العظة على الجبل
محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
متي: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
تشمل الإصحاحات 5-6-7 من إنجيل معلمنا متى العظة على الجبل وهي كما يسمونها دستور الحياة المسيحية، ألقاها المسيح لكي تلتزم بها مملكته وقد ألقاها المسيح من على جبل، كان جالسًا على جبل، والجبل رمز للسماويات في ارتفاعه، وهذه التعاليم لو نفذناها نحيا السماويات على الأرض. ولقد لخص معلمنا لوقا بعض تعاليم المسيح في هذه العظة أمّا القديس مرقس فلم يورد منها شيئًا فمرقس لم يهتم بالتعاليم قدر اهتمامه بإبراز قوة المسيح الجبارة فهو يقدمه للرومان الذين يهتمون بالقوة وليس بالتعاليم.
هذه العظة فيها كل المبادئ السامية اللازمة للحياة المسيحية الكاملة ومن يلتزم بها يرث الحياة الأبدية. ونرى فيها الانتقال من الناموس للنعمة، الناموس كان يعطي قوانين ولكن النعمة هي أن المسيح يعطينا حياته، فنستطيع أن نحيا هذه الفضائل السامية، فالمسيح قادر أن يعطينا فيه الكمال المسيحي. ولنلاحظ أن معلمي اليهود زادوا الشعب همًا على همه واستخدموا الناموس ليخيفوا الناس من الله، أما المسيح هنا فهو يصالح الناس على الله بأن يعلن لهم أن الله يريد لهم الطوبى والبركة. المسيح يعلن لهم هنا عن قلب الله الرحيم.
العهد القديم:- ورث الإنسان الخطية فصار ميّالًا للخطية، بل صار كحصان جامح يريد الله ترويضه حتى لا يستسلم للخطية فيقع في يد الشيطان. وكان ذلك عن طريق الناموس الذي يعاقب المخطئ بعقوبات شديدة فقال بولس الرسول عن النَّامُوسُ كان "مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ" (غل24:3). ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان كان عاجزاً تماما أمام الخطية، بدليل قول الله لقايين "فَعِنْدَ ٱلْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ ٱشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا" (تك7:4). إذاً كان هناك خطية تحاربه ولكن الله يعلم أنه قادر أن يتغلب عليها. لكن كان الإنسان ضعيفا في مواجهة الخطية.
العهد الجديد:- أصبحنا هياكل للروح القدس (1كو16:3). والروح القدس يثبت حياة المسيح فينا. ونرى في أول التطويبات أن من ينسحق أمام الله يكون له ملكوت السموات، ونرى في (إش15:57) أن المتواضع يسكن الله عنده. ونفهم أنه في سر المعمودية أن المسيح يعطينا حياته، ومن تسكن فيه حياة المسيح تستعمل أعضاءه كآلات بِر. والروح القدس يسكن فينا 1) ليقودنا ويعطينا قوة ومعونة وإقناع "أقنعتني يا رب فإقتنعت" (إر7:20). الروح يقنعنا أن نخضع للمسيح ونسلمه أعضاءنا يستعملها لنعمل بها أعمال بر. 2) يثبتنا في المسيح فنسلك في البر:- أولاً في المعمودية وثانيا بالإفخارستيا. وطوبى لمن ينسحق أمام الله ويتواضع، فمثل هذا تثبت فيه حياة المسيح، ويسكن فيه الروح القدس فيختبر حياة السلام والعزاء.
بر الله في المسيح (2كو21:5):- المسيحي لا يفعل البر من تلقاء ذاته، بل بحياة المسيح التي فيه وبمعونة الروح القدس، أي عمل النعمة التي تسانده وتقويه. وإن لم يفعل البر يبكته الروح القدس (يو8:16). والسلوك في البر هو نتيجة الخلاص الذي أتى به المسيح. وهذا الخلاص يقول عنه داود النبي "رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ" (مز12:51)، وفى السبعينية جاءت العبارة "أرني بهجة خلاصك". فالسلوك في البر له بهجة وفرح. وهذا ما نراه هنا = أن يشتاق الإنسان للمزيد من السلوك في البر لكي يفرح "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ" (مت6:5). فكلما نشتاق ونطلب يعطينا الله أكثر، بل "أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ" (أف20:3). والنهاية نرى الله "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.
ما بين العهد القديم والعهد الجديد:- يقول هوشع النبي "اِزْرَعُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِٱلْبِرِّ. ٱحْصُدُوا بِحَسَبِ ٱلصَّلَاحِ. ٱحْرُثُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا، فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ ٱلرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ ٱلْبِرَّ" (هو12:10). يطلب الله من شعب العهد القديم أن يجاهد بالتوبة (أحرثوا) والجهاد في عمل البر (إزرعوا) إلى أن يأتي المسيح. والفارق رهيب بين أن يجاهد الإنسان وحده ضد طبيعته الساقطة، وبين أن تسانده النعمة كما نحيا الآن في العهد الجديد. (عب12: 18-24). لذلك إعتبر بولس الرسول بل وإختبر هذا في حياته أن مقاومة الخطية شيء سهل "لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَٱلْخَطِيَّةَ ٱلْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِٱلصَّبْرِ فِي ٱلْجِهَادِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا" (عب1:12). وهكذا عبَّرَ الأباء الرسل على فم القديس بطرس الرسول عن صعوبة تنفيذ الوصايا في العهد القديم بدون مساندة النعمة "فَٱلْآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ ٱلتَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ لَكِنْ بِنِعْمَةِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضًا" (أع11،10:15).
وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ
لما رأى الجموع= رآها في حاجة للتعليم حتى لا تهلك من عدم المعرفة.
صعد إلى الجبل = ليسمعه ويراه الجميع. ونلاحظ أن المسيح يعلن دستوره من على جبل وموسى صعد إلى جبل ليستلم شريعة العهد القديم، فالجبل رمز للسمو والعلو والثبات على الإيمان، والارتفاع عن الماديات والأرضيات فلما جلس = كمشرع يعلن شريعة العهد الجديد ووصايا الحق. وكملك ابن داود يضع شريعته. ولكن لنلاحظ أنه لم يكن من حق ملوك إسرائيل أن يضعوا شريعة لشعبهم، بل هم يطبقون ناموس موسى. إذًا فالمسيح ابن الملك داود ليس ملكًا عاديًا بل هو يهوه نفسه واضع شريعة العهد القديم ومكملها في الجديد.
فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا:
«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.
طوبى = أي البركة والسعادة لهؤلاء. ونلاحظ أن المسيح لم يبدأ تعليمه بأن يتحدث عن الممنوعات، بل هو يبدأ بالجانب الإيجابي، والحياة الفاضلة كاشفًا عن مكافأتها ليحثهم عليها. والصفات التي طوبها المسيح في هذه الآية والآيات التالية ليست صفات منفصلة بل متكاملة، فالمسكين بالروح هو بلا شك وديع، وصانعو السلام بلا شك هم رحماء والذين يجوعون ويعطشون للبر والملكوت يكشف جوعهم وعطشهم عن قلب نقي بلا جدال والمضطهدون من أجل البر هم باكون حتمًا وبالنهاية يتعزون بالضرورة.
المساكين بالروح = ليسوا هم المعتازين ماديًا ولكن هم من يشعرون بفقرهم الشديد بدون الله، ويشعرون بحاجتهم لله، وأنه كل شيء لهم لذلك فهم يطلبونه بانسحاق شديد، وهذا هو مفهوم الاتضاع، وهؤلاء يرفعهم الله لملكوته ويسكن عندهم فيصيروا سماءً، فالله يسكن السموات (أش 15:57). الكبرياء يُسقِطنا من الملكوت كما أسقط أبونا آدم، أما الاتضاع يرفعنا إليه. والاتضاع والمسكنة بالروح ضد مفاهيم الفريسيين. فالمسيح يُغَيِّر هنا المفاهيم الخاطئة. المسكين بالروح يشعر في داخله أنه لا يستحق شيئًا وأنه ضعيف وخاطئ، وقلبه مثل لسانه أي لا يدَّعي هذا. وهذا ما جعل بطرس يقول للسيد أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ (لو5: 8) إذ وجد نفسه غير مستحق لوجود الرب في سفينته. أما المتكبر فهو دائمًا يشعر أن الله ظلمه إذ أنه كان يستحق أكثر. هذه المسكنة بالروح فيها حماية من السقوط لذلك كانت نصيحة رب المجد لنا " إن فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون" (لو17: 10). ونلاحظ أن التواضع كان أول التطويبات فهو الأساس لكل فضيلة.
لأن لهم ملكوت السموات = السيد يرفع أنظارنا لتكون أفكارنا وطموحنا في السموات وليس على الأرض. لذلك نجده يكرر عبارة أبوكم السماوي ويعلمنا صلاة " أبانا الذي في السموات...".
طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ.
الحزانى= لا يقصد الذي يحزن لضياع ماله أو ممتلكاته فهذا حزن باطل، بل من يحزن على خطاياه ويحيا حياة التوبة. بل يبكي على خطايا الآخرين ويحزن على هلاكهم، هؤلاء حزنهم مقدس والله يحوله لفرح روحي (يو 22:16 + 2كو 10:7). فمن يزرع بالدموع يحصد بالابتهاج (مز 5:126) = لأنهم يتعزون.
ولنلاحظ الترتيب فالمتضع أي المسكين بالروح يسكن الله عنده فينير بصيرته فيعرف خطاياه ويراها فيحزن عليها، فيحول الله حزنه إلى فرح. ونلاحظ أن السيد المسيح ذُكِرَ عنه أكثر من مرة أنه بكى ولم يذكر عنه أنه ضحك، مرة واحدة قيل عنه تهلل بالروح إذ رأى عمل الله في
تلاميذه، فهو يفرح بخلاص البشر. وماذا تنفع أفراح الأرض يوم الدينونة. أما عزاء الروح القدس فهو سندنا وسط ألامنا على الأرض ويضمن لنا السماء.
طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.
الودعاء = مرة أخرى لاحظ الترتيب، فالحزين على خطاياه، حزنه يصقله ويصير وديعا، هو في خجل من خطاياه الشخصية يغفر للآخرين. الودعاء هم ذوي القلوب المتسعة البسيطة التي تحتمل إساءات الآخرين، ولا تقاوم الشر بالشر، هم الذين في ثقة في مسيحهم يقابلون من يعاديهم بابتسامة وديعة، لا تربكهم إساءات الآخرين فيفقدوا سلامهم، ليس عن ضعف (فالمسيح القوي كان وديعًا)، بل ثقة في قوة المسيح يرثون الأرض = هذه مثل "إن أرضت الرب طرق إنسان جعل أعداؤه أيضًا يسالمونه" (أم16: 7)، فالوديع يتمتع بحب الناس فيعيش في هدوء وسكينة. وهناك فرق بين هدوء الطبع وبرودة الطبع، فالأول لا يثور على الناس ولا يثيرهم بل تجده يشيع الهدوء فيمن حوله، والثاني بروده يثير الناس.
والكلمة اليونانية هنا المترجمة ودعاء تستخدم لوصف الحيوانات الأليفة المستأنسة، وكأن السيد يطوب طبيعة المؤمن التي كانت قبلًا شرسة وقد خضعت لله فروَّضها فتحولت لكائن أليف وديع.
طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ.
الجياع والعطاش إلى البر= نلاحظ الترتيب فالتطويب حتى الآن كان لنفس متضعة سكن فيها الله ورأت خطاياها فحزنت، وحول الله حزنها فرح، وبدأ المسيح يشفيها من شراستها فتغيرت طبيعتها. مثل هذه النفس قطعًا ستشتاق للمزيد، والبر هنا هو بر المسيح، فهو صار لنا برًا من الله. وطوبى لمن يشتاق أن يشبع من الله، طوبى لمن يجوع للطعام الروحي أي معرفة الله ومعرفة المسيح. وكما أن الجوع الجسدي علامة صحة، فالجوع الروحي علامة صحة روحية. ومعرفة الله والمسيح حياة (يو 3:17)، كما أن الشبع بالطعام يعطي حياة للجسد. ومن يجوع ويعطش لله يشبعه الله ويرويه، يعطيه الله الروح القدس ليثبته في المسيح ويُعَرِّفَه المسيح ويشبعه بالمسيح (يو 37:7-39) هكذا صرخ المرنم " كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله (مز 1:42) + " أرفع يديَّ فتشبع نفسي كما من شحم ودسم" (مز63: 4، 5). فالحب الإلهي مشبع للنفس. والحياة هي رحلة نحو الكمال، والكمال هو بدون حدود. الجوع والعطش إلى الله هو شعور دائم بالاحتياج لله وللامتلاء به. ومن تذوق هذه المتعة يقول لكل إنسان مع المرنم "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز 34: 8).
طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.
الرحماء= كلما نتلامس مع الله ونعرفه ونشبع به ويسكن فينا فهو يسكن عند المنسحقين نتمتع بسماته خاصة الرحمة. "كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم لو 36:6". والذي لا يرحم أخاه لن يذوق من رحمة الله. والرحمة تشمل الفقراء والمحتاجين وأيضًا تشمل الخطاة فلا ندينهم بل نصلي لأجل توبتهم وخلاصهم. وكما يغير المسيح طبعنا الشرس لطبع وديع، هكذا يغير قساوتنا إلى طبع رحيم.الرحمة هي الإحساس بالآخر ومشاركته مشاعره. وتسديد احتياجاته.
طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ.
أنقياء القلب
= نحن أمام نفس يتعامل معها الله، حولها للوداعة وتشبهت به فصارت رحيمة، وماذا بعد؟ كيف نرتقي لدرجة أعلى؟ينقي الله القلب فيصبح بسيط، والبسيط عكس المركب، أي أن القلب البسيط له هدف واحد، لا ينقسم بين محبة الله ومحبة العالم، يصبح هذا القلب غير محبًا للخطية. وأصل كلمة النقاوة في اليونانية تشير للغسل والتطهير كإزالة الأوساخ من الملابس، وتعني أيضًا تنقية ما هو صالح مما هو ردئ كفصل الحنطة عن التبن هكذا قلب المؤمن، يغسله ربنا يسوع المسيح بدمه من كل
شائبة. الخطية كأنها طين على العينين تعميهما عن رؤية الله. وبالتوبة يزول هذا الطين فـ يعاينون الله = هذه لا تعني أننا نرى الله بصورة مجسمة، فالله فوق الحواس بل أن من تطهر من حب الخطية تنفتح بصيرته الداخلية بل حواسه الداخلية كلها فيرى ويسمع ويتذوق= فيعاين الله، فحين يقول داود النبي "تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين إنه عن يميني لكي لا أتزعزع" (مز 16: 8) فهل رأى داود الرب عيانًا؟! قطعًا لا، إنما كان هذا بإيمان قوي يصل لدرجة أنه كما لو كان بالعيان، فيها يكون شاعرًا دائما بحماية الله ومساندته له. نحن نعاينه هنا على الأرض بالإيمان أما في السماء فسيكون هذا عيانا. فالخطية هي التي تحجب رؤية الله، وبدون قداسة لن يرى أحد الرب (عب 14:12). الله يُرى ويُحَّس ويُحَّبْ بالقلب إذا تصفى من شوائب محبة العالم والخطية. أمّا من يعيش للخطية يصبح قلبه غليظًا لا يشعر ولا يُحِّب الرب. لذلك هتف داود "قلبًا نقيًا إخلقه في يا الله". مثل هذا الإنسان الذي له القلب البسيط يقال عنه أيضًا أن له عين بسيطة لا تبحث إلاّ عماّ هو لله، هذا الإنسان يكون جسده كله نيرًا، أي يكون نورًا للعالم يرى الناس الله من خلاله فالله نور. وهذه يصل لها من يقمع جسده وأهواءه ويضبط شهواته ويصلب نفسه عن العالم.
طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ.
صانعي السلام = مَنْ يعاين الله يشتهي أن يعمل في كرم الله ولحساب مجد الله، والمسيح هو رئيس السلام جاء ليؤسس ملكوته على الأرض وهو ملكوت السلام. وابن الله يعمل لحساب هذا الملكوت ويؤسس مع المسيح ملكوته بين الناس. أبناء الله ملأ الله قلبهم سلامًا فاندفعوا يعملونه بين الناس، متشبهين بالمسيح الذي صنع سلامًا بين السماء والأرض. وكل من يصنع سلامًا فهو ابن لله، ومن يزرع خصامًا فهو ليس ابنًا لله.
طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.
المطرودين من أجل البر
= أبناء الله المتحدين بالابن البكر يسوع المسيح ينالهم ما نال المسيح (يو15: 18)، فكما طارد الشيطان المسيح، هكذا سيطارد المؤمنين، فالشيطان والعالم يبغضون المسيح أي يبغضون البر، وبالتالي يبغضون كل من يطلب البر ويحرمونه من ملكوت الأرض، لكن الله يعطيهم ملكوت السموات والمطرودين من أجل البر هم المضطهدين لأجل برهم. نلاحظ هنا أن المطرودين لأجل البر هم من أصحاب الطوبى الذين سبقوا. فكل من طوبه المسيح يكرهه العالم. فحامل الطوبى يعمل لحساب الله ولكن العالم لا يعمل لحساب الله فهو لا يعرف الله (يو 25:17). حياة البر على الأرض تتلخص في ألم من الناس وتعزية من الله.
آيات (11-12):-
طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.
هنا السيد يوجه كلامه للسامعين = طوبى لكم= وهذا تشجيع لهم لأن يكونوا من المؤمنين، وأن يحتملوا ما سيواجهونه من ضيق كأولاد لله فشركاء الألم شركاء للمجد (رو 8: 17) عيروكم = شتموكم في وجودكم.... قالوا عليكم = في غيابكم. كلمة شريرة = اتهامات باطلة.
ولنلاحظ في النهاية أن الجزاءات التي قالها السيد عن حالة ليست منفصلة عن بقية الحالات التي طوَّبها بل هي متكاملة، هي تمس حياتنا الداخلية الواحدة من جوانب مختلفة، فمن المؤكد أن الرحماء يُدعون أبناء الله وأن صانعي السلام يُشبعون وهكذا قال القديس أغسطينوس هذا التشبيه ليشرح تكامل التطوبيات:-
مثال ذلك أعضاء الإنسان الجسدية متعددة ولكن لكل منها عملها الخاص فنقول طوبى لمن لهم أقدام لأنهم يمشون، ولمن لهم أيدي لأنهم يعملون. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). هكذا نحن سنعاين الله بسبب نقاوة القلب. ولكن نقي القلب هو صانع سلام، لكن لن يعاين الله بسبب صنعه السلام لكن بسبب نقاوة قلبه. ونقي القلب هو رحيم ولكنه لن يعاين الله بسبب رحمته ولكن بسب نقاوة قلبه وهكذا.
"وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْل، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، وَالْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ. وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. اِفْرَحُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ. وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَنًا. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ".
واضح أن هناك خلافات في النص الوارد في تطويبات إنجيل متى مع تطويبات إنجيل لوقا. فمثلًا يقول في متى طوبى للمساكين بالروح وفي لوقا يقول طوباكم أيها المساكين.. وهكذا. وحل هذا الإشكال سهل جدًا. فنحن نسمع في إنجيل متى أن المسيح ألقى عظته على الجبل (مت 1:5) ولكننا نسمع في لوقا أن المسيح قال عظته الثانية بعد أن نزل من على الجبل وذهب إلى سهل (لو 17:6). فعظة إنجيل متى من على الجبل وعظة إنجيل لوقا في سهل. وسبب اختلاف المعاني أن الجمع الذي احتشد حول المسيح بعد نزوله من على الجبل كان مكونًا من تلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه، وأيضًا من كثيرين من المتألمين والمرضَى والمعذبين، فكان كلام المسيح لهؤلاء يختلف عن كلامه لمن كانوا على الجبل، كان كلام المسيح على الجبل (والجبل رمز للسماويات) موجهًا للنواحي الروحية مثل الاتضاع وهو المسكنة بالروح، والجوع والعطش للبر. أمًا كلام المسيح في السهل (والسهل رمز للمستوى الروحي الأدنى) فقد كان متأثرًا بحالة الجموع المعذبة، هؤلاء الذين يحيون في ذل وشقاء ونجد هنا المسيح يتحنن عليهم ويشفيهم، ويطوبهم على احتمالهم ما هم فيه. لم يكلمهم المسيح عن المسكنة بالروح بل طوبهم على احتمالهم المسكنة وأنهم تبعوه ويسمعونه، أي هم يبحثون عن الحق. وطوب هؤلاء الجياع لأنهم احتملوا جوعهم بلا تذمر. وقطعًا فالمسيح لن يطوب إنسانًا مسكينًا فقط لأنه مسكين وفقير، إن لم يكن له روحيات ترضي المسيح كتسليم حياته لله، والشكر على ما هو فيه، وعدم التذمر. المسيح في عظة إنجيل لوقا يرفع من معنويات هؤلاء المساكين (راجع قصة الغني ولعازر). وبعد أن يرفع معنوياتهم، يرفع روحياتهم بأن يكلمهم عن المسكنة بالروح. المسيح كان يشفي أمراضهم ويحررهم من الأرواح النجسة أولًا وبعد ذلك يكلمهم عن الجوع والعطش إلى البر.
ونلاحظ أن هناك من صار فقيرًا وجائعًا فعلًا لأجل المسيح كالرهبان وعلى رأسهم الأنبا أنطونيوس الذي باع كل ما يملكه وصار فقيرًا ليتشبه بسيده الذي افتقر وهو غني (2كو 9:8).
عظة إنجيل لوقا في السهل هي الدرجة الأولى في السلم الروحي يليها الدرجة الأعلى على الجبل في إنجيل متى. ونلاحظ أن الله يتعامل مع كل المستويات ليرفع الكل إلى أعلى مستوى ممكن. مثال:- المنارة في خيمة الإجتماع، نجد أن الزيت الذي يرمز للروح القدس يمر في كل فروع المنارة التي تشير للمؤمنين. وكل فرع يحتوي على كل مراحل الإثمار (الزهرة والبرعم واللوزة) أي أن الروح يعمل في كل المراحل ليقود الكل للنضج الكامل، وتحدث الإنارة. فالروح يتعامل مع المسكين ويشبعه، ثم يرفعه روحيا ويقوده للإنسحاق أمام الله ليسكن الله فيه ويحوله إلى سماء.
ونزل معهم=هو نزل معهم لكي يرفعهم. وهو تحنن عليهم إذ جاءوا ليسمعوه... وطلبوا أن يلمسوه.. لذلك إذ طلبوه بصدق طوب فقرهم وجوعهم وعَلَّمَهم (مر 34:6) لأن قوة كانت تخرج منه وتشفي الجميع= فالسيد المسيح هو القوة الخالقة، هو الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مماّ كان، وهو القوة المصححة الشافية للخليقة، لهذا تجسد.
إذًا لا تعارض بين ما ذكره القديس متى وما قاله القديس لوقا. فالمسيح ظل يعلم الجموع أكثر من ثلاث سنوات. وكل إنجيلي يختار من تعاليم السيد ما يناسب هدفه من كتابة إنجيله. وكما رأينا في المقدمة فإن لوقا يقدم المسيح صديق البشرية المعذبة، لذلك هو ينتقي هنا من تعاليم المسيح هذه الكلمات الموجهة للمقهورين. وهؤلاء حين تبدأ تعزياتهم يمكن أن يفهموا المستوى الروحي الأعلى عن المسكنة بالروح التي ذكرها متى.
طوباكم
= طوبى بمعنى يسعد وينعم وتعني الغبطة. وفي عظة الجبل كان السيد يقول طوبى، وهنا يوجه السيد كلامه لسامعيه من المساكين ليشجعهم.أيها المساكين
= العالم يفهم أن السعادة والغبطة هي للأغنياء، والسيد هنا يقول إن الطوبى للمساكين فلهم ملكوت الله، لهم السعادة في السماء أما الأغنياء فقد استوفوا أجرهم على الأرض ولنراجع (قصة لعازر والغني) وهذه أيضًا ذكرها لوقا فقط مما يوضح الفكرة التي يهتم لوقا بأن يقدمها عن المسيح صديق البسطاء والفقراء والمعذبين. هنا المسيح يرفع المساكين والمتألمين لشركة أمجاده. ومن آية 24 يقدم المسيح بعض الويلات، مثلًا للأغنياء ونلاحظ:-1- المسيح بدأ بالتطويبات قبل الويلات فهدفه تشجيع السامعين وبث الرجاء فيهم.
2- المسيح ليس ضد الأغنياء ولكن ضد الأغنياء قساة القلوب أو الذين يعتمدون ويتكلون على أموالهم (مر19:4+ مر 24:10).
3- المسكين ماديًا ولكنه متكبر مثلًا لن يكون له نصيب في الملكوت.
أيها الباكون =المقصود بهم المظلومين والمقهورين، ومن ظلمهم العالم سينصفهم الله.
أفرزوكم = هو حُكم يصدر من المجمع، فلا يحق للمحكوم عليه دخوله 30-90 يومًا.
وعيروكم= الحكم الأول أفرزوكم هو حكم ديني، وهذا الحكم عيروكم هو حكم مدني.
أخرجوا اسمكم كشرير= هذا حكم أدبي يُحرم فيه الإنسان من حقوقه الدينية والمدنية والشخصية.
من أجل ابن الإنسان =مبارك من يُحكم عليه بما سبق لكونه مسيحي.
كانوا يفعلون بالأنبياء = الصليب والاضطهاد واقع على كل أولاد الله.
الأغنياء=المتكلين على أموالهم، وقلوبهم بلا رحمة، الشباعى=من مسرات العالم.
الضاحكين = يلهيهم العالم بإغراءاته عن طلب التوبة بدموع.
قال فيكم جميع الناس حسنًا =هؤلاء الذين يسعون وراء المجد الباطل.
(مت 13:5-16)
آية 13:-
«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ.
صفات الملح:
1) يعطي طعمًا ويبرز نكهة الطعام لو ذاب بكمية معقولة.
2) يحفظ بعض الأطعمة من الفساد.
3) نقي وأبيض.
وبهذا التشبيه فالسيد المسيح يدعو المؤمنين للذوبان في المجتمع، فالطبيعة البشرية فسدت وفقدت نكهتها بسبب الخطية. وعلى المؤمنين أن يعيشوا بحياتهم النقية (بيضاء كالملح) وسط المجتمع. وهم قادرون بالمسيح الذي فيهم أن يؤثروا فيمن حولهم ويكونوا قدوة، وبهذا يتقدس العالم ويمتنع عنه الفساد. ولكن على المؤمنين أن يذوبوا في حياة الآخرين باعتدال فلا يفقدوهم شخصياتهم ومواهبهم (كمن يضع كمية كبيرة من الملح في الطعام فتفسده). أما لو فسد الملح لصار خطرًا وبيلًا على من يستعمله، والقدوة لو فسدت فأثرها لا يُطاق كالملح الفاسد. ولذلك طلب السيد المسيح من الآب ألاّ يأخذهم من العالم بل أن يحفظهم من الشرير (يو15:17) فهم لهم عملهم ودورهم كملح للعالم.والله كان لن يحرق سدوم لو وجد فيها عشرة أبرار. وهناك ملح فاسد وهذا يداس مثل شاول الملك، وهناك ملح قد اتسخ وهذا يُنقى بالتوبة مثل داود. لهذا جاء المسيح ولنلاحظ أن ناثان النبي حين قال لداود الرب نقل عنك خطيتك(2صم12: 13) فهو نقلها لحساب المسيح، ليحملها المسيح بدلًا منه يوم صليبه.
آيات (14-16):-
أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
النور الحقيقي هو المسيح، جاء ليضيء للعالم، وجعل تلاميذه يعكسون نوره كما يعكس القمر نور الشمس، فيكونوا كمصباح يضيء للعالم. والنور يعني أن يرشد الآخرين في حياتهم ويكشف الشر
بأن يحيا هو بوصايا المسيح، وهذا هو عمل أولاد الله.مدينة موضوعة على الجبل
= المدينة الموضوعة على جبل هي أورشليم، فهي مبنية على جبل صهيون. وأورشليم هي رمز للكنيسة وللنفس البشرية المؤسسة على صخر الدهور، وطالما المسيح فيها (في النفس) تكون نورًا للعالم، لا يمكن إخفاؤه. ولذلك تسمى الكنيسة منارة (رؤ 1، 2، 3).يوقدون سراجًا
= إذا كانت المدينة المبنية على جبل هي إشارة للكنيسة التي تحيا حياة سماوية، فالسراج يشير للفرد. ونلاحظ أن السراج يوقدونه بالزيت وفتيلة تحترق. وهكذا أولاد الله يوقدون بزيت النعمة ويحترقون أي يقدموا أجسادهم ذبائح حية والروح القدس يشعلهم ويجعلهم نورًا، هو يعكس نور المسيح الذي فيهم. والنور الذي فينا يختبئ بالخطية، لذلك نسمع قول بولس الرسول "لا تطفئوا الروح". ويطفئ النور أيضًا الماديات والمقاييس المادية= المكيال. فكثيرًا ما تقف حساباتنا البشرية عائقًا أمام الإيمان، الأمر الذي يفقد صلواتنا حيويتها وفاعليتها، وراجع موقف فيلبس في (يو6 : 5 – 7). لذلك حينما أرسل السيد تلاميذه للكرازة سحب منهم كل إمكانيات مادية فلا يكون لهم ذهب ولا فضة.... ولا عصا لكي ينزع عنهم كل تفكير مادي، ويكون هو غناهم وقوتهم.والمكيال أيضًا يشير لحجب النور باللذات الجسدية فيُحرم الإنسان من الاشتياقات الأبدية. يتحول الجسد إلى عائق للروح عوضًا عن أن يكون معينًا لها خلال ممارسته العبادة وتقديس كل عضو فيه لحساب المسيا
الملك. والمصباح يجب أن يوضع على منارة = ليصل نوره لكل مكان. والمنارة هي الكنيسة (أي ليرتبط المؤمن بكنيسته). ونلاحظ أن العالم يضع مكيال على كل فرد أو كنيسة ليخفى نورها وذلك بالمقاييس المادية التي أصبحت تُسَمِّى الإباحية حرية، والتمسك بالوصايا تسميه تزمت أو تخلف عن الحضارة، والتمسك بالعقيدة تسميه تعصب وهكذا. فكل من يصل لأن يكون نور للعالم لا بد وأن الشياطين ستضطهده وتثير العالم ضده، ولكن بحسب وعد رب المجد فطوبى لهذا الإنسان شريك رب المجد في الصليب.المسيح إذًا بحلوله فينا وبامتلائنا بالروح القدس، يظهر نور المسيح الذي فينا والهدف أن يتمجد الله حين يرى الناس أعمالنا الحسنة، وما يطفئ هذا النور؟
1) الخطية؛ 2) الانغماس في ملذات العالم؛ 3) الحسابات
البشرية المادية (فيلبس).الله يُريد أن الجميع يخلصون (1 تي 2: 4). ولكن "العالم وُضِع في الشرير" (1يو19:5)، فكيف يخلص العالم؟ بل كيف يقبل الله هذا العالم الشرير دون أن يحرقه كما أحرق الله سدوم وعمورة؟
1) هذا دور كل من يؤمن أن يكون نورًا للعالم، فيرى الناس هذا النور ويُدركوا بشاعة خطيتهم ويعودوا لله، ويعود الله إليهم.
2) والله كان لن يحرق سدوم وعمورة إن وُجِدَ فيها عشرة أبرار (تك23:18 -33). وهذا معنى أن أولاد الله هم ملح الأرض. فالله يصبر على العالم لوجود أبرار فيه، كما نقبل نحن الطعام إن وُجِدَ فيه ملح جيد.
3) لكن هؤلاء الأبرار سيتألمون ويُعانون من إضطهاد وعثرة الأشرار، بل ربما يطلبون الموت إذ عرفوا حلاوة عشرة المسيح (فى23:1). والمسيح يقول لهم إصبروا لكي تكونوا نورًا للعالم وملحًا للأرض حتى يعرفني الجميع فيخلصوا. فيقول هؤلاء الأبرار، لكننا سنتألم بوجودنا وسط الأشرار. هنا يقول لهم الرب "طوباكم إذا عيَّروكم وطردوكم... فإن أجركم عظيم...". وهذا الأجر العظيم هو ثمر عملهم كنور وملح لجذب الأشرار للخلاص، وهذا ما جعل
بولس الرسول يقول "إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي" (فى22:1). وإذا ظل الإنسان يشتكي يقول له المسيح "أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة" (مت40:26). هنا سهر الإنسان أي احتماله الألم في العالم مع المسيح لخلاص الآخرين. ولنلاحظ أن من تنطبق عليه التطويبات يصير نورًا للعالم وملحًا للأرض.
الآيات (مت 17:5-48):-"
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ! «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى أمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ أمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ أمْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي. «أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ. «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. ""لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ":
موضوع هذه الآيات هو أن المسيح جاء ليكمل الناموس فما معنى هذا؟
أولًا: المسيح يعلن أنه ليس ضد الناموس كما أشاعوا عنه. وكيف ينقضه وهو واضعه فهو الله الذي تجسد ليكمله.
هو يكمل عجز وصايا الناموس، هو يرفع المستوى لمستوى النعمة التي للعهد الجديد، ومع زيادة الإمكانيات أي مع وجود النعمة زاد المطلوب (فطالب سنة أولى ابتدائي إذا حفظ جدول الضرب صار هذا معجزة ولكنه إذا أتم دراسته الجامعية سيطالب بأكثر من هذا كثيرًا) ففي العهد القديم لم يطلب الله سوى الامتناع عن الزنا، أما في العهد الجديد صارت النظرة والشهوة ممنوعة. وبهذا فالسيد المسيح لم ينقض الناموس، إذ أن نقض الناموس يعني مثلًا السماح بالزنا. في العهد القديم منع الناموس القتل، أما في العهد الجديد يمنع الغضب باطلًا. إذًا التكميل يعني هنا الوصول لأعماق النفس لنزع الخطية من جذورها قبل أن تظهر كفعل في الخارج.
تكميل الناموس أيضًا يعني أن في المسيح تحققت كل النبوات، وظهر معنى الطقوس والفرائض، ففرائض الذبائح والختان كانت رمزًا لشيء سيحدث وبحدوثه انتهت هذه الفرائض.
السيد المسيح أكمل الناموس بخضوعه لوصاياه دون أن يكسر وصية واحدة " لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر (مت 15:3+ غل4:4) ولذلك قال السيد " من منكم يبكتني على خطية (يو 46:8 + يو 3:14).
السيد المسيح لم يكمل الناموس في نفسه فحسب وإنما هو يكمله أيضًا فينا (رو 4:10+ رو 3:8، 4). فالناموس كان مساعدًا للإنسان لكي يسلك في البر، لكن الناموس عجز عن هذا. فأتى المسيح ليدخل بالإنسان لطريق البر مثبتًا غاية الناموس.
أكمل المسيح الناموس بموته، إذ بموته استنفذ عقوبة الناموس على البشر.
أكمل المسيح الناموس أنه كشف روح الحب في الوصية " من يحبني يحفظ وصاياي، فهو أعطانا أن نتجاوب مع وصايا الناموس ونتممها عن حب، وهذا كان بسكب روح المحبة في قلوبنا بالروح القدس (رو5:5)، أي جعلنا نطيع الناموس ليس خوفًا من عقاب بل حبًا فيه= اكتبها في قلوبهم (عب 10:8). الروح القدس الممنوح لنا في العهد الجديد بسكبه روح المحبة في قلوبنا، صار لنا قلوب لحمية عوضًا عن قلوب الحجر. والمحبة تجعلنا نحفظ الوصية عن حب وليس عن فرض (يو21:14+23)، وبهذا كمل الناموس فينا إذ أن هدف الناموس أن نحيا حياة البر.
صار المسيحي يحفظ الوصية عن حب وليس عن خوف حباً في الله. ولكن لأننا ما زلنا في الجسد فنحن نضعف ونخطئ. ويقول القديس يوحنا "إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا" (1يو8:1). لذلك يقول لنا الرب يسوع "إثبتوا فيَّ وأنا فيكم". وذلك لأن ثباتنا في المسيح يسوع أعطانا أن نُحسب كاملين وبلا لوم وبلا دينونة في المسيح الكامل الذي كان بلا خطية، والوحيد الذي حفظ الناموس. ويقول بولس الرسول "لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلًا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ" (كو28:1) + "كَمَا ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ" (أف4:1) + "إِذًا لَا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ" (رو1:8).
آية (17) :-
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ.
إني جئت
= إذًا هو موجود قبل أن يتجسد، وهذا يعني أيضًا أنه جاء من نفسه وليس كالأنبياء أرسلهم الله. فهو بهذا القول يظهر نفسه أعظم من الأنبياء.
آية (18):-
فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.
إلى أن تزول السماء والأرض = استعدادًا لظهور السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ 1:21). وربما يشير هذا لانتهاء اللعنة أو أن هذا العالم الملعون منذ خطية آدم ستتغير صورته إلى صورة مجد (رو 21:8-22). والمقصود أن كلمة في الناموس لن تسقط حتى لو زالت السماء والأرض.
الحق أقول لكم = تعبير يعني أن ما سيقال شيء مهم، ولم يستعمله سوى المسيح له المجد، أما الأنبياء فكانوا يقولون "قال الرب".
حرف واحد أو نقطة واحدة=الأصل اللغوي لا يزول حرف (i) واحد. وحرف (i) هو أصغر الحروف الهجائية فهو مجرد خط صغير وفوقه نقطة. وإضافة النقطة فوق الحرف تغير المعنى تغييرًا جوهريًا، والسيد بهذا يظهر أن لأصغر الأجزاء في الناموس قيمة، هذا تعبير عن كمال الناموس.
حتى يكون الكل = أن يتم الغرض من الناموس، فالناموس يحمل معه المكافأة على طاعته والقصاص على عصيانه.
آيات (19-20):-
فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.
لقد ظن الفريسيين أنهم يحفظون الناموس خلال غيرتهم بالتعليم، ولم يدروا أنهم ينقضونه بحياتهم الشريرة، فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقض للناموس، والتعليم يفقد فاعليته بدون أن يكون المعلم قدوة، بل نفهم من قول السيد هنا أن العمل بالتعليم دون أن يكون المعلم قدوة في حياته، هذا يقلل من مكافأته. هنا دعوة من السيد لنا أن نلتزم بتكميل الناموس في حياتنا العملية. بل أن يزيد برنا على الكتبة والفريسيين، أي لا نتمسك بحرفية الناموس بل نعبد الله بروح الحب، ولا نمتنع فقط عن الخطايا بالفعل بل نمتنع عن الأفكار الشريرة والإرادة المنحرفة.... ولماذا لا والله أعطانا النعمة تعيننا.
الوصايا الصغرى =هي ما يراها الناس أنها وصايا صغيرة مثل النظرة أو الغضب في مقابل الوصايا الكبرى كالزنا والقتل التي هي خطايا الفعل. واليهود كانوا يرتبون الوصايا فهناك وصية أكبر وأعظم من وصية وهكذا.
آيات (21-22):-
«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.
نرى السيد المسيح هنا يتتبع البواعث الداخلية التي تدفع للخطية ليقتلع أصول الشر من النفس. والباعث على القتل هو الغضب، والسيد يحدد هنا ثلاث درجات.
1- الغضب الباطل= تحرك الغضب في القلب وقوله أنه باطل أي صادر عن قلب شرير حاقد يفضي للعراك والرغبة في الانتقام والقتل، وهناك غضب حميد قال عنه بولس الرسول "إغضبوا ولا تخطئوا" (أف26:4) ولكن عمومًا فغضب الإنسان لا يصنع بر الله (يع 20:1) وهذا الغضب الباطل يستوجب الحكم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). والحكم هنا يعني محاكم القرى وتتكون من (3-23) عضوًا، وقد يعني الغضب الباطل = الغضب بسبب أمور تافهة وزمنية مهما بدت ذات قيمة، والغضب المطلوب هو غضب أب يغضب على انحراف ابنه أو غضب معلم يغضب على إهمال تلميذه.
ولاحظ أن الدرجة الأولى هي غضب داخلي لم يصاحبه التفوه بكلمات إهانة.
2- من قال لأخيه رقا = هنا خرج الغضب إلى الخارج في صورة كلمة استهزاء للآخر. وكلمة رقا كلمة سريانية تعبير عن انفعال الغضب، كلمة أو إشارة امتهان يمتهن بها الشخص على سبيل الاحتقار (بدلًا من قوله أنت يقول رقا) وقد تعني باطل أو فارغ أو تافه، أو كمن يستهزئ بأحد ويقول "هئ" في هذه الحالة يستوجب الشخص أعلى هيئة قضائية في ذلك الحين وهي السنهدريم= المجمع وهو مكون من 70 شيخ، وهذا له أن يحكم بالرجم. وكان حكم محاكم القرى يمكن نقضه أمام المجمع، ولكن حُكم المجمع لا يُنقض.
3- من قال يا أحمق = هنا الشخص يعبر عن غضبه بكلمة ذم. فكلمة رقا كلمة بلا معنى ولكن هنا الحال أسوأ فكلمة أحمق كلمة جارحة، ومثل هذا يستوجب عقابًا أشد. فجهنم هي مكان إبليس الذي كان قتالًا للناس، ومن يترك نفسه للغضب يتشبه بإبليس فيكون معه في جهنم. وكلمة جهنم تنقسم لقسمين:
أ- جيه وتعني أرض ومنها GE OGRAPHY علم خرائط الأرض، GE OLOGY علم طبقات الأرض.
ب- هنوم وهو وادي تلقى فيه الفضلات ويحرقونها، فهو نار متقدة دائمًا. ويصير معنى جهنم (جيه هنوم) أي وادي أو أرض هنوم وهو مكان نار مستمرة ودود مستمر، وهذا يشير للعذاب الأبدي. عمومًا وصية العهد الجديد هي المحبة، وأي خروج عن المحبة هو خطية وعصيان لوصية الله أي المحبة، حتى الشتيمة البسيطة تجرح المحبة وتسيء إلى الله. ولاحظ أن الشتيمة البسيطة قد تثير عراك يفضى إلى القتل.
قد سمعتم أنه قيل للقدماء (هي وصايا الله في العهد القديم) أما أنا فأقول = لا يجرؤ نبي أن يقول هذا، فالنبي يقول "هكذا يقول الرب" أمّا المسيح واضع الناموس فيقول هذا. هذه الآية وحدها تثبت لاهوت المسيح فهل يوجد إنسان يمكنه أن يغير أو ينقص أو يزيد حرفًا على ما قاله الله، إلا لو كان هو الله.
آيات (23-24):-
فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.
يختم السيد كلامه هنا عن عدم الغضب بضرورة مصالحة الإخوة قبل تقديم ذبيحة حب
لله. والمعنى أننا قد نخطئ في حق الآخرين، ولكن هذا ليس معناه فقدان الرجاء في عفو الله، بل علينا أن نذهب ونعتذر ونتصالح. ونفهم من قول السيد هذا أن الغضب والخصومة تمنعنا من الصلاة والتناول. فإن قدمت قربانك = ذهبت للتناول. وقد تشير لذبائح التسبيح والعبادة. فالمحبة للناس هي أعظم ذبيحة لله ودليل حبنا لله (1يو 20:4) وبدونها لا تُقبل أي ذبيحة.
كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ لْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!
لها تفسيران: 1) حرفي؛ 2) رمزي:-
التفسير الحرفي:- أن هاتين الآيتين هما امتداد للآيات السابقة، ومعناهما حث المسيح لنا أن نصطلح مع الآخرين، فهذا خيرٌ من تطور الأمور حتى السجن إذا حدث غضب وتهور وانتقام.
التفسير الرمزي:- هو تفسير القديس أغسطينوس. ويقول أن الخصم هو الضمير.إذًا يجب أن ترضي ضميرك سريعًا. والقاضي هو الله. والسجن هو جهنم، والشرطي هو الملاك الموكل بالهاوية. وعبارة حتى توفي الفلس الأخير = هي تعبير يدل على الاستحالة، يوضع إلى جوارها "ولن توفي" فمستحيل على الإنسان أن يوفي العدل الإلهي مهما قضى في السجن فخطايانا غير محدودة لأننا أخطأنا في حق الله الغير محدود، لذلك تجسد الابن لكي يوفي عنا. هو ناب عن البشرية في دفع ثمن الخطية ووفاء العدل الإلهي فمن لم يؤمن ويقدم توبة لن يستفيد من دم المسيح. وبالتالي سيلقيه القاضي في جهنم التي لا خروج منها، فما دام لم يستفد من دم المسيح، كيف سيوفي وهو مُلقى في السجن. ويكون معنى كلام المسيح أنه من الأفضل أن تصطلح مع أخيك ههنا وأنت في حياتك على الأرض، قبل أن تلقى بسبب ذلك في السجن الذي لن تخرج منه [والخصم قد يكون الوصية الإلهية التي يجب طاعتها، فالوصية الإلهية هي ضد رغبة الإنسان العتيق] الفَلْس: هو أصغر عملة.
«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ.
المسيح هنا أيضًا لا ينقض وصية لا تزن بل يطلب طهارة القلب فالزنا يبدأ من داخل القلب. وإنه من السهل مقاومة الخطية وهي في مراحلها الأولى أي داخل القلب وذلك بأن يمتنع عن النظر بشهوة وبهذا يثير حواسه ويتلذذ بالنظر.
فإن كانت عينك اليمنى = لا يمكن فهمها حرفيًا وإلاّ لأغمضنا العين اليمنى ثم ننظر باليسرى. ولكن اليمنى تشير للخطية والشهوة المحبوبة. واليد تشير للعمل. ومعنى كلام السيد المسيح لا نفهمه بقطع اليد أو قلع العين فعلًا، لكن المقصود أن نضبط نظراتنا وشهواتنا وأفعالنا، نحيا كأموات أمام الخطية وهذا ما قاله بولس الرسول "إحسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية" (رو 11:6) وأيضًا " أميتوا أعضائكم التي على الأرض الزنا النجاسة...." (كو 5:3) ونصلب الأهواء والشهوات ونقمع الجسد ونستعبده، وهذا هو الجهاد، وهذا هو التغصب الذي يخطف ملكوت السموات (غل 24:5 + اكو 27:9 + مت 12:11+ غل 20:2) بهذا نقدم أجسادنا ذبيحة حيَّة (رو 1:12). ولاحظ أن من يفعل يعينه الروح على هذا " إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد" (رو 13:8) " فالروح يعين ضعفاتنا" (رو 26:8).
العين اليمنى= تعني النظر بلذة إلى منظر محبوب، وبشهوة.
اليد اليمنى= تعني تنفيذ ما اشتهاه الإنسان (هنا خرجت الخطية خارجًا).
آيات (31-32):-
«وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي.
المرأة في اليهودية كانت مُهانة، وكان الرجال يصلون يوميًا "أشكرك يا رب لأنك خلقتني رجلًا وليس امرأة، خلقتني حرًا وليس عبدًا...." وهذا يعبر عن قساوة قلوبهم من ناحية المرأة، ولقساوة قلوبهم هذه سمح لهم موسى بالطلاق (تث 1:24). ولقد شاع الطلاق عند الأمم واليهود على السواء. ولقد كانت هناك مدرستان عند اليهود، مدرسة "شمعَى" وهي تسمح بالطلاق في حالة فقدان العفة، أماَ مدرسة "هليل" فتوسعت في أسباب الطلاق حتى أنها سمحت بالطلاق إن أفسدت الطعام أو خرجت عارية الرأس أو عمومًا إن انجذب الرجل لامرأة أخرى. وجاء المسيح ليقدس الزواج ويرتفع به لمستوى المسئولية الجادة، فلا يسمح بالطلاق إلاّ لعلة الزنى.
كتاب طلاق= هو شهادة بطهارة الزوجة المطلقة: 1) حتى لا ترجم؛ 2) به يمكنها أن تتزوج رجلًا أخر. ولذلك يكون كتاب الطلاق هذا وسيلة لتهدئة مشاعر الزوج ورجوعه عن الطلاق، إذ يشعر الرجل حين يكتب هذا الكتاب إن امرأته ستصير لآخر فيرجع عن نيته بطلاقها.
آيات (33-37):-
«أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ.
سمح الله لليهود في طفولتهم الروحية بأن يستخدموا اسمه في القسم:
1) حتى يرتبطوا به ولا يرتبطوا بالآلهة الوثنية إذ يقسمون بها.
2) حتى لا يحنثوا بوعودهم بل يلتزمون بأن يوفوا أقسامهم أمام الرب.
وكان اليهود حتى يتجنبوا شر القسم بالله وحتى لا يعاقبهم الله إن حنثوا بما أقسموا عليه، قد سمحوا بالقسم بالسماء وبالأرض وبأورشليم وبرأس الإنسان واعتبروا أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالله. ولكن السيد المسيح هنا يعلمنا أن كل خليقة الله لها علاقة بالله. وفي العهد الجديد ما عاد أحد يعبد آلهة غريبة، وبالتالي ما عاد القسم بالله علامة التعبد لله، فلا داعي إذًا لأن يقسم أحد بالله، خصوصًا أن اسم الله أسمَى من أن نتعامل به في الأمور المادية العالمية، بل يذكر في العبادة فقط. والمسيحي له سمة مميزة، هي أنه لا يُقسم بل يكون كلامه نعم ولا = أي الصدق فقط. وما زاد عن الصدق أو قل عنه فهو كذب، والكذب هو من الشرير الكذاب وأبو الكذاب (يو 44:8).
آيات (38-42):-
«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.
قيل عين بعين= وصايا الناموس هذه تصلح لشعب بدائي، لا يملك النعمة التي تعطي المسيحي أن يحب أعداءه. ولكن هذه الوصايا كانت لازمة لمنع التوحش والانتقام الرهيب، إذ أن الإنسان البدائي مستعد أن يقتل من يفقده عينه. وجاء المسيح ليطلب أن نقابل الشر بالخير وهذه درجة عالية جدًا، لا يملك الإنسان البدائي أن ينفذها، فما يساعدنا الآن على تنفيذها هو حصولنا على النعمة. لا تقاوموا الشر= المقصود الشخص الشرير، وتقاوم في اليونانية تعني أن تقف في حرب ضد من يقاومك مجاهدًا أن تنتصر عليه خدك الأيمن = المقصود به الكرامة الشخصية. الآخر= رُبما يكون المقصود به هو أن تترك لهُ سبب الخلاف الذي أدى للإهانة. فلو أهانك أحد بسبب خلاف على شيء: 1) سامحه؛ 2) تنازل عن هذا الشيء.
وهناك من طبق الوصية حرفيًا فهزم الشيطان. إذ ذهب أحد القديسين ليصلي لفتاة بها روح شرير، ولما فتحت هي له الباب تحرك فيها الشيطان ولطمت القديس فحول لها الخد الآخر، فخرج الشيطان حالًا صارخًا هزمتني بتنفيذك للوصية، ولقد رأيت شخصيًا أحد الإخوة غير المسيحيين، حين لطمه أحد أصدقائه في مشادة فسكت بل طأطأ رأسه، وبعد دقائق انهار من لطمه طالبًا الصفح وباكيًا. ولكن المهم هو الفهم الروحي وليس التطبيق الحرفي، فالسيد المسيح حين لُطِمَ قال للعبد الذي لطمه.... فلماذا تضربني (يو 23:18)، فهو لم يقدم خده الآخر بل هو كان مستعدًا أن يصفح بل أن يموت عمن لطمه. من سخرك ميلًا = كان اليهودي تحت الحكم الروماني - مهددًا في أي لحظة أن يسخره جندي روماني ليذهب حاملًا رسالة معينة على مسافة بعيدة وهذا كان النظام البريدي المتبع في ذلك الحين. أو كانوا يسخرون أحدًا لعمل معين كما سخروا سمعان القيرواني ليحمل صليب المسيح. والسيد هنا يطلب أنه إن سخرك أحد لمسافة ميل وتضطر أن تعمله بنظام العبودية فبحريتك سر معه ميل آخر علامة المحبة. والميل الآخر سيزيل مرارة عبودية الميل الأول. أي كن مستعدًا للعطاء والبذل بحب، وهذا لخصه السيد بقوله من سألك فأعطه
نفهم من كلام السيد هنا هو أن لا نهتم بدرجة كبيرة بحقوقنا الشخصية بل نقبل البذل والتضحية والعطاء بحب، والتسامح مع حتى من يوجه لنا إهانة وإن أخذ أحدٌ منك شيء فاتركه واترك غيره لتستريح من مشاكل القضاء أي اشتر راحتك وسلامك = اترك الرداء أيضًا فتربح وقتك وفكرك وربما تربح من يخاصمك بحبك له.والرداء عادة أغلى ثمنًا. عمومًا لن يستطيع هذا إلا من حسب مع بولس أن كل شيء في العالم نفاية (في 8:3).
تعاليم
السيد المسيح في هذه الآيات ليس هدفها التطبيق الحرفي مثلما فهمنا عدم لزوم قطع اليد اليمنى... لكن الرب يقصد أن الأهم لنا أن نحتفظ بسلام القلب بقدر إمكاننا، "فثمر البر يزرع في السلام" (يع 3: 18) أما الذي يتصارع على كل شيء فهو يحيا فاقدا سلامه فيدفع ثمنا غاليا هو فقدان سلامه، وبالتالي يفقد ثمار البر أي عمل الروح القدس فيه ، فالروح يعمل في الهدوء القلبي كما سمع إيليا صوت الله في الهدوء.نفهم مما سبق أن من يضبط نفسه بتغصب (مت11: 12) متنازلا عن كرامته وحقوقه بقدر إمكانه ليحتفظ بسلامه القلبي = (جهاد)، مثل هذا الإنسان تنمو فيه ثمار الروح. ومن ثمار الروح السلام. وهنا يجد الإنسان أنه لا داعي ليغصب نفسه، بل صار السلام طبيعة جديدة فيه أعطاها الله له (بالنعمة) .
«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.
الله محبة، وفي العهد الجديد عهد النعمة يسكب الله روح المحبة في قلوبنا، ومن ثماره المحبة (رو 5:5 + غل 22:5). وكمال الإنسان المسيحي أن يمتلئ محبة لله أولًا ولكل الناس حتى لمن هم يعادونه، في العهد الجديد يتصور المسيح فينا (غل 19:4) فلا نستطيع سوى أن نحب الجميع
تحب قريبك وتبغض عدوك = الناموس لم يأمرهم أن يبغضوا أعداءهم، ولكن تحب قريبك هذه وصية الناموس، أماّ تبغض عدوك فهي تعليم الكتبة. فوصية الناموس الأولى والعظمى هي المحبة. فالقريب في نظرهم هو اليهودي. أما تفسير المسيح فنرى فيه أن السامري هو قريبي. ونلمس في الناموس بعض الوصايا التي تشير لمحبة العدو (خر 23: 4، 5+ تث7:23-8) وقد نجد بعض الآيات التي قد تفهم على أنها كراهية للأعداء مثل (تث 6:23) وغيرها، ولكن حتى نفهم هذه الآيات يجب أن نعلم أن الشعب اليهودي في هذه المرحلة ما كان يميز بين الخطية والخاطئ. والله لم يطلب منهم أن يكرهوا أحد بل أن يتجنبوا التعامل مع الوثنيين ليكرهوا الخطية التي يعملونها فلا يعملونها هم أيضاً. لا توجد وصية في الكتاب المقدس تطلب أن نكره أحداً، لم تأتي وصية في الكتاب المقدس لا في العهد القديم أو العهد الجديد تدعو لكراهية إنسان بل الوصايا التي تدعو للكراهية فهي تطلب كراهية الخطية وليس كراهية إنسان. الله كان يطلب منهم أن يتحاشوا المعاملات مع الوثنيين حتى لا يتعلموا منهم نجاساتهم. أما تعليم الكراهية فكان تعليم الربيين أي المعلمين اليهود. ولكن أيضاً نجد في (تث7:23) أن الله يقول لهم آيات تدعو للمحبة مثل "لاَ تَكْرَهْ أَدُومِيًّا.. لاَ تَكْرَهْ مِصْرِيًّا" (ورجاء مراجعة التفسير في مكانه).أحبوا أعداءكم
= السيد يعطي أمرًا بأن نحب أعدائنا. هذه ليست في قدرة الإنسان العادي، بل المحبة هي هبة من الله يعطيها الله لنا بالنعمة. فكيف ننفذها؟في عهد النعمة، يعطينا الروح القدس هذه الإمكانية، وهي ليست بإمكانيات بشرية بل هي عطية إلهية. ولكن النعمة لا تُعطَى إلاّ لِمَن يجاهد في سبيلها، وهذا تعليم أباء الكنيسة. والجهاد هو عمل فيه تغصب، وإن ألزمنا أنفسنا وجاهدنا تنسكب النعمة فينا بعمل الروح القدس. ومن يعمل فيه الروح القدس يجدد طبيعته فيخلص (غل6: 15) لذلك فمن ليست له محبة لكل إنسان حتى أعداءه فهو ميت روحيًا (1يو3: 14) لسبب بسيط هو أن هذا دليل على أن الروح القدس لم يُغيِّر طبيعته ويجدده بعد. وأول ثمار الروح هي المحبة (غل5: 22). ولذلك فالسيد حدد شروط الجهاد حتى نحصل على هذه النعمة باركوا... أحسنوا... صلوا لأجل... وكلها تمارس بالتغصب فهذا أقصى ما نستطيعه، أما عطية المحبة فهي النعمة التي يعطيها الله مجانًا لمن يستحق. وهذا كما ملأ الخدام أجران الماء فهذا أقصى ما يمكن للبشر عمله (جهاد)، وحينئذٍ حول الرب الماء إلى خمر (نعمة).
باركوا لاعنيكم = تكلموا عنهم في غيابهم وأمامهم بكل ما هو صالح (بالغصب طبعًا).
أحسنوا إلى مبغضيكم = قدموا لهم ما أمكن خدمات وأعمال محبة بالتغصب، فهناك من يتصور أننا لا نقدم خدمات إلاّ لمن يستحق هذا، أي لمن يقدم لنا خدمات.
صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم = اطلبوا بركة الله لهم ولذويهم في صلواتكم وربما يتساءل البعض.. هل أصلي وأقدم خدمة وأبارك شخص أساء لي، وقلبي مملوء غضبًا عليه؟ نقول نعم فهذا هو الجهاد، فالجهاد هو أن تغصب نفسك على شيء حسن صالح، لا رغبة لك أن تعمله، وهذا تعليم السيد له المجد (مت11: 12). وفي مقابل جهادك تنسكب النعمة فيك. فتجد نفسك قادرًا على محبة عدوك، بل ستجد نفسك غير قادر أن تكرهه. وهذه الآية تثبت صحة وجهة نظر الأرثوذكسية في أنه لا نعمة بدون جهاد. فالمحبة هي عطية من الله أي نعمة، وهذه لا تنسكب فينا بدون الجهاد الذي ذكره السيد المسيح.
لكي تكونوا أبناء أبيكم= حتى تستطيعوا أن تستمروا وتظهروا هكذا أمام الناس والملائكة، وتكونوا مشابهين في المحبة لله أبيكم. هذا هو الكمال المسيحي. فالله يعطي من بركاته للجميع حتى الأشرار = يشرق شمسه على الأشرار. والسيد يعطينا أن يكون المثل الذي نقيس عليه هو كمال الآب السماوي، ومن يفعل يفرح الله.
أحببتم الذين يحبونكم = فهذه يصنعها حتى الأشرار، هذه تنتمي للإنسان العتيق، إنسان العهد القديم، الذي هو بدون نعمة.
العشارون= كانوا يجمعون الجزية، ولكنهم استغلوا وظيفتهم في ابتزاز الناس لذلك صار اسم عشار يرادف أحط الأشياء وأحقرها.
← راجع مقدمة رسالة يوحنا الأولى لشرح أهمية بل خطورة هذه الوصية.
«لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا. وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا. وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ.
هنا نجد نفس تعاليم السيد التي قالها في عظة الجبل، يكررها القديس لوقا ونفهم منها أن نعمل الخير للآخرين دون انتظار مقابل ونرد العداوة بحب وهذا لا يستطيعه سوى من صار في المسيح خليقة
جديدة (2كو5: 17). وقد يقول قائل وهل أنا المسيح لأفعل ذلك؟ حقًا يجب أن نعلم أن المسيح يسكن فينا ويعطينا حياته "لي الحياة هي المسيح" (في 21:1) + مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في غل 20:2. إذًا نقدر بالمسيح الذي فينا.من ضربك على خدك = نكرر، ليس المفهوم أن لا يدافع المسيحي عن نفسه، بل أن يحتمل بقدر إمكانه وبمحبة الآخر لكي يربحه للمسيح، المطلوب أن يكون الرد بوداعة ولطف وحكمة، فكل موقف له رد، ولكن المفهوم العام هو أن نحتمل ضعفات الآخرين لأجل المسيح، ونحاول جذبهم إلى السلام ونحيا نحن في سلام. والمسيح يضع هنا حكمة ذهبية كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا = أي لا نرد على إخوتنا بمثل ما يفعلون بنا من شر، بل بحسب ما نحب أن يفعلوا هم بنا.
نحن الآن لا نحيا بحسب الإنسان العتيق، فمثل هذا يحب من يحبه، ويعطي من يرجو منه خيرًا أما إنسان العهد الجديد المملوء نعمة فهو قادر أن يحب حتى من يكرهونه ويعادونه.
لم يذكر القديس لوقا موضوع من سخرك ميلًا، فهو مكتوب لليونان والرومان فهذا الموضوع لا يخصهم، فلن يسخرهم أحد.
← تفاسير أصحاحات إنجيل متى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير متى 6 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير متى 4 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/99gvrc3