← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32
آية (1): "بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولًا، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ،"
بولس= هي كلمة لاتينية معناها الصغير، فمن عادة العبرانيين تسمية الشخص باسمين. وبولس كان اسمه أيضًا شاول وتعني مطلوب من الله. ويقول أغسطينوس أن بولس كان نحيف الجسم قصير القامة. وهو فضّل استخدام اسم بولس من قبيل التواضع ومشيرًا لأنه أصغر الرسل.
عبد ليسوع المسيح= كان معلمي اليهود يتفاخرون بألقاب مثل سيدي أو معلمي واليهود عمومًا يتفاخرون بيهوديتهم والأمم بفلسفاتهم، أما بولس فيعلمهم أنه يفتخر بكونه عبدًا للمسيح. وإذا كان الكل عبيدًا للمسيح فلماذا يتفاخر اليهودي على الأممي أو الأممي على اليهودي. وهو عبد للمسيح لأن المسيح افتداه واشتراه بدمه وفكه من الأسر وصار مِلْكًا لهُ. ونفهم أن العبودية للمسيح تحرر، ولا يمكن أن يكون الإنسان عبدًا للمسيح حقيقة ما لم يختبر في الوقت نفسه الحرية الحقيقية. إن عبد المسيح لا يُستعبد لأي إنسان آخر ولا حتى لشهوات جسده الخاصة، ولا يستطيع أحد أن يبعده عن تأدية واجبه، ولا تسيطر عليه عادة معينة، ولا يستطيع العالم أن يغريه بمفاتنه أو أن يجذبه إليه. إنه يعيش في الأرض كإنسان سماوي، وبعد أن كان عبدًا للخطية صار كاهنًا وملكًا. هو يعيش في الجسد ولكن يسلك في الروح عبدًا ليسوع المسيح. وهذا ما جعل حتى إخوة المسيح بالجسد يفتخرون بأنهم عبيد له، ولم يفتخروا بكونهم أقرباء له بالجسد (يه1 + يع1:1). فبولس بعد أن ظهر له المسيح في الطريق شعر أنه صار مكرسًا للمسيح يسوع من كل قلبه ونفسه وجسده. المدعو رسولًا = كأن لا فضل له في إيمانه ولا إرساليته بل هي دعوة من الله. وهو يسمي نفسه رسولًا مثل الاثني عشر. وتظهر أهمية هذه العبارة خصوصًا في الرسائل التي حاول أهلها أن يتنكروا لأحقية بولس الرسول في الخدمة وبهذا يشككوا في تعاليمه. وكان بولس مضطرًا لأن يثبت أنه مرسل من الله لإثبات صدق تعاليمه لتثبيت المؤمنين.
المفرز لإنجيل= مفرز تعني بريسي Pərīšā بالآرامية ومنها فريسي (فريزي פְּרִישַׁיָּא) أي مُختار أو معين. أي أن بولس انتقل من فريسيته اليهودية إلى فريسية أخرى بنعمة الله، هي فريسية الإنجيل، أي أن الله اختاره وأفرزه لكي يبشر بالإنجيل. وكان الفريسيون اليهود مفروزون لدراسة الناموس، وكلمة فريسي تناظر دكتوراه في اللاهوت. وكان بولس أحد هؤلاء الفريسيين. والله بسابق علمه أفرزه وعينه للتبشير بالإنجيل. وكانت تلمذته لغمالائيل نوع من الإعداد، ولكن الله سبق وأفرزه من البطن (غل15:1 + أع2:13 + إر 1: 4، 5) لإنجيل الله= إنجيل تعني بشارة مفرحة. وهنا يقول إنجيل الله. وفي مواضع أخرى يقول إنجيل يسوع المسيح، ويقول في (رو9:1) إنجيل ابنه. فالله هو مصدر الخلاص بيسوع المسيح، جوهر الإنجيل أو جوهر البشارة المفرحة هي في مجيء الرب يسوع وفدائه للبشرية. الله قد سبق منذ القديم وأعد برنامج الخلاص المفرح للبشر الذي تحقق بمجيء المسيح له المجد.
والقديس أمبروسيوس لاحظ أن اسم المسيح في هذه الآية قد استخدمه الرسول قبل اسم الله في الترتيب، واستخدم هذا في الرد على آريوس أن الله والمسيح متساويان. وهذا يتضح أيضًا من كون أن الإنجيل هو إنجيل الله وإنجيل ابنه في نفس الوقت (آية1، آية9).
آية (2): "الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ،"
الكتاب المقدس موحى به من الله. وهذه الكرازة بالخلاص سبق الله فوعد بها في القديم بواسطة الأنبياء، فقبل أن يعمل الله أعمالًا عظيمة يسبق ويهيئ لها زمانًا طويلًا، هذا بالإضافة إلى أن نبوات الأنبياء عن الخلاص بالمسيح تشير لأن هذا الخلاص هو خطة أزلية، وأن الله قد أعد خلاص البشر منذ الأزل. وبولس هنا يطمئن سامعيه أن إنجيله الذي يبشر به قد وضعت أساساته منذ البدء. وأن كرازة بولس لا تتعارض مع الكتاب المقدس لليهود بل هي تفسره وتشرحه.
آية (3): "عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ،"
عَنِ ابْنِهِ
= عن راجعة للآية السابقة، فوعود الأنبياء كانت عن المسيح .ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ
= وقارن مع (رو3:8) لنرى سبق وجود الابن قبل التجسد. ويلاحظ في كلمة ابنه أنها في أصلها اليوناني مسبوقة بأداة تعريف، إشارة إلى بنوة المسيح الوحيدة الفريدة، التي بالطبيعة وليست بالتبني مثلنا. وهذا الابن الأزلي الذي هو ابن الله صار ابنًا للإنسان = مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ = فالمسيح له بنوتان، بنوة لله وبنوة للإنسان، هو ابن الله وإبن الإنسان. مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ = فالعذراء مريم من نسل داود. وقيل عن المسيح أنه من ذرية داود (رؤ16:22).صَارَ
= أخذ حالة جديدة على حالته، اتحد لاهوته بناسوته كإتحاد الحديد بالنار، ولكن لاهوته لم يتأثر ولم يتحول إلى ناسوت، وناسوته كان ناسوتًا كاملًا، شابهنا في كل شيء ماعدا الخطية وحدها. لقد إنتقل من حالة ابن الله غير المنظور (بلاهوته) إلى حالة ابن الله المنظور في الجسد. ولم يظهر للناس سوى أنه إنسان عادي. حينما أخذ جسدًا أخفي لاهوته، ولكن لاهوته ظل كاملًا دون أن يزيد أو ينقص، فهو كامل مطلق لأنه الكل. ولكن بقيامته ظهر أنه ابن الله. وكإنسان كان من نسل داود الملك.
آية (4): "وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا."
تَعَيَّنَ
= أي ظهر ما كان مخفيًا. هذه لا تعني أنه صار فيما بعد ابن الله. بل لقد ظهرت لنا بنوته لله وشهد لها قيامته من الأموات بقوة فائقة للطبيعة. كلمة تعَّين تعني إتضح declare أنه /ظهر/ شُهِدَ لهُ/ صدق على أنه/ تبين أنه/ اعتُرِف بأنه/ تحقق بأنه ابن الله.بِقُوَّةٍ
= الإعلان عن بنوة المسيح لله وإثبات لاهوته جاء بقوة. فالقيامة كانت بقوة بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ = فالقيامة من الأموات والانتصار على الموت عمل قوي جدًا.مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ
= روح القداسة ليس هو الروح القدس. فالروح القدس لم يكن هو الذي أقام المسيح، لأن المسيح كان لاهوته متحدًا بناسوته، والذي أقامه هو لاهوته. ولماذا قال روح القداسة؟ هذا يعني أن سبب قيامة المسيح هو انتصاره على الخطية، إذ كان بلا خطية، فالخطية هي التي تأتي بالموت، ولأن المسيح كان بلا خطية "من منكم يبكتني على خطية" ولأنه انتصر على إبليس في حروبه ولأنه قال "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء" لهذا إنتصر على الموت بسبب قداسته. المسيح كان وهو على الأرض مخفيًا لاهوته في ناسوته، ولم يظهر لاهوته إلا في إنتصاره على الموت وعلى الجحيم الذي فتحه وأخرج منه نفوس الأبرار. فقوله روح القداسة هذا يشير لأن الذي أقام المسيح لاهوته، ولكن ذلك راجع لقداسة المسيح بالجسد وكلمة تعيَّن هنا هي في مقابل كلمة صار في الآية السابقة. فـ "صار" تشير للهيئة والشكل الذي ظهر لنا به، وتعيَّن تشير لحقيقته التي ظهرت وإنكشفت لنا حين انتصر على الموت فعرفنا من هو، وأنه ابن الله.
آية (5): "الَّذِي بِهِ، لأَجْلِ اسْمِهِ، قَبِلْنَا نِعْمَةً وَرِسَالَةً، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ،"
الَّذِي بِهِ، لأَجْلِ اسْمِهِ
= قارن مع (أف 1: 5، 6، 12). الَّذِي بِهِ = نحن لا نحصل على شيء من الآب إلا من أجل المسيح. لذلك يطلب منا المسيح أن نطلب من الآب بإسمه (يو16: 24، 26). ولذلك تضيف الكنيسة على الصلاة الربانية "بالمسيح يسوع ربنا" فنحن لا يمكن قبولنا أمام الآب ولا قبول طلباتنا إلاّ بالمسيح أو الأدق في المسيح. ومعنى كلام الرسول هنا أنه أخذ ما أخذ من خلاص ورسولية بالمسيح. وما الهدف؟ لأَجْلِ اسْمِهِ = أي ما أخذناه فلنعمل به ونتاجر به لأجل مجد إسمه. وماذا أخذ بولس الرسول؟ نِعْمَةً وَرِسَالَةً = نعمة (ارجع للمقدمة) وَرِسَالَةً = أي إرساليته كرسول للأمم.نِعْمَةً
= هنا بولس يشير لعمل النعمة فيه التي حولته من مضطهد للكنيسة إلى مسيحي حصل على الخلاص، بل وإلي رسول. إن الله دعاه ويداه ملوثتان بالدماء ليغير طبيعته فيصير في المسيح خليقة جديدة (2كو17:5). وعمله كرسول كان من أجل الأمم ليطيعوا الإيمان: لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ = نرى بولس الذي يشعر بنعمة الله التي غيرته، يرى أن الله قادر أن يغير الأمم أيضًا فيؤمنوا ويطيعوا الله. إِطَاعَةِ الإِيمَانِ = تعني أننا يجب أن نتقبل قضايا الإيمان وحقائقه بكل خضوع، فحقائق الإيمان هي أمور موحى بها وليست للمناقشات العقلية، علينا أن نخضع الذهن لإعلانات الله بالصلاة، أي نجعل الروح هو الذي يقود العقل، ولا نترك العقل يعمل بالانفصال عن الروح فيضل.فِي جَمِيعِ الأُمَمِ
= الرسالة هي لكل الأمم بلا استثناء.
آية (6):"الَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مَدْعُوُّو يَسُوعَ الْمَسِيحِ."
ومن بين هؤلاء الأمم فإنكم يا أهل رومية مدعوين لكي تكونوا من خاصة المسيح. ولا فضل لأحد في هذه الدعوة بل هي نعمة الله المجانية التي لو قبلها أحد لآمن بالمسيح. وهذه النعمة هي به ولأجل اسمه (آية 5).
آية (7): "إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ اللهِ، مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ."
مدعوين قديسين= المسيحية عند بولس هي قداسة، والإيمان بالمسيح هو تقديس، والمؤمنين بالمسيح قديسين، أي مفروزين عن العالم ليلتصقوا بالله، ويكونوا مخصصين له. وقد قبلوا روح الله ليعينهم على ذلك، وعلى أن يحيوا بالتقوى والطهارة والقلب العابد. والقداسة هي سلم نصعد عليه فليس الكل قد وصل للكمال، بل القداسة درجات. وقوله مدعوين= إذًا هم مثله، فهو أيضًا مدعو (آية1). ولكن لكل منا عمل مختلف. فهو يفتخر بخدمة أحباء الله المدعوين.
نعمة لكم وسلام= كلمة نعمة هي تحية اليونانيين وكلمة سلام هي تحية اليهود، فهو يكتب للاثنين. ولكن بمعنى آخر فالنعمة هي عمل الروح القدس في المؤمن والذي نتيجته السلام، لذلك فالنعمة تسبق السلام (رو 1:5) والنعمة هي أعمال رحمة الله عمومًا، الفداء وإرسال الروح القدس، وكل الخير الذي أعطاه الله لنا، والخير الأعظم هو إرسال الروح القدس، ومن نعمة الله غفران خطايانا ومنحنا رتبة البنوة. ومن الله أبينا والرب يسوع المسيح= هذه تشير لتساوي الآب والابن فالنعمة والسلام يصدران عن كليهما. وكوننا نقول أن الله يرسل النعمة والسلام، والابن أيضًا يرسل النعمة والسلام، فهذا لا يعنى أنهما منفصلين بل الآب والابن واحد. ولكن الله الآب يريد أن يرسل النعمة والسلام والذي نفذ هذا هو الابن بفدائه. فالابن أرسل النعمة والسلام بتنفيذه لإرادة الآب.
آية (8): "أَوَّلًا، أَشْكُرُ إِلهِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، أَنَّ إِيمَانَكُمْ يُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ."
الرسول يبدأ بالجانب الإيجابي ليشجعهم، فهو هنا يمدح إيمانهم قبل أن يبدأ الهجوم. وبولس لم يراهم، ولكنه فرح بنمو الكنيسة في كل مكان، لذلك علينا أن نصلي لنمو الكنيسة وانتشار الإنجيل. ولنتعلم من بولس أن نبدأ دائما بالشكر على ما يعطيه لنا الله، وما يعطيه من خير للآخرين كأنه أعطاه لنا. إلهي= جميل جدًا أن يقول إلهي. هذه مثل "أنا لحبيبي وحبيبي لي" هو يشعر بالعلاقة الخاصة التي تربطه بالله، هو إلهي وقد امتلكني، وأنا عبده الذي يشعر بمحبته فأُسَلِّم نفسي له كعبد لثقتي في محبته. والله يرد في المقابل ويقول أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب.
بيسوع المسيح= فنحن غير مقبولين أمام الآب إلا بالمسيح موضع سروره. إيمانكم= هم لهم إيمان ولكننا سنرى أن بولس يريد أن يصحح مفاهيمهم ويخلصهم من تعاليم الناموس. ولكن واضح أن إيمانهم ذاع وانتشر في كل العالم.
آية (9): "فَإِنَّ اللهَ الَّذِي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي، فِي إِنْجِيلِ ابْنِهِ، شَاهِدٌ لِي كَيْفَ بِلاَ انْقِطَاعٍ أَذْكُرُكُمْ،"
أَعْبُدُهُ بِرُوحِي
= وقارن مع قول الرسول "عبادتكم العقلية" (رو1:12). وطالما نسمع هنا عن عبادة بالروح، فقطعًا توجد عبادة بالجسد. هذه هي عبادة الفروض والواجبات، هي ممارسات بدون قلب. كمن يصوم ويتباهى أمام الناس أو حتى أمام نفسه بأنه صام أكثر من الجميع، وهكذا في مطانياته metanoia وصلواته ولكن مثل هذا يُعَرِّفْ شماله ما تفعله يمينه. وخطورة هذا النوع من العبادة أنه لو صادفت هذا الإنسان تجربة، سريعًا ما يلوم الله أنه سمح له بهذه التجربة، ولم يذكر له خدمته وعبادته وأصوامه وصلواته.. وهذه جربها بولس الرسول في يهوديته (فهذه طريقة الفريسيين في العبادة) ولم تشبعه ولم تعطه فرحًا وسلامًا.أمّا العبادة بالروح، فهي عبادة يقودها الروح، هي عبادة في القلب، ولا تظهر أمام الناس، بلا مظاهر ولا إدعاء، بل في انسحاق للقلب وخضوع لصوت الروح القدس، والروح القدس لا يجبر أحد على شيء، بل هو يقنع الإنسان المؤمن إقناعًا عقليًا بكل ما سيقوم به في عبادته (لذلك فلقد سميت عبادة عقلية رو1:12) وبهذا تكون العبادة بحرية الإرادة أي بكامل حريتنا، وبإرادتنا، وباختيارنا، من كل القلب وبكل رغبة وشوق ويضع الإنسان كل طاقاته الروحية والنفسية والجسدية في خدمة الله والروح يقود كل شيء، والإنسان يكرس كل شيء لله.
فمثلًا يفتح الروح عيني المؤمن على صورة المسيح المصلوب، ويقنع المؤمن قائلًا هل تتمتع بالطعام اللذيذ والمسيح متألم
بسبب خطاياك وخطايا كل البشر وآلام كل البشر، هنا يقدم الإنسان صومًا لا ليتباهى به بل ليشترك مع المسيح في ألمه، هنا يكون كأم رفضت أن تأكل لمرض ابنها، وذلك عن حب، ليس طمعًا في أجر ستحصله منه لذلك فمن يقدم هذا النوع من العبادة، لن يطالب الله حين وقوعه في تجربة، بأن يرفع عنه التجربة مذكرًا الله بأعماله وأصوامه...، فمن يعبد بالروح هو يقدم عبادته لله عن حب ليس طمعًا في أجر. ومثل هذا يتلذذ بعبادته ويشبع بها، فالحب مشبع. وهكذا في الصلاة، فالإنسان يبدأ بأن يغصب نفسه (جهاد) تم تبدأ النعمة عملها فيتلذذ الإنسان بصلاته ولكن في مرحلة التغصب، يسمع المؤمن صوت الروح القدس، معلنًا له حب المسيح له، لقد بذل المسيح لأجلك، أفلا تقف للصلاة وتفرح قلب الله بك. ولو إستجاب وإقتنع بصوت الروح القدس لوجد لذة في صلاته. فهل لو كان يتلذذ في صلواته سيطالب الله بأجر مع أن الله قد أعطاه هذه اللذة. لاحظ أن بولس الرسول في مسيحيته قد إختبر هذا النوع من العبادة، فإختبر الفرح والسلام الذي يفوق كل عقل. بل أن الروح القدس في هذا النوع من العبادة يعطي للمؤمن أن يشعر بمشاعر وأحاسيس حب الله فيبادله حبًا بحب، وربما لا يجد كلمات يعبر بها عن هذا الحب الذي ملأ قلبه فيئن فقط (رو26:8). والعبادة بالروح لا تكون بالضرورة باللسان فقط، بل في شركة عميقة مع الله، هي شركة بلا انقطاع تنفيذًا لقول الرسول "صلوا بلا انقطاع" (1تس17:5). هي شركة في اليقظة ، وهي أيضا في النوم "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش2:5) وهي في المنزل وفي الكنيسة، في العمل وفي الطريق.ولكن من قصة إيليا (1مل19 : 12، 13) نسمع أن إيليا إستمع لصوت الله في الهدوء، فكيف نسمع صوت الله وسط ضجيج العالم (نش3: 2). ● لا بُد لنا من وقفة هادئة في المخدع يوميًا، في صلاة وفي تأمل للكتاب حتى نسمع صوت الروح القدس في داخلنا. وكيف نسمع صوت الروح القدس ونحن غارقين في الخطايا التي تغلق حواسنا الروحية، إنما لأنقياء القلب فقط إمكانية رؤية الله وسماع صوته (مت8:5) فلن نسمع صوت الروح في داخلنا ●ما لم نقدم توبة أولًا. وكيف نسمع صوت الروح القدس إن كنا في صلاتنا نتكلم طوال الوقت، ●لذلك علينا أن نصمت بعض الوقت لنعطي فرصة للروح القدس أن يتكلم. ●وحساسية أذاننا تزداد مع الوقت، وتضيع الحساسية إذا عاندنا صوت الروح القدس، ●وتزداد الحساسية حين نخضع لصوته ●= كيف نسمع صوت الروح القدس.
وإذا استمعنا لصوته يعطينا الإقناع العقلي. إذًا العبادة بالروح هي عبادة عقلية.
وَمَنْ يقدم عبادة بالجسد لا يرى في نفسه غير أنه كامل، إذ أنه يفعل كذا وكذا، أما من يقدم عبادة بالروح، فإن الروح القدس يفتح عينيه على خطاياه وعدم استحقاقه، لذلك يقول بولس الرسول "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي15:1). وبينما من يقدم عبادة بالجسد نجده يلوم الله إذا وقعت له تجربة، نجد من يعبد الله بالروح، إذا جاءت عليه تجربة يقول أنا أستحق هذا وأكثر، لأنه يرى خطاياه، بل سيشعر بفرح لأنه طالما أن الله يؤدبه، إذًا هو يحبه (عب6:12). بل إن أتاه خير يشعر بأنه لا يستحقه، كما صرخ بطرس "أخرج يا رب من سفينتي" (لو8:5) إذ شعر بأنه خاطئ لا يستحق كل هذه الخيرات.
بِلاَ انْقِطَاعٍ أَذْكُرُكُمْ
= الذي يصلي بالروح لا يهتم بنفسه بل هو مشغول بآلام وخلاص نفوس الآخرين، يشكر على توبة فلان، ويبكي على خطية فلان، لأنه سيهلك بسببها، ويصرخ لشفاء فلان، يطلب السلام للعالم المضطرب المتألم. مثل هذا سيتشبه بالله في اهتمامه بالناس.فِي إِنْجِيلِ ابْنِهِ
= هذه العبادة بالروح تظهر أيضًا في كرازتي وخدمتي وتبشيري بإنجيل المسيح.
آية (10): "مُتَضَرِّعًا دَائِمًا فِي صَلَوَاتِي عَسَى الآنَ أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي مَرَّةً بِمَشِيئَةِ اللهِ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ."
هو يشعر بالمسئولية تجاه روما، فالله جعله رسولا للأمم. فهو خائف علي الكنيسة من التهود. ولكن لنتعلم أن ليس كل ما نريده يوافق مخططات الله. الروح القدس كان يقود الرسول "وَبَعْدَ مَا ٱجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلَاطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِٱلْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ . فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَٱنْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ. ظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا" (أع16: 6-9) + (رو1: 13+ رو15: 23).
آية (11): "لأَنِّي مُشْتَاقٌ أَنْ أَرَاكُمْ، لِكَيْ أَمْنَحَكُمْ هِبَةً رُوحِيَّةً لِثَبَاتِكُمْ،"
أمنحكم هبة= سؤال.. هل لو كان بطرس موجودًا في روما منذ 16 سنة وقد أسس كرسيها كما يقول الإخوة الكاثوليك، هل كان يصح أن يقول بولس هذا وأين بطرس؟ ولماذا لا يمنحهم بطرس هذه الهبة.؟ والهبة التي يريد بولس أن يمنحها هي هبة روحية= لأنها من عمل الروح القدس، وهي تثبيتهم في الإيمان الصحيح وإبعادهم عن التهود، وهي أيضًا البركة الرسولية.
آية (12): "أَيْ لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ بِالإِيمَانِ الَّذِي فِينَا جَمِيعًا، إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي."
نلاحظ هنا رقة واتضاع بولس الرسول، فهو يظهر هنا احتياجه لهم، وأنه سيتعزي بإيمانهم. وكيف يتعزى بإيمانهم الخاطئ؟ هذا لأنهم هم مؤمنين أحبوا المسيح وغيورين على إيمانهم وهذا ما يعزيه، أي غيرتهم، ولكن إيمانهم يحتاج تصحيح. وحين يشرح لهم يتعزى فالمُروِي هو أيضًا يُروَي (أم25:11). وهم سيتعزون أي يفرحون بإيمانه الصحيح حين يفهمونه. ولكننا نلمح هنا أن الرسول يقول أن إيمانهم مختلف عن إيمانه، فإيمانهم إستلموه من مسيحيين من أصل يهودي ومتأثرين بيهوديتهم. لذلك ففي (رو 15:1) يقول أنه مستعد لتبشيرهم أي تصحيح إيمانهم. فحتي الأمم منهم إستلموا الإيمان علي يد يهود، وهو يريد أن يصحح الإيمان ويلغي ما هو متهود فيه مثل لزوم الختان للخلاص.. الخ.
آية (13): "ثُمَّ لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى الآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ أَيْضًا كَمَا فِي سَائِرِ الأُمَمِ."
الرسول لا يريد الخدمة السهلة، بل هو يريد أن يذهب ليصحح لهم إيمانهم. ولنلاحظ أنه كثيرًا ما نطلب طلبات جيدة، كما طلب الرسول هنا والله يؤجل الاستجابة لوقت مناسب يراه الله (هذا أسماه ملء الزمان) ثمر= حيثما يزداد الشر يريد الرسول أن يذهب ليكون له ثمر أي مؤمنين إيمانًا صحيحًا، وهذا لكي تُعلَن قوة الإنجيل بالأكثر.
آية (14): "إِنِّي مَدْيُونٌ لِلْيُونَانِيِّينَ وَالْبَرَابِرَةِ، لِلْحُكَمَاءِ وَالْجُهَلاَءِ."
الرسول يشعر أن الله وكّله على وكالة وأعطاه نعمة لأجل كل الأمم، وهو شعر بأن هذا دين في رقبته يود لو صفى حسابه معهم بأن يجعلهم يؤمنون. وهو شعر بأن هناك دينًا في رقبته:
1. فهو مقدِّر لعظمة ما أخذه من نعم وأنه صار مديونًا لله. ويريد أن يرد الجميل لله الذي أعطاه كل هذا، ولكن كيف؟ فليكن هذا بتبشير الناس فإرادة الله أن الجميع يخلصون.
2. لمحبته لكل الناس واشتياقه لخلاصهم.
3. هو يشعر بأن ما أخذه لا يستحقه إذ يشعر ببشاعة ماضيه ومع كل هذا أخذ. لذلك شعر بنوع من الالتزام نحو الذين لم يتذوقوا حريته التي في المسيح والمجد الذي أخذه. لذلك قال "إذ الضرورة موضوعة عليَّ، فويل لي إن كنت لا أبشر" (1كو16:9). البرابرة= كان اليونانيين والرومان يعتقدون أنهم هم الحكماء وباقي الناس برابرة.
عمومًا فمن يتذوق يشعر بأنه يريد أن الكل يتذوق. بل يشعر بحزن إن حُرِمَ أحد من نعمة الله "من يعثر وأنا لا ألتهب، من يضعف وأنا لا أضعف".
آية (15): "فَهكَذَا مَا هُوَ لِي مُسْتَعَدٌّ لِتَبْشِيرِكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ فِي رُومِيَةَ أَيْضًا،"
ما هو لي: أي أنني مكلف بهذا، وفي ترجمات أخرى "لى لهفة أن أبشركم" وأن أكرز بالإنجيل بين الأمم، ما هو لي أي أن هذا هو عملي الذي خلقني الله لأجله. أنتم الذين في رومية= هو يريد أن يبشر في روما مركز الوثنية والخطية ومستعد لاحتمال أي ألم في سبيل ذلك. أيضًا= هو تعبير يشير لصعوبة التبشير في روما التي تمجد القوة، وهو سيذهب ليبشر بنجار مصلوب وهو موت العبيد الذين ارتكبوا أبشع الجرائم، قال أحد فلاسفة الرومان: "أتمنى أن لا تخطر فكرة الصلب على بال إنسان روماني شريف"
لتبشيركم= إذًا فإيمانهم محتاج لمراجعة جذرية، بسبب التقاليد اليهودية التي دخلت لإيمانهم. ولشعوره بالدين نحوهم هو مستعد للذهاب إليهم.
آية (16): "لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ."
لست أستحي = قال في غلاطية حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع.. (غل14:6). والرسالة هنا موجهة للرومان أغنى وأعظم دولة في العالم. وهم في رومية يفتخرون بالقوة والعظمة ويعيشون في زهو وكبرياء. لكن بولس لا يستحي بالإنجيل الذي يبدو في ظاهره ضعفًا، هو لا يستحي بأن يبشر بأن نجارًا مات مصلوبًا بين لصين، وهذا يدعو لاشمئزاز الرومان، وربما كان مسيحيو روما يشعرون بالإستحياء من هذه الفكرة شاعرين بالزهو أنهم من سكان روما القوية سيدة العالم والرسول أراد أن يكسر من زهوهم، وحتى لا يستحوا قال: لا أستحي وهو لا يستحي لأنه شاعر بقوة عمل الله. أما أهل غلاطية فهم بؤساء وفي مذلة لذلك يقول لهم أفتخر. عمومًا فالطريق الذي يبدأ بلا أستحي ينتهي بأفتخر. ولو سألني أحد أتعبد المصلوب؟ أقول نعم فهذا الصليب علامة محبته الإلهية غير المتناهية لي وعنايته بي.
لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ
= هو لا يخجل من إنجيل الله لأنه يشعر بقوة هذا الإنجيل. فالإنجيل ليس رسالة نظرية أو فلسفة فكرية تعليمية، إنما هو عمل إلهي جبار، وحركة حب إلهي لا تتوقف لتبلغ بالإنسان إلى شركة الأمجاد الإلهية. هو قوة يشعر بها بولس الرسول وسيشعر بها كل مؤمن. هو قوة مجالها خلاص الإنسان، قوة تعمل في الفكر والإرادة والنفس والشعور والجسد. بعظة واحدة من بطرس آمن 3000 لأن الكلمة لها قوة جبارة غيرت الدولة الرومانية نفسها للمسيحية. فالإنجيل قائم على عملية تغيير كبرى بواسطة المسيح، تعطي الخلاص وتهبه للذين يؤمنون بالمسيح. لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا = زمنيًا فقط، فاليهود كانوا أسبق في ارتباطهم بالله. وقد أخذوا المواعيد بالخلاص وإئتمنوا على ناموس الله أولًا. وخدمة المسيح بدأت معهم، وهكذا بدأت خدمة الرسل معهم ثم وصلت الدعوة لكل العالم. ولهذا فعليهم واجبات أكثر فلا محاباة، هم عليهم الإيمان بالمسيح أولًا، ثم أن يبشروا هم الأمم. ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ: فالأمم أيضًا مدعوين.
آية (17): "لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»."
فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ
= هذا الإنجيل الذي أبشر به هو قوة الله للخلاص (آية 16) وكيف يُخَلِّص؟ هذا بأن يجعل المؤمن بارًا. وهل يستطيع كل مؤمن أن يصبح بارًا؟ قطعًا، فعمل نعمة الله التي تبرر عمل قوي جدًا جدًا. الله يعطي للمؤمن المعمد والممسوح بزيت الميرون، أن يحل عليه الروح القدس الذي له قوة جبارة في تغيير حياة المؤمن، من حياة الخطية إلى حياة البر، وتغيير شاول الطرسوسي نفسه إلى بولس الرسول خير شاهد لذلك ((راجع معنى التبرير في المقدمة هنا في موقع الأنبا تكلا). ولنفهم أنه علينا أن نغصب أنفسنا كمؤمنين لنفعل البر (جهاد إيجابي) والنعمة تعطينا أن نتلذذ ونتعزى بعمل البر. ولاحظ أننا نصير أبرارًا بحياة المسيح فينا. ولاحظ أن بر الناموس كان "اعمل فتحيا" أمّا في المسيحية فالتبرير يبدأ بالإيمان بالمسيح، فلا بر خارج عن الإيمان بالمسيح. وبعد الإيمان يأتي دور المعمودية التي فيها نموت ونقوم مع المسيح بحياته. ويأتي بعد ذلك دور حلول الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح (سر الميرون)، وبقدر ما نثبت في المسيح ننمو في البر. ونحن نثبت في المسيح بقدر ما نصلب أنفسنا مع المسيح ونجاهد (جهاد سلبي وجهاد إيجابي) لذلك فمدخل التبرير في المسيحية هو الإيمان.مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ = *بر الناموس كان يعنى أن يلتزم الإنسان بكل وصايا الناموس فيحيا "فَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، ٱلَّتِي إِذَا فَعَلَهَا ٱلْإِنْسَانُ يَحْيَا بِهَا. أَنَا ٱلرَّبُّ" (لا18: 5). وكان أن سقط المتكبرين من اليهود في خطية *البر الذاتي إذا نفذوا حتى وصية واحدة كالعشور أو الصوم. وهم ما كانوا قادرين حقيقة على تنفيذ الناموس. وهذا ما إعترف به الرسل أنفسهم "فَٱلْآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ (أع15: 10). ولكن اليهود كالفريسيين في كبريائهم إنتفخوا كما حدث مع الفريسى الذي قال عنه السيد المسيح "أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاةِ، وَلَا مِثْلَ هَذَا ٱلْعَشَّارِ. أصوم مَرَّتَيْنِ فِي ٱلْأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ (لو18: 11-12). وكان المقصود من الناموس أن يشعروا بالاحتياج لمخلص إنتظره الأتقياء المتواضعون والفاهمون، فقال إشعياء النبي "ليْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ" (إش64: 1). لذلك قال لهم هوشع النبي .. حاولوا بقدر إمكانكم إلى أن يأتي المسيا المنتظر فيكون هناك أسلوب جديد للبر "اِزْرَعُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِٱلْبِرِّ. ٱحْصُدُوا بِحَسَبِ ٱلصَّلَاحِ. ٱحْرُثُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ ٱلرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ ٱلْبِرَّ" (هو10: 12). ومن هو الذي يأتي سوى المسيح. وبه وفيه نتبرر. إذًا مدخل حياة البر هو الإيمان بالمسيح. وهذا البر ليس من ذواتنا فقط فنتكبر بل البر هو بأن نجاهد، وهو بحياته فينا نسلك في البر. هذا هو *بر الله في المسيح أى بحياة المسيح فينا يستخدم أعضاءنا كألات بر (رو6: 13). "لِأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللهِ فِيهِ" (2كو5: 21). وبدونه لا نقدر أن نفعل شيئًا. وفيه نستطيع كل شيء. وإن لم نسلك في البر يبكتنا الروح على بر (يو16: 8).
مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ = الإيمان ينمو ويزداد (2تس3:1+ لو5:17). وينتقل المؤمن من درجة إلى درجة أعلى وأعمق. والله قسم لكل منا قدر من الإيمان (رو3:12) ونحن أمّا نُنَمِّي هذا القدر أو ننقصه وكل إيمان نبلغه يعبِّر عن مستوانا الروحي الذي وصلنا إليه، وطوبى للجياع والعطاش إلى البر.. (مت6:5). مثل هؤلاء ينمو باستمرار مستواهم الروحي وبالتالي ينمو إيمانهم من إيمان لإيمان أعمق وأعلى وهذا متوقف على جهادنا (سلبي وإيجابي) فندخل للعمق في معرفة ومحبة المسيح، وأيضًا على خضوعنا وتسليمنا الحياة بين يدي الله بشكر وبلا تذمر (كو2: 7)، بهذا ينمو الإيمان، بل ننمو في المجد، ومن مجد إلى مجد (2كو18:3). وقطعًا فكلما نزداد في درجتنا الإيمانية سنزداد في عمل البر وحياة البر. ولاحظ أن الإيمان هو ثمرة للامتلاء من الروح القدس (غل22:5، 23) والامتلاء من الروح يأتي بالجهاد (راجع المقدمة). والروح القدس هو الذي يخبرنا عن المسيح (يو16: 14) فنحب المسيح ونثق فيه فيزداد إيماننا.
أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا
= هذه من نبوة (حبقوق 4:2). وكان حبقوق يقصد بها أن بابل ستؤدب شعب الله فقط لكنها لن تبيده لسبب بسيط هو أن هذا الشعب شعب الله. والذين عبدوا الأوثان ستبيدهم بابل، أمّا الأبرار الذين يؤمنون بالله فسيحيون، بابل ستؤدبهم فقط لَيكْملوا، لكنها لا تستطيع أن تبيدهم. لكن بولس فهم الآية على أن البر يكون بالإيمان وليس بالأعمال (أعمال الناموس) كما فهم اليهود. وبولس عاش في يهوديته يمارس أعمالًا جيدة لكنه لم يتذوق حياة البر النابعة عن إصلاح الداخل الذي حدث له بالإيمان. خلال أعمال الناموس كان يشعر بفساد الداخل، وأنه يعمل أعمالًا صالحة ولكن مع وجود كبت، وحنين للخطية. أما في ظل الإيمان فوجد نفسه يعمل البر بسهولة وبرغبة صادقة.تأمل:- في الآية كما قصدها حبقوق وبنفس مفهومه، فمن يقع في تجربة الآن. عليه أن ينظر لله بإيمان بأن الله سيرحمه ويتحنن عليه، ويحول الضيقة لخيره فهو صانع خيرات. وهذا عكس من يخاصم الله وقت التجربة. في هذه الآية نجد أن المؤمن ينمو باستمرار في بر المسيح، ولكن هذا لا يعني أننا نصير بلا خطية، فطالما نحن في الجسد فنحن معرضون لأن نخطئ ولكن التوبة والاعتراف يغفران الخطية.
آية (18): "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ."
لأن = هذه تعني أن هذه الآية متعلقة بما قبلها. والمعنى أن خطايا الناس أغضبت الله= غضب الله معلن من السماء= لذلك كان هذا التبرير بالإيمان ضروريًا. هذا الغضب ظهر ضد كل من لا يسلك في صلاح ووقار من نحو الله. وضد من خالف الناموس الطبيعي الأخلاقي ولكل من تنكر للحق وضل وراء العبادة الوثنية وحياتها وممارساتها الفاجرة. وبولس هنا يرسم في الآيات التالية صورة للعالم بدون بر الله أي بدون المسيح، والانحدار الذي وصلت إليه البشرية مما استوجب غضب الله. وكانت البشرية بحالها هذا تستحق الإفناء كما حدث في الطوفان، ولكن الله وعد نوح بأنه لا يكرر الطوفان إذ هو يريد حياة العالم. والرسول بدأ بشرور الأمم في هذا الإصحاح قبل أن يذكر شرور اليهود حتى لا يُتهَم بأنه معادي لليهود.
لكن كان الأمم قد كسروا الناموس الطبيعي واليهود قد كسروا الناموس الموسوي لذلك صار الكل في حاجة لتدخل إلهي كي يتبرروا بالإيمان بالمسيح. وبهذا صار هناك طريقين للبشر، إمّا الإيمان بالمسيح للتبرير، وهذا الإيمان ينمو يومًا فيوم، والنهاية مجد، أو السير في خطايا تغضب الله، والانحدار يومًا فيوم، والنهاية هلاك (أنظر الرسم). الله أعلن البر في المسيح ليبطل الغضب. ومن يؤمن يتبرر ومن لا يؤمن ينصب عليه الغضب. وكان البر بالمسيح معلن في الكتاب (آيات 16، 17).
الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ
= هذه الخطايا التي كان الوثنيون يمارسونها حجزت الحق أي جعلته غير ظاهر ولا واضح، تَعَبُّدهم للأوثان الباطلة وعدم تعبدهم لله الحق عطل ظهور الحقيقة. عمومًا طريق الخطية يقود للعمي (مت5: 8)، أمّا طريق النقاوة فهو طريق الامتلاء من الروح القدس الذي يفتح الحواس الروحية، ومن حواسه الروحية مفتوحة فهو حي، والعكس. لذلك قيل "لك اسم أنك حي وأنت ميت" (الخطية أغلقت حواسك الروحية) (رؤ1:3) . وعكس ذلك إذ عاد الابن الضال تائبًا قيل "ابني هذا كان ميتًا فعاش". والروح القدس أيضًا هو روح النصح (2 تي 1: 7). وهو الذي يعلمنا كل شيء (عب11:8) لذلك حين جاء المسيح وهو الحق لم يعرفه اليهود بسبب خطاياهم، لكن كان هناك من عرفه من البسطاء. فحب المال والحسد أعمي عيون رئيس الكهنة. وما يقال على العينين يقال عن بقية الحواس. وفي قصة القديس أغسطينوس، يقول في اعترافاته أنه في خطيته قبل أن يؤمن وجد أن الكتاب المقدس، كتابًا عاديًا أقل من باقي الكتب (كانت عينه مغلقة عن رؤية الحق، كانت خطاياه تحجز عنه رؤية الحق). أما بعد الإيمان والتوبة كان يقرأ الكتاب المقدس وهو يبكي. والسيد المسيح يقول "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو32:8). فمن لا يختار المسيح الحق سيختار العالم والخطية أي الباطل، ويكون مستعبدًا له، يكون هذا الباطل سيدًا وإلهًا له (كالمال مثلًا). أما من عرف المسيح تنفتح عينيه على مجد المسيح فيحسب كل الأشياء التي في العالم نفاية (في8:3) والبداية نقاوة القلب بالتوبة. والعكس فمن ملأت الخطية قلبه ورفض الله ينحدر لمستوى متردي، فالمصريين وغيرهم عبدوا الحيوانات، واليونانيون عبدوا الأمراض.
آية (19): "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ،"
إنهم يحجزون الحقيقة بسبب إنكارهم لله وعبادتهم الفاجرة للأوثان فهل لهم أن يعتذروا بأنه لم يكن لهم ناموس؟ الإجابة لا عذر لهم.
لأن المعرفة الحقيقية عن الله يستطيع العقل البشري أن يتوصل لها. فالله أعد عقول البشر ليهتدوا إليه، الله غرس بذرة الإيمان في كل إنسان. والله أعطى أيضًا لكل إنسان ضمير يعرف به الحق (رو14:2، 15). فمجرد التأمل في خلقة الإنسان أو العالم أو الكون يثبت ضرورة وجود هذا الإله. وكثيرون من الفلاسفة شعروا بهذا وقالوا أن الأوثان خرافة وأنه لا بُد أن يكون هناك إله وراء هذه الطبيعة ينبغي أن نعبده. وهذا الشعور بوجود إله ندركه من خلال أعماله هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. ولاحظ قبول الأطفال لله ومحبتهم له وتصديقهم للحقائق الإلهية. إذًا إن كان الله قد أعطى لليهود ناموس موسى، فهو أعلن عن نفسه للوثنيين خلال الطبيعة المنظورة (مز1:19) فالله لا يبقي نفسه بلا شاهد.
آية (20): "لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ."
أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ = invisible nature أي قدراته الإلهية. فالله أظهر قوته في خليقته التي صنعها من أجل محبته لنا. لكن تظل طبيعته الإلهية غير منظورة للإنسان، ولا يمكن بعيوننا الجسدية أن ندرك كماله، ولكن يمكن أن ندركه من خلال أعماله = بِالْمَصْنُوعَاتِ. قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ = أزلية أبدية، أي بلا بُداية ولا نهاية، والمعنى أن الله لم يخلقه أحد، هو واجب الوجود، هو القوة وراء كل المخلوقات والمصنوعات
حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ = هذه عن الوثنيين. وهم بلا عذر لأنه إذا كان يمكن إدراك الله بعقولنا فلا عذر لهم ولا لأي إنسان يُنكر وجود الله. ونلاحظ أن بولس الرسول كرر هذا القول بالنسبة لليهود في الإصحاح الثاني، فلا عذر للوثنيين ولا عذر لليهود. لا عذر للوثنيين الذين عبدوا المخلوق وتركوا الخالق، ولا عذر لليهود الذين أخطأوا في حق الله. وكم وكم نحن بلا عذر نحن المسيحيين ونحن هياكل للروح القدس.
آية (21): "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ."
هم بلا عذر لأنهم علي الرغم من أنهم بواسطة ما في المصنوعات وما في الخليقة من عجائب، وهذه أعطتهم أن يدركوا ويعرفوا أن وراء كل هذا لابد من وجود إله= لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ = كلام الرسول يعني أن الإنسان أولًا عرف الله، وأدرك وجوده، وعرف حكمته التي خلق بها هذه الأشياء.
فما الذي حدث؟ كيف بدأ الإنهيار؟ ولماذا لم يمجد هؤلاء الوثنيون الله ويشكروه. الإجابة في الآية 18.. أنهم حجزوا الحق بالإثم.
لم يمجدوه = الإنسان يمجد الله بأعماله وحفظ وصاياه وإحترامها "فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ" (مت5: 16). وهؤلاء لم يشهدوا لله بأعمالهم، بل سعوا وراء شهواتهم غير مبالين بإرادة الله. ولاحظ أن وصايا الله كانت مطبوعة أولا على القلوب وهذا ما يُسَمَّى بالضمير.
أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ = من إنفتحت عينيه وأدرك عظمة الله وجلاله ومحبته وسموه وقدراته ومجده يسبح الله، ويقدم له العبادة عن حب لأنه يستحق هذه العبادة وهذا التسبيح وهذا الشكر. ونفهم أن كلمة يمجدوه تعنى أيضًا أنه يجب أن ننسب لله كل المجد، فهو أبو المجد (أف1: 17) فنقدم له العبادة والتسبيح "لمدح مجده" (أف1: 3-14). وتسبيح الله هو الطريق للإمتلاء من الروح القدس كما يقول القديس بولس الرسول (أف5: 17-21). والإمتلاء من الروح يعطى الإنسان الثبات في الله وإمكانيات الحياة السماوية. وكلما إمتلأ الإنسان من الروح القدس يرتفع في السماويات، وهذا معنى ما قيل عن الكاروبيم "رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلرِّيَاحِ" (مز18: 10). فالكاروبيم الذين أدركوا وعرفوا الله رفعهم الله إلى درجات سماوية عالية (كاروب تعنى ملء المعرفة). وهذا يعطيهم فرحا عظيما فيزدادون في التسبيح قائلين "قدوس قدوس قدوس".
ولكن هؤلاء الوثنيون لأنهم ساروا وراء خطاياهم نجدهم وقد إنطمست عيونهم فما عادوا يعرفون الحق. بل صاروا يسيرون وراء الأكاذيب فهم لا يرون الطريق لعماهم، ومن ثم يتشبثون بالباطل. ويفقد القلب وعيه ويصير بلا تمييز ويغيب عنه نور الله. وعكس هذا تماما نسمع قول رب المجد "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8). ولأن هؤلاء ما عادوا يرون الله أو يعرفوه فهم ... لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ = من أجل هذه المراحم العديدة التي وهبها لهم. فشكر الله وتمجيده يرفعني في طريق النمو، والعكس فالتذمر وتمجيد النفس (الذات) عوضًا عن تمجيد الله تجعلني أنحدر. ويظل الإنحدار حتى يصل الإنسان لظلام القلب= أَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ ومن هنا تظهر أهمية التسابيح الكثيرة في الكنيسة وكثرة ترديد صلاة الشكر في كل الأوقات وكل المناسبات. وكما يقول ماراسحق السرياني "كل عطية بلا شكر هي بلا زيادة". وهذا ما فعله الملائكة حينما أسس الله الأرض "عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللهِ" (أى38: 1-7). فالملائكة عينيها مفتوحة وترى أعمال الله وتسبحه قائلة "وَهَذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ ٱلْأَرْضِ" (إش6: 3). فهم بتسبيحهم الله يعترفون بمجده وعظمته وقدراته التي ظهرت في خليقته. وكان بالأولى بنا نحن كبشر أنه ينبغى علينا تقديم الإعتراف والشكر والتسبيح والتمجيد والعبادة لله، إذ نكتشف قدرة الله في الخلق، فالله خلق الأرض بهذا الجمال لنحيا نحن فيها كبشر. أما الملائكة فمكانهم في السماء. ومع هذا فهم مجدوا الله على خلقته للأرض فسبحوه على عمله وقدراته. وهم بتسبيح الله يزدادون محبة لله، وبالتالي يفرحون.
وحينما شفي المسيح العشرة البرص عاد واحد منهم فقط ليشكر، فقال المسيح فأين التسعة (لو12:17-19). ولاحظ أن المسيح لم يكن يريد عودتهم لأنه محتاج لشكرهم بل هو يريد أن يعطيهم ما هو أكثر، كما حدث مع هذا الأبرص الذي عاد، إذ حصل على الخلاص الروحي بجانب الشفاء الجسدي. فالله يفرح بمن له روح الشكر ليزيده من بركاته. والعكس فالتذمر أهلك اليهود في برية سيناء. الشكر يجعل القلب طيعًا في يد الله، فيقوده للخلاص. فمثل هذا القلب الشاكر الطيِّع يسهل على الله أن يتعامل معه ويعطيه إستنارة ليعرف أكثر فيمجد أكثر وهكذا. فالشفاء الروحي الذي يعطي الاستنارة يستلزم في بعض الأحيان أن يسمح الله ببعض التجارب والآلام، ومن هو الذي يحتمل التجارب سوى القلب الشاكر الذي اكتشف محبة الله، وأن هذه التجارب دليل محبته وهي طريقه للخلاص. أما التذمر فهو يقسي القلب، فإن سمح الله بتجربة يرفضها ويتذمر، ويظلم هذا القلب، ومثل هذا لا يعود يرى الله ولا يدرك محبته. وهؤلاء يسيرون وراء الأكاذيب فهم لا يرون الطريق لعماهم، ومن ثم يتشبثون بالباطل. ويفقد القلب وعيه ويصير بلا تمييز ويغيب عنه نور الله. فالله يعطي المعرفة بطرق شتى لتنتهي إلى شكره وتمجيده على مراحمه. وعدم الإحساس بمراحم الله هو أصل كل الشرور. فإن لم يكن للمعرفة ثمر، يرفع الله هذه المعرفة، فيكون هذا وبالًا على الإنسان، فيبدأ يمجد نفسه عوضًا عن أن يمجد الله. بل إنحدر الإنسان فصار يمجد العجول والقرود والفئران... والآن هناك من يمجد المال والشهوات.
آية (22): "وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ،"
بينما هم يعتقدون في أنفسهم أنهم حكماء، فإنه لسبب عدم إدراكهم الحقيقة إدراكًا صحيحًا قد أصبحوا أغبياء وجهلاء. فالمصريين أصحاب كل علم عبدوا العجل. واليونانيين عبدوا الأمراض والشهوات البشرية بل أن هناك الآن من يعبد الشيطان. ولاحظ أن هذا الكلام موجه لمن آمن من الوثنيين وظل يفتخر بفلسفات الوثنيين، وكأن الرسول يقول لهم إلى أين قادتكم فلسفاتكم؟ لقد قادتكم للانحطاط.
آية (23): "وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ."
من يعبد الله يكون له كرامة، ويقابل هذا الهوان لمن يعبد الأوثان والحيوانات. فعوضًا عن الالتصاق بالله الذي له كل المجد- وهذا يقود الإنسان للخلود- إنحط الإنسان وعبد الفانيات فصار مصيره الزوال.
آية (24): "لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ."
ولأجل أنهم سلكوا هذا السلوك المشين وأهانوا الله لذلك فقد نزع الله منهم نعمته وتركهم ليسلكوا بحسب شهواتهم الرديئة في كل نجاسة.
أَسْلَمَهُمُ اللهُ من يده لشهواتهم. الله لم يجعلهم يفعلون هذا، بل هو تركهم وتخلت نعمته الحافظة عنهم فإنحطوا لهذه الدرجة، هم صاروا كمريض رفض علاج الطبيب فتدهورت حالته. الله أسلمهم أي تركهم لما إشتهته قلوبهم ولما أرادوا أن يعملوه، رفع الله عنهم يده فأكملوا شهوة قلوبهم في النَّجَاسَةِ = أي عدم الطهارة في العلاقات الجنسية والتي تصل للشذوذ الجنسي فأهانوا أجسادهم. ولنلاحظ أن الخطية لها أضرار بدنية فضلًا عن الأضرار الروحية.
آية (25): "الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ."
اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ
= هؤلاء إستبدلوا الإله الحقيقي بالأوثان، إستبدلوا الحق الذي إستعلن لهم في وعيهم العام، بالآلهة الوثنية الكاذبة غير الحقيقية. ثم كرسوا قلوبهم ووجهوا عبادتهم إلى الخليقة والمخلوقات. وهكذا بدلًا من أن يكرموا ويعبدوا الخالق الذي خلق وكوَّن كل المخلوقات، والذي يلزم أن نقدم له التمجيد إلى الأبد، عبدوا المخلوقات. لقد ظهر تقدير الله للإنسان في أنه خلقه على شبهه وعلى صورته بينما ظهرت حماقة الإنسان وظلام قلبه في أنه صنع الله على حسب صورٍ فانية. ولاحظ إنحدار الإنسان الذي جعل آلهته بهذه الصور، فإذا كانت هذه صورة الآلهة فكم تكون قيمة الإنسان الذي يعبدها. ولاحظ أنه يطلق على الآلهة الوثنية الْكَذِبِ فهي شخصيات وهمية غير حقيقية، بل هي تخفي الحق ولا تفيد ولا تضر. وأنظر لمن يتصور أن أي شهوة خاطئة قادرة أن تشبعه فيجري وراءها العمر كله ولكنه لا يشبع، كمن يبحث عن ماء لا يروي أو عن آبار مشققة لا تضبط ماء تاركًا الله المشبع ينبوع المياه الحقيقي (إر13:2) فهذه المياه التي لا تروي هي الكذب.الذي
هُوَ مُبَارَكٌ = حينما ذكر إهانات الوثنيين لله لم يحتمل إهانتهم له وبارك الله.
آية (26): "لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى أَهْوَاءِ الْهَوَانِ، لأَنَّ إِنَاثَهُمُ اسْتَبْدَلْنَ الاسْتِعْمَالَ الطَّبِيعِيَّ بِالَّذِي عَلَى خِلاَفِ الطَّبِيعَةِ،"
من أجل أنهم عبدوا المخلوقات دون الخالق فقد منع الله نعمته عنهم إذ هم لا يستحقونها. لاحظ قول المزمور "الرب يعطك حسب قلبك" (مز 4:20
) ، فالله نزع عنهم حمايته بسبب قساوة قلوبهم فتسلطت عليهم الأهواء الجسدية المخجلة غير الشريفة.حين يرفع الله نعمته وحمايته عن الإنسان، ينحط هذا الإنسان إلى أحط الدرجات، يكون كمن يتدحرج على منحدر وحتى أسفل درجة. هذه مثل "أنا مزمع أن أتقيأك من فمى" (رؤ3: 16). هذا الشخص المسيحي كان في المسيح وحين رفض المسيح، ها هو المسيح يحذره أنه هو سوف يخرجه من الثبات فيه ولا يعود واحدًا مع المسيح طالما هو لا يريد المسيح.
أهواء الهوان
= كل انحرافات الشهوة، شهوات الخزي والعار، الذي وصل للزنا مع الحيوانات، وهذا ما حذَّر الله الشعب منه (خر19:22) (إذ هو منتشر في كنعان) قبل أن يدخلوا كنعان. غالبًا كان هذا ما يقصده الرسول هنا وإستحي من ذكره.
آية (27): "وَكَذلِكَ الذُّكُورُ أَيْضًا تَارِكِينَ اسْتِعْمَالَ الأُنْثَى الطَّبِيعِيَّ، اشْتَعَلُوا بِشَهْوَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَاعِلِينَ الْفَحْشَاءَ ذُكُورًا بِذُكُورٍ، وَنَائِلِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ جَزَاءَ ضَلاَلِهِمِ الْمُحِقَّ."
الفحشاء= الفعل القبيح كالشذوذ الجنسي. نائلين في أنفسهم جزاء= هم ضروا أنفسهم وانحدرت كرامتهم، وهم يستحقوا هذا فهم الذين اختاروا طريق الانفصال عن الله. ونرى الآن وباء الإيدز يحصد هؤلاء الشواذ جنسيًا.
آية (28): "وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ."
هم لم يرغبوا أن تكون لهم المعرفة الحقيقية عن الله، لذلك تركهم الله فصار عقلهم عاجزًا عن أن يميز بين الحق والكذب. وكان نتيجة ذلك أن فعلوا ما لا يجب وما هو غير لائق أخلاقيًّا. إن النعمة هي عطية الله للإنسان فإذا أساء الإنسان التصرف وأفسد سلوكه استحق أن يرفع الله عنه نعمته ويسلمه إلى أهوائه وفضائحه. والمسئولية لا تقع على الله بل على الإنسان، كالمريض الذي رفض الانصياع لنصائح طبيبه واختار أن يعالج مرضه بنفسه على الرغم من جهله بذلك. فإذا ساءت حالة المريض لا يلام الطبيب. وكما يتخلى الطبيب عن تقديم النصائح لمريض يخالفه دائمًا هكذا يتخلى الله عن الخاطئ المصِّر على خطيته.
آية (29): "مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلًا وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا،"
الإثم= الشر على وجه العموم، كما يشار بكلمة البر للصلاح على وجه العموم.
شر= يشار هنا إلى الإضرار بالغير دون أن يحصل المرء على كسب شخصي.
خبث= الميل النفسي الآثم نحو الآخرين. حسد= يقود للقتل (قايين وهابيل)
الخصام= هو الإضرار بالغير دون أن يصل الأمر للقتل بل السعي لتكدير الآخرين.
ثالبين = من ثلب = عاب شخصًا في غيابه وشهَّر به ليفسد سمعته.
الآيات (30، 31): "نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، مُبْغِضِينَ للهِ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا، غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ، بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ."
ثالبين = ينسب للآخرين العيوب والنقائص ويسيء لسمعتهم.
مدّعين = أي متعاظمين في أقوالهم ينسبون لأنفسهم ما ليس لهم.
مفترين= المفتري هو مختلق الكلام. مبتدعين شرورًا= يبتكرون أنواع جديدة من الشر. والمبتدع هو من يأتي ببدع جديدة في الشر كالهرطقات.
بلا فهم = يرفضون كل نصيحة. لا عهد= لا يلتزمون بعهودهم مع الآخرين.
آية (32): "الَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ، لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ."
الرسول هنا يشير إلى الأمميين الذين عرفوا أن حكم الله هو بموت من يفعل هذه الخطايا. ومع هذا فهم يرتكبونها. وهذا دليل على قساوة القلب، بل هم يفرحون بأن غيرهم يرتكبها، وهذا الفرح هو فرح بنمو مملكة الشيطان. وهم يفعلون هذه الخطايا بكل رغبة وشوق ورضى، إذًا فخطأهم خطأ متعمد يصدر عن نية وقصد لا عن غفلة وجهل. هنا نرى أن الإنسان استمر في الانحدار والانحطاط لدرجة تشبّه فيها بالشيطان الذي يفرح بأن يخطئ إنسان ما. بل صار الآن بعض الناس يعبدون الشيطان.
تعليق: قيل إن من أعظم الفلاسفة اليونان من كانوا يرتكبون الشذوذ الجنسي، بل أن منهم ما جعله شريعة محرمًا إياه على العبيد، كأن فيه فضل يمتاز به الأحرار دون العبيد. إلى هذا المدى انحدر هؤلاء الفلاسفة ولم تنفعهم فلسفتهم.
هذا الإصحاح نرى فيه أن الإنسان إما ينمو في الروح أو ينحدر لأسفل:-
1. من ينمو في الروح:- هذا من يجاهد فينمو إيمانه، وينتقل من درجة إيمانية لدرجة أعلى (آية17) هو يعبد الله بالروح (آية9) وهو يعمل أعمال بر (أية17). ونهاية هذا الصعود، نجد الإنسان يتشبه بالله الذي يفرح بإيمان وبر أولاده. وهنا نجد الرسول يفرح ويشكر الله على إيمان أهل رومية (آية8)
2. الانحدار: حالة الإنسان كمن يصعد على منحدر في سيارة، فهو إما يصعد، وإما ينحدر لو رفع قدمه عن دواسة البنزين = (هذا هو من أهمل جهاده).
والانحدار هنا يصل بالإنسان لأحط الدرجات (آية27) وهؤلاء يظلم قلبهم (آية21) وينحدروا إلى مستوى أقل من الحيوانات وفي النهاية نجد هؤلاء وقد تشبهّوا بالشيطان.
ملحوظة: هو نوع من خداع النفس أن يتصور إنسان أنه وصل إلى مرحلة روحية معقولة، وأنه أحسن من كثيرين فيكفّ عن جهاده، مثل من تصور وهو يقود سيارته أنه وصل على المنحدر لارتفاع معقول، فيرفع قدمه عن البنزين ويكفّ عن القيادة، مثل هذا لا بُد وأن يبدأ في الانحدار سريعًا.
بإيمان لإيمان:- هذا هو النمو (أية17) فالإيمان ينمو كما قلنا. ولكنه كيف ينمو؟
1. بالعشرة مع الله، وتطبيق وصاياه فنعرفه (مت24:7-27). وكلما عرفناه واختبرناه يزداد إيماننا به. والعشرة هي بالصلاة والتسبيح ودراسة الكتاب.
2. بالشكر وسط الضيقات التي يسمح بها الله لنرى يده ونعرفه (كو7:2) كما سمح الله لبني إسرائيل في سيناء ببعض التجارب كالماء المّر حتى يروا يده.
← تفاسير أصحاحات رومية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرسالة إلى أهل رومية 2 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
أهمية الإيمان للخلاص |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zxdam9p