* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31
← سبط دان يبحث عن موطن - سرقة تمثال ميخا واختطاف الكاهن - ميخا يتعقب الدانيين - الاستيلاء علي لايش
[1- وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل. وفي تلك الأيام كان سبط الدانيين يطلب له ملكا للسكنى لأنه إلى ذلك اليوم لم يقع له نصيب في وسط أسباط إسرائيل. 2- فأرسل بنو دان من عشيرتهم خمسة رجال منهم رجالًا بني بأس من صرعة ومن أشتأول لتجسس الأرض وفحصها وقالوا لهم اذهبوا افحصوا الأرض. فجاءوا إلى جبل أفرايم إلى بيت ميخا وباتوا هناك.3- وبينما هم عند بيت ميخا عرفوا صوت الغلام اللاوي فمالوا إلى هناك وقالوا له من جاء بك إلى هنا وماذا أنت عامل في هذا المكان ومالك هنا. 4- فقال لهم كذا وكذا عمل لي ميخا وقد استأجرني فصرت له كاهنًا.5- فقالوا له اسأل إذن من الله لنعلم هل ينجح طريقنا الذي نحن سائرون فيه. 6- فقال لهم الكاهن اذهبوا بسلام أمام الرب طريقكم الذي تسيرون فيه. (قض 1:18-6). ]
لقد سبق أو أوضحنا أن ما ورد في هذا الإصحاح تم في حياة يشوع وليس بعد موته كما تصور البعض. وكما قلنا من قبل فإنه وقعت في نصيب سبط دان حوالي ثمانية عشرة مدينة، ولكن واضح مما ورد هنا أو مما ورد في سيرة شمشون الذي ختم قضاة سفر القضاة أن بني دان تحوصلوا في مدينتي صرعة وأشتأول، رغم تعدادهم الضخم، نظرًا لوجود الأموريين والفلسطينيين من حولهم وهم من أقوى الأعداء، ولكن لن يكونوا على أي حال في شدة وقوة بني عناق الذين طردهم كالب وبني يهوذا. ومع ذلك تقوقع بني دان حول ذاتهم يرثون لأنفسهم دون أن يستنهضوا همتهم ويسعوا ببركة الله للانقضاض على الأعداء، إذ ماذا يمكن أن تكون قوة الأعداء أمام من الله معهم؟
وفي مثل هذه الظروف التي شاخ فيها يشوع ولم يعد له قدرة على الدخول والخروج، ضعفت سيطرته وكلمته على الأسباط ولم يعد أحد يسمع لكلامه وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك على سبيل المثال حينما طلب منهم أن ينزعوا الآلهة الغريبة (يش23:24)، لم يسمع له أحد ولم يتحرك لأحد ساكن ليأتي بتلك الآلهة ويكسرها أو حتى يطمرها..
ومن ناحية أخرى لم يتشكل مجلسًا مثلًا من رؤساء الأسباط الاثنى عشر للاجتماع من حين لآخر أو في أوقات معينة للبت فيما يستجد من شئون الأمة والنظر في الأحوال الاجتماعية والعسكرية لبني إسرائيل، بل وصل التسيب إلى مستوى الأفراد حتى إننا رأينا منذ قليل ما فعله ميخا دون وجود رقيب أو حسيب يقول له ماذا تفعل.. وكل هذا لعدم وجود سلطة لها قوة الردع أو المعاقبة، مع انحسار روح التقوى والانهماك في الدنيا والدنيويات بسبب الخير الوفير الذي هبط عليهم بعد ترحال كالبدو لعشرات السنوات.
ولم نسمع أو نرى تصرف على مستوى جماعي لجميع الأسباط سوى في حادثة أهل جبعة ومن المؤكد أنه لو لم يقطع اللاوي جسد سريته إلى أثنى عشر قطعة ويرسلها إلى كل الأسباط ما كان أحد سيتحرك من مكانه، وفي المقابل سنجد في وقت لاحق شكوى دبورة النبية من تقاعس الأسباط المجاورة في مد يد المعونة، بينما عاني كل من جدعون ويفتاح مما هو أسوأ بمقاومة بني أفرايم لهما وعدم وجود من يردعهم أو يجعلهم يتعقلون من رؤساء الأسباط الأخرى مجاورة كانت أو بعيدة!
وقد أوجز كاتب السفر هنا كل هذا بعبارة "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل". ومما يزيد الطين بلّة أن التفرد صار السمة العامة على مستوى الأشخاص يفعل كل واحد ما يحلو له، بل حتى وجود عدو مشترك للسبط كله، عدو قابع ومستولي على كافة أراضي السبط التي تحددت له بالقرعة، تلك القرعة التي بمقتضاها الله مكلف -إن جاز التعبير- بتمكينهم من الاستيلاء على تلك الأرض مهما كانت قوة العدو أو جبروته إذ لا يستحيل على الله شيء، بل حتى وجود مثل هذا العدو المشترك لم يوحدهم على كلمة سواء، لم يجعلهم يجتمعون ليتدارسوا الموقف ليروا كيف يتصرفوا، وليقرروا تجريد حملة من شباب السبط لطرد الأعداء المحيطين بهم..
ومن هنا جاءت المبادرة الفردية لهؤلاء الستمائة الذين لم يطيقوا صبرًا على سوء الأوضاع الراهنة، ولكن بدلًا من التصرف بطريقة صحيحة والاندفاع لملاقاة الأعداء المحيطين متكلين على بركة الله ومعونته لهم إذ بهم يتطرفون بدافع من الضعف البشري ليبحثوا لأنفسهم عن أرض أكثر أمنًا وأقل خطرًا وتخلو من وجود أعداء مقاومين، مع أن الأرض التي فيها مقاومة كثيرة ونشعر فيها بمعية الله ورضاه عنا أفضل جدًا من تلك التي ننعم فيها براحة جسدية وبخيرات العالم.
أرسلت تلك الجماعة خمسة ليتجسسوا أي أرض تقع خارج نطاق نصيب بقية الأسباط، وأثناء مرورهم أمسى الليل فمالوا إلى بيت ميخا ليبيتوا الليل هناك، وواضح من تصرف ذلك الرجل سواء مع اللاوي سابقًا أو مع هؤلاء الخمسة الآن أنه كان رجل كريم ومضياف يستقبل الغرباء العابرين ليلًا ليبيتوا لديه في موضع مخصص لهم.
ظن البعض أن هؤلاء الرجال الخمسة عرفوا صوت الغلام بمعنى أنهم عرفوه أنه غريب لا يتكلم بنفس لهجة بني أفرايم كما رأينا في عدم قدرتهم على نطق حرف الشين أيام يفتاح، ولكن فات على هؤلاء أن التوقيت الزمني ليس في صالح تكون لهجة محلية خاصة، إذ لم يكن لهم بعد فترة طويلة في الأرض حيث إن يشوع كان لا يزال حيًا كما أثبتنا من قبل. وغير هذا لو كانوا عرفوا أنه ليس أفرايمي،كان ينبغي أن يكون أول سؤال لهم: من أنت؟ ولكننا هنا نرى أنهم تجاوزا هذا السؤال وقالوا له: "من جاء بك إلى هنا وماذا أنت عامل في هذا المكان وما لك هنا؟" الأمر الذي يعني معرفتهم به من قبل، وهذا ليس بمستبعد أو مستغرب لو وضعنا في اعتبارنا أنه أصلًا كان متغربًا في بيت لحم، ومن يدري فقد يكون قد عبر في أراضي سبط دان بحثًا عن عمل أو كسرة خبز يأكلها ولم يجد هناك من يضمه لبيته كما فعل ميخا معه هنا..
وهناك نقطة جديرة بأن نأخذ بالنا منها، فهم عرفوا أنه لاوي وليس كاهنًا ومع هذا تعاملوا معه بكونه كاهن الرب، وقد سبق أن أشرنا أن ميخا على ما يبدو جعله كاهن له عن جهل لاختلاط الأمور لديه عن الفروق الدقيقة بين أبناء هارون وعامة اللاويين.. ومن هنا ندرك مدى انتشار الجهل بين قطاعات كبيرة من الشعب بعد فترة وجيزة من الاستيلاء على أراضي كنعان.
والنقطة الأخرى هي التشويش الناتج عن اختلاطهم مع الكنعانيين سكان الأرض، فهم لم يقصدوا أن يستبدلوا الله ويعبدوا آلهتهم، بل أرادوا أن يعبدوه كما الأمم من حولهم في شيء محسوس ومرئي، ولهذا لم يستنكفوا من أن يقولوا لذلك اللاوي المغتصب الكهنوت جهلًا: "اسأل إذن من الله لنعلم هل ينجح طريقنا الذي نحن سائرون فيه؟" (ع5).
ولقد صدّق ذلك اللاوي أنه كاهن، والكتاب من باب الأمر الواقع وليس من باب التصديق على تلك الرسامة المزيفة نعته هنا بأنه كاهن في قوله "فقال لهم الكاهن.. " (ع6). وإذ تقلد منصب الكهنوت، استعار لغته وقال بما سمعه من الكهنة في صغره أو مما سمعه من والده من عبارات ينطق بها الكاهن، فقال لهم: "اذهبوا بسلام. أمام الرب طريقكم الذي تسيرون فيه" (تابع ع6)، وما قاله هنا ليس على سبيل النبوة التي صدقت رغم كذب كهنوته كما يقول البعض، بل هي عبارات ينطق بها الكاهن في ظروف مشابهة ولا تخلو من دعاء أو تمني بتحقيق ما يصبون إليه من وراء هذه الرحلة طالبًا من الله أن يوفقهم فيها وأن يجعلهم تحت عنايته وتوجيهه.
[7- فذهب الخمسة الرجال وجاءوا إلى لايش ورأوا الشعب الذين فيها ساكنين بطمأنينة كعادة الصيدونيين مستريحين مطمئنين وليس في الأرض مؤذ بأمر وارث رياسة وهم بعيدون عن الصيدونيين وليس لهم أمر مع إنسان. 8- وجاءوا إلى إخوتهم إلى صرعة وأشتأول فقال لهم إخوتهم ما أنتم. 9- فقالوا قوموا نصعد إليهم لأننا رأينا الأرض وهوذا هي جيدة جدًا وأنتم ساكتون. لا تتكاسلوا عن الذهاب لتدخلوا وتملكوا الأرض. 10- عند مجيئكم تأتون إلى شعب مطمئن والأرض واسعة الطرفين. إن الله قد دفعها ليدكم مكان ليس فيه عوز لشيء مما في الأرض. 11- فارتحل من هناك من عشيرة الدانيين من صرعة ومن أشتأول ست مئة رجل متسلحين بعدة الحرب. 12- وصعدوا وحلّوا في قرية يعاريم في يهوذا لذلك دعوا ذلك المكان محلة دان إلى هذا اليوم، هوذا هي وراء قرية يعاريم. 13- وعبروا من هناك إلى جبل أفرايم وجاءوا إلى بيت ميخا. (قض 7:18-13). ]
إذ قد تزود هؤلاء الرجال ببركة الكاهن الذي صادفوه في طريقهم تفاءلوا خيرًا وكانوا يرجون بكل قلوبهم أن يوفقهم الله في رحلتهم هذه فيجدون موضعًا ليس فيه مضايقين كالذي يقيم فيه أهلهم الآن. وكم كانت فرحتهم إذ وجدوا موضعًا فيه كل الإيجابيات التي يحلمون بها ويخلو من السلبيات التي يودون تحاشيها. وعبارة "جاءوا إلى لايش" لا تعني أنهم قصدوها لمعرفتهم بها من قبل، بل تعني أنها كانت مجرد محطة في طريقهم أثناء عملية البحث عن مكان ملائم يستوطنوه.
وقد جذب انتباههم أن الشعب المقيم هناك، شعب منعزل وفي حاله، ليس في حاجة لأحد ولا أحد في حاجة إليه، والأرض مليئة بالخيرات التي تكفي الجميع ويزيد.. وحتى يشعروا بالراحة وعدم جرهم لأحلاف ودخول في حروب هم في غنى عنها، رفضوا أن يكونوا تابعين لملك صيدون أو أن يقيموا من بينهم من يملك عليهم، حتى لا يضطرهم مثل هذا الملك إلى دفع ضرائب أو دخول حروب لا يريدونها. ومن يدري قد تكون قرابة جمعت بهم جميعًا أو أقاموا مجلس من شيوخ المكان لحل أي مشاكل تطرأ بينهم لسبب من الأسباب.
ولكي يدرس هؤلاء الدانيين الخمسة الأحوال على الطبيعة، دخلوا المدينة كعابري سبيل كما غيرهم ممن يجتازون بالقرب من الموضع، فعاينوا عن قرب كل شيء وعرفوا منهم انقطاعهم عن كل من حولهم لأنهم مكتفون بخيرات الأرض الكثيرة والواسعة ولا يريدون أن يورطوا أنفسهم في مشاكل مع أحد من حولهم، ولذا ما هم عادوا أحد ولا أحد عاداهم!
وإذ قد وجد هؤلاء الخمسة أن هذا الموضع تنطبق عليه الشروط التي يتمنونها، لم يواصلوا الترحال والبحث، بل قرروا العودة للأهل لإخبارهم بالنتيجة المذهلة التي توصلوا إليها والفريسة السهلة التي ما كانوا يحلمون بمثلها.. وعند الوصول إلى من كلفوهم بهذه المهمة قالوا للخمسة: ما أنتم؟ (ع8)، أي ماذا لديكم من أخبار وكيف كان حال رحلتكم الاستكشافية؟. فأعطوهم تقرير مفصل ومشجع عن لايش هذه بحيث استنهضوا فيهم كل همّة: الأرض جيدة جدًا.. لا تتكاسلوا عن الذهاب.. الله قد دفعها ليدكم. مكان ليس فيه عوز لشيء مما في الأرض.
مكان ليس فيه حصون منيعة أو أسوار عالية عسير اقتحامها، بل عند مجيئكم ووصولكم إلى ذلك الموضع ستجدون شعب يحيا في طمأنينة ولا يتوقع حروب من أحد ولذلك لم يجري أي استعدادات البتة للدفاع عن الموضع، بل عاشوا في أرض واسعة الطرفين، فيها يبني كل شخص ما يحلو له من بيوت ويستصلح ما يريد له من أراضي زراعية خصبة والماء متوفر فيها بكثرة، لذلك لم يتقيدوا أو يحصروا أنفسهم داخل أسوار! ومن المؤكد أن أرضًا بهذه المواصفات التي ما كانوا يحلمون بها جعلتهم يصدقون دعوة الكاهن اللاوي، فاعتبروا أن استيلائهم على هذه الأرض هي في حكم الأمر المنتهي ولذلك قالوا لإخوتهم بيقين "إن الله قد دفعها ليدكم" (ع10).
استجاب لهذه الدعوة في الحال عدد ستمائة من الرجال متسلحين بعدة الحرب، وعسكروا في موضع وراء قرية يعاريم إلى الغرب منها، ويبدو أن هذا العدد لم يتم تجميعه في الحال، إذ عسكروا هناك لفترة من الزمن كانت كافية لأن يُطلق على ذلك الموضع إلى زمن كتابة السفر في عهد صموئيل محلة دان. وربما يكونوا قد انتظروا هناك لحين مجيء أطفالهم ونسائهم ومواشيهم وكل مقتنيات بيوتهم إليهم (ع21). وأخيرًا بعد أن عبروا جبل أفرايم حطوا الرحال على مشارف المنازل التي لبيت ميخا (ع13)، إذ من الواضح أنه كان هناك بيت للآلهة وبيت للكاهن وربما بيوت لعبيده العاملين لديه، وهذا ما يؤكده (ع14) إذ قيل "أتعلمون أن في هذه البيوت.. "
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[14- فأجاب الخمسة الرجال الذين ذهبوا لتجسس أرض لايش وقالوا لإخوتهم: أتعلمون أن في هذه البيوت أفودًا وترافيم وتمثالًا منحوتًا وتمثالًا مسبوكًا فالآن اعلموا ما تفعلون. 15- فمالوا إلى هناك وجاءوا إلى بيت الغلام اللاوي بيت ميخا وسلموا عليه. 16- والست مئة الرجل المتسلحون بعدتهم للحرب واقفون عند مدخل الباب هؤلاء من بني دان. 17- فصعد الخمسة الرجال الذين ذهبوا لتجسس الأرض ودخلوا إلى هناك وأخذوا التمثال المنحوت والأفود والترافيم والتمثال المسبوك والكاهن واقف عند مدخل الباب مع الست مئة الرجل المتسلحين بعدة الحرب. 18- وهؤلاء دخلوا بيت ميخا وأخذوا التمثال المنحوت والأفود والترافيم والتمثال المسبوك. فقال لهم الكاهن ماذا تفعلون؟. 19- فقالوا له اخرس، ضع يدك على فمك واذهب معنا وكن لنا أبًا وكاهنًا. أهو خير لك أن تكون كاهنًا لبيت رجل واحد أم أن تكون كاهنًا لسبط ولعشيرة في إسرائيل. 20- فطاب قلب الكاهن وأخذ الأفود والترافيم والتمثال المنحوت ودخل في وسط الشعب. 21- ثم انصرفوا وذهبوا ووضعوا الأطفال والماشية والثقل قدامهم. (قض 14:18-21). ]
ليس من المستبعد أن نجاح رحلة الاستكشاف وسهولة الحصول على تلك الأرض قد علّت جدًا من أسهم هذا اللاوي الكاهن في نظرهم، فاعتبروا أنه من الضروري جدًا أن يكون هذا اللاوي بما لدى ميخا من وسائل العبادة أن يكونوا معهم حتى يسهّل الله مهمتهم وينجح سبيلهم، فتشاور الخمسة فيما بينهم وأجلّوا الكلام عن هذا الموضوع لحين وصولهم إلى مشارف بيت ميخا، وقد كان، ففاتحوهم في الأمر وقالوا لهم: "الآن اعلموا ما تفعلون" (ع14).
لقد كانت رغبتهم في حضور الله معهم أمر محمود جدًا، لكنهم أخطأوا جدًا عندما ظنوا أن هذا الكاهن المزيف وتلك الأوثان لا يمكن أن تمثّله بأي حال من الأحوال، الأمر الذي يظهر كم كان الجهل متفشي بين الأمة حتى أن عدد ضخم من أحد الأسباط ينجرف بسهولة لهذا الوضع المؤسف. لقد كانت شيلوه قريبة من هذا الموضع، فلماذا لم يمضوا إلى هناك للسؤال أو الاستشارة؟ كيف لم يعرفوا بتحريم الله للتماثيل أو بقصر الكهنوت على أبناء هارون؟
حقًا هنا يصدق هلك شعبي من عدم المعرفة! إنهم ظنوا بمحدودية الله وكانوا يريدون أن يوجد رائحة منه وشيء مرئي يجسد حضوره وسطهم، فاعتبروا أنه ليس حسنًا أن يكون لميخا كل هذا ويعدمه سبط كامل في إسرائيل؟!
من المؤكد أنهم طالما هم رجال حرب، فهذا يعني أنهم كانوا من الشباب أو رجال لم يصلوا إلى سن الشيخوخة، ولهذا ليس من شيوخ يوجهونهم لما فيه صواب ممن عاينوا كل الأعمال العظيمة التي عملها الله لإسرائيل (يش31:24).
وكانت النتيجة أنهم جميعًا "مالوا إلى هناك" يقودهم الخمسة الذين جاءوا إلى هنا من قبل ويعرفون الموضع جيدًا وجاءوا إلى بيت الغلام اللاوي، أي إلى البيت الذي يقيم فيه هذا اللاوي والذي من المرجح أنه يقيم في نفس بيت الآلهة، وسلّموا على اللاوي المقيم في بيت ميخا، إذ بيت الآلهة هو مجرد واحد من البيوت التابعة له. ومن الواضح أن بيت الآلهة كان أعلى من البيوت حوله، ولذلك قيل هنا أن الخمسة رجال صعدوا ودخلوا إلى هناك (ع17)، وهم صعدوا كدليل ومعهم آخرون من بعض الرجال الستمائة، إذ ورد هنا القول مرتين عن أخذ التمثال والأفود والترافيم.. في (ع17، 18)، الأمر الذي يعني أن الخمسة أخذوها أولًا بحكم كونهم عارفين الموضع جيدًا والآخرون استلموها منهم، بينما بقية الستمائة كانت تشغل الكاهن حتى لا يعوقهم أو يقاومهم وحتى يمنعوا دخول أحد من الموضع وإبداء أية مقاومة.. حتى فوجئ الكاهن بكل عدة عبادته منهوبة أمام عينيه فقال لهم الكاهن: ماذا تفعلون؟ (ع18).
فزجروه ليس على سبيل التعنيف، بل على سبيل أن يسكت ولا يعوقهم ولئلا يحزن أو يبدي أية معارضة أو مقاومة قالوا له في الحال: كن لنا أبًا وكاهنًا. أهو خير لك أن تكون كاهنًا لبيت واحد يعطيك عشرة شواقل مع طعامك وكسوتك أم أن تكون كاهنًا لسبط(29) وعشيرة في إسرائيل، وتنال خيرات أكثر ومال أوفر مما تأخذه هنا؟ (ع19). وبالطبع مثل هذا العرض هو عرض مغري وما كان يخطر بباله قط، لذلك قبله في الحال وبلا تردد "فطاب قلب الكاهن.. "
وكبرهان عملي على ذلك أخذ بنفسه أدوات العبادة ودخل في وسطهم حتى يحمونه من ملاحقة أو توبيخ ميخا له على خيانته له (ع20). وهنا انصرف الرجال بعد أن حققوا مهمتهم ونالوا في وسطهم كنز عظيم ووضعوا الأطفال والماشية وكل مقتنياتهم قدامهم (ع21)، حتى يحمونها من ميخا أو كل من يسعى لمهاجمتهم من الخلف. لقد كانوا من قبل متأكدين من نجاح حملتهم العسكرية ولذلك أخذوا من البداية أطفالهم وكل مقتنياتهم، والآن باتوا أكثر تأكدًا جدًا بعد أن صار الكاهن وكل متعلقات العبادة في حوزتهم!
[22- ولما ابتعدوا عن بيت ميخا اجتمع الرجال الذين في البيوت التي عند بيت ميخا وأدركوا بني دان. 23- وصاحوا إلى بني دان فالتفتوا وقالوا لميخا ما لك صرخت. 24- فقال آلهتي التي عملت قد أخذتموها مع الكاهن وذهبتم فماذا لي بعد وما هذا تقولون لي ما لك. 25- فقال له بنو دان لا تسمع صوتك بيننا لئلا يقع بكم رجال أنفسهم مرة فتنزع نفسك وأنفس بيتك. 26- وسار بنو دان في طريقهم ولما رأى ميخا أنهم أشد منه انصرف ورجع إلى بيته.(قض 22:18-26). ]
يبدو أن بيت الآلهة حيث كان يقيم الكاهن كان على أطراف الضيعة التي لميخا، لذلك لم يتم اكتشاف سرقتها هي وكاهنه إلا بعد رحيلهم، فقام ميخا باستدعاء رجاله أو ربما جيرانه(30) الذين يشاركونه في عبادتها لعل وعسى يستطيع استرداد كل ما فقده، وفعلًا أدرك الرجال الذين كانوا في مؤخرة القافلة يحمونها ويسيرون على مهل بسبب الأطفال والماشية التي معهم. ولأنهم رجال حرب ومقبلين على حرب فلا يعرفون إلا لغة الحرب والقتال، ولهذا نجدهم بدلًا من أن يلتمسوا له العذر يقولون له: مالك صرخت؟ (ع23). وكان ردهم غير المتوقع وغير المقنع جعله يقول لهم: آلهتي التي عملت قد أخذتموها مع الكاهن وذهبتم، فهل بعد كل هذا تقولون لي: ما لك؟ (ع24).
ما هذا الذي تقوله يا ميخا: هل الآلهة التي عجزت عن حماية نفسها من السرقة يمكن أن تكون آلهة؟ وهل التي تُصنع باليد تستحق أن تُدعى آلهة؟ ليس أنت وحدك المسكين، بل الذين استحلّوا سرقة ما للغير هم أيضًا مساكين ولو كانوا منصفين لكانوا على الأقل ردوا لك ثمنها ولو من الماشية التي معهم!!! ولكن منذ متى منطق القوة يعرف العدل أو التعقل في النقاش أو التعامل، أو حتى جبر الخاطر بكلمة طيبة؟ وعمومًا من هو في وضعهم لا يعرف شيء من هذا القبيل، ولذلك عزموا على تبرير سرقتهم لآلهته بتهديده بالقتل إن لم يتنازل عن دعواه ويكف عن مطالبته لهم بما سلبوه منه: "لا تسمّع صوتك بيننا لئلا يقع بكم رجال أنفسهم مرّة فتنتزع نفسك وأنفس بيتك" (ع25).
بعد أن وزن ميخا الأمور وجد أنه من الحكمة الانسحاب وعدم المخاطرة بدخول معركة حتمًا سيخسرها لأن ميزان القوة ليس في صالحه، وغير هذا إن كانت هذه الآلهة لم تحمي نفسها من السرقة، فهل يمكنها أن تحميه وتسنده في حربه لاستردادها؟
إن بنو دان استكثروا أن يتكلموا معه بأي كلام آخر ولم يعملوا له أي اعتبار وتركوه، وهو بدوره لما رأى أنهم أشد منه انصرف ورجع إلى بيته (ع26).
[27- وأما هم فأخذوا ما صنع ميخا، والكاهن الذي كان له وجاءوا إلى لايش، إلى شعب مستريح مطمئن وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار. 28- ولم يكن من ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهي في الوادي الذي لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها. 29- ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذي ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولًا لايش. (قض 27:18-29). ]
استمر الستمائة رجل في مسيرهم ولأنه لم تصادفهم أية عقبات ربما استنتجوا بهذا أنهم لم يرتكبوا خطأ في سرقتهم لميخا وأخذهم لكاهنه الخاص به. وعلى نفس النسق نجد كثير من الناس يبررون أنفسهم في إثمهم وجرمهم بكونهم ناجحين في حياتهم، أو بأسلوب آخر يعتبرون نجاحهم في الحياة ولو بسبل ملتوية دليل على رضا الله عنهم.
لم يكن لأهل لايش عوز لشيء من أحد ولم يكن هناك خصومة لهم مع أحد يبرر عملهم تحالفات أو معاهدات أو حتى حصون وأسوار لمدينتهم، لذلك كانوا فريسة سهلة لحفنة قليلة من الرجال لا يتعدى عددهم الستمائة. ومن المؤكد أن رجال سبط دان أحاطوا بالمدينة خصوصًا من الجهة التي من الممكن أن يفر منها أحد ليبلغ أهل صيدون موطنهم الأصلي، إذ كانت هي في وادي بيت رحوب ومنعزلين عمن حولهم. بعد هذا ضربوا بحد السيف كل أهل المدينة ولم يبقوا على أحد فيها البتة وأحرقوا المدينة بالنار بحيث تطمس معالمها القديمة (ع27)، ثم أعادوا بنائها من جديد وصاروا وكأنهم مؤسسوها منذ زمن بعيد، ودعوا اسمها على اسم دان ابن يعقوب مؤسس السبط والذي إليه ينتمون جميعًا (ع29).
[30- وأقام بنو دان لأنفسهم التمثال المنحوت وكان يهوناثان ابن جرشوم بن منسى هو و بنوه كهنة لسبط الدانيين إلى يوم سبي الأرض. 31- ووضعوا لأنفسهم تمثال ميخا المنحوت الذي عمله كل الأيام التي كان فيها بيت الله في شيلوه. (قض 30:18، 31). ]
لقد سبق أن تعرضنا لما ورد في ع3 بخصوص عبارة "إلى يوم سبي الأرض" في المقدمة (ص8، 9) وهنا سنضيف بعض نقاط تعزز ما سبق الوصول إليه:
1- إن عبارة "إلى يوم سبي الأرض" لها ارتباط وثيق بعبارة "كل الأيام التي كان فيها بيت الله في شيلوه"، الأمر الذي يعزز ما وصلنا إليه من كون السبي مقصود به سبي تابوت العهد وخراب شيلوه وقتل من فيها من الكهنة والعذارى والشيوخ بحسب ما ورد في (مزمور 78)..
2- لقد عرف جميع إسرائيل من دان في الشمال إلى بئر سبع في الجنوب أن صموئيل قد أُؤتمن نبيًا للرب (1صم20:3)، وعُرف صموئيل بجولاته التفقدية وسط الشعب في كافة الربوع، وما أظن أنه كان سيسكت على وجود مثل هذه العبادات الوثنية والكهنوت الغريب عن بيت هارون، ولو نرجع إلى (1صم2:7-5)، سنجد أن بني إسرائيل ناحوا وتابوا ونزعوا الآلهة الغريبة والبعليم والعشتاروت، واجتمعوا جميعًا في المصفاة بناء على طلبه، ومن غير المعقول أن يمتنع بني دان في الشمال أو يأتوا إلى ذلك الاجتماع دون نزع العبادات الوثنية لديهم.
3- ما جاء هنا كان مقترن بعد وجود ملك في إسرائيل، ولهذا من المستحيل أنه في عهد مملكة داود(31) وسليمان والتي كانت مملكة مزدهرة روحيًا وماديًا كان من الممكن أن يُسمح بوجود عبادة أوثان وكهنوت غير هاورني ولا يتم ردعه.
4- إن يربعام عندما انفصل عن مملكة يهوذا عمل عجلين أحدهما في دان في الشمال، ولو كان هناك وجود للتمثال المنحوت والكهنوت الغريب المذكور هنا بعد عهد مملكة داود وسليمان، ما كان هناك احتياج لأن يقيم عجل في دان أو يقيم كهنة من عامة الشعب، إذ سيجد كهنة بأعداد وفيرة من نسل يهوناثان هذا وأقدمية وجودهم تعطيهم شرعية أكثر ونسبة قبول أوفر لدى الشعب، وهم مستعدين لتلبية طلباته وتحقيق أهدافه بلا موانع ولا شروط إذ منهجه لن يخرجهم أبدًا عن المسار الذي هم سائرون فيه منذ أيام أبيهم يهوناثان.
5- علينا أن نضع في اعتبارنا -حتى لو لم يأت لم يشر مزمور 78 إلى سبي شيلوه- أن السفر ليس سجل تاريخي يسرد كل شيء بتسلسل، إذ سنجد في أول عدد من سفر راعوث إشارة إلى مجاعة حدثت أيام حكم القضاة، ومع هذا لم يُشر سفر القضاة إلى هذه المجاعة من قريب أو بعيد.
من حيث كون ما جاء هنا سبق أن أثبتنا أنه حدث في أيام يشوع، وفي تحد لبيت الله القائم في شيلوه ولخدامه، ولو نتطلع إلى الأمام سنجد أن يربعام فيما بعد سيقيم عجلين أحدهما في دان، ومن هذا نستنتج أن سبط دان لم يبق على الولاء لإله إسرائيل، الله الحي سوى بضع عشرات من السنين أيام صموئيل النبي إلى سليمان، وبعدها ضاعت أغلبيته في سبي أشور.. وقد قلنا أن عدم ذكر هذا السبط في سفر الرؤيا قد يرجع إلى هذا السبب، أو بحسب رأي البعض سيخرج منه المسيح الدجال في أواخر الأيام.
حينما بني أبناء السبطين ونصف مذبح للشهادة ثارت الأسباط وكادت أن تقوم حرب، ولكن خبر كالذي ورد هنا من المؤكد أن أخباره وصلت إلى كل موضع ومع هذا لم يفكر أحد في محاربة رجال دان المتواجدين هناك، الأمر الذي يدل على التفسخ الذي حدث في الأسباط آنذاك وعدم وجود الحمية الروحية من كهنة بني هارون واللاويين فيرسلوا بعثة تقصي للحقائق أو عمل توعية للشعب هناك..
أما بالنسبة ليهوناثان ابن جرشوم فيقول لنا عنه أ. نجيب جرجس (ص234) ما يلي:
[يذكر الوحي أن اسم هذا اللاوي هو يهوناثان بن جرشوم بن منسى، وقد قُرئ اسم منسى (موسى) لتقارب شكل الواو من شكل النون إلى حد كبير، ولذلك فقط ظن البعض أن يهوناثان هذا من أحفاد جرشوم بن موسى النبي، واستنكف آخرون أن يكون هذا الفتى من نسل موسى وظن أن اسم جده الأول منسى لا موسى فأوضحوا الاسم بوضع حرف النون والأرجح أن الجد لهذا اللاوي هو منسى لا موسى، وحتى لو نطق اسمه (موسى) هو موسى النبي نفسه فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كان أحد أحفاده على شيء من الجهل الروحي، أن الأرجح أنه حتى لو نطق الاسم موسى فقد يكون رجلًا آخر دُعي موسى خلاف موسى النبي وتصادف أن يكون له ابن ودُعي جرشوم باسم ابن موسى النبي.]
_____
(29) ليس من المستبعد أنه بعد نجاح تلك الحملة العسكرية، قد هاجرت فيما بعد أعداد ليست قليلة من أبناء السبط إلى الشمال للسكنى معهم في لايش التي تسمت باسم أبيهم دان.
(30) الاحتمال الأكثر ترجيح هو أنهم من رجاله لأن عند تهديد بنو دان له قالوا له ننزع نفسك وأنفس بيتك (ع25).
(31) علينا أن نتذكر أيضًا أن شاول بدأ حسنًا وقضى على الجان وما شابه ولو كان هناك وجود لعبادة الأوثان هذه في الشمال، ما كان سيتأخر في القضاء عليها..
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 19 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 17 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-18.html
تقصير الرابط:
tak.la/9wy577p