4 - د
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32
[25-32]
في القطعة السابقة أدرك المرتل حاجته إلى الوصية الإلهية وسط غربته في هذا العالم، كي تحفظه من الخطايا خاصة الكبرياء، وتسنده من الأشرار الذين لا يطلبون أقل من حياته، يريدون أن يدخلوا به إلى القبر، ويدحرجون على فمه حجر العار والخزي، بلا سبب حقيقي سوى ارتباطه بالوصية. وقد وجد المرتل في عزلته هذه الوصية عزاءه وسلواه؛ هي الصديق الحقيقي الذي يسنده ضد الشر والأشرار تحول تعييراتهم إلى أمجاد. الآن إذ دخل إلى القبر يصرخ إلى الله طالبًا ألا يحرمه من كلماته الواهبة الحياة (يو 63:6).
25. |
||
26، 27. |
||
28. |
||
29 -31. |
||
32. |
||
الوصية واهبة الحياة من وحي المزمور 119 (د) |
25 لَصِقَتْ بِالتُّرَابِ نَفْسِي، فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ.
لقد تآمر الرؤساء الروحيون في الشر، أي الشياطين، على المرتل داود، ونصبوا له الشباك فسقط في خطية تلو خطية، لكنه إذ أدرك أن الذبيحة التي يُسر بها الله هي القلب المنكسر والمنسحق (مز 19:51) انحنى بانسحاق حتى التراب، قائلًا: "فإن نفسنا قد اتضعت حتى التراب، ولصقت في الأرض بطوننا" (مز25:44). عرف المرتل أنه لا خلاص لنفسه بجهاده الذاتي، إنما يحتاج إلى "كلمة الله" ونعمته لكي يُنتشل من تراب القبر وتتمتع نفسه بالحياة المُقامة، لهذا يقول:
"لصقت بالتراب نفسي، فأحيني ككلمتك" [25].
كلمة الله هي حياة تتفاعل مع نفس الإنسان فيحيا بالله، خلالها يتمتع المؤمن باتحاد سري مع الله مصدر حياته.
يطبق البعض هذه العبارة على شخص رب المجد يسوع في لحظات آلامه، حيث حمل خطايانا وقبل أن يدخل إلى الموت لحسابنا، قائلًا: "نفسي حزينة حتى الموت". ويرى البعض أن المتحدث هنا هو داود النبي حيث اضطربت نفسه فيه، فجلس على الأرض، وغطى نفسه بالتراب كعادة بعض الشرقيين قديمًا، كما فعل أيوب (أي20:1) وأصدقاؤه وقت الضيق. إذ قيل: "ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه فرفعوا أصواتهم وبكوا ومزقوا كل واحدٍ جبته وذروا ترابًا فوق رؤوسهم نحو السماء" (أي12:2).
ربما شعر المرتل أنه قد التفَّت حوله حبال الخطاة، واشتدت به التجربة جدًا وأن خطيته هي السبب، أحدرته كما إلى التراب، وكأنه يردد كلمات الرسول بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو24:7). فكشفت ضيقته الخارجية عن ضعفاته الداخلية. ولعل صرخة المرتل هنا هي من أجل الضيقتين معًا، ضيقة الضعف الداخلي مع الضيقة الخارجية.
يعترف المرتل قائلًا: إن نفسه لم تعد بعد ملتصقة بالرب كما كانت قبلًا. إذ وجد نفسه ساقطًا في الخطية، التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانتها وحطمت علوها الطبيعي.
حقًا أن كل نفسٍ خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب". (لذا قيل) "وراء الرب إلهك تسير، وتلتصق به" (تث4:13؛ 13:6؛ 30:10)؛ هذا ما قيل في الشريعة.
يرى المرتل نفسه وقد انحدرت نحو القبر لتلتصق بالتراب فتصير مأكلًا للحية القديمة، إبليس، إذ قيل: "على بطنكِ تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" (تك 14:3)، لذلك صرخ إلى الكلمة الإلهية لكي يحمله بروحه القدوس من القبر، وينفض عنه التراب، ويهبه الحياة الجديدة المرتفعة نحو السماويات، فلا تقدر الحية أن تقتنصه وتبتلعه!
من يقدر أن ينفض عنا الالتصاق بتراب هذا العالم إلا كلمة الله واهب الحياة والحرية؟! لقد وعد الله: "أنا أميت وأحيي" (تث 39:32). ويقول السيد المسيح: "أنا قد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو 10:10).
التمتع بهذه الحياة المقامة تحتاج إلى صراحة ووضوح وانفتاح من جانبنا، فبقدر ما ينفتح قلبنا على كلمة الله ونعترف بطرقنا المنحدرة إلى الهاوية يفتح الله عن بصيرتنا فننعم بأسراره وعجائبه معنا.
* إن كنا نتطلع إلى العالم كبيتٍ واحدٍ عظيم، فإننا نرى السماوات تمثل القبو، والأرض تمثل الممر. إنه يريد أن ينقذنا من الأمور الأرضية، لنقول مع الرسول: "مواطنتنا هي في السماء". فالالتصاق بالأرضيات هو موت للنفس، عكس الحياة التي يصلي من أجلها قائلًا: "أحيني"!
يروي لنا ثيؤدورت كيف استخدم الإمبراطور ثيؤدوسيوس هذه العبارة عندما أصدر قانونًا كان الكثيرون ضحية له، وجاء إلى الأسقف إمبروسيوس يقدم التوبة. فقد أخبر الأسقف إمبروسيوس روفينيوس أنه قد عزم على منع الإمبراطور ثيؤدوسيوس من الدخول إلى المقدسات ولو كلّفه الأمر تسليم حياته للموت، وكان الإمبراطور قد تحرك بالفعل...
إذ أبلغ روفينيوس رسالة الأسقف إمبروسيوس قال الإمبراطور: "سأذهب وأقبل العار الذي استحقه..." وإذ التقى بالأسقف قال: "إنني لا انتهك القوانين الموضوعة، ولا اطلب أن أعبر إلى المقدسات، لكنني اطلب منك الحِل، واضعًا في اعتبارك مراحم ربنا جميعًا، ولا تغلق أمامي باب سيدنا المفتوح لكل التائبين. طلب الأسقف منه تأجيل القانون ثلاثين يومًا حتى يُدرس الأمر جيدًا، ولا يسقط ضحايا بلا ذنب، وإذ نفذ الإمبراطور يقول ثيؤدريت: [الآن جاء الإمبراطور الأمين بجسارة إلى داخل الهيكل المقدس، لكنه لم يُصل لإلهه واقفًا، ولا حتى راكعًا، بل كان منبطحًا على الأرض وهو ينطق بصرخات داود: "التصقت نفسي بالتراب فأحييني حسب كلمتك"(46).
26 قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَاسْتَجَبْتَ لِي. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. 27 طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ.
مارس داود النبي الاعتراف بِشقَّيه كعادته: اعترافه بخطيته أو بضعفه الشديد حتى بلوغه تراب القبر، واعترافه بعمل نعمة الله الواهبة الخلاص العجيب.
في سرّ التوبة والاعتراف نعلن عن موتنا بخطايانا وقيامتنا بعمل الله العجيب، أو بمعنى آخر سلوكنا في طريقنا الذاتي هو انطراح في تراب القبر، وقبولنا طريق الرب هو تمتع بعجائبه. لهذا يعترف داود النبي، وقد فتح أعماق قلبه أمام الله، قائلًا:
"أخبرت بطرقي فاستجب لي،
علمني حقوقك،
وطريق عدلك فهمني،
فأتلو عجائبك" [26،27].
يقدم المرتل قضيته بكاملها أمام الله، فهو وحده القادر إن يسمع لشكواه ويستجيب، ويحول حياته إلى عجائب. ربما يقصد بالعجائب هنا تقبله تعزيات إلهية لا يُنطق بها، وتعزيات سماوية لا يُعبر عنها؛ هذه التي تحول حياته كما إلى أعجوبة... حيث تتجدد حياته باستمرار.
يقدم المرتل كل تفاصيل أموره أمام الله لكي يتعرف على أرادته الإلهية.
* مَنْ يسلك بمشيئات جسده في طريق شهواته فذاك يمشي حسب طرق إرادته، وأما من يتجنب المعاصي فهو يمشي طريقًا مؤدية إلى الله، فيستجيب له الرب عند طلبه المغفرة، ويهديه إلى عدله، ويعلمه بره، ويفهمه طريق وصاياه، ويجعله مفكرًا بعجائبه.
* عندما نسلك حسب شهوات جسدنا وحسب أفكارنا (أف 3:2)، فإننا نسلك حسب طرقنا. وبالعكس عندما ننفصل عن الخطية، ونكرس أنفسنا للرب طالبين منه أن ينقينا، وأن نسلك في طرقه (تث12:10)، عندئذ لا نسلك قط في طرقنا الخاصة، بل نسير في طرق الرب، ونتقدم فيها.
يوجد ذات الفكر في الكلمات: "قلت اعترف لك بذنبي" (مز 5:32). بهذا أوضح طرقي (الخاصة)، معترفًا إنني مذنب إليك (أم 17:18)، لهذا سمعتني وقبلت توبتي. أتوسل إليك أيضًا أن تكون سيدًا تحكم فيّ بأحكامك، لأنه لا يستطيع أحد أن يتممها بدقة إلا أنت يا رب هذه الأحكام وسيدها.
* "أوضحتُ (أخبرت) طرقك"، أي الطرق التي تقود إليك، الطرق التي تقود إلى الفضائل. لقد أوضحتها يا سيد بأعمالي، وبالنية المملوءة غيرة، والأعمال التي تتناسب مع هذه النية وهذا المقصد. "فسمعتني"، وأقول للذي سمعني: "علمني حقوقك".
* جاء في بعض النسخ "طرقك"، لكن النص الأصح اليوناني جاء "طرقي"، أي طرقي الشريرة.
يبدو لي أنه يقول هكذا: أعترف بخطاياي، وأنت تسمع لي حيث تغفرها لي.
هكذا علمني أن أعمل، وليس فقط أن أعرف ما ينبغي أن أعمله. فكما يُقال عن الرب إنه لا يعرف خطية، ويفهم من ذلك أنه لا يفعل خطية، هكذا يليق بالحق أن يقال أن من يفعل البر يعرف البر. هذه هي صلاة من هو ينمو في تقدم.
إذ نرفض طرقنا الذاتية ونقبل مسيحنا "الطريق" الملوكي ننال عطية المعرفة أو الفهم، التي تنمو دائمًا بطلبنا إياها وبحفظنا إياها أو سلوكنا فيها. وكأنه بقول المرتل: "وطريق عدلك فهمني، فأتلو (احفظ) وصاياك" [27] يعلن عن حاجتنا إلى الطلبة المستمرة لنوال الفهم وإلى تقدير الموهبة بحفظ الوصية أو ممارستها عمليًا. لأن ممارستها يحمل شهادة لها أمام الغير كما يعطينا فرصة للنمو فيها.
إذ تمتع الرسول بولس بالفهم تحدث عن البر والدينونة العتيدة، لا حديث الفلسفة النظري، وإنما حديث الخبرة الحية، لذلك ارتعب أمامه الوالي (أع25:24). هذا ويترجم أكيلا كلمة "أتأمل" "احفظ" أما سيماخوس فيترجمها "أقص" أو "أتلو".
* لنفهم هذا النص هكذا: "تعلموا فعل الخير" (إش 17:1)، بعد تعلم الوصايا، فإن هذا يليق بمن أدرك طرقها، أي أن العمل بالوصية يتلاحم مع فهم مقاصدها.
* أستطيع إدراك "طريق" أسرار وصاياك، إذ نلت منك "الفهم"، وذلك لكي أسلك هذا الطريق واتمتع بفهم "العجائب". بهذا أخبر بوصاياك وأتحدث عنها خلال حفظي مقاصدها.
28 قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ.
"نعست نفسي من الحزن،
فثبتني في أقوالك" [28].
إن كانت الوصية تسند الإنسان حتى في لحظات ضعفه، فيعترف بخطاياه ويخبر بنعمة الله الواهبة برَّ المسيح العجيب، فإنها تسند النفس في لحظات نعاسها أو فتورها أو رخاوتها أو حزنها لكي تتيقظ وتتشجع وتقوى على الجهاد، وقد جاءت كلمتا "نعست نفسي" بترجمات متباينة.
لعله قد عانى المرتل من حالة إحباط شديدة في فترة معينة، لهذا صرخ إلى الله ليهبه الرجاء المفرح لمواعيده الإلهية وأقواله.
* يعلم (المرتل) أننا لا نستطيع أن نطرد روح "الحزن" إلا عن طريق التأمل في التعاليم الإلهية، لهذا يجب أن نكون يقظين كما قال: "اسهروا وصلوا" (مت 41:26).
* "نعست نفسي من الحزن"، "قطرت نفسي من الحزن"
تقول الترجمتان الخامسة والسادسة: "قطرت نفسي بقطرات" ويترجمها سيماخوس: "سالت نفسي بقطرات"... فهو يريد القول بأنه إذ تكون النفس في حالة حزن وأسى وألم تفقد يقظتها، وتسقط في النعاس المُنهي عنه في القول: "لا تعطي عينيك نومًا، ولأجفانك نعاسًا" (أم4:6). أما من يأخذ بالنص الذي يشهد له أغلب المترجمين: "سالت نفسي بقطرات من الحزن" فيؤكد أن نفس الصديق هي منيعة وشديدة الاحتمال، لا تسمح أن تسيل منها قطرة، أما نفس الشرير فتختلف تمامًا عن نفس الصديق، إذ لا تقدر أن تخفي بداخلها كلمة الرب التي نثقفها بها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). يمكننا القول بأنها تسيل "بقطرات". توجد هذه الفكرة أيضًا في سفر الأمثال: "يا ابني، لا تسيل جانبًا؛ لا تبرح هذه من عينيك" (أم21:3). وفي رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين: "يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نُسأل جانبًا" (عب1:2). من جهة أخرى يصلي قائلًا: "أقمني حسب كلامك"، أي اجعلني راسخًا، ثابتًا في أقوالك وأن أكون غير مزعزع ولا متغير بأية وسيلة.#
* بما أن النعاس هو بدء النوم، أي فتور في الحواس وتراخي لها، لذا استخدمه النبي تشبيهًا لبدء الخطية..
* ماذا يعني "نعست"؟ إلا أنه قد يرد الرجاء الذي يود أن يبلغ إليه.
* في تعبير يثير الإعجاب يوجز داود كل مضار ذلك المرض في عبارة واحدة: "نعست نفسي من الحزن"، أي من النكبة. حقًا لا يقول أن جسده بل نفسه قد نعست، لأنه في الحقيقة النفس التي تُجرح بثقل الهوى تنام وسط التأمل في الفضائل(47).
* من يحب الحق ولا يتفوه قط بكلمة كذب يمكنه القول: "اخترت طريق الحق"، ومن يضع أحكام الرب أمام عينيه ويتذكرها في كل كلماته يقول: "أحكامك لم أنسَ".
* الاسترخاء هو بداية النوم، هكذا نقول عن النفس عندما تبدأ أن تخطئ بأنها قد استرخت. كما لو كانت النفس قد انجذبت إلى نعاس الخطية، وعليها أن تقوم وتستيقظ بتذكرها الصلاح.
29 طَرِيقَ الْكَذِبِ أَبْعِدْ عَنِّي، وَبِشَرِيعَتِكَ ارْحَمْنِي. 30 اخْتَرْتُ طَرِيقَ الْحَقِّ. جَعَلْتُ أَحْكَامَكَ قُدَّامِي. 31 لَصِقْتُ بِشَهَادَاتِكَ. يَا رَبُّ، لاَ تُخْزِنِي.
إن كانت الوصية تسند النفس الخائرة التي استسلمت للنعاس أو صارت تسيل كما بقطرات، فمن جانب آخر تحفظها من روح الكذب الذي هو روح إبليس، وتهبها روح الحق الذي هو روح المسيح، فلا تخزى.
"طريق الكذب ابعد عني،
وبشريعتك ارحمني" [29].
* كان في استطاعته أن يقول: "ابعدني عن طريق الكذب". لم يقل هذا بل قال: "طريق الكذب ابعد عني"، لأن هذا الطريق هو في داخلي، هو كائن فيَّ.
حقًا كلما كنا أشرارًا يكون "طريق الكذب" في داخلنا. يلزمنا أن نبذل كل الجهد حتى نترك هذا الطريق خارج نفوسنا، طالبين على وجه الخصوص معونة الرب. عندئذ يمكننا القول: عندما تبعده عنا "بشريعتك ارحمني"، طالبين رحمة الله بالشريعة التي وهبنا إياها. وذلك كما نقول لطبيب: لتعمل حسبما يستلزم الفن الخاص بالطب الذي يقودني إلى الصحة ويهبني الشفاء، سواء باستخدام المشرط أو الكي أو أية وسيلة مؤلمة يتطلبها الطب وقوانينه (تشريعاته)...
ما دام طريق الكذب لم يُبعد عنا بعد لن نحصل على رحمة الله حسب شريعته.
* من يبتعد عن طريق الكذب ويقترب من "شريعة" الله بإرادته، يكون كمن يريد أن تكون عوارضه سليمة تمامًا ومؤيدة بالرب. هذه هي الشريعة التي تقود إلى إتمام كل الخيرات.
من يبغض الجهل تصير فيه رغبة مضادة لذلك الطريق وهو العلم. من يعجز بنفسه أن يبتعد عن الجهل فليستند على الإيمان (الحق)، طالبًا من معلمه: أبعدني عن الجهل، وبعلمك وشريعتك ارحمني.
لقد تكررت كلمة "الكذب" ثمان مرات، وهي سمة الحياة الخاطئة.
لا يكفي الجانب السلبي وهو انتزاع طريق الكذب أي إبليس ومملكته من القلب، إنما يلزم الجانب الإيجابي وهو التمتع بالسيد المسيح حيث مملكته: "طريق الحق" وفي بعض الترجمات: "طريق الإيمان".
"اخترت طريق الحق (الإيمان)
وأحكامك لم أنسَ" [30].
كلمة "حق emunah" جاءت مشتقة من aman، تعني "يثبت، لا يتغير، يستقر، يثق، يؤمن". فالناموس الإلهي مستقر وثابت وأكيد ومدبر كل الأمور وذلك بسلطان الله الذي لا يكذب ولا يخدع(48).
* ينطق بهذا من يحتقر الأمور المنظورة أي الأمور الزمنية الزائلة، ويتطلع إلى غير المنظورات كأمورٍ أبدية (2كو18:4)؛ فلا يتكلم إلا عنها، وإليها يريد أن يذهب. فإن "طريق الحق" ليس بالطريق الذي يختاره من ينشغل هنا على الأرض بالغنى والمجد الأرضي.
من يختار أن يسلك في "طريق الحق" بالمعنى الذي فسرناه، لا ينسى أحكام الله ولا مكافأته.
اختياره طريق الحق وتذكره الدائم لأحكام الرب يثبته في شهادات الرب.
إن كانت الوصية تدفعنا إلى الصراحة مع أنفسنا، فنعترف بطرقنا ونتوب عن خطايانا، فإنها تكشف عن نعمة الله العجيبة التي تحول ضعفنا إلى قوة، وانشغالنا بالتراب إلى التأمل في الإلهيات. بهذا تنتشلنا الوصية من الخطية المحطمة للنفس بالغم وتحررنا من الحزن القاتل، وكأنها تقيمنا من حالة النوم والرخاوة إلى بهجة العمل في ملكوت الله.
"لصقت بشهاداتك يا رب،
فلا تخزني" [31].
إذ سبق فصرخ المرتل يشكو نفسه، قائلًا: "لصقت بالتراب نفسي" [25] طالبًا من الله أن يقيمه من تراب القبر، ويهبه الحياة المقامة. الآن يطلب الالتصاق بشهادات الرب لكي يثبت في هذه الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع.
* من يتحد بالكلمات المُسلمة من أجل شهادة السماء والأرض (لله)، ولا يبتعد عنها قط تصير له ثقة أنه مهما ارتكب من تصرفات تستوجب الخزي (بسبب ضعفه البشري) يطلب من الله المغفرة، قائلًا: "يا رب لا تخزني". مثل هذا يستحق أن يسمع الله قائلًا له: "أنظر، قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك” (إش22:44). إنه لن يمتلئ خزيًا، لأن الكلمة الإلهية (الفضيلة) الحالة في نفس الإنسان الذي أخطأ تمحو كل الخطايا السابقة تمامًا، وتمنحها الغفران من الخطايا. يحل العدل عوض الظلم، والزهد والعفة عوض النجاسة، والشجاعة عوض الجبن، والتعقل عوض الجنون، وبهذا يتحقق غفران الخطايا الذي من أجلها جاء ابن الله لكي يهبنا إياها.
32 فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي، لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي.
إن كانت الخطية تحدر النفس إلى تراب القبر [25]، فتصير النفس كما في نعاسٍ دائم [28]، تسلك في طريق الظلم والموت [29]، ويحل بها الخزي والعار [31]، فإن عمل الكلمة الإلهي هي الإقامة من تراب القبر، وتقديم المعرفة السمائية وتحقيق عجائب إلهية، فتحيا النفس في طريق الحق بالإيمان وتنتقص من العار، وتتسع بالحب لله وخليقته السماوية وأيضًا الأرضية. إنه يدخل بها إلى الطريق الضيق بقلبٍ متسعٍ، على عكس الخطية التي تدخل بنا إلى الطريق الرحب المتسع بقلب ضيق.
"في طريق وصاياك سعيت (جريت)
عندما وسعت قلبي" [32].
* إن طريق وصايا الله ضيقة، وأما قلب من يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلب متسع... وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع لله فيها.
* الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا الله، فمتسع ورحب بالكلمة الإلهية، وهو مقدس ويرى الله.
وعلى العكس الطريق "الواسع والرحب يقود إلى الهلاك" (مت 13:7). أما القلب (الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلًا للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل الله بسبب جهالته. هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قساوته.
لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم 4:3؛ 3:7؛ 20:22)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 20:1). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله...
* يليق بقلوبنا أن تتسع وتنفتح قدر الإمكان حتى لا تضيق عليهم في حدود الجبن الضيقة وتمتلئ بطاقة الغضب الهادر، فنصير عاجزين عن نوال ما يدعوه النبي "الطريق الرحب" لوصية الله في قلوبنا الضيقة، أو أن نقول مع النبي: "في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي"(49).
* ما كان يمكنني أن أجري (في طريق وصاياك) لو لم توسع قلبي... أتستطيع أن تفعل ذلك بنفسك؟ يجيب: "لا أستطيع" إنه ليس خلال إرادتي الذاتية كما لو كانت ليست في حاجة إلى معونتك، بل لأنك وسعت قلبي.
توسيع القلب هو بهجة ننالها في برٍ. هذه عطية الله، أثرها أننا لا نتضايق من وصاياه خلال الخوف من العقوبة، بل يتسع القلب خلال الحب والبهجة التي لنا في البرّ.
إذ يشعر المرتل أن الخطية قد نزلت به ليلتصق بالتراب في قبرٍ مظلمٍ، يطلب الوصية الإلهية ليلتصق بالمخلص كلمة الله واهب الحياة.
1. يستنجد المرتل بالوصية لكي تُرفع نفسه من التراب [25] حتى لا تبتلعه الحية (تك 14:3).
2. التوبة والاعتراف هما الطريق الآمن بقبول عمل الكلمة واهب الحياة [26]. إذ نتحدث مع الله في صراحة عن ضعفاتنا يحدثنا بصراحة عن عجائبه وأسراره، بانفتاح قلبنا نكشف ما لدينا، وبانفتاح قلبه يكشف لنا ما لديه من جهتنا.
3. يرافق التوبة حزن لكنه يهب سلامًا داخليًا وفرحًا بالرب، أما الخطية فتحطم النفس بالغم الداخلي واليأس... فالوصية الإلهية تنزع عنا الحزن القاتل وتحررنا منه.
4. بالوصية نتحرر من روح الكذب أو طريق الكذب الذي ثبت جذوره فينا، ليحتل طريق الحق موضعه [29، 30]، نتحرر من عبودية إبليس لنقبل ملكوت المسيح.
5. بالوصية تتحرر النفس من الالتصاق بالتراب لتلتصق بشهادات الرب [31].
6. بالوصية نقبل الطريق الضيق باتساع قلبٍ عوض قبولنا بالخطية الطريق الرحب بقلب ضيق.
* دخلت بي خطيتي إلى القبر وهناك دفنتني،
كلمتك ترفعني من التراب، وتهبني الحياة الخالدة.
بوصيتك اكتشف موتي واعترف به.
وبها أدرك ما يجب أن أعمله، وتهبني قوة للعمل،
وبها أعترف بقوة قيامتك يا واهب الحياة!
* فقدت حياتي إذ حلّ بي حالة إحباط، نعست نفسي من شدة الحزن.
من يقدر أن يهبني الحياة إلا الرجاء المفرح الذي تبعثه وصيتك؟!
استرخت نفسي ونامت نوم الخطية،
لتيقظها وصيتك وتقمها بالبهجة يا أيها القيامة!
* حطمني الكذب، طريق الباطل والجهالة،
لتقترب مني شريعتك، طريق الحق والمعرفة.
من يرتبط بطريق الباطل يصير باطلًا،
ومن يلتصق بطريق الحق يحيا بالحق إلى الأبد!
* بالخطية صارت نفسي قبرًا ضيقًا،
بوصيتك المتسعة تتسع نفسي بالحب لتسع الكل!
طريق الخطية واسع، لكنه يهب قلبي ضيقًا بالآخرين،
وطريق وصاياك ضيق، يهب نفسي اتساعًا للجميع.
_____
(46) Theododort: Ecc. His. 5:17.
(47) The Institutes 10:4.
(48) Bethany Panallel Commentary on O.T, (Adam Clarke), p. 1158.
(49) St. Cassion: Conferences, 16:27.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 119 (قطعة 5) |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 119 (قطعة 3) |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/w84pzgf