الحياة المسيحية هي: حياة البر، حياة القداسة، حياة الكمال، حياة الحب الإلهي.. لكن لا يستطيع أحد أن يبدأ هكذا. لا يستطيع. حتى القديسون الكبار لم يبدأوا هكذا إنما ظلوا يجاهدوا، جهادًا مستمرًا حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة عالية.
قد تبدأ الحياة بمعرفة الله ثم بالتوبة. ولكن كيف تبدأ التوبة. فقد يجد الإنسان عوائق داخلية من داخل نفسه وعوائق خارجية من الآخرين أو من الإغراء أو من الشيطان. كيف ينتصر على كل ذلك؟ ينتصر بأنه يبدأ بالتغصب.
هل تعرفون ما هو التغصب؟ التغصب هو أن يغصب الإنسان نفسه على السير في الطريق الصحيح ويمنع نفسه عن السير في الطريق الخطأ. يغصب نفسه. يغصب نفسه على عمل الخير، ويغصب نفسه على البعد عن الخطية والشكوك.
فأنت لا بد أن تغصب نفسك. إياك وأن تقول أعدائي هم الشياطين، أو أعدائي هم الناس الأشرار، أو أعدائي هي البيئة السيئة. أبدًا. عدوك الأول هو نفسك!
إن كانت نفسك قوية، لا يهمك أي شيء. كل شيء يكون من الخارج، ولكن لا يَمِسَّك من الداخل. ولكن إن كانت نفسك ضعيفة أقل إغراء سيوقعها الأرض. فالمهم أن تغصب نفسك.
إذًا بدء الحياة الروحية، أن يغصب الإنسان نفسه، يخضعها إلى الطريق الروحي، يمنعها.. يُقَوِّمها.. يجعلها لا تسلك حسب هواها. أو على الأقل يُرَوِّض نفسه.. فمن الجائز أن موضوع غصب النفس يكون صعبًا، ولكن رَوِّض نفسك، رَوِّض نفسك على حياة البر لتقودها في الطريق الروحي.
المعوقات الداخلية لخصها القديس يوحنا في رسالته الأولى فقال هي:
شهوة الجسد - شهوة العين - تعظم المعيشة.
ماذا تعني هذه الكلمات؟الذي يتعب الإنسان هو الشهوات ومنها الرغبة في متعة الجسد، والرغبة في متعة المادة، والرغبة في متعة الشهوات الخاطئة، وفي طياشة الفكر، وفي السرحان، حيث يترك الإنسان نفسه للسرحان، ويتلذَّذ بالسرحان ويهيم.. ثم عندما يفيق يجد نفسه قد وقع في عدة خطايا!
كل هذه وغيرها تحتاج إلى التغصب، تغصب نفسك وتمنعها بالقوة. طبعًا كل هذه تعيق الحياة الروحية إلى جوار الإغراءات الخارجية وحروب الشياطين.
إذًا التغصب هو بداية الطريق الروحي وهو الدرجة الأولى في السلم الروحي حتى تصل إلى القمة.
عليك أن تبدأ بالتغصب وتغصب نفسك إلى أن تفتقدك النعمة في الطريق وتعطيك قوة أن تبعد عن الخطيئة.
ولكن قبل أن تغصب نفسك هناك شيء أهم: هو أن يكون عندك الرغبة في الحياة الروحية. عندما يكون عندك الرغبة تبدأ تغصب نفسك.
لذلك أحد القديسين قال: "إن الفضيلة تريدك أن تريدها" بمجرد أن تريد الفضيلة من ناحيتك ستغصب نفسك، ومن ناحية الله يعطيك النعمة، إلى آخره.
اغصب نفسك في الصلاة. وأغصب نفسك في حتى تستمر في الصلاة. واغصب نفسك على الخشوع في الصلاة. اغصب نفسك على خشوع الصلاة وعلى استمرارها خاصة في صلاة الليل.
فالذي يحدث أنك تقول: "أنا متعب وغير قادر على الصلاة، يا رب سأنام هذه الليلة وأصلي غدًا، لا تغضب مني يا رب" ما هذا؟! هذا عكس تمامًا ما يقوله مار اسحق: "اغصب نفسك على صلاة الليل وزِدها مزامير". كلما تغصب نفسك تجد نفسك تتقدم في الحياة الروحية.
أتذكر في مرة أنني كنت في السنة الأولى في الدير في الرهبنة، وكنت أطيع أي أمر يقولونه لي. وأقوم بأي مهمة تُسْنَد إليَّ. وفي أحد الأيام كنت في غاية التعب، وعندما دخلت القلاية غلبني النعاس، وكنت غير قادر على الصلاة، فنويت أن أأجل الصلاة للغد. ثم قلت لنفسي: أقول كلمة واحدة كصلاة ثم أنام، ثم قررت أن أقول "أبانا الذي...." ثم أنام، فقلت أبانا الذي. ثم قلت لنفسي: أقول مزمور واحد أيضًا ثم أنام، فقلت مزمور "ها باركوا الرب يا عبيد الرب القائمين في بيت الرب في الليالي أرفعوا أيديكم وباركوا الرب"، وجدت نفسي بدأت أستيقظ. فقلت لنفسي سأقول قطعة النوم الأخيرة، "هوذا أنا واقف أمام الديان العادل، مرعوب ومرتعد من كثرة ذنوبي" فوجدتني أكثر يقظة، وظللت أحايل في نفسي لكي أكمل الصلاة.
ولكن الذي تأتيه رغبة النوم ويقول: "نشكر الله أعطى أحبائه نومًا" هذا كلام لا يصح ولا يعقل (من وحي الآية "يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا" (سفر المزامير 127: 2).
اغصب نفسك أيضًا على الكلمة الطيبة، وعلى التسامح والمغفرة للآخرين، اغصب نفسك أنك لا تنتقم لنفسك، ولا ترد على الإهانة بإهانة، اغصب نفسك على احترام الكل، البعيد والقريب، وعندما تحترم الكل تجد نفسك تتكلم كلام فيه أدب ولطف ورقة ودقة. فالفضائل مثل السلسلة، عندما تمسك بداية السلسلة تتكرّ كل السلسلة.
اغصب نفسك على ضبط الحواس، أي تكون حريصًا في نظراتك، حريصًا في كلامك، حريصًا في لمسك، حريصًا في كل شيء. ضبط الحواس..
اغصب نفسك على ضبط الفكر.. كل فكرة خاطئة تأتيك أرفضها ولا تعمل بها.
اغصب من جهة أخطاء اللسان، إذا كنت اعتدت قول بعض الشتائم كف عن ذلك. كان عندنا في الدير عامل ولديه عربة بحمار أو حصان وكان دائم الشتيمة للحمار أو الحصان. فكنت أعاتبه قائلًا: لماذا هذه الطريقة يا ابني؟ بدلًا من هذا الكلام السيئ قل لهذا الحيوان كلمة لطيفة. المفروض اللطف يكون حتى للحيوان.
اغصب نفسك على منع اللسان من الكلام الخطأ، تجد لسانك أصبح لا يستطيع أن يقول الخطأ.
اغصب نفسك وراقبها، وعاقبها إذا استلزم الأمر، فالتغصب هو الانتصار على النفس. فإذا سُئلْت ما هو التغصب؟ فقل، هو الانتصار على النفس. وهو تقوية للإرادة. ولا بد أن يكون بحزم. امنع نفسك بحزم.
فالله يقول "إن أعثرتك عينك، اخلعها والقها عنك": ونص الآية هو: "وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ" (إنجيل متى 18: 9)، "إن أعثرتك يدك اقطعها والقها عنك": ونص الآية هو: "فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ" (إنجيل متى 18: 8). حزم! حزم..
درب نفسك على أشياء روحية، وكلما تجد ضعفات، لا بد أن تعالجها. بولس الرسول قال مرة: "تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 4: 12)، أي أنه درب نفسه في كل شيء.
أول شيء نفعله مع الطفل في التغصب "الفطام" فالطفل يكون رافض لأي طعام آخر غير لبن الأم. فتضطر الأم أن تغصبه على "الفطام" حتى يبدأ في تناول سائر الأطعمة.
كذلك نغصب على الطفل في دخول المدرسة. حيث يكون الطفل رافض ترك المنزل وما يجده في المنزل من حنان وتدليل. فنغصبه على الذهاب إلى المدرسة، وعندما يعتاد على المدرسة ويجد فيها أصحاب ويلعب معهم ويقضي وقتًا لطيفًا يبدأ يحب المدرسة.
أنت تغصب نفسك بدلًا من أن يغصبك غيرك. اغصب نفسك لكي تسير في الطريق الصحيح بدلًا من أن يغصبك غيرك.
القديس أبو مقار قال في أحد المرات: "أحكم يا أخي على نفسك قبل أن يحكموا عليك".
اغصب نفسك قبل أن يغصبك القانون، وقبل أن تغصبك العقوبة.
اغصب نفسك والزمها على عمل الخير، قبل أن يلزمك الآخرون على عمل الخير.
ابدأ بالتغصب مهما كانت النتيجة ضعيفة. فإذا أردت أن تصلي ليلًا وترغم نفسك على الصلاة، فتجد صلاتك مثقلة بالنوم وشاردة في الفكر وخالية من الحب وخالية من التأمل، فيقول لك الشيطان: "هل هذه صلاة؟ إما أن تصلي صلاة قوية أو تترك الصلاة"! ويريد بذلك أن يصل إلى غرضه - أن لا تصلي - ولكنه بمكر يكلمك كلام روحي.
يقول أحد الآباء: "إذا انتظرت أن تصل إلى الصلاة الطاهرة (الصلاة المملوءة عمق وحب وخشوع وتواضع) ثم تصلي، إلى الأبد لن تصلي"! (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أي لن تصل إلى هذه الصلاة أبدًا. ولكن ابدأ بالخطوة الأولى الضعيفة تصل إلى الصلاة العميقة. وقد يسأل أحدهم: وهل سيقبل الله مني هذه الصلاة الضعيفة؟ نعم سيقبلها الله منك، فلولا حبك للصلاة ما صليت. حتى ولو كانت صلاة ضعيفة. الله يقبل منك الفضيلة الضعيفة في بدايتها حتى تصل إلى ما هو أكبر.
هناك مَثَل يحدث بيننا: فنحن نقبل التهتهة من الطفل الذي لم يتعلم الكلام بعد. ونكون فرحين بطريقته في الكلام بالرغم من أنها قد تكون مجرد كلمات بسيطة.
كما نفرح بالطفل في بداية المشي عندما يقع ويقوم ويقع ويقوم ونعتبرها بداية جيدة للمشي. نفرح بالبداية ولو كانت صغيرة ولكنها ستكبر.
كذلك العطاء. العطاء الكامل أن تعطي بسخاء وأن تعطي بسرور. وأنت تغصب نفسك على العطاء. أي أنك تعطي دون فرح بهذا العطاء. فهل تكف عن العطاء؟ أقول لك بل استمر في العطاء ولو بدون رغبة أو فرح. فلا ذنب للفقير أنك ليس لديك الرغبة أو الفرح في العطاء. سيأتي وقت تجد لذة في العطاء عندما يفرح هذا الغلبان سيفرح قلبك أيضًا.
قال أحدهم: "سقيت شجرة كوب من الماء، فلم تقدم لي كلمة شكر واحدة ولكنها انتَعَشَت، فانتعَشْت".
فأنت بالتدريج ستجد فرح في العطاء وتبدأ تتقدم في هذه الفضيلة.
قد تدفع العشور ومن الجائز أن تدفعها وأنت في ضيق من ذلك. وتقول في نفسك: إعطاء العشور كان في أيام السعة، ولكن في هذه الأيام التي يسودها الغلاء والضيق، هل ندفع العشور أيضًا؟! أقول لك أعطي ولو بدون رغبة! فعندما تعاين بركة الله في حياتك ستعطي أيضًا البكور. وعندما يبارك الله لك أكثر تبدأ تعطي كل من يسألك وفي كل وقت وبلا مانع. لأن التغصب يكون في الأول فقط لكن لا يستمر.
اغصب نفسك في الفكر ولا تُنَفِّذ كل فكر يأتي إليك.. وإذا استمر الفكر معك، قل لنفسك: لن أنفذها الآن على الأقل، وأجل تنفيذ هذا الفكر الخاطئ إلى أن تفتقدك النعمة ويتركك هذا الفكر.
وفي هذا الجهاد من التغصب ابتعد عن التراخي والتكاسل واللامبالاة وابتعد عن الأعذار والتبريرات والضرورة. ولا تتعلل بالضرورة بأنها تلزمك بعمل شيء خاطئ. فطريق جهنم مفروش بالأعذار والتبريرات، التغصب يبدأ معك لكن لا يستمر. وإن كان المسيح قال: "اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ" (إنجيل متى 7: 13) لأنه يؤدي للملكوت. الباب الضيق يكون ضيق في أوله فقط، ولكن كلما تسير فيه تتسع الدنيا أمامك ولا تشعر بهذا الضيق. الرب يكون معكم جميعًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/54dwqna