محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
متي: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
(مت 1:15-20 + مر 1:7-23):-
(مت 1:15-20):-
حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ الَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ أَيْضًا، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ؟ فَإِنَّ اللهَ أَوْصَى قَائِلًا: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَنًا تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلًا: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ». ثُمَّ دَعَا الْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا وَافْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟» فَأَجَابَ وَقَالَ: «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هذَا الْمَثَلَ». فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يَمْضِي إِلَى الْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى الْمَخْرَجِ؟ وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْب يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. هذِهِ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. وَأَمَّا الأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ».
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا. لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ، لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ: «لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا، وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئًا لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ».
هذا الإصحاح هو عن الطهارة الداخلية فنشبع بالله "فطوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله". وهو إصحاح يشير أن الملكوت هو للأمم بالإيمان ولهم أيضًا شبع بشخص المسيح: "إِذْ طَهَّرَ بِٱلْإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ" (أع 15: 9).
إنتهز السيد فرصة سؤال الكتبة والفريسيين عن عدم غسل التلاميذ أيديهم حينما يأكلون خبزًا، ليوبخ اليهود على عبادتهم الزائفة إستنادًا على سنن باطلة وكان السيد يريد هنا التركيز على الطهارة الداخلية وليس الخارجية فبها نرى الرب ونشبع به. ولقد تعود اليهود على غسل كل ما تمتد إليه أيديهم كما يشرح معلمنا مرقس حتى لا يكون ما يمسكون به دنسًا (في نظرهم أن الشيء يتدنس مثلًا لو لمسه أممي وثني). ومرقس لأنه يكتب للرومان الذين لا يعلمون شيئًا عن عادات اليهود اضطر لشرح عادات اليهود (مر 3:7-4). ولكن متى إذ يكتب لليهود لم يضطر لهذا. وغسل الأيادي والأباريق هي عادة من التقليد وليس من الناموس وقد وضعها الفريسيون زيادة على أوامر الناموس. وهذا التقليد تمسك به اليهود جدًا حتى أن الرابي أكيبا إذ سُجِنَ ولم يكن له أن يحصل إلاَ على قليل من الماء لا يكفي غسل يديه فضل الموت جوعًا وعطشًا من أن يأكل دون أن يغسل يديه. ويسمون الأيدي غير المغسولة أيدي دنسة (مر2:7). ولاحظ أن الجماهير البسيطة أدركت من هو المسيح وصارت تنعم بالشفاء إذ تلمسه، أما هؤلاء المتكبرين، فلقد أعمت كبرياؤهم عيونهم فأخذوا منه موقف الناقدين والمُجَرِّبين. هؤلاء بسبب حسدهم رفضوا الكلمة الإلهي وقاوموه إذ تصوروا أنه جاء ليسحب الكراسي من تحتهم أو يغتصب مراكزهم. وهكذا كل من يفرح ويتلذذ بشهوة عالمية، تجده يقاوم المسيح لأنه يتصور أن المسيح سيحرمه من شيء يحبه، بينما أن المسيح يريد أن يشفيه. وهنا السيد المسيح يهاجم تقليد الفريسيين وآباء اليهود الذي يعارض الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس في ناموس موسى أوصى بإكرام الوالدين وهذا يشمل سد احتياجاتهم المادية. ولكن الآباء اليهود من أجل منفعتهم الشخصية وإستفادتهم من أموال الناس وضعوا لهم تقليد مخالف لناموس موسى = من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به مني = وهذا يعني:-
1- أن المساعدة التي أقدمها لك يا أبي سأمنعها عنك وأقدمها للهيكل.
2- وهناك رأى آخر أن الشخص كان ينذر كل ما يملك للهيكل بعد وفاته، على أن يصرف منه على نفسه في مدة حياته ولا يعطي لأبويه المحتاجين. وهذا معنى قوله قربان= أي سيقدم للهيكل.
3- مَنْ يقدم للهيكل عطايا كانوا يعفونه من الإنفاق على والديه.
ولا يفهم قول المسيح ضد تقليد اليهود أنه ضد أي تقليد، بل هو ضد التقليد إذا خالف الكتاب المقدس فكنيستنا تؤمن بالتقليد لماذا؟
1- الكتاب المقدس نفسه محفوظ لنا بالتقليد، فمن قال أن هذه الأسفار هي الأسفار القانونية، فهناك أسفار غير قانونية. من الذي حدد القانوني من غير القانوني سوى تقليد الآباء الذين حددوا الأسفار القانونية ورفضوا غير القانونية.
2- مَنْ الذي عَلَّم إبراهيم دفع العشور لملكي صادق ومن الذي علّم يعقوب تدشين الأماكن بسكب الزيت ومن الذي عَلَّمَ يوسف أن الزنا حرام ولم يكن هناك ناموس. كان هذا بالتقليد (تك 20:14+18:28+22:28).
3- كيف سارت الكنيسة دون إنجيل مكتوب حتى كتب أول إنجيل؟ بالتقليد.
4- من التقليد اليهودي عرف بولس اسمي الساحرين المقاومين لموسى (2تى 8:3). ونقل يهوذا الرسول مخاصمة ميخائيل لإبليس (يه 9) وعرف أيضًا نبوة أخنوخ (يه 14). ومن التقليد اليهودي عرف بولس أن الناموس كان مسلمًا بيد ملائكة (غل19:3).
5- بولس يؤكد على التقليد الذي يسلمه لتلاميذه:-
"فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ ٱلتَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ" (1كو2:11). وأيضًا "أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلَا تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا" (2تس6:3). ونلاحظ هنا أن كلمتي التعليم في الآيتين هي في أصلها التقليد. وترجموها التعاليم لأنهم لا يعترفون بالتقاليد.
أما القديس يوحنا فيقول "إِذْ كَانَ لِي كَثِيرٌ لِأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ، لَمْ أُرِدْ أَنْ يَكُونَ بِوَرَقٍ وَحِبْرٍ، لِأَنِّي أَرْجُو أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَأَتَكَلَّمَ فَمًا لِفَمٍ، لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُنَا كَامِلًا" (2 يو 1: 12). فالقديس يوحنا هنا واضح أنه لا يريد أن يعلمهم بالكتابة بل شفاهة وهذا هو المقصود بالتقليد.
ملحوظة: ولكننا نعيب على المترجم أنه يترجم الكلمة "تقليد" إذا كانت محل هجوم مثل هذا النص. ويترجمها تعليم إذا كان التقليد مهم ومطلوب.
آيه(8):- لقد تركت الأمة اليهودية عبادة الله بالقلب والحق وأهملت الوصايا الأساسية، ودققت واهتمت بالتقاليد البشرية المُسَلَّمة من الشيوخ كغسيل الأيدي والأباريق، تركوا محبة الله ومحبة القريب واهتموا بنظافة الجسد من الخارج. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وإنه لمن السهل أن يكتفي المرء بالعبادة المظهرية وتأدية الفروض الدينية الخارجية ويترك القلب مملوء شرًا ولكنه بهذا سيصير كالقبور المبيضة من الخارج وبالداخل نجاسة. وهذه النبوة من إشعياء مأخوذة من (أش13:29).
يا مراؤون (مت 7:15) فهم يظهرون كمدافعين عن الحق وهم يكسرونه. يحملون صورة الغيرة على مجد الله وهم يهتمون بما لذواتهم، يعبدون الله عبادة جافة أي ليس عن حب وإنما لتحقيق أهداف بشرية ذاتية. لذلك صارت تعاليمهم وصايا الناس (مت9:15). أما من يخدم الله بأمانة تكون تعاليمهُ هي كلام الله، كما قال الله لإرميا مثل فمي تكون (أر 19:15).
(مت 10:15) اسمعوا وإفهموا= كلم السيد الفريسيين بعنف لأنهم قادة عميان مراؤون. هذا القول سخرية من الفريسيين الذين كانوا يسمون أنفسهم قادة للعميان (رو19:2) وهم حقًا عميان. ولكن نجده هنا يكلم الشعب بلطف ويعلمهم، فالمرائين لا يصلح معهم الكلمات الطيبة فإن هذا سيغطي على شرهم ويفسدهم بالأكثر. أما الشعب البسيط فلا يحتمل كلمة قاسية لئلا يحطم ويعثر وييأس. هؤلاء يحتاجون لكلمة تشجيع لبنيانهم الروحي. والسيد بدأ يعلم الشعب عن حقيقة غسل الأيادي قبل الأكل التي أثارها أمامهم الفريسيون المراءون لا ليدافع عن تلاميذه بل لبنيان الشعب الروحي، ولكي لا يتعثروا بسبب الشكوك التي يثيرها الكتبة والفريسيون. والسيد شرح للشعب أن سر الحياة والقداسة لا يكمن في الأعمال الخارجية الظاهرة وإنما في الحياة الداخلية وهذا عكس ما ينادي به الفريسيين إذ تركوا نقاوة القلب مهتمين بغسل الأيادي.
الفريسيين لما سمعوا القول نفروا= قول المسيح كان كالمشرط الذي فتح الجرح المتقيح فخرجت العفونة وظهر الفساد وهذا لا يطيقه المرائي.
كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع= عبارة تشير للتقاليد والأشخاص الذين يحضونهم على إتباعها (أي جماعة الكتبة والفريسيين).
يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج= جعل الله في الإنسان، في الجسم الإنساني نظامًا بأن يستفيد من كل ما هو مفيد في الطعام ويلقي بما ينجسه للخارج. فما هو نجاسة في الطعام يلقيه الجسم للخارج.
ولنلاحظ أنه حتى التلاميذ قد تساءلوا عن مفهوم التطهير الداخلي وليس الخارجي، فهم قطعًا متأثرين جدًا بالبيئة التي يعيشون فيها، بل إن هذا استمر حتى بعد المسيح، حتى أن بطرس رفض أن يأكل مع أممي (غل2) واضطر الله أن يعطيه رؤيا الملاءة ليقنعه أن يذهب ويبشر كرنيليوس الأممي ويعمده.
في (مت 14:15) اتركوهم = لعلهم إذا تركوهم يتوبوا عما هم فيه، إذ يتخلى عنهم الناس.
في (مر 15:7-16) ليس شيء من خارج = أي طعام مغسول أو غير مغسول أو بأيدي مغسولة أو غير مغسولة. الأشياء التي تخرج = شتائم / إدانة / كذب / نظرات شريرة....
في (مر7: 9) يقول الرب :«حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! وقوله حسنا مترجمة في (Jerusalem Bible) "لقد التففتم بذكاء حول الوصية" والمقصود لقد تحايلتم بخبث على الوصية. وهذه الترجمة توضح المعنى بالأكثر.
ملحوظات:-
1. كانت الغسلات للأدوات تتم بالغمر في الماء وللأسرة بالرش. والغسل ليس للناحية الصحية بل لإزالة النجاسة الطقسية. لذلك كان اليهود يستعملون كميات كبيرة من الماء، من هنا نفهم سر وجود ستة أجران بأحجام كبيرة في بيت يهودي (يو2). أما غسيل الأيدي لغرض صحي فهو ليس ضد المسيحية.
2. نبوة إشعياء قالها إشعياء للشعب حين أرادوا التحالف مع مصر ضد أشور واستعملها المسيح هنا. فكون أنني أسبح الله بشفتيَّ، والجأ إلى إنسان لحل مشكلتي، أي أعتمد عليه دون الله، فهنا أنا أسبح الله بشفتي وقلبي مبتعد عنه بعيدًا.
3. طالما كان القلب طاهرًا لا تستطيع الأطعمة أن تنجسه لأنها تدخل إلى جوف الإنسان، فما كان منها مفيدًا يتحول إلى أنسجة جديدة، وما كان منها ضارًا يخرج إلى الخلاء، وذلك يطهر كل الأطعمة، أي يطرد كل ما هو ضار بالجسم عن طريق الإفرازات التي تخرج إلى الخلاء.
4. الخطايا التي ذكرها السيد طمع= من لا يشبع ودائمًا يريد أكثر. خبث= تعني الأعمال الشريرة وهي سمة من يفرح في مصائب الآخرين لذلك يُدعى إبليس بالخبيث.
المكر= من يوقع أحد في فخ. الجهل= الحماقة الروحية والبعد عن الحق. عين شريرة = حسد.
والحسد لا يضر سوى الحاسد إذ يمتلئ قلبه شرًا. عهارة = سلوك فاسق وشذوذ. وهذه الخطايا وأمثالها هي التي تنجس الداخل. ومَن داخله أمثال هذه الخطايا يخرج من فمه كلمات نجسة وأعمال نجسة.
فسق = نوع من الزنى ولكن في فجور.
5-(مر 3:7) يغسلوا أيديهم باعتناء = أي حتى الكوع (وهو تعبير يهودي).
6- (مر11:7) قربان أي هدية = مرقس يفسر الكلمة فهو يكتب للرومان.
7- (من إدرشيم العالم اليهودي المتنصر) كانت اعتراضات الفريسيين والكتبة حول غسل الأيدي بعد حوار اليهود مع المسيح حول خبز الحياة (يو6) الذي إنسحب بعده الكثيرين من تبعيتهم للمسيح. فقالوا أن التلاميذ أكلوا يوم عمل المسيح معجزة الخمس خبزات بدون أن يغسلوا أياديهم، ولم يمنعهم المسيح من ذلك. وإعتبروا أن عدم اعتراض المسيح على ذلك يجعله مذنبا. هم كانوا يبحثون عن أي شيء يمسكونه على المسيح. والعجيب أن عدم غسل الأيادي كان هو الانطباع الوحيد للفريسيين على معجزة إشباع الجموع. وهداهم تفكيرهم المريض أن المسيح يعمل هذه المعجزات بقوة بعلزبول. وبالتالي قالوا أن المسيح ليس من الله وأنه يضلل الناس. وها هو يرتكب خطايا بكسر التقاليد والأكل بأيادي غير مغسولة، إذًا هو خاطئ. وكانوا بحسب تقاليد الربيين يعتبرون أن الأكل بأيدي غير مغسولة، أن الأيدي تكون غير مقدسة، وأن هذا كسر كبير لتقاليد الآباء وتدنيس للجسد (مر7: 3). وأن هذا يقود لدمار الشخص أو على الأقل يقوده للفقر. وقد دفنوا أحد الربيين الذي كان يهمل هذا التقليد محروما. ولكن غسل الأيادي لم ينص عليه ناموس موسى، لكنهم إعتبروا أن غسل الأيادي قبل الأكل أن هذا علامة أن الشخص يهودي.
والتطهيرات لها 18 قانون، وتختلف مدرسة هليل عن مدرسة شماي في التفاصيل. ولكن كلاهما يطبق التطهيرات بشدة.
ورأى البعض أن وصية "قدسوا أنفسكم" أن تطبيقها يكون بالاغتسال قبل الأكل. وفي وصية "لتكن مقدسا" أنه على الشخص أن يغتسل بعد الأكل. ورأوا أن قول الله "لأنني أنا الرب إلهكم" - أن تفسير هذه، أن من يلتزم بتطهير يديه وغسلها فإن الله يبارك له الطعام. ونفهم بهذا أن غسل الأيادي ليس فقط قبل الأكل بل وبعد الأكل. وكان الماء الذي يتم الاغتسال به يعتبر نجسا لا يستعمل مرة أخرى. لذلك كانوا يحتفظون بأواني حجرية ضخمة لتخزين المياه (معجزة قانا الجليل). وهناك مقياس للوعاء الزجاجي الذي يُسحب به الماء من الوعاء الحجري ليتم صبه على يدي من يغتسل (لا يجب أن يقل حجمه عن حجم مرة ونصف حجم قشرة البيضة). ويصب الماء على كلا اليدين مع حكهما معا وعلى أن يكونا مرفوعين لأعلى حتى لا يرجع الماء الذي تنجس إلى الأصابع التي يأكلون بها مرة أخرى. والماء يجب أن يصل إلى المعصمين. ويعتبرون أن الجسد كله يكون دنسا لو كانت الأيدي غير طاهرة. ويكون صب الماء على دفعتين. واليهود المحدثين قالوا أن الماء يجب أن يصب على ثلاث دفعات وأن هذا يصاحبه بركات. ومن ضمن القوانين الثمانية عشر نجد قوانين لفصل اليهود عن الأمم. فأي اتصال مع أممي ينجس حتى لو تلامس اليهودي مع ملابس الأممي، وعند عودة اليهودي من السوق في هذه الحالة عليه أن يستحم تمامًا، وتكسر الأوعية الفخارية التي تلامست مع أممي، أما الأوعية الخشبية أو الزجاجية فتغسل بالغمر في الماء، والآنية النحاسية تطهر بماء مغلي ثم بالنار أو على الأقل بجلي الإناء. عمومًا هناك تفاصيل مطولة لقوانين هذه التطهيرات وردت بكتاب إدرشيم ذكرنا البعض منها فقط. وعند اليهود طالما وضع الآباء الربيين تقليد فهو يعتبر قانون مقدس وملزم.
وحينما سأل الفريسيين الرب - لماذا لا يغسل تلاميذه أيديهم؟ لم يبرر الرب عمل التلاميذ ولم يبالى بالرد على السؤال بل هاجم تقاليد آبائهم - [يتخذ البعض من هجوم الرب على تقليد الآباء أن الرب يهاجم أي تقليد. ولكن هذا غير حقيقي ولنرى أمثلة على التقليد الذي كان الرب يهاجمه.]. أولًا لأن اليهود إعتبروا أن تقاليد الآباء أهم عندهم من الكتاب المقدس كلام الله. ثانيا لنرى مدى الجنون الذي وصل إليه هؤلاء الربين في كبريائهم وإعجابهم بأنفسهم وبآرائهم ولنأخذ بعض أمثلة على ذلك - قالوا أن الله ينشغل بدراسة التوراة نهارا وبدراسة المشناة ليلًا - وقالوا أن هناك سنهدريم سماوي يرأسه الله بنفسه ويجلس فيه الربيين بحسب درجاتهم وذلك لمناقشة الهالاخاة (قوانين التقاليد للربيين) وتتخذ القرارات بحسب ما جاء في كتاب الهالاخاة - وجاء في تقاليدهم ما يجب أن يقال عنه أنه كلام دنس، إذ قالوا أن الله يلهو مع لوياثان آخر ثلاث ساعات كل يوم - وقالوا أنه بعد دمار أورشليم إمتنع الله عن الضحك بل وكان يبكى في مكان سري خاص به. وكل دمعتين من دموع الله حينما تسقط في البحر تسبب الزلازل، وكان في غضبه عندما دُمِّر الهيكل يزمجر كالأسد ثلاث محارس من الأربعة محارس كل ليلة. وإستندوا في هذا على (إر13: 17 + إر25: 30) - وقالوا أن الله يصلي من أجل إسرائيل ورجعوا في هذا إلى (إش65: 7) - وقالوا أن الله نفسه يلبس الطاليث (ملابس الربيين) وأن هذا الطاليث له أهداب (إش62: 8). وهكذا إستخرجوا من نصوص كثيرة أراء عجيبة بل تعتبر تجديف، فقد رجعوا إلى (لا16: 16) وقالوا أن الرب تطهر بواسطة هرون إذ نزل الرب إلى مصر فتنجس من مصر، وأن الله قد غمر نفسه في حمام من النار بعد أن دفن موسى. وقالوا أن تعاليم التوراة لا تحتاج لإثبات أما الهالاخاة فتحتاج التشديد عليها إذ أنها لا تخالف الناموس [وذلك بحسب تفسيرهم هم للناموس].
هذه التقاليد هي التي هاجمها الرب يسوع وأوضح أنها تخالف الناموس.
ولا علاقة لتقاليد كنيستنا الأرثوذكسية بهذا فتقاليد كنيستنا متفقة مع الكتاب المقدس
وهذا أوضحه الرب في موضوع تعليم الربيين بخصوص مخالفة وصية "أكرم أباك وأمك" التي هي الوصية الخامسة من الوصايا العشر وهي تعتبر قدس أقداس التوراة، وكسر إحدى الوصايا العشر هو شيء خطير. ومع هذا قالوا لا تعطي أباك وأمك شيئًا بل ضعه في الهيكل كقربان (مر7: 10 - 13). وذكرت المشناة "أن على الأب أن يسكت إذا نذر الابن ما له للهيكل". وما قاله القديس مرقس "قربان أي هدية هو الذي تنتفع به مني" هذا النص باليونانية كما ذكره القديس مرقس هو بعينه ما جاء بالعبرية تمامًا في المشناة والتلمود. ووضع الربيين 11 فصلا في المشناة بخصوص النذور والقرابين. وقد وضعوا قوانين للحلف أي أن تقسم على فعل شيء، وهناك قوانين أخرى أن تنذر شيء. وكل له قوانين لكيفية نطق هذا وكيفية نطق ذاك. [أورد الكتاب بعضها والباقي طبعًا لم يرد بالكتاب ورأيت عدم أهمية الدخول فيها]. وكان الكثير من النذور والقرابين يذهب للكهنة.
(مت 21:15-28):-
ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ الامْرَأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلًا يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ!». فَقَالَ لَهَا: «لأَجْلِ هذِهِ الْكَلِمَةِ، اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَالابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ.
هنا نجد تناقض عجيب بين موقف الفريسيين الذين يقاومون المسيح ولم يكتشفوه، بل لم يروا قوته الشافية وهم الذين يحفظون الناموس وذلك لكبريائهم ومحبتهم للمال وبين هذه المرأة الكنعانية الأممية الوثنية التي تحيا في نجاسة، لكنها اكتشفت فيه مسيحًا شافيًا قادرًا أن يصنع المعجزات. لذلك نسمع ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا= كأن السيد قد رفض الشعب اليهودي الرافض الإيمان ليذهب يفتش عن أولاده بين الأمم. وعجيب أن يكون هؤلاء وفي أيديهم النبوات، عميان روحيًا لم يعرفوا المسيح. بينما أن هذه المرأة التي لا تملك نبوة واحدة ولا هي من شعب الله، قد أدركت من هو المسيح فأتت إليه صارخة واثقة في استجابته. ما الذي أعمى قلب هؤلاء الفريسيين، لو قلنا الخطية فالكنعانية أكثر خطية منهم !! إذًا هو الكبرياء الذي جعلهم يظنون أنهم أعلى من المسيح، ينقدون تصرفاته ويحكمون عليه، ويتصيدون عليه أي خطأ، وهو الرياء، فبينما الفساد ضارب بجذوره في الداخل، نجدهم يتبارون في إظهار قداستهم. ولن نعرف المسيح إلا لو تواضعنا وأدركنا أننا خطاة في احتياج إليه، مقدمين توبة. ولاحظ قول الكتاب وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم ففي هذا إشارة لاستعداد المرأة لترك نجاسات هذا المكان وأيضًا فيها رمز لترك الشرير لشره حتى يقبله المسيح. ولاحظ في كلامها صرخت=هي شعرت باحتياجها إليه، وصرخت فيها معنى الإيمان والثقة. ارحمني =لم تطلب شفاء من المسيح أو غيره بل طلبت الرحمة.
يا ابن داود= هي لا تعرف النبوات ولكن سمعت عنه من اليهود فآمنت. ونادته كما يناديه اليهود.
ابنتي مجنونة جدًا = ومرقس يقول بها روح نجس. إذًا الشيطان سبب جنونها وكانت استجابة المسيح عجيبة فهو أولًا لم يجبها بكلمة ثم حين تكلم معه تلاميذه نجده يقول لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ولما أتت وسجدت وقالت له يا سيد أعني. نجده يقول لها ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب. وهذه الردود العنيفة لم تكن من طبع المسيح فلماذا استخدم السيد المسيح هذا الأسلوب معها؟
1. لكي لا يعثر اليهود إذا رأوه يتجاوب مع الأمم. واليهود يقسمون العالم قسمين:
أ- اليهود أبناء الله.
ب- الكلاب (وهم الأمم) ويعتبرونهم نجاسة ويغسلون أي شيء تمتد إليه يد أممي ولا يأكلون معهم.
2. قال السيد لتلاميذه تكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض (أع8:1). ونفذ هو بنفسه هذه الوصية فهو بدأ بأورشليم واليهودية ثم ذهب للسامرية، ولكن الوقت كان لم يحن بعد للذهاب للأمم (أقصى الأرض). بل هو لن يذهب للأمم لكن سيرسل تلاميذه.
3. صمت السيد أولًا كان ليثير تلاميذه فيطلبون لأجلها، فرسالتهم ستكون الاهتمام بالعالم الوثني. والسيد يريد من كل منا أن نهتم بكل متألم ونصلي لأجله "صلوا بعضكم لأجل بعض" (يع 16:5). فهذه هي المحبة في المسيحية، خروج من الذات والبحث عن كل محتاج. وكان صمته أيضًا لتستمر في لجاجتها فتطهر. ونحن إذا تأخر الله في استجابته علينا فهذا لأنه يريد أن تطول فترة صلاتنا أي نستمر في حضرة الله فنطهر أولًا. وهذا أهم من أن نفرح بالعطية.
4- السيد المسيح له طرق مختلفة مع كل خاطئ ليجذبه للتوبة، كلٌ بحسب حالته، وما يصلح لهذا الإنسان لا يصلح مع الآخر. فمع المرأة السامرية التي تجهل كل شيء عن المسيح يذهب لها المسيح بنفسه ويجذبها إلى حوار ويقودها للتوبة ثم اكتشاف شخصه، أمّا الابن الضال فهو قد خرج من حضن أبيه بعد أن تذوق حلاوة حضن أبيه، تركه باختياره، هذا لا يذهب إليه الرب، بل يحاصره بالضيقات (مجاعة / أكل مع الخنازير/ تخلي الأصدقاء / إفلاس تام..) وهنا يشتاق الابن الضال للعودة لأحضان أبيه إذ يَعرف مرارة البعد عنه، والبركات التي في حضرته.
أماّ هذه الكنعانية فهي من شعب ملعون، هم أشر شعوب الأرض لعنهم أبوهم نوح (تك 25:9)، ثم ثبت تاريخيًا أنهم مستحقون لهذه اللعنة، فهم عاشوا في نجاسة رهيبة (فمنهم أهل سدوم وعمورة)، أي اشتهروا بالشذوذ الجنسي وقدموا بنيهم ذبائح للأصنام وفعلوا الرجاسات حتى مع الحيوانات وأجازوا أولادهم في النار. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). والسيد استخدم مع هذه المرأة أسلوب جديد، هو يظهر لها نجاستها، يكشف لها حقيقة نفسها وخطيتها فلا شفاء دون إصلاح الداخل ولا معجزات دون توبة أولًا. كان أسلوبًا قاسيًا ولكنه كمشرط الجراح، مع كل ألمه إلاّ أنه الطريقة الوحيدة لإزالة المرض. المسيح يكشف لها نجاستها لتشمئز منها فتطلب الشفاء والنقاوة الداخلية.
لو كان هناك أسلوب آخر لكان السيد قد استخدمه بالتأكيد.
5. كان السيد الذي يعلم كل شيء يعرف أن هذه المرأة قادرة على احتمال الموقف " لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون (1كو 13:10).
6. إذ كان يعلم احتمالها، وأنها ستظهر إيمانًا وصبرًا عجيبًا. كان بهذا يزكيها أمام الموجودين ويعلن استحقاقها لعمل المعجزة.
7. من المؤكد أن يده الحانية كانت تسند قلبها حتى لا تخور فشماله تحت رأسي (أي كلماته الصعبة) ويمينه تعانقني (أي تعزياته) (نش 6:2). كانت هناك معونة خاصة تسندها حتى تصمد ولا تيأس.
8. لاحظ قولها نعم يا سيد والكلاب أيضًا تأكل.. هذا القول هو اعتراف بالخطية، اعتراف بنجاستها. هنا ظهر أن أسلوب المسيح القاسي معها أتى بنتيجة باهرة. لم يكن المسيح ليستعمل هذا الأسلوب إلًا لو كان متأكدًا من نجاحه.
9. كان المسيح يركز خدمته وسط اليهود فقط ويكون خميرة مقدسة، وهو أرسل تلاميذه لكل الأرض. لكن هو بنفسه ما كان سيذهب للأمم. لذلك سمعنا قول المزمور "شعب لم أعرفه يتعبد لي (مز43:18) من سماع الأذن يسمعون لي (مز 44:18). فالأمم آمنوا بسماعهم من الرسل عن المسيح = هذا معنى قوله لم أرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل. لكن استجابته للكنعانية حمل معنى قبوله للأمم مستقبلًا. ونلاحظ أن هدف إقامة شعب إسرائيل كشعب مختار كان أن يؤمنوا بالمسيح حين يأتي متجسدًا وسطهم ويكونوا نورًا للعالم ولكن خاصته رفضته. ولذلك بكى المسيح على أورشليم إذ رفضته وسلمته للصلب فالمسيح كان يرجو لهم ملكوت الله حتى آخر لحظة. ولفشلهم في أن يكونوا نورًا للعالم انفتح الباب على مصراعيه للأمم. والسيد بهذه الإجابة أعطى درسًا لليهود السامعين أن الأمم ليسوا كلابًا بل فيهم من هم أحسن من اليهود. المسيح بما عمله عالج الكنعانية واليهود في وقت واحد.
10. والمسيح يطوب ويمدح هذه المرأة أمام الجميع على إيمانها.
11. "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب" هو مثل يهودي شائع، وكان اليهود يستخدمون لفظ الكلاب دلالة على احتقارهم للأمم. ولاحظ أن المسيح بهذا لا يعطي أي فرصة أو سبب لليهود حتى يرفضوه، فهو يجاملهم ويراعي شعورهم، ويظهر لهم أنه أتى من أجلهم. حقًا قال داود النبي "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت (وتزكو في قضائك) (مز 4:51).
12. يرى القديس أغسطينوس أن شفاء غلام قائد المئة وشفاء ابنة هذه المرأة دون أن يذهب المسيح إليهم فيه معنى أن الأمم سيخلصون بالكلمة دون أن يذهب المسيح إليهم بالجسد.
(مر 24:7):- دخل بيتًا وهو لا يريد أن يعلم أحد = فلم يحن بعد وقت الكرازة بين الأمم. والمسيح لم يذهب للأمم. لكن كانت هذه الزيارة عربون على خلاص الأمم. وهو لا يريد أن اليهود يثيروا المشاكل لأنه ذهب لبيت وسط الأمم.
13. رقة المسيح في قوله كلاب للمرأة الكنعانية ظهرت في نوع الكلمة التي استخدمها. فالكلمة التي يستخدمها اليهود كلمة تنم على الاحتقار وهي الكلمة التي استخدمها بولس الرسول في رسالته (في 2:3) أمّا السيد فاستخدم هنا كلمة تشير للكلاب المدللة وغالبًا قالها المسيح للمرأة بنظرة حانية.
14. هناك سؤال لماذا ذهب السيد إلى تخوم صور وصيدا أي على الحدود مع الجليل ؟ الآن عرفنا الجواب وهو أنه أراد أن يلتقط هذه النفس ويشفيها كما سار مسافة طويلة ليلتقي بالسامرية فتخلص.
من إدرشيم:- بعد أن صارت الجماهير تلتف حول المسيح ولا تترك له فرصة للإختلاء بتلاميذه، كان عليه أن يبتعد معهم. وكان هذا أيضًا بعد حواره مع اليهود حول التطهيرات وحواره عن خبز الحياة، فكان يريد فرصة للحوار مع تلاميذه في هدوء. ونراه هنا قد ذهب إلى نواحي صور وصيدا أي بجانب الحدود الفاصلة بين الجليل وبين صور وصيدا، ولكنه ما زال داخل حدود الجليل. وكانت مقاطعة أو ما يسمى ربع صور وصيدا تمتد من البحر المتوسط حتى نهر الأردن وتقع شمال الجليل. ودخل بيت، ومن المؤكد أنه كان بيت رجل يهودي في الجليل. وسمعت هذه المرأة بأن المسيح قريب منها فذهبت تطلب شفاء ابنتها وتزاحمت ودخلت وراءه للبيت. ويقول القديس متى أن المرأة كنعانية، ويقول القديس مرقس أنها من فينيقية سورية. ومن كلا التعبيرين نفهم أنها وثنية. فقول القديس مرقس أنها فينيقية سورية، كان ذلك ليميز بينها وبين من هم من فينيقية لبنان. فكان من فينيقية لبنان من هم من اليهود.
وجاءت المرأة تصرخ في تواضع شديد ساجدة للمسيح وتقول "يا ابن داود"، وهذا تعبير يهودي واضح عن المسيا المنتظر. وكان هذا غريبا أن يصدر من وثنية من سورية التي لم يحكمها داود وعائلته أبدا. والسؤال هنا - هل كانت تلك المرأة الوثنية تدرك معنى ابن داود الذي أتى ليؤسس ملكوت الله على الأرض، لشعب يقتنيه يحيا في طهارة ويملك الله على قلبه طائعا وصاياه؟. وهل تدرك هذه المرأة الفارق الشاسع بين الوثنية بقذارتها التي تحيا فيها، وبين إسرائيل كما كان يجب أن تكون مملكة طاهرة بحسب قلب الله. فإذا لم تكن تدرك كل هذا فهي ستكون كاليهود الذين أرادوا أن يجعلوه ملكا زمنيا بحسب تصوراتهم. وتكون كل ما تريده مسيحا صانع عجائب ومعجزات شفاء فقط. وكما رفض المسيح أن يعطي علامات وآيات لليهود الذين يريدونه مسيحا صانع عجائب يفرحون بعجائبه وهم باقون على ما هم فيه من نجاسة، رفض عمل معجزة شفاء لهذه الكنعانية بصفته صانع عجائب، وأصر الرب أن يشفيها من نجاستها أولًا فتؤمن به كمسيح يملك على قلوب طاهرة نقية. تؤمن به كمسيح أتى يؤسس ملكوت الله على الأرض. [المسيح هنا مع الكنعانية يعمل نفس ما عمله مع المفلوج الذي دلوه من السقف، إذ قال له "مغفورة لك خطاياك". إذًا هو يريد أن يشفي الكنعانية من خطيتها قبل شفاء الجسد فخلاص النفس أهم من شفاء الجسد].
وهنا كان لا بد للرب أن يعطيها الدرس لتعلم الفارق الشاسع بين طهارة مملكته التي جاء ليؤسسها وبين قذارة الوثنيين الذين تحيا بينهم. وبدا في رد الرب عليها القسوة حين قال عنها لفظ الكلاب (ولكن كان اللفظ الذي استخدمه الرب يقال على كلاب المنازل المدللة وليس كلاب الشوارع اللفظ الذي كان اليهود يستعملونه عن الأمم). ولكن من سياق القصة نكتشف أن الرب كان يشفي هذه المرأة من خطاياها ويظهر إيمانها للناس. وكان الرب يعلم أنها ستحتمل قسوة الدرس وتُشفَى روحيا. وكان رد المرأة عجيبا "والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها". [ والعالِم بكل شيء كان يعلم ما بداخلها وأراد إعلانه للموجودين]. هذا بجانب الدرس الذي تعلمته المرأة أن الوثنية بجانب اليهودية هي نفس موقف الكلاب بالنسبة للبنين [الوثنيين يعبدون الشيطان بالإضافة لممارساتهم البشعة]. ولكن المرأة بإجابتها العجيبة أدخلت نفسها في بيت الرب، وهذا ما جعل الرب يعجب بإجابتها وقال "لأجل هذه الكلمة" (مر7) فهي قالت "نعم فكلاب البيت تأكل من فتات مائدة البنين". وبهذا أعلنت انضمامها لبيت الرب، وفهمها أنها لوثنيتها فهي ما زالت كالكلب. فالبنين يجلسون على المائدة بينما هي تحت المائدة. لكن صاحب البيت مسئول عن إطعام الجميع، البنين وكلاب البيت. فهو يشرق شمسه على الأبرار والأشرار (مت5: 45). أوليس هذا إعلانا لإيمانها بأن المسيح ربا لها حتى وإن كانت ما تزال في وثنيتها، ولكن واضح ندمها على وثنيتها ونجاستها، فهي قبلت وصفها بالكلب. هي بإيمانها هذا أوجدت لنفسها مكانا بين أولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب. واستحقت هذه المرأة أن تجلس على المائدة مع البنين وأن تحصل على خبز البنين، وإنضمت هذه المرأة للملكوت الذي أتى المسيح ليؤسسه.
بهذا الإيمان صارت هذه المرأة تعني ما تقول عن المسيح "ابن داود" الآتي ليؤسس ملكوت الله على الأرض. ليس بمفهوم اليهود الضيق الذين يظنونه ملكا زمنيا، بل هو الملك الذي يملك على كل العالم يهودا وأمما (من كانوا بنين ومن كانوا كالكلاب يتبعون الملك السابق أي الشيطان وحررهم المسيح) ليجعل الكل بنينا لأبيه السماوي. وهذا معنى خروج الشيطان من ابنتها "قد خرج الشيطان من إبنتك" (مر7: 29). [لقد حرر المسيح الأمم من عبودية الشيطان، وكما قال القديس بطرس "طهر بالإيمان قلوبهم" (أع15: 9)].
إنسحاق هذه المرأة أمام المسيح هو درس لكيف نحصل على القبول أمام الرب (إش57: 15 + مز51: 17). [والسبب بسيط ومفهوم - كيف نتقابل مع المسيح المتواضع الحقيقي بل والوحيد النازل من السماء للأرض ونحن نريد أن نصعد من الأرض ونصل للسماء في كبرياء؟!]. والدرس الثاني في قصة هذه المرأة الكنعانية لكيفية الحصول على ما نريد هو مفهومنا لمن هو المسيح، وأنه المسيح "ابن داود" وأنه الملك الذي أتى ليؤسس مملكة لله على الأرض. فهل نحن قد مَلَّكْنا المسيح على قلوبنا حقيقة أو أننا نريده مسيحا بحسب المفهوم اليهودي المرفوض من المسيح.. مسيحًا صانع معجزات.. مسيحًا يُرضي رغباتنا، دون أن نملكه على القلب خاضعين له كـ "ابن داود" ملك الملوك.
(مت 29:15-31):-
ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِب بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ حَتَّى تَعَجَّبَ الْجُمُوعُ إِذْ رَأَوْا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلهَ إِسْرَائِيلَ.
الفريسيين بكبريائهم وريائهم رفضوا المسيح، والمرأة الكنعانية الأممية ببساطتها عرفته فشفيت. وهنا نرى بسطاء اليهود قد أقبلوا عليه فشفاهم.وغالبًا كان بينهم أمميين إذ يقول = مجدوا إله إسرائيل. إذًا نرى هنا أن الإيمان طهَّر قلوب هؤلاء الأمم فشفاهم المسيح (أع15: 9).
(مت 32:15-38+ مر 1:8-9):- إشباع الأربعة آلاف
تم تفسير المعجزة مع معجزة إشباع الخمسة آلاف ونلاحظ الآتي:-
1- لهم ثلاثة أيام يمكثون معي وليس لهم ما يأكلون= وجودهم مع يسوع أشبعهم حتى أنهم لم يشعروا بجوع. فالشبع الروحي يشبع النفس ويشبع البطن.
"كان الأنبا أنطونيوس يجلس مع تلاميذه ويسألونه وهو يجيب، ولاحظ أن أحدهم لا يسأل بل ينظر إليه دائمًا، فقال لهُ وأنت يا بني لماذا لا تسأل فقال لهُ: يكفيني أن انظر إلى وجهك يا أبي" فإن كان وجه الأنبا أنطونيوس يشبع من ينظر إليه فكم وكم وجه المسيح.
2- لاحظ حيرة التلاميذ إذ قال لهم الرب لست أريد أن أصرفهم صائمين، فلقد نسوا معجزة الخمسة الآلاف. وكم ننسى نحن عطايا الله الكثيرة ونشك وقت التجربة.
3- في معجزة الخمسة الآلاف ولأنها ترمز لليهود جلسوا على العشب (مت 19:14). فالعشب يرمز للمراعي إذ كان اليهود خراف في مرعى الله، والله هو الراعي الصالح لهم (مت 24:15 + مز 1:23 + حز 12:34). أمّا هنا نسمع أنهم جلسوا على الأرض (آية 35) فهذه المعجزة تشير للأمم، والأمم قبل الإيمان ما كان لهم مرعى، كانوا خارج الحظيرة ولم يكونوا من خراف الله.
4- تبقى هنا سبعة سلال بينما تبقى في معجزة الخمس الآلاف 12 قفة. والقفة يستخدمها اليهود ليضعوا فيها طعامهم أما السلال فيستخدمها كل العالم. هي لا تخص اليهود بل كل العالم. وتشير لسلة يوضع فيها السمك. والسمك لأنه في البحر يشير للأمم فالبحر يشير للعالم، وكان تلاميذ المسيح من الصيادين أما الشعب اليهودي فيشار لهم بالخراف إذ كانوا من داخل الحظيرة. والله أرسل لهم رعاة مثل موسى وداود وعاموس.
دلمانوثة = قرية صغيرة غير مشهورة على بحر الجليل.
كما قلنا في المقدمة أن الإنجيليين ليسوا مؤرخين بل هم يقدمون فكرة معينة عن شخص السيد المسيح. والقديس متى يقدم الرب يسوع كملك أتى ليؤسس مملكته السماوية هنا على الأرض. والإصحاحات (10 - 20) تشرح لنا معنى الملكوت في المسيحية وإختلافه تمامًا عن المفهوم اليهودي المادي في تكوين مملكة زمنية، والانتصارات على الأعداء. ولنرى تطبيق هذا في الإصحاحات (13 - 17).
في إصحاح 13 رأينا المسيح الملك يشرح معنى ملكوت الله، والذي يختلف تمامًا عن الفكر اليهودي الزمني المادي. فهو ليس ملكا زمنيا أو انتصارات عسكرية أو خلافه.
بل نرى الرب هو الزارع الذي أتى ليزرع حياته فينا فنثمر ويمتد ملكوته وينمو.
في إصحاح 14 نجد الرب يسوع هو المشبع لاحتياجات شعبه، والذي يرفعهم وسط ضيقات العالم. فملكوت الله هو شبع بشخص المسيح (إشباع الـ5000) وأن النظر للمسيح وسط ضيقات العالم هو الطريق للنصرة على ضيقات العالم. ونفهم أن شعب المسيح له مفهوم مختلف للنصرة. فالنصرة هي تلذذ وشبع بشخص المسيح حتى وسط الضيقات. وأن المسيح فيه الكفاية. ولكن هناك ضيقات وسط هذا العالم والله لن يلغي هذه الضيقات (العالم = البحر الهائج). وأن على شعب المسيح ورعايا مملكته النظر إليه ليرتفعوا فوق الضيقة (السير على البحر). ولكن من هو الذي له هذا الشبع وهذه النصرة؟ هذا لمن يسكن المسيح فيه. والمسيح يسكن في قلب نقي، وهذا موضوع الإصحاح القادم.
وفي إصحاح 15 نرى أن مملكته تتأسس على الطهارة الداخلية. ومن يهتم بنقاوة قلبه هو الذي يشبع بشخص المسيح. وهنا يشرح الرب يسوع معنى الطهارة الداخلية ونقاوة القلب. فمملكة الرب يسوع هي مملكة الطهارة الداخلية. وفي قصة شفاء إبنة الكنعانية نجد أن الرب يهتم بالطهارة الداخلية قبل شفاء الجسد، بل أن الطهارة الداخلية هي الطريق لشفاء الإنسان شفاء كليا (شفاء للنفس والجسد والروح). وفي معجزة إشباع الـ4000 نفهم أن الطهارة الداخلية هي الطريق للشبع بشخص المسيح كطريق للنصرة في هذا العالم. فالنصرة في مملكة المسيح ليست هي النصرة العسكرية أو النصرة المادية على الأعداء، بل هي النصرة على الإنسان العتيق وشهواته، والحياة في طهارة داخلية ونقاوة قلب. ملكوت المسيح هو ملكوت الطهارة وليس القوة الزمنية.
وفي الإصحاح 16 نرى أن القلب النقي يفتح العينين فيكون للإنسان بصيرة وتمييز (مت 5: 8). بل معرفة شخص الرب يسوع. ومن يعرفه لن يطلب سواه. وهذا ما حدث مع بطرس فعرف أن المسيح هو ابن الله الحي. وبعد إعتراف بطرس نجد الرب يسوع يحدث تلاميذه عن حمل الصليب وضرورة أن يُهلِك الإنسان نفسه ليخلصها. وكلما قبلنا حمل الصليب وقبلنا أن نهلك أنفسنا تنفتح الأعين بالأكثر ونرى المسيح في مجده، بل ويكون نصيبنا في هذا المجد كما نرى في الإصحاح التالي.
وفي إصحاح 17 يحدث التجلي -ويرى 3 من التلاميذ- الرب يسوع في مجده. فنفهم أن نقاوة القلب هي الطريق لمعاينة مجد المسيح. ولسوف نكون في مجد كما حدث مع موسى وإيليا في المجيء الثاني. وهذه كانت طلبة المسيح (يو17: 24). فمجد المسيح الملك ليس كمجد ملوك العالم، بل هو مجد إلهي سماوي نعاين عربونه هنا بنقاوة القلب ونعاينه عيانا في مجيء الرب في مجده مع ملائكته (مت16: 27).
إذاً نفهم من تسلسل الأحداث التي يوردها القديس متى أن مملكة المسيح التي أتى ليؤسسها أنها مملكة تحيا في السماويات بينما هي ما زالت على الأرض. مملكة تعاني من ضيقات كثيرة ولكن المسيح في كنيسته يعطيها النصرة وسط الضيقات. وهو الذي يسمح بهذه الضيقات ليطهر قلوب المؤمنين "حَّولت لي العقوبة خلاصًا" (القداس الغريغوري). وفي هذا يقول القديس بطرس الرسول: "فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ ٱلْمَسِيحُ لِأَجْلِنَا بِٱلْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهَذِهِ ٱلنِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي ٱلْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ" (1بط1:4). ويقول القديس بولس الرسول "لِذَلِكَ لَا نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا ٱلْخَارِجُ يَفْنَى، فَٱلدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا" (2كو16:4).
وطالما كان المؤمن ملتصقاً بالمسيح بالصراخ وسط الضيقة، يعمل الروح القدس على تنقيته بل وأيضاً تعزيته ليحتمل الضيقة "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش6:2). فشماله إشارة للضيقة التي سمح بها، ويمينه إشارة للتعزية. ولكن لاحظ أنه في الضيقة يحتضننا بكلتا يديه. ونتيجة الضيقات التي يسمح بها الله هي نقاوة القلب سمة مملكة المسيح. ونقاوة القلب تعطي للمؤمن العين المفتوحة التي تدرك من هو المسيح، وأنه هو يهوه. مملكة المسيح هي ملكوت السموات على الأرض، وفي الأبدية تكون مملكة المسيح معه في المجد كما كان موسى وإيليا مع المسيح حينما تجلى المسيح على الجبل. وكانت هذه طلبة المسيح في صلاته الشفاعية للآب "أَيُّهَا ٱلْآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي" (يو24:17). وبهذا التسلسل الذي إتبعه القديس متى يُبعد فكر القارئ تمامًا عن الفكر اليهودي الذي يقول أن ملكوت المسيا المنتظر هو مملكة عالمية زمنية أرضية منتصرة على الرومان إذ تتمتع بالقوة العسكرية وتحيا في الأرض لتتمتع بخيرات الأرض. القديس متى يرفع نظرنا إلى السماء.
← تفاسير أصحاحات إنجيل متى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير متى 16 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير متى 14 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/x53qknc