيه للناتفين، ووجهه لم يستر عن العار والبصق" (إش 50: 6) لأجل خلاصنا نحن البشر. وإذ ضغط ربنا يسوع المسيح علينا بواسطة الأمراض بسبب عظم محبته لنا تبقى النفس في عدم الموت بسبب نقاوة القلب من الأوجاع.
والشيطان من ناحيته عاجزٌ مثل البوص، فإذا سقط على إنسان وسيطر عليه بطغيانه، ولم ينتبه إليه الإنسان، ولم يصرخ إلى صلاح الله، فعندما يسقط في أوجاع إبليس ينسحب روح الله من هذا الإنسان، وهكذا تموت النفس بالرغم من أنها تكون أيضًا في الجسد بسبب السُّكْر بالأوجاع ونتانتها.
فردوس الآباء
مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا،
وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا [23].
*إذ يُرذل منكم، يصير حجر الزاوية؛ وتجتمع الكنيسة الأولى من اليهود والمؤمنين من الأمم، يوحدها في قطيع واحد، وسرّ إلهي واحد.
"من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا" (مز 118: 23). إنه عجيب أننا نحن الذين قبل آلام الرب كنا بدون عهدٍ وبدون شريعة، يصير لنا التبني لله. وبينما المتزرون القدامى كانوا ينحلون ويسقطون، ينسج الله نفسه شعبًا آخر.
أنتم لكم الكتب المقدسة، ونحن لنا فهم الكتب المقدسة.
أنتم تقرأون الكتب، ونحن نؤمن بذاك الذي عنه كتبت الكتب.
أنتم تلتصقون بالصفحات، ونحن نلتصق بمعاني الصفحات.
أنتم تطوون جلد الحيوانات الميتة، ونحن نملك الروح واهب الحياة.
أي شيء أكثر رعبًا من سرٍّ كهذا؟
هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ.
نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ [24].
من يسلك في شركة مع السيد المسيح، شمس البرّ، يسلك في النهار، وتصير حياته يومًا مفرحًا. أما من يعتزل مسيحه، فتكتنفه ظلمة الخطية، وتصير حياته ليلًا لا نور فيه.
يرى القديس إيرينيؤس أن هذه العبارة تشير إلى مجيء السيد المسيح في اليهودية [38].
*ما هو معنى: "هذا صنعه الرب"؟ إنه ليس بصنع بشري أن يُعد حجر الزاوية... ولا بملائكة ولا رؤساء ملائكة. على أي الأحوال ليس لأحد سلطان، لا بار، ولا نبي، ولا ملاك، ولا رئيس ملائكة، إنما هو عمل الله نفسه. هذا العمل يمثل سمته فوق كل شيءٍ [39].
*ما نغني به لربنا فلنمارسه عمليًا بمعونته. لكي نتأكد أن كل يوم صنعه الرب، قيل بسبب حسن عن يوم معين: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب".
نقرأ أنه عندما خلق السماء والأرض، قال الله: "ليكن نور" وكان نور، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة ليلًا (تك 3:4-6). لكن يوجد يوم آخر تأسس حسنًا وبطريقة محددة نمتدحه، يقول عنه الرسول: "لنسلك كما يليق بالنهار". ذاك اليوم عامة يُدعى "اليوم"، يتحقق بشروق الشمس وغروبها.
غير أنه لا يزال يوجد يوم حيث يشرق كلمة الله على قلوب المؤمنين ويبدد الظلمة، لا عن الأعين، بل العادات الشريرة.
لنعترف إذن بهذا النور. لنفرح فيه، ولنصغِ للرسول وهو يقول: "نحن أبناء النور، أبناء النهار، لسنا من ليلٍ ولا من ظلمةٍ" (راجع 1 تس 5:5) [40].
*يدعو النبي مدة أعمال تجسد ابن الله يومًا، فإن كل ما صار في هذه المدة هو عمل الرب، أعني مصالحة الله مع البشر، وزوال القتال الزمني (في المؤمن) وارتفاع الطبيعة البشرية فوق أعلى السماوات، وانفتاح أبواب الفردوس، واستعادتنا الكرامة الأولى، وإبادة اللعنة، ونقص عزة الخطية، وكسر شوكة الموت.
فمن أجل أعمال الرب هذه نبتهج ونفرح لقبولنا مواهبه بإشراقه.
وقد دعا النبي هذه المدة يومًا، لأن أول يوم للخليقة كان رسمًا لها، والذي هو معتزل عن سائر الأيام التي خلقها الله، إذ خلق النور الذي بإشراقه وغروبه يصنع النهار والليل، اللذين بعد ذلك صارا اليوم، ولهذا دعاه الله "يومًا واحدًا".
*يوم مختلف عن سائر الأيام التي صارت منذ بداية الخليقة، والتي بها نقيس الزمن. هذا اليوم (قيامة السيد المسيح) هو بداية خليقة أخرى. لأن الله في هذا اليوم خلق سماءً جديدة وأرضًا جديدة (إش 65: 17) كما يقول النبي.
أية سماء هذه؟ هي الثبات في الإيمان بالمسيح (لو 8: 15).
وأية أرضٍ؟ هي القلب الصالح (إش 61: 11).
أقول كما قال الرب، الأرض التي تشرب المطر الذي يسقط عليها، وتجعل السنابل حاملة الثمار تنضج. في هذه الخليقة الجديدة، الشمس هي الحياة النقية، والنجوم هي الفضائل، والهواء هو المدينة الطاهرة، والبحر هو عمق غنى الحكمة والمعرفة، الخضرة والعشب هما التعاليم الصالحة الإلهية، حيث يرعى شعب مرعاه (مز 75: 7)، أي رعية الله. والشجر الذي يثمر هو تتميم الوصايا. في هذا اليوم خُلق الإنسان الحقيقي، الذي صار بحسب صورة الله ومثاله (تك 1: 26) [41].
* "ويصعدون من الأرض" (هو 1: 11)، بمعنى أنهم يحيون حياة القدِّيسين حسنًا، "لأن يوم يزرعيل عظيم". بالحقيقة عظيم هو يوم المسيح، عندما يقيم كل الأموات إلى الحياة. حقًا ينزل من السماء، ويجلس على عرشه المجيد، "ويجازي كل واحدٍ حسب أعماله" (مت 16: 27). لذلك إن أراد أحد أن يفهم "اليوم" أنه وقت الافتقاد، عندما تُمنح مغفرة الخطايا بواسطة المسيح لليونانيين واليهود والذين أخطأوا ضده، فإن هذا ليس فيه انحراف. فإن داود أشار إلى وقت مجيء مخلصنا بالقول: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنبتهج ونفرح فيه" (مز 118: 24) [42].
*يلاحظ العهد القديم هذا الرقم "8"، الذي يدعو بواسطتنا في اللاتينية "مجموعة شعرية من ثمانية أبيات" Octave، إذ يقول الجامعة: "أعطِ نصيبًا لسبعة ولثمانية أيضًا" (جا 11: 2). الثمانية في العهد الجديد، حيث قام المسيح فيه، وهو اليوم الذي فيه الخلاص الجديد أشرق على الجميع. إنه اليوم الذي صنعه الرب، لنفرح ونبتهج فيه (مز 118: 24) [43].
* بالتأكيد صنع الرب كل الأيام، لكن الأيام الأخرى قد تُنسب لليهود أيضًا والهراطقة، وقد تُنسب للوثنيين. يوم الرب هو يوم القيامة، يوم المسيحيين، ويومنا... عندما يدعوه الوثنيون يوم الشمس Sunday نكون سعداء للغاية أن نعرف هذا اللقب، لأنه اليوم يشرق "شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). هل للشمس أجنحة؟ فليجب اليهود ومن هم على شاكلتهم الذين لا يقبلون إلا التفسير الحرفي للكتاب المقدس [44].
* [عن أحد القيامة] كما أن العذراء مريم، والدة الرب، تحتل المكان الأول بين النساء، هكذا هذا اليوم هو أم الأيام بين كل الأيام.
سأخبركم بشيءٍ جديدٍ، معتمدًا على الكتاب المقدس.
هذا اليوم هو واحد من السبعة (أيام) وواحد يتعدى السبعة. يُدعى هذا اليوم بالثامن، وهو السبب في أن بعض المزامير عنوانها "لأجل الثامن for the octave". هذا هو اليوم الذي فيه ينتهي المجمع، وتُولد الكنيسة.
هذا هو اليوم من جهة العدد، فإن ثمانية نفوس حفظت في فلك نوح (تك 7: 14)، وهو يطابق الكنيسة كقول بطرس (1 بط 3: 20-21) [45].
*اليوم (أحد القيامة) أزال المسيح -ومعه اللص- السيف الملتهب (تك 3: 24)، وأعاد فتح باب الفردوس الذي لا يستطيع أحد أن يقتحمه. اليوم يقول للملائكةٍ: "افتحوا لي باب البرّ فأدخل به، وأحمد الرب" (راجع مز 118: 19). ما أن فُتح الباب لم يعد يُغلق بالنسبة للذين يؤمنون [46].
آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ!
آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ! [25]
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يا رب تخلصنا؛ يا رب تسهل طريقنا".
جاءت كلمة "خلص" هنا باليونانية ωσαννά "هوشعنا Hosanna".
*الذين يمتلئون من إحسانات تجسدك خلصهم من شرك الخطية، ووفقهم، أي يسر سبيلهم إلى الصلاح.
26 مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ. 27 الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ.
تحمل صدى البركة الواردة في (سفر العدد 6: 24-26).
مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ.
بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ [26].
*يأتي العمال العاديون إلى ابن يوسف مرتلين:
مبارك هو مجيئك يا سيد العاملين في كل موضع.
أثر عملك يُرى في التابوت (خر 25: 10-16).
وفي شكل خيمة الاجتماع (خر 26).
في الجماعة التي كانت إلى حين فقط [47].
الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا.
أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ [27].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "رتبوا عيدًا في الواصلين إلى قرون المذبح".
*لما رأى بعين روحية حضوره بالجسد إلى العالم، والخيرات الحاصلة منه للمؤمنين، امتلأ فرحًا، وطفق يعرفهم بقيام عيد وفرح من أجل إحسان الله...
أما "الواصلين" (المكتنفين) فهما كاروبا المجد المصنوعان من الذهب، اللذان بأجنحتهما كانا يكتنفان ويظللان غطاء تابوت العهد من فوق.
وأيضًا المكتنفون باليونانية تعني المتكاثرين. فالمعنى إذن: أقيموا عيدًا، واجتمعوا بالعيد، لتكونوا كثرة متكاتفة حتى تبلغوا إلى قرب المذبح...
قول داود المغبوط: "أقيموا عيدًا في المكتنفين حتى قرون المذبح" فحواه ألقوا عيدًا بفرحٍ على ما نلتم من النعم، وقربوا له فضائل متكاثرة تبلغ حتى صليب المسيح... أي اقبلوا الموت لأجل محبته، والضيق والامتحان من أجل الإيمان، ناطقين بالحق. كما قال له المجد: "من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني". قولوا: "إلهنا أنت كنز".
*عندما تؤخذ التقدمات، يقول: "فيصنعون له مقدسًا، لأسكن في وسطهم" (خر 25: 8). أي أن المسيح يظهر في الكنيسة، ويتمجد في كل أعضائها، كما تقول المزامير: "الرب هو الله، وقد أنار لنا" (مز 118: 27). لاحظ هذا أيضًا، بالرغم من أنه نزل على الجبل في شكل نار، ورآه كل الشعب، فقد كُتب هكذا كأنه لم يظهر بعد، لأنه يقول: "فيصنعون له مقدسًا، لأسكن في وسطهم"... إن الظهور الحقيقي لله هو المسيح الذي في شخصه رأينا الآب نفسه [48].
28 إِلهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ، إِلهِي فَأَرْفَعُكَ.
للمرة الثانية نجد صوت انفرادي يقدمه الملك.
إِلَهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ.
إِلَهِي فَأَرْفَعُكَ [28].
احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ،
لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [29].
*لا يكفيه أن يقدم هذه الذبيحة، إنما يدعو الكثيرين لكي يشاركوه التسبيح والشكر، ويعلنوا عن حنو الله، ممجدين أبديته وعظمته في كل مكان [49].
*أعماقي تصرخ إلى كل البشرية:
هلم نسبح الرب ونشكره.
نعترف له بخطايانا، ونلتصق به،
لأنه وحده غافر الخطايا.
*سمِّر خوفك في قلوبنا.
فنحبك ونهابك،
نحيا بك ونسبحك إلى الأبد.
*أشكرك لأنك تسمح لي بالضيق.
لأنك كأب تطلب بنيان نفسي.
أصرخ إليك في ضيقي،
لست أطلب خلاصًا من الضيق،
إنما أن تدخل بي إلى السعة.
تدخل بي وبإخوتي إلى رحب سماواتك.
تدخل بنا إلى أحضانك،
فنختبر نيران حبك العجيب.
*في ضيقي لست أنشغل بالآلام،
ولا أطلب من إنسانٍ أن ينقذني.
إنما أتطلع إليك،
أحتمي فيك يا ملجأ الصارخين إليك.
لتهج كل قوات الظلمة عليّ،
فإنها لن تسحب عيني عنك.
تدفعني للهلاك،
وتريد أن تلهب قلبي بنيران الإثم،
لكنك أنت قوتي،
فلن تحل بي هزيمة.
أنت تسبحتي، فلن يأسرني الحزن الباطل.
أنت خلاصي، فلن أهلك ما دمت في يدك!
تحول ضيقي إلى خبرة جديدة للتمتع بمراحمك.
*يود العدو أن يحطمني بالضيق.
بصلاحك تحول الضيق إلى طريق للالتقاء معك.
أنت هو باب البرَّ، بل أنت هو البرّ عينه.
لأدخل إلى أحضانك، والتصق ببرِّك،
فيتحول كياني كله إلى قيثارة،
يعزف عليها روحك القدوس.
*أنت هو حجر الزاوية.
أنت هو صخر الدهور.
أنت هو باني نفسي!
من يقدر أن يحطم عملك فيّ!
أية قوة تقف أمام نعمتك!
تجعل من أعماقي عجبًا!
عوض فسادي، تهبني عدم الفساد!
عوض أيامي، تهبني يومك الذي يشبهك.
تصير حياتي كلها هي يومك،
تصنعه بنفسك، ولا تأتمن خليقة ما على خلاصي.
*إلهي كلما أسبحك يزداد لهيب قلبي شوقًا إليك.
إنني أدعو الكل لنشترك جميعًا في تسبيحك!
لتمتلئ كل قلوب البشرية بفرح الروح،
وليجتمع الكل مع السمائيين،
وتتحول حياتنا إلى فرح أبدي!
_____
[1] On Ps. 118.
[2] On Ps. 118.
[3] Strom. 4: 11.
[4] On Ps. 118.
[5] Baptismal Instructions, 3:11.
[6] Homilies on Matthew, 22:8.
[7] On Ps. 118.
[8] Letter 52 to Nepotian, 11..
[9] Paradise,12.
[10] عظة 5:6.
[11] راجع الأب إلياس كويتر المخلصي، ص 222.
[12] On Ps. 118.
[13] Cassian, Conferences 3:12.
[14] On Ps. 118.
[15] De institutis caenoborum, Book 12:17.
[16] Homilies on 1 Timothy , hom 14.
[17] Commentary on Job 1: 11.
[18] On Ps. 118.
[19] On Ps. 118.
[20] Paedagogus, 1:9. ترجمة دكتورة إيفا إدوارد بدمياط
[21] On Repentance, 1.
[22] Dialogue with Trypho, 84.
[23] Homily 94, On Easter Sunday.
[24] On Christian Faith 4:2 (19).
[25] On Ps. 118.
[26] Demonstrations, 4:5.
[27] On Ps. 118.
[28] On Ps. 118.
[29] St. Didymus the Blind: Commentary on 1 Peter. PG 39: 1762.
[30] Sermon 337.
[31] Sermon on NT Lessons, 1:15.
[32] Letters 187: 3.
[33] Commentary on John 10: 266.
[34] Catena.
[35] Catena.
[36] Commentary on Tatian’s Diatessaron, 16: 20.
[37] On Ps. 118.
[38] Cf. St. Irenaeus: Adv. Haer. 4: 33: 11
[39] On Ps. 118.
[40] Sermons, 230.
[41] مؤسسة القديس أنطونيوس: وقام في اليوم الثالث، 2006، ص 12. ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب.
[42] St. Cyril of Alexandria Commentary on Hosea 1:9.
[43] Letter 50 to Horontianus.
[44] Homily 94.
[45] Homily 94, On Easter Sunday,
[46] Homily 93, On Easter Sunday.
[47] Hymns on the Nativity, 6.
[48] مؤسسة القديس أنطونيوس: السجود والعبادة بالروح والحق، ج 5، 2006، ص 62-63.
[49] On Ps. 118.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 119 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 117 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/m966z82