محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14
المنظران الاول والثاني: السِّفْر المختوم والصوت المدوي (رؤيا 5: 1-2)
الحيوانات الأربعة والأربعة والعشرون كاهنًا المسبحون (رؤيا 5: 8-14)
الإصحاح الْخَامِسُ
1وَرَأَيْتُ عَلَى يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ
سِفْرا مَكْتوبًا مِنْ دَاخِل وَمِنْ وَرَاءٍ، مَخْتُومًا بِسَبْعَةِ خُتُومٍ.
2وَرَأَيْتُ مَلاَكًا قَوِيًّا يُنَادِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
«مَنْ هُو مُسْتَحِق أَنْ يَفْتَح السِّفْر وَيَفُك خُتُومَه؟»
3فَلَم يَسْتَطِع أَحَدٌ فِي السَّمَاءِ وَلاَ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ تَحْتَ الأَرْضِ،
أَنْ يَفْتَح السِّفْر وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ.
4فَصِرْتُ أَنَا أَبْكِي كَثِيرًا، لأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مُسْتَحِقًّا
أَنْ يَفْتَح السِّفْر وَيَقْرَأَهُ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ.
5فَقَالَ لِي وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ: «لاَ تَبْك.
هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ،
لِيَفْتَح السِّفر وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ».
6وَرَأَيْتُ فَإذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لَهُ سَبْعَةُ قُرونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ،
هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلِّ الأَرْضِ.
7فَأَتَى وَأَخَذَ السِّفْرَ مِنْ يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ.
8وَلَمَّا أَخَذَ السِّفْرَ خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ
وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْخَروفِ،
وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٌ بَخُورًا
هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ
9وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ:
«مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأخُذ السِّفْر وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ،
لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ 10وَجَعَلْتَنَا لإلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَة، فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْضِ».
11وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ
وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، 12قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ
أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ!».
13وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ،
وَمَا عَلَى الْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا،
سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: «لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ
الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ».
14وَكَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ: «آمِينَ».
وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.
بين الإصحاحين الرابع والخامس
(رؤيا 4) |
(رؤيا 5) |
(1) مقدمة (رؤ 4: 1-2) (2) العرش والجالس عليه (رؤيا 4: 2-3، 5-6) (5) سبعة أرواح الله (رؤيا 5: 4) (6) الأربعة وعشرون شيخًا (رؤيا 4: 4، 10) وتسبحتهم (رؤيا 4: 11) (7) الحيوانات الأربعة (رؤيا 4: 6 - 9) |
(3) السِّفْر المختوم (رؤ 5: 1-5) (4) الخروف المذبوح القائم (رؤيا 5: 6-8، 5، 8-10، 14، 12) (8) تسبحة الملائكة والخليقة (رؤيا 5: 11، 13) |
الإصحاح الرابع يُقَدِّم الله الخالق الجالس على عرشه السرمدي،
والإصحاح الخامس يُقَدِّم الله الحمل المذبوح الذي يدين المسكونة.
الإصحاح الرابع يُقَدِّم سبع صفات للأربعة وعشرين كاهنًا،
والإصحاح الخامس يُقَدِّم خمس صفات أخرى لهؤلاء الكهنة.
![]() |
يشمل أربعة مناظر متتالية رآها مار يوحنا الحبيب بدأت كلٌّ منها بكلمة "رأيت" أو "نظرت" (رؤيا 5: 1-2، 11)، وكأن كل منظر رؤيا مستقلة، وهي:
1. السِفْر المَختوم عَلَى يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ (رؤيا 5: 1)
2. المَلاَك المُنَادِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ «مَنْ هُو مُسْتَحِق أَنْ يَفْتَح السِّفْر وَيَفُك خُتُومَه؟» (رؤيا 5: 2-5)
3. بكاء مار يوحنا وظهور الْخَروُف الْمَذْبُوح والأَسَد الَّخارج مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا (رؤيا 5: 4-10)
4. المَلاَئِكَة والْحَيَوَانَاتُ والشَيْوخ يرنمون للخَروُف الْمَذْبُوح، واشتراك كُلِّ الخَلِيقَة في التسبيح (رؤيا 5: 11-14)
«وَرَأَيْتُ عَلَى يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ سِفْرا مَكْتوبًا» (رؤيا 5: 1)
«وَرَأَيْتُ» بدأ الإصحاح الخامس بحرف (الواو) التي تربط بين الإصحاحين الرابع والخامس. ذلك لأن (رؤيا 1) يُحَدِّثنا عن «مَا رَأَيْتُ»، و(رؤيا 2-3) يتكلم عن «مَا هُوَ كَائِنٌ»، أما (رؤيا 4-5) فيتحدث عن «مَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا»، ولذلك لم يربط بين (رؤيا 1) و(رؤيا 2-3) ولا بينهما وبين (رؤيا 4-5).
أما الإصحاح الخامس فبدأ بحرف الواو ليربطه بالإصحاح الرابع، فيُكَوِّنان رؤيا واحدة تتحدث عما هو عتيد أن يكون، وتستمر هذه الرؤيا إلى الإصحاح الحادي عشر.
و«رَأَيْتُ» كلمة تُناسب سِفْر الرؤيا؛ لذلك تكررت مع مرادفاتها كثيرًا في السِّفْر (رؤيا 1: 12؛ 5: 1-2، 6؛ 7: 1)، (رؤيا 4: 1؛ 5: 11؛ 6: 1).
«عَلَى يَمِينِ»: تعبير مادي يناسب لغتنا البشرية، وتكرر في (رؤ 5: 1، 7)، فهناك تعبيرات جغرافية في سِفْر الرؤيا مثل يمين وشمال، وفوق وتحت، وتعبيرات زمنية قبل وبعد. وقد استُخدِمَت أحيانًا لِتَصف الله أو السماء، لا لأنها تُعَبِّر فعلًا عن تحديد المكان والزمان، فالحديث عن الله وعالم الروح لا تُناسِبه الحدود المادية، ولكن هذه هي لغتنا الضعيفة العاجزة، ومار يوحنا يكتب لِبَشَرٍ يفهمون لغة البشر المادية.
فالحديث عن غير المحدود بتعبيرات مادية محدودة مُشكِلة، قابلت القديس مار بولس عندما كلمنا عن السماء الثالثة، وهي أقل بكثير مما رآه مار يوحنا فقال إنه «سَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (2 كورنثوس 12: 4)، وقال «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إنْسَانٍ» (1 كورنثوس 2: 9).
وهذا يُذَكِّرنا بكلمات القديس غِريغُريُس الناطق بالإلهيات في القداس عندما يقول "الذي لا يُعَبَّر عنه أو غير المنطوق به".
«عَلَى يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ سِفْرا مَكْتوبًا» (رؤيا 5: 1)
أَكانَ السِّفْرُ موضوعًا من الناحية اليُمنى من الجالس على العرش، أم كان على يده اليمنى أي في يده. وهنا نُجيب أن الله ليس ماديًا له يدٌ يمنى ويَدٌ يُسرى، كما أنه ليس محدودًا له بداءة ونهاية، فيوجد فراغ عن يمينه يُوضَع فيه سِفرًا أو يجلس فيه "الابن". فعندما يُقال عن الابن أنه «جَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ» (مر 16: 19؛ أفسس 1: 20؛ مزمور 110: 1). اليمين تعني القوة والعظمة. وجلوس الابن عن يمين الآب معناه أنه جلس في قوة الآب، فالابن حينما تجسد آخِذًا صورة الضعف، صورة العبد، صار في الهيئة كإنسان، ثم أتم الفداء وقام وصعد إلى السماء وجلس في يمين الآب أي في قوته. ترك صورة الضعف التي لبسها، وكشف صورة القوة صورة مجده؛ لذلك سجَّل القديس مرقس الرسول «مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ» (مت 26: 64)، أو «عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لو 22: 69). وقال مار بولس «جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ» (عب 1: 3)، وهذا شرحناه في [رؤيا 1: 16، 20] عندما قال عن رب المجد «وَمَعَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكِبَ... هِيَ مَلاَئِكَةُ السَّبْعِ الْكَنَائِسِ».
«سِفْرا مَكْتوبًا» أصلها العبري "سيفر"، وكتبها القديس يوحنا باليونانية βιβλίον ، وتُتَرْجَم في عصرنا "كتاب"، ولكن المعنى الحرفي في ذلك العصر "دَرَجٌ ملفوف"، ذلك التعبير الذي أشار إليه القديس بولس في رسالة العبرانيين «هَأَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا اللهُ» (عبرانيين 10: 7)، ويشرحه القديس لوقا حين قال أنه قرأ من سِفْر إشَعْيَا النبي، ثم «طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إلَى الْخَادِمِ» (لوقا 4: 20) مُقَدِّمًا شكل السِّفْر وطريقة استخدامه. فالسِّفْر في يمين الجالس على العرش أي في موضع القوة والتنفيذ؛ «لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ» (عب 4: 12)، ومعناه أيضًا أن الله يُقَدِّم كلمته لكل أحد.
وليس هذا هو السِّفْر الوحيد في رؤيا القديس يوحنا بل يوجد:
أولًا: سِفْر الحياة الذي يحمل أسماء القديسين (رؤيا 3: 5؛ 13: 8)،
ثانيًا: السِّفْر المختوم على يمين الجالس على العرش (رؤيا 4: 2)،
ثالثًا: السِّفْر الصغير في يد الملاك (رؤيا 10: 2)،
رابعًا: أسفار الدينونة التي تحمل أعمال البشر (رؤيا 20: 12).
«سِفْرا مَكْتوبًا مِنْ دَاخِل وَمِنْ وَرَاءٍ»
المعروف عن الدَرَج أنه يُكتَب من الداخل فقط، ولكن هذا السِّفْر مكتوب من داخل ومن وراء دليل على كثرة الكتابة. ونحن نرى سِفْر الرؤيا وقد حوى أحاديث كثيرة عن محبة الله وحنانه ولطفه وطول أناته. كما حوى عن عدله وصرامته، فعقوباته تمثلت في الختوم والأبواق والجامات. سِفْر ممتلئ يصف السماء وما فيها من القوات السمائية بِرُتَبهم ودرجاتهم المختلفة، بل وتسابيحهم مع الغالبين من البشر. حسنًا أنشد داود مرنم إسرائيل الحلو «لِكُلِّ كَمَال رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز 119: 96).
هذا السِّفْر يشبه ما رآه حزقيال النبي فقال «وَإذَا بِيَدٍ مَمْدُودَةٍ إلَيَّ، وَإذَا بِدَرْجِ سِفْرٍ فِيهَا... مَكْتُوبٌ مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ قَفَاهُ» (حزقيال 2: 10). ثم قُدِّم السِّفْر لحزقيال النبي ليأكله كما أَمر الملاك مار يوحنا الحبيب أن يأكله (رؤيا 10: 9-10). والسِّفْر مكتوب من الخارج، وهذا نراه أولًا، ويشير إلى ما بداخله ويرمز إليه، فما في الداخل أكثر عمقًا. كان الخروف في العهد القديم في الخارج رمزًا يشير للمسيح الحمل في العهد الجديد الذي قدم نفسه ذبيحة على خشبة الصليب.
«مَخْتُومًا بِسَبْعَةِ خُتُومٍ» (رؤيا 5: 1)
يظهر من الإصحاحين السادس والثامن أن الختوم ليست ضابطةً للسِفْر ككُلٍّ في صف واحد (شكل 1)، فالرسم المتداول في كثير من كتب التفسير رسم خاطئ، بل جاءت الختوم على التوالي كل منها يضبط جزءًا (شكل 2).
وفيه يظهر الختم الأول فقط يضبط على جزءٍ من السِّفْر، ومتى فتح الختم الأول ينكشف جزءًا من السِّفْر من داخل ومن وراء حتى نلتقي بالختم الثاني، الذي عندما يُفتَح يُكشَف جزءٌ ثالث من السِّفْر من داخل ومن وراء، حتى الختم السابع. وقد شمل الإصحاح السادس فتح الختوم الستة الأوائل، وكان المُنتظر أن يبدأ الإصحاح السابع بفتح الختم السابع، إلا أن هذا لم يحدث إلا في الإصحاح الثامن، أما الإصحاح السابع فقد شمل موضوعَين آخرين.
والسبعة ختوم رمز للخُفية الكاملة إلى أن يُعلِن الخروف ما به، ومع هذا فهناك فرق بين خُفْيَةٍ وخُفْيَةٍ، بين خُفْيَةِ رموز العهد القديم وخُفية مُعلَنات العهد الجديد. فدانيال النبي العظيم في رؤياه في العهد القديم طلب منه الله «أَخْفِ الْكَلاَمَ وَاخْتِمِ السِّفْرَ إلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ» حتى قال «وَأَنَا سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ. فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَا هِيَ آخِرُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: اذْهَبْ يَا دَانِيآلُ لأَنَّ الْكَلِمَاتِ مَخْفِيَّةٌ وَمَخْتُومَةٌ إلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ» (دانيال 12: 4، 8-9) وحينما ينفَكُّ الختم الأخير ينكشف سِفْر النشيد من الخارج وسِفْر الرؤيا من الداخل، سِفرَا اتحاد المسيح العريس بعروسه الكنيسة.
قال السيد المسيح لتلاميذه: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ» (متى 13: 11). هناك من له المعنى البسيط، وهناك من تُكشَف له الأعماق. وأنا أسألك يا أخي: هل اكتفيتَ بالمسيحية من الخارج أم دخلتَ إلى أعماقها فتُصَلي «اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ» (مزمور 119: 18). يُحكَى عن ذهبي الفم أنه كان يُغلق على نفسه مُصَلِّيًا بلجاجة أن يكشف له الله أعماق كلمته، فكان يأتيه مار بولس يشرح له رسائله. ونحن نشكر الله لأن السِّفْر النبوي الوحيد في العهد الجديد ليس كذلك، بل أمر الله مار يوحنا اللاهوتي في نهاية الرؤيا قائلًا «لاَ تَخْتِمْ عَلَى أَقْوَالِ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ» (رؤيا 22: 10)، ولذلك فنحن نجسُر بِفَرح أن نتأمل في هذا السِّفْر طالبين إرشاد الروح القدس وشفاعة القديس يوحنا الحبيب محاولين أن نفهم أعماقًا من أعماقه اللانهائية، فقد تَقدَّمَ الخروف لِيَفُك الختوم السبعة ويَفتح السِّفْر، فلم يعد مختومًا بعْدُ.
ليس المعنى أن أحدًا لا يستطيع أن يقرأه، بل لا يستطيع أن يفهمه من ذاته، كنبوات دانيال التي قال عنها هو «سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ»، فقال له الملاك «اذْهَبْ يَا دَانِيالُ لأَنَّ الْكَلِمَاتِ مَخْفِيَّةٌ وَمَخْتُومَةٌ إلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ» (دا 12: 9).
حسنًا قال إشَعْيَا النبي «وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا الْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ السِّفْرِ الْمَخْتُومِ الَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ الْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا. فَيَقُولُ: لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ. أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ هَذَا. فَيَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ» (إشعيا 29: 11-12). إنها مشكلة عدم فهم.
نعم فإدراكنا للروحانيات والسماويات إدراك جزئي، وفهمنا ونحن بالجسد فهمٌ قاصر لذلك قال السيد المسيح لمار بطرس الرسول «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ» (يوحنا 13: 7). وقال مار يوحنا الحبيب اللاهوتي في رسالته الأولى «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1 يوحنا 3: 2). ومار بولس يقول «فَإنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (1 كورنثوس 3: 12).
«وَرَأَيْتُ مَلاَكًا قَوِيًّا يُنَادِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ» (رؤيا 5: 2)
«مَلَاكًا قَوِيًّا» الملائكة في طبيعتهم الروحانية النارية أقوياء. كان داود النبي العظيم يناديهم «بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ» (مزمور 103: 20)، ويقول عنهم «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً» (مزمور 104: 4). ومع هذا فالملائكة درجاتٌ، في قُوتهم وسُمُوهم. أما ميخائيل فهو رئيس رؤساء الملائكة(20). وسوف نسمع عن ملاكٍ قَويٍّ آخر (من نوعٍ آخر)، حيث يقول مار يوحنا عنه «ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ قَوِيًّا نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ، مُتَسَرْبِلًا بِسَحَابَةٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ قَوْسُ قُزَحَ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَرِجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ... وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ كَمَا يُزَمْجِرُ الأَسَدُ» (رؤ 10: 1، 3). وفي (رؤ 14: 15) نسمع عن مَلاَك آخَر خرج مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ». ونسمع عن مَلاَك آخَرُ خرج مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضًا مِنْجَلٌ حَادٌّ. وَمَلاَك آخَر خَرَجَ مِنَ الْمَذْبَحِ. (رؤ 14: 17-18).
والملائكة درجات، فهناك الرئاسات والسلطات والقوات. وفي القداس الكيرلسي نقول عن الرب يسوع «فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هَذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا» (أف 1: 21)
«يُنَادِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ» κηρύσσοντα ἐν φωνῇ μεγάλῃ
وهنا نلتقي بملاكٍ قوي ينادي بصوت عظيم فيتردد صداه في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وتسمعه كل الخليقة في كل مكان في الكون. تسمعه الطغمات الملائكية الساكنون في السماء من فوق، والبشر على الأرض. كما تسمعه الأرواح الساقطة في الجحيم من تحت الأرض.
ماذا يا ترى يقول هذا الصوت؟
«مَنْ هُوَ مُسْتَحِق أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ؟» (رؤيا 5: 2)
هذه الكلمات دَوَّت بصوت الملاك القوي، وتردد صداها في كل مكان، وكأنها كلمات التحدي «مَنْ هُوَ مُسْتَحِق؟» ينبغي أن يكون كاملًا في قوته، في معرفته، في عدله، حتى إذا فتح الختوم، وحدثت الويلات وانسكبت جامات الغضب الإلهي، يستحق أن يجلس على كرسي القضاء في كمال عدله، فتنزل الويلات على من يستحق، بالقدر الذي يستحق.
مَنْ هُوَ مُسْتَحِق من البشر؟ لا أحد. إن كل موهبة روحية لنا من الله نحن لا نستحقها. إننا نأخذ من الله حسب غنى محبته ونعمته، لا حسب استحقاقنا فهو معطى الكل بسخاء.
مَنْ يسْتَحِق أن يفتح السِّفْر؟ مَنْ يسْتَحِق أن يُدعى ابنًا لله؟ لا أحد.
مَنْ يسْتَحِق أن يتناول جسد الرب ودمه؟ لا أحد. فهذه عطية لنا من الله وتحتاج إلى استعداد لقبولها ولكن ليس لاستحقاقها.
المسيح له المجد وحده هو المستحق، لذلك هتف له الأربعة وعشرون كاهنًا «مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ بِدَمِكَ» (رؤيا 5: 9).
هذا الترتيب! «أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ» (رؤيا 5: 2)
«لِيَفتَح السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ» (رؤيا 5: 5)
الترتيب المنطقي أن تُفكَّ الختوم ثم يُفتَح السِّفْر، لكن سؤال الملاك وإجابة أحد الشيوخ كليهما رتبت هكذا «يَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ» فلماذا؟ والإجابة بسيطة ففي العدد السابع الرب أَتَى وَأَخَذَ السِّفْرَ مِنْ يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ. فخَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْخَروفِ... وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: «مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ» (رؤيا 5: 7-9).
إن فَتْحَ السِّفْرِ هو الهدف، ويحدث بالتدريج. وسنرى أنه في شخص المسيح سيصير فتْح السِّفْر المختوم. فعندما يتقدم له المجد بحياته لفتْح السِّفْر ستتساقط الختوم واحدًا بعد الآخر، وهذا ما سنراه في الصفحات التالية.
«فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ فِي السَّمَاءِ وَلاَ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ تَحْتَ الأَرْضِ أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ.» (رؤيا 5: 3)
عجيب هذا في أعيننا! «لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ فِي السَّمَاءِ وَلاَ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ تَحْتَ الأَرْضِ». هذه هي الأنواع الثلاثة للخلائق العاقلة. ذكرهم أيضًا مار بولس الرسول عندما قال «لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ» (فيلبى 2: 20). وذُكِرت هذه الأنواع الثلاثة مرة أخرى في سِفْر الرؤيا «وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ،.. سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا 5: 13).
فِي السَّمَاءِ: يوجد الْحَيَوَانَات الأَرْبَعَة (الكائنات الحية) (رؤ 4: 6)، أو السرافيم فوق العرش (إشعيا 6: 2) وتحت إله إسرائيل (إشعيا 1: 5)، أو الكِروبيم تحت عرش الله (حزقيال 10: 2). كما يوجد الملائكة بدرجاتهم (رؤيا 5: 11، 13).
عَلَى الأَرْضِ: وهؤلاء هم البَشر القديسون، ومنهم مار يوحنا نفسه.
تَحْتَ الأَرْضِ: الهاوية أو الجحيم (أعمال 2: 27، 31)، وهؤلاء هم الشياطين وأرواح البشر جميعًا قبل الصليب والفداء كحالة انتظار النفوس البارة على رجاء. وهؤلاء نقلهم رب المجد يسوع بموته على الصليب إلى الفردوس. أما النفوس الشريرة فبقيت إلى الآن في الجحيم انتظارا للدينونة العامة. وكل نفس شريرة الآن بموتها تنضَمُّ إليهم، هذا المكان دعاه بولس الرسول «أَقْسَام الأَرْضِ السُّفْلَى» (أف 4: 9).
والآن هناك سؤال هام. هل الشياطين تحت الأرض يمكن أن «تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ» كما ذكر مار بولس الرسول في (فيلبي 2: 10)؟
نعم. فهناك فرق بين سجود وسجود، بين سجود القديسين للعبادة بفرح واعترافهم بمجد الله وسلطانه برضى وتهليل، وسجود الشيطان المهزوم المضطر واعترافه بمجد الله وسلطانه صاغرًا بعد أن سحقَه وقيَّدَهُ.
«فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ... أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ» (رؤيا 5: 3)
عجيب هذا السِّفْر الذي لم يستطع أحد أن يفتحه. مملوء بالكتابة، ينقسم إلى قسمين كبيرين من داخل ومن وراء، وكل قسم مُقَسم إلى أسفار، مختوم بسبعة ختوم، أسفاره درجات، أسفار أعمق من أسفار، أسفار تنكشف معانيها بمجرد فك الختم الأول، وأخرى تحتاج إلى فك ختمين أو ثلاثة، وأسفار لا تنكشف معانيها إلا بعد أن يُفَك الختم السابع.
إنه الكتاب المقدس، مليء بالوصايا والتعاليم والقصص والأمثال والمعجزات والتاريخ والشعر والنبوات. منقسم إلى عهدين قديم وجديد من داخل ومن وراء، فيه أسفار أعمق من أسفار، أسفار تُفهم بعد فك الختم الأول مثل التكوين والأمثال والبشائر، وأسفار أكثر عمقًا وصعوبة مثل اللاويين والعدد ورسائل القديس بولس، وهناك أصعب الأسفار كنبوات دانيال النبي وسِفْر الرؤيا أسفار لا تُفهَم حتى تُفك جميع الختوم.
«لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَد أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ»: آه من الذين أمامهم الكتاب المقدس في بيوتهم ومكتباتهم، لكنهم لا يستطيعون أن يفتحوه، وَلاَ يَنْظُرَوا إلَيْهِ. انشغلت عيونهم بالنظر للعالم. أوصى الله موسى النبي «وَلتَكُنْ هَذِهِ الكَلِمَاتُ التِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا اليَوْمَ عَلى قَلبِكَ. وَقُصَّهَا عَلى أَوْلادِكَ وَتَكَلمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ. وَارْبُطْهَا عَلامَةً عَلى يَدِكَ، وَلتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ. وَاكْتُبْهَا عَلى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلى أَبْوَابِكَ.» (تثنية 6: 6-9).
كما أوصى يشوع بن نون «إنَّمَا كُنْ مُتَشَدِّداً، وَتَشَجَّعْ جِدًّا لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَكَ بِهَا مُوسَى عَبْدِي. لاَ تَمِلْ عَنْهَا يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا لِتُفْلِحَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ. لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ فَمِكَ، بَلْ تَلْهَجُ فِيهِ نَهَارًا وَلَيْلًا، لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ. لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تُصْلِحُ طَرِيقَكَ وَحِينَئِذٍ تُفْلِحُ» (يشوع 1: 7-9).
أما داود النبي العظيم فوجد في كلمات الله كل فَرحُه وشِبعه حتى قال «نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيماً. وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ. أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ. خَوْفُ الرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إلَى الأَبَدِ. أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإبْرِيزِ الْكَثِيرِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ. أَيْضًا عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ» (مزمور 19: 7-11). «اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ. غَرِيبٌ أَنَا فِي الأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ... كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي. وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي لأَنَّهَا إلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي. أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ. مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرٍّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي. مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي.» (مزمور 119: 18-19، 97-103).
«فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ فِي السَّمَاءِ» نعم "لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي... بل أنتَ وحدكَ"، الخروف القائم كأنه مذبوح، الذي يمكنك أن تفتح السِّفْر. فما معنى فتْحِ السِّفْر إذن؟ إننا جميعًا نستطيع أن نفتح الكتاب المقدس ونقرأه وننظر إليه، فما معنى فتح السِّفْر وفك ختومه؟(21).
«فَصِرْتُ أَنَا أَبْكِي كَثِيرًا، لأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَقْرَأَهُ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ» (رؤيا 5: 4)
عجيب مار يوحنا الحبيب! أتبكي وأنت في السماء؟! في أسمى مكان يصِلُ إليه بَشَرِيّ؟! وأنت متمتع بالحضرة الإلهية؟! في الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد.
نعم فمار يوحنا لم يهتم بنفسه بل بحال الكنيسة كلها، ولذلك بكى. تمامًا كمار بولس، الذي وهو في قمة السعادة بدخوله الإيمان يذكر إخوته أنسباءه حسب الجسد فيحزن ويتألم، «فَإنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ» (رو 9: 3). هذه هي روح الخُدام الحقيقيين، ليس أنفسهم بل شعب المسيح.
«فَصِرْتُ أَنَا أَبْكِي كَثِيرًا» «طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متى 5: 4). كثيرون لا يفتحون السِّفْر. فلْنبكِ إذن ونحزن، وهذا يدفعنا أن نجاهد لِنَشْر كلام الله بين الناس. وأن يتذوقوا حلاوته وعمقه. إنه حزن مقدس يتصف به خدام الله في غيرتهم على البشر غير المستحقين لاكتشاف أسرار الله المختومة في السِّفْر.
مار يوحنا لم يبكِ فقط بل بكى كثيرًا. مَن يرى انتشار الفساد وسيطرة المادية في عصرنا ولا يبكي كثيرًا؟! من يرى روتينية العبادة: معترفين بلا توبة وصائمين بلا غلبة، ومتناولين بلا هيبة أو خشية ولا يبكي كثيرًا؟! من يرى صورة التقوى تنتشر في الكنيسة دون قوتها ولا يبكي كثيرًا؟! من يستمع إلى الترانيم البروتستانتية والموسيقى الغربية الصاخبة تنتشر في بعض كنائسنا دون أن يبكي؟!
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
![]() |
«فَقَالَ لِي وَاحِدٌ مِنَ الكهنةπρεσβυτέρως لاَ تَبْكِ» (رؤ 5: 5)
واحدٌ من الكهنة ينوب عن الأربعة والعشرين كاهنًا.
واحدٌ من الكهنة قدم العزاء الإلهي كوكيل عن الله.
فإن كان الكهنة الأربعة والعشرون يرمزون إلى جميع كهنة العهد القديم والجديد، وواحدٌ فقط كان نائبًا عنهم جميعًا، ففي هذا رمزٌ لوحدة العهدين، كما هو رمزٌ لوحدانية القلب بين رجال الكهنوت. فرغم عددهم الكبير الممتد في كل زمان ومكان إلا أنهم لهم الفكر الواحد والرأي الواحد، تكلم عنهم كاهنٌ واحدٌ.
هكذا تكلم القديس بطرس الرسول نائبًا عن الرسل الاثني عشر مجيبًا عندما سألهم جميعًا رب المجد بلغة الجمع «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إنِّي أَنَا ابْنُ الإنْسَانِ...؟ وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ." (متى 16: 13، 15-16). إنه الفكر الواحد والقلب الواحد والإيمان الواحد. ولذلك أعطاهم السلطان الواحد في الحَلِّ والربط في شخص بطرس الرسول النائب عنهم.
«لاَ تَبْكِ» (رؤيا 5: 5) μὴ κλαῖε
إنها كلمة عزاء حقيقي من الله يعطيه بواسطة كهنته (الشيوخ) كوسطاء يقدمونه لنا جميعًا. فهذا هو عملهم: التوسط أو الكهنوت. فهذا الكاهن يُمَثِّل عطاء الله للإنسان، ومار يوحنا يُمَثِّل استقبال عزاء الله نيابة عن الكنيسة المجاهدة على الأرض. فالكاهن يُمَثِّل الله أمام الناس ويُمَثِّل الشعب أمام الله، فيكهن أو يتوسط بين الله والناس، فيعطي نعمة عزاء الله للناس، وقد قبِلَها كاهن هو القديس يوحنا نيابة عن الناس.
«هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ» (رؤيا 5: 5)
«لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ» μὴ κλαῖε, ἰδοὺ ἐνίκησεν ὁ λέων
بينما كان مار يوحنا الحبيب يبكي، تقدم واحدٌ من الكهنة قائلًا «لاَ تَبْكِ» مشيرًا بإصبَعِه إلى مصدر العزاء الحقيقي، الرب يسوع.
هي كلمة عزاء، والعزاء الذي يُقَدِّمُهُ الكهنة ليس منهم، بل من شخص المسيح، الأسد الخارج «مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (عبرانيين 7: 14). وإنْ كان بفمه يقول «لاَ تَبْكِ»، إلا أنه بيده يشير إلى الرب مصدر العزاء «هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا». هكذا كلمات الكاهن خارجة من فمه لكن مصدرها رب المجد رئيس الكهنة الأعظم. فكلمة "المغفرة" خارجة من فم الكاهن في سر التوبة والاعتراف لكن مصدرها رب المجد الكاهن الأعظم «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ» (يوحنا 20: 23). ومِن «لأَنَّ شَفَتَيِ الْكَاهِنِ تَحْفَظَانِ مَعْرِفَةً وَمِنْ فَمِهِ يَطْلُبُونَ الشَّرِيعَةَ لأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْجُنُودِ» (ملاخى 2: 7). فـ«كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ» (متى 18: 18).
فالكهنوت هو التوسط، فعزاءُ الله قَدَّمَهُ أحد الكهنة الأربعة والعشرين. تمامًا مثل الآباء الرسل في معجزة إشباع الجموع، كان الآباء الرسل وسطاء يقدمون بركة الرب للناس، الرب «أَعْطَى تَلاَمِيذَهُ وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ» (متى 14: 19). ولو تخيلنا أن واحدًا من الجالسين قال "لا أريد أن آخذ من مار بطرس أو مار يوحنا. أنا آخُذُ البركة من يدِكَ أنت يا رب". أكان رب المجد يُغَيّر ترتيبه؟ أم ستظل كلمات الكتاب ثابتة «وَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ» (يوحنا 6: 11).
![]() |
«وَرَأَيْتُ فَإذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» (رؤيا 5: 6)
نظر مار يوحنا إلى حيث يشير الكاهن ليرى الأسد الخارج من سبط يهوذا، فإذ به يرى «خَرُوفًا قَائِمًا كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ». ما أعمق الكلمات وأروع المعاني! من أنت يا رب؟ أسد أم حمل؟!
المسيح له المجد أسد وحمل في نفس الوقت
في قصة المرأة التي أُمسِكَت في ذات الفعل كنتَ أسدًا وحملًا. الذين أدانوا المرأة في كبرياء وأمسكوا حجارة ليرجموها في قسوة وشراسة، كنتَ معهم أسدًا، أمسكتَ عصا وكتبتَ لكل واحدٍ خطيئته فافْتُضِح إثمه واحمرَّ وجهه وارتجفت يداه وسقط الحجر من بين أنامله، ورجع في خزى إلى الوراء منسحبًا لكي لا يراه أحدًا. واستطاع الأسد الذي عيناه بددت الأثمة المتكبرين من حولها أن يتقدم كحملٍ وديع لتلك التي شعرت بخطيئتها باكية منسحقة، وقال لها في لطفه وعطفه «أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ فَقَالَتْ: لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يو 8: 11).
ما أروعك رَبِّي الحمل الوديع. كلماتك العذبة تخجلني من خطاياي. ومَن هذه التي قلتَ لها في بيت الفريسي «اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (لو 7: 50)؟ أتعرف هي السلام؟ نعم أنت الحمل الذي تملأ الأثمة بسلامك فتحولهم إلى حُملان.
كان الرب حملًا مع الخطاة، يعاملهم بِحُبِّه ولُطْفِه، ويجذبهم إلى التوبة، بينما كان أسدًا مع الكتبة والفريسيين يُنزِل عليهم الويلات (مت 23: 13).
كيف تخرج يا رب الويلات من فمك؟! نعم أسدٌ أنت مع المتكبرين المغرورين وحَمل مع الخطاة والعشارين، حتى قيل عنك «مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (لو 7: 34)، دخلت لتبيت عند رجل خاطئ (لو 19: 7).
"إن ذكرنا خطايانا ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا يذكرها لنا الله".
إذا كان السيد المسيح له المجد أسد وحمل في نفس الوقت، فنحن ينبغي أن نكون على صورته ومثاله. لذلك أبُ الاعتراف عليه أن يكون أسدٌ وحمل. يأتي إليه التائب في خجل وخزى، شاعرٌ بخطاياه وآثامه، واضعٌ عينيه في التراب والرماد، فيستقبله في هدوءٍ وحنو بكلمات التشجيع، وكحمل وديع يُرَبِّتُ على كتفيه، يفتح أمامه باب الرجاء.
ويأتيه آخَر بروح الفَرِّيسِيَّة لا يشعر بإثمه، وربما يدين غيره مبررًا ذاته، فيقبله أب الاعتراف كأسد، يعظه ويوبخه وينتهره حتى يبكي خطاياه.
الواعظ المثالي تكون عظته متكاملة، تخرج منه الكلمات في قوة ووضوح، تنتهر الخطيئة والإثم، تهز الأشرار هزًّا، وتوقفهم أمام صورة الدينونة العادلة وأمام صرامة الله.
وفي نفس الوقت، واعظ يبني الحياة الروحية، يُطَمْئن النفوس ويُقَدِّم لهم أحضان المسيح المفتوحة على الصليب لكل أحد. هو إذن يُقَدِّم لطف الله وصرامته في نفس الوقت.
الواعظ الذي يَعِظ عن محبة الله ولطفه وغفرانه، ربما يفيد البعض. بينما يحتاج البعض الآخَر إلى هيبة الله وعدله. والواعظ المثالي يُقَدِّم صورة متكاملة عن الله، يُقَدِّمُهُ أسدًا وحملًا، لطفه وصرامته، رحمته وعدله، هيبته ورقته.
آه من جيلنا المسكين، ضاعت فيه صورة الواعظ الأسد الذي يوبخ بوضوح وصراحة. يهُز النفس ويرعبها من الدينونة فـ«بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ» (أمثال 9: 10). "ولا تكن أسدًا وقتما ينبغي أن تكون حملًا، ولا تكن حملًا وقتما ينبغي أن تكون أسدًا. تعلم كيف ترتب شجاعتك ووداعتك".
السيد المسيح هو الأسد الغالب، قيل عنه «خَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ» (رؤيا 6: 2). وهو الأسد والحمل معًا، غلب كأسد من سبط يهوذا، وكَحَمَل كأنه مذبوح، وقال «أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يوحنا 16: 33).
في تجسُّدِه مُتَّضعًا في بيت لحم غلب الحمَل كبرياء إبليس وكبرياء الإنسان وهزم هيرودس. وفي صومه غلب شهوة الطعام، ودخل المعركة مع إبليس أربعين يومًا، وترك له حرية اختيار الزمان والمكان والظروف ونوع التجربة، وأخفى لاهوتَه لكيلا يُرعِبه، ولم يستخدم لاهوته لكي يغلب لا كإله بل كإنسان، واستخدم الأسلحة المتوفرة للبشر جميعًا وسحقه (لوقا 4: 1، 3). «وَخَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ» في أولاده.
وفي إخراج الشياطين غلب قوة إبليس، وفي حياته متأنسًا غلب الشر وقال «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46). وعلى الصليب غلب الحملُ المذبوحُ الشيطانَ.
وانتهت القصة في هذه المعركة بأن نزلت روحُه الإنسانية المتحدة بلاهوته إلى الجحيم إلى «أَقْسَام الأَرْضِ السُّفْلَى» (أف 4: 9)، وقيَّد الشيطان ألف سنة، ربط القَوِيَّ، ونهب أمتعته، تلك النفوس التي كانت تحت قبضته على رجاء الفداء، فحررها من الجحيم وأدخلها الفردوس. ثم قام غالبًا الموت في اليوم الثالث قائلًا «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1 كورنثوس 15: 55) صائرًا ملكًا علينا، وصارت قيامتُه قيامةً لنا جميعًا.
«هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (رؤيا 5: 5). الأمر الذي قال عنه سِفْر التكوين بروح النبوة «يَأْتِيَ شِيلُونُ (المسيح) وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين 49: 10). وقال عنه داود النبي «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي (الآب للابن): اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ (الشيطان وكل جنوده) مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ.» (مزمور 110: 1).
«الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ» (رؤيا 5: 5)
السيد المسيح له المجد في ناسوته من سبط يهوذا، حتى تنبأ يعقوب أب الآباء عنه وقال «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين 49: 10)، وشيلون هو المسيح له المجد، فهو حسب الجسد ابن يهوذا.
وفي نفس الوقت هو «أَصْلُ دَاوُدَ»: فبالرغم أن المسيح له المجد أتى في الزمان متأنسًا من نَسْل داود، وقال القديس متى في سلسلة أنسابه «يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ» (متى 1: 1)، من سبط يهوذا حسب الجسد إلا أنه هو أصل داود وخالق داود. وقال الرب في نهاية سِفْر الرؤيا «أَنَا يَسُوعُ... أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ.» (رؤيا 22: 16) فهو الإله المتأنس.
«أَصْلُ دَاوُدَ» لأنه الإله الأزلي قبل داود وخالقه. وهو:
«ذُرِّيَّةُ دَاوُدَ» لأنه تأنس مولودًا من عذراء هي ابنة داود.
إنها كلمات قانون الإيمان "تجسد من الروح القدس (كإله)، ومن مريم العذراء (ابنة داود) (كإنسان) وتأنس". وهذه الفكرة يشير إليها إشَعْيَا النبي فيقول إنه الأصل والغصن في وقتٍ واحدٍ «يَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ» (إش 11: 1).
«لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ» (رؤيا 5: 5)
السيد المسيح له المجد، الأسد الذي من سبط يهوذا، أصل داود، كإلهٍ متأنس، هو القادر وحده أن يفتح السِّفْر ويفك ختومه. فما معنى هذا؟ مَن قال أن الكتاب المقدس سِفْر مختوم؟!
وما معنى أن المسيح وحده هو الذي يفك ختومه؟!
لعلنا نتأمل في بعض القصص الكتابية، فندرك كيف كان الكتاب المقدس سفرًا مختومًا، وأختامه لا تُفتَح إلا في شخص المسيح له المجد. أي أن حياة الرب متأنسًا هي فَتْحُ السِّفْر المختوم.
(1) قصة خِلْقَة حواء سِفْرٌ مختوم
لماذا لم يخلقِ اللهُ حواء كما خلق آدم من تراب؟!
ولماذا ألقى على آدم سُباتًا فنام؟!
لماذا هذا النوم التدبيري بالمشيئة الإلهية؟! ألم يكن آدم ينام يوميًا. لكنَّ الله لم يخلق منه حواء وهو نائم هذا النوم الطبيعي، لكنه ألقى عليه سُباتًا فنام بإرادته، بالمشيئة الإلهية. ثم ماذا؟ ثم فُتِح جنبُه، ومنه خرجت حواء وصارت له عروسًا، منه خرجت ومعه صارت واحدًا.
قصة خلقة حواء بهذه الطريقة العجيبة سِفْر مختوم لا يُفَكُّ إلا في شخص المسيح له المجد. فنحن لم نفهم العمق الكتابي والحكمة الإلهية من كل هذا، إلا حينما رأينا المسيح له المجد آدم الثاني وقد جاء ونام على الصليب نومًا تدبيريًا بالإرادة الإلهية، ومات موتًا إراديًا لا بمشيئة الناس. بل «لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إلَى هَذِهِ السَّاعَةِ» (يوحنا 12: 27) بالإرادة الإلهية. ثم فُتِح جنبه، فجرى منه دمٌ وماء هذا الذي أسس به كنيسته أو عروسَهُ الحقيقية، حواء الجديدة التي معها صار واحدًا بسر الافخارستيا فقال: «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يوحنا 6: 56).
ما أروع الكلمات البسيطة والعميقة التي يقولها الكاهن الأرثوذكسي في صلاة الخطبة قبل الزواج "أيها السيد الحقيقي كلمة الله الأزلي الوحيد، يا من خطب النوع الإنساني للفرح الأبدي بتجسده المجيد، عاقدًا إملاك (زواج) الأنفس المؤمنة بِسِرِّ صليبه،... مُنعمًا عليها بمائدة الحياة وكأس الخلاص السري". فالمسيح له المجد خطب عروسه (النوع الإنساني أي البشرية) بسر التجسد، إذ أخذ جسد إنسانيتنا. وعقدَ زواجَ الأنفس المؤمنة فقط بِسِرِّ صليبه الممتد في سر الافخارستيا، الذي فيه نتحد معه، ونصير واحدًا. وهذا ما ذكرناه في طريقة خِلْقَه حواء العجيبة.
(2) قصة شجرة الحياة سِفْرٌ مختوم:
ما معنى أن توجد شجرة من يأكل منها يحيا إلى الأبد؟ إن في هذا عجبًا! «أَخطأَ الإنسانُ فَطَرَدَ (الربُّ) الإنْسَانَ وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ» (تك 3: 24). كانت قصة هذه الشجرة العجيبة المُعطية الحياة الأبدية سفرًا مختومًا. كانت مُقَدَّمَةً للإنسان قبل سقوطه ليأكل منها، ولكن إذ أخطأ، مُنِع أن يأكل وهو في حالة الخطيئة. وظلت قصة الشجرة سِفرًا مختومًا لم يستطيع أحد أن يفتحه، إلى أن غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود؛ ليفتح السِّفْر ويَفُكَّ ختومه.
وعندما صعد الرب على خشبة الصليب، شجرة الحياة، وقدم ذاته كثمرة هذه الشجرة، قال «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا 6: 54). هذا هو معنى الشجرة التي من يأكل منها يحيا إلى الأبد. وعندما يُخْطِئ، عليه ألا يتناول. «إذَنْ أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1 كو 11: 29-30). ولْيحترسْ؛ لئلا يحترق بنار اللاهوت.
(3) قصة القُمصان من جِلْدٍ سِفْر مختوم.
ما معنى أن الرَّبَّ الإله «صَنَعَ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا»؟ (تكوين 3: 21)، ومن أين أتت؟ لم نسمع أن الله خلق جِلْدًا.
فالخطيئة التي عَرَّتِ الإنسان لا يُمكن علاجها أو غفرانها إلا بشخص المسيح له المجد، لذلك فقد أحضر الله نفسه القميص الجلدي الذي ستر عُرْيَ الإنسان. والله نفسه هو الذي ذبح الذبيحة، وأتى بِجِلْدها، وصنع الأقمصة لآدم وحواء، وألبسهما. إنَّ الفداء، والتكفير عن خطيئة آدم وستْرَ عُرْيِهِ كان بواسطة الرب الإله. "لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا
رئيس أباء ولا نبيًا ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كلِ شيء...".
(4) قصة تَقْدِمَتَي قايين وهابيل سِفْر مختوم
ما معنى «نَظَرَ (قَبِلَ) الرَّبُّ إلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ. وَلَكِنْ إلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ (رفض)»؟ (تكوين 4: 4-5). لقد قدَّم كلُّ واحدٍ من ثِمار عَمَلِه: قدَّمَ الزارعُ نباتًا من ثمار الأرض، والراعي من سِمَانِ غَنَمِه. فما معنى أن يقبل الله الذبيحة الدموية دون الأخرى؟ وما ذنْبُ قايين الزارع وهذه هي ثمار جهده؟! كان من العدالة أن يقبل من كل واحدٍ ما يناسب عمله. لكن قصة قبول الذبيحة الدموية ورفض الأخرى سِفْر مختوم، لا يُفهَم إلا في شخص المسيح المذبوح على الصليب.
ولماذا قتل قايين أخاه؟! قال له الرب «عِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ وَإلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا» (تكوين 4: 7). والخطية الرابضة هي كراهيتهُ لأخيه. ولماذا؟ لأن ذبيحة هابيل قُبِلَت دون ذبيحته، ولذلك قال الرب «إنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ» (تكوين 4: 7). أي إن أحسنتَ اختيار الذبيحة، وقدمتَ ذبيحةً دموية كما علَّمَك آدم ما تَعَلَّمَهُ مِنِّي حينما ألبستُه وحواء قُمصانًا من جلد عندما أخطَئَا وتعرَّيَا، أفلا ترتفع ذبيحتُك وتُقبَل عن
خطاياك؟ ونتعجب أيضًا من قتل قايين لأخيه الذي حدث بلا سبب، كل ما قيل فيه «لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (1 يو 3: 12).
فهلْ بِرُّ هابيل يُمكن أن يكون سببًا للحَسد الذي يَصِلُ إلى قتْل الأخ؟ هذا سِفْر مختوم نفهمه عندما نجِدُ يهوذا يُسَلِّم الرب «بِكْرًا بَيْنَ إخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رو 8: 29). واليهود إخوته يقتلوه بلا سبب؛ لأن أعماله كانت بارة.
(5) قصة نوح وفُلْكِه سِفْر مختوم.
فلكٌ واحدٌ ينجو؟! لماذا لم تنجُ بعضُ السُّفُن الأخرى؟!
إنها الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية. لها شروطها ومواصفاتها المحددة. صفاٌت وضعها ربُّ المجد ونفَّذها رُسُلُه الأطهار، كما وصف الرب الفُلكَ بِرَسمِه ووَصَفَهُ ونفَّذَهُ نوحٌ رجلُ الله. هي ليست كَكُلِّ الكنائس الأخرى التي لكل واحدة مواصفاتٌ خاصة بها تختلف عن غيرها، كل واحد حسب إيمانه وفهمه وتفسيره وطريقته. سفينة واحدة
تنجو من الغضب الآتي على العالم.
قيل عن الفلك «وَأَغْلَقَ الرَّبُّ عَلَيْهِ» (تكوين 7: 16)، وفي الكنيسة الواحدة الله يُغلِق ولا أحد يفتح، ويفتح ولا أحد يُغلق. كلُّ مَن هو خارج الفُلْك هلك ومات مهما كانت لديه من مُقَوِّمات الحياة.
(6) قصة الحية النحاسية سِفْر مختوم.
عجيبةٌ هي قصة الحياتِ التي تلدغُ الناس فتُميتُهم، ثم يرفع موسى النبي الحية النحاسية على خشبة، وكلُّ من ينظر إليها يبرأ من سُمِّ الحية. أليس في هذا عجبًا؟! الحية النُّحاسِيَّة (غَير الحَيَّةِ أي المائتة) المُعلَّقَة على خشبة تمنحُ الحياة والنجاة من الموت من سُمِّ الحية القاتلة لكل من يؤمن ويُثَبِّت نَظَره إليها.
إنها سِفْر مختوم لا نفهمه إلا عندما نذهب إلى جثسيماني، ونرى المسيح ذاته مائتًا مُعلقًا على خشبة يمنح الحياة للمائتين، وينَجِّي من سُم الحية الحقيقية التي هي إبليس والشيطان.
ثم ماذا؟ هل يُرمَز للسيد المسيح بالحَيَّةِ المُعَلَّقة على خشبة؟! إنه سِفْرٌ مختوم لا نفهمه إلا في المسيح الفادي. نعم فالمسيح المُعلَّق على خشبة الصليب ليس هو المسيح القدوس الطاهر الذي لم يفعل خطيئة، بل هو المسيح القدوس الذي صار خطيئة لأجلنا.
عجبًا أيها القاري؟! ما هذا العذاب الروحي الذي عانيتَهُ؟ أيصير القدوس خطية وليس خاطئًا فقط؟ أيُقال عنه «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلاطية 3: 13) أيُرمَز له بالحية! سامحني يَا رَبِّي... لقد رُمِزَ بها للشيطان، آه يَا رَبِّي... ويحي أنا الإنسان الشقي. ماذا فعلتُ بكِ. أإلى هذا الحد تأتي الرموز؟ رحمةً بي فإني هلكتُ. أهذا ما تفعله خطاياي وآثامي التي أتلذذ بها كل يوم؟! نعم «الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدًّا» (رو 7: 13). وهذا هو السبب في أننا نُقَدم في سِر الافخارستيا خبزًا مختمرًا لا فطيرًا، مع معرفتنا أن الخميرة رمزٌ للخطية. فالمصلوب ليس هو المسيح القدوس الطاهر. بل هو المسيح القدوس الطاهر الذي لم يفعل خطية والذي حمل خطايانا «وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إثْمَ جَمِيعِنَا» (إش 53: 6). «لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (2 كو 5: 21). نعم هذا هو بالحقيقية الفادي الذي حمل خطايا العالم كله، وبموته داس الموت.
(7) قصة تقدمة إبراهيم لإسحق ابنه سِفْر مختوم.
هذه القصة عجيبة...
كيف يطلب الله من أبينا إبراهيم أن يُقَدِّم إسحق ابنه الوحيد الذي يحبه (تكوين 22: 2) ذبيحة بشرية؟! وهل يقبل الله الذبائح البشرية؟! ثم أين؟ في هذه المِنطقة البعيدة على أحد الجبال (تك 22: 3). بعيدًا عن سُكنَى البشر، ليقدر أن يُنَفِّذَ هذه الصورة الغربية. وهنا نسأل من أين أتى ذلك الخروف الموثوق بقرنيه فوق الجبل في الأرض البعيدة؟! إذا كان حُرًّا طليقًا لَقُلْنا أنه جاء من مِنطقةٍ سكنية، ولكنه كان موثوقًا بقرنيه. ألم يره إبراهيم أو أسحق وهما ذاهبان إلى هذا الموضع؟! ألم يرياه وهم ينتَقُون حجارة لبناء المذبح؟! وعندما رأياه وجداه خلفهما موثوقًا بقرنيه! فمن أين إذن أتى هذا الكبش؟! من أين جاء وما مصدره؟!
هل من الأرض؟! فلماذا لم يره إبراهيم وإسحق؟!
هل من السماء؟! وهل في السماء خروف مادي؟!
وهكذا تظل قصة الخروف قصة عجيبة وسفرًا مختومًا لا يُفَكُّ إلا في شخص المسيح. فالمسيح له المجد هو الذبيحة الإنسانية التي قبلها الله، بل هو الذبيحة الإلهية أيضًا. هل هو ذبيحة بشرية أم إلهية؟! من الأرض أم من السماء؟! من أين أتى؟!، هو إنسان بالحقيقة، ولكن بغير زرع بشر. نعم هذا الخروف العجيب لا يُفهَم إلا في شخص المسيح العجيب الإله المتأنِّس مصدره من السماء، فهو إله حق من إله حق مع أنه إنسان له ناسوت مصدره من العذراء مع أنه خالقها.
وهكذا قصة الملاك المُهلك، قصة يشوع وموسى، رؤيا يعقوب والسلم
قصة يوسف الصديق، قصة العُليقة، قصة لوط وزوجته
قصة يونان النبي، وغيرها...
كُلُّها قِصص مختومة والمسيح له المجد هو بشخصه يفك الختوم السبعة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(8) رؤيا إشَعْيَا النبي سِفْر مختوم.
يَقُصُّ لنا إشَعْيَا النبي «رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي! إنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ. فَطَارَ إلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (إشعيا 6: 1-7).
ما هذه الرؤيا العجيبة؟!
إشَعْيَا النبي يشعر إنه إنسانٌ خاطئ فماذا يحدث؟!
جمرةٌ من على المذبح يُمَسُ بها الفم ويقول «هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ» (إشعيا 6: 7).
والجمرةُ ليست نارًا ولا فحمًا، إنما هِيَ فَحْمٌ مُتَّحِدٌ بالنار بغير اختلاط، ولا امتزاج ولا تغيير، النار محتفظةٌ بخصائصها والفحمُ محتَفِظٌ بخصائصه.
فما هذه الجمرة التي تؤخَذُ بِمِلْقَطٍ من على المذبح، وتوضَع في الفم؟! فتَنزِعُ الإثم وتُكَفِّرُ عن الخطيئة. إن في هذا عجبًا! هذه الجَمْرَةُ سفرٌ مختوم لا يُحَلُّ إلا في المسيح له المجد، فهو الجمرة، الإله المُتأنِّس، النار المتحدة بالفحم، اللاهوت المتحد بالناسوت، الكائن معنا على المذبح، نتناوله في فمنا لمغفرة آثامنا والتكفير عن خطايانا، إنه سر الافخارستيا ذبيحةٌ كفارية عن خطايانا، فالمسيح لا يفتح السِّفْر بوسيلةٍ مُعينة بل هو بشخصه مفتاحُ السِّفْر، به تسقط الختوم وينفتح السِّفْر.
«وَرَأَيْتُ فَإذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» (رؤيا 5: 6)
نعم هذا هو العجب، أن أحد الكهنة يقول للقديس يوحنا الرسول «لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (رؤيا 5: 5)، وينظر مار يوحنا إلى حيث يشير الكاهن إلى الأسد فيرى «حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» (رؤيا 5: 6). فالمسيح إلهُنا حمل وأسد في ذات الوقت. كان حملًا مذبوحًا على الصليب، ومع هذا كان أسدًا قويًا تهابه الأسود، حين جاء الجنود للقبض عليه «قَالَ لَهُمْ مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أَجَابُوهُ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ أَنَا هُوَ... فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ إنِّي أَنَا هُوَ رَجَعُوا إلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ» (يوحنا 18: 4-6). هذا هو الأسد. وبعدها بقليل أسلم ذاته كحملٍ قائلًا «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إنِّي أَنَا هُوَ. فَإنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ» (يوحنا 18: 8). وهكذا حوَّلَ معنى القوة، فأصبحت قوة الحب والبذل والفداء. فالذي صعد على الصليب باذلًا نفسه، ومات عن شعبهِ هو الذي رنمت له الملائكة "قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الحي الذي لا يموت"، "لك القوة، لك المجد، والبركة والعزة إلى الأبد أمين، يا عمانوئيل إلهنا وملكنا". وهو الذي نسبحه في أسبوع الآلام في يوم الصَّلْب، يوم الخروف المذبوح قائلين: "بالموت داس الموت"، و"الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة".
والربط بين الأسد والخروف المذبوح هو ربط بين ملكوت المسيح الذي يُمَثِّله الأسد كملك وبين صليب المسيح الذي يُمَثِّله الخروف المذبوح. وهو ربط طبيعي ومنطقي جدًا؛ لأن المسيح له المجد بدأ مملكته الألفية على خشبة الصليب وقال الكتاب «الرب ملك على خشبة» (أول مزمور في صلاة الساعة التاسعة 95: 10 حسب النص القبطي) (مز 96: 10).
والعجيب أن الخروف القائم كأنه مذبوح هو مركز الدوائر الثلاثة: مركز العرش الملتهب الكروبيمي، ولذلك قال الكتاب «فِي وَسَطِ الْعَرْشِ»
في وسط العرش كملكٍ ديان للأرض كلها، وهذه هي الدائرة الأولى.
وفي وسط الحيوانات كسَيِّد الخليقة كلها، وهذه هي الدائرة الثانية.
وفي وسط الشيوخ كرئيس الكهنة الأعظم، وهذه هي الدائرة الثالثة.
قدم ذبيحة نفسه على الصليب، فهو الكاهن والذبيحة، بذل نفسه وصار:
«حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» (رؤيا 5: 6)
«كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» وصف دقيق لجسد القيامة الممجد، الذي رآه مار يوحنا الحبيب، ليس مذبوحًا أو مائتًا ولكنه «كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ»؛ لأنه قام حقًّا من الموت، لكنه احتفظ بآثار الصليب في جسده. ورآه القديس توما الرسول، ووضع يده في أثر المسامير وصرخ «رَبِّي وَإلَهِي» (يوحنا 20: 28). وقال عنه مار بطرس الرسول «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (1 بطرس 2: 24). ووصفه إشَعْيَا النبي بروح النبوة «كَشَاةٍ تُسَاقُ إلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعيا 53: 7). نعم ذُبِحَ الرب على الصليب. وظهرت أثار ذبْحِهِ من جَلدٍ وإكليل شَوك ومسامير وحربة، واحتفظ بها الرب كعلامات حُبِّهِ لكي تصير لنا تذكارًا. لذلك عندما التقى الرب بتلاميذه بعد القيامة «أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ... ثُمَّ قَالَ لِتُومَا هَاتِ إصْبِعَكَ إلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا» (يوحنا 20: 20-27).
ليس جديدًا على مار يوحنا هذا المنظر المهيب منظر الخروف المذبوح، فقد كان واقفًا تحت الصليب حينما كان الحمل يُذبح (يوحنا 19: 26-27)، وهذا الجسد المذبوح الذي نتحدث عنه:
هو نفس الجسد الذي به صعد إلى السماء، وبه سيأتي في مجده.
وهو نفس الجسد الذي قيل عنه «وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ» (رؤ 1: 7).
سبحه الأربعة والعشرون كاهنًا قائلين «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ» (رؤ 5: 9)، وسبَّحه ربوات الملائكة قائلين «مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ» (7 صفات) (رؤ 5: 12).
وسبحته كل الخليقة قائلة «لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ» (4 صفات) ترمز لكمال المكان أي الخليقة في كل مكان تسبحه، وفي كل زمان، فأكمل «إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا 5: 13). وأشار السِّفْر إلى «سِفْرِ حَيَاةِ الخَروف المذبوح» (رؤيا 13: 8).
«حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ» (رؤيا 5: 6)
«لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ» والسبعة ترمز إلى كمال النعمة. قدَّم السِّفْر سبع سباعيات:
1. الكنائس السَّبْع (رؤيا 1: 4، 11)، وتشير إلى الكنيسة الجامعة. وهي:
2. المناير السبع (رؤ 1: 12، 20)، وتشير لها سُرُج المنارة السبعة (خر 25)
3. الكواكب السبعة (رؤيا 16: 20)، وهي:
4. ملائكة الكنائس السَّبْع، وتشير إلى الكهنة في كل درجاتهم
5. السبعة المصابيح نار (رؤيا 4: 5)، وهي
6. السبعة أرواح التي أمام عرشه (رؤ 1: 4)، الروح القدس في عمله السُّبَاعِي
7. السبع رسائل (رؤيا 2-3)، وهي كلمة الله الكاملة في كل العصور.
هذه هي سبعة سباعيات عطايا الله الكاملة (الكنيسة والكهنوت وكلمته). والآن نُقَدِّم ثلاث سباعيات أخرى:
1. سبعة قرون، تمثل قوة الله
2. سبعة أعين، تمثل كمال المعرفة
3. سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض.
وهذه السُّبَاعِيات الثلاثة ترمز إلى عمل النعمة الإلهية الكاملة، فالخروف القائم «كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ»، هو المسيح المصلوب القائم. كامل في قوته إذ له السبعة قرون، كامل في حكمته ومعرفته إذ له السبعة أعين، وكامل في عمله ونعمته إذ له سبعة أرواح الله، أو روح الله القدوس العامل في الأسرار السبعة، روح القوة والحكمة.
«وَسَبْعُ أَعْيُنٍ هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلّ الأَرْضِ» (رؤيا 5: 6)
حقًّا ذُبِح الخروف. وقام «كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ». وصعد إلى السماء، وأرسل الروح القدس بعمله السُّبَاعِي. أرْسَلَهُ إلَى كُلِّ الأَرْضِ ليعمل في كنيسته الجامعة عملًا كاملًا. إننا أمام الابن "الحَمَل القَائِم"، والروح القدوس الباراكليت الذي أرسله الابن من عند الآب، سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ المُرسلة إلى كل الأرض.
«سَبْعُ أَعْيُنٍ» (رؤيا 5: 6): هي الرؤيةُ الكاملة وكمال المعرفة. فهل يمكن أن يختفي شيء عن الذي عيناه تخترقان أستار الظلام، الذي «عيناه الى الذين يتقونه ويعلم كل اعمال الانسان» (سيراخ 15: 20)، صَدق حناني الرائي عندما قال لآسا ملك يهوذا «أَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ» (2 أيام 16: 9). وسبحه داود النبي فقال «مِنَ السَّمَوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ» (مزمور 33: 13). وأيوب النبي قال «أَلَيْسَ هُوَ يَنْظُرُ طُرُقِي وَيُحْصِي جَمِيعَ خَطَوَاتِي» (أيوب 31: 4). «إذَا اخْتَبَأَ إنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ؟» (إرميا 23: 24). «وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ» (رؤيا 1: 14؛ 19: 12).
فالمسيح إذن متسربلٌ بكمال الحب «كحَمَلٍ... مَذْبُوحٍ»، وبكمال القوة إذ «لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ»، ومتسربلٌ بكمال الحكمة «لَهُ سَبْعَةُ أَعْيُنٍ» «سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلِّ الأَرْضِ» (رؤيا 5: 6). ليست هي طُغمات ملائكية كما يظن الكثيرون، فبينما نرى الملائكة يرنمون «مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى» (رؤيا 5: 12) والحيوانات الأربعة تعطي لله مجدًا وكرامة (رؤيا 4: 9). بل كل خليقة الله ترنم لله والخروف بالبركة والكرامة والمجد (رؤيا 5: 13)، لكن هذه السبعة أرواح لم نقرأ عنها إنها سبَّحَتِ الله أو سجدت له في كل السِّفْر. إنها روح الله ذا العمل السُّبَاعِي. إنها أمام عرش الله (رؤيا 1: 4) كمصابيح نار (رؤيا 4: 5). فمن هذا الذي له سبعة أرواح الله إلا الله وحده، وهذا دليل على لاهوت الابن.
يُسجِّل الإصحاحان الرابع والخامس تسابيح قديمة وجديدة، ملائكية وبشرية، يترنمون بها أمام عرش الله القدوس. منذ القديم وقبل خلقة الإنسان كان السمائيون يترنمون لله «تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ (الملائكة)» (أيوب 38: 7). أما تسبحة الكهنة في سِفْر الرؤيا كانت جديدة لم يرنمها الملائكة من قبل ولا كواكب الصبح قديمًا؛ لأنها ترنيمة خاصة بالبشر.
«فأَتَى وَأَخَذَ السِّفْرَ مِنْ يَمِينِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ» (رؤيا 5: 7)
مَن هذا الذي أستطاع أن يأخذ السِّفْر من يمين الله الجالس على عرشه، مِن يده اليُمنى، رمز القوة؟!
هو من له هيبة الأسد وقوته، ووداعة الحمل وتضحيته.
هو من له كمال القوة والحكمة.
هو من يأخذ السِّفْر الذي لم يستطيع أحدٌ أن يفتحه ولا أن ينظر إليه.
فمن يستطيع أن يقترب من يمين الجالس على عرشه في قوةٍ وهيبةٍ؟
ومن يستطيع أن يقترب من قوة الآب إلا الابن.
نعم استطاع الخروف المذبوح القائم وحده أن يصعد ويأخذ السِّفْر ويفك ختومه. صعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب.
«وَلَمَّا أَخَذَ السِّفْرَ خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ
وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْحَمَلِ» (رؤيا 5: 8)
«وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ» (رؤيا 4: 10)
سجد مُمَثلو السمائيين والأرضيين أمام جلال الجالس على العرش، الخالق السرمدي «حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب 1: 3)، وَطَرَحُوا أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ، أَمَامَ الْحَمَلِ المذبوح.
وهنا نستمع إلى تمجيد الحيوانات الأربعة، أسمى درجة في السمائيين؛ فَهُمْ العرش الملتهب الكِروبيمي، عملهم التسبيح الدائم لله نيابة عن السمائيين جميعًا مع الأربعة والعشرين كاهنا:
تسبيح الأربعة الحيوانات غير المتجسدين أعلى طغمة سمائية تمثل السمائيين، تسبيح الأربعة والعشرين كاهنا أعلى بَشَر يُمَثِّلون الكهنة في العهدين.
(رؤيا 4: 9-10) وَحِينَمَا تُعْطِي الْحَيَوَانَاتُ مَجْدًا وَكَرَامَةً وَشُكْرًا لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ، الْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، يَخِرُّ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا قُدَّامَ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ، وَيَسْجُدُونَ لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَالِيلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْشِ |
(رؤيا 5: 8، 14) وَلَمَّا أَخَذَ السِّفْرَ خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ والأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْحَمَلِ.. وَكَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ آمِينَ. وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ خَرُّوا
وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ |
وحينما يتحد السمائيون مع الأرضيين في تمجيد الله، نستمتع بتسبيحات تهتز لها الأرض والسماء معًا. وخلال تسبيح الحيوانات الأربعة، يخر الأربعة والعشرون كاهنًا، ويطرحون أكاليلهم في خضوع وشكر قدام الجالس على العرش، يقدمون صورة الخليقة كلها خاضعة ومسبحة للرب الإله، فيسجدون ويطرحون أكاليلهم أمام العرش.
الحيوانات الأربعة طغمة سمائية رفيعة، هي العرش الملتهب الكِروبيمي، وعملها التسبيح الدائم نيابة عن السمائيين جميعًا مُعطيةً «مَجْدًا وَكَرَامَةً وَشُكْرًا». وفي ثلاثتها ترمز لتسبيح الله المثلث الأقانيم، الكامل كمالًا مطلقًا. وكما أن جلوس الرب دائم أبدي كذلك تسبيح الحيوانات له دائم إلى الأبد.
فالإصحاح الرابع ذكر تسبيح الحيوانات الأربعة ولم يذكر سجودهم.
والإصحاح الخامس أظهر هذا السجود قائلًا: «خَرَّتِ الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخًا أَمَامَ الْحَمَلِ» (رؤ 5: 8). والأربعة والعشرون كاهنًا أسمى درجة في البشر خرُّوا نيابة عن البشرية في العهدين القديم والجديد، يقتدون بالكِروبيم، يمجدون الله.
وتسبيح الحيوانات الأربعة يسبق تسبيح الأربعة والعشرين كاهنًا؛ لأنهم قدوة لنا. منهم تعلمنا التسبيح والعبادة، وتعلم الكهنة.
إن صورة الخروف المذبوح صورة الحب الباذل تهز كياننا. لنسجدْ أمامه ونسبحِ اسمه. ثم وقد أخذ الخروف المذبوح مكان الأسد الذي يحكم فأخذ السِّفْر، سِفْر القضاء.
قدَّم الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون كاهنًا سجودًا لله الخالق (رؤيا 4)، وسجدوا للخروف المذبوح (رؤيا 5). أليس هذا معناه مساواة الابن والآب، وأنه واحد معه في الجوهر. فهو المتألم الذي قدم ذاته ذبيحة على الصليب. رأيناه حاملًا للإهانات في وداعة وصمت، وهنا نراه يتقبل السجود والعبادة من كل الخليقة.
الابن واحد مع الآب في الجوهر يسجل لنا الإصحاح الرابع من سِفْر الرؤيا تعبُّد وسجود الكِروبيم نيابة عن الطغمات السمائية، والكهنة نيابة عن البشرية، لله الآب الجالس على العرش إلى الأبد. ويكمل الإصحاح الخامس فيُقَدِّم لنا تعبُّد وسجود وتسبيح الملائكة والكهنة، لله الابن، الحمل القائم كأنه مذبوح. وتكررت الإشارة إلى سجود الأربعة والعشرين كاهنًا عدة مرات في سِفْر الرؤيا فبالإضافة إلى (رؤيا 4: 10؛ 5: 8، 14) يوجد إشارات في (رؤيا 7: 11؛ 11: 16؛ 19: 4).
«وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأخُذ السِّفْر وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ» (رؤيا 5: 8-9)
عبادة خاشعة، عبادة التسبيح والفرح، هي عبادة هؤلاء الكهنة الأربعة والعشرين. فقد جمعوا بين الخشوع في سجودهم أمام الحمل، والتسبيح في بهجة وفرح على قيثاراتهم.
«وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ»: كلمة تشير إلى التسبيح بفرح ولذة، ترنيمة جديدة، ليست كترنيمة الملائكة المسبحين دائمًا ممجدين إياه على قوته وقدرته السرمدية. إنها ترنيمة جديدة لا تُناسب الملائكة بأي نوع من رُتَبهم أو درجاتهم، هُمْ يترنمون بها نيابة عن البشرية كلها.
أما القيثارات، هي آلات موسيقية ذُكرت في (رؤ 15: 2)، يرنِّم على أنغامها الشهداء الذين قتلهم الوحش، ترنيمةَ موسى عبد الله وترنيمة الخروف.
هذا الترنُّم مع الموسيقى يعني الفرح والتهليل. لذلك نحن في الكنيسة المقدسة نستخدم آلات الموسيقى كصورة السماء.
«وَلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قيثارات وجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٌ بَخُورًا هِيَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ» (رؤيا 5: 8) هذه الخدمة يحمل فيها الشيوخ كل واحد مجمرة ذهبية مَمْلُوءَةً بخورًا، فهي خدمة كهنوتية، فتقديم البخور عمل الكهنة. لذلك قلنا أن هؤلاء الأربعة والعشرين هم كهنة يقدمون صلوات القديسين أمام الله، وهذا العمل عمل وساطي أو كهنوتي، يتوسطون بين الله والقديسين، ويُقَدِّمون له صلواتهم.
والجامات جمع مجمرة أو شورية. تلك التي صنعها سليمان الحكيم من ذهب خالص (أخبار الأيام الثاني 22: 4)، ومنها يتصاعد البخور برائحته الطيبة بعد أن يحترق مع الجمر، وهكذا تتصاعد إلى الله برائحةٍ ذكية، صلوات القديسين وحياتهم، بعد أن يشتعلوا بالحب الإلهي. فتذوب حياتهم أو تحترق بكل عمل صالح. إنها صلوات القديسين الذين انتقلوا إلى السماء يُصَلون عنا ومن أجلنا في شفاعةٍ تَوَسُّلِية(22) أمام الله.
«وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ» (رؤيا 5: 9)
منذ القديم وقبل خلقة الإنسان والسمائيون يترنمون مسبحين الله: «تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ (الملائكة)» (أي 38: 7).
أما أول تسبحة سمعناها على أرضنا، هي تلك التي سجلها سِفْر الخروج، تسبحة الخلاص من عبودية فرعون. أنشدها شعب الله بعد أن خَلَصوا من الملاك المُهلك، بواسطة صليب الدم المرشوش على العتبة العليا وعلى القائمتين، وبذلك يرسم صليبًا من الدم على أبواب شعب الله. ثم عبروا البحر الأحمر حيث أحاطتهم المياه من فوق في شكل السحابة (حاملة المياه في صورته المتبخرة)، ومن حولهم، مُعطِيةً لنا صورة المعمودية بالتغطيس، التي تنقُلُنا من عبودية فرعون (الشيطان) إلى أرض الميعاد «إلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ» (رو 8: 21).
وهنا نستمع إلى ترنيمةٍ جديدةٍ يترنم بها الكهنة الغالبون، مسبحين الخروف، لم يرنمها لا الملائكة ولا كواكب الصبح قديمًا؛ لأنها ترنيمة خاصة بالبشر.
رنمت الحيوانات الأربعة لله القدوس السرمدي «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي كَانَ وَالْكَائِنُ وَالَّذِي يَأْتِي» (رؤيا 4: 8) ترنيمة قديمة من حيث كلماتها ومرنميها أشار إليها إشَعْيَا النبي في (إشعيا 6: 3)
ورنم الكهنة الأربعة والعشرون لله الخالق ضابط الكل «أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (رؤيا 4: 11). وبهذا:
سبحت الحيواناتُ الأربعة اللهَ في طبيعته القدوسة والسرمدية،
وسبح الكهنة الأربعة والعشرون الله في عمله كخالق وضابط الكل.
أما الترنيمة الجديدة التي تناسب العهد الجديد، فهي تسبيح الكهنة الأربعة والعشرين للرب الحمل المذبوح لفدائنا.
ما أعذب صوتَكم أيها الكهنة الوقورون في تسبيحكم.
سمعنا الملائكة «قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ...» (رؤيا 12: 5) وليس مترنمين، وسمعنا كل الخليقة «قَائِلَةً» (رؤيا 13: 5) وليس مترنمة.
أما أنتم فيقول عنكم مار يوحنا الحبيب «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ» (رؤيا 5: 9). وكلمة يترنمون كلمة موحية تُعطي معنى التأثر والتفاعل العميق مع الترنيمة الجديدة. إنها تنقلنا إلى الكنيسة المقدسة، وكيف يقف الآن الكهنة أمام الخروف المذبوح يترنمون بنغماتٍ عذبةٍ وقورة في تسبحة القداس الإلهي الخالدة الذي أملاه الروح القدس وسجَّلَه القديس مرقس الرسول(23) أو غيره من الآباء الرسل(24).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأخُذ السِّفْر وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ» (رؤيا 9: 5)
يسبح الأربعة والعشرون كاهنًا المسيح إلهنا كحمل مذبوحٍ لا كأسدٍ غالب. فمجد محبته كحمل مذبوح، أعظم بكثير من مجد قوته كأسد غالب. فالملك الذي يبذل ذاته عن عبيده، أمجد بكثير من الملك الذي يلبس تاجه، مُمسِكًا صولجانَه، جالسًا على عرشه بعظمة جلاله.
فبهذا الحب الباذل، ينفرد ربُّ المجد عن ملوك العالم، صائرًا ملك الملوك ورب الأرباب. ما أروعك يا ربي.
«لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ» (رؤيا 5: 9)
«لأَنَّكَ ذُبِحْتَ» تكررت كلمة (ذُبِحت) ثلاث مرات في هذا الإصحاح (رؤ 5: 6، 9، 12)، فتركيز سِفْر الرؤيا على التعبير ذُبِحت (رؤ 5: 9) ومذبوح (رؤ 5: 6) والمذبوح (رؤ 5: 12) في الماضي والحاضر، يتفق مع أن السيد المسيح وإن كان قد قدم ذاته ذبيحة على الصليب كحدث في الماضي (رؤ 5: 9)، إلا إنه مازال الذبيحة الممتدة في سر الافخارستيا في كل زمان في الحاضر المستمر (رؤ 5: 6، 12)، ذبيحة حقيقية دائمة.
في التجسد وفوق الصليب، تنفتح ختوم السِّفْر المختوم. فحينما ذُبِح الرب على الصليب، أخذ الذي لنا (حكم الموت)، وصارت حياتنا ليست لنا، بل للذي اشترانا بدمه. فالله يملكنا بخِلقته لنا، إذ أوجدنا من العدم. ثم متنا بخطايانا وبِعْنا أنفسنا للشيطان، فاشترانا مرة ثانية بموته عنا، أي بدمه. فصرنا مِلْكًا له مرتين. حقًّا قال مار بطرس الرسول:
«عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ» (1 بطرس 1: 18-19).
«اِحْتَرِزُوا اِذَنْ لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِه» (أعمال 20: 28).
«لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِي للهِ» (1 كورنثوس 6: 20).
«وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ» (رؤيا 5: 9)
ماذا فعل الدم كما جاء في الرؤيا؟
1. «اشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ» (رؤيا 5: 9)
2. «غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا 1: 5)
قَدْ «غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ» (رؤيا 7: 14)
3. «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤيا 12: 11)
قدم الرب فداءه، فاشترانا للآب بدمه على الصليب، ثم غَسَّلَنَا من خطايانا بِدَمِهِ في المعمودية، وفي سر التوبة امتدادها غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ، وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ، هذا هو دم المسيح المسفوك على الصليب ولايزال مستمرًا في الافخارستيا يطهرنا من كل خطية.
كانت هذه كلمات الشيوخ الأربعة والعشرين، لذلك فَهُمْ ليسوا طغمة ملائكية، هم بشَرٌ فَداهم المسيح له المجد، واشتراهم بدمه الثمين. وَهُمْ يشكرونه على هذا الفداء نيابة عن البشرية كلها.
أليس معنى هذا أنهم كهنة من البشر ينوبون عن البشرية، وهم ليسوا من أمة واحدة بل من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة. لذلك نحن نقول إنهم يرمزون للكهنة القديسين في كل زمان وبكل مكان. يُرمَز لهم بهذا العدد الكامل (24) أي 12، 12 أو الكهنة في العهدين القديم والجديد.
«من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة» (رؤيا 9: 5)
ترتيب تصاعدي، فالقبيلة صغيرة، واللسان أكبر. والشعب صغير، والشعوب تُكَوِّن أُمَّة. والعبارة تَعني كل البشر. لقد اشترى الرب البشرية كلها بلا تمييز بين إنسان وآخر بسبب القبيلة أو الشعب أو اللغة، كما قال مار بولس الرسول «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية 3: 28). أمام الله، لا يوجَد شعبٌ أفضل ولا لغة أفضل. فلا يجِبُ أن نُقَدِّس لُغَةً ما.
«وَجَعَلْتَنَا لإلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا 5: 10)
عبارة صريحة ترفض فكرة أن الأربعة والعشرين هم نوع من الملائكة. فليس في الملائكة كهنوتًا، وهم ليسوا على الأرض بل في السماء.
عبارة صريحة تشهد أن الاربعة والعشرين شيخًا هم كهنة الله، فَهُمْ يقولون «جَعَلْتَنَا لإلَهِنَا... كَهَنَةً». أمَّا أن يوصف الكهنة بأنهم ملوك يملكون على الأرض، ليس في هذا مشكلة؛ لأن مملكة المسيح مملكة روحية. هُمْ ملوك روحيون، يُطيعُهم شعبُهم الروحي، ويخضع لهم خضوعًا كاملًا. قال لهم الرب ملك الملوك «اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي» (لوقا 10: 16)، «وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ» (متى 18: 18). وخلال سِفْر الرؤيا، ستأتي صفات أخرى لهؤلاء الشيوخ، كلها تؤكد أنهم كهنة (رؤ 7: 11-17؛ 11: 16-18؛ 14: 2-3؛ 19: 4)
ولهؤلاء الكهنة سبعة تسبيحات في:
(رؤيا 4: 10-11؛ 5: 8-10؛ 5: 11-14؛ 11: 15-18؛ 14: 3؛ 19: 4)
«الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤ 1: 5)،
«وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ» (رؤ 1: 6).
«لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ» (رؤ 5: 9)،
«وَجَعَلْتَنَا لإلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً» (رؤ 5: 10).
المقطع الأول من الآيتين فيه حب وفداء، والمقطع الثاني فيه صيَّرنا ملوكًا وكهنة بالمعنى العام؛ فالمتكلمون هم الأربعة وعشرون كاهنًا. كلمة «جَعَلْتَنَا... كَهَنَةً» تنطبق عليهم بالمعنى الكامل للكلمة.
«فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا 5: 10)
هذا هو المُلْك الألفي الذي بدأ على الصليب. فالكنيسة ملكوت الله على الأرض، إذ قال الكتاب «يُرْسِلُ ابْنُ الإنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإثْمِ». وهؤلاء ليسوا في السماء بل على الأرض؛ لذلك قال الرب «دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا - الحنطة والزوان- إلَى الْحَصَادِ» (متى 13: 30). لقد قيَّدَ الرب المصلوبُ الشيطانَ ألف سنة (رؤ 20: 1-3)، وبدأ ملكوته الألفي، «الرب ملك على خشبة»، وسنملك معه
قدم الرب فداءَه على الصليب، واشترانا للآب بدمه من كل شعوب الأرض «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). والمتحدث هنا يقول «وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ... وَجَعَلْتَنَا لإلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً»، فهؤلاء هم الكهنة الأربعة والعشرون الذين قالوا تلك الترنيمة وليس الملائكة كما يظن البروتستانت. بدليل أن الرب اشتراهم بدمه.
![]() |
«وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ
وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ». (رؤيا 5: 11-12)
«وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ»: هذه هي الرؤيا الرابعة والأخيرة خلال الإصحاح الخامس، وفيها رأى منظرين، وسمع ترنيمتين. والمنظران هما:
1. «مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ حَوْلَ الْعَرْشِ» (رؤ 5: 11)،
وحَوْلَ الْعَرْشِ الْحَيَوَانَاتِ الأربعة غير المتجسدين، والكهنة الأربعة والعشرين. فهذه هي الدائرة الثالثة حَوْلَ الْعَرْشِ.
2. «كُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ وَمَا عَلَى الْبَحْرِ» (رؤ 5: 13)
والترنيمتان:
1. ترنيمة الملائكة للْخَروُف الْمَذْبُوحُ (رؤ 5: 12)
2. ترنيمة كل الخليقة لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ (رؤ 5: 13)
«وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ»
طوباك يا مار يوحنا. لقد تَمَتَعَتْ عيناك وأنت تقول «وَنَظَرْتُ»، وتَمَتَعَتْ أذناك وأنت تقول «وَسَمِعْتُ». من يعطينا أن ننظر ونسمع مثلك. كُلَّما أُصَلِّي أوشية الإنجيل وأقول "طوبي لعيونكم لأنها تبصر، ولأذانكم لأنها تسمع"، أتذكرك، وأنظر إليك. فصورتك أمامي في كل كنيسة عن يمين المسيح له المجد في صورة الافخارستيا فوق ووسط الحجاب، كما توجد بين الاثني عشر رسولًا. نعم إنه «صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ»، ما أعذبه. سمعتهم يُسَبحون في السماء بترنيمات السمائيين. وفي نهاية السِّفْر يختم مار يوحنا بنفس المعنى، ويقول «وَأَنَا يُوحَنَّا الَّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هَذَا» (رؤيا 22: 8)، مؤكِّدًا أنه سمع وتمتع بـ«صَوْت مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ... وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوف َأُلُوفٍ» (رؤيا 5: 11)
ظهور الملائكة بهذا العدد يعطي مشهدًا سماويًا جميلًا ومهيبًا. فالربوة عشرة آلاف (قضاة 20: 10)، وهو رمز للأعداد الهائلة. لقد ظهر مثل هذا المشهد في بشارة الملاك للرعاة بميلاد رب المجد إذ قال «وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي» (لوقا 2: 13). ومار بولس الرسول يقول «مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إلَى الْعَالَمِ (التجسد) يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ» (عبرانيين 1: 6). وهذا ما يشير إليه القداس الغريغوري "ألوفُ ألوفٍ وقوف قدامك، وربواتُ ربواتٍ يقدمون لك الخدمة". وقاله دانيال النبي «أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ» (دا 7: 10).
«صَوْت مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ
مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ
وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ» (7 صفات للحمل رمز لكمالهِ) (رؤيا 5: 11-12)
عملُ الملائكةِ التسبيحُ الدائم. والملائكة ألوف ألوف وربوات ربوات، لذلك صوتهم عظيم. هُمْ «مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ، خُدَّامَهُ الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ» (مز 103: 20-21). يسبحونهُ لا كالإله الخالق العظيم، بل كالإله المتأنس، ابن الإنسان الْمَذْبُوح في طاعةٍ حتى الموت للآب، ويخاطب داود النبي الآب: «تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (مز 8: 4-6)
(عب 2: 7). هذه هي تسبحة الملائكة، أما تسبحة الكهنة السابق ذكرها فكانت للخروف المذبوح من أجل فداء البشر.
فالملائكة يهتمون فيما للآب وطاعته،
والكهنة يهتمون فيما للبشر وفدائهم.
ومع هؤلاء الملائكة وأولئك الكهنة ارتفعت تسبيحات الخليقة كلها. وقيل «وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى الْبَحْرِ.. سَمِعْتُهَا قَائِلَةً لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَد الآبِدِينَ
![]() |
وَكَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ آمِينَ
وَالشُّيوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا» (رؤيا 5: 13-14)
ما أروع داود النبي في تسبحته إذ يقول بالروح القدس «بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ. فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ» (مزمور 103: 22). وهي كلمات تناسب تلك الكلمات في سِفْر الرؤيا. ولعل الملائكة لهم خدمات أخرى غير التسبيح، فكانوا ينزلون لخدمة الرب متجسدًا. ولذلك قال الرب «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإنْسَانِ» (يو 1: 51). وفي بُستان جثسيماني «وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ» (لوقا 22: 43). كما ظهر ملاكان يشهدان بصعود الرب في (أعمال 1: 10)، ومن عَمَلِهم أيضًا الدفاع عن أبناء الله، يقول الكتاب «مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ» (مز 34: 7). وقال الرب لمار بطرس «أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟» (متى 26: 53). وسيكون عملهم أيضًا إعداد البشر للدينونة إذ يقول «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إلَى أَقْصَائِهَا» (متى 24: 31). وسيرافقوا الرب في مجيئه الثاني «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ» (متى 25: 31).
هذه هي الدائرة الثالثة... ففي مركز الدائرة العرش الإلهي الكِروبيمي والخروف القائم كأنه مذبوح جالس في وسط العرش. أما الأربعة الحيوانات غير المتجسدين في عددهم الرباعي يُمَثِّلون كمال المكان. فالرب الجالس عليهم غير محدود (رؤيا 5: 6)، وهذا يُمَثِّل الدائرة الأولى. والدائرة الثانية حول العرش الأربعة والعشرون كاهنًا الذين يُمَثِّلون الكهنة في العهدين القديم والجديد، ثم تأتي الدائرة الثالثة، الملائكة الكثيرون «حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ والشيوخ وعَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ» (رؤيا 5: 11).
إنه نظامٌ وترتيبٌ وطقسٌ في السماء، كما أنه درجات روحية في القُرْب من الله. فالمسيح هو مركز الدائرة، وحوله دوائر مختلفة في درجات السمو، لكل واحدٍ رُتْبته وكرامته ودرجته. ونحن لا نستطيع أن نَصِلَ إلى الله في مركز الدائرة إلا من خلال الكهنوت في الكنيسة المقدسة، الذي تمثله الدائرة الثانية، ومن خلال الكروبين أعلى طبقة ملائكية. كما نحتاج إلى شفاعة الملائكة التي تمثلهم الدائرة الثالثة. إنهم جميعًا يقودونا إلى مركز الدائرة، وهم يطلبون عنا ويحملون صلواتنا إلى الجالس على العرش؛ لِقُربهم منه، كما يحملون لنا استجابة صلواتنا. لذلك رأينا الكهنة الأربعة والعشرين يحملون مجامر أو جامات من ذهب مَمْلُوءَةً بخورًا هي صلوات القديسين يقدمونها أمام العرش. فَهُمْ وسطاء وشفعاء حتى للقديسين.
لكن الكل يسبحون الله الجالس على العرش. فالملائكة يسبحون الله رغم بُعدِهم. هُمْ ليسوا قريبين مثل الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرين كاهنًا، لكنهم يشتركون معهم في التسبيح لله، لذلك لا ينبغي أن يُصيبَنا صِغَرُ النفس مهما كانت درجتنا الروحية، ولا يحاربنا إبليس فنتوقف عن تسبيحنا. علينا أن نتاجر بالوزنة الواحدة ولا نستصغرها، ونطمرها، بل نعمل ونربح. فرُبَّما نَصِل إلى مستوى صاحب الوزنات الخمس أو العشر، وربما نسبقهم.
«قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ» (رؤيا 5: 12)
مهيب هذا المنظر الرائع «صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ... رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ... قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ...».
صوتٌ واحد مُتَّحِدٌ، حُلوُ النغم، عظيم الارتفاع.
صوتٌ ملائكي يهز المشاعر، ويهز السماء.
«مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ» (رؤيا 5: 12)
الآن أرفعُ قلبي ليتأمل الملائكة القديسين يسبحون الحمل المذبوح. متى ننضم نحن البشر إليهم؟ نحن أولى بتسبيحك أيها الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ من أجلنا. إنهم يسبحونك عِوضًا عنا. قلوبنا تشكركم أيها الملائكة، فأنتم تستُرون تقصيراتنا أمام الحمل. نشتاق أن ننضم إلى صفوفكم، نسبح معكم نفس التسبحة الحلوة: «مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ».
بين تسبحة (رؤيا 4) وتسبحة (رؤيا 5)
الأولى: للخالق الجالس على عرشه. ورنمتها الحيوانات الأربعة، والأربعةُ وعشرون كاهنًا.
الثانية: للخروف المذبوح. ورنمتها الحيوانات الأربعة، والأربعة وعشرون كاهنًا، والملائكة، وكل الخليقة.
كان الفداء أعظم من الخِلْقة. الله بنفخةٍ أو بكلمةٍ منه «لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور 33: 9). أما الفداء، فَكَلَّفَه أن يتأنس في صورة عبد، ويموت على الصليب حاملًا آثامنا «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إش 53: 5).
«مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ»: هكذا رنَّم الملائكة بصيغة الغائب، أما الكهنة فكانوا يخاطبونه في ترنيمهم قائلين «مُسْتَحِق أَنْتَ.. لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا» (رؤيا 5: 9).
«مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ!» (رؤيا 5: 12)
سبع صفات سبَّحَ بها الملائكة الخروف المذبوح، ولم تنتهِ بهذا مشاعر تسبيح الله وشُكرهِ، بل ظلت كل الخليقة تُسَبِّحه أكثر قائلةً:
«لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا 5: 13). وقد تكررت سُباعية التسبيح هذه مرة أخرى في الإصحاح السابع من السِّفْر، عندما سبَّحه الملائكة والكهنة والحيوانات الأربعة قَائِلِينَ: «آمِينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإلهِنَا إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ!» (رؤيا 7: 12). أما هذه الصفات التي وُصِفَ بها رب المجد الحمل المذبوح فقد وُضِعَتْ بحكمة.
وُصِفَ بالحكمة، فهو بالحقيقة أقنوم الحكمة «الْمُذَّخَر فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كولوسي 2: 3). وعندما ارتفع الرب على الصليب، تجلَّتْ فيه أعظم صورة للحكمة، عندما التقى العدل الكامل مع الرحمة الكاملة.
والقوة والقدرة: ربما تُفهَم صورة الخروف المذبوح على أنها صورة الضعف، ولكنها في الحقيقة هي القوة الحقيقية، قوة الحب والبذل، قوة الحكمة. حتى قال مار بولس بفهمه العميق إن «ضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ» (1 كورنثوس 1: 25). فالمسيح على الصليب أقوى من أي وقت آخَر، لذلك تُنشِد له الكنيسة وقْتَ صَلْبِه لحن "بِكِ اثْرُونُسْ" أي "عَرْشُكَ يا الله". ويهتف له داود النبي مُرنم إسرائيل الحلو "الرب قد ملك على خشبة".
«وَالْكَرَامَةُ» (رؤيا 5: 12-13؛ 7: 12) رغم إهانة الخروف المذبوح أثناء صلبهِ، إذ «بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟» (متى 26: 67-68)، ثُم جَلَدوه (متى 27: 26)، وَ«عَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً. وَضَفَرُوا إكْلِيلًا مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَ... نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ... وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ. قَائِلِينَ:... إنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ! وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضًاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا:. خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. إنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ! قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللَّهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إنْ أَرَادَهُ...! وَبِذَلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ.» (متى 27: 28-40). إلا أن الصليب كان أعظم كرامة للمسيح له المجد ولنا؛ «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ» (يو 3: 16). ونحن الآن في فرح مع القديس بولس الرسول نهتف «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 14).
«وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ
وَمَا عَلَى الْبَحْرِ كُلُّ مَا فِيهَا» (رؤيا 5: 13)
إنه دليل على لاهوت المسيح المذبوح، أن تتعبد له كل الخليقة مع الآب الجالس على العرش «لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ. وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي 2: 10-11)
«وَكُلُّ خَلِيقَةٍ... عَلَى الأَرْضِ» حسنًا قال داود النبي «سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ وَكُلَّ اللُّجَجِ. النَّارُ وَالْبَرَدُ الثَّلْجُ وَالضَّبَابُ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ. الْجِبَالُ وَكُلُّ الآكَامِ الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ وَكُلُّ الأَرْزِ. الْوُحُوشُ وَكُلُّ الْبَهَائِمِ الدَّبَّابَاتُ وَالطُّيُورُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ» (مز 148: 7-10)
«وَمَا عَلَى الْبَحْرِ»: يقول مار يوحنا الرائي «وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ: «عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هَكَذَا» (رؤيا 16: 5). إذن فالمياه لها ملائكة يسبحون الله.
«سَمِعْتُهَا قَائِلَةً: لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ» (رؤيا 5: 13)
هذه التسبحة لله الآب الخالق الجالس على العرش. فالخليقة تُسَبحه وتشكره، وأيضًا لله الابن الفادي الحمَل، فالخليقة تُسَبِّحه وتَشْكُره لإنقاذها من الهلاك، فتعترف بفضل الخالق والفادي معًا.
«وَكَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ: «آمِينَ» (رؤيا 5: 14)
تجاوبت الحيوانات الأربعة أعلى طغمة سمائية مع تسبيح الخليقة كلها،
وشرح إرميا النبي كلمة أمين قائلا «آمِينَ. هَكَذَا لِيَصْنَعِ الرَّبُّ» (إر 28: 6).
«وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤ 5: 14) وهذا أيضًا تجاوُب الكهنة الأربعة والعشرين أعلى طغمة أرضية مع التسبيح، مقرونًا بالعبادة والسجود.
جال بنا الإصحاح الخامس من سِفْر الرؤيا مع القديس يوحنا الحبيب في السماء، ونزل بنا إلى الأرض، بل إلى ما تحت الأرض وما على البحر.
وقد ظهر الرب خلال هذا الإصحاح في أربع رؤى:
1. ظهر كالأسد الخارج من سبط يهوذا ليفتح السِّفْر ويفك ختومه (رؤ 5: 5)
2. رأيناه وسط العرش والحيوانات الأربعة والكهنة الأربعة والعشرين (رؤ 5: 6)
3. خروف قائم كأنه مذبوح أخذ السِّفْر من يمين الجالس على العرش ليفك ختومه (رؤ 5: 7) وهنا سمعنا أصوات التسبيح في:
الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون كاهنًا بتسبحتهم الجديدة (رؤ 5: 9-10)
ألوف ألوف وربوات ربوات الملائكة بتسبحتهم المرتفعة (رؤ 5: 5-12)
كل الخليقة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض بتسبحتهم الرباعية (رؤ 5: 13-14)
4. وأخيرًا رأينا موافقة الحيوانات الأربعة أعلى طغمة سمائية، والأربعة والعشرين كاهنًا أعلى طغمة أرضية، على ما قدَّمَتْه جميعُ الخلائق من تسبيح.
إنها صورة الرب القاضي العادل، وقدِ اعتلى مِنَصة القضاء، فسبَّح ورتَّل له جميعُ الواقفين، وقدموا له السجود.
إنه الخروف المذبوح، وقد بدأ حُكْمَه وقضاءه، وهذا ما سنراه في الإصحاح السادس. لكن الإصحاح الخامس كان حفلة استقبال القاضي.
وقد كان ضمن خدمة الكهنة في السماء، الشرح لمار يوحنا (رؤيا 5: 5؛ 7: 13). وهناك ملاكٌ أيضًا شَرح لمار يوحنا (رؤيا 1: 1؛ 22: 1، 16)، وهذا يُشبِه جبرائيل الملاك الذي شَرح لدانيال النبي رؤياه (دانيال 8: 16).
_____
(20) أشار سفر الرؤيا إلى ملائكة أقوى من غيرهم (رؤيا 10: 1؛ 14: 15؛ 18: 21).
(21) ستأتي الإجابة بعد قليل في العدد الخامس.
(22) وهي غير الشفاعة الكفارية التي للمسيح الإله المتجسد وهو على الصليب في حالة تأنسه «لَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ» (1 يو 2: 1).
(23) القداس الكيرلسي هو قداس القديس مار مرقس الرسول وأضاف عليه البابا كيرلس عمود الدين بعض الأواشي والمردات.
(24) مثل قداس القديس يوحنا الحبيب بن الرعد.
← تفاسير أصحاحات السفر: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرؤيا 6![]() |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص يوحنا فايز زخاري |
تفسير الرؤيا 4![]() |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/fr-youhanna-fayez/apocalypse/chapter-05.html
تقصير الرابط:
tak.la/zpac5j8