محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
أيوب: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35
الآيات 1-13:- "فَأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَالَ: «صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا، فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ، لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ. هُوَ حَكِيمُ الْقَلْبِ وَشَدِيدُ الْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ الْمُزَحْزِحُ الْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ، الَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ. الْمُزَعْزِعُ الأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا، فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا. الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ، وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ. الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ. صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ. فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ. «هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ. إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ."
نجد أيوب هنا يؤكد بر الله وصلاح الله وسلطان الله المطلق وأنه لا يختلف مع أصحابه حول هذا الرأي. صحيح. قد علمت أنه كذا= أي أنا متفق معكم فيما قلتموه عن الله. ولكن كانت مشكلة أيوب التي حاول أن يعرضها أمام أصحابه استحالة أن يتبرر الإنسان عند الله= فكيف يتبرر الإنسان عند الله. في نظر أيوب أن يتبرر إنسان أمام الله شيء صعب فهو حاكم مطلق له كل السلطان على الطبيعة فمن يقف أمامه، خصوصًا حين يضع الله في قلبه أن يرصد خطوات هذا الإنسان، فإذا تحول انتباه الله الجبار من الطبيعة الهائلة إلى الإنسان الضعيف ورصد الله له كل خطية فمن يثبت أمام الله. وأمام قوته القاهرة، حينئذ سيكون الله كما لو كان ينقض على فريسة ليسحقها. بل إن أقوى المتمردين مثل رهب لن يقف أمامه. ومن المؤكد أن قوة الله جبارة لكن أيوب في آلامه نسى أن محبة الله أيضًا جبارة، ولم تظهر هذه المحبة بقدر ما ظهرت على الصليب. لقد ظن أيوب أن الله سيسحق الخاطئ ويا للعجب فقد سحق ابنه الوحيد عوضًا عن الخاطئ. ثم يبدأ أيوب يثبت صعوبة أن يتبرر إنسان أمام الله. إن شاء أن يحاجه لا يجيبه عن واحد من ألف= الله يستطيع أن يوجه للإنسان 1000 سؤال مربك، أو ألف خطأ ارتكبه الإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يجاوب عن سؤال واحد. فالله في حكمته يستطيع بسهولة أن يعلن حمق وجهل كل مدعي للحكمة. ولن نستطيع أن نبرر أنفسنا عن أي خطأ ارتكبناه. من تصلب عليه فسلم= كل من تحدى الله وتقسَّى أمامه لم يسلم، بل كل قساوة أمام الله تدل على حماقة صاحبها. وهذا ما حدث مثلًا للشيطان. ولنلاحظ أن إبليس كان يمني نفسه أن يجدف أيوب على الله لكنه تكلم حسنًا عن الله وأظهر عظمته ومجده. ووصف أيوب الله بأنه حكيم القلب لذلك لا نقدر أن نجاوبه في المحاكمة. وأنه شديد القوة= فلا نقدر أن نقوَى أمامه. ودليل قوته. المزحزح الجبال ولا تعلم= لقد جعل جبل سيناء يرتعد (مز 8:68) وهذا يحدث من الزلازل والبراكين التي هي تحت سيطرة الله. ولا تعلم= أي ليس بإرادتها فالله هو الذي يزلزل الجبل وقتما يريد. بل ينقل الجبل إذا أراد (جبل المقطم ونقله) المزعزع الأرض من مقرها= الأرض مستقرة على محورها والله وحده قادر أن يزعزع استقرارها. فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا = هذا تصوير شعري يشير لأن الأرض مستقرة كأنها على أعمدة والله حين يزلزلها كأنه يزلزل أعمدتها. أما علميًّا وأن الأرض لا تستقر على أعمدة فهذا ذكر في أصحاح (أي 7:26) أن الله يعلق الأرض على لا شيء. وقد قيل هذا بفم أيوب أيضًا مما يثبت فكرة الخيال الشعري. الآمر الشمس فلا تشرق= الله يأمر الشمس فتشرق ويأمرها فتغرب، وهو خلقها في البدء وهو القادر أن يزيلها. "فالسماء والأرض تزولان" وراجع أيضًا (رؤ 1:21). وهو قادر أن يأمرها فلا تشرق، وهذا يحدث طبيعيًا في الكسوف، وحدث معجزيًا مع يشوع وأشعياء مع حزقيا وحينما صلب المسيح. فمع يشوع وقفت، ومع أشعياء تراجعت ويوم صليب المسيح توارت. ويختم على النجوم= في (أش 26:40) قيل يخرج بعدد جندها. كأن النجوم موضوعة في خزانة صباحًا ويخرجها الله مساءً بعددها لا ينقص منها واحدًا، وهو يختم عليها فلا يقدر أحد غيره أن يخرجها أو يدخلها، والمعنى أنها تحت سلطانه وحده. ولقد زلزل الله الأرض مرة أيام الطوفان فاندفع الماء يغمر الجبال لأن القشرة الأرضية هبطت بجبالها فارتفعت المياه حتى غطت الجبال. ولكثرة الأمطار الرهيبة اختفَى نور الشمس عن الأرض. الباسط السموات وحده= هو بسطها في البداية وما زال يحفظها مبسوطة كما هي. وجاءت كلمة الباسط في العبرية بمعنى المستمر في الإتساع. ونفس الكلمة إستخدمها داود (مز104: 2) وغيرهم. ووجد العلماء أن العالم يتسع فعلا وبمعدلات ملائمة لاستمرارية الحياة على الأرض. ووجدوا أنه لو زاد تسارع المعدل ولو بدرجة طفيفة خلال التاريخ لما تكونت النجوم المسئولة عن استمرارية الحياة على الأرض. وذلك لأن الجاذبية في هذه الحالة لن تكون قوية بدرجة كافية لاستقرار التربة والغازات فلا ينمو النبات. ولو قل معدل التسارع عما يحدث لحدث خلل أيضًا يؤدي لاستحالة الحياة على الأرض. هذا الإتساع المستمر في الكون هو المسئول عن استمرارية الحياة والخليقة.
وكانت أعين أيوب ورفاقه لا تستطيع في ذلك الوقت أن تلحظ أكثر من 7000 نجم في السماء. أما بعد التلسكوب الفضائي هابل قدروا عدد النجوم بحوالي 50 - 60 مليار تريليون نجم (المليار 1000 مليون والتريليون مليون مليون)، مقسمين على 200 مليار مجرة تتراوح بين الحجم المتوسط والحجم الكبير. وهذا ما تم التوصل إليه حتى الآن فما زال ضوء الكثير من النجوم يصل إلى الأرض حتى الآن. وما زال الكون يتسع.
الْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ = أي أن أمواج البحر العظيمة تحت سيطرة الله وهو يمنعها من أن تندفع لتغطي الأرض اليابسة. (وحين انتهر المسيح البحر الهائج سكن).
صانع النعش... = النعش والجبار والثريا هي مجموعات نجوم وأيوب ذكر ثلاثًا منها كمثال. والنعش غالبًا هو الدب القطبي الذي نحدد به الشمال الجغرافي.
مخادع الجنوب= هي مجموعة النجوم التي لا تُرَى إلا من نصف الكرة الجنوبي.
هوذا يمر عليَّ ولا أراه= الله يعمل في الخفاء وبكيفية لا تدرك، نحن نرى أعماله ولكننا لا نراه، ومن أعماله نرى بصيص من نور مجده غير المدرك (رو 19:1، 20).
حقا إن إدراكنا القاصر يعجز عن إدراك أعمال مشورته لكننا نلمس قدرته ومجده. والله سلطانه مطلق لا يمكن الاعتراض عليه= إذا خطف فمن يرده= فإذا انتزع الرب صحة إنسان أو ثروته أو أولاده لا يستطيع أحد أن يمنعه، بل هو يخطف حياة الإنسان نفسه ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل. وحقًا نحن الآن لن نفهم الحكمة في تصرفات الله. ولكن سيأتي الوقت الذي فيه نفهم أن ما اعترضنا عليه، أو رفضناه، أو حكمنا بأنه تم مصادفة، سنفهم أن كل شيء تم بحكمة لا نهائية.
الله لا يرد غضبه= الله يطلق غضبه ضد الأشرار المعاندين ولا أحد يستطيع أن يمنعه.
ينحني تحته أعوان رهب= رهب معناها الأصلي يعني الكبرياء. والكبرياء منسوبة لمصر وفي (اش 9:51) نفهم أن رهب هي التنين، وربما أطلق الاسم على التمساح أو (التنين). ولأن التمساح منسوب لمصر وأيضًا الكبرياء هي خطية مصر صار إسم رهب إشارة لمصر (أش 7:30). وربما الإشارة لأسطورة قديمة تتحدث عن إخماد ثورة في السماء قام بها الوحش البحري رهب وأعوانه، ثم سيطر عليهم الله وثبتهم في السماء على شكل مجموعة كواكب. فالذين يقاومون الله كثيرين لكن حين يريد الله فبسلطانه وقوته المطلقة يخضعهم. والله يقينًا يسحق كل من تجبر عليه وكل من يعين هذا المتمرد= أعوان رهب.
الآيات 14-21:- "كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ؟ لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ، بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي. لَوْ دَعَوْتُ فَاسْتَجَابَ لِي، لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي. ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ، وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ. لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي، وَلكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ. إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ، يَقُولُ: هأَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي، وَإِنْ كُنْتُ كَامِلًا يَسْتَذْنِبُنِي. «كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي."
نرى أيوب هنا يطبق على نفسه ما سبق أن قاله عن عجز الإنسان عجزًا مطلقًا عن أن يحاج الله. ونتيجة لهذا نراه ييأس من أن ينال رضاه، الأمر الذي نشأ من أرائه القاسية الظالمة عن الله، فالله في نظره إله جبار لا يقاومه أحد وهو لا يبرر إنسان. كم بالأقل أنا أجاوبه = إذا كان الله قادرًا أن يخضع رهب فكم بالأولى أنا أيوب الخليقة الضعيفة المسكينة. وأختار كلامي معه= هل أستطيع أنا أمام هذا الإله الجبار أن أقف لأدافع عن نفسي وأتخير الكلمات المناسبة، هل سيعطيني هذه الفرصة. لأني وإن تبررت لا أجاوب بل أسترحم دياني= حتى لو كنت بارًا ووقفت أمامه وشعرت بعظمته لن أستطيع أن أنطق بأنني بار بل سأطلب رحمته، فالله يرى حتى أخطائنا التي لا نراها. وهذه هي الطريقة التي ينبغي أن نقف بها أمام الله، مثل العشار. بل وصل أيوب لحالة يائسة تمامًا من استجابة الله لصلواته. لو دعوت فاستجاب لي لما آمنت بأنه سمع صوتي= أي لو قدمت تضرعاتي وأعطاني سؤل قلبي، فإنني لا أعتقد بأن صلواتي هي العلة في الاستجابة. فالله يأخذ (يخطف) حين يريد، ويعطي حين يريد وليس ذلك بسبب صلواتنا أو إرادتنا بل بحسب سلطانه المطلق الذي لا يناقشه فيه أحد. ثم يضع صورة لله أنه ظلمه بلا سبب فهو لا يشعر في داخله أنه خاطئ بل هو بار = ذاك الذي يسحقني بالعاصفة = قد تكون العاصفة التي هدم بها منزل أبنائه. أو عاصفة غضبه الذي ظهر في كل ما حدث. ويكثر جروحي بلا سبب. وجروحه هي الصدمات المتوالية التي أتت عليه = ولاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي هل لو كان الله كما صوره أيوب يسحق ولا يدعه يأخذ نفسه كان يستطيع أن يقول هذا الكلام عن الله دون أن يقتله؟! كثيرًا ما نظلم الله الحنون ثم يسترسل أيوب في تصوير قوة الله، وعجز أيوب عن الوقوف أمامه = إن كان من جهة قوة القوي يقول هأنذا = الله قوي ويقينًا لا أستطيع أن أقف أمام قوته ولا أمام قوة حجته= وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني= هنا يشير لله كحاكم أو قاضي مطلق وليس من يستطيع أن يقف أمامه فلا سلطة للاستئناف إن تبررت يحكم عليَّ فمي = في ترجمة أخرى "إن ظننت نفسي بريئًا، فإن فمي يحكم عليَّ" أي إذا حاولت أن أتكلم لأبرئ نفسي فمن المؤكد أنني سوف أخطئ فيحكم عليَّ الله. وهذا كلام صعب فنحن يجب أن نقف أمام الله شاعرين بأننا كلنا خطية وفي احتياج لأن يبررنا بدمه. وإن كنت كاملًا يستذنبني = أي لو قلت أنني كامل وبلا خطية فالله قادر أن يجد خطأ فيَّ ليستذبنني، كأن يجدني متكبرًا أو أكون قد فرطت بشفتيَّ بكلمة يمسكها عليَّ. ثم يصل أيوب لقمة غطرسته وكبريائه ويظهر بره الذاتي الذي يؤدبه الله عليه فيقول كامل أنا. أي مع كل ما قلته أن الله قادر أن يجد فيَّ خطأ إلا أنني في نظر نفسي فأنا كامل، لذلك لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي = أي أنا مستعد أن أدافع عن نفسي وعن كمالي وبراءتي حتى لو أدي هذا لأن يهلكني الله فإني رذلت حياتي بسبب ألامي وأصبح الأمر عندي سيان، أن أموت أو أن أحيا هكذا.
الآيات 22-24:- "هِيَ وَاحِدَةٌ. لِذلِكَ قُلْتُ: إِنَّ الْكَامِلَ وَالشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا. إِذَا قَتَلَ السَّوْطُ بَغْتَةً، يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ الأَبْرِيَاءِ. الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ. يُغَشِّي وُجُوهَ قُضَاتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَإِذًا مَنْ؟"
هنا يلمس أيوب نقطة الخلاف الأساسية مع أصدقائه الذين يصرون على أن الآلام لا تصيب إلا الشرير ليثبتوا أنه شرير. هو يريد أن يثبت بره. هم يريدون أن يثبتوا أن الأبرار والصالحين ينجحون دائمًا في هذا العالم، أما أيوب فيقول لا فإنه أمر عادي أن ينجح الأشرار ويُنكب الأبرار. هي واحدة لذلك قلت إن الكامل والشرير هو يفنيهما = ما قاله أيوب هنا هو صحيح إلى حد بعيد فالآلام تصيب الأبرار والأشرار. ولكن خطأ أيوب في قوله أن الله يفنيهما معًا. فالنار تصيب الآنية الذهبية فتنقيها وتصيب القش فتحرقه وتفنيه، لكن مفهوم أن الألم هو أداة تأديب وتنقية لمن يحبهم الله لم يكن واضحًا عند أيوب.
إذا قتل السوط بغتة يستهزئ بتجربة الأبرياء = السوط هو الألم الذي يسمح به الله، والألم إذا أتى يكتسح الكل أمامه حتى الأبرياء. وحين يرى آلام وصراخ الأبرياء لا يهتم بل يستهزئ بآلامهم. وهذا كلام صعب من أيوب ونحن قد رأينا المسيح يبكي على قبر لعازر وهو في كل ضيقنا تضايق ثم تألم هو، وشعر بآلامنا ليعين المجربين (عب 18:2). ولكن عندما تحتد الروح في المناقشة أو بسبب عدم الاقتناع، نكون في حاجة لكي نضع حارسًا على أبواب شفاهنا ونتحدث بوقار عن الله وعن الأمور السماوية.
فـ: الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ = ربما كان أيوب يستشهد بحادثة حوله كان فيها ملك شرير يحكم الأرض حوله ويظلم الناس. ولكن نجد هذا المفهوم صحيحًا إلى حد بعيد [(لو 6:4 + رو20:8) بل المسيح أطلق على الشيطان رئيس هذا العالم] ولذلك نجد في بعض الأحيان الأشرار ينجحون لأنهم خروا وسجدوا للشيطان: أعطيك كل هذه إن خررت وسجدت لي: "أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي" لكنها تضيع فجأة فلماذا؟ يقول المزمور "إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُ". فالشيطان قد يعطي لكنه لا يقدر أن يحفظ. ولنلاحظ أن الله سلم الأرض للشيطان ولكنه أي الله هو ضابط الكل. ومن يريد أن يعيش للأرض (الماديين والشهوانيين) سيكونوا تحت سلطان إبليس. أما من يريد أن يعيش في السماويات فلن يكون لإبليس سلطان عليه.
يغشي وجوه قضاتها= أعمَى عيون قضاتها. هنا يقصد أيوب أن القضاة الذين كان ينبغي عليهم أن يحكموا بالعدل فينصفوا المظلوم، كأن الله أعمَى عيونهم وأصبحوا لا يروا الحق. وأيوب ينسب هذا الظلم لله، أي أن الله هو الذي سلم الأرض ليد الأشرار وأعمَى عيون القضاة فصارت الأرض مملكة ظلم ثم يتمادى في رأيه الصعب القاسي قائلًا وإن لم يكن هو أي الله... فإذن من.
الآيات 25-35:- "أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ، تَفِرُّ وَلاَ تَرَى خَيْرًا. تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ الْبَرْدِيِّ. كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى قَنَصِهِ. إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي، أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَتَبَلَّجُ، أَخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي عَالِمًا أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي. أَنَا مُسْتَذْنَبٌ، فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثًا؟ وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ، وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالإِشْنَانِ، فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي. لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا. لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. إِذًا أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ، لأَنِّي لَسْتُ هكَذَا عِنْدَ نَفْسِي."
أيامي أسرع من عداء= كل أيامي الحلوة، أيام الرخاء ذهبت فجأة. تفر ولا ترَى خيرًا = "قد فَرَّت ولم تصب خيرًا" (الترجمة اليسوعية) لقد هربت منه أيام رخائه سريعًا ولم تترك له وراءها خيرًا. تمر مع سفن البردي أي مرت سريعة فقوارب البردي قوارب خفيفة وسريعة في النيل. ولنستفيد من هذا ونفهم أن حياتنا تجري سريعة "كبخار يظهر قليلًا ثم يضمحل".
إن قلت أنسَى كربتي (همومي وشكواي) أطلق وجهي وأتبلج (تبلج أي ضحك وهش) أي إذا حاولت أن أنسَى همومي وأضحك لا أستطيع لأنني أخاف من أوجاعي = أوجاعي أقوى من إرادتي في أن أنسَى. وما زاد آلامه فلم يستطع أن ينسَى كربته إنه كان يائسًا أن يخلصه الله من آلامه، أو يخففها عنه. واستمرار آلامه يثبت لأصحابه نظريتهم أنه شرير وهذا يؤلمه بالأكثر. ووصل في يأسه لأنه قال أنا مستذنب = أي أن الله أصدر قرارًا بأنني مذنب رغمًا من براءتي فلماذا أتعب عبثا= في محاولة تبرئة نفسي. ومهما حاولت أن أبرئ نفسي فلا فائدة، حتى ولو إغتسلت في الثلج= المقصود الماء الذي كان ثلجًا وذاب فهذا الماء هو أنقَى أنواع المياه فهو بلا شوائب. وغسل الأيدي علامة نقاوة القلب (كما فعل بيلاطس) = وحتى إن نَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالإِشْنَانِ. الأشنان تعني الصابون أو المطهر. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). فإنك في النقع تغمسني حتى تكرهني ثيابي = أي مهما حاولت أن أبرر نفسي أمامك فلا فائدة. ومعنى الآية = النقع= المستنقع وكله روائح كريهة وحين يغمس أحد ثيابه في النقع يعاف من أن يلبسها لرائحتها ونتانتها. إذًا حتى لو طهر أيوب نفسه باجتهاد فهو سيظل كريها نتنًا أمام الله، بل أمام الناس بل حتى أمام نفسه. وهذا صحيح جدًا فنحن خطاة بل بالخطايا ولدتنا أمنا. ومهما حاولنا أن نتبرر فلا فائدة، ولكن هناك طريق واحد للتبرير وهو دم المسيح الذي إذ نأتي إليه شاعرين بخطايانا كارهين أنفسنا معترفين أننا غير مستحقين يطهرنا دمه من كل خطية (1يو 9:1 + رؤ 14:7).
والآيات (32-33) رائعتان. وكأن أيوب فيها يشتاق للمسيح ابن الإنسان الوسيط بين الإنسان وبين الله (1تي 5:2). لقد كان أيوب يائسًا من أن يستمع إليه الله [وهذا صحيح فنحن غير مقبولين إلا بشفاعة دم المسيح]. وكان هذا قاسيًا على أيوب. وهو هنا يشتكي من أنه غير قادر على الحوار مع الله لأن الله ليس إنسانًا= ليس هو إنسانًا مثلي فأجاوبه= أي لو كان إنسانًا لتكلمت معه بلا خوف وشرحت له بري [والمسيح صار إنسانًا لنتكلم معه بلا خوف ولكن لا داعي لأن نبرر أنفسنا كما تصور أيوب، إنما جاء هو ليبررنا].
فنأتي جميعًا إلى المحاكمة = عمومًا فأيوب كان له على الله، أن الله ظلمه وهو يريد أن يذهب للمحاكمة ليثبت أنه بار ومظلوم. واشتكى أنه ليس وسيط. فكيف يتم الاتصال بين الله وإنسان [لذلك جاء المسيح كإله وإنسان معًا، فيه اجتمعت الطبيعتان في طبيعة واحدة] والمسيح يضع يده على كلينا على الطبيعة اللاهوتية وعلى الطبيعة البشرية التي أخذها منا ليصالحنا على الله. هنا أيوب يشتاق لوجود مصالح بينه وبين الله، بروح النبوة اشتاق للمسيح.
فنأتي جميعًا إلى المحاكمة = حسنًا قال داود: وتتبرر إذا حوكمت: "لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ"، فمن يجسر أن يوجه لله اتهامًا في الدينونة أن الله قد ظلمه، سيظهر له الله كم خطاياه وعدد الفرص التي لا تحصى التي منحه إياها الله ليتوب وكم وكم فعل معه الله وهو الذي رفض.
ليرفع عني عصاه = لو وجد هذا المصالح لانتهى غضب الله علينا وترفع العصا.
ولا يبغتني رعبه = بالمسيح رأينا وجه الله الراضي المحب بعد أن زال غضبه.
إذاً أتكلم ولا أخافه = هل كان أحد يخاف من المسيح المحب حين كان يكلمه.
لأني لست هكذا عند نفسي = لم تنقشع سحب غضب الله عني وما زال غضب الله متشبثا بي ولست أدري ماذا أفعل... هكذا كان إنسان العهد القديم قبل المسيح.
← تفاسير أصحاحات أيوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أيوب 10 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنطونيوس فكري |
تفسير أيوب 8 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/am9z2tb