← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33
يناقش بولس الرسول اليهود في هذه الرسالة في ثلاثة مواضيع:-
1. بنوتهم لإبراهيم بالجسد كامتياز خاص لهم. وأوضح لهم أن بنوتهم له بالإيمان أهم، والأهم بنوتهم لله، هذه التي كانت بالمسيح.
2. الحاجة ليست للناموس، بل أن غاية الناموس هو المسيح. فالناموس عجز عن التبرير، بل لم يستطع سوى أن يكشف عن الخطية فقط، أما الإيمان بالمسيح فيبرر.
3. امتياز اليهود كشعب مختار، وهذا ما يناقشه في الإصحاحات (9-10-11) وهذا أمر حساس بالنسبة لليهود، والرسول بحساسية شديدة يود أن يكسبهم دون أن يغلق الباب أمام الأمم. والرسول لا ينكر أن الله قد اختارهم كشعب له، إنما أكد أن هذا الأمر لا يقوم على امتياز فيهم أو عن استحقاق خاص لهم، إنما محبة الله "الذي يرحم من يشاء" وخلال هذا الفهم أعلن الله أيضًا حبه للأمم فاختارهم أيضًا. وفي ص (11) يحذر الأمم من أن يتكبروا على اليهود، فاليهود هم الزيتونة الأصلية والأمم قد طعموا فيها. وفي نهاية الأيام سيقبل اليهود الإيمان بالمسيح بعد جحودهم لزمان طويل. وفي ص (11) تحذير للأمم من كبريائهم، فالكبرياء يعرض صاحبه أن يقطع من شجرة الزيتون (شعب الله سواء في العهد القديم أو العهد الجديد).
إن الرسول في هذا الإصحاح لا يعالج مشكلة حرية الإرادة عند البشر، بل حق الله في اختيار الأمم، كما كان له الحق في اختيار اليهود، لكن المشكلة أن اليهود أنكروا على الله حقه في اختيار الأمم. والرسول يريد أن يثبت إن اختيار الأمم من حق الله. لقد رحم الله اليهود دون فضل منهم سوى رحمة الله، وهذه المراحم لها حق العمل في غيرهم أيضًا، ولكن الرسول خلال الرسالة يؤكد على حرية الإرادة الإنسانية وتقديس الله لها، بل هو واهبها.
يقول بولس الرسول في هذا الإصحاح أن الله كخزاف (صانع آنية الفخار من الطين) حُر في أن يصنع آنية للكرامة من كتلة من الطين، وأن يصنع آنية هوان من كتلة أخرى
(آية 21). وفهم البعض هذا الرأي بطريقة خاطئة ففهموا أن هذا ضد حرية الإنسان، فالله اختار وحدد مثلًا أن فلان يكون آنية هوان، ومهما فعل فلا بُد أن يهلك، فالله اختار هذا. فالله حر أن يخلق موسى آنية كرامة وأن يخلق يهوذا الإسخريوطي آنية هوان.وهذا مفهوم ساذج. والمهم أن نعرف لماذا كتب بولس الرسول هذا الكلام فاليهود يقولون عن أنفسهم نحن شعب الله المختار وحدنا، وليس من حق الله أن يختار الأمم ليكونوا شعبًا له. وبولس يرد قائلًا بل من حق الله أن يُعيِّنْ اليهود كشعب مختار فترة من الزمان والأمم كإناء للهوان فترة من الزمان ثم هو حرّ في أن يقبل الأمم وقتما يشاء. إذًا الموضوع الذي يناقشه بولس هنا ليس هو حرية الإنسان بل حرية الله. فالمهم أن نفهم المناسبة التي قيلت فيها الآية حتى نفهمها.
وما نريد أن نؤكده، فهذا مفهوم الكتاب المقدس كله، أن الله ليس ضد حرية الإنسان، فالله لا يُعيِّنْ إنسان للخلاص وإنسان للهلاك، بل أن الله يريد أن الجميع يخلصون (1تي 4:2). وما يعطل إرادة الله هذه هو حريتي أنا وإرادتي أنا (مت 37:23).
أمّا حرية الإنسان فهي واضحة من تمرد كثيرين وشعوب كثيرة على الله بل وإهانتهم لله (الشعوب الشيوعية لفترة من الزمان)، ومع ذلك فالله يشرق عليهم بشمسه ويعطيهم طعامًا وشرابًا.
وإذا كان الله هو الذي يحدد من يهلك ومن يخلص، فكيف يحاسب الله الناس يوم الدينونة، وكيف تنطبق الآية تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت. ما نود أن يُفهم أن الله مثل المدرس، يعرف من سينجح ومن سيرسب في الإمتحان، ولكنه يبذل مجهوده بأمانة في التدريس لكل واحد في فصله فالله أعطى الكل فرص للخلاص، ولكن إستجابة كل واحد لعمل الله يكون بحسب حريته هو، الله يعطي كل واحد وزنات، وسيطلب من كل واحد بحسب ما أعطاه، فمن أعطاه خمس سيطلب منه خمس ومن أعطاه إثنتين سيطلب منه إثنتين.
الله يريد أن يخلق الكل آنية مجد والدليل أن الله خلق الإنسان على صورته ولما فسد الإنسان جاء المسيح وأرسل الروح القدس ليعيدنا ثانية إلى صورة الله (كو 10:3 + غل 19:4). فالله إذًا لا يريد أن يخلق إنسانًا ليكون آنية هوان. ولنأخذ أمثلة.
الشيطان: الله خلق الشيطان في أجمل صورة ليكون آنية مجد، ولكنه هو بنفسه اختار أن يكون آنية هوان، ولاحظ المرثاة التي قالها الله بحزن إذ سقط الملاك الكاروبيم وأصبح شيطانًا بعد أن كان كامل الجمال. ولاحظ الأوصاف التي قالها الله عن الشيطان وكيف كان (أش12:14+ حزقيال11:28-15). فإرادة الله أن يكون كل خليقته آنية مجد وأن كل خليقته تخلص. ولكن إبليس اختار الخطية، والله تركه ليكون آنية للهوان.. ولكن كان له أيضًا دور في خطة الله الأزلية لخلاص أولاده فكان الشيطان أداة تأديب لأولاد الله. فمثلًا كان الشيطان هو الذي دبر خطة الصليب لفداء البشر. وهو الذي سمح له الله بأن يضرب بولس ليمنعه من الكبرياء. ويؤدب أيوب ليتنقى ويبرأ من خطيته.
يهوذا: هل اختار الله يهوذا ليكون آنية هوان؟ أبدًا. فالله اختاره من بين التلاميذ الاثني عشر، وأعطاه كما أعطى بقية التلاميذ، نفس المواهب، وتتلمذ على يد السيد المسيح ثلاث سنوات كالباقين، وسمع تعاليم المسيح، ورأى معجزاته، بل شفى مرضى وأخرج أرواح نجسة، بل وغسل السيد قدميّ يهوذا. لكن يهوذا هو الذي اختار أن يكون آنية هوان بعد أن خلقه الله وأعده المسيح ليكون آنية مجد. كان الله يعلم أن يهوذا سيعمل هذه الخيانة لكن هل يمكن أن يقال أن المسيح أعده ليكون آنية هوان، ولاحظنا أن يهوذا حصل على نفس فرص التلاميذ الاثني عشر.. ولكن خطأ يهوذا كان جزءًا من خطة الخلاص، فالله قادر أن يخرج من الجافي (خيانة يهوذا) حلاوة (الخلاص).
ويهوذا دخله الشيطان لأنه رفض بحريته كل فرص الخلاص، التي عرضها عليه السيد المسيح، ولاحظ آخر محاولة للمسيح أنه يأخذه في حضنه بل يعطيه اللقمة في فمه معلنًا محبته للنهاية، بل كان عتاب المسيح له الذي يكسر القلب "أبقبلة تسلم ابن الإنسان" ربما دفعه هذا العتاب للتوبة، ولو فعل لقبله الله. ولما رفض يهوذا كل فرص الخلاص تخلى عنه المسيح، فصار صيدًا سهلًا للشياطين، فالمسيح كان يحفظ تلاميذه من الزلل (يو12:17) "حينما كنت معهم كنت أحفظهم" ولما رفع المسيح حمايته عنه بعد أن ترك هو المسيح بكامل إرادته صار آنية للهوان (ما حدث كان يشبه ما قيل عن شاول الملك أن روح الرب فارقه فدخله روح رديء (1صم14:16).. ولكن حينما دخله الشيطان استخدمه الله أيضًا كجزء من الخطة الأزلية للخلاص، فكل خليقة الله، كل واحد له دوره في خطة الخلاص. فالله خلق الإنسان حرًا ولا يجبره على شيء، ولكنه يعرف مدى استجابته للفرص التي يعطيها له الله،فمن استجاب لهذه الفرص كان له دوره في خطة الخلاص كآنية مجد، ومن رفض يد الله الممدودة له صار له دوره في خطة الخلاص أيضًا ولكن كآنية هوان (أم4:16) وما الذي يمنع الفخاري من عمل كتلة من الطين آنية للمجد؟ أن توجد زلطة أو قطعة حجر في الطين، وهذا يماثل وجود حب الخطية في قلب إنسان، وهذا هو الذي يحوله لآنية هوان.
فالله يعطي لكل واحد فرص متساوية للخلاص، حتى تنطبق الآية "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت". ولكن كما رأينا لكل واحد دوره في خطة الخلاص حتى لو كان إناء هوان. الله خلق الكل لغرضه والشرير أيضًا ليوم الشر (أم4:16).
فرعون: موسى يطلب منه خروج الشعب فيرفض وتبدأ الضربات. الله لم يجعله يعاند، لكن بعد أن عاند عدة مرات، استغل الله عناده.
قسى الله قلب فرعون= أي تركه على قساوته نتيجة لعناده مع الله. ولكن الله استغل عناده وقلبه القاسي ليخرج من هذا خير لكلا الشعبين اليهودي والمصري، فاليهود عرفوا من هو يهوه إلههم، وعرفوا إمكانياته الجبارة وأن آلهة المصريين هي لا شيء أمامه، والمصريين عرفوا تفاهة آلهتهم أمام الله. ما يمكن أن نقوله أن الله لم يخلق أو يجعل فرعون معاندًا، لكن الله استغل عناده وغباوة قلبه ليكون آلة وجزءًا من خطة الخلاص، فالله يستغل أخطاء البشر لتنفيذ خطته للخلاص.
الله يعمل بنعمته مع كل إنسان ، فالله يريد أن الجميع يخلصون (1تى2: 4) لذلك رأينا في مثل الزارع (مت13 : 1 - 9) أن الزارع (الله) وهو يعلم بنوعية كل نوع من الأراضي لم يحرم أي نوع منها من بذاره سواء الأرض الجيدة أو المحجرة أو التي بها شوك بل حتى الطريق نال نفس النصيب.
وهذا قد عمله الله مع فرعون فقد دعاه موسى وحذره وبدأ فرعون بعد عدة ضربات بسيطة يفهم ويتجاوب ويقول لموسى وهرون صليا عني، بل يعترف بأنه أخطأ هو وشعبه (خر8: 28 + 9: 27). بل عجيب هو الله في نعمته التي يفيض بها حتى على مقاوميه، فلقد أخبر فرعون بأن عليه أن يحمي مواشيه التي في الحقل حتى لا تهلك من ضربة البَرَدْ (خر9 : 19). ولقد رأى فرعون أن كل ما حذَّره الله به قد حدث، فكان عليه أن يفهم من هو الله وما هي الخطورة في أن يعانده، ولكنه هو الذي قسَّى قلبه، ولماذا كان يقسِّى قلبه؟ لأن هناك شهوة في قلبه، فهو يريد أن يبقي شعب الله كعبيد يعملون مجانا في مقابل طعامهم. والله كما يقول بولس الرسول " لا يُشْمَخ عليه " (غل6: 7) فلا يستطيع أحد أن يتمتع بنعمته وهو يعانده ظانًا أنه يستطيع أن يجمع بين نعمة الله وبين الاستمتاع بشهواته، وهذا ينطبق الآن على كل خاطئ.
حتى الآن كانت نعمة الله تحفظ فرعون من الغضب العظيم، فحتى الآن لم تحدث خسائر للبشر، ولم تهلك نفس إنسان فالخسائر محصورة في المزروعات والحيوانات وبعض المضايقات كالحشرات وخلافه.
ولكن أمام إصرار فرعون على تحدي إرادة الله، منع الله نعمته الحافظة عن فرعون فبدأ الغضب العظيم وبدأت الضربات تشتد ويموت الأبكار ثم يغرق جيش فرعون في البحر الأحمر.
هذا هو نفس المعنى الموجود في الآية " أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض " (رو1: 28) فالله لم يعطهم فكر خاطئ بل هو رفع عنهم نعمته الحافظة التي لا يستحقونها، فهم إستمروا في عنادهم مع الله يَجرون وراء شهواتهم، فإنحدروا إلى أهواء الهوان (رو1: 26).
شاول الطرسوسي/ بولس الرسول:- شاول الطرسوسي كان إناء هوان وهو يضطهد
الكنيسة ويقتل المسيحيين، ولكنه لم يعاند دعوة الله فتحول لآنية كرامة. وهكذا بتوبة أي إنسان وإستجابته لنداء الله يتحول من آنية هوان لآنية كرامة. فالله يحاول مع كل إنسان ليتوب ويتحول إلى آنية كرامة "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" (أر18:31) إذًا الله يدعو كل واحد للتوبة، ومن يستجيب يصير آنية كرامة.
قصة الشعب المختار:- الله اختار اليهود لأنهم "أحسن الوحشين" ولأن آبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب كانوا الأفضل في هذا العالم. وذلك ليعد هذا الشعب ليأتي منه المسيح، ولكن اليهود فهموا هذا على أنهم هم شعب الله المختار والباقين مرفوضين (بل أسموهم كلاب)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ولكن حين يأتي المسيح يأتي للكل، فالله هو إله العالم كله. هذا يشبه اختيار قطعة أرض وتنظيفها وإعدادها وزراعة نوع من القمح الممتاز، ومعالجة هذا النوع، حتى الوصول به لأفضل سلالة ممكنة. وبعد ذلك يأتي التوسع في زراعتها في كل الحقول. وما كان للأمم أن يعترضوا لماذا لم يأتي منهم المسيح، فالمسيح لا يمكن أن يأتي من كل شعوب العالم في وقت واحد، ولا بُد أن يأتي من شعب تم إعداده. وليس لليهود أن يعترضوا على خلاص الأمم، فالله إله الجميع، اختارهم ليكونوا شعبه في وقت معين ولهدف معين، انتهى بمجيء المسيح. وأولًا وأخيرًا ليس لأحد أن يعترض على الله فحكمته فوق الجميع (رو33:11-36).
خلاصة الموضوع انه لا يصح أن يقول أحد مبررًا خطيته أن الله خلقه هكذا كآنية هوان، فكل واحد يعلم في داخله أنه يخطئ
بإرادته. ونلاحظ أن بولس الرسول يشرح أنه حتى من كان في فترة من الزمان آنية هوان، هو قادر أن يتحول لآنية مجد لو قدم توبة وطهر نفسه "ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضًا وتلك للكرامة وهذه للهوان فان طهر احد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدسا نافعا للسيد مستعدا لكل عمل صالح" (2تى2: 20، 21).
آية (1): "أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ:"
بعد أن تأمل بولس الرسول في النعمة التي حصل عليها والتي هو فيها مقيم والمجد الذي ينتظره بعد ذلك. يقف فجأة ليتذكر إخوته وكيف حرموا أنفسهم مما حصل هو عليه. بولس الذي كان يخدم ويتألم حتى يصل أولاده لصورة المسيح، نجده هنا وقد تشبه بالمسيح في مشاعره ومحبته:
1. الذي بكى على أورشليم.
2. الذي يريد أن الجميع يخلصون [لو41:19، 42+ 1تي4:2]. أقول الصدق في المسيح= قوله في المسيح تلخص كل ما أخذه بولس الرسول بالإيمان. وتعني أنه بارتباطه بالمسيح وإتحاده به صار لا يستطيع أن يقول سوى الصدق. وضميري شاهد لي بالروح القدس= ويشهد على قولي هذا ضميري الذي إستنير بالروح القدس.
آية (2): "إِنَّ لِي حُزْنًا عَظِيمًا وَوَجَعًا فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ."
لقد اتهموا بولس بمعاداة اليهود (أع28:21 +22:22 + 24:25). وهو هنا يؤكد محبته العميقة لهم. بل إن حبه لليهود ورغبته في خلاصهم لهو دليل على محبته لله التي أعلنها في نهاية ص8. فمحبته لله تظهر في أنه يريد خلاص نفوس اليهود، والله يريد خلاص نفوس كل الناس. والمسيح مات لأجل الجميع. وأن إيمان الجميع يمجد اسم الله. وأيضًا حزنه راجع لعدم إيمانهم فهم إخوته بالجسد.
آية (3): "فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ،"
هذه العبارة تشير لمحبته الشديدة لإخوته. حسب الجسد= فهناك إخوة الآن حسب الروح. فالروح جمعنا كلنا في جسد المسيح الواحد، وكأبناء صرنا نصلي كإخوة قائلين "أبانا الذي في السموات". هذه الآية تؤكد رغبة الرسول الشديدة في رجوع اليهود وإيمانهم بالمسيح.
وفي نهاية ص8 سمعنا من الرسول أن لا شيء يفصله عن محبة المسيح، فهل يقصد بأنه مستعد لأن يضحي بالمسيح؟ قطعًا لا، فهو فرحان ويفتخر بما حصل عليه، ولكنه في محبته يقول أنه يتألم ألمًا شديدًا لحرمان إخوته مما يتذوقه هو. مثال:- أب ذهب في مأمورية في بلد بعيد وهناك تذوق أطعمة لذيذة جدًا، هنا يقف ليفكر في زوجته وأولاده المحرومين من هذه الأطعمة، ويقول يا ليتني ما جئت إلى هنا حتى لا أتذوق هذا وأحبائي محرومين منه. لكنه قطعًا هو سعيد ويتلذذ بما يأكله. سوف يوجد في داخل هذا الأب نوعين من المشاعر وهذا ما حدث مع بولس. وهناك تفسير لطيف للقديس فم الذهب لهذه العبارة، بأن إبراهيم قَدَّمَ إسحق ابنه ذبيحة وهو مؤمن أن الله قادر أن يقيمه. وبولس يقدم نفسه هنا ذبيحة عن إخوته مؤمنًا أن الله لن يسمح لبولس أن يُحرم من المسيح، بل سيأتى باليهود إلى الإيمان. وبهذا يتمجد الله بإيمانهم، ففي إيمان اليهود بالمسيح مجدًا لله. فبولس بهذا يطلب مجد الله حتى لو علي حساب نفسه لمحبته في المسيح. هنا بولس يشبه موسي الذي قال إغفر خطيتهم وإلاّ فأمحني من كتابك (خر32:32). هنا لن يعتبر المسيح أن بولس يريد أن يترك الإيمان بل هو سيزداد بهاءً ومجدًا في عيني الله لأنه يمارس عمل محبة.
آية (4): "الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ،"
حزن بولس على الإسرائيليين لأنهم ابتعدوا عن الخلاص الذي أعده المسيح، مع أنهم أحفاد يعقوب الذي أخذ اسم إسرائيل كتكريم له، وهم حصلوا على اسم أبيهم كتكريم لهم (تك 32: 28) وقد تبناهم الله، وظهر لهم في مجد. وأعطى لهم العهد القديم والناموس..
إسرائيليون= كلمة إسرائيل أي يملك كالله. وإسرائيل ملك إلى حين. ولكن إسرائيل الحقيقي (الكنيسة) لا تملك في الزمنيات، بل تنعم بشركة المجد الإلهي مع ملك الملوك (رؤ6:1). وإسرائيل هو لقب فخر وعزة عند اليهود ويشير للقوة والمجد عكس يعقوب الذي يشير ليعقوب الضعيف الهارب.
التبني= قال الله عنهم إسرائيل ابني البكر (خر22:4 + هو1:11 + تث1:14 + أر9:31). ولكنهم مارسوا العصيان (أش2:1 + مل6:1). لذلك احتاجوا لتغيير شامل بسكنى روح التبني فيهم، وطريق هذا التبني الإيمان بالمسيح.
الْمَجْدُ= هم الشعب الوحيد الذي رأى مجد الله عيانًا (خر17:24) وأيضًا بعمود نور وعمود سحاب (خر34:40-38 + 1مل11:8). وكان مجد الله يظهر من بين كاروبيّ تابوت العهد، ولما أخذ الفلسطينيون تابوت العهد قالت امرأة فينحاس "زال المجد من إسرائيل" والمسيح الآن، هو مجد شعبه (زك2: 5)، المسيح وسط شعبه ويسكن فيهم.
العهود= الله دخل في عهود مع شعبه ولكنهم تجاوزوها (هو1:8 + حز 17: 18) لذلك صار المؤمنون في حاجة للالتقاء مع الله على مستوى عهد جديد ينقش داخل القلب بالروح القدس. ولا ننسى أن الله دخل في عهود مع الآباء إبراهيم وموسى. ولكن هذه العهود كانت حول ميراث كنعان، أما العهد الجديد فالميراث الموعود هو السماء.
الإشتراع= هي شريعة أعطاها الله نفسه، وليس كباقي الشعوب الذين وضع الناس شرائعهم، هم نالوا شريعة لكنهم لم يحفظوها.
العبادة= مبادئ وأصول خدمة الله من طقوس وصلوات وسجود وتسبيح وأعياد، وذبائح (والكل رمز للعهد الجديد).
والمواعيد= هم نالوا وعودًا كثيرة مثل ميراث أرض كنعان، والوعد بميلاد إسحق، وكلها مواعيد مفرحة. وأهم وعد حصل عليه اليهود هو أن المسيح يأتي منهم، لذلك فمن يؤمن منهم بالمسيح هو الذي يظل إسرائيلي حقًا، ومن يرفض المسيح فهو ليس إسرائيلي بالحقيقة، لذلك قال المسيح عن نثنائيل أنه إسرائيلي حقا لا غش فيه حين أتى إليه ثم آمن به (يو 47:1) فما كان يميز اليهود أنهم أولاد وعد، فإذا رفضوا الموعود به يصيروا هم مرفوضين.
آية (5): "وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ."
ولهم الآباء= الآباء البطاركة (إبراهيم وإسحق ويعقوب..) ومنهم المسيح= جاء منهم بالجسد ولذلك خصهم الله بكل هذا التكريم، ويكفيهم هذا فخرًا. المسيح حسب الجسد.. الكائن على الكل إلهًا= نرى هنا المسيح الإله المتأنس. بلاهوته المتحد بناسوته. الكائن على الكل إلهًا= تعني أن الله هو إله اليهود والأمم أيضًا.
آية (6): "وَلكِنْ لَيْسَ هكَذَا حَتَّى إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ. لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ،"
لَيْسَ هكَذَا
= أي ليس كما يتصور أحد إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ قَدْ سَقَطَتْ إذ أن ما يبدو للعين أن الله قد رفض اليهود بعد كل هذه البركات والمواعيد التي حصلوا عليها. ولكن لنفهم أن وعود الله لليهود لم تسقط، بل هي مستمرة لمن يؤمن منهم بالمسيح، الذي هو هدف ناموسهم. فإسرائيل الحقيقي تفهم بمعنى روحي وليس لمن هم حسب الجسد (رو2: 28 ، 29). وإسرائيل الروحي هو من بقى أمينًا على ميراثه الإيماني الذي تسلمه من الآباء، فآمن بالمسيح، الذي هو منتهى الوعد والبركة لإبراهيم ولإسرائيل، وأمّا من رفض المسيح، فهم نسل إبراهيم حسب الجسد، وليس هم أصحاب ميراث الوعد ببركة إبراهيم (9 : 7، 8).إسرائيل الحقيقي هم من شابهوا أبوهم إبراهيم في إيمانه وأعماله (يو8: 39). إسرائيل الحقيقي هم من إنفتحت عيناه فعرف المسيح مثل التلاميذ والرسل والـ 3000 الذين آمنوا بعظة بطرس. ولماذا لم يعرف اليهود المسيح؟ المسيح هو صورة الآب "ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ" (كو1: 15). فمن عرف الآب كان بالضرورة سيعرف الابن يسوع المسيح الذي هو صورة الآب "لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا. وَمِنَ ٱلْآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلْآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ" (يو14: 7-9). ولكن اليهود بسبب كبريائهم صاروا لا يرون سوى أنفسهم، وصارت لهم صورة مشوهة ومغلوطة عن الله، فلم يعرفوا المسيح. لذلك قال لهم رب المجد "لسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا" (يو8: 19). كبرياءهم منعهم من معرفة الله، فكما قال إشعياء النبي أن الله يسكن عند المتواضعين والمنسحقى القلب (إش 57: 15). وداود يقول في المزمور الخمسون "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله". أما المتواضعين منهم فعرفوه وآمنوا به، لذلك قال له بطرس "يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ" (يو6: 68).
ورأينا في (رو2: 28 ، 29) أن إسرائيل الحقيقي هو من ختن قلبه بالروح أي أعطاه الروح نعمة قطعت محبة الخطية من قلبه:-
1. والروح الآن في العهد الجديد لا يفعل هذا إلا لكل مؤمن معمد بالماء والروح.
2. أما في العهد القديم، فكان المتواضعين البسطاء هم من يقنعهم الروح باحتياجهم لمخلص إذ يدركون عجزهم عن تنفيذ الوصايا. ومن أدرك هذا ورفع عينيه نحو السماء طالبا مراحم الله كالعشار إستجاب له الله، وأعانه الروح فإنفتحت عينيه فعرف المسيح وآمن به. ومن إنتفخ طالبا إثبات بره بدون معونة الله كالفريسى لم يؤمن بالمسيح. وهذا لا يكون إسرائيليًا حقيقيًا.
3. وهؤلاء اليهود الذين آمنوا بالمسيح وأيضًا الأمم المؤمنين به أسماهم الرسول إسرائيل الله (غل16:6). وحينما يضاف اسم الله لشئ، ففي المفهوم العبري هذا يعني تضخيم الشيء، كما نقول جيش الله= جيش ضخم، وهكذا جبل الله.. وحينما يقول إسرائيل الله يعني الكنيسة التي ضمت كل العالم يهودًا وأمم.
آية (7): "وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ «بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ»."
يفتخر اليهود بكونهم نسلًا لإبراهيم، والرسول يرد عليهم، أن ليس كل أولاد إبراهيم بالجسد هم أولاد وعد، فإسماعيل مثلًا لا يُدعى نسلًا لإبراهيم على أساس الوعد، ولاحظ أن الوعد كان بإسحق الذي هو رمز للمسيح فكلاهما من مستودع لا يمكن أن ينجب (يلد) بحسب الطبيعة فالوعد إذًا خاص بمجيء المسيح الذي هو ليس بحسب الطبيعة. لذلك فإن الإسرائيلي الحقيقي هو من آمن بالوعد أي آمن بالمسيح. لذلك قال السيد عن نثنائيل أنه إسرائيلي حقًا إذ قال عن المسيح أنه ابن الله وملك إسرائيل. هنا الرسول يقدم إسحق رمزًا للبنوة، لأنه ليس حسب قوة الجسد ولا ناموس الطبيعة، بل على حسب قوة الوعد الإلهي، إذًا نسل إبراهيم هم الذين ينعمون بالولادة لا حسب الجسد بل حسب الإيمان. هكذا نحن أيضًا نولد بواسطة كلمة الله، ففي جرن المعمودية تُشَكِّلْنا وتلدنا كلمة الله (أف 26:5). إذًا نحن نولد من جديد مثل إسحق بعد أن غلبتنا شيخوخة الخطية. ومازلنا نولد بالمعمودية لا خلال الجسد ولا بهوي إنسان، إنما بالروح القدس بقوة الكلمة. كما قال القديس يوحنا "وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ ٱللهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِه. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلَا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللهِ" (يو1: 12-12). الخلاص ليس موضوع بنوة جسدية لإنسان مهما كان هذا الإنسان، بل الخلاص هو حياة أبدية لا توجد سوى عند الله وحده. ونحن بالولادة الجسدية نولد أموات بسبب الخطية، فالأمجاد السماوية لا يدخلها أموات. آدم الذي مات بالخطية يلد أولادًا أموات. وجاء ابن الله ليتحد بنا لنصير أولادًا لله لنا حياة أبدية هي حياة الله. نحن في المسيح صار لنا بنوة حقيقية لله بها نخلص، وهذه البنوة أخذناها بوعد فائق للطبيعة من الله، وبعمل المسيح الفدائى. نحن كنا أموات بسبب الخطية، كما كان إبراهيم ميت جسديا، وهكذا مستودع سارة كان ميتًا، وبحسب وعد الله خرجت حياة من بطن سارة الميت. وعد الله أن يُخْرِج من الموت حياة، يحول الموت الذي فينا إلى حياة. ومن قَبِلَ المسيح وآمن به وتعمد يتحد به ويصير إبنًا لله له حياة أبدية هي حياة المسيح وهذا يخلص.
الوعد: بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ = هو الوعد بخروج إسحق كحياة من مستودع ميت. ونلاحظ أن الله أعطى إبراهيم وعد بأن في نسله تتبارك كل الأمم "وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلْأَرْضِ + وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ" (تك12: 3 + 22: 18). فهل إسحق ابن إبراهيم هو الذي فيه تتبارك كل الأمم؟
1. يقول بولس الرسول أن نسله بالمفرد تشير للمسيح، فهو لم يقل أنسال بل نسل بالمفرد فهو يقصد شخص واحد هو المسيح (غل3: 16).
2. كرر الله هذا الوعد بأن الله يبارك كل الأمم في نسل إسحق "وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ" (تك26: 4). ويكرر الله الوعد مع يعقوب "وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلْأَرْضِ" (تك28: 14). إذًا المقصود أن البركة ستأتي من نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب.
3. وبهذا نفهم أن البركة هو المسيح الذي سيتبارك فيه كل شعوب الأرض، والذي سيأتى من نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب. وكان إسحق رمزًا للمسيح فهو مولود كالمسيح من مستودع ميت لا يمكن أن ينجب. إسحق مولود بحسب وعد والمسيح أتى وتجسد بحسب وعد. وهذه هي بركة الأمم في المسيح، فالمسيح سيحول لكل الأمم الموت إلى حياة فيه، بوحدتنا في المسيح الحي يتحول الموت الذي فينا إلى حياة. لذلك يقول بولس الرسول "لى الحياة هي المسيح" (فى1: 21). وهذه هي البركة التي ستتبارك بها الأمم، المسيح نسل إبراهيم بحسب الوعد "فى نسلك تتبارك كل الأمم"، فيصير كل المؤمنين أولاد وعد، لأننا إنتقلنا من الموت إلى الحياة.
آية (8): "أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا."
ما يميز إسرائيل أنهم أولاد إسحق أي ابن الموعد، وإسحق هو نبوة عن الموت الذي يحوله الله إلى حياة، وهذا عمل المسيح بفدائه. إذًا أولاد الله ليسوا هم من يولدوا بحسب النواميس الطبيعية بل وفقًا لمواعيد الله.
أولاد الجسد يولدون أمواتًا فالإنسان الميت بسبب الخطية يلد أولادا محكوم عليهم بالموت، وهكذا كان حال كل البشر، سواء كانوا أولادًا لإبراهيم بالجسد أو الآخرين. أما أولاد الوعد فهم لهم ولادة جديدة يولدوا فيها أحياء من الماء والروح بإتحادهم بالمسيح، وهذا ما يتم بالمعمودية.
آية (9): "لأَنَّ كَلِمَةَ الْمَوْعِدِ هِيَ هذِهِ: «أَنَا آتِي نَحْوَ هذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ»."
إذًا إبراهيم الميت جسديًا وسارة ميتة المستودع ليسا هما أبوا إسحق، بل إسحق هو ابن الوعد. وبهذا نفهم أن أولاد الله هم أولاد الوعد. ليسوا أولادًا بحسب الطبيعة بل بنعمة الله.
الآيات (10-12): "وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ»."
ما زال الرسول يدافع عن وجهة نظره، في أن الله له الحرية أن يختار الأمم، فهو لا يختار بحسب الأعمال ولا بحسب الختان ولا
الناموس. والرسول لم يكتفِ بمثال ميلاد إسحق فلربما قالوا إن إسمعيل ابن جارية وأن أولاد قطورة أصغر سنًا، وقطورة أيضًا جارية، أما نحن اليهود فنحن أولاد سارة الحرة. لذلك ضرب الرسول مثالًا آخر عن يعقوب وعيسو فهما من أب واحد وأم واحدة، بل من بطن واحد لإنهما توأمين (عيسو يمثل اليهود الأكبر سنًا والأكثر خبرة في معرفة الله ورُفِضوا لعدم الإيمان) والله رفض عيسو مع أنه بالجسد ابن إسحق. لأن بسابق معرفته، هو يعرف من هو الصالح روحيًا (رو 29:8). بالإضافة إلى أن يعقوب جاء أيضًا بكلمة وعد "كبير يستعبد لصغير" تك 23:25 وأيضًا رفقة لم تكن تنجب، وإستجاب الله لصلاة إسحق من أجلها تك 21:25. فيعقوب هو ابن صلاة، وموعود بالبركة (كبير يستعبد لصغير).
1. بسابِق معرفته، فهو عَرِف من سيتجاوب مع محبته ويقبل دعوته، حتى لو تعرض للسقطات والضعفات فنيته صادقة. ورفضه لعيسو يقوم على رفض عيسو لله ومقاومته له. (رو 29:8). ومن خلال قصة يعقوب وعيسو في الكتاب المقدس ندرك فعلًا صحة اختيار الله من وحشية واستهتار عيسو وقداسة يعقوب.
2. وهما لم يولدا بعد= أراد الرسول هنا أن يبرر أن الاختيار تم قبل أن يتعاملا مع الناموس أو الختان أو غيره، بل بنعمة الله المجانية. فالله أظهر محبته وهو يعلم أن يعقوب سيقبل دعوته المجانية وعمله الإلهي فيه. لكنه اختاره قبل أن يكون له أعمال. وهكذا الله قد إختار اليهود وترك الأمم فهو يعلم أن اليهود كانوا سيؤمنوا به. وحينما إختار الأمم كان يعرف بسابق معرفته أنهم سيقبلوا الإيمان. وإختار الأمم أيضًا قبل أن يكون لهم أعمال، وكانوا بلا ناموس. فالأمم هنا كانوا تماما مثل إختيار يعقوب وهو في بطن أمه.
3. اليهود يعجزوا عن أن يفسروا سبب اختيار يعقوب، وهكذا يعجز الكل عن أن يدركوا سر إنفتاح باب الإيمان للأمم كما لليهود.
4. الرسول هنا لا يتحدث عن قبول الإيمان أو عن ضرورة الجهاد، بل عن أن الله حر في الإختيار وفي توقيت الإختيار. ويتضح دائمًا أن الله كان محقًا في إختياره، وذلك لسابق معرفته. وهذا ينطبق على إختيار اليهود أولا ثم إختيار الأمم. غير أن بولس الرسول يؤكد على أهمية الأعمال وأن الله سيجازي كل واحد بحسب أعماله (مت27:16). وكل واحد يأخذ أجرته بحسب تعبه (1كو58:15). والأموات أعمالهم تتبعهم (رؤ13:14). وأيضًا يؤكد أن خلاص الإنسان لا يتحقق بالعمل الصالح خارج دائرة الإيمان. فلا خلاص سوى بحياة البر، هذه التي أحياها أصنع البر بحياة المسيح فيَّ. وحياة المسيح فيَّ تكون بالإيمان والمعمودية (مر16: 16). والمؤمن الآن يجاهد لأن له إيمان في وعود الله.
5. الرسول يظهر لنا الله وأنه حر في اختياره المسبق حتى لا يجهد أحد نفسه في فحص أمور الله التي لا يمكن أن تفحص. ومن يريد أن يفكر فليضع بديهية قبل أن يفكر وهي أن الله عادل في أموره. ولو عرفنا كل أسباب حكمه لقلنا آمين. ولكن الله غير ملزم أن يشرح لنا كل الأسباب في اختياره حتى نقبل أحكامه بلا فحص، ولا نضعها تحت قياسات عقلنا القاصر بل نقبلها بالرضى والشكر. ولثقتنا في عدل الله في اختياره فإننا نعلم أن الله يختار من يختاروا الله. عمومًا فنحن لن نفهم كل أحكام الله الآن "لست تعلم ما أنا فاعل الآن لكنك ستفهم فيما بعد" (يو7:13).
6. بحث بولس الرسول يريد أن يصل إلى أن الله لا يعطي بره علي أساس أعمال (فمهما كانت أعمالنا بارة، فهي لا شيء بدون المسيح لأننا مولودين أمواتا روحيا بسبب خطية آدم أبونا). بل يعطى الله بره علي أساس الوعد بأن يخرج من الموت حياة (إسحق كرمز للمسيح الذي يحول الموت فينا إلى حياة، وهذا ما رأيناه في العهد القديم أن الله أعطى وعودًا كثيرة بالمسيا الذي يصنع هذا فإنتظره أباء اليهود "ليتك تشق السموات وتنزل" فقال إشعياء (إش64: 1). والإيمان مربوط بالوعد، فالله يدعو والإنسان يؤمن. فالإيمان هو إستجابة للدعوة. والأعمال مربوطة بالإيمان والدعوة. وبعد أن جاء المسيح فلا إختيار إلا في المسيح، فلا حياة سوى في المسيح، وهذا يستلزم الإيمان به ثم المعمودية. وهذا ما حدث، فالله دعا الأمم، والأمم آمنوا وإعتمدوا وصارت لهم حياة المسيح يسلكوا بها في البر. وما قبل المسيح كان الإختيار لمن سيأتي منهم المسيح (الله إختار اليهود ليـأتى منهم المسيح). أما بعد المسيح فكل مؤمن هو مختار، ولكن على المؤمن أن يثبت في إيمانه ومحبته فيغلب (رؤ2 ، 3).
آية (13): "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»."
قال الرسول في الآية السابقة "لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ" وهنا يأتي بالدليل من نبوة ملاخي النبي (ملا 1: 2). ولكن فعلا كان عبر التاريخ أن الله أحب يعقوب ونسله، وكان لهم الهيكل وميراث كنعان، وأبغض الرب عيسو. وثبت صحة الإختيار فالله يختار بسابق معرفته بما سيحدث.
لكن الرسول هنا لا يتكلم عن صحة الإختيار بل على حرية الله في الإختيار.
آية (14): "فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا!"
إذا كان الاختيار والتفضيل يعتمد أساسًا على الله الذي يدعو الإنسان، فهل يكون الله قد سلك بالظلم ضد عيسو؟ حاشا= ليحذر أن يخطر على بالنا شيء كهذا. فنحن لا يمكننا أن ندرك كل أسرار حكمة الله. الله ليس بظالم حتى وإن بدا حكمه غير مفهوم لنا.
الآيات (15، 16): "لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: «إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ». فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ للهِ الَّذِي يَرْحَمُ."
حين سأل موسى الله أن يرى مجده (خروج 33) أجابه الله بهذه الإجابة، وكأنه أراد أن يقول له
"مع كل تقديري لجهادك وتعبك. لكن رؤية مجدي هي عطية مجانية إلهية تُعطي، وليس ثمنًا للأعمال، لكنها قطعًا لا توهب للمتراخين والمتكاسلين". والله وحده يعرف من هو الذي يستحق عطايا محبته. اللهِ الَّذِي يَرْحَمُ = فالله لا يعطي بحسب الأعمال بل بحسب رحمته، فلا توجد أعمال في هذه الدنيا يستحق صاحبها أن يرى مجد الله. وليس معنى هذا عدم أهمية الأعمال، فالله يطلب أن نصلي لكي يعطينا (مت9: 37، 38) فعلة وخدام ليزداد الحصاد. والرحمة هنا في معناها العام تعني عطايا الله وخيراته التي حصل عليها إسرائيل دون الأمم لفترة من الزمن.ولاحظ أن الله لم يقل أرحم من أرحم وأُهلك من أُهلك، فهو يستخدم سلطانه في الرأفة والحب والرحمة، فالله لا يريد هلاك الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز23:18). والله محبة لكنه لا يلزم أحد بمحبته ولذلك لم يلزم عيسو بها.
ونلاحظ أن الله يوزع مراحمه على الكل، ولو منع رحمته عن أي إنسان ما عاش لحظة، فهو يرحم الجميع ويشرق شمسه على الأبرار والأشرار ويعطي كل واحد قوته. وحتى أعمالنا الصالحة هو أعطانا برحمته أن نعملها (يع17:1) وليس أن أعمالنا الصالحة تستدر مراحمه. لكن الرسول ما زال مهتمًا بإبراز حرية الله في الاختيار، فهو يختار بمراحمه وليس بحسب أعمال أحد. يريد أن يظهر سلطان الله المطلق في اختياره مختاريه (وهو يقصد الأمم طبعًا).
ليس لمن يشاء ولا من يسعى= هذه تشبه قوله في (1كو7:3) "ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي ينمي" فهل يفهم من هذه الآية أن الله ألغى عمل الغارس والساقي. وهل الزرع يمكن أن ينمو دون غارس أو ساقي، ونجد أن الرسول يقول أيضًا أنه زرع وأبلوس سقى والله هو الذي ينمي (1كو3: 6). لكن المهم قوة النمو التي هي من قبل الله، ولكن قوة النمو هذه يلزمها زارع وساقي. لا يمكن أن نضع أمامنا آية بمعزل عن باقي الكتاب. فأمامنا آيات أخرى مثل "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" + " الذي يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص" + "كن أمينًا إلى الموت" فهذه الآيات فيها طلب أن نقبل الله بإرادتنا الحرة. ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نتجاهل دور الإنسان الإيجابي في تمتعه بالخلاص المجاني. والله يريد إرادتنا الحرة أو مشيئتنا الاختيارية مع سعينا الجاد. فالكتاب وحدة متكاملة لا نتعامل مع جزئياته أي لا نتعامل مع آية واحدة دونًا عن باقي الكتاب.
وهنا بولس الرسول لا يتكلم عن مشكلة تخص الأفراد، بل عن قبول الأمم، وهل من حق الله أن يقبلهم أم لا. فمنطق اليهود أن الله لا يجب أن يقبل الأمم. أما بالنسبة لنا كأفراد، فنحن بمشيئتنا الحرة نسعى ونجاهد والله يعين فهو دائم العطاء. فحين يقول الله أتراءف على من أتراءف= يجب أن نضع بجانبها أن الله عادل وبار، فهو بالتالي سيتراءف على من يستحق رأفاته.
إذًا علينا أن نشاء وأن نسعى بكل ما نملك من قوة، وليعطينا الله بحسب مراحمه. وعجيب أن يطلب إنسان أن يعامله الله بحسب أعماله!! فلو عاملنا الله بحسب أعمالنا، فنحن لنا أعمال وخطايا تؤدى بنا إلى الهلاك. لذلك لا نجرؤ على أن نطلب من الله سوى الرحمة. وهذا منطق كنيستنا التي تردد دائما (كيريى ليسون – يا رب إرحم Kuri`e `ele`hcon. واليهود بسبب كبريائهم لم يروا أخطاءهم وهذا لأنهم لا يروا سوى أعمال برهم ليفتخروا بها، ولا يريدون أن يروا سيئاتهم، ، ورأوا ما إلتزموا به من وصايا الناموس فطلبوا أجرتهم بحسب أعمالهم هذه. وهذا هو ما يُسَمَّى البر الذاتي. وهذا الكبرياء ضايق الله جدًا. ونسمع قول الوحي على أمثال هؤلاء "يقُولُ: قِفْ عِنْدَكَ. لَا تَدْنُ مِنِّي لِأَنِّي أَقْدَسُ مِنْكَ. هَؤُلَاءِ دُخَانٌ فِي أَنْفِي، نَارٌ مُتَّقِدَةٌ كُلَّ ٱلنَّهَارِ" (إش65: 5).
الآيات (17، 18): "لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: «إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ». فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ."
المشكلة التي يعالجها الرسول أن اليهود ينكرون على الله أن يضم الأمم إلى حظيرة الخلاص، فهم في نظرهم ليسوا من شعب الله. وكأن
اليهود يريدون أن يحددوا سلطان الله، لذلك فالرسول يظهر الله هنا أنه مطلق السلطان يفعل ما يشاء، لا شيء يحد من سلطانه، ولكن سلطانه هذا لا يشوبه أي ظلم قطعًا.والله اختار موسى ورفض فرعون لأنه يعلم قلب موسى فسانده ليتمجد فيه خلال الرحمة، والله يعلم قسوة قلب فرعون فتركه في عناده، ولاحظ أن فرعون هو الذي استمر في عناده وإهاناته لله، فلم ينزع الله هذه القسوة حتى يتمجد الله خلال هذا العنف الشرير، وبهذا يكمل موسى كأس مجده ويكمل فرعون كأس شره. والله يتمجد بهذا كما بذاك. فسواء الإنسان البار أو الإنسان الشرير فالله يستخدمهما كليهما في تنفيذ خطته الأزلية. فالله إستخدم قساوة فرعون ولم ينزعها، الله رفع يده ورحمته عنه فبقى في قساوته ليرى المصريون واليهود مجد يهوه ويدركوا تفاهة الأوثان. وهكذا ترك الله إسرائيل 2000 سنة في قسوتها وتشتتها، ليعلم العالم أن الله تركها ورفضها وسيعود الله ويقبلها في نهاية الأيام. وبنفس المنطق ترك الله العالم الوثني يثور ويتقسى قلبه ثم رحمه الله وقبله، والله بهذا المنطق قسى قلب يهوذا وإسرائيل ليتم الفداء فبزلتهم صار الخلاص (راجع مقدمة الإصحاح).
الرسول هنا يربك اليهود بذات فكرهم، فهم قبلوا رحمة الله لهم وسقوط فرعون تحت قسوته دون اعتراض منهم، فلماذا لا يقبلون الآن أن الله يفتح باب مراحمه للأمم. عمومًا فالإنسان غير المؤمن يقف من الله دائمًا موقف الناقد. فلنصلي لكي يعطينا الله حكمة لنفهم ونقبل تصرفاته.
فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ = الله في محبته خلق كل البشر ليفرحوا أمامه في مجده وينعكس عليهم مجده كأب يفرح بأولاده وهم فرحون أمامه (إش43: 7). وكان هدف الله أن يكون الكل في وحدة (راجع تفسير يو17: 20 - 23) . وسقط الإنسان وفسدت الخليقة التي كانت أولًا على غير فساد. وجاء المسيح ليعيد الصورة الأولى ويجمع الكل في جسده الواحد، كهيكل وكل منا حجر حي في هذا الهيكل (1بط2: 4 ، 5) . ولكن بسبب الفساد صار للإنسان طبيعة متمردة عاصية، والله في محبته كان مضطرًا أن يؤدب أولاده هنا على الأرض حتى يضمن لهم الخلاص فمثلا يسمح الله بمجاعة أعادت الابن الضال، ويسمح الله بأن الشيطان يضرب أولاده ليؤدبهم (وهذا حدث مع بولس الرسول ومع أيوب وإستعمل بولس الرسول نفس الطريقة مع زانى كورنثوس. والتأديب يكون هنا على الأرض ليضمن الله خلاص النفس في السماء. ففي السماء هناك الفرح الأبدي وهناك يمسح الله كل دمعة من العيون. وشرح الله هذا في قصة بناء هيكل سليمان (رمز هيكل جسد المسيح أي الكنيسة في السماء). إذ قيل "والبيت في بنائه بني بحجارة صحيحة مقتلعة ولم يسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا أداة من حديد" (1مل6: 7). فالحجارة تمثل المؤمنين، والمعول يمثل التأديب هنا على الأرض. فهم كانوا يقطعون الحجارة وينحتونها في الجبل (1مل5: 15 - 18). والله كان يريد أن يكون الكل حجارة حية في الهيكل. ولكن من يعاند ويُصِّر على ذلك كما عمل فرعون يتركه الله فيكون معول ليؤدب أولاده.
ومعنى أن الله يُقَسِّي قلب فرعون أنه تركه لعناده. فالله كان قادرا أن يمنعه عن هذه القساوة، فالحكيم يقول "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه، حيثما شاء يميله" (أم21: 1). بينما أن محاولات الله مع ملك آخر وهو نبوخذ نصر البابلي نجحت في أن يُميل قلبه ويتحول إلى إنسان مؤمن بالله (راجع مقدمة سفر دانيال). والله يحاول مع كل الخليقة ليخلص كل من يقبل أن يتجاوب معه "فالله يريد أن جميع الناس يخلصون" (1تى2: 4).
والله خلق الكل فهو يحب الكل "لأنك تحب جميع الأكوان، ولا تمقت شيئا مما صنعت. فإنك لو أبغضت شيئا لم تُكَوِّنْه" (حك11: 25).
والله لم يخلق شيئا إلا لو له دور وعمل في هذه الحياة، وبعمله هذا يمجد الله، فكما رأينا أن الله خلق الكل لمجد اسمه (إش43: 7). والله الذي يحب خلاص كل البشر كان يتمنى أن لا يهلك أحد من خليقته. ولكنه يظل يحاول مع كل إنسان ليتوب فيخلص ويصير حجرا حيا في هيكل جسد المسيح، ويمجد الله.
ومن يعاند يعطيه فرصة بل فرص كثيرة ليجذبه فيتوب. ولكن هذه الفرص تكون لزمان محدد "أعطيتها زمانا لكي تتوب ... ها أنا ألقيها في فراش ..." (رؤ2: 21 ، 22) أي بعد زمان تبدأ التجارب والآلام. ولكن مع استمرار الرفض والعناد ومقاومة صوت الروح القدس، وإذ يرفض الإنسان أن يكون حجرا حيا، حينئذٍ يكون له دور آخر، وبه أيضًا يتمجد الله. وهذا ما يعنيه قول الله إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ. فالله سيتمجد بموسى وبالقديسين إذ يظهرون مجد الله فيهم، ويتمجد مع المعاندين والأشرار إذ يظهر الله فيهم قداسته ورفضه للشر والخطية.
فرعون :- بعناده تمجد الله بالضربات العشر، إذ ظهرت قوة يهوه وتفاهة الآلهة الوثنية. وعرف المصريون واليهود من هو الله، وآمن اليهود بالله وصاروا حجارة حية.
الشيطان :- بعناده صار له دور في تأديب شعب الله ورجوعهم إليه فصار مِعْوَل ينحت الحجارة الحية لتهذيبها فتلمع (أيوب مثلًا، وفي (1كو5: 5) نجد بولس الرسول يُسَلِّم زاني كورنثوس للشيطان ليهلك الجسد (بأمراض أو ضيقات) فتخلص الروح في يوم الرب يسوع) وبهذا تمجد الله بخلاص أيوب وخلاص هذا الزاني.
يهوذا :- رأينا كم المحاولات التي عملها معه المسيح، وإصرار يهوذا على عناده. وتحول إلى معول لتنفيذ صلب المسيح فتم الخلاص. وبالصليب تمجد المسيح الابن وتمجد الآب بالإبن.
الكل له دور ولكن الكل في دوره يمجد الله.
آية (19): "فَسَتَقُولُ لِي: «لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ؟ لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟»"
هنا رد على سؤال غبي سيثيره النقاد
"إن كان الله يقسي من يشاء ولا أحد يستطيع مقاومته، فلماذا تدينني يا رب وأنت خلقتني هكذا" ؟ ونجد الرسول مستمر في أسلوبه في إثبات حرية الله. فالإجابة المنطقية على تساؤلات الناقدين.. أن الله لم يجعل فرعون قاسيًا ولا يهوذا ...الخ لكن هم بحريتهم قاوموا الله، والله لم يغير طبيعتهم، وأن الله عادل وليس عنده محاباة... هذا هو الرد المنطقي، ولكننا نجد الرسول لا يستخدم هذا الرد، بل يكمل في أسلوبه مثبتًا سلطان الله المطلق= مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ.
آية (20): "بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟»"
الجبلة = الخلقة أي الشيء المخلوق. وبدون شك لا يستطيع أحد أن يقاوم مشيئة الله، وليس لأحد الحق أن يراجع الله ويسأله عن عمله. ولكن أبناء الله يسألونه بدالة المحبة والبنوة (أر1:12).
بل من أنت؟
= هل أنت شريك لله في سلطانه، بل أنت وأنا لسنا أكثر من طين صنعه الله وشكَّله، فهل من حقي أن أحاكم الله. والله كخزاف (صانع آنية من طين) يتوق أن يجعل كل الآنية، آنية للكرامة، ولكن الله يكرم حرية إرادتنا، وإذ نرفض نبقى بلا كرامة ونفقد عمل يديه المُقَدِّسَتَيْنْ للنفس والجسد والروح. فالله يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2). وهو الذي يقول من يقبل إليَّ لا أخرجه خارجًا (يو37:6). لكن من يُصِّرْ أن يبقى آنية هوان مثل فرعون فسوف يتمجد الله به أيضًا إذ سيظهر فيه سخطه على الخطية.
آية (21): "أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟"
فكرة الخزاف وآنية الطين مأخوذة من (أر1:18-10) وليس المطروح هنا هو أن الله إن أراد يخلقني آنية للهوان وإن أراد يخلقني آنية للمجد، بل إنني طين في يدي خزاف، هو حُرٌ أن يصنعني كما يشاء، وما عليَّ سوى أن أطيع وأكف عن الجدال. ولكن لا يصح أن نحمل المثل فوق ما يحتمل ولا نأخذ منه سوى الذي قصده الرسول، بأن يظهر سلطان الله المطلق. ولكن الله يحترم حرية إرادتنا، فلو استجبنا له بحرية إرادتنا يحولنا إلى آنية مجد، لمجد اسمه بطريقة عجيبة (بولس الرسول نفسه مثال لهذا). فمن يطيع يصير آنية مجد. ومن لا يطيع يصير آنية هوان. ولكن لنرى محبة الله، فالله حين صنع الإنسان من طين لأول مرة صنعه على صورته هو (تك27:1). وحين جدد الله خلقتنا بالمسيح يحولنا لصورة المسيح (كو10:3 + غل19:4). وحرية الإنسان في تحديد دوره كآنية مجد أو آنية هوان تتضح في (2تي20:2، 21) هنا يظهر الرسول سلطان الله المطلق. ولكن نضيف نحن على ذلك عدله ومحبته.
آية (22): "فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ."
الله احتمل بطول أناته= أناة كثيرة آنية غضب كانت تستحق الهلاك أي الأمم ليظهر قوته فيهم بعد ذلك إذ يحولهم إلى قديسين. والله احتمل فرعون الذي كان يستحق الهلاك ليظهر قوته أمام اليهود والمصريين. فآنية الهلاك يكونون مجالًا لإظهار غضب الله، وبالتالي تظهر قداسته وعدم رضاه عن الخطية. وهذا ظهر أيام الطوفان وأيام سدوم وعمورة. ولكن الله يعطي فرصًا كثيرة لآنية الهوان، فلا يهلكها فورًا ليظهر مراحمه ومحبته وأنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا (حز 23:18). ولكن بعد أن يعطيه فرصًا عديدة يتمجد فيه (بإهلاكه فيظهر قداسة الله ورفضه للخطية أو بأن يكون له فرصة ليتجاوب مع الله ويصير قديسًا (الأمم/ بولس الرسول) أو بأن يكون له دور في خطة الخلاص (يهوذا/فرعون)(1).
آية (23): "وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ،"
ولكي = إذًا هذه الآية مرتبطة بسابقتها. والمعنى أن الله إحتمل الأشرار لفترة سمح هو بها لكي يُظهِر مجده لشعبه. وهذا ما حدث مع فرعون المعاند، نجد أن الله إحتمله ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد عرف اليهود من هو يهوه، وما هي عظمة قوته. بل عرف المصريون تفاهة آلهتهم. وفي أيام الاستشهاد إحتمل الله الرومان فترة سمح بها، وأعلن خلالها مجده مع الشهداء مما جعل جنود الأباطرة يؤمنون، بل كانت فترة الاستشهاد فترة نمو وامتداد الكنيسة في كل العالم.
الله يبين غنى مجده في اليهود الذين كانوا آنية رحمة لفترة طويلة، وبَيَّن غنى مجده في موسى الذي لمع وجهه، وبَيَّن غنى مجده لبولس الذي رأى ما لم تره عين.. وفي قديسين كثيرين. ولاحظ أنه قال آنية رحمة ولم يقل آنية عمل صالح ليُظهر سلطان الله المطلق. ونحن نستطيع أن نهلك أنفسنا ولكن لا نستطيع أن نخلص أنفسنا بدون رحمة الله، ولاحظ حكمة كنيستنا الأرثوذكسية التي تكثر من ترديد عبارة "يا رب ارحم" فالخطاة يؤهلون أنفسهم لجهنم، ولكن الله يؤهل القديسين للسماء. وقطعًا فالله يؤهل للسماء بناء على ما اخترته أنا بحريتي، ولو كان العمل هو عمل الله وحده لحصل الكل على المجد.
آية (24): "الَّتِي أَيْضًا دَعَانَا نَحْنُ إِيَّاهَا، لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ فَقَطْ بَلْ مِنَ الأُمَمِ أَيْضًا."
هنا يتكلم بولس الرسول عن الكنيسة التي برحمة الله شملت اليهود (بولس منهم لذلك يقول نحن) والأمم (شعب رومية الذين يكتب لهم)، بالرغم من أن اليهود كأمة رفضوا المسيح. وقوله التي يقصد بها أن ما قاله عن آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ يشمل شعب الكنيسة من اليهود والأمم.
آية (25): "كَمَا يَقُولُ فِي هُوشَعَ أَيْضًا: «سَأَدْعُو الَّذِي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي، وَالَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً."
قارن مع "وَأَرْحَمُ لُورُحَامَةَ، وَأَقُولُ لِلُوعَمِّي: أَنْتَ شَعْبِي، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ إِلَهِي" (هو23:2 + 1بط10:2). فالرسول اقتبس من هوشع النبي ما قاله هنا (ولكن من الترجمة السبعينية) ليست محبوبة= لورحامة أي بلا رحمة. ليس شعبي= لوعمي. والرسول يقصد أن هوشع تنبأ عن أن الله سيختار الأمم، فهم لم يكونوا من شعبه وصاروا من شعبه، ولم يكونوا مرحومون فصاروا مرحومين. بولس هنا يقول لليهود الرافضين لقبول الأمم. ما رأيكم في هذا الكلام الذي قاله هوشع في كتابكم المقدس.
آية (26): "وَيَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ: لَسْتُمْ شَعْبِي، أَنَّهُ هُنَاكَ يُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ اللهِ الْحَيِّ»."
وسوف يحدث أنه في المكان الذي كان يتعبد فيه الأمم للأوثان حين قيل لهم لستم شعبي، في نفس هذا الموضع سيقدم الأمم العبادة لله وسُيْدعَوْن أبناء الله الحي، ولا داعي لأن يذهبوا إلى أورشليم، بل الله سيُعْبَد في كل مكان. قوله
فِي الْمَوْضِعِ أي كل مكان في العالم ويكون فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي.. = هذه النبوة مأخوذة من (هو10:1) والتي جاءت في الترجمة العربية هكذا "لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعد ويكون عوضا عن ان يقال لهم لستم شعبي يقال لهم أبناء الله الحي" . ولكن الآية جاءت في ترجمات أخرى (مثل KJV، NKJV) كما ذكرها بولس الرسول هنا. ويفهم اليهود كلمة موضع على أنها الهيكل في أورشليم، فالعبادة تكون في موضع واحد، أمّا نحن فمن قول السيد المسيح للسامرية نفهم أن الله سيعبد في كل مكان.الموضع = الكلمة في اليونانية لها معاني متعددة، وكل مترجم فهمها بمعنى غير الآخر. ولكن بمقارنة الترجمة العربية مع الترجمة الإنجليزية، يبدو أن المعنى الذي قصده الرسول ليس المقصود به المكان جغرافيا أي الهيكل أو أورشليم حسب فهم اليهود، أو أن الهياكل الوثنية تتحول إلى كنائس يعبدون فيها الله حسب التفسير أعلاه. ولكن المقصود الموضع الكتابي أي الآية التي ذكرها هوشع النبي. والمعنى أن الرسول يريد أن يقول لليهود راجعوا كتابكم المقدس فإنه في نفس الموضع الذي قال الله عن الأمم لستم شعبي في نبوة هوشع النبي، فإنه في نفس النبوة يعطي الله وعدًا للأمم أنه سيرحمهم إذ قال الله الآن صرتم شعبي = أبناء الله الحي. ويكون ذلك في زمن يحدده الله. فكلمة "الموضع" هنا يعني الآية الموجودة في نبوة هوشع النبي. وهذا التفسير متفق مع ما سبق وما سيأتي فيما بعد.
آية (27): "وَإِشَعْيَاءُ يَصْرُخُ مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ: «وَإِنْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ الْبَحْرِ، فَالْبَقِيَّةُ سَتَخْلُصُ."
النبوة من (إش 10: 22، 23) (سبعينية). وكان إشعياء يتنبأ عن العودة من السبي، فقليلون هم الذين عادوا من السبي. وهذا ما حدث أيام المسيح، فالأقلية آمنوا والأغلبية رفضوا المسيح. وهنا يسمي الرسول الذين آمنوا= البقية كما أسماهم إشعياء. والبقية قد تكون إشارة لإيمان اليهود في آخر الزمان. لكن كلمة البقية هي إشارة واضحة لأن الكنيسة في العهد القديم أو العهد الجديد هي شجرة زيتون واحدة (رو11)، وبعد المسيح قطعت الأفرع التي رفضت الإيمان، وبقى المؤمنون على الزيتونة. وفي آخر الزمان حين تؤمن البقية سيطعمون في نفس الزيتونة (الكنيسة) بعد أن كانوا أغصانا مقطوعة.
آية (28): "لأَنَّهُ مُتَمِّمُ أَمْرٍ وَقَاضٍ بِالْبِرِّ. لأَنَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ أَمْرًا مَقْضِيًّا بِهِ عَلَى الأَرْضِ»."
لأنه متمم أمر وقاض بالبر= (أش23:10). حينما يبدأ الله عملًا فهو لا بُد وسيكمله، "وَاثِقًا بِهَذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلًا صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ" (فى1: 6)، سواء عمل دينونة أو عمل رحمة. وإسرائيل كان يستحق اللعنة بسبب رفضهم المسيح. ولكن الله الذي بدأ معهم سيكمل معهم ويخلص البقية ويتمم عمله بالبر، وهذا سيتم في نهاية الأيام. لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به على الأرض= هذا الأمر هو الإيمان الذي يجلب الخلاص والبر لكل من يؤمن، يهودًا وأمم، وبانتشار الكنيسة في كل العالم.
آية (29): "وَكَمَا سَبَقَ إِشَعْيَاءُ فَقَالَ: «لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلًا، لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ»."
مقتبسة من (إش9:1). والمعنى هو:- لو أن الرب لم يبق لنا بقية ولم يجعل من بين الأحفاد بعض النسل الصالح المختار، لصرنا مثل سدوم وعمورة أي بلا بقية. وقد تشير كلمة النسل للمسيح الذي جاء من اليهود ليخلص اليهود والأمم. وربما تشير للقلة التي آمنت ببشارة التلاميذ.
آية (30): "فَمَاذَا نَقُولُ؟ إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ الْبِرِّ أَدْرَكُوا الْبِرَّ، الْبِرَّ الَّذِي بِالإِيمَانِ."
فَمَاذَا نَقُولُ
= ما هي النتيجة لما سبق وقلناه حتى الآن. إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ الْبِرِّ = أي هم لم يكونوا يسعون لأن يتبرروا فهم لا يعرفون شيئًا ولم يشعروا بإثمهم أمام الله، بل لم يسمعوا عن الله ولا عن الناموس. أَدْرَكُوا الْبِرَّ = حصلوا على التبرير بواسطة الإيمان بالمسيح الذي سمعوا عنه ودون أن يسمعوا عن الناموس. وصدقوا ببساطة أن الله قد قبلهم، ففرحوا به وآمنوا به، وبإيمانهم صاروا أبرارًا، دون أن يكون لديهم أي خبرة سابقة من ناموس أو أعمال. هم آمنوا وأحبوا هذا المخلص الذي أتى لهم وغفر خطاياهم وإعتمدوا ليتحدوا به وتكون لهم حياته يسلكون بها في البر، فتبرروا [المسيح أعطانا حياته المقامة من الأموات، وبهذه الحياة يستخدم أعضاءنا كآلات بر (رو6)] = أدركوا البر. هذه هي نعمة الله المجانية. الْبِرَّ الَّذِي بِالإِيمَانِ = وليس بالتحول إلى اليهودية أولًا، وهذا ما قاله القديس بطرس "وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِٱلْإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ" (أع15: 9). وبهذا رأينا صدق مواعيد الله، فالذين ليسوا من شعبه صاروا من شعبه ويسبحونه بل أبناءه.
الآيات (31-33): "وَلكِنَّ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ، لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. فَإِنَّهُمُ اصْطَدَمُوا بِحَجَرِ الصَّدْمَةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى»."
ناموس البر = الله أعطى الناموس، وكل من يتبع وصاياه بالكامل يصير بارًا. ولكن هل إستطاع أحد أن يلتزم بكل وصايا الناموس؟!
لو نظر أي إنسان داخل نفسه لوجد أنه غير قادر على ذلك. وهذا ما إعترف به الرسل في تواضعهم "فٱلْآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ" (أع15: 10). ونجد بولس الرسول في يهوديته يقول "من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم" (فى3: 6). وبعد إيمانه يقول "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تى1: 15). ومن فعل هذا وأدرك عجزه عن الإلتزام بكل الناموس، نظر إلى الله طالبا المعونة ويطلب مخلص يعينه. هذا ما حدث مثلا مع يهوشافاط الملك حين أدرك عجزه قال "ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا" (2أى20: 12). وسليمان حين ملك أدرك عجزه عن قيادة الشعب فطلب حكمة من الله (1مل3: 9).
ولكن الذي جعل اليهود عميانًا فلم يكتشفوا ضعفهم هو إستعمالهم الخاطئ للناموس. ففي كبريائهم أرادوا إثبات برهم بأنهم ملتزمين بكل الناموس. فكانوا يتفاخرون بأنهم يعشرون النعنع والشبث والكمون (مت23: 23). هم إستخدموا الناموس بطريقة خاطئة، أرادوا التباهى والتفاخر بأنهم ملتزمين بالناموس ليثبتوا بر أنفسهم، فلم يدركوا احتياجهم لمخلص. بل أن هدف الناموس كان أن يدرك الناس احتياجهم للمسيح المخلص حين يكتشفوا ضعفهم وعجزهم. كبرياءهم أضاع منهم الهدف من الناموس. فرأوا أنفسهم أبرارًا وعمت أعينهم عن رؤية الله.
أما الأمم فقد آمنوا وأحبوا هذا المخلص الذي أتى لهم وغفر خطاياهم وإعتمدوا ليتحدوا به وتكون لهم حياته يسلكون بها في البر، فتبرروا = أدركوا البر.
لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ! لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ = 1* لو تنازل اليهود عن كبريائهم وتواضعوا كما قال لهم الكتاب أن الله يسكن عند المتواضع والمنسحق القلب (إش57: 15) لكانوا قد أدركوا عجزهم عن الإلتزام بالناموس. 2* ولو كان لهم إيمان بكلام الله في الناموس لفهموا أن الناموس يُعلن أنه لا يوجد من يستطيع أن يغير طبيعته بدون التدخل الإلهي، وفي هذا يقول إرمياء النبى "هلْ يُغَيِّرُ ٱلْكُوشِيُّ جِلْدَهُ أَوِ ٱلنَّمِرُ رُقَطَهُ؟ فَأَنْتُمْ أَيْضًا تَقْدِرُونَ أَنْ تَصْنَعُوا خَيْرًا أَيُّهَا ٱلْمُتَعَلِّمُونَ ٱلشَّرّ" (إر13: 23) وهذا معناه عجزهم عن أن يتبرروا. 3* ولو كان لهم إيمان بكلام الله الذي في الناموس لفهموا أن الله يَعِد بأن هناك مخلص آتٍ، إذًا معنى هذا أنهم في احتياج لهذا المخلص. وطالما هم في احتياج لمخلص فكيف يدَّعون أنهم إلتزموا بكل الناموس؟! هذا العمى سببه الكبرياء، وأنهم لا يريدون الإعتراف بضعفهم وعجزهم. 4* ونلاحظ أن الإيمان هو الثقة في الله وبالتالي رفع القلب والعين إلى الله عند الشعور بالاحتياج. 5* أما المتواضعين الذين لهم الإيمان بعجزهم وفهموا أن هناك مخلص سوف يأتى، إنتظروا هذا المخلص في إشتياق لمجيئه. ونجد إشعياء يصرخ قائلا " ليتك تشق السموات وتنزل" بل كان هذا إشتياق كل من له إيمان بمجئ المسيا المخلص المنتظر. 6* وهؤلاء المتواضعين حين جاء المسيح عرفوه فالله يسكن عند المتواضعين (إش57: 15) فيفتح عيونهم. 7* ولكن المتكبرين لأنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم بإعجاب لم يشعروا باحتياجهم لله، فلم ينظروا لله بعين الإيمان والثقة في أنه سيعطيهم المعونة. فحرموا أنفسهم من أن يعرفوا حقيقة عجزهم والأهم أن عيونهم إنغلقت فلم يعرفوا المسيح وصلبوه. 8* ولو عرفوا المسيح لأدركوا ناموس البر كما تنبأ لهم هوشع النبى (هو 10: 12) "اِزْرَعُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِٱلْبِرِّ. ٱحْصُدُوا بِحَسَبِ ٱلصَّلَاحِ. ٱحْرُثُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ ٱلرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ ٱلْبِرَّ". لو آمنوا بكتابهم لفهموا أنه سيأتى من يعلمهم ناموس البر الصحيح بطريقة مختلفة عما تعودوا عليه، وأنهم عاجزين عن أن يسلكوا في البر بدونه.
مشكلة اليهود أنهم شعروا أنهم قادرين أن يتبرروا بدون الله، بل هم يفتخرون على الله ببرهم، فمن يستطيع أن يتبرر من دون حاجة لله لن يشعر باحتياجه لله. وهذا يحدث حتى الآن وأمثلة لذلك:-
1. من يقول أنا استطعت أن أبقى بلا خطية فترة طويلة، فقوله "أنا" فيها افتخار بذاته. ولم يدرك أنه لم يسقط بسبب حماية الله له.
2. من يعمل عملًا ويشعر في داخله أنه عمل شيئًا، ويفتخر به، هذا ما قال عنه السيد المسيح "لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك".
3. من يشعر في داخله أنه أفضل حالًا ممن حوله.
كل هؤلاء مشكلتهم أنهم لم يعرفوا أن الله هو الذي يعمل فيهم العمل الصالح، هم ظنوا في أنفسهم أنهم شيء صالح فاصلين أنفسهم عن الله مصدر كل صلاح.
وعكس هذا تماما كانت إجابة مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة على سؤال لمذيعة قالت له "حدثنا عن الأعمال التي قمت بها خلال مدة حبريتك". وكان رده "نحن لم نعتاد أن نتكلم عن الأعمال التي عملناها بل عن الأعمال التي عملها الله بنا".
وعلى الجانب الآخر فهناك ما يُسَمَّى صغر النفس ومثال لذلك:-
من يقول أنا لا أمل لي في الإصلاح،
أو أنا غير قادر على عمل هذا الشيء فأنا ضعيف أو عاجز. هذا يشعر أيضًا أنه وحده دون معونة من المسيح، هو لا يطلب المسيح، وإذ يجد نفسه عاجزًا يقول أنه لا فائدة. ونلاحظ أن الكبرياء وصغر النفس هما وجهان لعملة واحدة هي الانفصال عن الله، أو أن الله خارج المشهد. أما المؤمن بالمسيح فيقول:-1. أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني (في13:4).
2. لا أنا بل نعمة الله التي معي (1كو10:15).
3. منك الجميع ومن يدك أعطيناك (1أي14:29).
وقارن بين الفريسي الذي استضاف المسيح (لو7) والمرأة الخاطئة، هو كان يشعر في نفسه أنه بار فلم يحصل على شيء، أما المرأة الخاطئة فتبررت لأنها شعرت بخطيتها واحتياجها للمسيح.
وأنظر قول السيد المسيح "كذلك أنتم أيضًا متى فعلتم كُلّ ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا (لو10:17). فشعورنا الداخلي أننا "عبيد بطالون" قد فعلنا الواجب يحمينا من الكبرياء الذي هو بداية السقوط. وما يشرح فكر اليهود المثال الذي استعمله السيد المسيح عن الفريسي والعشار. فما فعله الفريسي هو مثال يشرح هذه الآيات. ولاحظ ما عمله الفريسى ... "أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاةِ، وَلَا مِثْلَ هَذَا ٱلْعَشَّارِ، أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلْأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ.... وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلًا: ٱللهُمَّ ٱرْحَمْنِي، أَنَا ٱلْخَاطِئَ" (لو18: 11-13).
وما ذكرناه سابقًا هو سقطة الشيطان الذي شعر بإمكانياته (قوته وجماله..) بغير الله، والانفصال عن الله سقوط في المحدودية التي تعني الموت، والاتصال بالله يعني اللانهائية أي الحياة الأبدية. مثال لذلك بولس الرسول بفلسفته وعلمه وتلمذته لغمالائيل كان قبل الإيمان محدودًا، ولكنه بعد إيمانه صار غير محدود، فهو بَشَّر أوروبا كلها وما زال يعمل حتى الآن.
المؤمن
المسيحي يشعر دائمًا أنه محتاج لله "إن عطش أحد.. تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو37:7-39 + راجع أيضًا رؤ17:3). أيضًا المؤمن لا يقول أنا عملت كذا... بل المسيح دَبَّرَ كذا وكذا، وبهذا يستمر المؤمن في إتحاد مع المسيح وينطلق للانهائية في عمله، ويضمن حياته الأبدية. والمؤمن تكون عينه مفتوحة، ويرى نفسه أنه نجس خاطئ (إر9:17).أما اليهود فكانوا لا يشعرون باحتياجهم لله، بل كانوا يشعرون في داخلهم أنهم أبرار، هم أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم. وهذا عكس ما حدث مع الأمم الذين لم يحاولوا إثبات بر أنفسهم، بل هم في بساطة آمنوا بالمسيح فتبرروا وخرج منهم مارجرجس والأنبا أنطونيوس.....
اليهود كان لهم الناموس الذي كان قادرًا أن يقودهم للمسيح، فغاية الناموس هي المسيح لمن يسلك بتواضع وانسحاق، ومثل هذا يكتشف المسيح ويعرفه وهذا ما حدث مع التلاميذ الاثني عشر مثلًا، أما رئيس الكهنة المنتفخ بكبريائه وبره لم يعرف المسيح. بل أن التلاميذ اعترفوا أنهم لم يستطيعوا الالتزام بالناموس (أع10:15) أي هم شعروا باحتياجهم لله، أما اليهود المتكبرين فلم يعرفوا المسيح المتواضع فكان لهم حجر صدمة فتعثروا فيه، فالله لا يسكن سوى عند المنسحق القلب والمتواضع (إش15:57+ مز17:51).
وَلكِنَّ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ الْبِرِّ
= الناموس الذي أعطاه الله هو ناموس البر أي أن من يلتزم به يصير بارا. لكن مشكلة اليهود كانت أنهم كانوا يسعون خلال حرفيات الناموس دون روحه، لإثبات بر أنفسهم. وهم ظنوا أن هذه الأعمال تبررهم دون الالتزام بروح الناموس من تواضع وإنسحاق أمام الله. لذلك فهم في خطاياهم وكبريائهم حين ظهر المسيح لم يؤمنوا به إذ كانوا يبحثون في كبرياء عن تبرير ذواتهم لا عن مجد الله. بل هم إصطدموا به فكان لهم حَجَرَ صَدْمَةٍ. ولو كانوا قد إلتزموا قلبيًا بالناموس لكانوا قد تعرفوا على المسيح وآمنوا به حين أتى لهم، كما حدث مع التلاميذ. ومع أن المسيح كان معروفًا عند الأنبياء، ولكن اليهود كانوا لكبريائهم كالعميان فتعثروا فيه (أش14:8+ 16:28+ لو34:2 + 1بط6:2). ولكن الربيون كانوا قد فهموا أن آيات إشعياء عن حجر الصدمة أنها على المسيح الموعود به.واليهود بالرغم من سعيهم في إثر ناموس البر
لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ الْبِرِّ = لم يستطيعوا حتى الالتزام بالناموس. لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ = الإيمان هو الثقة في الله وبالتالي رفع القلب والعين إلى الله عند الشعور بالاحتياج. ولكي نفهم هذا، لنتذكر قصة بطرس حين سار على الماء (مت28:14-32) فهو تمكن من السير على الماء حين كان مثبتًا نظره على المسيح، وغرق إذ نظر لنفسه وللموج ولم يصدق، ولكن لما صرخ إنتشله يسوع، فصرخته هذه كانت هي إعلانه أنه محتاج للمسيح. فاليهود في تنفيذهم لوصايا الناموس كانوا ناظرين لأنفسهم لإثبات أنهم قادرين على الالتزام بالناموس ليتبرروا في أعين أنفسهم وأعين الناس، وبهذا لم يشعروا في داخلهم أبدًا أنهم في احتياج إلى الله ليعينهم في أن يلتزموا بالناموس، ولو كانوا صادقين مع أنفسهم لشعروا باحتياجهم لمعونة من الله، ولكانوا قد رفعوا عيونهم لله طالبين المعونة، ومن يطلب بإيمان يرفع عينه لله، ولو فعلوا لكانوا قد أدركوا احتياجهم لمخلص. لكنهم في كبريائهم كانت عيونهم نحو أنفسهم وليس نحو الله. هم خدعوا أنفسهم شاعرين أنهم لا يحتاجون لمعونة بل يريدون أن يقفوا أمام الله كأبرار يطالبونه بالثمن. أما يهوشافاط الملك لم يفعل هكذا حينما شعر بضعفه وقال لله "نحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا" (2أى20: 12). إذًا كان من اليهود من فهم روح الناموس وأدرك أنه في احتياج لله.وكل
الذين تواضعوا أمام الله شعروا باحتياجهم وأنهم في ضعفهم غير قادرين على الالتزام بالناموس والوصايا (أع15 : 10، 11). وهؤلاء الذين في تواضع شعروا باحتياجهم لمخلص، حينما رأوا المسيح إكتشفوه وآمنوا به "يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك" (يو6: 68، 69). بمجيء المسيح انتهى تاريخ اليهود والعمل بالناموس ليبدأ الإيمان بصخر الدهور وحجر الزاوية. ولكن اليهود رفضوا الإيمان بعناد، فرفضوا البر مع الرحمة وإستمروا يعملون ليقيموا بر أنفسهم. وبقفزهم فوق الحجر (المسيح برفضهم له) ترضضوا وانكسرت أمجادهم، ثم تحدوه وصلبوه فوقعوا تحت الحجر فسحقهم، ولكن الذين قبلوه اكتشفوا الطريق الجديد الصاعد للسماء. فالمسيح هو النسل الموعود به لإبراهيم الذي يتركز فيه الاختيار كما يتركز الرفض.كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى
= كل من يذهب لله معلنًا احتياجه في إيمان فالله سيعطيه ولن يخزيه وسيحوله إلى قديس. وكل من عاش من اليهود بروح الانسحاق الناشئ عن الإحساس بالحقيقة، أن الناموس يطلب الطهارة وكل إنسان عاجز عن ذلك يشعر باحتياج لمن يخلصه من نجاسته، فكل من عاش كذلك من اليهود عَرِفَ المسيح. أمّا رئيس الكهنة المنتفخ الذي يبحث عن بر نفسه لم يكتشف المسيح بل صلبه لأنه لم يبحث عن بر الله أي البر الذي يعطيه الله بل بحث عن بر نفسه فتعثر في المسيح. عمومًا هما طريقان متضادان لا يمكن أن يلتقيا، بر الله وبر الذات. الله يعطي بره لمن يشعر بالاحتياج فيطلب. أما المعجب بنفسه فهو لن يطلب ومثل هذا لن يكتشف المسيح.لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذلِكَ لَيْسَ بِالإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. فَإِنَّهُمُ اصْطَدَمُوا بِحَجَرِ الصَّدْمَةِ
= اليهود سعوا لأن ينفذوا الوصايا الناموسية = أعمال الناموس ليقفوا أمام الله يطالبون بالأجر كما فعل الفريسي، ويقفون أمام الناس طالبين المديح والتكريم "ولكني قد عرفتكم ان ليست لكم محبة الله في أنفسكم . أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه. كيف تقدرون أن تؤمنوا وانتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض.والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه" (يو5: 42 – 44). هم في كبريائهم لم يدركوا تواضع الله، فلما أتى المسيح متواضعا كان لهم حجر صدمة ولم يعرفوه، فإن أتى لهم ضد المسيح في نهاية الأيام في كبريائه سيؤمنوا به فهو صورة مطابقة لما في قلوبهم المنتفخة. ولو فهم هؤلاء روح الناموس لعرفوا طبيعة الله المتواضعة ولعرفوا المسيح المتواضع كما عرفه تلاميذه البسطاء.
← تفاسير أصحاحات رومية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرسالة إلى أهل رومية 10 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير الرسالة إلى أهل رومية 8 |
_____
(1) فيهوذا كان له دوره في مؤامرة الصلب. وبِعناد فرعون رأى الشعب يد الله القوية فآمنوا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/24vcf5v