محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
يوحنا: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36 - 37 - 38 - 39 - 40 - 41 - 42 - 43 - 44 - 45 - 46 - 47 - 48 - 49 - 50 - 51 - 52 - 53
تأخر السيد المسيح عن الذهاب إلى أورشليم إذ كان اليهود يريدون قتله، وقد طلب أقرباؤه منه أن يصنع آيات للعرض أما هو فانتهرهم. وفي الوقت المناسب صعد إلى أورشليم في العيد ليعلن عن حلول الروح القدس واهب الارتواء والفرح.
اعتاد اليهود أن يتركوا بيوتهم في عيد المظال ويقيموا في مظال مؤقتة لمدة أسبوع ليتذكروا أنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.
خلال السبعة أيام الأولى للعيد كانوا يحضرون ماء من بركة سلوام في إناء ذهبي ويسكبه رئيس الكهنة أمام الشعب، ليعلن أن من كان عطشانًا فليقترب ويشرب. كان ذلك إشارة إلى الصخرة التي كانت تفيض ماء على الشعب في البرية. وفي اليوم الثامن لا يحضر ماء من البركة إشارة إلى أن الشعب يشرب من ينابيع كنعان وليس من مياه البرية. في هذا اليوم وقف السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا ليقدم نفسه ينبوع مياه يفيض بالمياه الحية في أعماق نفوس المؤمنين، سائلًا إياهم أن يشربوا بفرحٍ من آبار الخلاص (إش 3:12؛ زك 8:14؛ يوئيل 28:2-32).
1. |
|||
2 - 13. |
|||
14 - 18. |
|||
19 - 24. |
|||
25 - 36. |
|||
37 - 48. |
|||
49 - 53. |
|||
وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هذَا فِي الْجَلِيلِ،
لأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْيَهُودِيَّةِ
لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ. [1]
أثار شفاء المفلوج في يوم السبت هياج القيادات الدينية (يو 5: 16) فأرادوا قتله، إما بإثارة الشعب ضده أو إصدار حكم قضائي ضده. لذلك مال السيد المسيح إلى عدم الظهور علانية في أورشليم، مفضلًا التردد سيرًا على قدميه في الجليل. لم يكن هذا عن خوف من الموت، لأنه جاء ليموت عن البشرية، وإنما في حكمة حتى تحين الساعة.
استخدم الإنجيلي تعبير "يسير" والذي ترجم في العربية "يتردد"، ليقدم لنا فكرة عن الحياة التي عاشها السيد المسيح أثناء خدمته. كان لا يعرف موضعا يستقر فيه في الخدمة، فقد كان قبلًا يتردد في اليهودية، يسير من بلد إلى بلد قبل مجيئه إلى الجليل، وهذه الفترة تمثل الجزء الأول من خدمته التي لم يشر إليها الإنجيليون الإزائيون الثلاثة. وسافر إلى الجليل سيرًا على قدميه دون أن يمتطي فرسًا أو حتى حمارًا. فكان ومن معه يسيرون معا من موضع إلى آخر، وحيثما حل يصنع خيرات.
يقدم لنا السيد المسيح درسًا عمليًا في الانسحاب من الخطر، ليس خوفًا وإنما من أجل الخدمة، كما أوصى تلاميذه بذلك (مت 10: 23). أما إذ دُعينا للشهادة من أجل اسمه ولم يكن يوجد مجال لترك الموضع فنحسب أنفسنا غير أهلٍ لبذل نفوسنا لأجل اسمه.
يعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية، بأنه "بعد هذا"، أي بعد كل هذه الكلمات والأفعال التي صنعها يسوع صار يتردد بالأكثر في الجليل بكل سرور ولم يرد أن يتردد في اليهودية. لأن وجوده بين الجليليين (الأمم) ظهر أنه أفضل كثيرًا من الحياة مع إسرائيل، كما جاء في إرميا: "قد تركت بيتي، رفضت ميراثي، دفعت نفسي الحبيبة إلى أعدائي" (إر 12: 7) LXX. يرى في طقس ذبيحة المحرقة حيث يُذبح الحمل ليس أمام المذبح على جانب الشمال (لا 1: 10، 11)، وإنما كان المذبح متجها نحو الشرق، فيكون الحمل نحو اتجاه الجليل، كنيسة الأمم، إذ "عيناه تراقبان الأمم" (مز 66: 7).
وإن وجد ترحابا في الجليل لكن الصليب كان يلاحقه أينما وجد، سواء في اليهودية أو الجليل أو في العاصمة أورشليم. ففي اليهودية كانوا يطلبون أن يقتلوه" [1]. وفي الجليل مع كثرة معجزاته تركه أيضًا كثير من تلاميذه ولم يعودوا يسيروا معه. أما في أورشليم فقد كان الشغل الشاغل للقيادات الدينية هو الخلاص منه بأية وسيلة. لم يبالوا بحفظ الناموس بل طلبوا قتله (يو 7: 19)، وأرسل مجلس السنهدرين خدامًا ليمسكوه (يو7: 32)، وقد بثوا روح الرعب حتى لم يكن أحد يتكلم عنه جهارا لسبب الخوف من اليهود (يو 7: 13)، هذا وقد رفعوا حجارة ليرجموه (يو 8: 50).
حقا لم يكن مندفعًا نحو الثائرين ضده، لكنه لم يتخلَ قيد أنملة عن رسالته وعمله الخلاصي، وإن كانت تكلفته عار الصليب.
قدم لنا الأصحاحان 7، 8 صورة حيَّة عن مدى العداوة والحقد والضغينة التي كانت في قلوب القيادات اليهودية الدينية ضد شخص يسوع المسيح، ففي نظرهم شوه صورة المسيا المنتظر. أرادوا المسيا الذي حسب هواهم البشري، وليس حسب خطة الله الفائقة.
* كان شعب إسرائيل يمارس كراهية شديدة ضده، فكان في حالٍ أفضل وهو يعيش وسط أعدائه. جعل إقامته مع الذين أظهروا نحوه لطفًا أكثر مما وجده وسط أقربائه حسب الجسد، الذين كان يليق بهم أن يحبوه...
لا نحسب انسحاب المسيح ضربًا من ضروب الجبن، ولا نتهمه بالضعف، فهو القدير في كل شيء، وإنما نقبل هذا من قبيل التدبير الإلهي، لأنه يليق به أن يحتمل الصليب لأجل الجميع في حينه وليس قبل الأوان.
* ليس داء أشر من الحسد والحقد فعلى أساسه دخل الموت إلى العالم (حك 2: 24)، لأن إبليس لما أبصر الإنسان مكرمًا لم يحتمل حُسن حاله، فعمل كل ما أمكنه حتى قتله. وبالحسد ذُبح هابيل، وقارب داود أن يُقتل، وقُتل آخرون كثيرون من ذوي البر، وصار اليهود قتلة المسيح.
* قدم مثالًا لضعفنا. إنه لم يفقد قوته، لكنه يقدم راحة لضعفنا(754).
2 وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ، قَرِيبًا. 3 فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: «انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تَلاَمِيذُكَ أَيْضًا أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، 4 لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلاَنِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ». 5 لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ. 6 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ. 7 لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ. 8 اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ». 9 قَالَ لَهُمْ هذَا وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ. 10 وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الْعِيدِ، لاَ ظَاهِرًا بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ. 11 فَكَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي الْعِيدِ، وَيَقُولُونَ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» 12 وَكَانَ فِي الْجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّهُ صَالِحٌ». وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: «لاَ، بَلْ يُضِلُّ الشَّعْبَ». 13 وَلكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ جِهَارًا لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ.
"وكان عيد اليهود عيد المظال قريبًا". [2]
عيد المظال: يحتفل في 15 تشري Tisri، أو تشرين الأول أو ليثام، ما بين النصف الأخير من سبتمبر والأول من أكتوبر، وهو الشهر السابع من السنة الدينية والأول من المدنية. أخذ العيد اسمه من المظال التي كانت تُقام بجوار الهيكل وفي الأماكن العامة والميادين وأسطح البيوت والحدائق حيث يسكن فيها اليهود لمدة 8 أيام تذكارًا للأربعين عامًا التي عاشها آباؤهم في البرية. وهو أحد الأعياد الثلاثة الكبار التي كان يلتزم كل الرجال أن يصعدوا إلى أورشليم حسب الشريعة.
أهم سمات هذا العيد هو الفرح الشديد، والسكنى في المظال، وطقسه الفريد، الذي تميز بظاهرتين متكاملتين هما سكب الماء والإنارة. اعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيومٍ، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر ليشترك في عيد الكفارة، ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال فيه.
من جهة سكب الماء يذكر التلمود أنه ابتداء من اليوم الأول ولمدة سبعة أيام يخرج في الفجر موكبان عظيمان، أحدهما يتوجه لجمع أغصان الزيتون وسعف النخيل والأشجار الأخرى كالصفصاف والآس، ويربطونها معًا بخيوطٍ ذهبية أو فضية أو أشرطة. كانوا يحملونها طوال النهار ويأخذونها في المجامع، ويمسكون بها أثناء الصلوات. وفي الأيام التالية يحملونها معهم إلى الهيكل، ويسيرون بها حول المذبح، وهم يسبحون: "أوصنا، نطلب إليك خلصنا!" تُضرب الأبواق من كل جانب. ولعل القديس يوحنا كان يشير إلى هذا العيد وهو يتحدث عن نفوس الشهداء في الفردوس التي تحت المذبح (رؤ 6: 9) وقد أُعطيت سعف النخيل وهي تسبح: الخلاص لإلهنا...
أما ما يحسبه اليهود أكثر طقوس هذا العيد فرحًا فهوأن يتوجه الموكب الثاني إلى بركة سلوام ومعه رئيس الكهنة يحمل إبريقًا ذهبيًا ليغرف فيه الماء من البركة ويملأ الإبريق حيث يأتي به إلى الهيكل.
وكانت جماعات المرتلين ترافق الموكبين، ليعود الموكبان بين الهتافات والتسابيح المقتبسة بعضها من إشعياء 12 "هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (إش 12: 2-3). وقد اقتبست الكنيسة القبطية هذا النشيد "قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لي خلاصا" لتترنم به في أسبوع البصخة باعتبار أن السيد المسيح قد أُخرج خارج المحلة، خارج أورشليم، ليقدم ذبيحة فصح لخلاص العالم. وكما يقول الرسول بولس: "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب؛ فلنخرج إذا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 12-13). هذا الخروج تحدث عنه موسى وإيليا مع يسوع المسيح عند تجليه على جبل تابور (لو 9: 30 إلخ). هكذا ارتبط الصليب بعيد المظال حيث يخرج الكل من بيوتهم ويعيشون في المظال الزمنية استعدادا للدخول إلى الأحضان الإلهية أبديًا.
يصل الموكبان إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلة جميلة على المذبح بينما يستقبل الكهنة رئيس الكهنة الذي يحمل الإبريق الذهبي بالنفخ ثلاثة في الأبواق. يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل إبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسين من الذهب مثقوبين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح، وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام في أيام العيد تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي وشرب آبائهم منها، متذكرين كلمات إشعياء النبي: "أيها الجياع جميعًا هلموا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا"، "فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص" (أش 1:55؛ 3:12).
كان الصدوقيون يرون الاقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام 95 ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدوقيين قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح فثار ضده الفريسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدوقيين والفريسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قتل أكثر من ستة آلاف شخص.
على أي الأحوال إذ كان الماء والخمر يسكبان على المذبح تعزف موسيقى الهيكل وترنم مزامير الهليل (مز 113-118). وكانوا عندما يأتون إلى المقاطع التالية: "احمدوا الرب لأنه صالح"، "يا رب أنقذ"، "احمدوا الرب" (مز 1:118، 25، 29)، يلوح المتعبدون بالأغصان حول المذبح.
هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء أن اليوم الثاني من العيد كان يسمى "الاحتفال الأصغر" يقام فيه احتفالات مسائية مبهجة مع بقية الأيام تسمى "فرح مجاري المياه". وقد جاء في التلمود بكل وضوح: "لماذا دعي اسمه "مجاري المياه"؟ من أجل تدفق الروح القدس حسب ما قيل: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص.
في اليوم السابع يطوفون حول المذبح سبعة مرات، ويسمى هذا الموكب "أوصنا العظيمةHosanna rabba ".
في هذا العيد كانت تُقدم ذبائح كثيرة. ففي اليوم الأول يقدمون بجانب الذبائح العادية ذبيحة محرقة، 13 ثورًا وكبشين و14 حملًا مع تقدمات من دقيق وسكب الخمر. كما يقدمون ماعزًا ذبيحة خطية. وفي الأيام التالية يقدمون نفس الذبائح مع إلغاء ثورٍ واحدٍ كل يوم حتى متى جاء اليوم السابع يُقدم فقط سبعة ثيران. وفي اليوم الثامن الذي يحسب قمة الفرح في هذا العيد يقدمون ثورًا واحدًا وكبشًا واحدًا وسبعة حملان ذبيحة محرقة، وماعزًا واحدًا ذبيحة خطية مع التقدمات المعتادة وسكب الخمر. وفي هذا اليوم أيضًا يقدمون في الهيكل بكور محاصيلهم الأخيرة أو تلك التي نضجت مؤخرًا.
أوصى موسى بالاحتفال بالعيد لمدة 8 أيام، لكن اليهود أضافوا يومًا تاسعًا، دعوه "فرح الشريعة" حيث يتممون قراءه أسفار موسى الخمسة.
ورد تأسيس هذا العيد في (لاويين 23: 34)، وحدث تجديد له بعد عدم ممارسته مدة طويلة (نح 8: 14).
انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية،
لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل". [3]
اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو الأقرباء من ذات الأسرة إخوة، لذلك فإن كلمة "إخوته" غالبًا ما يُقصد بها أقرباء السيد المسيح حسب الجسد أيا كانت القرابة. هؤلاء بدافع حب الظهور والكرامة طالبوه بالصعود إلى أورشليم لهدفين: الأول لكي يسند التلاميذ الذين رافقوه أكثر من سنتين في الخدمة، فيروا مجده في وسط أورشليم أثناء الاحتفال بالعيد، والثاني لكي يؤسس مملكته في العاصمة. هذا ولعل إخوته هؤلاء إذ لم يكونوا بعد يؤمنون به - كما علق الإنجيلي نفسه - طلبوا هذا ليس عن إخلاص له، بل بنية غير سليمة. فمن جهة أرادوا أن يقدموا له مشورة كمن هو غير قادر حتى على قيادة نفسه بل في حاجة إلى من يقوده. ومن جهة أخرى لم يكن يشغلهم سلامه لأنهم يعلمون مدى خطورة ظهوره في أورشليم وسط القيادات المشحونة نفوسهم بالحقد نحوه.
ويرى البعض أنهم طالبوه بهذا لكي إذا ما صنع آيات وعجائب يفحصها الفريسيون والقادة يكتشفون عن ما تحمله هذه الأعمال من خداع، وبهذا يبرر الأقرباء عدم إيمانهم به.
"لأنه ليس أحد يعمل شيئًا في الخفاء،
وهو
يريد أن يكون علانية.
إن كنت تعمل هذه الأشياء،
فاظهر نفسك للعالم". [4]
لقد ظنوا أن ربنا يسوع يشاركهم نفس مشاعرهم وأفكارهم، فيصنع الآيات لكي يظهرها للناس، وليس بدافع الحب للغير. لهذا قدموا له نصيحة لكي ينتهز كل فرصة لتحقيق هذا الهدف، فلا يضيع وقته في صنع العجائب في الجليل، في المدن والقرى بين أناسٍ جهلاء لا يمكن أن يسندوه. لكنه يصنعها في العاصمة ليقيم لنفسه شعبية من أشخاص لهم وزنهم في المجتمع، ولكي ينتشر خبره في كل الأمة حيث يقدم إلى العيد رجال من كل بلد. كأنهم يقولون له: "إن كنت في طريقك أن تكون المسيا فلتصعد إلى العاصمة وتعلن عن نفسك، فإنك لن تستطيع أن تكون مسيا إسرائيل وأنت مقيم في القرى والمدن الصغيرة بعيدًا عن مراكز التجمع الشعبية والقيادية".
"لأن إخوته أيضًا لم يكونوا يؤمنون به". [5]
لم يؤمنوا به أنه المسيا المنتظر الموعود به، ربما ظنوا أنه قائد له تقديره أو نبي. فإنه لو كان المسيا مخلص إسرائيل كان يلزم أن يعلن عن نفسه للعالم كله.
لم يكن أقرباؤه يؤمنون به، لكنهم طلبوا إبراز أعماله المعجزية علانية من أجل إعجاب الناظرين. لم يتكلموا بحكمة لأجل خلاص نفوسهم وخلاص اخوتهم. جاء في إرميا النبي: "لأن اخوتك وبيت أبيك هم أيضًا يزدرون بك، ويصرخون، ومن بين أتباعك، قد اجتمعوا معًا، فلا تصدقهم، إن هم تكلموا عليك بالخير" (إر 12: 6) LXX.
* تبدو كلماتهم صادرة عن أحباء، لكنها كانت صادرة عن خبثاء. فإنهم يتهمونه بالجبن هنا مع محبة المجد الباطل. فالقول: "ليس أحد يعمل شيئًا في الخفاء" هو تعبير يوجه لأشخاص يتسمون بالجبن، ومن يتشككون في الأعمال التي يمارسونها أنها ليست حقيقية. وبإضافة: "وهو يريد أن يكون علانية" يتهمونه بالمجد الباطل(755).
* إذ كانوا لم يؤمنوا به فكلماتهم كانت بدافع الحسد(756).
* لماذا لم يؤمنوا به؟ لأنهم طلبوا مجدًا بشريًا. فقد تظاهر إخوته وهم ينصحونه أنهم يشيرون عليه من أجل مجده... كانوا يتحدثون بحكمة الجسد مع الكلمة الذي صار جسدًا وحلّ بيننا(757).
إن وقتي لم يحضر بعد،
وأما وقتكم ففي كل حين حاضر". [6]
جاءت إجابة السيد المسيح في دفاعه عن أسلوب اختفائه في الجليل كل هذه المدة هي أنه لا يريد أن يسبق الأحداث، فإن وقته لم يحضر بعد. فإنه لا يريد أن يذهب إلى أورشليم فيثير الرؤساء في أورشليم حتى يحين وقت آلامه حسب خطته الإلهية التي دبرها. هذا وقد أوضح لهم أنه لا يذهب لاستعراض أعمال معجزيه، ولا لكسب شعبية، ولا لإظهار نفسه للعالم، وإنما يذهب ليحقق خطة الخلاص. هم يستطيعون أن يذهبوا إلى أورشليم كزائرين، أما هو فيذهب هذه المرة لكي يُفحص ويُقدم ذبيحة فصح، إذ هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
لم يحن بعد وقت آلامه، لأن هذا العمل الخلاصي يتحقق حسب خطته الإلهية، أما بالنسبة لهم فهم كأصدقاء للعالم لا يجابهون خطرًا، بل يذهبون أينما أرادوا. أيضًا وقت صعوده إلى العيد لم يحن بعد، لأن له خطة خاصة في صعوده، أما بالنسبة لهم فيمكنهم الذهاب إلى العيد في أي وقت. هنا يفضح نيات إخوته بطريقة غير مباشرة، دون أن يحرج مشاعرهم. فإذ كانت نياتهم شريرة وخبيثة فالعالم الخبيث بشره لا يبغضهم، لأن أعمالهم متناغمة مع فكر العالم. أما هو فلن يهادن العالم، فالعالم لا يطيقه.
* دائمًا وقتكم حاضر حيث تكونون بلا خطر، أما وقتي حيث حلَّ زمن الصليب يلزمني أن أموت. وإذ كان المعنى هكذا أظهره بقوله بعد ذلك: "لا يقدر العالم أن يبغضكم" (758).
* من يتمتع بالشركة مع السيد المسيح يلزمه أن يسلك بلياقةٍ وتدبيرٍ، فيعرف أن لكل عمل وقته المعين أو ملء زمانه، أما الذين يسلكون في استهتار وتسيب، فيعيشون كما يحلو لهم، كل الأوقات تناسبهم دون التزام. لم يحن الوقت بعد لدعاية بلا قيود، ولا للإعلان المكشوف للجميع، إذ لا يزال عقل اليهود غير ناضج بعد للفهم، حتى يستطيعوا قبول كلماتي دون ثورة أو غضب. ليست الفرصة سانحة بعد لدعوتي الآن أن أكون معروفًا للعالم... أما هم فزمانهم حاضر ومهيأ دائمًا... يفعلون حسبما يرتبون وليس من ضرورة تعوقهم أو تدعو لتدبير ملائم يرشدهم إلى عمل شيء أو الامتناع عنه، كما كان الحال بالنسبة للمسيح.
* انظر كيف أجابهم المسيح ألطف جواب، لأنه لم يقل لهم: "ومن أنتم إذ تشيرون عليّ بهذه المشورات وتعلمونني"، لكنه قال: "إن وقتي لم يحضر بعد".
* قدموا له مشورة أن يسعى نحو المجد، كمن ينصحونه بطريقةٍ عالمية، وبتدبيرٍ أرضيٍ، حتى لا يكون غير معروف بل يصير مشهورًا، ولكي لا يخفى نفسه في غموض.
هكذا أجاب الرب على الذين قدموا له مشورة خاصة بالمجد: "إن وقتي لم يحضر بعد"، أي وقت مجدي لم يحضر بعد.
يا لعمق هذه الإجابة!
هم نصحوه للمجد، وهو أراد المجد الذي يسبقه التواضع، أراد أن يهيئ الطريق للمجد ذاته بالتواضع، فإن هؤلاء التلاميذ أيضًا كانوا حتمًا يطلبون مجدًا ليجلسوا الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. فكروا فقط في الغاية، ولم يروا ما هو الطريق الذي يلزم بلوغه.
استدعاهم الرب إلى الطريق حتى يبلغوا به إلى وطنهم في تدبير لائق. فالوطن في العلا، والطريق أسفل على تلك الأرض هي حياة المسيح، أي هو موت المسيح.
تلك الأرض هي سكنى المسيح، والطريق هو آلام المسيح. من يرفض الطريق، لماذا يطلب الوطن؟ في اختصار قدم الإجابة التالية لمن يطلبون أيضًا المجد: "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟" (مت 20: 22). انظروا الطريق الذي يلزمكم به أن تبلغوا الأعالي التي ترغبونها. الكأس التي أشار إليها هي بالحق هذه الخاصة بتواضعه وآلامه(759).
* لنكن مستقيمي القلب، فإن وقت مجدنا لم يأتِ بعد. لنقل لمحبي هذا العالم كما قيل لإخوة الرب: "وقتكم في كل حين حاضر" [6]... لنتجاسر ونقول هذا. فإننا إذ نحن جسد ربنا يسوع المسيح، مادمنا أعضاءه، مادمنا نعرف بفرح رأسنا، لنقل هذا بغير تردد، ما دام قد تنازل هو وقال هذا من أجلنا.
وعندما يشتمنا محبو هذا العالم فلنقل لهم: "وقتكم في كل حين حاضر، أما وقتنا نحن فلم يحضر بعد". إذ يقول لنا الرسول: "لأنكم قد متُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في اللَّه".
متى يحضر وقتنا؟ يقول: "متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 3-4)(760).
ولكنه يبغضني أنا،
لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة". [7]
لا تقدر القيادات اليهودية أن تضطهدكم، لأنكم تحملون ذات أفكارهم، حيث تطلبون مسيا زمنيًا، يقيم نفسه ملكًا أرضيًا. إنكم أبناء العالم وخدامه، لا يشغلكم أمر سوى الأرضيات، والعالم حتمًا يحب من له. أما أنا فإذ أدين الفساد والخطية فإن العالم يبغضني.
لم يرد السيد المسيح أن يصعد إلى العيد مع أقربائه، لئلا تحت دعوى الحاجة إلى إظهار المسيح يستخدمون الدعايات، بينما قيل عن السيد المسيح أنه لا يصيح ولا يسمع أحد صوته (إش 42: 2).
* العقل الساقط تحت أسر الملذات الرديئة يغضب تمامُا من النصح الذي يحثه على الرزانة اللازمة.
* "لا يقدر العالم أن يبغضكم" [7]. ما هذا إلا أن العالم لا يقدر أن يبغض محبيه، شهود الزور؟ لأنهم يدعون الأمور الشريرة صالحة، والصالحة شريرة. "ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد" [7-8]. ماذا يعني "هذا"؟ حيث تطلبون المجد البشري... حيث يرغبون في المبالغة في الأفراح الجسدية ولا تتأملون في الأفراح الأبدية (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى)... في يوم العيد هنا تطلبون مجدًا بشريًا، أما وقتي، أي وقته مجدي، فلم يأتِ بعد. هذا سيكون يوم عيدي، لا يسبق هذه الأيام ويتخطّاها بل يبقى أبديًا، سيكون ابتهاجًا وفرحًا بلا نهاية، يكون أبديّا لا ينتهي، هادئًا بلا سحاب(761).
* "أنا لست أصعد إلى يوم العيد هذا" [8]. لأن رغبته ليست في المجد الزمني، بل أن يعلمهم شيئًا ينتفعون به، أن يصلح البشر ويحثهم على العيد الأبدي، لكي يحول حبهم لهذا العالم إلى حب للَّه(762).
أنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد،
لأن وقتي لم يكمل بعد". [8]
يرى القديس كيرلس الكبير أن إخوته أو أقرباءه هنا يمثلون الشعب اليهودي ككل بكونهم إخوة السيد المسيح، إذ هم خاصته. وقد طلب منهم أن يصعدوا ليحتفلوا بالرمز إذ لا يزالوا يحبون الظلال، أما هو فمسرته ليست في الرموز والظلال بل في الحقيقة، حيث يحل الوقت اللائق، ويأتي ملء الزمان ليقدم نفسه عيدًا حقيقيًا.
* يقول الرب هنا بوضوح إنه لن يعَّيد مع اليهود أو يذهب معهم ليشاركهم فرحهم في الظلال. لأن ما قيل عن قليلين يمتد في معناه على كل جنس إسرائيل... فإن كل جموع اليهود يحسبون رمزيًا اخوته. لذلك يمتنع عن حضور العيد معهم، حسبما قيل بأحد الأنبياء القديسين: "بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا التفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع" (عا 5: 21-23). كما يقول المخلص نفسه: "لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 24).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفمإنه قال بأنه لا يذهب إلى العيد في تلك اللحظات (الآن)، أي يذهب معهم(763). لم يرد أن يذهب معهم في ذلك الوقت لكي يصلب إذ لم تكن ساعة الصلب قد حلت.
"قال لهم هذا ومكث في الجليل". [9]
* بيّن من هذه الأقوال أنه ليس محتاجًا إليهم ولا يريد أن يتملقهم، لكنه أطلق لهم أن يعملوا الفرائض اليهودية.
* يمكث المسيح فرحًا في الجليل، مبتعدًا عن اليهودية، حيث يقيم في سلامٍ أكثر وأمان... يظهر كلًا من حبه الحقيقي لهم ورفضه لسكان اليهودية... لقد جعل كنيسة الأمم مستحقة فعلًا للمحبة الإلهية... يُظهر جمال كنيسة الأمم، أحبها وذهب إليها كما إلى عروسٍ في خدرها.
حينئذ صعد هو أيضًا إلى العيد،
لا ظاهرًا بل كأنه في الخفاء". [10]
لقد رفض الذهاب مع أقربائه لأنهم طلبوا هذا ليس من أجل النفع الروحي، وإنما من أجل نوال كرامات بسبب المعجزات.
عالج القديس أغسطينوس ما يُثار من البعض، لأن السيد المسيح قال لإخوته أنه لا يصعد إلى العيد وتركهم يذهبون دونه إلى أورشليم، لكنه عاد فذهب. يوضح القديس بأن السيد لم يقل أنه لا يصعد إلى العيد وإنما "اليوم". لما كان العيد يحتفل به إلى أيامٍ كثيرةٍ، بقى في الجليل ذلك اليوم ثم صعد إلى أورشليم بعد ذلك. أما غاية ذلك فهو أن إخوته لم يطلبوا أن يذهب معهم في صحبة مشتركة، بل أن يصعد هو أولًا. لكنه كما يقول القديس ظهر كإنسانٍ ضعيفٍ يهرب من المقاومين كما هرب إلى مصر من وجه هيرودس. هكذا تركهم يصعدون إلى أورشليم، وبعد ذلك صعد هو في يومٍ تالٍ. يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح صعد في منتصف العيد بعد أيام كثيرة(764).
قول السيد المسيح "بعد" يشير إلى رفضه الصعود معهم في تلك اللحظات، وليس الرفض النهائي للصعود للعيد. واضح أن السيد المسيح بحديثه معهم يفصل بين فكرهم في الصعود للعيد وفكره هو. فهم يذهبون للمشاركة الشكلية في أفراح العيد والالتقاء مع الأقرباء والأصدقاء، وقد وجدوا في العيد مجالًا خصبًا لصعود السيد كي يبرز أعماله للشعب. أما هو فيصعد إلى العيد لتقديم نفسه ذبيحة فصح عن العالم. لهذا أراد أن يصعد بمفرده ليعزل مفاهيمهم عن مفاهيمه.
هذا وصعودهم كجماعة يكون علنيًا يرافقه التسابيح مع الزمر وأغصان النخيل، أما هو فيصعد كمن في الخفاء ليحقق رسالة مستترة لم يكن العالم قادرًا أن يدركها.
أخيرا فقد صعدوا هم إلى أورشليم مباشرة، أما هو فقد انتقل إلى الجليل وجاء إلى تخوم الهيودية من عبر الأردن (مت 19: 1؛ مر 10:1)، وفي نهاية رحلته ذهب إلى قرية ببت عنيا بجوار أورشليم لزيارة لعازر وأختيه (لو 10: 38-39)، ومن هناك دخل أورشليم في منتصف العيد. هكذا كان خط سيره مختلفًا تمامًا عن خط سير أقربائه.
* لم يقل "في الخفاء" بل "كأنه في الخفاء". فإنه بهذه الطريقة أراد أن يستخدم هذا لتعليمنا كيف ندبر الأمور(765).
* لكي تعرفوا الله العظيم، الواهب الحياة، ابن الله القدير أضاف برهانًا لجلاله بقوله: "وكل مالي هو لك، وما لك هو لي" [10](766)
"فكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون:
أين ذاك". [11]
يرى البعض أنه يقصد هنا جمهور اليهود أو الشعب، فقد كان موضوع اشتياقهم أن يروا ذاك الذي يصنع عجائب فريدة. كان موضوع حديثهم وإن كانوا قد انشقوا إلى فريقين من جهة نظرتهم إليه. أما الرأي السائد بين آباء الكنيسة الأولى والدارسين المعاصرين فان كلمة "اليهود" هنا كما في أغلب هذا السفر يعني بها الإنجيلي القيادات من رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين، هذه التي اشتاقت أن تتخلص منه، كما اشتاق شاول الملك أن يقتل داود في الشهر الجديد (1 صم 20: 27).
حتى الذين أُعجبوا بشخص السيد المسيح وأعماله لم يستطيعوا أن يدركوا حقيقته، إذ ظنوه رجلًا صالحًا مجردًا، ولم يدركوا أنه ابن الله. إلى الآن كثير من غير المؤمنين يتطلعون إليه كقائدٍ صالحٍ فريدٍ، لكنهم لا يقدرون على التعرف عليه.
طلبوه ليس لأجل الإيمان به والنفع الروحي، وإنما لكي يقذفوه بالشتائم. وكما يقول القديس كيرلس السكندري: [لم يأبوا أن يقولوا أين ذاك الإنسان؟ لأن تعبير ذاك الإنسان يُقال عمن هو مرفوض.]
* قول اليهود عن المسيح "أين ذاك؟"، فمن بغضهم الشديد له وعداوتهم لم يريدوا أن يذكروا اسمه.
"وكان في الجموع مناجاة كثيرة من نحوه،
بعضهم يقولون: إنه صالح،
وآخرون يقولون: لا بل يضل الشعب". [12]
الكلمة اليونانية المترجمة هنا "مناجاة" تعني تذمرًا، وقد جاءت باللاتينية murmur. يقول القديس أغسطينوس أنه حدث تذمر ونزاع من نحوه. فإننا نعيش في هذا العالم كما في فصل الشتاء، فيرى البعض في بعض أنواع أشجار الفاكهة أنها ميتة، ولا يدركون أنها حيّة إلا في الصيف حيث يحل وقت الدينونة. [صيفنا هو ظهور المسيح، "سيأتي اللَّه إلهنا ولا يصمت" (مز50: 3). "النار أمامه"، هذه النار التي "تحرق أعداءه" (مز92: 3)، تمسك بالأشجار الجافة التي يُقال لها: "كنت جائعًا فلم تطعمونني". بينما على الجانب الآخر، على اليمين، يُرى فيض من الثمر، وكثرة من الأوراق تبقى خضراء أبديًا(767).
* في رأيي أن أصحاب الرأي الأول هم الكثيرون، والثاني هو رأي القادة والكهنة، فإن هذا الافتراء ضده يناسب حقدهم وشرهم(768).
* دعهم يقولون عنك، إن كنت ناميًا في المسيح، "إنه يضل الشعب". هذا قيل عن المسيح نفسه، ويُقال عن جسد المسيح كله. لتفكر في أن جسد المسيح لا يزال في العالم، لتفكر أنه لا يزال في حقل الدراسة، كيف يُجدف عليه من التبن. يُدرس التبن والقمح معًا، لكن التبن يُحرق والقمح يُنقى. ما قيل عن المسيح إذن هو للتعزية حين يُقال عن أي مسيحي(769).
* يخوضون في أكثر التخيلات سخافة، ويضلون كثيرًا عن الحق، فلا يحجمون عن أن يدعوه "مضلًا" ذاك الذي يرشد إلى طريق البرّ غير المعوج.
"ولكن لم يكن أحد يتكلم عنه جهارًا لسبب الخوف من اليهود". [13]
لم يجسر أحد أن يتكلم عنه خوفًا من القيادات اليهودية، لأن مجرد ذكر اسمه كان يُحسب جريمة قد تؤدي إلى الحرمان من حق العبادة.
* من الذين لم يتكلموا عنه جهارًا خوفًا من اليهود؟ حتمًا الذين قالوا أنه صالح وليس الذين قالوا "يضل الشعب". لأن الذين قالوا يضل الشعب سُمع ضجيجهم مثل أصوات أوراق الشجر الجافة... لقد صاحوا أعلى فأعلى.
والذين قالوا أنه صالح همسوا وهم تحت ضغط أكثر فأكثر...
الآن الكنيسة تنمو، فقد تفضل فأعطاها أن تنتشر في العالم كله. الآن فقط الذين يقولون إنه يضل الشعب يهمسون، والذين يقولون إنه صالح يتكلمون بصوت أعلى(770).
* أي عجب فإن الشعب يخشونهم ويرتعدون منهم، وهم لم يتهذبوا بالناموس، ولا تعلموا أن يحيوا بأسلوب لائق... لأن الخوف دليل على أعلى درجات العبودية.
إذن فقد كانوا مضطرين أن يتعدوا دون أن يفحصوا بالأحرى غاية معطي الناموس. (وإذ لم يتجاسروا أن يمتدحوا ما هو خير) ويحكموا بالشر لا بإرادتهم بل قسرًا حسبما اختار الآخرون، ويدينوا بالخسة ذاك المستحق للمديح والإعجاب.
استطاع (القادة) أن يوجهوهم ضد الوصايا الإلهية، وصاروا مسئولين عن ضياع الجميع.
يشهد النبي عنهم أنهم علة هلاك الشعب، قائلًا: "صار الرعاة بهيميين، ولم يطلبوا الرب، لهذا لم يفهم القطيع كله وتبدد" (إر 10: 21) LXX.
14 وَلَمَّا كَانَ الْعِيدُ قَدِ انْتَصَفَ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْهَيْكَلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ. 15 فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: «كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟» 16 أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. 17 إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي. 18 مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ.
"ولما كان العيد قد انتصف،
صعد يسوع إلى الهيكل،
وكان يعلم". [14]
إذ صعد إلى أورشليم في وسط أيام العيد صعد إلى الهيكل كعادته، وبدأ يبشر علانية. لم يسجل لنا القديس يوحنا عظته، ربما لأن غيره من الإنجيليين قد سجلها.
ذهب في اليوم الرابع أو الخامس من العيد حتى يترك الشعب في الأيام الأولى منشغلين بالمظال التي صنعوها والأغصان التي يمسكونها طوال النهار والتي لم يدركوا مفاهيمها الروحية كما ينبغي، لذا لم تكن أذهانهم مستعدة، وربما لم يكن لديهم الوقت للانشغال بكلمات السيد وأعماله.
لماذا كان يعلم؟ جاء لكي يقدم الحق لعل الإنسان يشتهي المعرفة الصادقة ويتمتع بها. هذا وبقيامه بالتعليم سدّ الفراغ الذي حدث نتيجة انشغال القيادات الدينية ببرهم الذاتي والكرامة والدخول في السياسة، عوض الاهتمام بالمعرفة الروحية.
كأن السيد المسيح من جانب احتل مركز المعلمين، وكشف عن عجزهم عن تحقيق رسالتهم. لقد حقق الوعد: "هكذا قال السيد الرب هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين والقوي، وأرعاها بعدلٍ" (حز 34: 11، 15-16). "وأُقيم عليها راعيًا واحدًا فيرعاها عبدي داود هو يرعاها، وهو يكون لها راعيًا" (حز 34: 23).
* أظن أن الكل بالحق قد تعجبوا لكن ليس الكل اهتدى للإيمان(771).
كيف يقول: "تعليمي" وفي نفس الوقت يقول: "ليس لي"؟ إنه تعليم الآب الذي أرسله، وقد سبق فأعلن الإنجيلي عن يسوع أنه كلمة الآب! لهذا فإن المسيح نفسه هو تعليم الآب، هو كلمة الآب، فما يقدمه المسيح من تعليم، إنما يقدم نفسه ليقتنيه المؤمنون، فهو تعليمه وفي نفس الوقت هو من الآب. هو التعليم الإلهي غير المتغير، ليس تعليمًا يُنطق بألفاظ وحروف، بل هو الواحد مع الآب، يحملنا إلى الآب للمصالحة معه والتجاوب مع حبه.
* يليق بنا بأكثر تعقل أن نقر أن مشيئة الطبيعة الإلهية نسمعها بوجهٍ خاصٍ في الأماكن المقدسة.
لم يقدم لنا الإنجيلي كل تعاليم السيد وعظاته في هذه الفترة لكنه قدم ثلاثة أنواع من الحوار والمحادثات: حوار مع القيادات اليهودية [14-24]، وآخر مع سكان أورشليم [25-31]، والثالث مع الخدام المرسلين من رؤساء الكهنة والفريسيين [32-36].
كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟" [15]
دُهش اليهود إذ سمعوا تعليمه،إذ كان يتكلم بسلطان، يقتبس من أسفار العهد القديم ويشرح ويحاور ويضرب أمثالا، تعاليمه عميقة ومقنعة، تجتذب البسطاء، وتشبع المتعلمين، وتقنع حتى المقاومين له. جاء في إنجيل مرقس: "وللوقت دخل المجمع في السبت وصار يعلم. فبهتوا من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة، (مر 1: 21-22؛ راجع مر 6: 2؛ مت 7: 8؛ 13: 54؛ لو 4: 22). فإنه لم يلتحق في إحدى مدارس الأغنياء، ولا عند قدمي أحد الربيين، ولا سافر ليتعلم في بلدٍ ما كما كان يفعل الفلاسفة، ولا التحق بأية مدرسة عامة في بلده. تعلم موسى حكمة المصريين، أما يسوع فلم يتعلم حتى حكمة اليهود. لم يدركوا أنه ليس بمحتاج إلى تسلم المعرفة من يد إنسان، لأنه هو نفسه الحق الإلهي، وأن إرادته واحدة مع الآب.
* أرأيت كيف أظهر الإنجيلي أن تعجبهم منه هنا مملوء شرًا، لأن البشير لم يذكر أنهم تعجبوا من تعليمه أو أنهم قبلوا ما خاطبهم به، لكنه قال مالوا إلى دهشةٍ أخرى وتحيروا، وقالوا: "كيف يعرف هذا الكتب وهو لم يتعلم؟" فقد كان واجبًا أن يعرفوا ويتيقنوا من حيرتهم هذه أنه لم يكن فيه قول بشري، إلا أنهم لم يريدوا أن يكشفوا هذا المعنى، لكنهم أرادوا أن يقفوا عند تعجبهم منه فقط(772).
يرى القديس كيرلس الكبير أن الذين في استخفاف سألوا: "أين هو ذاك الإنسان" اعترفوا بجهلهم، أما هؤلاء الذين قالوا: كيف يعرف الكتب (الحروف) وهو لم يتعلم؟ فيحسبون أنفسهم أصحاب معرفة وعلم ويحكمون عليه هكذا. كان يليق بهم أن يبحثوا بروح المعرفة عن سرّ معرفته للكتب دون أن يتعلم. لعلهم أيضًا قارنوا بينه وبين موسى، فحسبوه غير متعلم، أما موسى "فقد تهذب بكل حكمة المصريين" (أع 7: 22).
* المسيح هو الصالح وحده صلاحًا كاملًا في كل شيء، والوحيد بين الكل الذي له الحكمة والفهم، وله الرفعة، لا بالتعلم بل كخاصية فيه...
كل الصالحات هي في الله بالطبيعة، وهي ليست فيه صادرة من الخارج. هكذا الحكمة فيه أيضًا؛ بل هو ذاته الحكمة، وبشكل خاص نبع الحكمة، يهب الحكمة جزئيًا لمن يشتركون فيه، من الخلائق السماوية العاقلة، وأيضًا الخلائق الأرضية.
تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني". [16]
إذ دهشوا لمعرفته أعلن لهم أن تعليمه ليس مصدره مدرسة أرضية، ولا أحد الربيين أو الناموسيين، إنما مصدرها الآب السماوي. بكونه المسيا مخلص العالم يقول: "تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني" [16].
إن كان المسيا يقدم عمل محبة إلهية كان لا بُد أن ينسب هذا الحب للآب كما جاء في يو 3: 16، لئلا يظن البعض أن الآب يمثل الغضب الإلهي، والابن الرحمة الإلهية. فقد بلغ فيما بعد ببعض الفرق مثل أتباع مرقيون أن يحسبوا إله العهد الجديد جاء يخلص العالم من إله اليهود القاسي. لهذا يوضح السيد المسيح أن خطته الإلهية هي تحقيق لتعليم الآب وتدبيره من أجل خلاص العالم، وأنها موضع مسرة الآب كما هي موضع مسرة الابن.
إذ تعجب اليهود كيف يعرف الكتب وهو لم يتعلم، أوضح لهم أنه ليس بمحتاجٍ إلى تعليمٍ بشريٍ أو حكمةٍ بشريةٍ، إذ هو حكمة الآب. ما ينطق به يتناغم مع مشيئة الآب. تعليمه إلهي لا بشري.
* مرة أخرى يجيب على أفكارهم السرية ناسبًا تعاليمه إلى الآب، وبهذا يرغب في أن يبكم أفواههم(773).
* يليق به أن يظهر نفسه معادلًا لله الآب الذي لم يتعلم قط بل له معرفة كل الأشياء بالطبيعة دون تعلم، لأنه يفوق كل فهم، ويعلو فوق كل حكمة موجودة في الكائنات. لهذا كان ممكنًا له من خلال أمورٍ أخرى أيضًا أن يُظهر لسامعيه ويؤكد لهم أن كل ما في الآب فيه هو أيضًا، بسبب وحدة الطبيعة.
* أليس تعليمه بدون بلاغة الحروف يبدو أنه يعلم ليس كإنسانٍ بل بالأحرى بكونه اللَّه. إنه لم يتعلم إنما يدبر تعاليمه(774).
* وجهوا أفكاركم نحو تعليم المسيح، فتبلغون إلى حكمة اللَّه، وإذ تصلون إليه راعوا هذا: "كان الكلمة اللَّه" (يو 1: 1)، عندئذ ترون ما قيل "تعليمي" هو حق. تأملوا كلمة من هو؟ (كلمة الآب)، فترون بحق أن "تعليمي ليس لي" (775).
* في اختصار يبدو لي أيها الأحباء أن الرب يسوع المسيح قال: "تعليمي ليس لي" بمعنى: "أنا لست من ذاتي". فمع قولنا وإيماننا أن الابن مساوٍ للآب، وأنه لا يوجد أي اختلاف في طبيعتهما وجوهرهما، وأنه لا يوجد أي فاصل زمني بين الوالد والمولود، مع مع حفظنا هذا وحرصنا عليه فإن أحدهما هو الآب والآخر هو الابن. والآب لا يكون أبًا دون أن يكون له الابن، والابن ليس كذلك ما لم يكن له الآب. مع هذا فالابن هو اللَّه من الآب، والآب هو اللَّه لكن ليس من الابن... يُدعى الرب يسوع المسيح نور من نورٍ... والاثنان معًا نور واحد، وليسا نورين(776).
يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي". [17]
قدم السيد المسيح لهم برهانًا على مصدر تعليمه أنه ليس من مدرسة أرضية، ولا من ربِّي، بل من الآب، وذلك أنتعليمه الإلهي متناسق تمامًا مع عمله، فقد جاء إلى العالم خاضعًا في طاعة للآب، لكي يزيل عنا الاعتداد بالذات والعصيان. لقد فتح لنا طريق الطاعة الكاملة باتحادنا معه، فنطلب لا ما هو لنا، بل ما هو لله، ونجد مسرتنا فيه.
إنه الطريق الذي به نتمتع بالأحضان الإلهية خلال شركتنا معه في الطاعة والتواضع. وهو بهذا يفتح أمامنا الباب كي نتقبل التعليم الإلهي، لا بالحوار العقلاني البحت والدراسة الجافة، وإنما بقبول مشية الله فينا عمليًا، والتجاوب مع خطته الإلهية من نحونا. هذا لن يتحقق ما لم نتحد بمسيحنا عمليًا فيهبنا فيه الطاعة الكاملة، ويقدم لنا بره، ويكشف لنا أسراره.
هذا هو عمل روحه القدوس فينا. وكأن مصدر تعليمنا هو الثالوث القدوس، الروح الذي ينير أعماقنا، ويدخل بنا الابن النور الحقيقي، ويحملنا الابن إلى حضن الآب لنحيا في الأسرار الفائقة ونختبر عربونها في هذا العالم حتى يوم لقائنا معه.
* فإن سألت: ما هو معنى ما قاله المسيح؟ أجبتك: إنه قال: انزعوا ارتيابكم وغيظكم وحسدكم وبغضكم الناشئ منكم باطلًا، فلا يوجد مانع يمنعكم أن تعرفوا أن كلامي هو بالحقيقة كلام الله.
"من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه،
وأما من يطلب مجد الذي أرسله،
فهو صادق وليس فيه ظلم". [18]
سمة المخادع أو المضل أن يطلب مجد نفسه ويتكلم عن نفسه، وهي سمة أضداد المسيح والأنبياء الكذبة. يطلبون تحقيق إرادتهم الذاتية لا مشيئة الله. أما علامة أن يسوع هو المسيح حقًا الصادق، فهو أنه يتكلم بما هو من عند الآب، ويطلب مجد الآب، بالرغم من أن إرادتهما واحدة، ومجدهما واحد.
إن كان الابن قد صار جسدًا، فمع كونه ابن الإنسان إلا أن تعليمه ليس محصلة خبرة بشرية، ولا دراسة زمنية، ولا ثمرة فكر خاص، إنما مصدره الآب الذي أرسله، فهو تعليم إلهي حق، ليس فيه أي بطلان أو كذب.
"ليس فيه ظلم" أي ليس فيه كذب أو بطلان.
* "من يتكلم عن نفسه يطلب مجد نفسه" [18]. ذاك الذي سيُدعى ضد المسيح يقول عنه الرسول: "المرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا" (2 تس 2: 4). يعلن الرب عن نفس الشخص (ضد المسيح) أنه يطلب مجد نفسه وليس مجد الآب، فيقول لليهود: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" (يو 5: 43).
لقد صرح أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي سيطلب مجد اسمه، منتفخًا وغير ثابتٍ، ولا مستقر بل حتمًا مدمر.
لكن ربنا يسوع المسيح يظهر لنا مثلًا عظيمًا في التواضع، فإنه دون شك هو مساوي للآب... يطلب مجد الآب لا مجد نفسه. فكم يليق بك يا إنسان، يا من حين تفعل أمرًا صالحًا تطلب مجد نفسك، بينما حين ترتكب أمرًا شريرًا تسيء إلى اللَّه؟
اعرف نفسك، أنت مخلوق!
اعرف خالقك. أنت خادم، لا تحتقر ربك.
أنت مُتبني ليس من أجل استحقاقك...
اطلب مجد ذاك الذي تنال منه هذه النعمة فإنك إنسان مُتبنّي(777).
19 أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟» 20 أَجَابَ الْجَمْعُ وَقَالوُا: «بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟» 21 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «عَمَلًا وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعًا. 22 لِهذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَلْ مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. 23 فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ 24 لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلًا».
"أليس موسى قد أعطاكم الناموس،
وليس أحد منكم يعمل الناموس،
لماذا تطلبون أن تقتلوني؟" [19]
واجه السيد اتهام الرؤساء له أنه مضل[12] باتهامهم أنهم كاسرو الناموس. كيف يكون هومضلًا وهو يتمم مشيئة الآب، بينما وهم يدعون أنهم حافظوا الناموس إذا بهم يكسرونه كقتلة للبريء. هنا يهاجمهم السيد علانية داخل الهيكل في أعز ما يظنون أنهم أمناء عليه وهو حفظ الناموس.
* اتهمهم لا بتعديهم الفردي على الناموس بل بأن أمة اليهود كلها قد أبطلت ناموس موٍسى... في اتهامه بتعديه على السبت يظهرون أنفسهم متعدين ومتآمرين على قتله، وبهذا يسقطون في أرذل جميع الخطايا (وهو قتل البريء).
* تطلبون أن تقتلوني لهذا السبب وهو أنه ليس أحد منكم يعمل بالناموس. لأنكم لو كنتم تعملون بالناموس لعرفتم المسيح في كل حروفه، ولما كنتم تقتلونه حين يكون حاضرًا بينكم...
انظروا ما هي إجابتهم: "بك شيطان، من يطلب أن يقتلك"...
لقد اضطرب الجمع، بماذا؟ بالحق. لأن الأعين غير السليمة لا تقدر أن تحتمل بهاء النور(778).
بك شيطان من يطلب أن يقتلك". [20]
ربما أنكر الرؤساء ومن معهم وجود أية خطة لقتله حتى لا يثيروا الشعب، ولهذا دُهش الشعب، ولئلا يظهروا ككاسري الناموس إذ يطالبون بقتل شخص دون محاكمة، أو بقتل إنسان بريء حينما أعلن السيد: "لماذا تطلبون أن تقتلوني؟"[19]. أما اتهامهم "بك شيطان"، فيتكرر دومًا حين لا يجدوا علة عليه أو ما يقاومونه به.
* شعر اليهود بالاتهامات... ولجأوا إلى الإنكار، مع أنهم لم يحيدوا عن خطتهم في القتل. لكنهم بكل اجتهاد يبعدون عن أنفسهم مظهر التعدي على الناموس، فإن فخر الفريسيين هو في التظاهر فقط.
* يقول: لا عجب إن كنتم لا تطلبونني، فإنكم لا تطيعون الناموس الذي تظنون أنكم تطيعونه وتتمسكون بأنكم تسلمتموه من موسى. فإنه ليس بالأمر الجديد إن كنتم لا تهتمون بكلامي(779).
عملًا واحدًا عملت،
فتتعجبون جميعًا". [21]
العمل الذي يشير إليه هنا هو شفاء المفلوج (يو 5) في يوم السبت.
* إنه على أساس هذا العمل الواحد، وعلى الرغم من أنه عُمل لأجل خلاص المطروح أرضًا وحياته، فهل تدينون الصانع القدير بسبب هذا...؟ لأن وصية الناموس قد كُسرت حسب تصوركم الأحمق، لأسباب ليست هينة أو عديمة القيمة، وإنما لأجل خلاص الإنسان وحياته، وأنتم غاضبون بلا سبب، بينما كان الأجدر بكم أن تمدحوا ذاك المتسربل بقوة إلهية عظيمة المقدار حقًا هكذا.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن العمل الذي صنعه السيد المسيح وهو شفاء المولود أعمى، وقد أُتهم بكسر يوم السبت. العمل الذي فعله أعظم من الختان الذي قدمه موسى، وجاءت وصية الختان تكسر السبت أيضًا، إذ كان يلزم إتمام الختان إن جاء الموعد في يوم السبت. حقًا لم يقل السيد مباشرة: "أنا عملت ما هو أعظم من الختان" بل قال: "لهذا أعطاكم موسى الختان ... "[22].
ليس أنه من موسى،
بل من الآباء،
ففي السبت تختنون الإنسان". [22]
لقد وُهب لهم الختان كعطية صالحة، وليس كثقلٍ يمارسه الإنسان، ولا يُحسب ممارسته كسرًا للناموس. لقد أُعطيت وصيته قبل موسى بزمانٍ طويلٍ، منذ أيام إبراهيم (تك 17: 9-10)، لكنه أُدمج مع الشرائع الموسوية كواحدةٍ منها، مع أنه لم ترد وصية موسوية تطالب بالختان.
أعطى معلمو اليهود لوصية الختان أفضلية عن السبت، فقد التزم اليهود بطقس الختان في اليوم الثامن حتى وإن جاء يوم سبت. لا يُراعي حفظ السبتمن أجل الصحة العامة. فإن كان الأمر هكذا بالنسبة لممارسة الختان حرفيًا، فماذا إن كان الأمر يخص سلامة الإنسانكله، متى شفيت كل أعضاء المفلوج الملقى على سرير مرضه 38 عام.
يعود أمر الختان إلى عصر الآباء، ما قبل موسى النبي، وليس من بدء الخليقة، أما ما يفعله السيد المسيح فهو أمر يخص كيان الإنسان طبيعيًا، منذ خلقته، إذ يريد الله أن يكون الإنسان سليمًا روحيًا وجسديًا منذ بدء الخليقة.
يقول القديس أغسطينوس كأن السيد المسيح يقول: [لأن الختان يخص نوعٍ من ختم الخلاص، ويلتزم الناس ألا يكفوا عن عمل الخلاص في يوم السبت. لهذا لا تسخطون عليّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت [23]، إن كان الإنسان يقبل الختان في السبت...(780)]
كما يقول القديس أغسطينوس إن الختان كان يتم في اليوم الثامن باستخدام سكينٍ حجريةٍ، وكان رمزًا لنزع الشهوات الجسدية من الجسد، وقد جاء السيد المسيح، الصخرة الحقيقية، ليقدمه في اليوم الثامن فيهب المؤمن بقيامته ختانًا روحيًا. يقول استمعوا إلى أولئك الذين اختتنوا بالحجر الحقيقي الذين ينصحهم الرسول: "إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين اللَّه. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 1-2). يتحدث إلى المختونين: المسيح قام، إنه ينزع عنكم الشهوات الجسدية، الشهوات الشريرة، الأمور غير اللازمة التي ولدنا بها، والأمور الأشر التي أضفتموها إليها بحياتكم الشريرة. إن كنتم قد اختتنتم بالصخرة لماذا لازلتم تضعون عواطفكم في الأرض؟(781)]
* موسى نفسه "خادم الناموس" كسر ناموس السبت لأجل الختان الذي امتد من الآباء حتى زمن اليهود ليُظهر أنه كان حافظًا لتقليد الآباء، ولما كان الله يعمل أيضًا في السبت، لذلك فهو يعلن عن نفسه أنه هو أيضًا يعمل. فلا يكون هذا تعديًا على السبت، إذ له نفس الفكر مع الآب، لهذا أيضًا قال: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17)...
إن كان موسى قد اهتم أن يكرِّم تقليد الآباء، وجعل هذا التكريم أعلى من تكريم السبت، فلماذا تنزعجون باطلًا من جهتي وتتعجبون كأنني أحد الساعين إلى التعدي على الناموس والمزدرين به، مع أنني أعمل عملًا معادلًا لعمل الآب، وأتفق معه دومًا في كل قصد؟ وحيث أنه يعمل يوم السبت، فإنني أرفض التكاسل في هذا اليوم.
"فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى،
أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت؟" [23]
الختان فيه جرح ودم وألم، ومع هذا يُمارس يوم السبت الذي هو يوم الراحة، فماذا يكون بالنسبة للسيد المسيح الذي يهب شفاء الإنسان بأكمله؟ إن كان عمل الناموس المؤلم يُسمح به في السبت، أليس بالأولى عمل الإنجيل المفرح واهب السلام أن يُمارس في السبت؟
ما يشغل ذهن والدي الرضيع وأقربائه أن يُشفى الطفل المُختتن في الجزء المُختون، أما ما يشغل السيد المسيح فهو شفاء الإنسان بكل كيانه.
* الختان هو السبيل إلى العناية بالإنسان، وهو يفوق فريضة السبت نفسها، لأنه كان من الضروري أن يُشفى المريض تمامًا، فما العائق إذن، أو كيف يُعقل أن تقف فريضة السبت في طريق شفاء الجسد كله ما دام يُسمح فعلًا ودون لومٍ بخرقه عن طريق شفاءٍ جزئي (أو طفيف)؟
* أنتم ترون أننا ننال امتياز الشركة في جوهره ليس في دائرة الطبيعة، وإنما في دائرة النعمة. والسبب أننا موضع حب الآب، بحبه للابن يحب أعضاء الجسد(782).
بل احكموا حكمًا عادلًا". [24]
يطالبهم السيد المسيح أن يحكموا بالبرّ لا بالمظهر، فإن الانشغال بالحرف لا بالروح يفسد حكمنا بالنسبة لأمور الناموس. السبت كيوم "الراحة" هو يوم الرحمة والحب لحساب مجد الله وبنيان شعبه وخلاص كل أحدٍ ما أمكن. ليكن حكمهم في شفاء المفلوج يوم السبت خلال هذا المفهوم الروحي لا الحرفي.
* إن الناموس الذي أنتم غيورون عليه هكذا للاشتراك فيه، والذي بسببه اشتعلتم بثورة عارمة، إنما يصرخ عاليًا، قائلًا: "لا تهابوا وجه إنسانٍ، لأن القضاء لله" (تث 1: 17). إذن أنتم يا من تدينونني كمتعدٍ بسبب السبت، وتقررون أنه من اللائق تمامًا أن تغضبوا لهذا، هل تهتمون بكرامة الناموس؟ لتخجلوا من الرسالة القائلة: "لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا، لأنكم إن كنتم تستبعدون موسى من التعدي، وبصوابٍ تعتبرون أنه لا دينونة عليه في ذلك بالرغم من أنه يكسر فريضة السبت بسبب الختان الذي هو من الآباء، فهل تعفون الابن أيضًا من اللوم وهو الذي يتفق دومًا مع فكر الآب ويوافق مشيئته، وكل ما يفعله الآب يفعله الابن أيضًا؟ كيف تدينون الابن وحده دون موسى مع أنه مشترك معه في نفس اللوم فيما يخص ما تظنون أني متورط فيه بسبب السبت؟
* كأن المسيح يقول: أنا قد عملت عملًا أرفع قدرًا من الختان وأفضل.
* الآن بحسب ناموس موسى تختنون في يوم السبت ولم تقضوا على موسى، وعندما أبرأت إنسانًا كله غضبتم علي. "إنكم تحكمون بمحاباة، اهتموا بالحق!(783)
* لا نظن أن هذا لم يُقل من أجلنا نحن، لأننا لم نكن موجودين في ذلك الحين... ليتنا لا نتراجع إلى الخلف، ونتطلع إليه وهو يوبخ الأعداء، بينما نحن أنفسنا نفعل ما يوبخنا عليه الحق.
حقًا لقد حكم اليهود حسب الظاهر، وبهذا لم ينتموا إلى العهد الجديد، ليس لهم ملكوت السماوات في المسيح، ولا اتحدوا بمجتمع الملائكة القديسين. لقد طلبوا أمورًا زمنية من الرب: أرض الموعد، النصرة على الأعداء، كثرة البنين، فيض من الثمار - هذه الأمور التي بالحق وعدهم اللَّه بها، الحق والصالح، وعد بها كأناسٍ جسدانيين، هذه كلها قدمت لهم عهدًا قديمًا...
الآن نتجدد، وصار لنا الإنسان الجديد، لأنه قد جاء ذاك الذي هو الإنسان الجديد. إذ من هو جديد هكذا مثل ذاك الذي وُلد من العذراء...؟ فيه ميلاد جديد وفينا نحن الإنسان الجديد.
وما هو الإنسان الجديد؟ إنسان يتجدد من العتق.
إلى أي شيء يتجدد؟ لطلب الأمور السماوية والاشتياق إلى الأبديات، والغيرة لطلب الوطن العلوي، وعدم الخوف من عدو، حيث لا نخسر صديقًا ولا نخشى عدوًا، حيث نعيش بعاطفة صالحة بلا عوزٍ...
لنا رجاء مختلف تمامًا عن رجائهم. ليتنا لا نحكم حسب الظاهر، بل نحكم حكمًا عادلًا... هكذا ننتفع بكلمات الرب، ولكي ننتفع بها تعيننا نعمته(784).
25 فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟ 26 وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَارًا وَلاَ يَقُولُونَ لَهُ شَيْئًا! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ حَقًّا؟ 27 وَلكِنَّ هذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ». 28 فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ قِائِلًا: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 29 أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي». 30 فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. 31 فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هذَا؟» 32 سَمِعَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهذَا مِنْ نَحْوِهِ، فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّامًا لِيُمْسِكُوهُ. 33 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 34 سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا». 35 فَقَالَ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «إِلَى أَيْنَ هذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟ 36 مَا هذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟»
"فقال قوم من أهل أورشليم:
أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه؟" [25]
كانت أورشليم في نظر اليهود هي ينبوع الروحانية ومصدر المعرفة الإلهية الحقيقية، لكن الشعب في أورشليم صاروا في ارتباك من موقف القيادات الدينية. هل هم يطلبون حقًا قتله كمجدفٍ ومخادعٍ؟ ولماذا لم يلقوا القبض عليه، وها هو يعلم علانية؟
هنا نجد موقف الشعب القادم من خارج أورشليم مختلف عن أهل أورشليم، لأن القادمين لا يعرفون شيئًا عما تحمله القيادات من حسدٍ وغيرةٍ، أو من مقاومة للسيد المسيح، أما أهل أورشليم فعلى دراية بما يخططه هؤلاء ضده.
بخصوص موقف اليهود من السيد المسيح يميز بعض الدارسين بين ثلاث فئات:
1. الرؤساء والكهنة والفريسيون، يحملون عداوة ضد السيد المسيح.
2. أهل أورشليم، يعرفون ما تحمله مشاعر الفئة الأولى، وقد وقفوا في ارتباك بين خضوعهم للقيادات مع ملاحظتهم أنهم لا يتحركون للخلاص منه عمليًا وبين ما يتمتعون به من أعمال محبة وأعاجيب وتعاليم لها جاذبيتها الروحية وسلطانها يمارسها السيد.
3. الغرباء الصاعدون إلى أورشليم للعيد، والذين أعجبوا من السيد وهم يجهلون موقف الفئة الأولى ضده (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وقد دهشوا عندما سمعوه يقول أنهم يطلبون أن يقتلوه [20]، وحسبوا ذلك وهمًا عنده أو فكرًا من الشيطان.
* نعتقد أن بقية الشعب اليهودي كانوا يجهلون خطة رؤسائهم، لكن أولئك الذين من أورشليم يعيشون معظم الوقت معهم، ويسكنون معهم في نفس المدينة، ويتقابلون معهم باستمرار، ويعرفون التخطيط الشرير الذي ملأهم ضد المخلص المسيح.
* الذين عرفوا بأية شراسة كانوا يطلبونه تعجبوا بأيّة قوة حُفظ من أن يقبضوا عليه. وإذ لم يعرفوا قوته كما ينبغي توهّموا أن القادة عرفوا أنه المسيح نفسه، ولهذا السبب تركه الذين كانوا شغوفين جدًا أن يطلبوا قتله(785).
"وها هو يتكلم جهارًا ولا يقولون له شيئًا،
ألعل الرؤساء عرفوا يقينا أن هذا هو المسيح حقًا؟" [26]
* إن لم يكن الرؤساء قد عرفوا يقينًا أن هذا هو المسيح (حقًا)، فما الذي يغريهم على تحمل توبيخه العلني لهم، وتجديده للأمور التي كانت فريضة منذ القديم، إذ وُجد يشفي حتى في يوم السبت، ويحزنهم أشد الحزن بقوله بصراحة: "أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟" وهم يتحملون كل هذا...
وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو". [27]
عرف غالبية الشعب أن يسوع ولد في بيت لحم من بيت داود، ولكن حسبما يعلن إشعياء النبي: "جيله من يقدر أن يعلنه؟" (إش 53: 8)، أي أن ميلاده وظهوره سرِّيان. وكان الربيِّين لديهم هذا المثل: "ثلاثة أمور تحدث فجائيًا: شيء نجده بالمصادفة، لدغة العقرب، ظهور المسيا". لهذا تساءل أهل أورشليم إن كان يسوع هو المسيح أم لا، لأنهم يعرفون من أين هو.
لم يدركوا أن ما نطق به إشعياء يخص ميلاده الأزلي الفائق، وأيضًا يخص كهنوته بكونه على رتبة ملكي صادق الذي لا يعرف أحد والديه. أما عن تجسده، فقد أعلن الأنبياء الكثير عن تفاصيله، وقد عرف اليهود أين يولد (مت 2: 4-5).
* إنهم لم يفطنوا إلى كلمات الأنبياء القديسين عنه وهي نوعان.
تشير أحيانًا إلى أنه سيأتي إلى العالم في الجسد، وتعلن لنا عن ميلاده من عذراء حسب الجسد. "فها العذراء تحبل وتلد ابنًا" (إش 7: 14). أجل، بل وهي تعلن مكان ميلاده: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنتِ صغيرة، أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه من القديم، منذ أيام الأزل" (مي 5: 2).
لكنهم حينما كانوا يقدمون -قدر المستطاع- ميلاده غير المدرك من الله الآب يقولون ما ذكرناه آنفًا أن ميلاده من يخبر به؟ لأن "حياته أُنتزعت من الأرض"، أو ما يتصل بالنص المقتبس: "مخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". لأنه يعني هنا بتعبير "مخارج" الابن الوحيد، كخروج البهاء من النور، وكخروج خاص من جوهر الذي ولده، إلى كيانه الخاص (الذاتي) الذي قبل كل الدهور وكل يوم وكل لحظة...
* يقولون:" لا يعرف أحد من أين هو"، مع أن رؤساءهم عندما سُئلوا أصروا أنه ينبغي أن يولد في بيت لحم...
مرة أخرى يقولون: لا يأتي من الجليل بل من بيت لحم[41، 42]. ألا تروا أن قراراتهم صادرة عن ثورة غضب؟ يقولون "نحن نعلم" و"نحن لا نعلم"... فقد انشقوا في أمرٍ واحدٍ(786).
* بكونه إنسانًا سبق فأخبرتنا الكتب المقدسة ما سيكون عليه، أما بكونه اللَّه فقد أُخفي هذا عن الأشرار، ويحتاج الأمر إلى أبرارٍ يكتشفونه. علاوة على هذا يقولون: "وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو"[27]. لأن هذا ما نطق به إشعياء، مقدمًا لهم هذه الفكرة: "وجيله من يخبر به؟!" في اختصار قدم الرب نفسه إجابة على الطريقين، إنهم يعرفون من أين هو، وأيضًا لا يعرفون. وذلك لكي يشهد للنبي الذي سبق فأخبر عنه من جهة بشرية ضعفه، وأيضًا من جهة لاهوت مجده(787).
"فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلًا:
تعرفونني وتعرفون من أين أنا،
ومن نفسي لم آتِ،
بل الذي أرسلني هو حق،
الذي أنتم لستم تعرفونه". [28]
أجاب السيد المسيح على هذه التساؤلات علانية، مناديًا بصوت عالٍ في الهيكل. ولعله بهذا يدعو الكهنة والقيادات التي لم تعد تجسر أن تقترب، أو لا تطيق سماع صوته لكي يقتربوا ويسمعوا. إنه لا يُعلِّم خفية بل علانية، لأنه يقدم الحق بلا خداع كما ادعوا. كأنه يقول لهم: "من له أذنان للسمع فليسمع".
"تعرفونني وتعرفون من أين أنا"، كأنه يقول: هذا حق، فإني من أمتكم، وأنا منتسب إليكم، وتعرفون موطن ميلادي. لكن من جهة لاهوتي لست تعرفونني ولا تعرفون من أين أنا، ولا ذاك الذي أرسلني.
"ومن نفسي لم آت". إنه ليس بالإنسان المجرد الذي يعمل لحساب نفسه، بل هو مُرسل من الآب، يعمل لحساب البشرية كلها. إنه ابن الله الذي سبق فوعدهم بإرسال المسيا مخلص العالم، وهذا هو الوعد الإلهي يتحقق لكنهم يرفضونه ويرفضون إنجيله.
لم يكن من السهل أن يقبل الرؤساء هذا الحديث، إذ فيه اتهام ضدهم بالجهل؛ إنهم لا يعرفون الله، بينما هو وحده يعرفه، ليس لأنه أرسله كما يرسل الأنبياء وإنما هو "منه"، مولود منه أزليًا. فمن جهة ينسب إليهم الجهل، ومن جهة أخرى يقيم من نفسه ابنًا مولودًا من الآب، وفي نظرهم هذا تجديف يستحق عليه الموت. لكن قوة خفية منعتهم من إلقاء أيديهم عليه حتى تحين الساعة.
* كإنسانٍ لم يأتِ من نفسه، وكابن اللَّه لم يأخذ بدايته من بشر، بل كما يقول: "أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به" (يو 25:8). الكلمات التي أكلمكم بها ليست بشرية بل إلهية(788).
* إذن ما هو معنى "لا تؤمنوا بي" (يو 12: 44)؟ لا تؤمنوا بما تدركونه في الشكل الجسدي، ولا في مجرد الإنسان الذي ترونه. إذ بقدر ما أنه يجب علينا ألاّ نؤمن به كمجرد إنسان بل أن يسوع المسيح نفسه هو الله والإنسان (في نفس الوقت). لهذين السببين يقول: "لم آتِ من نفسي" (يو 7: 28). كإنسان لم يأتِ من نفسه، وكابن الله لم يأخذ بدايته من إنسان، بل يقول: "أنا نفسي من البدء ما كلمتكم به". الكلام الذي أكلمكم به ليس بشريًا بل هو إلهي(789).
* القول: "تعرفون من أين أنا" لا تعني هنا موضعًا معينًا، وذلك هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه"، مشيرًا هنا إلى الجهل الذي ظهر من أعمالهم. وكما يقول بولس: "بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرون" (تي 1: 16). فإن خطأهم يصدر ليس مجردًا عن الجهل بل عن شرٍ، عن رأيهم الشرير وحكمهم الشرير. فمع معرفتهم هذه أرادوا أن يكونوا جاهلين... بقولهم: "نحن نعلم من أين هو" لم يعلنوا أنه من السماء... وبقوله: "وتعرفون من أين أنا"[28]، يعني أنه ليس من الموضع الذي يظنونه، بل من الموضع الذي منه ذاك الذي أرسله(790).
* بالقول: "من نفسي لم آتِ" يعلن أنهم عرفوا أنه مرسل من الآب، ومع ذلك لم يريدوا أن يبوحوا به.
إنه يلومهم من جانبين: أولًا إنهم قالوا في الخفاء وهو تكلم علانية لكي يضعهم في خزي؛ وأنه أعلن ما هو في قلوبهم. فبينما أصروا على القول: "لا يعلم أحد من أين هو" أكد بذلك أنه هو نفسه المسيح.
هم استخدموا الكلمات: "لا يعلم أحد" بالإشارة إلى تمييز بين أماكن محلية، لكنه بذات الكلمات يظهر نفسه المسيح، لأنه جاء من عند الآب... كلماته بخصوص الآب: "أنتم لستم تعرفونه" جعلتهم في سخطٍ، إذا يوبخهم هكذا لأنه إذ يعرف أنهم يتظاهرون بالجهل كان ذلك كافيًا أن يؤخزهم(791).
* الكتاب الموحى به من الله أعطاكم أن تعرفونني، وأن تعرفوا من أين أنا، ليس لأنكم تعرفونني إنني من الناصرة أو من بيت لحم، وإنني مولود من امرأة، يوجب عليكم بهذا أن يصيبكم مرض عدم الإيمان. لكن بسبب تلك الأمور التي قيلت عني، وبسبب ميلادي الجسدي، كان ينبغي عليكم بالأحرى أن تتقدموا إلى إدراك الأسرار الخاصة بي، وألا ترددوا صوتًا وحيدًا لنبي يخبر عن ميلادي غير المدرك من الله الآب.
* لست مثلكم، ولا أحاكي خستكم التي تمرستم عليها جيدًا. فأنا لم آتٍ من نفسي، ولا أنا بمرسل نفسي مثلكم، بل أنا آتٍ من السماء، والذي أرسلني هو حق، وليس مثل الشيطان مرسلكم، شيطان الكذب، الذي تقبلون روحه، فتتجرأون على التنبؤ بالكذب، الذي هيجكم لتخترعوا كلمات من الله، فهو ليس حقًا، لأنه كذاب وأبو الكذاب (يو 8: 44).
* كأنه يقول: أنتم تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، وأنتم لا تعرفون من أين أنا.
أنتم تعرفون من أين أنا، يسوع الناصري، وتعرفون والديه. لأنه قد خفي عليهم ميلاده من البتول وحدها، الأمر الذي يشهد له زوجها، فإنه قادر أن يشهد بأمانة لهذا كزوجٍ غيورٍ، فإن هذا هو الميلاد البتولي المتوقع.
لقد عرفوا في يسوع ما يخصه كإنسان، وجهه كان معروفًا، مدينته كانت معروفه، أسرته كانت معروفة، أين ولد كان معروفًا بالسؤال عنه. بحق قال "تعرفونني وتعرفون من أين أنا"[28]، وذلك حسب الجسد وشكل الإنسان الذي أحمله.
أما ما يخص لاهوته: "من نفسي لم آتِ، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لا تعرفونه"[28]. كان يمكنكم أنتم أن تعرفوه، وتؤمنوا بالذي أرسلني. إنه لن يرى أحد قط اللَّه إلا ابن اللَّه الوحيد الذي في حضن الآب، هو يخبر عنه (يو 1: 8). لا يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له (مت 11: 27) (792).
* "الذي لستم تعرفونه"، حيث أنكم لا تعرفون ذاك الذي هو منه، الذي فيه وحده يًرى الآب. لأن من رأى الابن فهذا قد رأى الآب (يو 14: 9). والذي يعرف الابن لا يجهل ذاك الذي ولده...
إنه ليس مثلهم لا يعرف أباه الشخصي، لكنه يؤكد أنه يعرف نفسه ويعرفه (الآب) حق المعرفة تمامًا. لأنه إله من الله الآب يملك معرفة خاصة عجيبة وغريبة بتلك الأمور كلها، كما يليق به وحده، لأن الابن لا يعرف الآب بنفس الطريقة التي نعرفه نحن بها. لأن طبيعة المخلوقات تبلغ إلى رؤية الله بالفهم فقط، ولا تتجاوز حدودها التي تلائمها، وتذعن بغير إرادتها إلى الطبيعة الإلهية المجتمعة في الكلمات التي لا يُنطق بها. أما الابن الوحيد الجنس لله الآب فيرى ذاك الذي ولده كاملًا في ذاته، ويرسم جوهر الآب في ذاته ويعرفه، بطريقة لا يُمكن التعبير عنها، لأن أمور الله لا يُنطق بها.
وهو أرسلني". [29]
* لماذا يقول: "أنا أعرفه"؟ "لأني منه، وهو أرسلني"[29]. لقد أظهر كليهما بطريقة مجيدة. يقول: "إني منه"، لأن الابن من الآب، وما هو عليه الابن إنما هو من ذاك الذي هو ابنه. لذلك نقول إن الرب يسوع المسيح هو إله من إله، ولا نقول عن الآب إنه إله من إله بل هو اللَّه. ونقول عن الرب يسوع نور من نور، ولا نقول عن الآب إنه نور من نورٍ، بل هو النور. بهذا فهو يقول: "إني منه".
ولكن حسبما ترونني في الجسد هو "أرسلني".
عندما تسمع "أرسلني" لا تفكر في وجود اختلاف في الطبيعة بل في سلطان ذاك الذي وُلد(793).
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تواضع السيد المسيح العجيب، فإنه بهذا كسب نفوسًا كثيرة للإيمان به.
* ألا ترون كيف يطلب على الدوام أن يبرهن: "لم آتِ من نفسي"، "الذي أرسلني هو حق"، مجاهدًا إلاَّ يُحسب عدوًا لله؟ ولتلاحظوا عظمة نفع تواضع كلماته، فإنه قيل بعد هذا: "ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا الإنسان؟" (794).
ولم يلقِ أحد يدًا عليه،
لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد". [30]
* أسكتت توبيخات (الرب) الفريسيين، وإذ قد تأكدوا أن صمتهم حيال هذه الأمور قد أضر بعنادهم وانتفع به الجمهور (إذ اقتنعوا أنه المسيح)... تعطشوا مرة أخرى إلى قتله، إذ طرحوا وقار الناموس جانبًا... وحُسبوا غير أهلٍ لتذكر الوصية: "لا تقتل البريء والبار" (خر 23: 7). لكن العمل الإلهي قمعهم وكبح أعمالهم الشريرة، وحوَّل خطتهم إلى مجرد محاولات.
* "فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلقِ أحد يدًا عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد"، أي لأنه لم يكن يرد ذلك.
فإنه ماذا تعني "ساعته لم تكن قد جاءت بعد"؟ لم يولد الرب تحت مصير معين. يجب ألا تعتقد بذلك بالنسبة لك (أنك مُصيّر، فكم بالأولى لذاك الذي خلقك. إن كانت ساعتك هي حسب إرادته الصالحة (وليس قضاء وقدرًا)، فكم تكون لا ساعته إلا بإرادته الصالحة؟
إذ لا يعني بالساعة التي يموت فيها قسرًا بل التي تنازل لكي يموت فيها (بإرادته). إنه كان ينتظر أن يموت فيها كما انتظر الساعة التي وُلد فيها. تحدث الرسول عن هذا الزمن، قائلًا: "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل اللَّه ابنه مولودًا" (غل 4: 4). لهذا السبب كثيرون يقولون لماذا لم يأتٍ المسيح من قبل؟ نجيبهم: لأن ملء الزمان لم يكن قد جاء بعد. وفي المكان الأول كان من الضروري أن يُخبر مسبقٌا عنه بسلسلة طويلة من الأزمان والسنوات، لأن مجيئه ليس بالأمر التافه. كان يجب أن يُخبر مُسبقًا لمدة طويلة عن ذاك الذي نتمسك به أبديًا.
كلما زادت عظمة القاضي القادم كلما طال صف المعلنين عنه السابقين له.
في اختصار إذ حلّ ملء الزمان جاء ذاك الذي يخلصنا من الزمن. وإذ نخلص من الزمن سنأتي إلى الأبدية حيث لا زمن. عندئذ لا نقول: متى تأتي الساعة؟ لأن اليوم أبدي، لن يسبقه أمس، ولن يقطعه غد. لكن في هذا العالم الأيام تتكرر وراء بعضها البعض، أيام تمضي وأخرى تأتي، وليس من يوم يدوم. اللحظات التي نتكلم فيها تسحب اللحظة غيرها، كل لحظة بدورها...
منذ بدأنا نتحدث صرنا إلى حدٍ ما أكبر (عمرًا)، فبدون شك الآن أنا أكبر مما كنت عليه في الصباح. هكذا لن يبقى شيء على حاله، ليس شيء ثابت في الزمن. لهذا يليق بنا أن نحب ذاك الذي به خلق الزمن، حتى نتخلص من الزمن، ونثبت في الأبدية، فلا يكون بعد تغيير في الزمن.
عظيمة هي مراحم ربنا يسوع المسيح الذي من أجلنا وُجد في زمن، هذا الذي أوجد الأزمنة، إذ وُجد بين كل الأشياء ذاك الذي به كل شيء كان، فصار ما قد صنعه...
إذ صار إنسانًا ذاك الذي خلق الإنسان، حتى لا يهلك ما قد صنعه. نحسب هذا التدبير قد جاءت ساعة ولادته فوُلد، لكن في ذلك الحين لم تكن قد جاءت ساعة آلامه، لذلك لم يكن بعد قد تألم(795).
"فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا:
ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟" [31]
كلما اشتدت الضيقة وحاول الرؤساء بالأكثر أن يقتلوا السيد المسيح، مع استعبادهم للشعب كان الحق يتجلى بالأكثر. لذلك آمن به كثيرون.
وجد الرؤساء في حديث السيد المسيح العلني تجديفًا لا يُحتمل، بينما وجد كثير من الجمع في أعمال محبته الفائقة برهانًا أكيدًا أنه المسيا المنتظر، إذ لم يكن ممكنًا أن يقوم أحد بعمل آيات مثلما فعل السيد المسيح. وكما قال السيد أنه جاء لقيام كثيرين وأيضًا لسقوط كثيرين.
* كما أكرر كثيرًا، أن الجسدانيين ينقادون لا بالتعاليم ولا بالكرازة وإنما بالمعجزات(796).
* لقد اجتهدوا دائمًا أن يبينوا أنه ليس هو المسيح، فلو اعتبرنا أن هذا ليس هو المسيح، فهل يكون ذاك أفضل من هذا؟
* شفى الرب المتواضعين والفقراء. كان القادة في جنونٍ، لهذا ليس فقط لم يعرفوا الطبيب، وإنما أيضًا يطلبون قتله. وُجد جمع من الناس رأوا بسرعة مرضهم، وبغير تأخير عرفوا علاجه. انظروا كيف تحرك هذا الجمهور بواسطة معجزاته... فآمنوا به(797).
"سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه،
فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه". [32]
بدأ كثيرون يؤمنون به وصار تهامس بين الشعب. وشعر الرؤساء أن كل تأخير ليس من مصلحتهم، فأرسلوا خدامًا (جند الهيكل) ليلقوا القبض عليه.
* اتهمهم الناس بحق أنهم مغلوبون من الحسد أكثر من اهتمامهم بالأحرى بخلاص الناس... ويبدو أن الجمع أساءوا إليهم... وصاروا متعطشين بالأكثر إلى الإيمان به.
* كان يليق بهم (رؤساء الكهنة) أن يكونوا قدوة في الأفكار الصالحة، وأن يمسكوا بزمام التوجيه في المشورة التي لا تقاوم الله. لكنهم إذ كانوا مبتعدين عن كل اتجاه صالح، وقد طرحوا الناموس الإلهي وراء حياتهم الشخصية، انجرفوا إلى ما يرضي انفعالاتهم التي بلا فطنة وحدها. لأن الرأس قد صار ذنبًا كما هو مكتوب (تث 28: 44). إذ صار القائد تابعًا، وباتفاقه مع عدم تقوى الفريسيين يطلق العنان لهجماته ضد المسيح أيضًا.
أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد،
ثم أمضي إلى الذي أرسلني". [33]
حديثه هنا موجه للشعب وليس لخدام الهيكل، مظهرًا لهم أنه عالم بكل ما يخططه الرؤساء ضده خفية، وإن كانوا قد عجزوا عن تنفيذه عمليًا.
* أخبروني لماذا أنتم ناقمون، كأنني باقٍ معكم زمانًا طويلًا في هذا العالم؟ إني أقر أنني حمل ثقيل عليكم، ولا أشَّكل مسرة كبيرة عند الذين لا يكرمون الفضيلة... لكن لا تنصبوا لي شبكة الموت في غير أوانها. "أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد"، وسوف أرحل بفرحٍ حين يأتي الوقت المناسب لآلامي... سأرحل من وسط الأشرار كإله، لكنني أبقى مع خاصتي كل الأيام حتى وإن ظهرت كأني غائب بالجسد...
لماذا تمزقون أنفسكم إربًا بمشورات غير مثمرة؟
اغمدوا سلاح الحسد، لأنكم تصوبونه بلا هدف.
لن تخضع الحياة للموت، ولن ينال الفساد من عدم الفساد شيئًا.
لن تمسكني أبواب الجحيم، ولن أصبح جسدًا ميتًا في قبوركم، بل أنطلق مرتفعًا إلى ذاك الذي أنا منه.
سأصعد ثانية إلى السماء، منظورًا من الناس والملائكة معًا، كحاكم على تجديفكم. فسيتعجب البشر من صعودي. وحينما يلاقيني الملائكة يقولون: "ما هذه الجروح في يديك؟" أجيبهم: "هي التي جرحت بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6).
* يلزمني أن أكمل تدبيري، بهذا تأتي آلامي(798).
وحيثأكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". [34]
يشبه البعض حديث السيد المسيح هنا بعمود السحاب والنار اللذين كان يظهران لشعب بني إسرائيل في البرية. لهذا الحديث جانبه المشرق المفرح كما له الجانب المظلم.
الجانب المفرح أن السيد المسيح يسير في هذا العالم يسيرًا ليعبر وادي الألم ويصعد إلى حيث الآب. إنه عالم مملوء بالمتاعب، لم يعبر به يوم دون أن يحمل فيه الصليب، لكن الزمن لن يطول. أيامنا مليئة متاعب، يلزمنا أن نحتمل الأشواك، ونتخطى العقبات والحواجز، لكن شكرًا لله أنها قليلة! لن تعبر الآلام معنا إلى الفردوس!
بقوله "أمضي" يؤكد أنه قد قَبِل الموت بإرادته وليس قسرًا، كما اختار هذه الرحلة الشاقة، كسفيرٍ عن الآب يقدم حياته مبذولة عن العالم ثم يعود إليه. ثورة الرؤساء ضده ومقاومتهم له ليس لها قوة بدون سماحٍ منه، وفي نفس الوقت تلهب قلبه كابن البشر أن يعبر إلى الآب.
أما الجانب المظلم فهو ما يحمله الرؤساء من بغضة وكراهية، فيسرعون إلى الخلاص منه من الأرض كلها، لكنهم لم يدركوا أنهم يطلبونه ولا يجدونه. إنهم ينالون ثمر جحودهم له، ويشربون من كأس خطاياهم، حيث لا يستطيعون التعرف عليه والبلوغ إليه.
يرى البعض أنه يتحدث هنا عما سيحل بهم حين يهاجم الرومان مدينة أورشليم بقيادة القائد تيطس، فيصرخون طالبين مخلصًا كما طلب آخاب الملك إيليا النبي وبحثوا عنه فلم يجدوه (1مل 18: 10).
لعله قصد أنهم في يوم الدينونة إذ يكتشفون مقاومتهم للحق يطلبون التمتع بشركة المجد مع المسيا فلا يجدون، لأن باب التوبة يُغلق، ويُجازى كل واحد حسب أعماله. إنهم يتوقعون أنهم يخلصون ويتمتعون بالسماء، فيجدون الذي قاوموه هو السماوي ديان البشرية، وأنهم لم يتأهلوا للدخول إلى السماء، إذ رفضوا الصليب، شجرة الحياة.
* يقول الطوباوي بولس عن حق: "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 3). وأيضًا:"حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع" (غل 6: 10)... فإنه حينما تمضي الفرص لا يتوفر لنا ما تأتينا به. ينبغي علينا ألا ننام عندما تكون الخيرات حاضرة، بل أن نسهر بالأحرى، وألا نجتهد بغير حكمة أن ننال ما هو نافع، حينما يكون البحث بلا طائل.
* فليأت إذن بولس الروحاني مناديًا بصوتٍ عالٍ للذين ماتوا عن الخطية: "لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 3-4). وفي عظته عن القيامة أيضًا يقول: "ثم نحن الأحياء سنُخطف جميعًا معهم في السُحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1 تس 4: 17)...
أجل، إذ يخاطب اللص الذي عُلق معه، وعند أبواب الموت عينها، وبالإيمان به، أمسك بنعمة القديسين، فيقول له: "الحق الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).
فالذين كرموه بالطاعة يكونون معه دون عائق ما، وسيفرحهم بالخيرات التي تفوق الفهم، أما الذين لا يكفون عن إهانته بحماقتهم، فبالرغم من كونهم أبناء العرس سيُطرحون في الهاوية في حزن لينالوا عقوبات مرة. وكما هو مكتوب: "يُطرحون إلى الظلمة الخارجية" (مت 8: 12).
* هنا يسبق فيخبرهم بقيامته، فإنهم لم يعرفوه حين كان حاضرًا، لكن بعد ذلك سيطلبونه حينما يجدون الجماهير قد آمنت به.
ستحدث آيات عجيبة عندما يقوم الرب ويصعد إلى السماء. ستتم أعمال قديرة بواسطة تلاميذه، لكنه هو العامل بهم كما عمل بنفسه، إذ قال لهم: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
عندما مشى ذلك الأعرج الذي كان جالسًا عند الباب على قدميه، وذلك عند سماعه صوت بطرس، فتعجب الناس، تحدث معهم بطرس أنه ليس بقوته فعل ذلك بل بذاك الذي قتلوه (أع 3: 16). نُخس كثيرون في قلوبهم وقالوا: "ماذا نفعل؟" إذ رأوا في أنفسهم أنهم قد رُبطوا بجريمة الشر البشعة، إذ قتلوا ذاك الذي كان يليق بهم أن يكرّموه ويعبدوه(799).
* لم يقل: "حيث سأكون أنا" بل "حيث أكون أنا" [34]. لأن المسيح كان دائمًا في هذا الموضع عندما كان في طريقه للعودة. فقد جاء بطريقة لم يفارق بها الموضع (السماء). "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13). لم يقل أنه كان في السماء. لقد تحدث وهو على الأرض، وقال أنه في ذلك الوقت كان في السماء(800).
* لم يقل "سوف لا تقدرون أنتم أن تأتوا" بل "لا تقدرون أنتم أن تأتوا" [34]، لأنهم في ذلك الحين لم يكونوا قادرين على هذا. ولكي يعرفوا أنه لم يقل هذا لكي يسبب لهم يأسًا قال هكذا لتلاميذه: "حيث أذهب لا تقدرون أنتم أن تأتوا" (يو 13: 33). مع هذا في صلاته من أجلهم قال: "أيها الآب، أريد حيث أكون أنا يكونون هم أيضًا" (يو 17:4). وأخيرًا شرح ذلك لبطرس وقال له: "حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرًا" (يو 13: 36)(801).
* حتى في الحياة الحاضرة إن تصرف جندي بغير لياقة مع ملكه، فإنه لن يقدر أن يرى الملك، إنما يُعزل من سلطته وينال عقوبة عنيفة. لذلك نحن إن سرقنا أو طمعنا أو أسأنا إلى الآخرين، إن لم نمارس أعمال الرحمة لن نستطيع أن نذهب إلى هناك، بل نعاني مما حدث مع العذارى (الجاهلات). فحيث يوجد هو لا يستطعن أن يدخلن بل يتقاعدن، تنطفئ مصابيحهن، أي تفارقهن النعمة(802).
إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟
ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلم اليونانيين؟" [35]
ظنوا أنه يتحدث عن تركه لليهودية وانطلاقه إلى شتات العالم يكرز بين اليهود المشتتين في دول كثيرة يحملون ثقافة يونانية، ويستخدمون الترجمة السبعينية اليونانية. وكان يهود اليهودية يطلبون تنقية اليهود من الفكر الهيليني (اليوناني)، ولعله قصد هنا ذهابه إلى الأمم الوثنيين ليكرز لهم.
* ما هو "شتات اليونانيين"؟ هكذا كان اليهود يدعون الأمم، لأنهم كانوا مبعثرين في كل موضع، وممتزجين الواحد مع الآخر دون شبع. هذا الخزي سقط بهم هم أنفسهم بعد ذلك، إذا صاروا في شتات... بعد قولهم هذا لاحظوا كيف أنهم لم يقولوا عنه أنه ذاهب لكي يهلكهم بل "ليعلمهم". إلى هذه الدرجة اسقطوا غضبهم(803).
* بالحقيقة كان الرب ذاهبًا إلى الأمم (اليونانيين)، ليس بحضوره الجسدي، وإنما بقدميه. ما هاتان القدمان؟ هاتان اللتان أراد شاول أن يطأهما باضطهاده عندما صرخت الرأس إليه: "شاول، شاول لماذا تضطهدني؟" (أع9: 4)(804).
* هذا ما يقول عنه الرب أنهم لا يعرفون الموضع -إن صح القول أنه موضع- الذي هو حضن الآب، هذا الذي لن يفارقه المسيح، ولم يكونوا كفء أن يدركوا أين كان المسيح، الذي منه لن يُسحب قط المسيح، فإلى حيث هو ذاهب كان هو أيضًا قاطنًا.
كيف يمكن للقلب البشري أن يدرك هذا؟
وبالأكثر كيف يمكن للسان أن يشرحه؟
هذا لم يدركوه قط، ومع هذا سبقوا فأعلنوا عن خلاصنا بأن الرب يذهب إلى شتات الأمم، ويحققوا ما قرأوه ولم يفهموه. "شعب لم أعرفه خدمني، بسماع الأذن أطاعني" (مز 18: 14). هؤلاء الذين كانوا أمام عينيه لم يسمعوا له، والذين سمعوا بآذانهم كان صوته يرن فيها(805).
ستطلبونني ولا تجدونني،
وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" [36]
* لا يقولون أنه سيصعد إلى السماء، مع أنهم سمعوا بوضوح: "أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني" [33]. لكنهم يتخيلون مدينة اليونانيين كأن الآب أرسله في وسطهم...
إنهم كمن يتنبأون، وهم لا يدرون بما يقولون، إذ تحركوا بدافعٍ إلهيٍ ما، فيقدمون المسيح إلى مدينة الأمم خلال الشك، مفكرين فيما يكون بعد قليل حقيقةً.
إنهم بهذا يلقون عليه وصمة عارٍ، كأنه قد تعدى الناموس فعلًا... وأن ذلك فيه نقض للنواميس الإلهية وعدم مبالاة بالأمور.
37 وَفِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ الْعَظِيمِ مِنَ الْعِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى قِائِلًا: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. 38 مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ». 39 قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ. 40 فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هذَا الْكَلاَمَ قَالُوا: «هذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ». 41 آخَرُونَ قَالُوا: «هذَا هُوَ الْمَسِيحُ!» وَآخَرُونَ قَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ 42 أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ، الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا، يَأْتِي الْمَسِيحُ؟» 43 فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ. 44 وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ. 45 فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» 46 أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَانِ!» 47 فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ 48 أَلَعَلَّ أَحَدًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟
"وفي اليوم الأخير العظيم من العيد،
وقف يسوع ونادى قائلًا: إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب". [37]
الذين التصقوا بموسى النبي شربوا ماءً من الصخرة في البرية حيث كانت الصخرة تتبعهم وتفيض عليهم بما يرويهم، أما من يؤمن بالسيد المسيح فيحمل الصخرة في داخله، وينطلق الفيض لا من الخارج بل من بطنه، أي من إنسانه الداخلي حيث يُقام ملكوت الله.
يدعو اليهود الماء الجاري ماءً حيًا، لأنه دائم الحركة، لن يتوقف عن الحركة. هكذا إذ يوجد السيد المسيح في القلب يتمتع المؤمن بنعمة فوق نعمة، تفيض هذه النعم على من هم حوله (أم 10: 11). فلا يكفينا أن نشرب من المجرى الذي في داخلنا، لنستريح بالنعمة الإلهية المعطاة لنا، وإنما يلزم أن يفيض هذا المجرى الداخلي ليروي الكثيرين. الأرض الجافة المقفرة ليس فقط تتحول إلى فردوسٍ، وإنما تفيض بمياهها على نفوس جافة كثيرة لتشاركها الطبيعة الفردوسية الجديدة.
في اليوم الأخير من العيد وقف السيد المسيح يقدم دعوة للشعب العائد إلى بيوتهم، قدمها علانية مناديًا بصوتٍ عالٍ. في الأيام الأولى للعيد يقدمون ذبائح من أجل السبعين دولة في العالم، أما اليوم الأخير فمخصص لإسرائيل وحده. لهذا كان اليوم الثامن يُحسب "العظيم"، له تقديره الخاص.
* إنه لا يقول: "يجب أن تشربوا، يجب أن تجروا، أردتم أو لم تريدوا"، بل من كان راغبًا وقادرًا على الجري والشرب، فسيغلب ويرتوي(806).
* إنه ليس بالأمر التافه أننا نقرأ أن نهرًا ينبع من عرش اللَّه، إذ تقرأون كلمات الإنجيلي يوحنا في هذا الفحوى: "وأراني نهرًا صافيًا من ماء حياة لامعًا كبلّورٍ خارجًا من عرش اللَّه والخروف. في وسط سوقها، وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتيّ عشر ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم" (رؤ 1:22-2). هذا بالتأكيد النهر الصادر عن عرش اللَّه، أي الروح القدس الذي يشرب منه من يؤمن بالمسيح كما قال المسيح نفسه [37-38] (807).
* إذ ينتهي الأمر بأن يكون على المرء أن يأخذ كل شيء من داخل النهر أو الوادي، وأن يتهلل بذلك، نقولإن ربنا يسوع المسيح يُقارن بنهرٍ، فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء، وفيه نفرح فرحًا روحيًا إلهيًا.
* إن كنا عطشى فلنأتي، لا بأقدامنا بل بعواطفنا. لنأتي لا بالتحرك من موضعنا بل بالحب. بالرغم من أنني حسب الإنسان الداخلي من يحب يتحرك أيضًا من مكانٍ؛ من غيَّر مكانه يهجر بجسده ذلك بحركة القلب. إن كنت شيئًا ما وكنت قبلًا تحب شيئًا آخر فأنت الآن لست في ذات الموضع الذي كنت فيه(808).
* إن الروح بالرغم من اتحادها مع اللّه فهي لا تشعر بملء السعادة بطريقة مطلقة. كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه.
إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.
وهكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:118). لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة، ويقول: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 2:1).
مَن يهب الجميع الحياة ويريد إن الجميع يخلصون يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس(809).
* يلزمنا أن نفكر بعمقٍ في الكلمات المقدسة بالنشيد: "هلمي معي من لبنان، هلمي معي من لبنان انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون، من خدور الأسود من جبال النمور" (نش 8:4).
ماذا نفهم إذن من هذه الكلمات؟
يجذب ينبوع النعمة إليه كل العطشى. وكما يقول الينبوع في الإنجيل: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب" (يو 37:7).
لا يضع المسيح لهذه الكلمات حدودًا لعطشنا ولا لتحركنا نحوه، ولا لارتوائنا من الشرب، ولكن يمتد أمره إلى مدى الزمن، ويحثنا أن نعطش وأن نذهب إليه. وإلى هؤلاء الذين ذاقوا وتعلموا بالتجربة أن اللّه عظيم وحلو (مز 8:34)، فإن حاسة الذوق عندهم تُصبح حافزًا لزيادة التقدم. لذلك فالشخص الذي يسير باستمرار نحو اللّه لا ينقصه هذا الحافز نحو التقدم(810).
* إذا أردنا أن نسوق شاهدًا أعظم من الكتاب المقدس نسجل ما قاله السيد المسيح إلى هؤلاء الذين آمنوا به: أنهار ماء حي ستفيض من كل من يؤمن به "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 38:7). وتُضيف أن القلب النقي يُشار إليه بالتعبير "بطن". ويصبح لوح للشريعة المقدسة (رو 15:2) كما يقول الرسول. ويوضح تأثير الشريعة المكتوبة في القلب ليس بحبرٍ (2 كو 3:3)، ولكن بروح اللّه الحي الذي يرسم هذه الحروف في النفس، وليس على ألواح حجرية كما يقول الرسول، ولكن على لوح القلب النقي، الخفيف والمضيء.
يلزم أن تُنقش الكلمات المقدسة الموجودة في الذاكرة النقية الصافية، على القدرة القائدة للنفس، بحروف بارزة واضحة. تُشير الزفير في الحقيقة إلى تمجيد بطن العريس فقط باللوح الذي يشع نورًا بلون السماء.
ترشدنا هذه الصورة لكي نكون متنبهين للأشياء السماوية، مكان كنزنا (مت 21:6). فإذا ثبتنا في حفظ وصايا اللّه تتكون لدينا آمال مقدسة تنعش عيون نفوسنا(811).
* بعد ذلك يرفع النشيد العروس إلى أعلى قمة للمجد، مُضفيًا عليها اسم ينبوع المياه الحيّة المتدفقة من لبنان. لقد تعلمنا من الكتاب المقدس عن طبيعة اللّه المعطية للحياة كنبوة من شخص اللّه تقول: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر 13:2). ثم يقول السيد المسيح للمرأة السامرية: "أجاب يسوع وقال لها، لو كنت تعلمين عطية اللّه، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء حيّا" (يو 10:4). ثم قال: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 37:7-39).
تقول كل من هذه الفقرات أن الماء الحي هو الطبيعة المقدسة، لذلك جاز للنشيد أن يسمى العروس بصدق بئر ماء حي يفيض من لبنان. هذا في الحقيقة يتعارض مع ما هو معروف، فجميع الآبار تحتوي مياه ساكنة، والعروس وحدها عندها مياه جارية في بئر عميق، ومياهها تفيض باستمرار.
من يقدر ويستحق أن يفهم العجائب الممنوحة للعروس؟ يتضح أنها قد وصلت إلى أقصى ما تتمناه، فقد قورنت بالجمال الأبدي الذي منه نشأ كل جمال. وفي نبعها تشبه نبع عريسها تمامًا، وحياتها بحياته، وماؤها بمائه. إن كلمته حية، وبها تحيا كل نفس تستقبله.
هذه المياه تفيض من اللّه كما يقول ينبوع المياه الحيّة: "لأني خرجت من قبل اللّه وأتيت" (يو 42:8).
تحفظ العروس فيض مائه الحي في بئر نفسها، وتصبح بيتًا يكنز هذه المياه الحيّة التي تفيض من لبنان، أي التي تكوّن سيولًا من لبنان، كما يقول النص.
لقد أصبحنا في شركة مع الله بامتلاكنا هذه البئر، حتى نحقق وصية الحكمة (أمثال 17:5، 18)، ونشرب مياها من بئرنا، وليست من بئرٍ آخر. نتمتع بهذا في المسيح ربنا له المجد والعظمة إلى الأبد آمين(812).
يُشَار إلى الرب أنه نهر يفيض بنعمته ليروي ظمأ بني البشر (مز 36: 7-8) يفيض على الأمم بالسلام والمجد (إش 66: 12) LXX.
تجري من بطنه أنهار ماء حي". [38]
من يؤمن بي ويقبلني بكوني المسيا الذي تنبأت عنه الأسفار المقدسة، فإنه يسكن في قلبه أو في أحشائه الروح القدس الذي يفيض حياة. يصير ينبوعًا يفيض بثمار الروح من حب وفرح وسلام وحرية واستنارة. وقد اعتاد اليهود أن يشبهوا عمل الروح القدس بالمطر المبكر والمتأخر والينابيع والآبار والأنهار إلخ (مز 36: 8-9؛ إش 44: 3-4؛ يوئيل 2: 23).
بقوله "إن عطش" يعني من يشعر بفقره إلى البرّ أو احتياجه إلى البركات الروحية أو بالفراغ الداخلي.
"فليقبل إليّ ويشرب"، لا يقف بعد عند رئيس الكهنة ويُعجب بالإناء الذهبي الذي يسكب منه قليلًا من ماء بركة سلوام، ولا يذهب إلى الفلسفات الوثنية الكثيرة والمتضاربة التي لها من جاذبية تخدع الإنسان، بل ليأتي إلى السيد المسيح كما قدمه لنا الكتاب المقدس بعهديه.
* مجازاة الإيمان عظيمة وبلا نهاية، يقول من يؤمن ينعم بأغنى نعم الله، لأنه سيمتلئ بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادرًا على أن يفيض على قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذي يفيض بالخير المُعطى من الله على جاره أيضًا.
* يوجد عطش داخلي وتوجد بطن داخلية، إذ يوجد إنسان داخلي. هذا الإنسان الداخلي بالحق هو غير منظور، أما الإنسان الخارجي فمنظور، لكن الداخلي أفضل من الخارجي. ما لا يُرى يُحب أكثر، فإنه بالتأكيد أن الإنسان الداخلي يُحب أكثر من الخارجي(813).
* ما هو الينبوع، وما هو النهر الذي يفيض من بطن الإنسان الداخلي؟ الميل إلى الخيرية، الذي به يراعي الإنسان الاهتمام بأخيه. فإن تصوّر أن ما يشربه يلزم أن يكون لشبعه هو وحده لن يكون فيض من المياه الحيّة من بطنه، لكنه إن أسرع إلى الاهتمام بصالح قريبه لا يكون جافًا بل كون فيه فيض(814).
* يقصد بالبطن هنا القلب... أين يوجد في الكتاب المقدس أن أنهارًا لمياه حيَّة تفيض من بطنه؟ لا يوجد.
فماذا إذن يعني: "من آمن بي كما يقول الكتاب"؟ هنا يلزمنا أن نتوقف فقد يكون القول: "تجري من بطنه أنهارًا" تأكيد أنه عن المسيح. فكثيرون قالوا: "هذا هو المسيح"، و"عندما يأتي المسيح، هل يصنع معجزات أكثر"؟ إنه يظهر الحاجة إلى معرفة صحيحة، وأن يقتنعوا لا من المعجزات بل من الكتاب...
لقد سبق فقال: "فتشوا الكتب" (يو 5: 39) وأيضًا: "مكتوب في الأنبياء"، و"يكون الكل متعلمين من الله" (يو 6: 45)، "موسى يشكوكم" (يو 5: 45)، وهنا يقول:" كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار"، ملمحًا نحو عظمة النعمة وفيضها... وقد دعاها في موضع آخر "حياة أبدية" أما هنا فيدعوها "أنهار ماء"...
فإن نعمة الروح إذ تدخل الذهن وتقيم، تفيض أكثر من أي ينبوع.
إنها لن تتوقف ولن تفرغ...
فلكي يعني إنها تقدم عونًا لا ينضب، وفي نفس الوقت طاقة لا تخيب، دعاها "بئرًا" وأنهارًا، ليست نهرًا واحدًا، بل هي أنهار لا تُحصى.
يمكن للشخص أن يدرك بوضوح ما تعنيه إن وضع في اعتباره حكمة اسطفانوس ولسان بطرس وغيرة بولس(815).
* هكذا يؤمر النبي من الرب أن يعبر إلى النهر (1 مل 17: 2) لكي يشرب من العهد الجديد ليس فقط بنهر بل "تجري من بطنه أنهار مياه حية" [38]، أنهار فهم، أنهار تأمل، أنهار روحية، هذه التي تجف في زمن عدم الإيمان لئلا يشرب مدنسو المقدسات وغير المؤمنين. في ذلك الموضع عرف الغربان ما لم يعرفه اليهود. أطعمة الغربان، ذاك الذي اضطهده الجنس الملوكي الشريف(816).
"قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه،
لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد،
لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد". [39]
لا يبخل الله بروحه على البشرية، فقد خلق الإنسان ليعمل روح الله فيه، ويستقر فيه. لكن الإنسان بإرادته أعطى ظهره له ولم يقبله، فصار الروح أشبه بضيفٍ يعمل في رجال الله وفي الأنبياء، بل وأحيانًا حتى في غير المؤمنين كي يجتذبهم للإيمان. أما وقد تمجد الرب على الصليب ودفع الثمن لغفران خطايانا وتمجيدنا فيه، وهب الروح بفيض كما سبق فوعد في يوئيل 2: 8.
الروح القدس هو العطية العظمى، بل واهب العطايا الذي نلنا وعدًا بحلوله على الكنيسة وسكناه في قلب المؤمن، وتوزيع مواهب وعطايا حسبما شاء، لمجد الله وبنيان الكنيسة وخلاص النفوس.
يرى القديس أغسطينوس أن الروح القدس قد حلّ على كثيرين قبل أن يتمجد يسوع بقيامته، مثل سمعان الشيخ وحنّة النبيّة والقديسة مريم عند التجسد الإلهي، لكن حلول الروح القدس بعد القيامة جاء حلولًا عامًا على الكنيسة في عيد العنصرة حيث نطقت بكل لغات الأمم. لكن لماذا لا ينال المؤمن النطق بكل لغات الأمم عند عماده الآن ونواله الروح القدس؟
يجيب القديس أغسطينوس بأنه إذ انتشرت الكنيسة في العالم صار المسيحيون ينطقون بكل لغات العالم، فكل مسيحي كعضو في الكنيسة الجامعة يحسب نفسه كمن يتكلم بكل لغات الأمم، لأن ما ينطق به إخوته كأنما ينطق به هو كعضوٍ في الجسد الواحد(817).
مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس أنه بعد قيامته وهبنا الروح القدس الذي به نحب الكنيسة ونتمتع بوحدتها وحبها، وبهذا ننعم بالقيامة معه، حيث نهاجر بقلوبنا العالم لنحيا معه في السماء. [يكون لنا الروح القدس إن كنا نحب الكنيسة، لكننا نحب الكنيسة إن ثبتنا في وحدتها وحبها... نحن هنا نولد ونموت، ليتنا لا نحب هذا العالم، بل نهجره بالحب، بالحب نسكن في الأعالي، بذات الحب الذي به نحب اللَّه. في هذه الرحلة لحياتنا ليتنا لا نفكر في شيء غير أننا لن ندوم هنا، وأنه بالحياة الصالحة نعد لأنفسنا موضعًا حيث لا نهجره قط(818).]
إن كان الروح لم يكن قد أُعطي بعد، فكيف صنع الأنبياء في العهد القديم معجزات؟ أليست هي من عمل الروح القدس الساكن فيهم؟ وكيف مارس تلاميذ الرب المعجزات قبل حلول الروح القدس عليهم؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [لم يخرجوا الشياطين بالروح، بل صنع بعضهم ذلك بالسلطان المعُطي لهم.]
"أرسلهم": لم يذكر: "أعطاهم الروح القدس" بل "أعطاهم سلطانًا" (مت 10:1) لكي يطهروا برص ويقيموا موتى ويخرجوا شياطين، بنفس الطريقة بالنسبة للأنبياء. في حالة الأنبياء يعترف الكل أن هذه العطية هي من الروح القدس. لكن هذه العطية محدودة وكانت ترحل، وناقصة على الأرض... فكان الروح القدس محتفظ بها (لأشخاص معينين). [أما المستقبل فصار بفيضٍ(819).]
* دعي الصليب "مجدًا"... فكان من الضروري تقديم الذبيحة عنا أولًا، حتى تُنزع العداوة التي في جسدنا، فنصير أصدقاء الله، وعندئذ نتقبل العطية(820).
* الروح القدس هو النهر الذي يفيض -حسب العبرانيين- من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأ فم إشعياء (إش 12:66). هذا النهر العظيم الذي يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهرًا بل هو أيضًا أحد المجاري الغزيرة التي تفيض عظمة، كما قال داود: "مجرى النهر يفرح مدينة الله" (مز 4:46). فإنه لا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية بقناة، أي بنهرٍ أرضيٍ، بل بذاك الروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذي يصدر عن ذاك الذي يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جاريُا في أكمل نصيب لفضائل الروح السبع(821).
* بدأ الله الآب يعطي الروح من جديد، وكان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلًا: "إني قد رأيت الروح نازلًا من السماء فاستقر عليه" (يو 1: 32)...
لم يقبل المسيح الروح لأجل نفسه، بل بالأحرى لأجلنا نحن فيه، لأن كل الصالحات تفيض أيضًا فينا بواسطته.
لأنه إذ حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في العصيان والخطية لم يحفظ نعمة الروح. وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المُعطى لها من الله، لهذا يلزم أن الله الكلمة غير المتغير يصير إنسانًا حتى إذا ما نال كإنسان يمكنه أن يحفظ الصلاح في طبيعتنا على الدوام. ودليلنا في تفسير هذه الأسرار هو المرتل الإلهي نفسه، إذ يقول للابن: "أحببت البرّ وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 45: 7).
* في الأنبياء القديسين بريق غني خاص، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك أمورٍ عتيدة ومعرفة أنباء مخيفة. لكننا نثق أن الذين يؤمنون بالمسيح لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل إقامته فيهم... لنفهم أنه يعني سكنى الروح القدس في البشر كاملة وبالتمام.
"فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا:
هذا بالحقيقة هو النبي". [40]
قال البعض إنه النبي العظيم الذي تحدث عنه موسى النبي (تث 18: 15)، لكن للأسف لم يكونوا قادرين على إدراك أن النبي هنا يقصد به المسيا مخلص العالم. وقال آخرون أنه المسيح.
هذا هو المسيح،
وآخرون قالوا:
ألعل المسيح من الجليل يأتي؟" [41]
إذ تنبأ العهد القديم بأن المسيح قادم من سبط يهوذا من بيت داود تشكك البعض في أمره، هؤلاء الذين لم يعرفوا أنه وُلد في بيت لحم وظنوا أنه وُلد في الجليل.
يقول القديس كيرلس الكبير أن الجموع كما الفريسيين كانوا يفتقدون الدقة في هذا الأمر، حيث ظنوا أن ما وعد الله به موسى بأنه سيقيم نبيًا من وسط شعبه مثله (تث 18: 18) شخص آخر غير المسيح. وبسبب عدم الدقة ظن الفريسيون أن ثلاثة يظهرون، إذ قالوا للقديس يوحنا المعمدان: "ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟" (يو 1: 25).
"ألم يقل الكتاب أنه من نسل داود،
ومن بيت لحم، القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح؟" [42]
لقد عرف اليهود أن السيد المسيح يأتي من نسل داود (مز 132: 11)، وأنه يولد في بيت لحم (مي 5: 2) لكن كما يقول القديس كيرلس الكبير إذ أُشيع عن يسوع أنه تربى في ناصرة الجليل (يو 4: 16) سقطوا عن الحق وأعوزهم التفكير السليم.
"فحدث انشقاق في الجمع لسببه". [43]
* بسبب انشقاقهم لم يعرفوا المسيح ولا فهموا دقة الكتاب المقدس، لأنهم لو آمنوا أن يسوع هو نبي الناموس، لما سقطوا في هذا الجدل غير اللائق.
"وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه،
ولكن لم يلقِ أحد عليه الأيادي". [44]
نتيجة هذا المقال حدث انشقاق في الجمع بسببه إلى أربعة فرق: فريق حسبه النبي وليس المسيح، وفريق حسبه المسيح، والثالث رأى فيه علامات المسيح لكنهم تعثروا بسبب ظنهم أنه من الجليل، أما الفريق الرابع فهو الذي تبع الرؤساء وأرادوا القبض عليه ولم يستطيعوا.
* لم يلق أحد عليه الأيادي، ليس توقيرًا له، بل لأن قدرته وحدها أوقفتهم.
"فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين،
فقال هؤلاء لهم:
لماذا لم تأتوا به". [45]
إذ كان اليوم الأخير العظيم من العيد لم يكن ممكنًا أن يصبغ عليهم روح الفرح والبهجة، لأنهم حرموا أنفسهم من السيد المسيح ينبوع الفرح.
بينما مارس رئيس الكهنة طقس العيد، لكن كل ما كان يشغله هو والكهنة والفريسيون لا أن يتمتع الشعب بحب الله ويتعرفوا على سرّ العيد، إنما أن ينشغل الشعب بالمظاهر، بينما يخطط الرؤساء مكيدة. في نظرهم السياسات الكنسية أهم من كل عملٍ روحي. جلسوا في حجرة الجلسات الخاصة مترقبين مجيء خدام الهيكل موثقين يسوع كسجين.
إذ بعثوا بالخدام (جند الهيكل) للقبض عليه أصابهم الخوف حين رأوهم قادمين بدونه. دُهشوا حين وجدوا الخدام قد حضروا دونه، ولعلهم ظنوا أنه كعادته في هذه الأحوال كان يختفي منهم حتى تحين الساعة.
لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان". [46]
لم يكونوا يتوقعون أن خدام الهيكل أنفسهم ينجذبوا إليه، ويشهدوا له في جرأة قائلين أمام المجمع: "لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان". ربما تبع الخدام السيد منذ فترة مجيئه في وسط العيد، وقدر ما أنصتوا إليه لكي يجدوا علة يمسكونه بها اقتنعوا بالأكثر أنه بار مملوء حكمة سماوية.
قيل لهم من الرؤساء أنه نبي كاذب ومضل، لكنهم إذ سمعوه تعلقوا به، وأدركوا أنه يعلم بالحق، وكل الحق، وليس شيئًا سوى الحق.
* يمكننا أن نفترض أن كلمات الخدام كانت ذاخرة بالتعقل هكذا: إن كنا نرضي أنفسنا بتعليم الكتب المقدسة، وإن كنا نفتخر أننا تهذبنا بالنواميس الإلهية، وإن كنا نتعجب للحكمة كخيرٍ غير أرضي، لماذا في شرٍ نطرد من له هذه الحكمة، ونُوصم بخطأ ليس بقليل ذاك الذي ينبغي ألا نتهمه، بل بالأحرى نحن مدينون له بمحبة خاصة؟ أجل ونحن نخضع لمخاطر الناموس متعطشين أن نقتل بريئًا بارًا (خر 23: 7) بدون سبب.
أعتقد أن بالنسبة للعبارة: "لم يتكلم قط إنسان هكذا" يمكن للمرء أن يقول شيئًا ما أقرب إلى الموضوع، لأنهم يقولون تقريبًا هكذا: ليس من المعقول أن تلومونا نحن الذين لم نأتِ إليكم الآن بمن تطلبونه. لأنه كيف يمكن لإنسانٍ أن يقاوم، حتى ولو ضد إرادته، إنسان هو بحسب كلماته إله؟
لأنه لم يتكلم كإنسانٍ، ولا كانت كلماته كلمات إنسانٍ، بل هي بصواب تخص ذاك الذي هو بالطبيعة الله.
فليقل أي أحد إن كان أحد الأنبياء القديسين يقدر أن يسمي نفسه نهرًا أو يجرؤ على القول: إن عطش أحد فليأتِ ويشرب منه؟ متى قال لنا القدير موسى: "من آمن بي، تخرج من بطنه أنهار ماء حي"...؟ كيف لنا أن نمسكه ضد مشيئته، هذا الذي أعلى منا بما لا يقاس، كإله فوق الإنسان؟
هكذا قدم الخدام برهانًا واضحًا على أن الرب هو الله بالطبيعة... وهكذا سددوا ضربة من كل جانب إلى مقاومي الله.
* ها هم رؤساء الكهنة والفريسيون الذين كانوا يظنون أنهم أحكم من غيرهم، وقد حضروا عند المسيح وأبصروا عجائبه، وقرأوا الكتب ولم يفيدهم ذلك نفعًا، بل أصابهم ضرر.
أما خدامهم فقد اصطادهم خطاب واحد من السيد المسيح، سمعوه مع الجمع، وكانوا قد ذهبوا إليه لكي يقبضوا عليه، فعادوا من عنده مربوطين متعجبين منه.
ليس لنا أن نمدح فهمهم فقط، لأنهم لم يحتاجوا إلى آيات، لكن تعليمه وحده اقتنصهم. لأنهم لم يقولوا أنه لم يفعل إنسان في وقت من الأوقات عجائب مثل هذا، لكنهم قالوا "لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان"، فلا ينبغي إذًا أن نتعجب من فهمهم فحسب، لكن سبيلنا مع ذلك أن نتعجب من مجاهرتهم، لأنهم قالوا هذه الأقوال للفريسيين الذين أرسلوهم.
كلماتهم ليست كلمات أناسٍ معجبين به فحسب، بل من يلومون أيضًا سادتهم، لأنهم يقاومون دون أن يسمعوا. مع أنهم لم يسمعوا عظة بل حديثًا مقتضبًا، فإنه في العظة الطويلة يأخذ العقل قراره بلا تحيز فلا تكون حاجة إلى حوارات طويلة(822).
ألعلكم أنتم أيضًا قد ضللتم". [47]
لا عجب إن كانت المسيحية منذ نشأتها الأولى وإلى الآن يظن البعض أنها تضلل، من يقبلها قد ضل.
* تأملوا كيف أن هذا القول مفعم بنوعٍ من اليأس من أي رجاء فيما يخص الشعب... ما الذي أبعدكم عن محبتكم لنا بالرغم من أنكم قد نشأتم في نفس عدم الإيمان معنا؟
"ألعل أحدًا من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به؟" [48]
مقياس الحق عندهم هو قبول عدد كبير من الرؤساء له، فإذ لم يؤمن به إلاَّ قلة قليلة منهم، مع إيمان الكثيرين من عامة الشعب فهذا في نظرهم دليل على أنه مضل وليس فيه الحق.
يتعجب القديس يوحنا الذهبي الفم كيف حسبوا هذا اتهامًا ضد المسيح وليس ضد رفض الرؤساء والفريسيين الإيمان به(823).
49 وَلكِنَّ هذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». 50 قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: 51 «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَانًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلًا وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟» 52 أَجَابُوا وَقَالوُا لَهُ: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». 53 فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ.
"ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون". [49]
كان الفريسيون يحتقرون الشعب، لذا إيمانهم بالسيد المسيح لا يُعتد به، وحسبوهم غير فاهمين للناموس وملعونين.
كانت القيادات الدينية في ذلك الحين حتى مع وجود تعارض في الفكر، وصراع داخلي فيما بينهم إلا أنهم يتفقون معًا في نظرتهم إلى الشعب غير المتعلم باستخفافٍ شديدٍ واحتقارٍ. عوض أن يلوموا أنفسهم أنهم أهملوا في رعايتهم وتعليمهم يحسبون الشعب ملعونًا. يلقوا باللوم على الشعب في جهله عوض اللوم على أنفسهم في تخليهم عن عملهم التعليمي.
* سقط (الفريسيون) في تفاخرهم المعتاد، ملقين بتهمة الجهل على الذين تعجبوا من يسوع كصانع عجائب، وكآت بأمورٍ إلهية، ومتوجين هامتهم وحدهم بالخدمة حسب الناموس ومعرفة الكتب المقدسة... يتباهون كثيرًا بأنفسهم، وقد طاشت عقولهم، ولخفتهم الشديدة يوصمون الجميع بالجهل هكذا بسهولة.
* أيها الفريسيون، إن هذا لوم عظيم لكم، إذ آمن الجمع بالسيد المسيح، وأنتم أنكرتموه. لقد مارسوا أفعال من يعرفون الشريعة فكيف يكونون ملعونين؟ بالحقيقة أنتم الملعونون لأنكم لم تحفظوا الشريعة.
الذي جاء إليه ليلًا وهو واحد منهم". [50]
"ألعل ناموسنا يدين إنسانًا لم يُسمع منه أولًا،
ويعرف ماذا فعل؟" [51]
كان نيقوديموس فريسيًا وأحد رؤساء اليهود. هكذا لم يترك الله نفسه بلا شاهد حتى وسط فساد مجمع السنهدرين؛ وفي قصر نبوخذنصر وُجد دانيال النبي؛ وفي قصر ارتحشستا وُجد نحميا. وجد أيضًا حوشاي بين مشيري أبشالوم الأشرار كأداة تحول مشوراتهم الشريرة إلى غباوة.
احتج نيقوديموس على بطلان الإجراءات التي اُتخذت ضد يسوع، إذ هي مخالفة للناموس.
* أظهرهم نيقوديموس أنهم لا يعرفون الشريعة ولا يعملون بها، لأن الشريعة لم تأمر بقتل إنسانٍ لم يكن قضاتها قد سمعوا كلامه أولًا، وهؤلاء قد نهضوا إلى القتل قبل استماع الكلام، فلذلك هم عاصون للشريعة.
* انزعج بعض الشيء إذ حُسب ملعونًا معهم، لأن الضمير يسرع بألا يبقى صامتًا حيال الأمور المضادة له... عاد عليهم بالإهانة نفسها ليس صراحة، بل راح يخاطبهم معترضًا بكلماتٍ تستمد قوتها من الناموس، وليس بشكلٍ علنيٍ مكشوفٍ.
ألعلك أنت أيضًا من الجليل؟
فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل". [52]
مع أن نيقوديموس لم يترك عضويته في مجمع السنهدرين ليتبع السيد المسيح كتلميذٍ له، إلاَّ أنه شهد له في وسط المجمع في أحلك اللحظات.
قام حوارهم على أخطاء كثيرة بجانب حسدهم وشرهم. فحسبوا يسوع من الجليل مع أنه مولود في بيت لحم من بيت داود. وظنوا أن أغلب التلاميذ جليليون مع أنه كان له تلاميذ كثيرون في اليهودية. أيضًا ادعوا أنه لم يقم نبي من الجليل غير أن إيليا النبي كان من جلعاد.
* باطلًا يقول الفريسيون عن المسيح مخلصنا "إنه لم يقم نبي من الجليل"، لأنه كان الأحرى بهم أن يستفسروا كيف وهو الذي جاء من أبوين يهوديين (يو 6: 42) أن يكون جليليًا، وأن يأخذوا في الاعتبار أخيرًا أنه تربى في الناصرة، ولا يضلون عن الإيمان به لهذا السبب.
* قول الفريسيين لنيقوديموس: "فتش وانظر" كأنهم قالوا له اذهب وتعلم، أي أن نيقوديموس لم يعرف قولًا ليس في الكتاب.
انتهت الجلسة بأن عاد كل واحدٍ إلى بيته دون الوصول إلى قرار نهائي.
* اسمح لي يا سيدي أن أسجل هذا العيد الفريد.
ألوف ألوف من الشعب انشغلوا بإقامة المظال.
امتلأت الشوارع والميادين والحقول بها.
خرجت الجماهير بتهليل في موكبين:
موكب يقطع أغصان الأشجار وسعف النخل ليلوّحوا بها.
وآخر ينطلق إلى سِلوام مع رئيس الكهنة ليُحضر ماءً.
الكل في شوقٍ لممارسة طقس عيد المظال بتهليل عظيم!
* ها أنا أرى موكبين خفيّين خطيرين.
موكب خفي للقادة في حيرة،
لن تشغلهم بهجة العيد ما دمت أنت حيّ تخدم البشرية!
يبذلون كل الجهد للخلاص منك مهما كان الثمن!
ويحسبون كل كذب هو حفظ للناموس لكي يقتلوك!
* أما موكبك الخفي فعجيب حقًا!
رفضت الخروج مع أقربائك إلى أورشليم للعيد.
انطلقت كمن في الخفاء لتقيم عيدًا حقيقيًا!
عوض المظال، أردت أن تقيم مدينتك في قلوب مؤمنيك.
عوض أغصان الزيتون وسعف النخل تهبهم سلامك ونصرتك.
عوض أحاديث القادة المملوءة رياءً، أعلنت عن نفسك أنك الحق.
عوض سكب الماء من إبريق ذهبي،
كشفت عن أنهار المياه الحيّة المتفجّرة في داخلنا!
* نعم لتفجّر في داخلي أنهار مياه حيّة،
فعِوض الاحتفال بعيد مظال رمزي احتفل بعيد أبدية لا تنقطع!
عوض ماء سِلوام ارتوي من روحك القدوس.
ارتوي وأفيض على إخوتي.
روحك يحوّل قفرنا إلى فردوس إلهي!
روحك القدوس يهبنا سلامك الحقيقي!
روحك القدوس يهبنا نصرتك الدائمة!
روحك القدوس يقيم منّا مدينة اللَّه المقدسة!
* لك المجد يا من تصعد إلى أورشليمي،
وتحوّل كل مرارة إلى عيد أبدي مفرح!
تفتح أبواب قلبي لأبيك وروحك القدوس!
وجد السمائيون فيه مسرّتهم!
_____
(754) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:2.
(755)Homilies on St. John 48: 2.
(756) Sermon on N.T. Lessons, 83:1.
(757) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:4.
(758)Homilies on St. John 48: 2.
(759) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:5.
(760) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:7.
(761) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:8.
(762) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:8.
(763)Hom 48. PG 59:285.
(764) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:10.
(765)Hom 49. PG 59:287-288.
(766) Of the Christian Faith, 5: 7: 93.
(767) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:11.
(768)Homilies on St. John 49: 1.
(769) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:11.
(770) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 28:12.
(771) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 29:2.
(772) Homilies on St. John 49: 1.
(773)Homilies on St. John 49: 1.
(774) On the Christian Faith, Book 2:9:79.
(775) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 29:4.
(776) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 29:5.
(777) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 29:8.
(778) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 30:2.
(779)Homilies on St. John 49: 3.
(780) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 30:4.
(781) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 30:5.
(782) Against Jovinianus, 2:29.
(783) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 30:6.
(784) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 30:7-8.
(785) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:2.
(786)Hom 50. PG 59:294.
(787) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:2.
(788) On the Christian Faith, Book 5:10:120.
(789) Of the Christian Faith, 5: 10: 120.
(790)Hom 50. PG 59:294-295.
(791)Hom 50. PG 59:295.
(792) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:3.
(793) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:4.
(794)Homilies on St. John 50: 2.
(795) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:5.
(796)Homilies on St. John 50: 2.
(797) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:7.
(798) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:8.
(799) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:9.
(800) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:9.
(801) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:4.
(802)Homilies on St. John 50: 3.
(803)Hom 50.
(804) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:10.
(805) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 31:10.
(806) Against Jovinianus, 1:12.
(807) Of the Holy Spirit Book 3:20:153-154.
(808) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:2.
(809) نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، 1993، عظة 1.
(810) نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 8.
(811) نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 14.
(812) نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 9.
(813) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:2.
(814) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:4.
(815)Hom 51. PG 59:300-301.
(816) Letter, 63: 78 - 79.
(817) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:7.
(818) St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 32:8-9.
(819)Hom 51. PG 59:300-301.
(820)Hom 51. PG 59:301.
(821) Of the Holy Spirit 1:16:177-178.
(822)Homilies on St. John 52: 1.
(823)Homilies on St. John 52: 1.
← تفاسير أصحاحات إنجيل يوحنا: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير يوحنا 8 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير يوحنا 6 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6jmf9jf