محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17
كرؤيا خاصة مستقلة سجل مار يوحنا الحبيب هذه الإصحاحات الثلاثة: (رؤيا 12-14)
لتأتي فيما بين رؤيا الأبواق السبعة (رؤيا 8-9)،
ورؤيا الجامات السبعة (رؤيا 16).
فَتَقْطع تَسلسُل الحديث الذي يجعل الجامات السبعة موضوعًا متممًا للأبواق السبعة، وتبدأ حديثًا جديدًا مُستقِلًا يمكن أن يبدأ به سفر الرؤيا بدءًا جديدًا، فأحداث هذه الإصحاحات تمثل خطًا موازيًا يكرر القصة من جديد، ويوازي الإصحاحات الأولى (رؤيا 2-3).
![]() |
وكما بدأ سفر الرؤيا في إصحاحاته الأولى بتسجيل تاريخ الكنيسة منذ بدايتها بالتجسد، ثم الحديث عن الأجيال المتعاقبة حتى يوم القيامة، هكذا بدأت هذه الإصحاحات بالحديث عن المرأة الحُبلى التي تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد (رؤيا 12: 2)، ويتسلسل الحديث إلى المجيء الثاني والدينونة العظمى (رؤيا 14: 19). فرسمت خطًا موازيًا لسفر الرؤيا كله، يبدأ مع بِدايته وينتهي مع نهايته.
هذا الإصحاح من أعمق وأغنى الإصحاحات في سفر الرؤيا، ويقدم لنا:
شخصيتين رئيسيتين، وثلاثة حروب روحية
الشخصيتان الرئيسيتان هما:
(1) المرأة المتسربلة بالشمس أو العروس امرأة الخروف.
(2) التِّنِّينُ العظيم، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان.
وَفِي سفر الرؤيا امرأتان هما:
(1) المرأة المتسربلة بالشمس (رؤيا 12: 1) وهي
العروس امرأة الخروف (رؤيا 19: 7؛ رؤيا 21: 9)
(2) إيزابل (رؤيا 2: 20) وهي الزانية العظيمة (رؤيا 17: 1)
الحروب الروحية الثلاث وهِيَ:
(1) الحرب القديمة بين ميخائيل وملائكته والتنين وملائكته.
(2) الحرب بين الكنيسة والتِّنِّين في زمن التجسد (رؤيا 12: 1-6)
(3) الحرب بين الكنيسة والشيطان فيما بعد التجسد (رؤ 12: 10-12)
حديث شَيِّق ذكره الإصحاح الثَّانِي عَشَرَ عن هذه العروس. فماذا قال:
(1) وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ. امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بالشمس
وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا إكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا.
(2) وَهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ.
(4) وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَة العتيدة أن تلد حتى يبتلع ولَدُها متى ولدت
(5) فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ. وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ وَإلَى عَرْشِهِ.
(6) وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا.
(13) وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الاِبْنَ الذَّكَرَ.
(14) فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ.
(15) فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ.
(16) فَأَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ.
(17) فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ، وَعِنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
(3) وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ:
هُوَذَا تِنِّينٌ عَظِيمٌ أَحْمَرُ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ.
وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ.
(4) وَالتِّنِّينُ... ذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْضِ.
وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَة العتيدة أن تلد حتى يبتلع وَلدَها متى ولدت.
(13) وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتِ الاِبْنَ الذَّكَرَ.
(15) فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ.
(17) فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ، وَعِنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
1. التِّنِّينُ أو الْحَيَّةُ القديمة أو إبليس والشيطان (رؤيا 12)
2. ضد المسيح أو الوحش الأول (رؤيا 13: 1-10)
3. النبي الكذاب أو الوحش الثاني (رؤيا 13: 11- 28)
وهي في جوهرها حروب بين الله والشيطان.
ولابد أن تنتهي المعركة بانتصار الله، فينتصر العريس السماوي لعروسه على أعدائها. وتنتهي الإصحاحات الثلاثة بترنيمات النصر كترنيمة جديدة أمام العرش، فنستمع لصوت الضاربين بالقيثارة، وتنتهي ببهجة الحصاد في اليوم الأخير (رؤ 14).
![]() |
(1) الحرب القديمة بين ميخائيل وملائكته والتنين وملائكته:
وهي قصة الحرب بين التنين العظيم الأحمر الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان، الذي جذب وراءه ثُلث نجوم السماء (رؤيا 12: 7-9)، وبَين ميخائيل رئيس الملائكة الذي طَرح إبليس من السماء إلى الأرض منتصرًا عليه. وظل الشيطان يحارب الإنسان على الأرض ويهزمه حتى جاء المسيح له المجد متجسدًا ومصلوبًا، فقَيَّده في الهاوية ألف سنة (رؤ 20). واستمر الشيطان المُقيَّد يحارب الإنسان خلال الألف سنة حتى يُحَل قُبيل يوم القيامة بقليل، فيأتي إلى الأرض وبه غضبٌ عظيم، فتشتعل حربُه مع الكنيسة، إلى أن يُدان ويُطرح في بحيرة النار والكبريت في النهاية. (رؤيا 20: 10).
والأعداد التالية تُحدثنا عن هذه الحرب:
(1) هُوَذَا تِنِّينٌ عَظِيمٌ أَحْمَرُ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ.
(4) وَذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْضِ.
(7) وَحَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ، مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ.
(8) وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ.
(9) فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ.
(10) وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا قَائِلًا فِي السَّمَاءِ: «الآنَ صَارَ خَلاَصُ إلهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ الْمُشْتَكِي عَلَى إخْوَتِنَا الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إلَهِنَا نَهَارًا وَلَيْلًا.
(11) وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ.
(12) مِنْ أَجْلِ هذَا، افْرَحِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا. وَيْلٌ لِسَاكِنِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ لأَنَّ إبْلِيسَ نَزَلَ إلَيْكُمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ عَالِمًا أَنَّ لَهُ زَمَانًا قَلِيلًا.
(2) الحرب بين الكنيسة والتنين في زمن التجسد
أو الحرب بين المرأة المتسربلة بالشمس (رؤيا 12: 1-6)،
والتنين الأحمر ذي االسبعة رؤوس والعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان:
فمنذ الحبل الإلهي الذي بدء ببشارة الملاك لأمنا العذراء، بدءَ حرب التِّنِّين العظيم الأحمر معها.
فوَقَفَ التِّنِّينُ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ، حَتَّى يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ، ولم يقدر، وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ وَإلَى عَرْشِهِ، فأعطيت الْمَرْأَةُ جناحي النسر، وَهَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا (رؤيا 12: 1-6).
وهذه هي فترة بقاء العائلة المقدسة فِي مصر، فقد حرك التِّنِّينُ هيرودس لقتل أطفال بيت لحم لعله يقتله طفلًا، وأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ (العذراء) جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ العاملة فِي هيرودس، فرأى الشيطان أن خُطته لم تُفلِح. فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ. وهذا ما حدث في قتل الأطفال حيث سالت الدماءُ أنهارًا، لعل الرب المولود يُحمل فِي نهر الدماء ويموت. ولكن أَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ، وَفَتَحَتِ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ، ونجَا المولود ملك اليهود (رؤيا 12: 14-16).
والأعداد التالية تُحدثنا عن ذلك:
(1) وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ...
(2) وَهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ.
(3) وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ: هُوَذَا تِنِّينٌ عَظِيمٌ أَحْمَرُ...
(4) وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ حَتَّى يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ
(5) فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا... وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ وَإلَى عَرْشِهِ.
(6) وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا.
(13) وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الاِبْنَ الذكَرَ
(14) فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ.
(15) فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ.
(16) فَأَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ، وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ.
(3) الحرب بين الكنيسة والشيطان فيما بعد التجسد (رؤيا 12: 13-17، 10-12)
(17) فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا،
الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ.
طُرح إبليس إلى الأرض وظل يحارب الإنسان ويضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر، فَأُعْطِيَتِ جَنَاحَيِ النَّسْرِ وهربت إلَى الْبَرِّيَّةِ. وأسرع التنين وألقى من فمه نهرَ ماءٍ وراء المرأة، لكن الأرض ابتلعت هذا النهر. وهنا غضب التنين وراح يبدأ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا المؤمنين، فالويل إذن لساكني الأرض لأَنَّ إبْلِيسَ نَزَلَ إلَيْهمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ عَالِمًا أَنَّ لَهُ زَمَانًا قَلِيلًا، وانتصرت الكنيسة في النهاية و"صار خلاص إلهنا... وهم غلبوه بدم الخروف فلتفرح السماء بانتصار أبناء الله".
(10) وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا قَائِلًا فِي السَّمَاءِ: «الآنَ صَارَ خَلاَصُ إلهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ الْمُشْتَكِي عَلَى إخْوَتِنَا الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إلَهِنَا نَهَارًا وَلَيْلًا.
(11) وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ.
(12) مِنْ أَجْلِ هذَا، افْرَحِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا، وَيْلٌ لِسَاكِنِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ لأَنَّ إبْلِيسَ نَزَلَ إلَيْكُمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ عَالِمًا أَنَّ لَهُ زَمَانًا قَلِيلًا (رؤيا 12: 10- 12).
![]() |
وفيه رأى مار يوحنا امرأة مُتسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وهي حُبلى مُتمخضة، وقد ولدت ابنًا ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد. كما رأى التنّين وقف ليبتلع هذا الابن، ثم تَكَلَم عن حرب: ميخائيل وملائكته مع التنّين (الشيطان) وملائكته الذين لم يقوُوا، بل طُرحُوا إلى الأرض، ثم اضطهد التنّين المرأة التي ولدت الابن الذّكر، فأعُطيت المرأة جناحي النسر العظيم (رؤ 12: 7).
كانت خاتمة الإصحاح السابق أن «انفتح هيكلُ الله في السماء وظهر تابوت عهده في هيكله» [(رؤيا 11: 19) الأخير]، وعندما تنفتح السماء تظهر المناظر السماوية. وقد أشار السفر أربع مرات إلى فتح السماء:
(1) في بِداية الإصحاح الرابع قال مار يوحنا «بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ، وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوقٍ يَتَكَلَّمُ مَعِي قَائِلًا اصْعَدْ إلَى هُنَا» (رؤيا 4: 1) وعندما صعد رأى المسيح الجالس على عرشه.
(2) وفي نهاية الإصحاح الحادي عشر قال «وَانْفَتَحَ هَيْكَلُ اللهِ فِي السَّمَاءِ، وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْدِهِ فِي هَيْكَلِهِ» (رؤيا 11: 19).
(3) وهنا في الإصحاح الثاني عشر «ظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ. امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بالشمس»
(4) وفي منتصف الإصحاح التاسع عشر يقول مار يوحنا «ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا ... وَيُدْعَى اسْمُهُ: "كَلِمَةَ اللهِ"» (رؤيا 19: 11)
فهل كان تكرار فتح السماء وظهور المناظر السماوية دليلًا على أن سفر الرؤيا يشمل مجموعة رؤى، فيكون شُخوص مارِ يوحنا إلى السماء ليس مرة واحدة طول السفر، بل هذه درجات روحية يتسامى إليها خلال الرؤى السماوية. ويكون انفتاح السماء بطريقة متكررةٍ هو سموٌ في درجات الروحانية وإدراكٌ أكثر عمقًا للسماويات؟!
وفِي الحالتين مار يوحنا في قمة التمتُّع بالمناظر الإلهية وبالجالس على العرش أكثر وأبهى ما يكونُ التمتُع، ليت انفتاح السماء يكون هدفنا ورجاؤنا في صلواتنا.
يُحدثنا القديس يوحنا الحبيب في هذا الإصحاح عن:
γυνὴ περιβεβλημένη τὸν ἥλιον
وقد لقبها بـ: «الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوفِ» (رؤيا 20: 9)،
«العَرُوسٍ المُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا» (رؤيا 21: 2)،
«الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ النَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ» (رؤيا 20: 10).
«الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَديدةَ النَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ» (رؤيا 21: 2).
فيقول:
«وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ» (رؤيا 12: 1).
«آيَةٌ عَظِيمَةٌ μέγα ὤφθη»: والآية في اليونانية هي علامة فوق الطبيعة، لا تتعارض معها، بل تسموا عليها، وهذه هي المعجزة أو الأعجوبة. وتكررت هذه الكلمة مرتين في هذا الإصحاح (رؤ 12: 1-2) كما جاءت في (رؤيا 15: 1) حيث يقول «ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً»، وعند الحديث عن نهاية العالم ذُكرت هذه الكلمة وتُرجمت عَلامَة عِظِيمة، فقيل «تَكُون... عَلامَات عِظِيمُة من السمَاء... وتَكُوْن عَلامَاِت في الشْمِس والقَمِر والنْجُومِ» (لو 21: 11، 25) كما قيل: «وأُعطي عجائب في السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل» (أعمال 2: 19).
فيُوجد علامات الآن في السماء تدل على عظمة الخالق ضابط الكون. وعلى الرغم أنها علامات مستمرة ودائمة مثل شروق الشمس وغروبها وظهور النجوم واختفائها، حتى الكسوف في الشمس والخسوف في القمر، وقد اعتدنا على رؤيتها، لكنها في حقيقتها كما يراها مار يوحنا آيات عظيمة في السماء.
«عَظِيمَةٌ»: فهذا المنظر السماوي رآه مار يوحنا عظيمٌ في منظره وعظيمٌ في إبهاره، فهو «امرأة متسربلة بالشمس» دون أن تحترق، وتدوس القمر تحت رجليها، ورأسها مُكلل باثني عشر كوكبًا. منظرٌ مهيبٌ مملوءٌ جلالًا. عظيم في تأثيره فقد رأينا هذه المرأة حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد، والتنين يقف أمامها محاولًا أن يبتلع ولدها.
وما أن ولدت حتى اختُطف مولودها وأُعطيت جناحي النسر العظيم وهربت إلى البرية.
وتكررت كلمة «عَظِيمَةٌ» ست مرات في هذا الإصحاح، وكيف لا يكون عظيمًا ذلك المنظر الذي يصف لنا والدة الإله، أو الكنيسة، ولكن رقم 6 يجعل عظمة العذراء والكنيسة مهما علت، لا تصل إلى الكمال رقم 7، فالعظمة الكاملة لله وحده.
«فِي السَّمَاء ἐν τῷ οὐρανῷ» (رؤيا 12: 1)
ظهرت هذه الآية في السماء ليراها الكل والسماء تنقسم إلى:
السماء الأولى سماء الطيور أو الغلاف الجوي المحيط بالأرض، وهي المقصودة في الآيات التالية: «أقسم الملاك.. بِالْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا» (رؤيا 10: 6).
«وَاسْجُدُوا لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ» (رؤ 14: 7).
والرؤيا التي نتحدث عنها الآن «ظهرت آية عظيمة في السماء»، ويقصد بها السماء الأولى فهي التي ظهرت فيها العذراء في الزيتون وغيرها من ظهورات الملائكة والقديسين.
والسماء الثانية: سماء النجوم والكواكب وذَكرها سفر الرؤيا في حديثه عن النبي الكذاب الوحش الثاني الطالع من الأرض الذي يجعل نارًا تنزل من السماء على الأرض قدام الناس (رؤيا 13: 13)، كما ذُكرت في (رؤيا 16: 21) حينما نَزَلَ «بَرَدٌ عَظِيمٌ،.. مِنَ السَّمَاءِ عَلَى النَّاسِ. فَجَدَّفَ النَّاسُ عَلَى اللهِ». وَفِي (رؤيا 20: 9) «فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُمْ.».
السماء الثالثة: سماء الفردوس التي صعد إليها مار بولس الرسول حينما قال: «أعرف إنسانًا في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفِي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم، الله يعلم، اختُطِف هذا إلى السماء الثالثة» (2 كو 12: 2) وهذه هي حالة انتظار الأبرار المنتقلين على رجاء القيامة.
وأخيرًا: سماء السماوات أو عرش الله، ونحن لا نعرف ترتيبها، ولكن إذا قيل عنها السماء السابعة، فهذا بالمعنى الرمزي باعتبار أن الرقم سبعة عدد الكمال. قيل عنها «هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك» (2 أخبار 6: 18). أما:
ملكوت السماوات: فهو مكان الأبرار الأخير بعد الدينونة العامة، وهو درجات يقول عنها الكتاب: «في بيت أبي منازل كثيرة» (يوحنا 14: 2) «لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد» (1 كورنثوس 15: 41). فإذا رمزنا لهذه الدرجات بالعدد 3 وهو عدد كامل تكون السماوات هي:
(1) سماء الطيور أو الغلاف الجوي. (2) سماء النجوم والكواكب. (3) السماء الثالثة أو الفردوس. (4-6) ملكوت السماوات بدرجاته. (7) سماء السماوات حيث العرش الإلهى.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ» (رؤ 12: 1)
γυνὴ περιβεβλημένη τὸν ἥλιον
ثلاثة معاني لهذه «المْرَأَة المُتَسَرْبِلَة بِالشَّمْسِ» فتكون لكل آية معانيها الثلاثة، عندما تكون المرأة هي العذراء، أو الكنيسة أو النفس البشرية.
أولًا: العذراء آية عظيمة: عجيبة وعظيمة هي أمنا العذراء، فأَن تَلدُ العذراء آيةٌ عظيمة، لم ولن تحدث مرة أخرى. وأنْ تلد وتبقى عذراء دائمة البتولية آيةٌ أعظم، قال عنها حزقيال النبي «هذا الباب يكون مغلقًا لا يُفتح ولا يدخل منه إنسان لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا» (حزقيال 44: 2). فمِن هذا الباب دخل رب المجد إلى عالمنا وظل مغلقًا إلى الأبد. ثم أن العذراء الإنسانة تلد الله المتأنس خالقها، آيةٌ أعظم وأعظم. قال لها جبرائيل رئيس الملائكة: «القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو 1: 35). حقًا صدَقَتْ أليصابات القديسة البارة حينما امتلأت من الروح القدس وسبحت قائلة: «فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إلَيَّ» (لوقا 1: 43). هل يوجد في الكون كله معجزه مثل هذه، إنها معجزة المعجزات فليس أعظم من أن تصير العذراء دائمة البتولية، والإنسانة أُمًا لله «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1 تيموثاؤس 3: 16).
ثانيًا: الكنيسة آيَةٌ عَظِيمَةٌ: بقاؤها في العالم رغم وحشية الأباطرة وقسوة الولاة الذين اضطهدوها آيةٌ عظيمة. ودم الشهداء المسفوك الذي استطاع أن يُحطم السيوف المسلولة هو آيَةٌ عَظِيمَةٌ. كان نيرون ودومتيان وتراجان ومكسيميانوس ودقلديانوس وغيرهم ذئابٌ بشرية كما وصفهم الرب «ها أنا أرسلكم مثل حُملان بين ذئاب» (لوقا 10: 3). وظلتِ الذئاب تلتهم الحملان فتشرب من دمهم حتى تحولت الذئابُ إلى حُملان، وآمَن أباطرةٌ ومُضطَهِدون وصاروا مسيحيين، وكان هذا التحول آيَةٌ عَظِيمَةٌ. ومن أشهر هؤلاء القديس مار بولس الذي قال عن نفسه: «أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا» (غلاطية 1: 13) وإريانوس الوالي الذي صار شهيدًا. وانتهت القصة بأن صار كلٌّ منهما حملًا وديعًا خلف المسيح الحمل، وصار آيَةً عَظِيمَةً في سماء الكنيسة.
ثالثًا: نفوسنا البشرية آيَةٌ عَظِيمَةٌ: فَحياةُ الشباب الطاهر وسط عثرات الإنترنت وإغراءات العصر هي معجزة عَظِيمَةٌ. وحياة التاجر الصادق القَنوع وسط جشع وكذب من حوله من تجار، آية عظيمة. فأنْ يَسْبَح الإنسان ضد تيارات العالم القوية والشريرة آيَةٌ عَظِيمَةٌ.
«في السماء» (رؤيا 12: 1) ἐν τῷ οὐρανῷ
العذراء دائمة البتولية والدة الاله آية عظيمة على أرضنا.
كنيستنا المجاهدة مقدسة في عالم شرير آية عظيمة على أرضنا.
نفوسنا البشرية حملان بين ذئاب آية عظيمة على أرضنا. فما معنى آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ؟
1. العذراء آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ:
العجيب أن مار يوحنا يقول «آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ» على الرغم أن العذراء وَلدت الإله المتأنس على الأرض لا في السماء. فلماذا قيل «آيَةٌ.. فِي السَّمَاءِ»؟!
هل لأن مار يوحنا رأى المنظر في السماء، فالرؤيا كلها مناظر سماوية رآها بالكشف الإلهي؟ أم أن العذراء أيضًا «آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ»؛ لأنها السماء الثانية والعرش الإلهي، اتخذها الله مسكنًا له وسكن في أحشائها، فصارت بالحقيقة سماءً ثانية. بل إننا ندعو السماءَ سماءً؛ لأنها عرش الله. فإن لم تكُنِ العذراء التي حملت شمس البر في أحشائها هي السماء عرش الله، فما هي السماءً إذَن؟!، إنها صارت كذلك بجهادها وطهارتها وقداستها، فاختارها الله وملأها نعمة وصارت أُمًا له. ولعل الكنيسة كانت تحت قيادة روح الله، حينما رسمت أيقونة العذراء والدة الإله في طقسها القبطي حاملة المسيح، ترتدي ثَوبًا أزرق سماويًا مزخرفًا بالنجوم الذهبية؛ لِتُذَكِّرنا أنها السماء الثانية عرش الله.
«آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ»؛ لأن المرأة المتسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها، منظرٌ رآه مار يوحنا وهو يُحَدق بعينيه شاخصًا إلى السماء، فهي رؤيا سماوية، ترمز إلى حقيقة مادية على الأرض.
والعذراء أيضًا آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاء؛ لأنها ارتفعت فوق الشاروبيم وصارت سماوية في حياتها وصفاتها وطباعها، كما صارت آيَةً عَظِيمَةً فِي السَّمَاء بظهورها المتكرر في السماء.
2. الكنيسة آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاء:
الكنيسةُ على أرضنا معجزةٌ عَظِيمَةٌ. فلماذا يُقال عنها آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاء؟! نعم فهي سفارة السماء على الأرض. قوانينها وتعاليمها من السماء، وراعي رُعاتها ورئيس كهنتها ربُ السماء. وغايتُها ورجاؤها في السماء. هي الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة الرسولية، غالبية أعضائها منتصرون في السماء، وقليل منهم مجاهدون على الأرض، ناظرون إلى السماء، فهي بالحقيقة سماءٌ على الأرض، مكتوبٌ على أبوابها «ما هذا إلا بيتُ الله وهذا هو باب السماء» (تك 28: 17).
كما تحمل الكنيسة على مذبحها الإله المتجسد، تحيطه ملائكة السماء وأرواح القديسين، فهي سماءٌ على الأرض. والمعمودية كبَطنِ الكنيسة تلد أبناءَ السماء، ولذلك فمكان ظهورها هو السماء.
3. نفوسنا البشرية آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ:
لَسنا نحن من هذا العالم بل من السماء، قال رب المجد: «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَل أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ» (يو 15: 19)، «لأن سِيرتكم أنتم هي في السماء» (فيلبى 3: 20). نحن نحيا على الأرض، إلا أننا سماويون، قلوبنا وكنوزنا في السماء، وعيونُنا شاخصة إلى السماويات.
والمعركةُ التي حدثت بين ميخائيل والتنين، دارت رحاها في السماوات. «مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ، وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ.» (رؤيا 12: 7-8).
«امرَأَةٌ مُتَسرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ» (رؤيا 12: 1)
أولًا: العذراء «امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ»:
العذراء امرأة ليس بمعنى أنها متزوجة، فكلمة امرأة تُشير لطريقة الخِلقة لذلك قال آدم: «هذه تُدعى امرأة لأنها من امرءٍ أُخذت» (تكوين 2: 23). وبهذا المعنى قال الرب يسوع لِأُمه العذراء في حبٍ وتوقير:«ما لي ولكِ يا امرأة» (يوحنا 2: 4). وهكذا النبوة: «نسل المرأة يسحق رأس الحية» (تك 2). والعذراء متسربلة بالشمس: لأنها حملت في أحشائها الربَّ الإله، حملَت شمس البر والشفاء في أجنحتها (ملاخي 4: 2). حملته دون أن تَحُده. كانت كالمصباح الذي يحمل النور داخله دون أن يحده؛ فإشعاعات النور تملأ الحجرة كلها، هكذا حملت العذراء الإله المتأنس داخلها، دون أن تحده. كان في أحشائها وإشعاعات اللاهوت اللانهائية تملأ الكون كله بلا حدود، فشمس البر داخل العذراء دون أن تُحد، الشمس تسربلها من الخارج فهي «امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ» والمسيح هو النور الحقيقي الآتي إلى العالم.
ثانيًا: الكنيسة «امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ»:
امرأة لأنها عروس المسيح، فكنيسةُ العهد القديم دُعيت عروس الله، قال لها إشَعْيَا النبي «لأن بَعْلَكِ هو صانعكِ ربُ الجنود اسمُه» (إشعيا 54: 5). وحسنًا قال الله كعريس الكنيسة «وأخطبكِ لنفسي إلى الأبد» (هوشع 2: 19). وفي العهد الجديد يقدم المسيح نفسه كعريس للكنيسة في مثل العُرس (متى 25: 1-13). ومار بولس يقول: «خطبتُكم لرجُلٍ واحد؛ لأقدم عذراءَ عفيفةً للمسيح» (2 كو 11: 2). فالمسيح رأس الكنيسة، والكنيسة جسده السِّري. وفي سر الإفخارستيا تتحد الكنيسة بالمسيح، يتحد جسده بجسدها، ويجرى دمُه فيها، فيصير المسيح والكنيسة واحدًا، وينطبق قول الرب:«ليكونَ الجميعُ واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدًا فينا» (يوحنا 17: 21)، فيُصبح أعضاء الكنيسة هم أعضاء المسيح، حتى يقول مار بولس «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ أَعْضَاءُ الْمَسِيحِ أَفَآخُذُ أَعْضَاءَ الْمَسِيحِ وَأَجْعَلُهَا أَعْضَاءَ زَانِيَةٍ؟ حَاشَا!» (1 كو 6 :15). والكنيسة عروس المسيح مُزينة لعريسها. ولذلك يقف الأسقف ليُمثل الكنيسة أمام الله، كما يُمثل الله أمام الكنيسة. ففي حضور المسيح له المجد حضورًا رمزيًا بقراءة الإنجيل أو حضورًا حقيقيًا بحلول الروح القدس وتحوُّل الأسرار إلى جسد الرب ودمه، فنقول: هوذا كائنٌ معنا اليوم على هذه المائدة عمانوئيل إلهنا، الأسقف يمثل الكنيسة عروس المسيح أمام الله فيخلع التاج ويغطي رأسه بالشملة أو الطرحة، مع أنه كرجل لا يجب أن يغطي رأسه، ولكن الأسقف هنا يقف كعروس المسيح فيُغطي رأسه. والكنيسة في عِفتها تلد كثيرين مع أنها عذراء. قال عنها مار بولس «خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح» (2 كو 11: 2).
وهي متسربلة بالشمس: تحمل داخلها وعلى مذبحها الإله المتجسد، شمس البر دون أن تحُده، فهو كائنٌ على كل مذبح أرثوذكسي في العالم. والكنيسة تحمله داخلها دون أن تحُده فهو مالِئ الكل بلاهوته، فالشمس تملأ الكنيسة من الداخل وتُسربلها من الخارج بلا حدود.
ثالثًا: النفس البشرية «امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ»:
هي امرأة لأنها عروس المسيح، قال لها: «اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي! لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نُدَى اللَّيْلِ» (نشيد الأناشيد 5: 2)، ومار بولس البتول يقول: «أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ.» (1 كورنثوس 4: 15). ويقول عن أُنسيموس: "اِبني الذي ولدتُه في قيودي» (فيلمون 10). فالنفس العفيفة هي عروسٌ للمسيح، تلدُ أبناءً كبولس، وتبقى عذراء. ومار بولس نفسه نَفسٌ عذراء عروس للمسيح. وهِيَ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ؛ لأنها بالمعمودية صارت ابنة لله، دعاها الرسول: «لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ» (غلاطية 3: 27) أي تسربلتم بالمسيح. كما قال: «الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ» (رو 13 :14) شمسَ البر (ملاخي 4: 2)، بل حملتِ الشمسَ داخلها، فقال الكتاب: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟» (1 كو 3 :16). وهنا يكون الإنسانُ مسكنًا للروح القدس. وعندما نضيف لهذه الآية آيةً أخرى قالها رب المجد يَسُوعُ «إنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا» (يو 14: 2)، فيصير الإنسان مسكنًا للآب والابن، وبالآيتين معًا، يُصبِح مسكنًا للثالوث القدوس، مسكنًا للنور الذي لا يُدنى منه، فنحمل الله داخلنا دون أن نَحُده، فنتسربل بالشمس. وهناك صورة أخرى يظهر فيها الإنسان متسربلًا بالشمس هي سر الإفخارستيا. فحينما نتناول جسد المسيح ودمه الذي لاهوته لا يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين، يتحد جسده بجسدنا ودمه يجري في دمائنا فيصير المسيح فينا. نحمل الجسد الإلهي والدم الإلهي دون أن نحده داخلنا فنصير متسربلين بالشمس، نحمل النور الحقيقي فينا. والنفس البشرية أيضًا تحمل ضوء القمر المنعكس من بقائها أمام شمس البر، وتتحلى على رأسها بإكليل من اثني عشر كوكبًا أي النور المكتسَب بالجهاد في الفضائل التي تحلَّت بها.
«والقمر تحت رجليها» (رؤيا 12: 1)
καὶ ἡ σελήνη ὑποκάτω τῶν ποδῶν αὐτῆς
ثمة تشابه بين سفرِ النَشِيد قُدس أقداس العهد القديم الذي يصف العروس «جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ، طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ» وسفرِ الرُؤْيَا قُدس أقداس العهد الجديد «مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا»، وكأنهما يُحققان قول الله في سِفْرِ التَّكْوِينِ «نَعْمَلُ الإنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا» (تك 1: 26) «عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ» (تك 1: 27).
مَن هذه المَرأة المُتوَّجة التي حملت مصادر النور إلا العذراء أم النور؟ فإذا كان الله في سفر التكوين قد «عمل النُورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل» (تك 1: 16) أي الشمس والقمر، فالمْرَأَة المُتَسَرْبِلَة بِالشَّمْسِ أي بالمسيح النور الأعظم، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا بمعانيها الثلاثة: "العذراء، الكنيسة، والنفس البشرية أو أبناء الله" عليها أن تنير العالم نهارًا وليلًا. وفِعلًا قد أنارتِ العذراءُ الكونَ كله عندما حملت السيد المسيح شمسَ البر، وانتهت مملكة الظلمة وبدأت مملكة النور. وبها جاء النور الحقيقي إلى العالم «ليُضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت» (لو 1: 79).
كما أنارت الكنيسة العالم، فكرزت في المسكونة كلها، حتى قال الرب لأبنائها: أنتم نور العالم. ويرمز القمر في تغيراته مع الزمن من بدر إلى هلال، إلى العالم المُتغير. والعجيب أنه سَببُ تقلُبات البحر مدًا وجذرًا فيجعله مضطربًا هائجًا تارةً، وساكنًا هادئًا تارةً أخرى، حتى قال يشوع ابن سيراخ: «الرجل القديس يثبت في الحكمة والجاهل يتغير كالقمر» (سيراخ 27: 12). ولذلك فالقمر يُقدم صورة العالم المُتغير. فالمرأة التي تتسربل بشمس البر يمكنها أن تدوس القمر تحت رجليها، فتضع العالم بشهواته تحت أقدامها وتطلب الأبديات محتقرة الزمنيات؛ «لأن العالم يمضى وشهوته معه» (1 يوحنا 2: 17). والمرأة التي تضع القمر تحت رجليها تذكرنا بالكنيسة الأولى في عصر الرسل، حينما كان أصحاب الحقول والبيوت يبيعونها ويأتون بأثمانها وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ (أعمال 4: 34-35).
والقمر أيضًا يرمز للجمال العالمي الباطل، حتى أننا نصف الفتاةَ في جمال وجهِها بأنها مثل القمر، أما النفس الشبعانة بالمسيح فقادرة أن تدوس جمال الجسد وجاذبيته؛ لأن «اَلنَّفْس الشَّبْعَانَة تَدُوسُ الْعَسَلَ وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ كُلُّ مُرٍّ حُلْوٌ» (أم 27: 7). فالنفوس التي تتحد بشمس البر قادرة أن تدوس كل مغريات العالم وشهواته، فلا يستطيع أحد أن يغلب الخطية ويدوس حلاوة القمر ما لم يتسربل بالشمس. إذن فليعرف الشُبان المهزومون أمام شهواتهم، والرجال المهزومون أمام المكيفات، والنساء المعجبات بزينتهن الخارجية، أنهم لن يقدروا أن يدوسوا القمر ما لم يتسربلو بشمس البر ربنا يسوع المسيح الأبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ (مز 45: 2). فاحتقار أباطيل العالم هو وضع القمر تحت الأقدام. لقد احتقرت أُمُّنا العذراء العالم وشهواته وقالت «هوذا أنا أمة الرب» في الوقت الذي قال لها ملاك الرب أنها أم الله، فداست القمر وكبرياء العالم تحت قدميها.
وهناك معنى ثانٍ: فالمرأة هي كنيسة العهد القديم التي تسربلت بالشمس أي بنور فهم النبوءات الدالة على مجيء المسيح فهما سليمًا، وأصبحت مستعدة لاستقبال عصر التجسد فآمنوا مكونين كنيسة أورشليم الجديدة. «والقمر تحت رجليها»: فالشريعة الموسوية الرمزية هي القمر الذي يعكس ضوء المسيح شمس البر. وكَوْن أن القمر تحت رجليها فقد اكتملت رموز العهد القديم في شخص المسيح له المجد، وانتهى زمان الذبائح الرمزية مع كهنوت العهد القديم، وصار«على رأسها اثنا عشر كوكبًا» إذ انتهت أسباط إسرائيل الاثنا عشر واكتملت في الاثني عشر رسولًا، وصارت كنيسة العهد القديم «حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد» الكنيسة المسيحية التي خرجت فعلًا من رحم كنيسة العهد القديم.
وهناك رأي آخر أن «الْقَمَر تَحْتَ رِجْلَيْهَا»: الْقَمَرُ هو القديس يوحنا المعمدان كما تقول ثيؤتوكية الخميس «لأن الشَّمْس المُتَسَرْبِلَة بها هي ربنا يسوع المسيح والْقَمَر الذي تَحْتَ رِجْلَيْهَا هو يوحنا المعمدان».(29) ويؤيد هذا الرأي القديس يوحنا ذهبي الفم إذ يقول: [إن الشَّمْس التي التحفت بها- العذراء- رمز لسيدنا المسيح لأنه سُمي شمس البر، والْقَمَر الذي تَحْتَ رِجْلَيْهَا رمز ليوحنا المعمدان، والإكليل الذي على رأسها من اثني عشر كوكبًا رمز للرسل الاثني عشر»](30)
كما يوجد رأي آخر: أن المرأة هي الأمة الإسرائيلية، في سفر التكوين عندما حَلُم يوسف بالشمس والقمر و 12 كوكبًا يسجدون له. وقد فسر يعقوب أبوه الحُلم أنه هو وأُمه وإخوته يسجدون له، أو الكنيسة في شخص العذراء متسربلة بالمسيح (شمس البر) وتمثل كل نفس مؤمنة. أما القمر مكانه تحت رجليها ويرمز ليوحنا المعمدان الذي رفض مجد العالم. الكواكب هم الآباء الرسل.
«وعلى رأسها أكليل من اثني عشر كوكبًا» (رؤيا 12: 1)
καὶ ἐπὶ τῆς κεφαλῆς αὐτῆς
στέφανος ἀστέρων δώ δεκα,
أهذا الإكليل هو مجد العروس «العذراء، الكنيسة، النفس البشرية» الفرَّحِة بعريسها السماوي رب المجد، أم هذه هي فضائلها الاثنتا عشر المُتكاملة؟
فالعذراء تكللت بمجد والدة الإله، ومجد البتولية، ومجد الشفاعة الأولى، ومجد الفضائل الفائقة الكاملة.
والكنيسة تكللت بالاثني عشر رسولًا على رأسها، يقودونها بسلطانٍ إلهي أعطاهم إياه رب المجد، فصاروا به رأس الكنيسة المنظور. من يسمع منهم، فقد سمع من الله. وصاروا اثني عشر كوكبًا في سماء الكنيسة يعكسون نور المسيح ومجده وسلطانه، ورُمز لهم «بالاثني عشر عين ماء عند إيليم» (خروج 27: 15)؛ لأنهم أعطونا كلمة الله ماء الحياة. كما رُمز لهم بالاثني عشر عمودًا التي بناها موسى النبي حول المذبح (خروج 4: 24)؛ فالكنيسة مبنية على أساس تعليمهم الرسولي. والاثنا عشر حجرًا كريمًا التي رُصِّعت بها صدرة هارون الكاهن الأعظم، هي آباؤنا الرسل رؤساء كهنة العهد الجديد. وهم الاثنا عشر أسدًا حول عرش الملك سيلمان (1 ملوك 20: 10)، الذي يمثل المسيح ملك السلام، فهم خُدام المسيح، والأسود الذين دافعوا عن الإيمان.
وحتى إذا كان عدد الآباء الرسل أكثر من اثني عشر رسولًا، فهناك السبعون، ومار بولس الرسول، إلا أنه سيبقى رقم 12 الذي حافَظَت عليه الكنيسة الأولى رقمًا رمزيًا للآباء الرُّسل ولكهنوت العهد الجديد.
والنفس البشرية تكلَلتْ بالفضائل، فحينما تُجاهد الجهاد الحسن القانوني، تُكلَّل بثبات الفضيلة فيها، وتظَل تُجاهد مع كل فضيلة حتى تتجمع فيها الفضائل التي رُمز إليها بالاثني عشر، كما فِي لحن الفضائل الاثني عشر في كنيستنا المقدسة.
«وَهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد» (رؤيا 12: 1)
καὶ ἐν γαστρὶ ἔχουσα, καὶ κράζει ὠδίνουσα καὶ βασανιζομένη τεκεῖν
رأينا في الآية السابقة العذراء: الملكة المتَوَّجة المُنيرة.
والآن نراها: الأم العظيمة في آلامها ومجدها.
أولًا: العذراء حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد:
رأى مار يوحنا العذراء الحُبلى بالتدبير الإلهي ببشارة جبرائيل الملاك «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ.» (لوقا 1: 31) «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ» (لوقا 2: 7)، وما أصعب هذه الكلمات، أتخيل أُمَّنا العذراء حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد، تبْحث عن مكانٍ ولا تجد. فقد أَغلقت بيت لحم القرية المسكينة أبوابها في وجه العذراء المتسربلة بالشمس، أُم النور حاملة النور. وظَلَّت «تَصُرخ» حتى انفتح أمامها مذودًا للخراف، فوَلَدتِ الراعي الأعظم ابنًا ذَكرًا، عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد (رؤيا 12: 5). هل رأينا امرأة في الأرض في مثل هذا الموقف؟! نعم دخلت العذراء طريق الألم منذ البشارة «فيوسف رجُلها.. أراد تخليتها سرًا» (متى 1: 19) وبيت لحم أُغْلِقت أبوابها. وظل الرب في طريق الألم، فهيرودِس مزمع أن يطلب الصبي ليُهلكه (متى 2: 13)، حتى قيل أنه «رجُل أوجاع ومختبر الحزن» (إش 53: 3). واستمر مُتجهًا نحو الصليب الذي تنبأ عنه القديس سمعان الكاهن والشيخ قائلًا للعذراء «وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا 2: 35).
ثانيًا: الكنيسة حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد (رؤ 12: 2)
تَرَقَّب الشيطان البشرية منذُ حواء التي أخذت وعدًا بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15)، وانتظرتِ اللحظة التي تلد فيها القديسة العذراء مريم مولودها، أو تلد كنيسةُ العهد القديم ابنَها المسيا مشتهى كل الأجيال، فولدَت ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصًا من حديد، هذا الذي قال عنه داود النبي في المزمور: «اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ» (مز 2: 8). جاء المسيح فعلًا من حواء الثانية، من بنات يهوذا، وسحق قِوَى الشر، وأخذ الأمم ميراثًا وتَرقَّب الشيطانُ الكنيسة المرأة المتسربلة بالشمس، وهِيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد. (رؤيا 2: 12).
فالكنيسة عروس المسيح حُبلى دائمًا، فهي أمٌ وَلُود يعمل فيها روح الله فتلد أبناءً لله من خلال المعمودية ولادةً جديدةً فوقانيةً من الله. ولعل صَرخات وتمخُضات الولادة هي آلام الاضطهاد، الذي تتعرض له الكنيسة في عالمٍ شرير، وهي دليل على أنها لا تزال تحمل الله الكلمة داخلها. ويوضح مار بولس معنى «مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِد» حينما يقول للغلاطيين «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا، إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غلا 4: 19). فهو يحمل أبناءه في أحشائه في كل مكانِ وزمان، في صلواته وخدمته واهتماماته، كأمِ تحملُ الجنين في أحشائها، فيتغير في شكله وأسلوبه وطبعه، حتى "يتصور المسيح فيه". وفي النهاية تُثمر مولودًا جديدًا كصورة خالقه، فهو مولود من الله، المسيح أبوه والكنيسة أمه، ويأتي المولود يُحقق صورة أبيه. فالكنيسة في زمن الاضطهادات الشديدة تصير أمًا ولودًا تصُرخ مُتمخضة فتلد شهداءً وشهيدات.
الكنيسة عروس المسيح وأم المسيح فِي نفس الوقت؟!
الكنيسة واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية، ممتدة منذُ آدم وإلى يوم القيامة في كل مكان وزمان. هي كنيسة العهد القديم، منها جاء المسيح حسب الجسد فصارت أمه. وإذ وُلِد من العذراء ناسوتيًا، وهِيَ امرأة تحت الناموس، فدُعيَ ابنَ البشر، ابنًا ذكرًا، عتيدًا أن يرعى الأمم بعصًا من حديد. فصارت الكنيسة أُمه أيضًا. وبعدما اكتملت الكنيسة الجامعة الرسولية، ظهرت كعروس المسيح الإله المتأنس، الأم الولود للمؤمنين.
ثالثًا: النفس البشرية حُبلى، تصُرخ مُتمخضة ومُتوجعة لتلد:
تتألم لِتلد فضائل، فَهُو مبدأٌ روحيٌ يختبره من يحيا حياة الروح، ويدركه من يتعمق في دراسة كلمة الله: أن الألم والمجد رفيقان لا يفترقان، فالذي يصعد جبل الجُلجُثة هو القادر على صعود جبل التجلي، يصعدهما معًا. وشهد مار بولس الرسول «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّة تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّا» (2 كو 4: 17). ودخل معلمنا مار يوحنا الحبيب إلى بطمس، جزيرة الألم، مَنفيًا ومحكومًا عليه من الملك دومتيان وقال «كنتُ في الروح في يوم الرب، وإذا بابٌ مفتوح في السماء والصوت الأول.. يتكلم معي قائلًا اصعد إلى هنا» (رؤيا 1: 10؛ 4: 1). فالنفس البشرية تُجاهد الجهاد الحسن جهادًا قانونيًا لتقتني الفضيلة وتُكلَّل بها. يقول مار بولس الرسول «جاهدتُ الجهاد الحسن أكملت السعي حفظتُ الإيمان وأخيرًا قد وُضع لي إكليل البر» (2 تي 4: 7) و«إن كان أحد يُجاهد لا يُكلل إن لم يُجاهد قانونيًا» (2 تي 2: 5)، فتقتني النفس فضيلة الصلاة بجهادٍ كثير، يُحاربها الشيطان بالكسل والتواني، ومتى قاومت واستمرت في صلاتها تكتسب الفضيلة وتُكلَّل بها فتكون قد ولدتها.
أما تعبير وعلى رأسها إكليلًا من اثني عشر كوكبًا، فهو إشارة إلى أن النفس تظل تكتسب الفضائل حتى تصل إلى كمالها، وأن يوصف إكليلها أنه من اثنَي عشر كوكبًا، فإن نورها المُكتسَب بالجهاد وطلب النعمة اكتملت فضائله.
هناك مقولة حكيمة: «اعرف عدوك». فحينما ندرس عدونا ونعرف أسلوبه وحيله وقدراته وطريقته، نستطيع أن نتقي شَرَّه، بل ونغلبه. ولذلك يُعوِزنا الآن دراسة مستفيضة لشخصية الشيطان وتاريخه؛ لنستعد لحروبه. وهذا ما أشار إليه القديس بولس الرسول حينما قال «لأَنَّنَا لَا نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ» (2 كو 2: 11). وسفر الرؤيا في هذا الإصحاح، يكشف لنا شيئًا من شخصية إبليس عدُوِّنا الأول، والسبب الأصيل لكل ضيقة مرت وتمر بها الكنيسة على مر الدهور والأزمان. وهذا ما رآه مار يوحنا في رؤياه فقال «وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، هُوذَا تِنِّين عَظِيمٌ أَحْمَر، له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى رؤوسه سبعة تيجان» (رؤ 12: 3).
«وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ» (رؤيا 12: 3)
καὶ ὤφθη ἄλλο σημεῖον ἐν τῷ οὐρανῷ
كانت الآية العظيمة الأولى التي ظهرت في السماء، هي المنظر الأول الذي افتُتِح به هذا الإصحاح، وهو المرأة المتسربلة بالشمس، أي العذراء والكنيسة والنفس البشرية. وها نحنُ الآن أمام المنظر الثاني أو الآية الأخرى التي ظهرت في السماء، آية أخرى بمعنى من نوع ٍ آخر، أعجوبة غير مقدسة، آيةٌ تبهرنا لا في إعجاب بل في تعجُّب.
«في السماء لم يرَ مار يوحنا في رؤياه حقائق مادية في عالمنا، بل مناظر رمزية في السماء، تشرح الواقع الذي حدث في الماضي أو يحدث في الحاضر أو المستقبل. فقد سمع صوت الرب قائلًا: «فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هذَا.» (رؤيا 1: 19)
«هُوذَا تِنِّين عَظِيمٌ أَحْمَر» (رؤيا 12: 3)
καὶ ἰδοὺ δράκων μέγας πυρρὸς
لم يَقُلْ آيةٌ عظيمة، كما في المنظر الأول، بل قيل تِنِّين عَظِيمٌ، عَظِيمٌ في ضخامته وشَرِّه وتأثيره؛ فهو «الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلهًا أَوْ مَعْبُودًا» (2 تس 2: 4). أما الآية العظيمة الأولى ففي قداستها وسموها.
وقد ظهر الشيطان في السماء؛ لأن أصله من السماء، ثم سقط. فرثاه إشَعْيَا النبي قائلا: «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ.» (إشعيا 14: 12-15)
آيَةٌ أُخْرَى أو أعجوبة أخرى. عجيبٌ أن يسقط ذلك الكروب العظيم، مِلء المعرفة. عجيب أن يسقط ذلك الذي تَمتَّع بالعشرة الإلهية. إنها أعجوبة من نوع ٍ آخر غَير مُقدَّس كما قلنا. حتى أن إشَعْيَا العظيم في الأنبياء تعجب قائلاُ: «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟! كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ؟!»
الشيطان كان في بدايته رئيسًا للسمائيين يُدعى لوسيفر أي زهرة بنت الصبح. كان كوكبَ الصبح المنير في السماء. ثم ارتفع قلبه في كبرياء وخُيَلاء، فأسقطه الرب من السماء، ودُعي بأسماءٍ تُعبِّر عن صفاته. فدُعي بالتنين العظيم، رمز قوته الهائلة، والحية القديمة رمز خُبثه ومَكرِه ودهائه. ودُعي إبليس أي المُجرِّب باليونانية، والشيطان أي المعانِد بالعبرية، والمُضل والمشتكي والمقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا، ورئيس هذا العالم، ورئيس سلطان الهواء، وإله هذا الدهر. وغيرها كلها أسماء وصفات تصف شروره وادعاءاته.
«هُوَذَا تِنِّينٌ عَظِيمٌ»: التنين حيوانٌ خياليٌ ضخم، أطلق عليه هوميروس أشهر شعراء اليونان في القرن الثامن قبل الميلاد ديناصور. واستُخدمت هذه اللفظة في سفر التكوين عندما تحدث عن الحيوانات الأولى التي خلقها الله عظيمة الضخامة فقال «فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ» (تك 1 :21). كما استخدمه أيضًا في التعبير عن الشيطان أو الحية (تك 3 :1). وهكذا لُقِّب الشيطان في (رؤ 12: 9؛ 20: 2) بالأربعة ألقاب الشهيرة: التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس، والشيطان (رؤيا 9: 12؛ 20 :2). ووُصف بأنه عَظِيم؛ لأنه الرئيس الأعلى للشياطين، وجنوده هم الملائكة الساقطون معه.
(1) «التِنِّينٌ العَظِيمٌ»: وهو الشيطان في قوته وضخامته وجبروته. وصفه أيوب البار، بأنه حوت عظيم (أيوب 3 :8) مشيرًا إلى الوحش الخارج من البحر (رؤيا 1: 13) ووصفه وحش بحرى فقال عنه بهيموت (أيوب 13 :10) مشيرا إلى الوحش الخارج من الأرض (رؤيا 13 :11) أو الوحش البرى.
(2) «الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ»: وهي الشيطان في مَكْرِه وخُبثه، كما قال سفر التكوين «وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ» (تك 3: 1). وسفر الرؤيا عندما يصف الشيطان بأنه الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ يُذكرنا بتاريخها مع حواء؛ فهي عَدُّونا الأول. قال الرب لها: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك 3 :15). ولم يَشأ أن يُذكرنا بمكرها وعداوتها فقط، بل وضح لنا أنه في قِدَمِها اكتسبت خبرة شريرة في إسقاط البشر، فنستيقظ لأننا نحُارب شيطانًا قويًا ماكرًا، له خبرات طويلة في الشر تمتد إلى أكثر من سبعة آلاف سنة، منذُ حَربِه مع آدم وحواء وإلى اليوم. فتَمَرَّن مع أنواعٍ مختلفة من البشر في ظروف مختلفة وأجيال متعددة. فكم ينبغي أن يكون استعدادنا لهذه الحرب مع أحيل الكائنات وأكثرها خبرة، حتى يقول مار بولس الرسول: «لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ.» (2 كو 2 :11).
(3) «المدعو إبليس، والشيطان»: هذان اللقبان الثالث والرابع يُفهَم منهما أن إبليس المُجرب كان ولا يزال يُجرب البشر بالشرور التي يحاول إسقاطهم فيها، وهو الشيطان المعاند الذي بعد سقوطه من السماء وإدراكه أنه لا يُمكنه الصعود إليها مرة أخرى لا يزال يحاول أن يرفع كرسيه فوق كواكب الله ليصير مثل العلي (إشعيا 14: 12-15). فظل يعاند ليجذب معه ملائكته ثُلث نجوم السماء ليطرحهم معه إلى الأرض، ثم يحاول أن يُسقط آدم وحواء بنفس الأكذوبة التي سقط بها محاولًا أن يغريهما بأن يصيرا كالله، وهو لا يزال يعاند مُكوِّنًا مملكة الشر؛ فهو رئيس هذا العالم، وإله هذا الدهر، ورئيس سلطان الهواء. ثم أن اللقبين إبليس اليونانية والشيطان العبرية، هما لغتا العالم فِي زمن الرؤيا. فاليهود يتمسكون بالعبرية، والأمم يتكلمون اليونانية لغة الإمبراطورية الرومانية التي شملت العالم القديم كله. التِّنِّينُ الْعَظِيمُ كان يدعى سطانائيل، وقد سقط، فصار رئيسًا للشياطين على نحو ما يقول ابن العسال، أي سطوة إيل أو قوة الله. ولما سقط، انفصل عن الله فانفصل اسمه أيضًا وصار سَطان وهِيَ نفسها كلمة شيطان؛ لأن اللغة العبرية تُنطَق فيها الشين سين، وهؤلاء الملائكة الساقطون من طغمة الكِروبيم المملوئين معرفة؛ فهم إذن بلا عذر (حزقيال 11: 17-28). وهو أسد يجول يلتمس من يبتلعه. وهو لوسيفروس أي زهرة بنت الصبح.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«تِنِّينٌ عَظِيمٌ أَحْمَرُ» (رؤ 12: 3)
وُصف باللون الأحمر؛ لأن الرب قال عنه: «ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ» (يوحنا 44: 8). فقد قتل آدم وحواء بإغرائهما على عصيان الله. «لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ» (1 كو 15: 22)، أي قُتل الجميع. «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو 5: 12). "ودخل الموت إلى العالم بحسد إبليس" (القداس الإلهي). وظل الشيطان يقتل الناس بالخطايا التي يُسقطهم فيها. ثم أَهرق دم شهداء لا يُحصى عددهم عبر الأجيال؛ ولذلك صار «تِنِّين عَظِيم أَحْمَر» من كثرة ما شرب من دماء الأشرار الذين أسقطهم، والأبرار الذين قتلهم. وسيظل يقتل حتى زمن ضد المسيح محاولًا إهلاك الكل.
ἔχων κεφαλὰς ἑπτὰ καὶ κέρατα δέκα καὶ ἐπ τὰς κεφαλὰς αὐτοῦ ἑπτὰ διαδήματα |
لَهُ رُؤُوسٍ سَبْعَةُ وقُرونٍ عَشَرَةُ وَ عَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ (رؤ 12: 3) |
هكذا وُصف التنين أو الشيطان في قوته الشريرة. وهنا نسأل كيف تكون قُرونه عَشَرَة مع أن رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ؟ والمعروف أن القرون تكون على الرؤوس! فإما أن تكون سبعة أو أربعة عشر؟! والإجابة إنه كلامٌ رمزيٌ. والرقمان سبعة وعشرة، من أعداد الكمال، فالشيطان كامل في ذكائه ومكرِه ودهائه، وكامل في قوته وسطوته.
وربما يكون هذا المنظر هو أن التنين له رأس كبيرة تحمل القرون العشرة، وله سبعة رؤوس أُخرى عليها سبعة تيجان. وَفِي الحالتين هذا يرمز إلى أن الشيطان يَغلِب ويَتَسلط بذكائه الشرير ومكرِه وخِبرته الكاملة في الشر، أكثر مما يغلب بقوته؛ ولذلك فالتيجان على رؤوسه وليس على قرونه، لاسيما في زمن ضد المسيح، على نحو ما يشرح القديس غريغوريوس الكبير(31). كما يُقدم أن رأس التنين العظيم يرمز إلى ضد المسيح؛ لأنه أكبر قَادةِ الشيطان، وهو أيضًا ذَنَبه لأنه أشرس وسيلة لإسقاط المؤمنين، فهو قيادة الشر ووسيلته. وإن كنت أميل إلى هذا التفسير، إلا أنه لا يتعارض مع تفسيرٍ آخر هو:
السبعة رؤوس: هم سبعة رؤساء أو ملوك يستخدمهم الشيطان، فيوزع عليهم العمل، تَشبُّهًا بالله الذي أمام عرشه سبعة مصابيح نارٍ متقدة هي سبعة رؤساء ملائكةٍ يخدمونه ويُنفذون مشيئته (رؤيا 4 :5). فالشيطان يحاول أن يتألَّه بأن يُقلد الله مدعيًا أنه إله هذا الدهر (2 كورنثوس 4: 4)، فجعل أمامه سبعة رؤساء شياطين يعمل بهم.
قال إشَعْيَا النبي: «الهاوية من أسفل مهتزة لك لاستقبال قدومك...
أهبط إلى الهاوية... كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ... أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ.» (إشعيا 14: 9-15). فالشيطان كوكب الصبح، والشياطين الذين سقطوا معه لُقِّبوا بثُلث نجوم السماء. وقال حزقيال النبي "وَكَانَ إلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: «يَا ابْنَ آدَمَ، ارْفَعْ مَرْثَاةً.. هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: أَنْتَ خَاتِمُ الْكَمَالِ، مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ الْجَمَالِ. كُنْتَ فِي عَدْنٍ جَنَّةِ اللهِ. كُلُّ حَجَرٍ كَرِيمٍ سِتَارَتُكَ، عَقِيقٌ أَحْمَرُ وَيَاقُوتٌ أَصْفَرُ وَعَقِيقٌ أَبْيَضُ وَزَبَرْجَدٌ وَجَزْعٌ وَيَشْبٌ وَيَاقُوتٌ أَزْرَقُ وَبَهْرَمَانُ وَزُمُرُّدٌ وَذَهَبٌ... أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ، وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ اللهِ الْمُقَدَّسِ... أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إثْمٌ... فَأَخْطَأْتَ. فَأَطْرَحُكَ مِنْ جَبَلِ اللهِ وَأُبِيدُكَ أَيُّهَا الْكَرُوبُ الْمُظَلِّلُ... قَدِ ارْتَفَعَ قَلْبُكَ لِبَهْجَتِكَ. أَفْسَدْتَ حِكْمَتَكَ لأَجْلِ بَهَائِكَ. سَأَطْرَحُكَ إلَى الأَرْضِ... نَجَّسْتَ مَقَادِسَكَ بِكَثْرَةِ آثَامِكَ... فَأُخْرِجُ نَارًا مِنْ وَسْطِكَ فَتَأْكُلُكَ، وَأُصَيِّرُكَ رَمَادًا عَلَى الأَرْضِ أَمَامَ عَيْنَيْ كُلِّ مَنْ يَرَاكَ.» (حز 11: 28-18). فرئيس الشياطين يُوزع بين جنوده عملَه الشرير لمهاجمة مملكة السيد المسيح، مُكلِّفًا كل مجموعةٍ من الشياطين أن يعملوا تحت قيادته. وهذا أشار إليه مار بولس الرسول: «فإن مصارعتنا... مع أجناد الشر الروحية... مع الرؤساء» (أفسس 12: 6). ومنهم من عُيِّن يومًا «رئيسًا لمملكة فارس» (دانيال 13: 10)، أي أحد رؤساء الشياطين المكلَّف بمحاربة شعب الله في مملكة فارس. والقديس بولس الرسول كرسول كارز يصارع هؤلاء الرؤوس السبعة (رؤ ساء الشياطين) في أماكن كرازته.
وهناك تفسير ثالث مأخوذ من (رؤيا 17) عندما وصف الوحش القرمزي وهو الشيطان أن «لَهُ السَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَالعَشَرَةُ قُرُونٍ» (رؤيا 17 :7)، فقال مار يوحنا: "هنا الذهن الذي له حكمة، السبعة الرؤوس هي سبعة جبال عليها المرأة الجالسة وسبعة ملوك... والعشرة القرون التي رأيتها هي عشرة ملوك» (رؤيا 17 :12). فالزانية العظيمة التي جلست على السبعة جبال، أي سيطرت على السبعة ممالك حسب تقسيم الشيطان، والتي إحداها مملكة فارس (دانيال 10 :13).
وفي كل هذه التفسيرات خط ٌرئيسيٌّ واحد: أن الشيطان يعمل بِمكْرِه وقوته، أو بالملوك الأشرار الذين يعاونوه.
«وعلى رؤوسه سبعة تيجان» (رؤ 12: 3)
التيجان رمز المُلك، ومملكة إبليس قائمةٌ على الأشرار، يملك على أفكارهم، وحواسهم، وتصرفاتهم. ويساعده ملوكٌ أشرار مُتوَّجين، بصولجانهم واقتدارهم يحققون أغراضه الشريرة. ونرى هنا أن التيجان تُتوِّج رؤوس التنين لا قرونه؛ لأنه يغلب بذكائه ومكرِه أكثر مما يغلب بقوته وسيطرته.
«وذَنَبُه يَجُر ثُلثَ نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض» (رؤيا 12 :4)
طُرح التنين العظيم، طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته (رؤ 9: 12). التنين العظيم هو سطانائيل رئيس الشياطين. فهذه هي قصة سقوط الشيطان التي تكلم عنها إشَعْيَا النبي (إشعيا 14: 14)، وأسقط معه عددًا كبيرًا من الملائكة «نجوم السماء» (يهوذا 6). وفي هذا تظهر رغبته في إسقاط كل من يستطيع، فأهلك معه ثُلث نجوم السماء. وكلمة ثُلث تعني أن الملائكة انقسموا إلى فريقين: فريق سقط بتبعيته لسطانائيل في تُمرُّده على الله، وفريق ثبَت في البِر، وكان الثابتون أكثر من الساقطين، فرُمز لهم بالثُلثين، وللساقطين بالثلث. إنها مراحم الله التي شملت الملائكة، فلم يسقط الأكثرون منهم. أما قصة طَرْحِ الشيطان إلى أرضنا، فكانت نتيجة كبرياء إبليس وجنوده. قال عنهم القديس يهوذا الرسول (ليس الإسخريوطي وأحد الاثني عشر) في رسالته المكونة من إصحاح واحد: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم- في السماء ليصعدوا إلى سماء السموات- حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيودٍ أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6). فحدثت نتيجة ذلك حربٌ في السماء، قال عنها مار يوحنا الحبيب في رؤياه: «وَحَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ، وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ.» (رؤيا 12 :7- 8) أي أن سطانائيل عندما صعد إلى السموات ظانًا أنه يرفع كرسيه فوق كواكب الله... يصير فوق العلى (إشعيا 14: 14- 15)، صعد إليه ميخائيل رئيس رؤساء الملائكة، وحدثت بينهما حرب، غلب فيها ميخائيل وأسقط الشيطان وملائكته من السماء، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ، بل طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته، فصارت الأرض مجال نشاطه الشرير (رؤيا 12: 9، 13، 17).
لماذا الأرض يا رب؟؟ ألا يوجد كواكب كثيرة غيرها؟
الشيطان طبيعته نارية، والنجوم عندك كثيرة لتطرحه هناك في نَجمٍ آخر أو كوكب آخر. أنت تعرف يا رب أنك ستخلقني على هذه الأرض وسأكون محبوبًا لك، لماذا طُرح إذن على أرضنا التي خلقتها لنا، طبيعتها تناسب طبيعتنا. جسدنا ستخلقه من ترابها، وحياتنا من هوائها ومائها وثمارها. هذه لنا، خلقتَها من أجلنا وليس من أجله، "من أجلى ألجمت البحر من أجلى أظهرت طبيعة الحيوان..." لماذا يا سيدى جعلتنا معًا؟ هو من نار، قوىٌ متمرِّد، أسقطه رئيس ملائكتك العظيم فصار «به غضبٌ عظيم»، ربي هل ستسامحني حينما أقول: هذه المعركة ليست لنا؟
لماذا خلقت جَدَّنا آدم المسكين في أرضٍ يسيطر عليها الشيطان؟!
ولماذا توجد حواء في جنة عدن ومعها الحية بل الشيطان المختبئ فيها؟
عندما سقط الشيطان من السماء إلى أرضنا سقط إلى الغلاف الجوي المحيط بها؛ لذلك قيل عنه «رئيس سلطان الهواء» (أفسس 2: 2). وعندما خُلق آدم وحواء في جنة عدن، وَجدا التنين العظيم وملائكته الساقطين من السماء في انتظارهما على الأرض، فحاربهما وأسقطهما. وظل يحارب الإنسان ويُسقطه، إلى أن جِئتَ مُتأنسًا على أرضنا، فحاربته وهزمته، وظللتَ تطرده من أناسٍ سيطر عليهم وسكن فيهم. فهذه هي معجزات إخراج الشياطين، حتى قيَّدتَه ألف سنة على الصليب، وبدأت ملكوتك الألفي، فصار الشيطان مقيَّدًا، لم يمت ولم ينتهي، ولكنه يعمل في الحدود التي تسمح بها له. عندما كان الشيطان حرًا طليقًا، كان يَجُرُّ العالم كله إلى الفساد. ففي جنة عدن كان الإنسان تحت قيادة الله المباشرة، وأسقط الشيطان كل البشر (وهم آدم وحواء). وفي قصة نوح، أهلك العالم كله بالزنا والفساد، ولم يبقَ إلا ثماني أنفس. وفي سدوم وعمورة، أسقطهم جميعًا ولم ينجُ إلا لوط وحده. وفي زمن موسى النبي، سقط العالم كله في عبادة الأصنام، ولم يبقَ إلا بنو إسرائيل يعبدون الله. وهؤلاء عندما غاب عنهم موسى النبي صاعدًا إلى الجبل ليتكلم معك، عَبدوا العِجل الذهبي الذي اشترك هارون الكاهن العظيم في صُنعه. وكان الشيطان أسدًا طليقًا يفترس كل من يقابله. وصُلب ربُّ المجد، فجاء إبليس يقبض على روحه عند موته حسب عادته، لكن روح المسيح المتحدة بلاهوته قبضت عليه وقَيَّدَتْه ألف سنة. ونزل الرب إلى الجحيم من قِبَل الصليب، وأخرج الذين ماتوا على رجاء، وفتح باب الفردوس وأدخلهم. فدخل الفَوج الأول والأكبر، من آدم إلى ديماس اللص اليمين دُفعة واحدة. لم يَكنِ اللصُّ هو أول من دخل الفردوس، كما يقولون، إنه خطأٌ شائع. لكن الفوج الأول فيه ملايين البشر دخلوا إلى الفردوس حسب درجاتهم الروحية، ولم يكن ديماس اللص التائب، الذي أعلن إيمانه في أحلك الأوقات مقاومًا الشكوك هو أعلاهم روحيًا، مع محبتنا وتوقيرنا له. فقد جاهد مع نفسه جهادًا عميقًا، قبل أن يُعلن إيمانه ورجاءه ومحبته للمصلوب، بل ونطلب شفاعته من أجلنا. لكن هناك قامات روحية عالية، كإبراهيم أب الآباء وموسى النبي، وإرميا وإشَعْيَا، أولئك العظماء جهابزة الروحانية العالية. ومن يقدر أن يخطوا إلى الفردوس قبلهم، وهم جميعًا أمامه في وقت واحد؟
ولم يقف بعد إسقاطه للملائكة وتضليله للبشر، بل حاول أن يَقتل الرّب يسُوع، لكنه لم يقدر لا في طفولة تجسُّده، ولا في صليب فدائه، بل قام الرّب من الموت في اليوم الثالث، مُقيمًا إيانا من موت الخطية، مُصعِدَنا معه إلى السماء.
«وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ حَتَّى يَبْتَلِع وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ
فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ».
«وَلَمَّا رَأَى التِّنِّينُ أَنَّهُ طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الابْنَ الذَّكَرَ» (رؤيا 12: 4-5؛ 12: 13).
طُرِحَ التِّنِّينُ إلَى الأَرْضِ: هذا هو سقوط الشيطان، وطَرْدُ ميخائيل رئيس الملائكة له، فلم يعُدْ له مكانٌ في السماء، بل سقط إلَى الأَرْضِ.
وَلَمَّا رَأَى هذا، صار به غضبٌ عظيم. فوَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ
واضْطَهَدَها، وأراد أن يَبْتَلِع وَلَدَهَا.
هذه كراهية الشيطان للمولود الذَكَر الذي أتى لخلاص البشرية الساقطة. فحالما وَلدتِ المرأةُ المتسربلة بالشمس، حاول التِّنِّينُ أَنْ يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ، فحرك هيرودس لقتل الأطفال، فأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ (رؤيا 12: 15)، لعله يُقتَل ضمن الآلاف التي سالت دماؤهم كنهر.
«وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ»: وقف الشيطان منذ الأيام الأولى:
أَمَامَ حواء المرأة الأولى والتي تُمثل النفس البشرية.
أَمَامَ العذراء حواء الثانية.
أَمَامَ الكنيسة حواء الجديدة، وقف الشيطان.
أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ: يا لِيقظةِ عدوِّنا هو وملائكته الساقطين، يترقب مستعِدًا للحرب. فقد أبغض الشيطان ذلك المولود من العذراء، الذي اهتزت له السماء قبل أن يُولَد. كان يستنتج، بذكائه الشرير، من الأحداث والنُّبوات، أن البشر سيرثون مكانه في السماء بواسطة هذا المولود، ولذلك وقف التنين أمام العذراء، العتيدة أن تلد مشتهى الأجيال المسيا المنتظر مُخلص البشر؛ حتى يبتلع وَلدها متى ولدت، فماذا فعل؟! حَرَّكَ أوغسطسَ قيصر ليعمل اكتتابًا لِكُل المسكونة في ذلك الوقت، وكان هذا أولَ اكتتابٍ يحدث. كانت فكرةً حديثة؛ ليجعل العذراء تتحرك مع القديس يوسف النجار من الناصرة بالجليل، إلى بيت لحم باليهودية مسافة كبيرة في وقت الولادة حتى تمت أيامها لتلد في وقتٍ صعب، ليس لها مكانٌ تَلد فيه. وسجَّلَ الكتاب: «وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل» (لوقا 2: 7). ووضعت مولودَها في إناءِ التبن حيث تأكل الحُملان. ثُم دخل الشيطانُ قلبَ هيرودس الملك، «فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم، وفِي كل تخومها من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس» (متى 2: 16). وانطبق كلام سفر الرؤيا: «وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ»، ولكنه لم يُفلِح.
حَتَّى يَبْتَلِع وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ:
«وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ»: أمام النفس البشرية يحاربها.
يُولَدُ الإنسانُ بالمعمودية ولادةً ثانيةً جديدةً، ويصير ابنًا لله وصورةَ الله. يُحاول الشيطان أن يبتلعه، فيُحاربَه طفلًا بأنواعٍ من الخطايا تُناسِب سِنَّهُ، فيَستغل خوفه ليُسقطه فِي الكذب، ويستغل غريزة حبَّ الامتلاك لِيبتلِعَه بالسرقة. وكُلما كَبِر يحاول أن يبتلعه بِطُرقٍ وحروبٍ متنوعة، فيحاربه بالغرور والكبرياء، فيَبتلِع الفضيلة بعد ولادتها مباشرةً، ولم يُفلِحْ.
ظَنَّ البعضُ أنه كِسرَى ملكُ الفرس، وبذلك يكون هِرَقل ملكُ الروم، الذي انتصر عليه وأخذ خشبة الصليب بإكرام عظيم هو الابن الذَكَر. وَفِي كُل عَصْر تظهر آراءٌ أُخرى، ولكن يبقى سفر الرؤيا هو كلمة الله لكل العصور. ونحن الآن لا نريد أن نَلغي تلك التفسيرات التي تناسب عصرًا من العصور، لكن يبقى هذا التفسير مُجرد تأملات شخصية، يأتي آخَرٌ بِغَيرها في عصرٍ آخَر.
إنما التفسيرُ الصحيحُ لِسِفر الرؤيا هو التفسير النافع لكل العصور. فالشيطانُ هو ذلك التنينُ العظيمُ الأحمر، الذي عمل في كِسرَى أو فِي غيره في أي عصر. والِابنُ الذَكَرُ العتيدُ أنْ يَرعَى جميعَ الأمم هو السيد المسيح له المجد، العامِل في كل العصور من خلال أبنائه، وهكذا نأخذ التفسير النافع لكل العصور.
مَثَلٌ آخَر: السبعة رؤوس المُتوَّجة، والعَشَر قرونٍ، يَظن البعض أن هؤلاء ملوكٌ مُتَوَّجون على الأرض، لهُم قُوَّتهم يساعدون بها الشيطان. ويختلف المفُسرون في أسماء هؤلاء الملوك الأكثر قوة، ويَعمل بهم الشيطان. ويختلف التفسير من شخص إلى آخر في كل عصر. لكن منهجِي في التفسير، أن رؤوسَ التنين السبعة هي ذكاؤه ودهاؤه الذي به يغلب، فيُتَوج. وقُرونه العشرة هي قوته وسيطرته. وسواءٌ استخدم إبليس فِكرَه وقوتَه بطريقة مباشرةٍ، أو من خلال ملوك أشرار؛ لِيَصل إلى أغراضِه الشريرة. وهذا المنهجُ في التفسير لا يتعارض مع أي تطبيق في أيٍ من العصور المُتباينة.
أما الرأي الثالث فهو:
مُنذ الحَبَل الإلهي والتجسد الذي بدأ ببشارة الملاك لأُمِنا العذراء، بَدأت حربُ التنين العظيم الأحمر للمرأةِ المتسربلة بالشمس الحُبْلَى، التي كانت تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ. وَالتِّنِّينُ الْعَظِيمُ هو الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ. ثُم وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ، حَتَّى يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ، ولم يقدر. فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ وَإلَى عَرْشِهِ، فأُعطيتِ الْمَرْأَةُ جناحي النسر، وَهَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا» (رؤيا 12: 1-6). وهذه هي فترةُ بقاء العائلة المقدسة في مصر. فقد حرك التنينُ هيرودس لقتل أطفال بيت لحم لعله يَقْتل المسيحَ طفلًا، وأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ (العذراء) جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ» العاملة في هيرودس. فرأى الشيطانُ أن خُطتَه لم تُفلِح، فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ. وهذا أمَر هيرودس بقتل الأطفال حتى سالت الدماءُ أنهارًا، لعل الربَّ المولود يُحمَل في نهر الدماء، ولكن أَعَانَتِ الأَرْضُ الْمَرْأَةَ، وَفَتَحَتِ فَمَهَا وَابْتَلَعَتِ النَّهْرَ الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُ مِنْ فَمِهِ، ونجا المولودُ ملك اليهود الابن الذكر (رؤيا 12: 14-16).
«فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ.» (رؤيا 12: 5)
هذه صفات المسيا المنتظر، ابنًا ذكرًا لأن الله أمَر:
«قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ» (خر 13: 2) عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ، فيصير الراعي الأعظم لجميع الأمم. فالمسيح له المجد ليس راعٍ لليهود فقط، بل لجميع الأمم، بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ؛ لأن «كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ» (عب 1: 8)، وهذا ما أشار إليه في نفس الإصحاح بقوله: «اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَلَدَتْ الابْنَ الذَّكَرَ» (رؤيا 12: 13).
«وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ وَإلَى عَرْشِهِ» (رؤيا 12: 5)
«فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا» (رؤيا 12: 14)
هذا هو عمل النعمة الإلهية غير المنظورة. فالحديث مبني للمجهول في النصين السابقين (رؤيا 12: 5)، (رؤيا 12: 14): «وَاخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ»، وهو تعبير يُشير إلى "الهروب"؛ لأنه حدث في عُجالة قبل أن يُدرك هيرودس الطفل ويقتله. فلم يكن القديس يوسف والعذراء متابعين للخطط الشريرة التي تُحاك حولهم، لكن العناية الإلهية هي التي تُحرك كل شيء، لذلك قيل "اخْتُطِفَ وَلَدُهَا إلَى اللهِ" إلى العناية الإلهية.
كما قيل أيضًا: «فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ». إنه هروب أيضًا «تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ». والبرية قاسية، والطريق وَعْرٌ. ومصر التي سيذهب إليها هي معقلٌ من معاقل الوثنية، ولذلك كانت الحاجة أن يُختطَف المسيح المتأنس طفلًا سريعًا إلى العناية الإلهية المباشرة.
«وَإلَى عَرْشِهِ»: أين عرشُك يا رب ما دامت بيت لحم ليست كذلك، بل إسرائيل كلها، الشعب الوحيد الذي يؤمن بالله هي مكان القتل؟ أين عرشك إذن؟! يقول "من مصر دعوت ابني" (مت 2: 15). البلد الوحيد غَير موطنه، التي دخلها المسيح ودعاها شعبه. كيف هذا يا رب؟ الله يرى المستقبل حادثًا أمامه. فمِصر هي التي حفظت الإيمان النقي، ودافعت عنه أكثر من كل بلاد العالم.
«إلَى مَوْضِعِهَا»: تعبيرٌ يرادف التعبير «إلَى عَرْشِهِ»: فمصر موضع العذراء، وهي عرش المسيح، حيثما تستريح هي، يستريح هو.
(رؤيا 12: 6) |
(رؤيا 12: 14) |
وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا. |
فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ |
«وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ»
«فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ»
(رؤيا 12: 6، 14)
كان الهروب إلى مصر يحتاج من العذراء إلى جهاد عظيم، في رحلة طويلة وشاقة، يصادفها الجوع والعطش. ولكنها تَحمِل خالق الطعام والماء. فقد أُعطيت من قِبل الله جناحي النسر العظيم؛ لكي تطير هذه المسافات الضخمة إلى البرية، فترتفع إلى أعلى، فوق الخطر والجوع والاحتياج.
«إلَى الْبَرِّيَّةِ» والبرية هي الصحراء أو الأرض التي لم تُزرع بعد، ولم تُفَلح ولا بُنيت ولا مُهِّدت فيها الطرق، وهذه هي أرض مصر. مصر الحضارة والأهرامات. مصر الزراعة التي قيل عنها «كَجَنَّةِ الرَّبِّ، كَأَرْضِ مِصْرَ. حِينَمَا تَجِيءُ إِلَى صُوغَرَ.» (تك 13: 10). لماذا يُقال عنها «بَرِّيَّةِ»؟ هي بَرِّيَّةٌ رُوحيًا، فهي وثنيةٌ لم تُفَلَّح بعد، ولم تُزرع بالإيمان بعد. ومع أنها وُصِفت بأنها الْبَرِّيَّةُ، إلا أنه قيل عنها موضع العذراء والمسيح الطفل.
فالكنيسة تهرب دائمًا من وجه إبليس؛ لتعيش مُتقشِّفةً في برّيةِ هذا العالم، تنتظر مَسكنَها الجديد أورشليم السمائية المُعدّ لها من الله. ومُدة الألف ومائتين وستين يومًا، أو الثلاث سنين ونصف، ترمز إلى كُل أيام الغربة التي نقضيها على الأرض. ففي كنيسة العهد القديم، هرب إيليا من وجه إيزابل ثلاث سنين ونصف. وفي كنيسة العهد الجديد هربت العذراء مريم مع الرّب يسُوع ويُوسف النجار من وجه هيرُودس ثلاث سنين ونصف. وفي فترة ضد المسيح ستهرب الكنيسة منه ثلاث سنين ونصف، في البراري والجبال من شدة الضيق، حتى يُنقذها الله.
«هَرَبَتْ إلَى الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَهَا مَوْضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَيْ يَعُولُوهَا» (رؤيا 12: 6)
«تَطِير إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُعَالُ» (رؤيا 12: 14)
على الرغم أن مصر وُصفت بالبرية في زمن المسيح لوثنيتها، إلا أنها وُصفت أنها موضعٌ مُعَد من الله لكي تُرحب بالعذراء، وتعولها، وتفتح قلبها للرب، وتأخذ بركة التجاء المسيح والعذراء إليها، فتصير موضعها الخاص المُعد من الله للإيمان المستقيم بالله، ولإكرام العذراء حق كرامتها بلا زيادة أو نقصان، وهكذا تتبارك مصر بظهوراتها العظيمة المتعددة، وأشهرها ظهورها في الزيتون.
«لِكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفًا وَمِئتيْنِ وَسِتِّينَ يَوْمًا» (رؤيا 12: 6)
«حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ» (رؤ 12: 14)
عاشت أُمنا العذراء ثلاث سنوات ونصف في البرية في مصر. وهذه المدة حُددت بأنها زَمَان وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ(32)، أي ثلاث سنوات ونصف. كما حُددت بأنها ألفٌ ومئتان وستون يومًا تقريبًا، وهي نفس المدة، وهي مدة هروب المسيح له المجد مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ القديمة أي الشيطان العامل في هيرودس، فسكنت العائلة المقدسة في مصر.
![]() |
«وَحَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ 8وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ. 9فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ».
(رؤيا 12: 7-9)
هذه أُولى الحروب الثلاثة التي ذكرها سفر الرؤيا: وهي قصة الحرب بين التِّنِّينُ الْعَظِيمُ الأحمر، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، والذي جذب وراءه ثُلث نجوم السماء، أي ثُلث الملائكة، وبين مِيخَائِيل رئيس الملائكة الذي حارب وغلب، وطَرح إبليس من السماء إلى الأرض منتصرًا عليه. وظل الشيطان يحارب الإنسان على الأرض ويهزمه، حتى جاء المسيح له المجد متجسدًا ومصلوبًا، فقَيَّدَه في الهاوية ألف سنةٍ (رؤ 20). وظل الشيطان المقيَّد يحارب الإنسان ألف سنةٍ حتى يُحَلُ قُبَيل يوم الدينونة بقليل، فيأتي إلى الأرض وبه غضبٌ عظيم. فتشتعل حَربُه مع الكنيسة إلى يوم القيامة، حيث يُدان ويُطرح في بحيرة النار والكبريت (رؤيا 20: 10).
«مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ»:
ما معنى هذا التكرار: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا.
وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ.
مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ وَمَلاَئِكَتَهُ. أما موقف التِّنِّين وَمَلاَئِكَته لم يكُن موقفًا دفاعيًا فقط، ولكن كان أيضًا هجوميًا، ولذلك قال:
وَحَارَبَ التِّنِّينُ. وفي هجوم التِّنِّين وَمَلاَئِكَته هذا على مِيخَائِيل وَمَلاَئِكَته
لَمْ يَقْوَوْا عليهم، لذلك مِيخَائِيلُ أسقط رئيسَ رؤساء الملائكة التِّنِّينَ الْعَظِيم، الْحَيَّةَ الْقَدِيمَة الْمَدْعُوُّ إبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ وَمَلاَئِكَتُهُ، وطَرحَهُم إلى الأرض، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ.
وإذ طُرِحَ الشَّيْطَانَ وَمَلاَئِكَتُهُ إلَى الأَرْضِ قيل عنه: «الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ»، وهذه هي مهمة إبْلِيسَ على أرضنا.
![]() |
«وَسَمِعْتُ καὶ ἤκουσα صَوْتًا φωνὴν عَظِيمًا μεγάλην قَائِلًا λέγουσαν فِي السَّمَاءِ ἐν τῷ οὐρανῷ» (رؤيا 12: 10):
الصَوْت عِلميًا ناشئٌ من إهتزازات المادة. فما هو الصَوْت الذي سَمِعَه مار يوحنا؟ هو إدراك عقلي، ففِي السَّمَاءِ، لا توجد أصوات مادية، تحتاج إلى وسط مادي كالهواء لينقل الذبذبات.
أما أن الصَوْت عَظِيم فهذا يعني الفرح، وأن التسبيح من الأعماق.
أما المُتكلمون، أو المُسَبِّحون فهم الملائكة، والقديسون الغالبون.
«الآنَ ἄρτι صَارَἐγένετο خَلاَصُ ἡ σωτηρία وَقُدْرة καὶ ἡ δύναμις وَمُلْكُ καὶ ἡ βασιλεία إلهِنَا τοῦ θεοῦ ἡμῶν وَسُلْطَانُ καὶ ἡ ἐξουσία مَسِيحِهِ τοῦ χριστοῦ αὐτοῦ,»
(رؤيا 12: 10)
«لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ الْمُشْتَكِي عَلَى إخْوَتِنَا، الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إلهِنَا نَهَارًا وَلَيْلًا» (رؤيا 12: 10).
هذا هو سر فرح الملائكة والغالبين، هزيمة إبليس، وإسقاطه من السَّمَاءِ. هذا هو خَلاَصُ إلهِنَا، نعم. فالذي طَرحَ إبليس الْمُشْتَكِي وأسقطه من السَّمَاءِ هو ميخائيل رئيس الملائكة، ولكنه هزمه بقوة الله؛ إذ قال له «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ» (يهوذا 9).
لذلك سبَّح الملائكةُ اللهَ بأربعِ صفات (كمال المكان)، وهذا يعني تسبيح الله في كل مكان قائلين: «الآنَ صَارَ: خَلاَصُ إلهِنَا 1 وَقُدْرَتُهُ2 وَمُلْكُهُ3 وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ4». فالملائكة يسبحونه؛ إذ طُرِحَ إبليس من السَّمَاءِ، تمهيدًا لتقييده في الجحيم. والغالبون من البشر يسبحون الله؛ إذ أوقف الْمُشْتَكِي الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إلهِنَا نَهَارًا وَلَيْلًا، كقصة أيوب. وهكذا خَلَّص الرب الملائكة من تواجد إبليس في السَّمَاءِ بطَرِحِه،
وخَلَّص البشر منه بسُلْطَانُ مَسِيحِه بالفداء، وَبدْء مُلْكِهِ الألفي بالصليب؛ إذ بعدما طَرَحَه قيَّدَه. وهكذا أيضًا أعطى البشر قُدْرَتَهُ، وسُلْطَانُ مَسِيحِهِ. ولذلك يقول الوحي:
«وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ» (رؤيا 12: 11)
بالنعمة والجهاد نغلب إبليس. فدَمُ الْخَرُوفِ هو النعمة التي وهبها لنا الرب على الصليب، والممتدة في سر الإفخارستيا؛ إذ قال: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي... اشْرَبُوا... هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26: 26).
وَالجهاد: يظهر في كَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، حينما يشهدون للرب بكلماتهم وحياتهم. لذلك أكمل قائلًا: وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ. إذ قاوموا ضد المسيح حَتَّى الإستشهاد والْمَوْتِ.
«مِنْ أَجْلِ هذَا، افْرَحِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَالسَّاكِنُونَ فِيهَا» (رؤ 12: 12)
مِنْ أَجْلِ هزيمة الشيطان وطَرحِه، فلتفرح السَّمَاوَاتُ والملائكة والقديسون سُكان السماء. وكل الأبرار، فقد اقترب إعلانُ الانتصار الأبدي.
«وَيْلٌ لِسَاكِنِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ؛ لأَنَّ إبْلِيسَ نَزَلَ إلَيْكُمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ! عَالِمًا أَنَّ لَهُ زَمَانًا قَلِيلًا» (رؤيا 12: 12).
المقصود بسَاكِنِي الأَرْضِ وَالْبَحْرِ، هم البشر السَاكِنِون على الأَرْضِ، أو الجُزر التي في وَسط الْبَحْرِ. ووَيْلٌ لهم؛ فإبْلِيسَ نَزَلَ إلَيْهمْ وَبِهِ غَضَبٌ عَظِيمٌ! ففي هذه المدة القصيرة التي فيها شعر إبْلِيسُ بهزيمته أمام المصلوب، سيبدأ بالانتقام من سَاكِنِي الأَرْضِ. وعندما يُقال الأَرْض وَالْبَحْر، إنما يقصد سكان الكرة الأرضية. أما الزَمَان القَلِيل فهو ثلاث سنين ونصف، مدة قصيرة ناقصة؛ لأنها نصف السبعة عدد الكمال.
«وَلَمَّا رَأَى εἶδεν التِّنِّينُ ὁ δράκων أَنَّهُ طُرِحَ ἐβλήθη إلَى الأَرْضِ،εἰς τὴν γῆν, اضْطَهَدَ الْمَرْأَةَ εδίωξε τὴν γυναῖκα الَّتِي وَلَدَتْ ἔτεκεν ἥτις الابْنَ الذَّكَرَ τὸν ἄρσενα» (رؤ 12: 13)
حينما سقط الشيطان إلَى الأَرْضِ، اضْطَهَدَ الكنيسة كما اضْطَهَدَ العذراء الَّتِي وَلَدَتْ المسيح.(33) ولما رأى الشيطان أن خُطته لم تُفلح إذ:
«أُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إلَى الْبَرِّيَّةِ إلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ.»
(رؤيا 12: 14): اُنظر الشرح مع الأعداد: [رؤيا 12: 4-6].
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ ὁ δράκων مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ مَاءً كَنَهْرٍ
لِتَجْعَلَهَا تُحْمَل بِالنَّهْرِ» (رؤيا 12: 15)
هذه إشارة لما قاله القديس متي: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ» (متى 2: 16). وهكذا شرح سفر الرؤيا غضب الشيطان من هروب المسيح له المجد. «فَأَلْقَتِ الْحَيَّةُ (الشيطان) مِنْ فَمِهَا وَرَاءَ الْمَرْأَةِ (العذراء بعدما هربت) مَاءً كَنَهْرٍ (نهر الدماء التي سُفكت من قتل أطفال بيت لحم وكل تخومها)؛ لِتَجْعَلَهَا تُحْمَلُ بِالنَّهْرِ لعل المسيح يُقتل ضمن هؤلاء الأطفال، لكن الرب هرب مع أمه والقديس يوسف».
«فَأَعَانَتِ الأَرْضُ καὶ ἐβοήθησεν ἡ γῆ الْمَرْأَةَ τῇ γυναικὶ وَفَتَحَتِ καὶ ἤνοιξεν الأَرْضُ ἡ γῆ فَمَهَا τὸ στόμα وَابْتَلَعَتِ النَّهْر τὸν ποταμὸν الَّذِي أَلْقَاهُ التِّنِّينُὁ δράκων مِنْ ἐκ فَمِهِ τοῦ στόματος αὐτοῦ.» (رؤيا 12: 16).
كانت هذه هي معاونة البشر التي قدموها للعذراء في رحلة الهروب. فقد أراد التنين أن يقتل المسيح، فيَصير دمه ضمن نهر الدماء الذي ألقاه الشيطان من فمه أي من هيرودس الذي كان فمًا للشيطان، ولكن الناس بدءًا بالمجوس الذين سخروا بهيرودس ولم يرجعوا إليه، وهداياهم التي تشمل الذهب الذي أعان العائلة المقدسة في تحركاتها من فلسطين إلى مصر، ثم المصريون الذين ساعدوا على تخبئة العائلة الهاربة من وجه هيرودس. لقد فتحت الأرض فمها وابتلعت هذه المكيدة الشريرة التي صنعها الشيطان مع هيرودس لقتل الطفل يسوع، وهكذا فشل شَرُّه ونجا المولود ملك اليهود.
«فَغَضِبَ التِّنِّينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا، الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ، وَعِنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.» (رؤيا 12: 17)
لم يستطع الشيطان، التِّنِّينُ العظيم، الْحَيَّةُ القديمة، أن يغلب نَسْل الْمَرْأَةِ أي المسيح إلهنا، فذَهَبَ لِيَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ بَاقِي نَسْلِهَا، الذين هم نحن أبناء العذراء وأبناء الكنيسة، الَّذِينَ نحْفَظُ وَصَايَا اللهِ، وَنشَهَدَ لربنا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، بحياتنا وخدمتنا.
وتستمر حروب الشيطان واضطهاداته للكنيسة وأبناء الله في كل جيل، لكن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
_____
(29)الإبصلمودية السنوية.
(30)القديس يوحنا ذهبي الفم، شرح الرؤيا، مخطوطة Ris Departement Des Manuscrits Arabe 67 Pa.
(31)القديس غريغوريوس في كتابه الأدبيات ك 32 ف 14 مشيرًا لكلمات دانيال النبي" وطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم (دا 8: 10).
(32)كلمة زمان تعني سنة، كما جاءت في (دانيال 4: 20؛ 7: 25).
(33)تكملة شرح الآيات (13-14) جاءت مُشتركة مع الآيات (4-6).
← تفاسير أصحاحات السفر: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرؤيا 13![]() |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص يوحنا فايز زخاري |
تفسير الرؤيا 11![]() |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/fr-youhanna-fayez/apocalypse/chapter-12.html
تقصير الرابط:
tak.la/jc5namn