محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11
θύρα ἠνεῳγμένη ἐν τῷ οὐρανῷ
مقدمة: يُقَدِّم سِفْر الرؤيا في الإصحاحات الخمسة الأولى ثلاث صور للسيد المسيح له المجد، رَسَمَ في:
الإصحاح الأول: صورة السيد المسيح وسط المناير السبع، وفي: الإصحاحين الثاني والثالث صورة الرب ماشيًا في وسط المناير السبْعِ الذهبية، أو الكنيسة الجامعة الرسولية، يجول يصنع خيرًا. وله صفات تتناسب مع كل كنيسة، أمَّا هنا في:
الإصحاحين الرابع والخامس: فرَسَم صورة رائعة للرب يسوع الجالس على عرشه الكِروبيمي «الأربعة الحيوانات غير المتجسدين في السماء» قاضيًا، وحوله الأربعة وعشرون كاهنًا جالسون على كراسيهم، مُسبَّحًا من كل الطغمات الروحانية. رآها من خلال باب مفتوح في السماء كما رآه حَمَلًا كأنه مذبوح، وسجَّل تلك الصورة المهيبة بأكثر دقة.
الإصحاح الرابع
1.بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ، وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ، وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوق يَتَكَلَّمُ مَعِي قَائِلًا: اصْعَدْ إلَى هُنَا فَأُرِيَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هذَا.
2. وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ، وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ،
وَعَلَى الْعَرْشِ جَالِسٌ.
3. وَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهَ حَجَرِ الْيَشْبِ وَالْعَقِيقِ، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْشِ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ.
4. وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا.
وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ
مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ.
5. وَمِنَ الْعَرْشِ يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ.
وَأَمَامَ الْعَرْشِ سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ مُتَّقِدَةٌ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ.
1. وَقُدَّامَ الْعَرْشِ بَحْرُ زُجَاجٍ شِبْهُ الْبَلُّورِ. وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ
وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوءَةً عُيُونًا مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ.
7. وَالْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّانِي شِبْهُ عِجْل،
وَالْحَيَوَانُ الثَّالِثُ لَهُ وَجْهٌ مِثْلُ وَجْهِ إنْسَانٍ، وَالْحَيَوَانُ الرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ طَائِرٍ
8. وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ حَوْلَهَا،
وَمِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةً عُيُونًا،
وَلاَ تَزَالُ نَهَارًا وَلَيْلًا قَائِلَةً «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ،
الرَّبُّ الإلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي».
9. وَحِينَمَا تُعْطِي الْحَيَوَانَاتُ مَجْدًا وَكَرَامَةً وَشُكْرًا لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ، الْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ،
10. يَخِرُّ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا قُدَّامَ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ
وَيَسْجُدُونَ لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ قَائِلِينَ: 11. «أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ،
لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ.
![]() |
الله الجالس على عرشه في السماء المسبح من الطغمات الروحانية
1-2 بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ وصوت قائل اصْعَدْ إلَى هُنَا فصِرْتُ فِي الرُّوحِ
2-3 عَرْشٌ فِي السَّمَاءِ وَالْجَالِسُ شِبْهَ الْيَشْبِ وَالْعَقِيقِ، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَه شِبْهُ الزُّمُرُّدِ.
4 - حَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كاهنا. جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ لابسين أَكَالِيلُ ذَهَبٍ.
5-6 بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ خارجة من الْعَرْشِ وأمامه سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ هِيَ روحِ اللهِ. وبَحْرُ زُجَاجٍ بَلُّورِ أمام الْعَرْشِ.
6-8 وَحَوْلَ الْعَرْشِ الأربعة حَيَوَانَاتٍ المَمْلُوءَةَ عُيُونًا شِبْهُ أَسَدٍ، وشِبْهُ عِجْل، ولَهُ وَجْهِ إنْسَانٍ، وَشِبْهُ نَسْرٍ ولِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ مَمْلُوءَةً عُيُونًا، تسبح الرب قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ.
9-11 أثناء تسبيح الحيوانات يسجد الكهنة الأربعة والعشرون أمام الرب ويطرحون أكاليلهم قائلين مستحق أيها الرب التمجيد لأنك خالق الكل.
في هذا الإصحاح رأيْنا:
1. باب مفتوح في السماء ومار يوحنا يصعد من خلاله (رؤ 4: 1-2).
2. العرش والجالس عليه وقوس قزح حوله (رؤ 4: 2-3)، ثم البروق والرعود والأصوات الخارجة منه (رؤ 4: 5) والكِروبيم الأربعة (رؤ 4: 6، 8) والعرش الملتهب
3. الأربعة وعشرون كاهنًا حول العرش وسجودهم وتسبيحهم (رؤ 4: 4، 10-11)
4. أمام العرش ماء وروح بحر الزجاج والبلور وسبع المصابيح نار (رؤ 4: 5-6).
ليتنا في هذا الإصحاح نرى الباب المفتوح في السماء، ونسمع صوته القدوس «اصْعَدْ إلَى هُنَا»، فنَلبَس قوة ونصعد وندخل الأقداس السمائية، فنرى الجالس على عرشه، نور وساكن في نور لا يدني منه، يشْبٌ وعقيق أبيض وأحمر، وهو جالس على العرش المُلتهب الكِروبيمي تخرج منه بروق ورعود وأصوات، وقوس قُزَح يحيطه فيذكر رحمته.
حوله أربعة وعشرون كاهنًا، هم كهنة الكنيسة المقدسة في كل زمان ومكان. يسبحون ويسجدون له. ومن خلالهم نَصِلُ إلى الجالس على العرش، بشرط أن نجوز المعمودية بالماء والروح البحر البلوري الحالَّ عليه الروح القدس.
«بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ» (رؤ 4: 1) Μετὰ ταῦτα εἶδον
شملت الرؤيا الأولى الإصحاحات الثلاثَ الأولى من سِفْر الرؤيا. وبدأت الرؤيا الثانية ببداية الإصحاح الرابع، بكلمة نَظَرْتُ أو رأيت التي تكررَتْ كثيرًا، فتَدُلُّ على أنه سِفْر الرُّؤَى، إذ هو مجموعة من رُؤَى متتابعة. وقد قال يوحنا الرائي أنَّه «شَهِدَ... بِكُلِّ مَا رَآهُ» (رؤ 1: 2)، وفي رسالته قال «الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا،... الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ» (1 يو 1: 1). وهُنا يُعلِّمنا رسول الحُب كيف تكون حياتنا الروحية وعلاقتنا بالله، لا أن نسمع عن الله، بل نسمعه. ولا أن نعرف عن الله، بل نعرفه، ونتلامس معه. نحيا ونوجد فيه.
«نَظَرْتُ εἶδον» ليست خيالات بل حقائق رآها الرسول رؤيا العيان. ورغم أن مار يوحنا رأى أمورًا سيحدث بعضها في المستقبل كما لو كانت حادثة أمامه. فهذا أسلوب الكتاب المقدس دائمًا. فيهوذا الرسول سجَّلَ نبوءة أخنوخ السابع من آدم الذي قال «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ» (يه 14-15). مع أن الرب لم يأتِ بعد لهذه الدينونة، بل رأى أخنوخ ما سيحدث في المستقبل كرؤيا كأنها كائنة أمامه. وتكلم بما رآه بأسلوب الماضي قائلًا «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ» (يه 1: 14).
καὶ ἰδοὺ θύρα ἠνεῳγμένη ἐν τῷ οὐρανῷ
«وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ» (رؤيا 4: 1)
رأى مار يوحنا اللاهوتي رؤياه الروحانية السماوية من خلال باب مفتوح في السماء، فهي إذن رؤيا عقلية. فالسماء ليس لها بابٌ يُفتَح ويُغلَق. أمَّا الباب المفتوح في السماء فيعني أن الله يكشف شيئًا من أسرار ملكوته لرسوله المحبوب أكثر مما كُشِف لغيره. لذلك قال له «هَأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ» (رؤ 3: 8).
نعم رَبِّي... عندما تُغلَقُ كل الأبواب في وجهي، وأسْأم الحياة وأشعر أنه قد ضاع المهرب مني، يظل بابك مفتوحًا أمامي، وأسمع صوتك الرقيق يهمس في أذنَيَّ «هَأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا» (رؤ 3: 8).
وبابك المفتوح في السماء، هو رجائي وأملي، نوري وخلاصي وسط ظلمات الحياة. عميقٌ الشَّبَهُ بين كلماتك هذه وبين صوتك القديم «لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ» (تك 1: 3). كلاهُما أملٌ وسط الظلمة، وباب مفتوح في السماء (رؤ 4: 1). فعندما يُهاجِمُني العدو وتُحارِبُني شهواتي وتزداد آثامي وأشعر بضعفي أمام إبليس، فأسقط وأقوم، وتتكرر سقطاتي. وأكتشف أني غير قادر على الغلَبة بجهادي، يظل بابك مفتوحًا يا رَبِّي وإلهي، فأرتمي عند قدميك، أطلب نجدتك ونُصرَتك. وعندما أُواجِه مُشكلات الحياة، وأجاهد فلا أنتصر. وتصغر نفسي أمامي، يظل بابك مفتوحًا في السماء، "فأنت رجاؤنا كلنا وحياتنا كلنا وقيامتنا كلنا".
لا تفشلْ أخي الشاب، ولا تستسلمْ للشهوات. يُحاول الشيطان جاهدًا أنْ يقطع رجاءك لتستسلم للشر. أه من شبابنا الذي ينهزم أمام حرْب إبليس فيقع في الفشل واليأس. وعندما تتكرر هزيمتهم يهمس الشيطان في آذانهم أكذوبته المشهورة (ما فيش فايدة) فيستسلمون. لا تفشل وأنصت إلى صوت الرب يهمس في أُذُنك بكلماته الرقيقة التي أرسلها إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا «هَأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ» (رؤ 3: 8). فما أروعك رَبِّي وما أعظم حنانك، فبابك مفتوحٌ دائمًا.
تُعَزِّيني كلمتك: «وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ».
لا تستطيع شهواتي وآثامي أن تُغلق بابك المفتوح،
لا يستطيع غروري وكبريائي أن يغلق بابك المفتوح،
لا يستطيع الشيطان بحروبه وأكاذيبه ومغالطاته أن يغلق بابك المفتوح.
سيظل بابك رجاءً مفتوحًا أمامي، "يا رجاء من ليس له رجاء". لا يستطيع أحد أن يغلق باب رحمتك. فافرحي يا نفسي بالرب كل حين، اِلتَجِئِي إليه، لا تهربي منه كيونان، بل "اهرُبِي إليه عندما يهيج عليك العدو" وادخلي من بابه المفتوح دائمًا.
وبابك المفتوح في السماء يجذب أنظارنا إلى السماء كصوت يقول "ارفعوا قلوبكم"، «فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ» (كو 3: 1).
عجيب أن تتكرر هذه الرؤيا، فبعدما قال الرائي «وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ» (رؤ 4: 1) صعد مار يوحنا فعلًا، وقال «رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً» (رؤ 19: 11). أليس هو الآن داخلُها؟ فكيف يراها مفتوحة؟
لكي نفهم هذا الأمر بدقة، علينا أن نتابع تحركات القديس يوحنا.
في (رؤيا 10) سمع مار يوحنا «اذْهَبْ خُذِ السِّفْرَ الصَّغِيرَ الْمَفْتُوحَ فِي يَدِ الْمَلاَكِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ فَذَهَبْتُ إلَى الْمَلاَكِ قَائِلًا لَهُ: أَعْطِنِي السِّفْرَ الصَّغِيرَ. فَقَالَ لِي: خُذْهُ وَكُلْهُ» (رؤ 10: 8-9).
إذن مار يوحنا منذ أن صعد إلى السماء في الإصحاح الرابع، بقِي فيها حتى قِيل له في الإصحاح العاشر أن ينزل إلى الأرض ويأخذ السِّفْر.
وفي (رؤيا 11) «ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّابِعُ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ... وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا (كاهنًا) الْجَالِسُونَ... عَلَى عُرُوشِهِمْ، خَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا لله... وَانْفَتَحَ هَيْكَلُ اللهِ فِي السَّمَاءِ.»
(رؤ 11: 15-19). إذن مار يوحنا الآن في السماء.
وفي (رؤيا 13) يقول مار يوحنا «وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ البَحْرِ» (رؤ 13: 1)
إذن نزل إلى الأرض.
وفي (رؤيا 14) يقول «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإذَا حَمَلٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ (السماوي)، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا» (رؤ 14: 1).
لابد أن القديس يوحنا الحبيب قد أُعطِيَ في هذه الفترة قُدرةَ التَّحرُّك بين الأرض والسماء. إنها أعلى درجات السياحة بالجسد والروح معًا. وظلت السماء مفتوحة أمامه (رؤ 19: 11).
رَبِّي اجعلْ أبوابك مفتوحة في السماء دائمًا، إليها تصعد أرواح قديسيك، الذين يُكملون جهادهم الحسن، فتُستَقبَلُ بالفرح، ومنها تهبط أرواح ملائكتك وقديسيك، فيحيطوننا بقوتهم ونعمتهم وشفاعتهم ويعينوننا في جهادنا الروحي وانتصارنا على قوات الشر، حتى نكمل سعينا بسلام.
«وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوق يَتَكَلَّمُ مَعِي» (رؤ 4: 1)
«وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ» καὶ ἡ φωνὴ ἡ πρώτη
ليس جديدًا صوتُ ربِّ المجد الحُلْوِ الذي اعتاد مار يوحنا أن يسمعه، فهو صوت الراعي الذي قال «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي» (يو 10: 27).
«وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ» (يو 10: 4). ففي بدء الرؤيا قال مار يوحنا «كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ، وَسَمِعْتُ وَرَائِي صَوْتًا عَظِيمًا كَصَوْتِ بُوقٍ... فَالْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعِي... قَائِلًا لِي: لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ» (رؤ 1: 10-17). إذَن هو صوت الابن، ومار يوحنا الحبيب الذي كان يتَّكئ على صَدْرِ مُعَلِّمه يستمع إلى صوته العَزْب بل إلى نبضات قلبه.
«الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوق» καὶ ἡ φωνὴ ἡ πρώτη ἣν ἤκουσα ὡς σάλπιγγος
ماذا عن صوت الله بالنسبة لنا؟ وما تأثيره علينا؟ كان صوته لمار يوحنا كبوق يهزُّ القلب من أعماقه، وكلماته مؤثرة في حياته. وأنت يا أخي الحبيب وأنا؟ هل صوت الله لنا نسمعه كبوق يَدْوِي في أعماقنا؟ أم تمُرُّ كلماته على أذاننا بلا تأثير؟
سمع الشاب الغني صوت ربنا يسوع المسيح نفسه «اِذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي» (متى 19: 21؛ مر 10: 21؛ لو 18: 22)، ومضى وكأنه لم يسمع، بل مضى حزينًا، لم يكن صوت الرب له كبوق، بل كان صوت محبة المال أقوى وأعلى.
ولكن شابًّا غنيًّا آخر سمع نفس الصوت من أُغنسطُس يقرأ الإنجيل في الكنيسة، فصار في أُذُنه كصوت بوق يتكلم معه، فمضى وباع كل ماله وأعطى الفقراء والمساكين وذهب إلى البرية الجوانية وصار القديس العظيم الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان. إنه نفس الصوت والكلمات، ولكن القديس أنطونيوس قال في قلبه «سَمِعْتُهُ كَبُوق يَتَكَلَّمُ مَعِي».
«يَتَكَلَّمُ مَعِي» λαλούσης μετ’ ἐμοῦ
كثيرون يسمعون كلام الله في عظة أو في الإنجيل أو في كتاب روحي ويعتبرونه مجرد قصص وأحداث تاريخية، وكثيرون يأخذونه للتصدير الخارجي وليس للاستهلاك المَحَلِّي، فيَرَوْنَ آيةً موجهةً للأغنياء وأخرى للقادة وغيرها للأعداء وأخرى للخدام، ويُوَزِّعون وصايا الله لغيرهم. ويَخْرُجون من قراءة كلام الله دون أن يكون لهم نصيب فيها. فكلمة الله يستعملونها لمحاسبة الآخرين وإدانتهم، وليس لتأنيب أنفسهم وبنائهم. أما القديس يوحنا الحبيب فيقول «سَمِعْتُهُ كَبُوق يَتَكَلَّمُ مَعِي». أعطني رَبِّي أن أعتبر كلمتك تتكلم معي فأقرأ صوتك لِلَّاوِي «اِتْبَعْنِي» (لو 5: 27)، فأَترك كل شَيْءٍ وأتبعك. أَقرأُ صوتك لمار بطرس ولتلاميذك «اُبْعُدْ إلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ» (لو 5: 4) فأقول «سَمِعْتُهُ كَبُوق يَتَكَلَّمُ مَعِي»، وأدخل إلى أعماق الصلاة، أعماق الصوم، أعماق الخدمة، وأُلقِي شِباكي فتصطاد الكثيرين فأفرح وتفرح معي كنيستك وتمتلئ سفينتي والسفن الأخرى.
«قَائِلًا اصْعَدْ إلَى هُنَا» λέγων ἀνάβα ὧδε
حينما نكون على سطح الأرض تحجب الأرضيات رؤيتنا فلا نرى، ولكن عندما نصعد إلى أعلى نرى دون أن يَحجب رؤيتنا شيء. كان قِصَرُ القامة حائِلًا مَنَعَ زكا أن يرى الرب يسوع، كما كان تزاحم الناس حول الرب ظروفًا مانعة تجعله لا يرى، ولكن صوت الرب كان في أعماق زكا «اِصْعَدْ إلَى هُنَا» وصعد زكا فوق الجميزة فرأى وفرح، رأى الرب يسوع وسمع صوت دعوته وقدم توبة حقيقية.
كانت الجموع المحتشدة حول الرب في البيت حائلًا، وكان سقف البيت حاجزًا مانعًا لوصول المفلوج إلى الرب يسوع ولكن حامليه الأربعة سمعوا صوت الرب لهم «اصْعَدْ إلَى هُنَا»، وصعدوا فوق السقف ورفعوا الحاجز المتوسط ورأى الرب إيمانهم فقال للمفلوج «قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إلَى بَيْتِكَ» (مر 2: 11). لذلك فلتكن كلمة الرب لنا «اصْعَدْ إلَى هُنَا» صوتًا يدعونا أن نصعد فوق كل ما يحجز رؤيتنا لله.
ومعنى آخر فعبارة «اصْعَدْ إلَى هُنَا»، ليست مجرد أمر لمار يوحنا. فإذا كانت كذلك لكانت الإجابة، كيف أستطيع أن أصعد إلى السماء وأنا بعد في الجسد، لكن صوت الله قُوةٌ فعالة تُعطي قدرة على تنفيذ الوصية، فما معنى هذا الكلام؟ «اصْعَدْ إلَى هُنَا». عندما تخرج من فم الرب تحمل في ذاتها قوة إصعاد يوحنا، وهذا هو الفرق بين كلمات الله ووصاياه، ونصائح المُصلِحين. وصايا الله تحمل قوة تنفيذها، ولذلك قال الرب «اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يو 6: 63) يحمل قوة روحية تصير فينا حياة عملية متى تجاوبنا معها.
عندما قال الرب للرجل ذي اليد اليابسة «مُدَّ يَدَكَ» (مت 12: 13؛ مر 3: 5؛ لو 6: 15)، كان يمكنه أن يقول "لا أقدر. مُدَّ يدَكَ أنتَ واشفِهَا أولًا، ثُمَّ مُرْنِي كما تشاء، لكنه لم يَقُل هكذا. ولو قال، ما كان قد شُفِيَ حتى الآن. إنَّ كلمة الرب الخارجة من فمه تحمل قوة تنفيذها، فعندما أطاع الرجل وتجاوب مع كلمة الله وحاول تنفيذها سَرَتْ فيه قوة الكلمة فتحركت يده اليابسة.
هكذا صوت الرب في قصة لعازر، «لَعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجًا» (يوحنا 11: 43) فسمعَتْ روح لعازر في الجحيم كلمات الرب، ولم تكن مُجرد أمر، بل كانت تحمل قوة روحية هائلة قادرة أن تُحرِّرَ الروح من سلطان إبليس فتَصعد من الجحيم إلى الجسد المائت في القبر وتتحد به، فيقوم لعازر.
وقد نما مار يوحنا في مراحل الروحانية وقال «كُنْتُ فِي الرُّوحِ» (رؤ 1: 10). ثم أخذ قوة روحية هائلة قادرة أن تُصعِدَه إلى السماء بل إلى العرش الموضوع في السماء فقال «وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (رؤ 4: 2).
يا أحبائي ليست كلمات الله مجرد معاني، إنها أكثر. هي طاقة روحانية هائلة قادرة أن تَهدِم حصون الشر «لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين 4: 12). ذاقها داود النبي فقال «لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدًّا أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز 119: 96).
وصعد مار يوحنا صعودًا حقيقيًا بالروح والجسد. وهو على ما يرى ابنُ العسال أعظم من اختطاف القديس بولس الرسول الذي لم يكن يعرف «أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ» (2 كو 12: 3). فمار يوحنا لم يرَ فقط الكنيسة المنتصرة في الفردوس في السماء الثالثة، بل رأى الرب الإله الجالس على عرشه الملتهب الكروبيمي وحوله كل الطغمات السمائية، رأى ما سيحدث في المستقبل على الأرض وفي السماء على السواء. فهو صعود حقيقي وليس صعودًا روحيًا أو ذهنيًا، هو كصعود النَّبِيَّيْنِ الزيتونتين والمنارتين والذين سمعا صوتًا عظيمًا من السماء قائلًا لهما: «اصْعَدَا إلَى ههُنَا». وأكمل الوحي الإلهي «فَصَعِدَا إلَى السَّمَاءِ فِي السَّحَابَةِ» (رؤ 11: 12).
صعد مار يوحنا اللاهوتي ليُسَجل لنا ما سمعه وما رآه، كما يسمح له الله أن يُسَجل، وصار صعوده رمزًا لصعود كنيسة العهد الجديد.
فمار يوحنا في وحدته في جزيرة بَطْمُس، رفع قلبه وعينه إلى السماء، وأغلق أبوابه فلم يسمح للأرضيات أن تدخل إلى أبوابه المغلقة، هيا بنا نحن أيضًا، نصعد معه إلى قدس أقداس، سِفْر الرؤيا.
يُطلعنا الكتاب المقدس بعهدية القديم والجديد بانفتاح السماء أمام بعض رجال العهدين، وقد رأوا رؤى متفاوتة في زمانها ودرجاتها، ولكن ما رآه القديس يوحنا الحبيب اللاهوتي يفوق كل ما رآه غيره مجتمعون. فمنذ الإصحاح الخامس من سِفْر التكوين نقرأ عن أول سائح في تاريخ البشرية صعد إلى السماء وهو أخنوخ السابع من آدم.
(1) صعود أخنوخ السابع من آدم
سجَّلَ سِفْرُ التكوين أنَّ آدم عَاشَ تِسْعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً ومات، وشيت عاش تِسْعَ مِئَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً وَمَاتَ، حتى مَتُوشَالَحَ ابن أخنوخ الذي عَاشَ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ. أما أخنوخ هذا السابع من آدم فقال عنه الكتاب «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ» (تك 5: 24). وهكذا تحول الموت في أخنوخ السابع، وصار انتقال إلى الله، وصعود إلى السماء.
(2) حُلْم يعقوب بباب مفتوح في السماء
رأى يعقوب أب الآباء «سُلَّم مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ أَنَا الرَّبُّ إلهُ إبْرَاهِيمَ أَبِيكَ» (تك 28: 12-13)، فدشَّن أبونا يعقوب المكان الذي فيه رأى السماء المفتوحة وقال «حَقًّا إنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ، وَخَافَ وَقَالَ مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ مَا هذَا إلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ» (تك 28: 16-17) «وَبَكَّرَ... وَأَخَذَ الْحَجَرَ... وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا... وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ بَيْتَ إيلَ أي بيت الله».
(3) صُعُود إيليا في المركبة النارية
«امْكُثْ هُنَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي إلَى بَيْتِ إيلَ». بهذه العبارة تحدث إيليا النبي الناري مع تلميذه إليشع، ولم يمكث إليشع هناك، بل كان يرد على معلمه قائلًا «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ، إنِّي لاَ أَتْرُكُكَ» وأخيرًا وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إلَى السَّمَاءِ. وَكَانَ إليشع يَرَى وَهُوَ يَصْرُخُ «يَا أَبِي، يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ إسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا» (2 مل 2: 11-12).
(4) رؤيا إشَعْيَا النبي
في الإصحاح السادس من نبؤة إشَعْيَا النبي الإنجيلي يقول «رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا.» (إش 6: 1-4).
(5) رؤيا حزقيال النبي
عند نهر خابور يقول النبي حزقيال: «السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله: فَنَظَرْتُ وَإذَا بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ جَاءَتْ مِنَ الشِّمَالِ. سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ، وَمِنْ وَسْطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِنْ وَسْطِ النَّارِ. وَمِنْ وَسْطِهَا شِبْهُ أَرْبَعَةِ حَيَوَانَاتٍ. وَهذَا مَنْظَرُهَا:... شِبْهُ إنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ...، وَوَجْهُ ثَوْرٍ... وَوَجْهُ نَسْرٍ... أَمَّا أَجْنِحَتُهَا فَمَبْسُوطَةٌ مِنْ فَوْقُ. لِكُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ مُتَّصِلاَنِ أَحَدُهُمَا بِأَخِيهِ، وَاثْنَانِ يُغَطِّيَانِ أَجْسَامَهَا.... أَمَّا شِبْهُ الْحَيَوَانَاتِ فَمَنْظَرُهَا كَجَمْرِ نَارٍ مُتَّقِدَةٍ، كَمَنْظَرِ مَصَابِيحَ.. وَمِنَ النَّارِ كَانَ يَخْرُجُ بَرْقٌ..
هذَا مَنْظَرُ شِبْهِ مَجْدِ الرَّبِّ. وَلَمَّا رَأَيْتُهُ خَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَ مُتَكَلِّمٍ. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ آدَمَ، قُمْ عَلَى قَدَمَيْكَ فَأَتَكَلَّمَ مَعَكَ. فَدَخَلَ فِيَّ رُوحٌ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعِي، وَأَقَامَنِي عَلَى قَدَمَيَّ فَسَمِعْتُ الْمُتَكَلِّمَ مَعِي... السَّمَاوَاتِ انْفَتَحَتْ، فَرَأَيْتُ رُؤَى اللهِ.» (حزقيال 1: 1- 2: 2).
(6) رؤيا دانيال النبي
يقول دانيال النبي «كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ. نَهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ. أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ. فَجَلَسَ الدِّينُ، وَفُتِحَتِ الأَسْفَارُ... كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 9-14).
(7) رؤيا القديس اسطفانوس أول الشمامسة وأول الشهداء
قُبَيل الرجم والاستشهاد قيل: «أَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً وَابْنَ الإنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ» (أع 7: 55- 56)
(8) القديس مار بولس الرسول صعد إلى السماء الثالثة
وَسجَّلَ باتضاع شديد مُخفِيًا نفسه فقال: «فَإنِّي آتِي إلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإعْلاَنَاتِهِ: أَعْرِفُ إنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هذَا إلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هذَا الإنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا.» (1 كورنثوس 12: 1-4).
(9) رؤيا القديس بطرس الرسول الذي رأى السماء مفتوحة (أع 10: 11).
رأينا في العهد القديم بابًا السماء مفتوحًا أمام أنبياء كثيرين رأوا الله الجالس على عرشه لكن لم يُسَجِّل الكتاب أنهم قد صعدوا أو دخلوا من هذا الباب، أما القديس يوحنا الحبيب فقد سمع صوتًا كصوت بوق يناديه «اصْعَدْ إلَى هُنَا فَأُرِيَكَ» (رؤ 4: 1)، وصعد ودخل ورأى الله على عرشه الكروبيمي.
«فَأُرِيَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هذَا» (رؤيا 4: 1)
«فَأُرِيَكَ καὶ δείξω»: تواضع كبير من الله أن يُطْلِعَ قديسيه على بعض تدابيره وأفعاله، وشرف عظيم لمار يوحنا الحبيب أن يكون هو الشخص المختار من الله ليتحدَّث معه عن خطة عَمَلِه وما أعده للبشرية. بالحقيقة ما أعظم حبِّكَ يا رَبِّي حينما تُعامِل عبيدك بصداقة. عجيبٌ أن تكشف لهم تدبيراتك كما يكشف صديقٌ لصديقه(14) وتعرض عليهم الأمور كما لو كانوا مشيريك(15)، وفي حبك واتضاعك تقول «فَقَالَ الرَّبُّ: "هَلْ أُخْفِي عَنْ إبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ» (تك 18: 17). وناقش إبراهيم الرب فيما سيفعله وقَبِلَ الرب مشورات إبراهيم له. والذي يقرأ القصة في سِفْر التكوين يتعجب من صداقة الله لأبينا إبراهيم. ففي هذه القصة، الله يقول لإبراهيم أب الآباء «ساريك مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ». وعلى الرغم من أن العلم بالمستقبل إحدى صفات الله، لكن الرب يُشرِك فيه قديسيه ولو جزئيًّا، ويأخذ برأيهم.
«مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ»
كانت الرؤيا الأولى "رؤيا الرب وسط كنيسته" (رؤيا 1- 3)،
الرؤيا الثانية "رؤيا الباب المفتوح في السماء" (رؤيا 4- 5).
ويجب أن نتذكر أن سِفْر الرؤيا ليس مرتبًا ترتيبًا زمنيًا، بل في أجزاء كثيرة يُرتَّب موضوعيًّا. وأحيانًا تأتي إصحاحات تُوازِي إصحاحات سابقة.
وهناك بعض الإصحاحات تُكَوِّنُ مجموعة مُنفصِلة.
«مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ» هي كلمات الروح القدس فسِفْر الرؤيا يحمل نبوات لا بد أن تحدث. «فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هذَا." (رؤ 1: 19) أو «مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ هذَا» (رؤيا 4: 1) في المستقبل، ولكننا ينبغي أن نفهم قاعدة هامة لتفسير النبوءات، أن النبوءة الواحدة يمكن أن تتحقق بصورة جزئية في زمن، ثم تتحقق كاملة في زمن لاحق، كما يوجد نبوات تتحقق أكثر من مرة في أكثر من حالة.
«وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (رؤ 4: 2)
Εὐθέως ἐγενόμην ἐν πνεύματι
قال مار يوحنا: «كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ» (رؤ 1: 10)، ثمَّ
«صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (رؤ 4: 2)، ثمَّ
«فَمَضَى بِي بِالرُّوحِ إلَى بَرِّيَّةٍ» (رؤ 17: 3)، ثمَّ
«وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إلَى جَبَلٍ عَظِيمٍ عَالٍ» (رؤ 21: 10).
فهل هذه العبارات مترادفة؟ بالطبع لا. إنها تُحَدِّثُنا عن تَدَرُّجِ القديس يوحنا الحبيب على سُلَّم الروحانيات أو صعوده في السُّموِّ الروحاني، فمار يوحنا يتقدم في الرؤى السماوية يرى ما لم تره عينٌ، يقتاده الروح درجة درجة. ففي الإصحاحات الأولى يسمع صوت الرب الإله من ورائه (رؤ 1: 10)، فيلتفت لينظُرَ فيرى الرب «شِبْهَ إنْسَانٍ» (رؤ 1: 12-13). وليرى هذا المنظر يحتاج أن يصعد الدرجة الأولى على سلم الروحانية فيقول «كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ» (رؤ 1: 10)، ثم في الإصحاح الرابع يسمع الصوت الأول مرة أخرى ليس من ورائه بل من خلال باب مفتوح (رؤ 4: 1). فيرى الرب ليس مستترًا ولا محتجبًا في الناسوت كشبه ابن إنسان بل جالس على العرش كنور من نور وحوله بروق ورعود وأصوات (رؤ 4: 4-5)، إنها درجة روحانية أعلى. وليرى هذه الدرجة الأكثر سُمُوًّا يقول «لِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (رؤ 4: 2). هكذا نحن في حياتنا الروحية نتدرج على سلم الروحيات في معاينة الله وبقدر ما يتنقى القلب تنكشف أمامه رُؤَى الله حتى يرى ما لم تره عين «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ» (مت 5: 8).
والعبارتان التاليتان خطوة أسمى، ودرجة روحانية أعلى من سابقتيها «فَمَضَى بِي بِالرُّوحِ إلَى بَرِّيَّةٍ» (رؤ 17: 3)
«وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إلَى جَبَلٍ عَظِيمٍ عَالٍ» (رؤ 21: 10)
كان مار يوحنا في حالة روحانية يَرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يُسمع، ثم صار إلى روحانية أعلى فرأى وسمع مناظر أكثر سُمُوًّا، ثم أصبح في حالة روحانية تسمح له أن يُحمَلَ بالروح من مكان إلى آخر فيمضي إلى برية ويذهب إلى جبل عظيم عالٍ. ورأى وسمع ما هو أكثر سُمُوًّا وأعلى روحانية. أنها درجات سامية يقوده الروح القدس إلى حيث يشاء.
ألعل هذا ما حدث مع حزقيال النبي في رؤياه عندما قال «فَحَمَلَنِي الرُّوحُ وَأَخَذَنِي» (حزقيال 3: 2، 12، 14)؟ نعم كانت كلمات الله لمار يوحنا «اصْعَدْ إلَى هُنَا» (رؤيا 4: 1) طاقة وقوة روحانية تسمو به وتُحركه حتى سَمَا إلى أعلى درجات الروح (رؤيا 1: 10؛ 4: 2؛ 17: 3؛ 21: 10).
«وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ» (رؤيا 4: 2)
καὶ ἰδοὺ θρόνος ἔκειτο ἐν τῷ οὐρανῷ
ظهر هذا العرش في رؤيا موسى النبي (خر 24: 17)، كما رآه إشَعْيَا النبي في رؤياه (إش 2: 1)، وهكذا حزقيال النبي (حزقيال 1).
هذا العرش هو طغمةٌ سماوية كِرُوبيمية، والعرش أيضًا هو الكنيسة المقدسة على نحو ما يقول القديس امبروسيوس، فالرب يجلس ملكًا في كنيسته. والعرش أيضًا هو نفوسنا البشرية، فيملك المسيح إلهُنا على أرواحنا وأنفسنا وأجسادنا.
«وَعَلَى الْعَرْشِ جَالِسٌ» (رؤيا 4: 2) καὶ ἐπὶ τὸν θρόνον καθήμενος
يقول القديس امبروسيوس "إن الجالس هو السيد المسيح، الخروف القائم كأنه مذبوح، والذي له سبعة أرواح الله، وقد أخذ السِّفْر من يمين الجالس على العرش".
ولكننا في إجلال للقديس امبروسيوس لا نوافق على رأيه؛ لأننا سنرى في (رؤيا 5: 7-8) أن الخروف القائم كأنه مذبوح (وهذا هو السيد المسيح) قد أخذ السِّفْر من يمين الجالس على العرش،
إذن الجالس على العرش هو الله الآب كما يقول البعض. ولكننا نرى أن الجالس على العرش هو الله الثالوث القدوس، وهذا ما دعا الحيوانات غير المتجسدين أن يسبحوه بتسبيحة الثلاثة تقديسات "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ" كأنهم يسبحون الجالس على العرش قائلين "قدوس الله الآب، قدوس ابنه الوحيد، قدوس الروح القدس". وربما يعترض أحد بأنه كيف أتى الخروف القائم كأنه مذبوح (أي الابن)، وأخذ السِّفْر من يمين الثالوث القدوس الجالس على العرش (رؤيا 5: 7-8)! هل يأخذه من ذاته؟ والحل ببساطة أن الابن كخروف مذبوح في التجسد والصلب، في هيئته الإنسانية كبديل عن الإنسان يأخذ السِّفْر أي يحقق النبوات المكتوبة عنه، وهذا ما حدث فعلًا، فالابن المتجسد صالحنا في شخصه وصليبه مع الثالوث القدوس وليس مع الآب فقط.
والعرش يرمز إلى الكنيسة كما قال القديس امبروسيوس، ويرمز إلى حياة أولاد الله التي يملك عليها الله فتصير عرشه، ولكن كل هذا على الأرض، أما ما رآه القديس يوحنا فوَصَفَهُ «عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ».
فهل ينطبق هذا التفسير؟ باعتبار أن الكنيسة سماء على الأرض، وأولاد الله ليسوا من هذا العالم، إنهم سفراء السماء على الأرض، فَهُمْ إذن عرش سماوي يحمل الله، ولكن هذا التأمل لا يلغي التفسير الأصيل، فالعرش الإلهي هو طغمة ملائكية سمائية من طبقة الكِروبيم نذكرهم في القداس الباسيلي حينما نصلي "الذي يقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة والرئاسات والسلطات والكراسي (العروش) والأرباب والقوات. ونذكرهم في القداس الغريغوري عندما نصلي "أنت الذي ترسل لك إلى فوق العروش الكرامة"، وفي اللحن الشعانيني نقول "الجالس فوق الشِروبيم اليوم ظهر في أورشليم".
ويمكن أن نتأمل فيكون العرش هو القديسة العذراء مريم حامله الإله التي حملته داخلها، ولذلك هناك صورة طقسية للعذراء في طقسنا القبطي الشرقي "المسيح جالس على العذراء وكأنها عرشٌ له"، على أن تكون البروق والرعود والأصوات الخارجة من العرش هي تلك المعجزات المُدَوية التي صنعتها أمنا العذراء من جيل إلى جيل.
«وَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهَ حَجَرِ الْيَشْبِ وَالْعَقِيقِ» (رؤ 4: 3).
في الإصحاح الأول رأى القديس يوحنا الله المتأنس شبه ابن إنسان في وسط الكنيسة (وسط المناير السبع). وكان وصفه يتشابه مع رؤيا حزقيال ورؤيا دنيال. لكن هنا في الإصحاح الرابع لا يراه متجسدًا في شبه البشر، بل رآه جالسًا على عرشه. ما أروعك أيها الرسول العظيم يوحنا الحبيب؟ كيف أبصرتَ الله جالسًا على عرشه؟
كيف رأيت الذي قيل عنه «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا 1: 18)؟
كيف رأيت من قال لموسى العظيم في الأنبياء «الْإنْسَان لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خر 33: 2).
حينما نتأمل اليشب والعقيق نتذكر قداسة الله وعدالته، فاليشب الشفاف يُمَثِّل قداسة الله، والدم الأحمر (العقيق) يعني أن الله لا يغفر بغير تَرْضِيَةٍ كافية لعدله فتأخذنا رعدة ورهبة. وعندما يتراءى قوس قزح أمامنا نذكر ميثاق الله المملوء رحمة، فنرى البريق الأخضر حول العرش الإلهي ونشعر بالسلام والطمأنينة.
وهذا ما كان يحدث في قُدس الأقداس في خيمة الاجتماع والهيكل. تابوت العهد الذي يُمَثِّل عرش الله كان مُهابًا من يمَسه موتًا يموت (عد 4: 15)، أما الغطاء فكان يُمَثِّل كرسي الرحمة، وكأنه قوس قزح فوق التابوت. إننا نشكر الله الذي جعل قوس قزح حول عرشه الأقدس، فالله الجالس على عرشه في مِلْئ القداسة والعدل شبه حجرا اليشب والعقيق، من يجرؤ أن يقترب منه ونحن مملوئين إثمًا وضعفًا؟ أما قوس قزح حوله فيعلن رحمته اللانهائية وبريقه الأخضر يبعث فينا سلامه لأن «قَضَاء اللهِ الْعَادِلِ» (2 تسالونيكي 1: 5) مملوءٌ رحمة.
الْيَشْب وَالْعَقِيقِ وقوس قزح تعكس نورًا ثُلاثيًا يشير للثالوث القدوس. فاليشب الشفاف يرمز إلى الله الآب الذي لم يره أحد قط ولا يقدر أن يراه، والعقيق الأحمر يرمز إلى الله الابن الذي سفك دمه القاني على عود الصليب، وقوس قزح يرمز إلى الروح القدس العامل في كنيسته من خلال سبعة أسرار، واللون الأخضر يرمز إلى حياة ونمو الكنيسة بواسطة هذه الأسرار. ولما كانت الكنيسة تنمو وتحيا بواسطة الروح القدس فيها لذلك أُشير إلى حياتها ونموها باللون الأخضر في الزمرد. والعجيب أن الزمرد أيضًا في صَدْرَةِ رئيس الكهنة يرمز إلى سبط لاوي الذي يُمَثِّل الكهنوت. فهو إذن يقصد أن مواهب الروح القدس السبْع التي تُعطَى لنا بالأسرار بواسطة الكهنة.
إنها جلسة قضاء...
أولًا: لأن الْجَالِس فِي الْمَنْظَرِ شِبْهَ حَجَرِ الْيَشْبِ وَالْعَقِيقِ.
ثانيًا: لأن الغضب والرحمة مُتَمَثِّلان على العرش
فمن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات (رؤ 4: 5)، وهي تمثل غضب الجالس على العرش على الأشرار.
ثالثًا: قَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْشِ (رؤ 4: 3)
يُمَثِّل رحمة الجالس على العرش وعهده الأبدي، لذلك حزقيال النبي حينما رأى قَضاء الله المزمع أن يحل على أورشليم، رأى «كَمَنْظَرِ الْقَوْسِ الَّتِي فِي السَّحَابِ يَوْمَ مَطَرٍ. هَكَذَا مَنْظَرُ اللَّمَعَانِ مِنْ حَوْلِهِ.» (حزقيال 1: 28) فعرف أن الله يذكر رحمته حتى في يوم غضبه.
غضبَ اللهُ على الأرض من أجل شرهم وأغرقهم بالطوفان، وأنقذ نوحًا وأسرته بالفُلْك، ثم أقام ميثاقه مع نوح وبنيه ألا يعودَ يغضب على الأرض، فجعل قوسًا في السحاب علامة الميثاق وقال «فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ» (تك 9: 9-17).
«فِي الْمَنْظَرِ شِبْهَ»: سوف لا يُقَدِّم لنا الجالسَ في جوهرِه بل في منظره.
في العدد السابق لم يشأ يوحنا أن يُسَمي الجالس على العرش، فقال «وَعَلَى الْعَرْشِ جَالِسٌ» (رؤ 4: 2) دون أن يُعطيَهُ لَقَبًا.
وهنا لم يشأ أن يَصِفَه بشكل معين، بل قدم لنا مجموعة ألوان وأضواء منعكسة من أحجار كريمة. حسنًا قال القديس غِريغُرْيُس في القداس الإلهي «الله... الذي لا ينطق به، غير المرئي... غير المفحوص». الله نور كما يقول الرسول بولس «سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (1 تي 1: 16)، وداود النبي يقول «اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ» (مز 104: 2). وحسنًا قالت الترجمة القبطية(16): «والجالس على العرش كان نورَ يشبٍ وياقوت». وهنا نرى أن مار يوحنا لم يُقَدِّم صورة حسية، بل انبهرت عيناه بذلك النور الذي لا يُدنَى منه مُتَمتِّعًا برؤيا غير المرئي، وأخذ يُقَدِّم لنا صورة نورانية مُلَوَّنة لبريقٍ يُبهِر الأبصار مُنعكس على أكرم لؤلؤة في الوجود (اليشب) مع نور أحمر مُنعكس من العقيق أو الياقوت، وتتلاقى هذه الأنوار مع ضوءٍ أخضرٍ منعكس من الزمرد، هذا هو الوصف الرائع الذي قَدَّمَهُ مار يوحنا الحبيب ليصف انبهاره برؤيه الجالس على العرش. تُرَى أكانت اللغة البشرية القاصرة قادرة أن تحيط غير المحدود! أو أنَّ يوحنا قديسنا العظيم مهما ارتفعت قامته الروحية وسمى في الروحانيات قادرٌ أن يُعبِّر عن الذي لا يُعبَّر عنه! وسنلتقي الآن بهذه الألوان الثلاثة على العرش.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وصف الله لموسى النبي وصفًا دقيقًا ليعمل ملابس رئيس الكهنة هارون بواسطة حائكٍ حاذقٍ (خر 28: 6)، فوصف صَدْرَةِ القضاء التي يلبسها كأمر الرب عند دخوله إلى القُدْس. فقال «فَيَحْمِلُ هَارُونُ قَضَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى قَلْبِهِ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا» (خر 28: 30).
وهي صَدْرَةٍ مربعة طولها شبر، وعرضها شبر، مصنوعة من ذهب وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص مبروم مرصعة باثني عشر حجرًا كريمًا، كلُّ حجر مُطَوَّق بذهب، والصدرة مُعلَّقة على كتفي رداء هارون بواسطة 4 حلقات ذهبية، 2 من أعلى و 2 من أسفل بواسطة سلاسل مجدولة من الذهب الخالص، ولا تُنزَع الصدرة عن الرداء. والحجارة الاثنا عشر مرصعة في أربعة صفوف كل صف 3 حجارة كالآتي:
عَقِيقٌ أَحْمَرَ |
يَاقُوتٌ أَصْفَرَ |
زُمُرُّدٌ |
بَهْرَمَانٌ |
يَاقُوتٌ أَزْرَقُ |
عَقِيقٌ أَبْيَضُ |
عَيْنُ الْهِرِّ |
يَشْمٌ |
جَمَشْتٌ |
زَبَرْجَدٌ |
جَزْعٌ |
يَشْبٌ |
اليشب والعقيق: حجران كريمان هما الآخِر والأول من الاثني عشر حجرًا التي تُرَصِّع صَدْرَة هارون رئيس الكهنة، ويُمَثِّلان بنيامين وراؤبين الأصغر والأكبر، فالله يضع أمامه وفي قلبه كل إنسان من أصغر إنسان إلى أكبر إنسان، الكلُّ محفوظون في قلبه يأخذون من عطفه وحبه ورعايته، وهكذا يفعل كل كاهن كراعٍ متمثلًا بالراعي الأعظم.
وراؤبين معناه (هذا ابن)، وبنيامين معناه (ابن اليمين) أي هذا ابن الله، فيشير إلى أن الجالس على العرش هو ابن الله.
وصفَ أحدُ الملائكة السبعة الذين يحملون الجامات، للقديس يوحنا الحبيب «الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوفِ»، و«الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ» فقال «لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ.» (رؤ 21: 11)
ثم وصف سُورَها العالي بأن به «اثْنَي عَشَرَ بَابًا، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكًا، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِي إسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ، كما أن لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَيْ عَشَرَ... وَبِنَاءُ سُورِهَا مِنْ يَشْبٍ، وَأَسَاسَاتُ سُورِ الْمَدِينَةِ مُزَيَّنَةٌ بِكُلِّ حَجَرٍ كَرِيمٍ. يَشْبٌ، و... عَقِيقٌ أَحْمَرُ» (رؤ 21: 12-19).
في الهيكل تُوجَد صورة المسيح ضابطُ الكل الجالس على عرشه في حضن الآب. وأمامها يوجد قِندِيلُ الشرقية، اسمه (الذي لا ينام) رمزًا لنور الله العجيب الذي لا ينطفئ، وفي طقس الكنيسة ينيره الأب الأسقف عند تدشين الكنيسة، ويُخصَّصُ شخصٌ يدعونه (القَنْدِلِفْتْ) يَزِيدُه زيتًا باستمرار فلا ينطفئ أبدًا. ومن هذا النور تُضاء كل شموع الكنيسة، سواء ما يُمَثِّل الكِروبَيْن على المذبح أو ما يُمَثِّل نور القديسين أمام أيقوناتهم. فنور الملائكة والقديسين ليس منهم بل من نور الله الذي هو نور «سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (1 تي 1: 16). وهذا يشرح كيف أن الله نورٌ والقديسين نورٌ، كما يوضح كيف تكون الكنيسة في نور اليَشْب والعقيق، والله هو نور اليشب والعقيق الجالسُ على عرشه.
وهذا معنى أننا صورة الله، وهذه التَّشابُه بين العروس وعريسها لأننا وُلِدْنا منه بالمعمودية وصِرنا أبناءَ الله، واتحدْنا به في الافخارستيا.
كان الجالس على العرش في المظهر شبه حجر اليشب والعقيق، واليشب هو أكرم حجر قيل عنه «لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ» (رؤ 21: 11). فاليشب في كرامته وبهائه وشفافيته يُمَثِّل كرامة الله وبهاء الطهارة والصفاء والنقاء الذي لا تشوبه شائبة. أما حجر العقيق فهو حجر كريم أحمر اللون يُمَثِّل الدم (أو الحب).
ولعل اليشب والعقيق في لونهما الشفاف الأبيض والأحمر يُمَثِّلان قداسة الله وحبه، يُمَثِّلان أبن الله الذي قيل عنه في سِفْر النشيد «حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ» (نش 5: 10). نعم إن الجالس على العرش في المنظر شبه حجر اليشب (الأبيض مُمَثِّلًا جسده الطاهر) والعقيق (الأحمر يُمَثِّل الدم الكريم)، فهو قد ملك على قلوب مُحبِّيه على خشبة الصليب التي عليها قدَّمَ جسده وسفك دمه وملك على خشبة، وما زال يملك على قلوب التائبين بواسطة سر الاتحاد العظيم بجسده ودمه الأقدسين.
وملكَ الربُّ أيضًا في محبته وعدله. فاليشب والعقيق لقاءٌ بين العدل والرحمة، لقاءٌ بين القداسة والحب.
«وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْشِ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ» (رؤيا 4: 3)
«وقَوْسُ قُزَحَ καὶ ἶρις» ذو الألوان السبعة، ألوان الطيف التي في مجموعها تُكَوِّنُ نورًا واحدًا هو النور الأبيض، يَرمز إلى الروح القدس العامل في الأسرار السبعة. وإذا كان الله قد وضع هذا القوس في العهد القديم علامة عهد وميثاق بينه وبين الإنسان لكي لا يعود ويُفني البشر ثانيةً (تكوين 9: 13)، فالأسرار السبعة هي وسائط الخلاص التي بها لا يهلك الإنسان، كما يرمز إلى الأسرار التي بها يصير حلول الله في عرشه أي الكنيسة.
«حَوْلَ الْعَرْشِ κυκλόθεν τοῦ θρόνου»
«فِي الْمَنْظَرِ ὁράσει شِبْهُ ὅμοιος الزُّمُرُّدِ σμαραγδίνῳ»
الزُّمرد حجر كريم بِلَّوْرِي يعكس اللون الأخضر، وهو في كرامته يرمز إلى قيمة العهد بين الله والإنسان، وفي لونه يرمز إلى السلام الذي يحتاجه الإنسان في هذا الموقف المهيب.
وإن كان قوس قزح يعكس الألوان السبعة جميعها، وهذه تُكَوِّن اللون الأبيض إلا أن الله شاء أن يَرى مار يوحنا النورَ الأخضر شبهَ الزمرد وهو اللون الظاهر «فِي الْمَنْظَرِ»، هكذا صفات الله الكاملة والمتساوية نطلق عليها كمالات الله؛ لأن الله كامل في كل صفاته. أما ظهور اللون الأخضر رمز السلام والهدوء يعطينا صورةَ أن الرحمة تفتخر على العدل في يوم الدين.
«وَحَولَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا.
وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا (كاهنًا) جَالِسِينَ» (رؤيا 4: 4)
بدأ المشهد الثاني مع بداية الإصحاح الرابع... مناظرٌ سماوية تشير إلى المستقبل رآها مار يوحنا من خلال باب مفتوح في السماء.
رآها مار يوحنا بأمر الله الذي ناداه «اصْعَدْ إلَى هُنَا».
وإذ به يصعد درجة روحانية جديدة يتأهل بها ليري المنظر الأول: عرش الله في السماء، والله جالس عليه، نور من نور لا يدني منه (رؤيا 4: 2-4).
«وَحَولَ الْعَرْشِ»:
أربعة وعشرون كاهنًا جالسون على عروشهم متسربلون بثياب الكهنوت البيضاء، وعلى رؤوسهم أكاليل ذهب، وهم كهنة العهدين.
سبعة مصابيح نار مُتَّقدة أمام العرش، ترمز إلى الروح القدس العامل في الكنيسة من خلال الأسرار السبعة.
بحر زجاج شبه البلور قدام العرش يرمز للمعمودية المقدسة.
الأربعة حيوانات المَمْلُوءَةَ عيونًا تلك الطغمة الكِروبيمية في وسط وحول العرش، لأنهم العرش ذاته.
«وَحَوْلَ الْعَرشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا» (رؤيا 4: 4)
وحسب ترجمة ابن كاتب قيصر الدقيقة «أربعة وعشرون عرشًا كائنون حول العرش»، وكلمة كائنون في الأصل اليوناني للعاقل، فالعروش كائنات عاقلة هم ملائكة في أسمى درجةٍ، ونحن نذكرهم في القداس الغريغوري "أنت الذي يرسل لك إلى فوق العروشُ الكرامةَ".
«وحَوْلَ الْعَرشِ Καὶ κυκλόθεν τοῦ θρόνου
أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا» θρόνους εἴκοσι τέσσαρες
ما هذه الإحاطة بعرش الله؟ هل يحيط المحدود غير المحدود؟! لكننا عندما نتأمل دقة التعبير نجده يُصَوِّر الأربعة والعشرين عرشًا ليست حول الله بل حول عرش الله، فالله وحده هو غير المحدود الذي لا يحيطه أحد ولكن عرشه يمكن أن يُحاط بعروش، فالعرش الإلهي هو طغمة ملائكية سامية فهو محدود، وهكذا نرى الله "الجالس فوق الشروبيم" كما نسبحه في أحد الشعانين، و"الجالس فوق العرش الملتهب الكِروبيمي" كما نصلي في القداس، فهو كائن على العرش دون أن يحتويه العرش، لذلك نقول في القداس الإلهي الغريغوري "غير المُحوى الذي لا يُحَدُّ".
أما جلوس الأربعة وعشرون كاهنًا على عروش حول العرش الكِروبيمي، عرش الله، فهذا دليل مكانتهم الرفيعة والعظيمة، فَهُمْ محبوبون مُقَرَّبون من الله لأنهم خدامه ووكلاؤه.
وإحاطتهم بعرش الله يجعلهم تحت عنايته ورعايته، ينظرون إليه وينظر إليهم، إلا أن عبارة حول العرش تعني معنى أكبر:
أننا لا نقدر أن نَصِلَ إلى العرش الإلهي والجالس عليه إلا من خلال هؤلاء الكهنة، فَهُمْ وسطاء وشُفَعاء، بهم نَصِل إلى الله، وهذا يظهر أيضًا في عَمَلِهم فيما بعد.
«وعَلَى الْعُرُوشِ καὶ ἐπὶ τοὺς θρόνους
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ كاهنًا جَالِسِينَ»
مَن هؤلاء الأربعة وعشرون شيخًا كما تقول الترجمة البيروتية أو الأربعة وعشرون كاهنًا كما يُقَدِّمُهُم الأصل اليوناني؟
εἴκοσι τέσσαρας πρεσβυτέρους καθημένους
جالسين كاهنا أربعة عشرون
1. البعض يقولون إنهم يُمَثِّلون أسباط إسرائيل الاثني عشر في العهد القديم، ورُسُل الحَمَل الاثني عشر في العهد الجديد، وليس هذا حقٌّ؛ لأن الرب قال للاثني عشر رسولًا «مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (متى 19: 28). فكيف يجلس المُدانون مع الذين يدينونهم
جنبًا إلى جنب على عروش في مركزٍ واحدٍ ودائرة واحدة؟!
بل نتعجب كيف يجلس أبناء يعقوب أب الآباء على عروش ليدينوا العالم وهم ليسوا معروفين بِمِيزةٍ أو فضيلة مُعينة، بينما لا يجلس أبونا إبراهيم أب الآباء ولا نوح البار ولا موسى النبي العظيم ولا يعقوب نفسه؟ وكيف يجلس الاثنا عشر رسولًا، ولا يجلس القديس العظيم بولس الرسول الذي كرز بالمسيح في ثُلُثَيِّ المسكونة وتعب أكثر من جميعهم وكتب أربعة عشر رسالة في العهد الجديد، مائة إصحاح، تمثل أكثر من ثُلُث العهد الجديد؟
2. والبعض يقولون إنهم قضاة إسرائيل الاثنا عشر(17)، أو الأنبياء الكبار الاثنا عشر، ونتعجب ما معنى أن يُذكَر الأنبياء الكبار دون الصغار عِلمًا بأن الفرق بينهم ليس في مكانتهم أو سُمُوّ حياتهم بل هذا التقسيم البشري حسب حجم أسفارهم التي كتبوها وهو فارق غير جوهري؟!
3. وابن العسال يقول إنهم الأنبياء الكبار والصغار، ومعروف أن الأنبياء الكبار هم (موسى ويشوع وصموئيل، ناثان وداود، إشَعْيَا وإرميا، وحزقيال ودانيال، وإيليا وإليشع وعزرا)، أما الصغار فَهُمْ (هوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا، ويونان وميخا وناحوم، وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي)، وهنا نسأل ابن العسال وأين آباؤنا العظماء أخنوخ وإبراهيم وملكي صادق وغيرهم؟!
4. ورأْيٌ رابع يقول أن الأربعة والعشرين هم رؤساء الكهنة الذين أقامهم داود خُدَّامًا لهيكل سليمان ليرمزوا إلى الأربعة وعشرين كاهنًا خدام الهيكل السمائي. والرد: لماذا هؤلاء الكهنة بالذات؟ ألا يوجد كهنة آخرون؟ ربما أفضل منهم مثل هارون الكاهن العظيم وزكريا أبو يوحنا المعمدان الذي شهد ببِرِّه الروحُ القدس، وسمعان الكاهن الذي حمل المسيح وانطلق بسلام.
5. أما الرأي الأخير الذي ينبغي أن نرد عليه باهتمام فهو:
مطروحٌ في معظم الكتب البروتستانتية أن الأربعة والعشرين شيخًا ليسوا بشرًا بل هم طغمة ملائكية. فالبروتستانت يحاولون جاهدين أن يُثبتوا أنهم ملائكة لكيلا يكونوا رمزًا للكهنة، لأنهم لو اعترفوا بأنهم كهنة سيضطرهم هذا بالاعتراف بوجود الكهنوت، وأن زِيَّ الخدمة الكهنوتية زي كتابي في العهد الجديد شبه السماء. كما يضطرون بالاعتراف بشفاعة الكهنة ومكانتهم، وكتابية استخدام المجمرة أو الشورية التي ترمز للتجسد وبخورها يرمز لصلوات القديسين. لذلك اختلف البروتستانت كثيرًا في تفسير سِفْر الرؤيا، لكنهم يتحدون في محاولاتهم الفاشلة في إثبات أن الشيوخ ليسوا كهنة بل ملائكة.
أما نحن فنقدم دليلنا:
الكلمة اليونانية المستخدمةπρεσβυτέρους وتعني كهنة. وإذا تمشينا جدلًا مع البروتستانت في ترجمتهم أنهم شيوخ فإن لم تَكُنْ كلمة شيوخ مصطلح خاص يعني كهنة، فكيف يوصف
الملائكة بالشيخوخة؟
إنهم ليسوا ملائكة؛ لأن دائرة الأرْبَعَة وَعِشْرِينَ شَيْخًا (كاهنًا) حول العرش والحيوانات الأربعة مباشرةً (رؤيا 4: 4)، أما الملائكة فَهُمْ وقوف في دائرة أُخرَى تَلِي دائرة الكهنة من الخارج (رؤيا 5: 11). والملائكة وقوف بينما الكهنة جالِسِينَ على عروش (رؤيا 4: 4)
هؤلاء يسبحون بالترتيلة الجديدة في طقسهم الذي يسبق طقس الملائكة قائلين «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لِإلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا 5: 9-10).
فمَنْ هؤلاء الأربعة والعشرون إذن؟! بشر أم ملائكة؟! إنهم يقولون:
ذُبِحْتَ واشتريتنا لله بدمك.
من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة.
جعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة.
إنها صفات لا تنطبق على الملائكة بل على البشر، فما ذُبِح الرب من أجل الملائكة، وما اشتراهم بدمه، بل صُلِب من أجلنا واشترانا نحن البشر بدمه الثمين. والملائكة ليس لهم قبيلة ولا شعب ولا أُمَّة. وما جعلهم الرب كهنة. فهل يُغَيِّر البروتستانت الكتاب المقدس لينكروا الكهنوت؟! إذن الأربعة وعشرون شيخًا الجالسون على عروش حول عرش المسيح هم كهنة وليسوا ملائكة.
إن كل هذه الآراء الخمسة السابق ذكرها ليس لها دليل كتابي، بل إننا نتعجب من معظمها، فكيف يجلس أولاد يعقوب الاثني عشر مع الرسل الاثني عشر على الأربعة وعشرين عرشًا حول الرب، وبهذا يصير أي واحد من أولاد يعقوب مثلًا أهَمّ وأعلى مكانة من آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب نفسه، ومن موسى النبي العظيم كليم الله ومن أخنوخ وإيليا الذين صعدا إلى السماء ومن يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء ومار بولس الرسول الكارز الأشهر.
لنَصِلَ إلى المفهوم الدقيق والسليم لهؤلاء الجالسين على عروشهم ينبغي أن نُكْمِلَ تجميع باقي صفاتهم في سِفْر الرؤيا:
في (رؤيا 4) قال «وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَرْشًا. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ» (رؤيا 4: 4).
يخر الأربعة والعشرون شيخًا قدام الجالس على العرش ويسجدون للحي إلى أبد الأبدين.
يطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين أنت مستحق... (رؤيا 4: 10-11)
مِن هذه النصوص نرى أن:
عددهم (24) وهو عدد كامل يشمل (12، 12)، ومعروف أن رقم (12) يُمَثِّل كمال الكهنوت في العهد الجديد، فقد اختار الرب اثني عشر رسولًا، ومهما كان محتاجًا أن يرسل سبعين آخرين إلا أن كنيسة الرسل التزمت على استبقاء العدد (12) كما هو، فأقاموا متياس الرسول بدلًا من يهوذا الخائن طبقًا للنبوة «وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ آخَرُ» (أعمال 1: 20). إذن العدد (12) رمزٌ لكهنوت العهد الجديد، وهكذا يصير (24) رمز للكهنوت في العهدين القديم والجديد.
ولا نقول أن الأربعة والعشرين كاهنًا يعنون أشخاصًا بأنفسهم، إنما هو عدد رمزي كامل يرمز لجميع الكهنة الغالبين بلا استثناء في العهدين.
«وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوشِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَيْخًا جَالِسِينَ» (رؤيا 4: 4)
والجلوس في حضرة الرب الإله دليل المكانة العالية والمنزلة العظيمة لهؤلاء الكهنة. إنه رمزٌ لكرامتهم الكهنوتية.
والكهنة جالسون على عروش، فما معنى هذه العروش؟! أيوجد في السماء عروش خشبية أو ذهبية؟ بالطبع لا. لقد قُلنا إنها طغمة ملائكية، وهم عروش للأربعة وعشرين كاهنًا. نعم ألم يقل سِفْر العبرانيين عن الملائكة أنهم أرواحٌ خادمة (عب 1: 14)، فهؤلاء الملائكة من طغمة العروش نذكرهم في القداس الإلهي كما قلنا "أنت الذي تُرسل لك إلى فوق العروش الكرامة".
«مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ» (رؤيا 4: 4)
هذه الثياب البيض وإن كانت ترمز إلى الطهارة والقداسة والنقاء إلا أن التسربُل بها إلى الرجلين هو وصف دائم للزي الكهنوتي، كما قيل عن الرب رئيس الكهنة الأعظم «مُتَسَرْبِلًا بِثَوْبٍ إلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقًا عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ» (رؤيا 1: 13).
«وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ» (رؤيا 4: 4)
هذه الأكاليل الذهبية ضمن الزِّيِّ الكهنوتي أيضًا، فالكهنة يلبسون تيجان كوكلاء للمسيح له المجد، والأكاليل من ذهب رمزٌ لنقاء كهنوتهم وسُمُوّه. وعندما يوجد هؤلاء الكهنة في الحضرة الإلهية نراهم يُسرعون ويخلعون أكاليلهم وينحنون إلى الأرض ساجدين أمام الله الحي ويضعونها عند رجليه أمام العرش، ألا يُكَرِّر الأساقفة الآن نفس الصورة؟ يلبسون التيجان رمزًا للكهنوت كَوكلاء المسيح الملك، ثم يخلعونها عند قراءة الإنجيل رمزًا لحضور المسيح، ويخلعونها عند حلول الروح القدس على المذبح، فيتحول الخبز إلى جسد والخمر إلى دم، ويصير حضور المسيح حقيقي، فيخلع الأساقفة تيجانهم ويرتدون الشملة (غطاء للرأس)، وبذلك ينضمون للعروس (أي الكنيسة)؛ لأن المسيح العريس قد حضر.
والأكاليل الذهبية ترمز أيضا للغلبة والانتصار، ذلك لأن هؤلاء الكهنة قد وصلوا إلى الكنيسة المنتصرة، فاستطاعوا أن يقولوا مع بولس الرسول والكاهن «وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي اكْلِيلُ الْبِرِّ» (2 تيموثاوس 4: 8).
وفي (رؤيا 5) يُكْمِل صفات هؤلاء الأربعة والعشرين كاهنًا.
«وَمِنَ الْعَرْشِ يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ» (رؤيا 4: 5)
هذه البروق والرعود والأصوات رمز لجلال الله وعظمته، مثلما رأينا هذا في ظهور مجدِ الله لموسى النبي على جبل سيناء في (خروج 19: 12).
ولعل الأصوات ترمز لأصوات المُعلِّمين والواعظين تقدم كلمة الله. أما البروق المنيرة فترمز لقوة كلمة الله التي تخترق القلوب وتُضيئها،
أو للمعجزات الإلهية التي تنير الطريق لغير المؤمنين.
أما الرعود المخيفة فترمز لغضب الله ووعيده بالدينونة، كما يلي:
«وَبَعْدَ مَا صَرَخَ تَكَلَّمَتِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بِأَصْوَاتِهَا» (رؤيا 10: 3)
«وَسَمِعْتُ... كَصَوْتِ رُعُودٍ شَدِيدَةٍ قَائِلَةً هَلِّلُويَا» (رؤيا 19: 6)
وكما يبرق البرق فيملأ السماء نورًا، هكذا تظهر المعجزة فتجذب غير المؤمنين إلى الإيمان.
وكما ينبثق البرق من السحاب، هكذا تخرج المعجزات من سحابة الشهود في السماء أي القديسين.
وكما يُنتج البرق مطرًا، هكذا تنتج المعجزات دموع التوبة.
وكما يخرج بروق ورعود وأصوات من العرش هكذا تصدُر المعجزات من الذين صاروا عروشًا لله يستريح فيهم، ومنهم يصدر صوت الله منيرًا للطريق للذين يحبونه، مُرعدًا ومُخيفًا ومُنذرًا لغير التائبين. فكلمة الله تخرج منهم وتأتي بثمر، ومهما ملأ الوعاظ مسامع الشعب بكلماتهم وتحذيراتهم وبريق أسلوبهم وقصصهم المؤثرة ولم يصيروا عروشًا يستريح عليها رب المجد فلن تفيد عظاتهم شيئًا. أما مَن صاروا عروشًا لله تُصدِر كلماتهم بروقًا ورعودًا وأصواتًا تأتي بثمر كثير ويدوم ثمرهم. ونلاحظ أن البروق تسبق الرعود والأصوات، فنور حياة الخادم والواعظ لابد أن يسبق إنذاراته وتعاليمه فيعطي هيبة مقدسة لذلك التعليم، حسنًا قيل «من عَمِلَ وعَلَمَ فهذا يُدعي عظيمًا في ملكوتِ السماوات» (مت 5: 19).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«وَمِنَ الْعَرْشِ يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ.» (رؤيا 4: 5)
«وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْشِ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ.» (رؤيا 4: 3)
إذا كانت البروق والرعود والأصوات تُمَثل جلال الله وقوته وعدله، فإن قوس قزح يُمَثِّل عهد الله ورحمته (تك 9: 16)
وإذا كانت البروق والرعود خارجة من العرش، فقوس قزح حول العرش،
والجالس على العرش محاطٌ بالعدل والرحمة، إنها إذن جلسة قضاء.
ما أروعك ربي، عدلُك مملوءٌ رحمة، وفي غضبك تذكرُ رحمتك وعهدك معنا. عندما رأى حزقيال النبي في رؤياه قضاءَك المُزمع أن يحل على أورشليم، رأى أيضًا «كَمَنْظَرِ الْقَوْسِ الَّتِي فِي السَّحَابِ يَوْمَ مَطَرٍ. هَكَذَا مَنْظَرُ اللَّمَعَانِ مِنْ حَوْلِهِ» (حزقيال 1: 28).
«وَأَمَامَ الْعَرْشِ سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ مُتَّقِدَةٌ،
هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ الله» (رؤيا 4: 5)
كانت المنارة ذات السُرُج السبعة المتقدة نارًا في قُبة العهد في قُدس الأقداس لهيكل سليمان ترمز إلى السبعة مصابيحَ نارٍ متقدة التي رآها مار يوحنا الحبيب في رؤياه، فهيكل سليمان كان رَسْمَ السماء ورمزها. ومنارة العهد القديم والمصابيح السبعة في رؤيا يوحنا يشيران إلى السبعة أرواح الله، أي روح الله القدوس في عمله السُباعي، ولذلك حرص الرسول أن يقول «السَّبْعَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ (الله)» (رؤيا 1: 4)؛ لأن هذا التعريف يساعد على فهمنا أنه الروح القدس. أما في (رؤيا 4: 5) فيقول «سَبْعَةُ أَرْوَاحِ الله» فهي مُعرَّفة أيضًا بالإضافة، فهذه المصابيح السبعة المنيرة أمام عرش الله والتي تمثل الروح القدس تُظهِر لَمحةً من مجد الله الحالِّ في قُدس الأقداس والغمام يحجُبه عنَّا.
وهذه المصابيح السبعة المنيرة أمام العرش نرمز لها نحن في كنيسة العهد الجديد بسبعة قناديل أمام الهيكل (في كنائسنا القديمة) باعتبار أن المذبح هو عرش الله الذي يحل عليه في قدس أقداس العهد الجديد.
ووُصِفَت بأنها أمام عرش الله لتكون بين الله ويوحنا، فهي الصلة بيننا وبين الله، فالله يعطي مواهبه للبشر من خلال الأسرار السبعة.
«وَقُدَّامَ الْعَرْشِ بَحْرُ زُجَاجٍ شِبْهُ الْبَلُّورِ» (رؤيا 4: 6)
هذا البحر يرمز إلى ماء المعمودية. وكَوْنها بحر زجاج شبه البلور يرمز إلى أن ماء المعمودية طاهرٌ يُطهِّر المُعمَّد من خطاياه. وهذا البحر رآه حزقيال النبي (حزقيال 47). وكانت تُشير إليه المرحضة النحاسية في العهد القديم.
«وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ
مَمْلُوءَةً عُيُونًا مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ.» (رؤيا 4: 6)
«أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ τέσσαρα ζῷα»
أو كائنات حيَّة هي الكِروبيم (جمع كِروب).
إذا كانت الحيوانات في وسط العرش، أين يجلس رب المجد إذن؟!
وهل الأربعة يكونون في وسط العرش، وحول العرش في وقت واحد؟!
إنها العرش نفسه، فليس العرش من ذهب بل هو طغمة سمائية كِروبيمية على نحو ما يقول البابا ساويرس في صلاة الصلح في القداس الغريغوري "الجالس فوق العرش الملتهب الكروبيمي والمخدوم من القوات النارية".
إنه عدد رمزي فليست هذه الطغمة أربعة فقط إنما الأربعة عدد من أعداد الكمال، كمال المكان (شمال جنوب شرق غرب). فلأنها عرش الله غير المحدود بالمكان، قِيلَ عنه أربعة حيوانات أي طغمة كروبيمية كاملة. ونهتف نحن في أحد الشعانين "الجالس فوق الشروبيم(18)، اليوم ظهر في أورشليم، راكبًا على جحش بمجد عظيم، وحوله طقوس ني أنجيلوس". إنها طغمة العروش التي نقول عنها في القداس الغريغوري "أنت الذي تُرسِل لكَ العروش الكرامة". فوجود هذه الطغمة الكِروبيمية السامية النارية حول العرش يعطينا صورة عن استعدادها لخدمة الرب بكل الطرق وبكل السرعة، ولذلك نكمِل في صلاة الصُّلْح قائلين "والمخدوم من القوات النارية".
«مَمْلُوءَةً عُيُونًا مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ»
دليل أن هذه الطغمة الكِروبيمية السامية هي مِلْءِ المعرفة والعلم. نقول عنها في القداس الباسيلي "أنت هو الذي يقف حولك الشروبيم الممتلئون عيونًا والسِّرافيم ذو الستة أجنحة، يسبحون على الدوام بغير سكوت قائلين: قدوس قدوس قدوس".
هؤلاء الحيوانات الأربعة نذكرهم في البركة الختامية حينما يقول الكاهن وهو يصرف الشعب "الله يترأف علينا ويباركنا، يُظهر وجهه علينا ويرحمنا... بالسؤلات والطلبات التي ترفعها عنا كل حين سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة الطاهرة مريم، والثلاث العظماء المنيرون الأطهار ميخائيل وغبريال ورافائيل، والأربعة الحيوانات غير المتجسدين والأربعة والعشرين قسيسًا، وكل الطغمات السمائية".
أما الحيوانات الأربعة فهي: (رؤيا 4: 7-8)
«الْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّانِي شِبْهُ عِجْل، وَالْحَيَوَانُ الثَّالِثُ لَهُ وَجْهٌ مِثْلُ وَجْهِ إنْسَانٍ، وَالْحَيَوَانُ الرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ طَائِرٍ».
وسوف نستعرض 8 شروحات مختلفة للأربعة حيوانات.
1. إنها أربع صُوَر (الأسد، العجل، الإنسان، النسر) يُعلِن الله بها (قُوة، نَفْع، حِكمة، سرعة) أحكامِه
فالأسد كملك الوحوش يرمز إلى هيبة الله وجلاله، وفي قوته وشجاعته يُقَدِّم المسيح في قوته كما قَدَّمَهُ القديس مرقس الذي كتب للإمبراطورية الرومانية القوة العظمى في ذلك الوقت أقدم إنجيل أو الإنجيل الأول.
العِجْل ملك الحيوانات يُمَثِّل القوة والصبر، ويرمز للمسيح الذبيح الذي فيه كَمُلت ذبائح العهد القديم وقَدَّمَهُ مار متى الذي كَتب لليهود.
الإنسان ملك الخليقة الأرضية يُمَثِّل العقل والحكمة ويرمز للمسيح في ناسوته كما قَدَّمَهُ القديس لوقا.
النسر ملك الطيور يُمَثِّل السرعة والارتفاع وحدة البصَر، ويرمز للمسيح في لاهوته الآتي من السماء، كما يُقَدِّمُهُ القديس يوحنا الشاخص إلى اللاهوتيات.
هذه الرؤيا تشبه: رؤيا حزقيال النبي في الإصحاح الأول، ورؤيا دانيال النبي في الإصحاحين السابع والثامن.
أما حزقيال النبي فقدم هذه الكائنات الحية لها رؤوس تُشبه الحيوانات، أما باقي جسمها فجسم بشرى، وسِفْر الرؤيا قدمها في الإصحاح السادس ترشد القديس يوحنا الرائي قائلة «هَلُمَّ وَانْظُرْ»، فأرَوْه الفُرُسَ الأربعة التي ترمز للعصور التاريخية التي ستمُر بالكنيسة.
2. وهذه الحيوانات الأربعة ترمز أيضًا للكراسي الرسولية الأربعة:
الأسد في قوته يرمز للكرسي الأورشليمي الذي منه خرج الآباء الرسل الأبطال مملوئين قوة وشجاعة.
العجل كذبيحة يرمز للكرسي الأنطاكي الذي قدم شهداء للإيمان.
الإنسان العاقل يرمز للكرسي الإسكندري الذي قدم أبطال الإيمان وعلماء اللاهوت أمثال أثناسيوس وكيرلس وديسقورس واكليمندس وبنتينوس وديديموس الذين ردوا على الهراطقة، وأبطال الحب مثل
أنطونيوس وباخوميوس ومكاريوس وبولا.
النسر في ارتفاعه يرمز لكرسي القسطنطينية الذي منه خرج قمم التأملات مثل ذهبي الفم وغِريغُريُس الثيئولوغوس.
3. أما القديس غِريغُريُس الثيئولوغوس والعلامة أوريجينوس وابن العسال رأوا أن هذه الحيوانات الأربعة ترمز للقوى الأربعة في الإنسان:
الأسد، العجل، الإنسان، النسر
القوة الغضبية، القوة الشهوانية، القوة العقلية، القوة الروحية.
4. أو تشير إلى السيد المسيح في تجسده وتأنسه كإنسان، وصلبه كذبيحة (كالعجل أو الثور)، وقوة قيامته كأسد، وصعوده كنسر.
المسيح الملك (كالأسد) والكاهن والذبيحة (كالعجل أو الثور)، والإله المرتفع كنسر والمتأنس كإنسان.
5. وترمز هذه الحيوانات الأربعة إلى قديسي الكنيسة المنتصرة:
الأسد يرمز لأبطال الإيمان الذين انتصروا على الهراطقة كأثناسيوس،
والعجل يرمز للشهداء الذين ذُبِحوا من أجل محبتهم في الملك المسيح،
والإنسان يرمز للرسل الكارزين مثل مار بولس ومار مرقس،
والنسر يرمز لقديسي التأمل كأُغُسطينُس وذهبي الفم والقديس يوحنا الحبيب نفسه.
6. وتشير الحيوانات الأربعة إلى الراعي المتكامل: شجاع كالأسد، مُحتَمِل كالعجل، وعاقل كالإنسان، يسمو عن الأرضيات كالنسر.
7. والحيوانات الأربعة ترمز للبشائر الأربعة والبشيرين:
الأسد المُجنح رمز للقديس مرقس وإنجيله الذي يُقَدِّم المسيح الملك الآتي بقوة بما يناسب الإمبراطورية الرومانية القوية التي كتب لها إنجيله، وبدأه بالمعمدان الصوت الصارخ في البرية وكأنه زئير الأسد.
والعجل الذي كان يُقَدَّم كذبيحة في العهد القديم يرمز لإنجيل القديس لوقا الذي بدأ بكاهن العهد القديم زكريا الكاهن.
والإنسان يرمز لإنجيل القديس متى الذي بدأ إنجيله بسلسلة أنساب السيد المسيح حسب الجسد وقصة تأنسه كإنسان.
وإن كنا لا ننكر أن هاتين البشارتين تتبادلان المعنى الرمزي، فهناك مَن يقول بأن العجل يرمز إلى بشارة القديس لوقا التي بدأت بكاهن العهد القديم والهيكل والذبيحة، والعجل يرمز للذبيحة في العهد القديم، ورأس الإنسان يرمز لإنجيل القديس متى التي بدأت بأنساب المسيح كإنسان، وهذه نظرة لبداية البشارتين وليس لجوهرهما، أما النظرة الكلية للإنجيل فالقديس متى يكتب لليهود إنجيلًا يربط العهد القديم بشخص المسيح له المجد، ويُظهِر كيف تتم فيه نبوءاته، ولذلك فالعجل هو أحد ذبائح العهد القديم يرمز إليه، أي إلى بشارة القديس متى. إنه ربطٌ بموضوع الإنجيل وجوهره.
أما بشارة القديس لوقا في جوهرها فتُقَدِّم السيد المسيح في ناسوته فقد كُتِب لليونانيين الذين يُمَجِّدون عقل الإنسان في زمن قريب من التجسد والناس متأثرون بلاهوت المسيح له المجد وأعماله الفائقة على القدرة الإنسانية مما جعلهم يظنون أنه مجرد ظهور فقط وليس تجسد حقيقي. فكتب القديس لوقا يُظهِر الجوانب الإنسانية في المسيح ليثبت ناسوته، لذلك رُمِزَ لإنجيل القديس لوقا بالكائن الذي له وجه إنسان.
أما النسر في تحليقه إلى أعلى ارتفاعات، وعيناه الثاقبتان تنظران من بُعْد يرمز للقديس يوحنا الحبيب واللاهوتي وإنجيله، ذلك لأنه ارتفع بعقله وروحه إلى أسمى الروحيات واللاهوتيات وكتب بشارته اللاهوتية ورسائله الحِبِّيَّة ورؤياه فصعد إلى السماء ووصفها لنا.
وإن كانت الحيوانات الأربعة قد ظهرت في نبوءة حزقيال كما ظهرت في سِفْر الرؤيا. غير أن الترتيب الذي سجله حزقيال النبي ترتيب تاريخي حسب زمان كتابة البشارة قبل كتابتها بأجيال كثيرة، فذَكَر الإنسان أولًا (رمزًا لمقدمة إنجيل متى)، ثم الأسد (رمزًا لمقدمة إنجيل مرقس)، ثم العجل (رمزًا لمقدمة إنجيل لوقا)، ثم النسر (رمزًا لمقدمة إنجيل يوحنا) آخر البشائر.
أما القديس يوحنا الرائي فرتب الحيوانات حسب جوهر الأمور لا حسب زمان كتابتها.
إنهم مجرد رمز وشرح...
لسنا نقول على الإطلاق أن هذه الكائنات الحية الأربعة هم البشيرون الأربعة، ولكنهم في حقيقتهم طغمة ملائكية كروبيمية من طبقة العروش ترمز للبشائر والبشيرين.
فليس هناك مانع أن يشهد هؤلاء الكِروبيم لصفات المسيح له المجد كإله (النسر) متأنس (وجه إنسان) قدم نفسه ذبيحة (الثور) وقام غالبًا (الأسد) بأشكالهم وكيانهم.
ولا يمكن أن يكون الآباء الرسل ضمن الأربعة الحيوانات، وهم في نفس الوقت ضمن الأربعة وعشرين كاهنًا الجالسين على العروش، هذا فضلًا عن أن الحيوان الرابع وهو النسر، فإن كان هو يوحنا الحبيب فكيف تكلم هذا النسر مع مار يوحنا منبهًا له «هَلُمَّ وَانْظُرْ» (رؤ 6: 7)
8. نعود مرة أخرى فنقول أن الحيوانات الأربعة ترمز إلى تاريخ الكنيسة وعصورها المتعاقبة الأولى:
فالأسد يرمز إلى عصر الرسل، فيه قوة خدمتهم وثبات إيمانهم.
والعجل يرمز إلى عصر الاستشهاد وصبر الشهداء إذ قدموا أنفسهم ذبيحة حب للمسيح.
والإنسان يرمز إلى عصر المجامع المسكونية وحكمة أبطال الإيمان.
والنسر يرمز إلى عصر الرهبنة والسواح والعمق التأملي الروحي لهؤلاء الملائكة الأرضيين أو البشر السمائيين.
وهؤلاء جميعًا
يُغَطون أرجلهم (خطايا التصاقهم بالأرضيات) بجناحي التوبة والرحمة.
ويغطون وجوههم (أعمالهم وفضائلهم) بجناحي الاتضاع والصبر.
ويطيرون إلى السماء والسماويات بجناحي الإيمان والأعمال.
وهم مملوؤون عيونًا من قدام ومن وراء، يفحصون المستقبل قبل أن يتحركون إليه، ويفحصون ما أمامهم قبل أن يعملوه أو يقبلوه، كما يفحصون ما وراءهم من أعمال فيندمون على أخطائهم بتوبة.
![]() |
«وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ حَوْلَهَا» (رؤيا 4: 8)
الستة أجنحة رمز للسرعة المدهشة التي يُنَفِّذ بها هؤلاء الأربعة الحيوانات مشيئة الله وإرادته. كما ترمز للسُّمُوّ والرفعة، فالطيران إلى فوق يحتاج فقط إلى جناحين (زوج أجنحة)، فالأجنحة لا تُعَدُّ بالمفرد، فلا يصلح الجناح الواحد للطيران. أما وأن يُقال ستة أجنحة، فهي ثلاثة أزواج من الأجنحة، وعدد ثلاثة عدد الكمال المطلق، والمقصود هو كمال السمو والارتفاع، فَهُمُ العرش الإلهي الذي يستريح عليه الله، أو طغمة الكراسي أو العروش، لذلك نقول "الجالس فوق الشروبيم".
«وَمِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةً عُيُونًا» فهي مِلْءُ المعرفة الروحانية، فالروحانية والمعرفة متلازمان، فلا حياة روحية سليمة إلا وتُبنَى على معرفة سليمة للإيمان الحقيقي، وبدونها تُمسي الروحانية عواطف هوجاء. والمعرفة السليمة للإيمان المستقيم لا قيمة منها بدون أن تُثمِر حياةً روحية وعِشْرة حقيقية لله وإحساس بالوجود في الحضرة الإلهية ومَعِيَّة الله.
فالروحانية والمعرفة كمجدافين لقارب، إذا نشط أحدهما وتوقف الآخر دَارَ القاربُ حول نفسه دون أن يتقدم خطوة واحدة، ولكي يتقدم إلى الأمام لا بد أن يعمل المجدافين معًا في نفس الوقت. بل إذا اهتممنا بالروحيات أكثر من المعرفة والفهم السليم أو العكس، سارَتْ سفينة حياتنا منحرفة جهة اليمين أو اليسار، ولا تتقدم مستقيمة إلى الأمام إلا باهتمام متساوٍ للروحانية والعقل، للإيمان والأعمال، للجهاد والنعمة.
«سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ... مَمْلُوءَةً عُيُونًا»
الأجنحة الستة التي ترمز إلى الارتفاع الروحي تحتاج إلى كثرة عيون أو إلى فهم عميق، وإلا صارت سرعة طيرانها إلى أعلى سببًا في اصطدامها وسقوطها أو سببًا في كبريائها.
وكثرة العيون تحتاج إلى ستة أجنحة، وإلا صارت المعرفة الكثيرة سببًا في الغم «لأَنَّ... الَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا» (الجامعة 1: 18)، وصارت العقلانية سببًا في فقدان بساطة الروح، فالنمو السليم المتكامل نمو في المعرفة يُنتِج مجالًا للتأمل ونموًا في الحياة الروحية.
سقوط الشيطان
فلنلاحظ أن الشيطان كان من طغمة الكِروبيم المملوئين عيونًا المملوئين معرفة وسقط في الكبرياء. عيونه العديدة لم تستطع أن تحملها أجنحته الكثيرة وتُوقِفُها عن الكبرياء، حتى رثاه إشَعْيَا النبي في سقوطه «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ... أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لَكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إلَى الْهَاوِيَةِ إلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ.» (إش 14: 12-15).
«مَمْلُوءَةً عُيُونًا»
أربعة حيوانات مملوءة عيونًا من قدام ومن وراء...
لكل واحد منها ستة أجنحة وحولها من داخل مملوءة عيونًا (رؤيا 4: 6، 8)
هذه العيون الكثيرة تغطي الكِروبيم من كل جهة من قدام ومن وراء تغطي الجسم كله (رؤيا 4: 6)، وحتى الجزء المختفي للأجنحة ذكره الوحي فقال «سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ... مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةً عُيُونًا» (رؤيا 4: 8)، وكلها ترمز إلى الرؤيا الكاملة كما وصفهم حزقيال النبي «وَكُلُّ جِسْمِهَا وَظُهُورِهَا وَأَيْدِيهَا وَأَجْنِحَتِهَا.. مَلآنَةٌ عُيُونًا حَوَالَيْهَا» (حزقيال 10: 12)
تسبحة الحيوانات الأربعة
«وَلاَ تَزَالُ نَهَارًا وَلَيْلًا قَائِلَةً: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ» (رؤيا 4: 8)
هؤلاء المُسبحون الأربعة لا يعرفون السكوت نهارًا أو ليلًا، يذكرهم الكاهن في القداس الباسيلي فيقول "أنت هو الذي يقف حولك الشروبيم الممتلئون عيونًا والسرافيم ذو الستة الأجنحة، يسبحون دائمًا بغير سكوت قائلين «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ»".
فهل يمكننا أن نتعلم منهم تسبيح الله بلا توقف وبلا فتور، كما تعلم داود النبي وقال «أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِمًا تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي» (مز 33: 1) «سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي النَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَامِ عَدْلِكَ» (مزمور 119: 164)، وهذه المرات السبع لم تمنعه أن يشتاق إلى الله حتى أثناء نومه فيقول «فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ» (مز 119: 62)، واستيقاظه في نصف الليل لا يمنع أشواقه العميقة حتى يقول «يَا اللهُ إلَهِي أَنْتَ. إلَيْكَ أُبَكِّرُ» (مزمور 61: 1).
هذا التسبيح الدائم هو فضيلة الكلام أفضل من فضيلة الصمت. فإذ قال القديس أرسانْيُس "كثيرًا ما تكلمت فندمت، أما عن السكوت فما ندمت قط"، لكن عندما يكون الكلام تسبيحًا لله يكون أعظم من الصمت.
«نهارًا وليلًا»
ليتك رَبِّي تخلق فيَّ قلبًا نقيًا يشتاق إلى تسبيحك، فأقضي العمر كله مُسَبحًا. اُطردْ عني شيطان الملل، فمعنى الملل أني لم أتذوق حلاوة الوجود معك. وإذا استسلم جسدي للنوم اعطِي روحي أن تظل يَقِظة تُرَنم مع عروس النشيد «أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ» (نشيد الأناشيد 5: 2).
![]() |
من أين جاء الليل؟
هذه الحيوانات المُسَبِّحة هي العرش الإلهي نفسه، قرأنا عنها في بداية الإصحاح «وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ» (رؤيا 4: 6) وهذا معناه أنهم العرش نفسه، والله نور «سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (1 تيموثاوس 6: 16)، ففي السماء لا يوجد لَيْلٌ بل نور دائم، والسِّفْر يحدثنا بلغتنا الأرضية ومصطلحاتنا التي نستخدمها أو نفهمها، فنحن عندما نقصد الاستمرارية نقول «نهارًا وليلًا» وقدِ استُخدِم هذا التعبير كثيرًا في سِفْر الرؤيا (رؤيا 7: 15؛ 12: 10)، (رؤيا 14: 11؛ 20: 10). ومار يوحنا شرح لنا عن السماء الجديدة في نهاية السِّفْر بلغة السماء قال عن أبواب المدينة أنها «لن تغلق نهارًا لأن ليلًا لا يكون هناك» (رؤيا 21: 25)، فهذه الحيوانات الأربعة «لا تزال نهارًا وليلًا قائلة».
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ،
الرَّبُّ الإلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،
الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 4: 8)
إنها تسبحة ثلاثية تشمل ثلاث مجموعات ثلاثية:
الثلاثية الأولى: هي تسبحة الثلاثة تقديسات «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ». تكررت هذه الثلاثية كثيرًا في الكتاب المقدس في تسبحة السرافيم في (إشعيا 6)، و(مزمور 99: 3، 5، 9) وغيرها. إنها إشارة إلى أن الحيوانات الأربعة يرفعون تقديسهم إلى الثالوث القدوس "قدوس الله الأب، قدوس
ابنه الوحيد، قدوس الروح القدس". كما هي إشارة إلى قداسة الله الكاملة كمالًا مطلقًا(19)، ليس كقداستنا المحدودة، فهو القدوس في طبيعته وفي أعماله وفي أحكامه، القدوس في كل شيء.
الثلاثية الثانية: وهي ثلاثية تصف الله في طبيعته
«الرَّبُّ الإلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
الرَّبُّ: أو السيد فهو سيد هذا الكون، رب الأرباب وملك الملوك.
الإلهُ: كلمة (إله) عبرية من الفعل ألَهَ أي "مَن حيَّر العقل" غير المُدرّك.
الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: أي ضابط الكل ὁ παντοκράτωρ، هكذا شهد عنه أيوب البار قائلًا «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ» (أيوب 42: 2). وقال عنه داود النبي «إنَّ إلَهَنَا فِي السَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ» (مزمور 115: 3).
الثلاثية الثالثة: وهي ثلاثية السرمدية
«الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي»
لعل الروح القدس رتَّبَها هنا ترتيبًا زمنيًا لكي ننتبه إلى التفسير (الماضي، المضارع، المستقبل). فالَّذي كان: إشارة إلى الماضي، ومهما رجعنا إلى الماضي السحيق يظل هو «الَّذِي كَانَ» بالنسبة لهذا الماضي، هو الأزلي الذي لو تخيلنا أننا رجعنا إلى الأزل هناك سنقول أيضًا «الَّذِي كَانَ»، كما قال مار بولس الرسول «قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ» (تيطس 1: 2) إنه الذي لا بداية له أو غير المبتَدِئ.
وَالْكَائِنُ: هذا هو الحاضر الدائم ففي كل وقت الله هو الكائن.
وَالَّذِي يَأْتِي: إشارة إلى المستقبل أي الأبدي الذي لا نهاية له، قال عنه داود النبي «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ مُنْذُ الأَزَلِ إلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ» (مزمور 93: 2). نعم فهو السرمدي (الأزلي الأبدي)، والكائن في كل زمان. نُصَلي له في القداس الغريغوري قائلين في صلاة الصلح "أيها الكائن الذي كان الدائم إلى الأبد".
وقد تكررت هذه الثلاثية في مواضع مختلفة في سِفْر الرؤيا.
«نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 1: 4)،
«يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 1: 8)،
«الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 4: 8)،
«الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 11: 17).
وهذه الثلاثية جاءت مرة لتصف الآب (رؤيا 1: 4؛ 11: 17)، وأخرى لتصف الابن (رؤيا 1: 8؛ 4: 8) دليلٌ على تساويهما في السرمدية.
![]() |
«وَحِينَمَا تُعْطِي الْحَيَوَانَاتُ مَجْدًا وَكَرَامَةً وَشُكْرًا لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ، الْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، يَخِرُّ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا قُدَّامَ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ، وَيَسْجُدُونَ لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا 4: 9-10)
حينما ارتفعت أصوات تقديس السمائيين العظماء الحيوانات الأربعة لله «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ...» تعلَّمَ البشر سريعًا وناب عنهم الكهنة فسَجَدَ الأربعة وعشرون كاهنًا... وطرحوا أكاليلهم أمام العرش واشتركوا في تقديس الرب مع الملائكة قائلين «أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (رؤيا 4: 9-11)
«وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ قَائِلِينَ:» (رؤيا 4: 10)
رأينا كيف كان هؤلاء الكهنة «جَالِسِينَ مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ ذَهَبٍ» (رؤيا 4: 4). والأكاليل عطيةُ الله للمجاهدين
المنتصرين «إنْ كَانَ أَحَدٌ يُجَاهِدُ لاَ يُكَلَّلُ إنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيًّا» (2 تيموثاوس 2: 5). وجاهد القديس بولس الرسول هذا الجهاد فتكلل فعلًا وقال «قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، اكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإيمَانَ وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي اكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا» (2 تيموثاؤس 4: 7-8). فهؤلاء الكهنة الأربعة والعشرون ومار بولس واحد منهم قد جاهدوا وسَيُكلَّلون في يوم الدينونة بأكاليل من ذهب مُكافأةً من الله لهم على جهادهم القانوني إلى نهاية حياتهم على الأرض.
فما معنى «يطرحون أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ؟»
بكل البساطة إنهم يقولون لله إن انتصارنا في جهادنا ضد العالم والخطية لم يكن سببه أمانتنا في الجهاد فحسب بل بالأكثر نعمتك التي أعطيتها لنا فانتصرنا.
فَمنْح الأكاليل اعتراف من الله بأهمية الجهاد الإنساني،
وطَرْحُ الأكاليل اعتراف من الإنسان بأهمية النعمة الإلهية.
فالنصرة شركة بين الله والإنسان، هكذا شاء الله ألا يعطي نعمته للكسالى.
«أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ»
حقًّا، فرؤوسنا لا تستحق أن تتزين بأكاليل المجد والانتصار أمامك وفي حضرتك، فالأكاليل مكانها عند قدميك. ومهما كان جهادنا فالفَضْلُ يرجع إليك أنت الذي أعطيتنا الأعضاء التي جاهدنا بها وأنت أعطيت هذه الأعضاء طاقة وصحة. أنت الذي خلقتنا وفديتنا، وأعطيتنا روحك يعمل فينا ومعنا، أنت العامل بروحك القدوس في الخدمة والخدام والمخدومين لتأتي بثمر كثير. حقًّا قال القديس بولس الرسول «لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في 2: 13). لك البركة، أما لنا فَخِزْيُ الوجوه. كم قصَّرْنا في خدمتك وكم أعثرنا، نحن نعرف تقصيراتنا في خدمتك، أبَعْدَ هذا تُكَلِّلنا أيها القدوس المُحِب بأكاليلك الذهبية؟!
مَن مِن البشر يقدر أمامك أن يشعر بأنه لم يُقَصر في جهاده وخدمته؟ مَن مِن البشر يقدر أن يُنكر خطاياه وزلاته وضعفه وتقصيراته أمامك؟
الأكاليل عند قدميك، ونعمتك هي التي أعطتنا التوبة، نعمتك أعطتنا البنوة بالمعمودية، وطَعَّمْتْنا فيك بالافخارستيا. والثمر هو ثمر الشجرة والأصل، لا ثمر الفرع.
العجيب أن سجود الكهنة جاء خمس مرات بعد هذه المرة (رؤيا 5: 8-14؛ 7: 11؛ 11: 15-16؛ 19: 4) وفي كل مرة لم تأتِ إشارة للأكاليل. فهل معنى هذا أن الكهنة بعدما ظهروا مكلَّلين بأكاليل من ذهب وطرحوها أمام الله وعند قدميه لم يلبسوها ثانية؟
هكذا يعمل الأسقف بإكليله في القداس منذ حضور المسيح على المذبح.
ما أروعك ربي... وجودُنا في حضرتك أعظم بكثير من مجد الأكاليل، جيد أن نبقى ههنا معك.
«وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ قَائِلِينَ»: إنني أرى أنه كلما ذكرنا قصة جهاد أحد القديسين إنما نضع أكليل مجد على رأسه، وهذا حق، فقد استحقوا بجهادهم أن يكلَّلوا. وكلما تأملنا كلمات القديس وكيف يعطي المجد لله ويُظهِر عمل النعمة معه نراه كيف سجد وطرح إكليله أمام العرش. فهذا هو في الحقيقة مُلَخَّصُ حياة القديسين.
«أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (رؤيا 4: 11)
هذه الآية تُشبه تسبحة الملائكة حول العرش فقد قال مار يوحنا: «وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ!» (رؤيا 5: 11-13)
فما قَدَّمَهُ الملائكة في (رؤيا 5: 12) في شكل سباعية للابن «الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ» اُختُصِر هنا في (رؤيا 4: 11) في شكل ثلاثية للآب «الْمَجْد وَالْكَرَامَة وَالْقُدْرَة»
العمل قبل الكلام: قدَّمَ لنا هؤلاء الكهنة تعليمًا عميقًا في التسبيح، فقد سبحوا الله بالعمل والحق قبل أن يسبحوه بألسنتهم وكلامهم. قدَّموا سجودًا للجالس على العرش وطرحوا أكاليلهم أمامه (رؤيا 4: 10)
«الْمَجْد وَالْكَرَامَة وَالْقُدْرَة»: هذه الثلاثية سبَّح بها الكهنة الأربعة والعشرون اللهَ، كما سبح بها الملائكة أيضًا في (رؤيا 19: 1)، إذ قال مار يوحنا «وَبَعْدَ هَذَا سَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ فِي السَّمَاءِ قَائِلاً: «هَلِّلُويَا! الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ لِلرَّبِّ إلَهِنَا».
«لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ» (رؤيا 4: 11).
الله هو الخالق الأوحد لأنه خَلَقْ كُلَّ الأَشْيَاءِ، ولم تُوجِد الطبيعة نفسها كما يظن الطبيعيون. فـ«فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك 1: 1)، «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 3). وشهد داود النبي «إذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا» (مزمور 8: 6)، فهو الذي «عَمِلَ الْعَالَمِينَ» (عب 1: 2). والكهنة يسبحون الله نيابة عن الخليقة كلها من أجل خِلقته لها، ومن أجل حِفظه لها. أما في (رؤيا 5: 12) فيسبحونه من أجل فدائه «مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ».
«وَهِيَ بِإرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» هو «الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ الأَرْضِ» (إش 40: 22)، «حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب 1: 3).
ولكننا نسأل مَن هو الخالق؟
الله الآب؟ نعم فهو أصْل الوجود، «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»
الابن؟ نعم «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو 1: 3)
«فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى... الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ... اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كولوسي 1: 16-17)
الروح؟ نعم «بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا» (مز 33: 6)، «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ» (مز 104: 30)، «رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي» (أي 33: 4).
فالخالق هو الثالوث القدوس لذلك فالعبادة هنا مُقدَّمة للثالوث القدوس.
_____
(14) «وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي» (لو 12: 4)، «أَنْتُمْ أَحِبَّائِي» (أصدقائي حسب الترجمة القبطية) (يو 15: 14).
(15) مع الفارق اللانهائي، فالكتاب يقول «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟» (رو 11: 34).
← تفاسير أصحاحات السفر: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرؤيا 5![]() |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص يوحنا فايز زخاري |
تفسير الرؤيا 3![]() |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/fr-youhanna-fayez/apocalypse/chapter-04.html
تقصير الرابط:
tak.la/s8npayk