* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23
[1- وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: «قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمْتُ لآِبَائِكُمْ, وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ. 2- وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ هَذِهِ الأَرْضِ. اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَمَاذَا عَمِلْتُمْ؟. 3- فَقُلْتُ أَيْضًا: لاَ أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ بَلْ يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ, وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكًا». 4- وَكَانَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ بِهَذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الشَّعْبَ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكُوا. 5- فَدَعُوا اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ «بُوكِيمَ». وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ. (قض 1:2-5). ]
إذ يريد الكاتب من البداية أن يضع يده على الأسباب التي أدت إلى التدهور الروحي والأخلاقي وما ترتب عليه من عبودية ومذلة صادفوها معظم فترة عصر القضاة، كلمنا فيما سبق عن التقاعس في التعامل كما أراد الله مع أهل كنعان، ورغم أن الله أعطاهم فرصة ذهبية ليصححوا أخطائهم، فأظهر مباركته لهذه الصحوة التي انتابتهم عقب يشوع، ولكن ولا حتى هذه الفرصة انتهزوها كما ينبغي إذ سرعان ما عادوا إلى سباتهم من جديد، بل أكثرهم لم يتحرك ولا حتى خطوة واحدة من مكانه، ولذا وجد الكاتب نفسه مجبرًا على أن يفتش في صفحات الماضي سواء مما حفظه التقليد الكنسي اليهودي أو ما جاء في الأسفار السابقة ليضع يده، بل ليري القارئ من أين بدأ الخلل وكيف كان. وكانت الطامة الكبرى أن هذا الانحلال قد بدأ من عصر مبكر جدًا وعقب خول أرض كنعان ربما بفترة وجيزة.. ولو نضع هذا في اعتبارنا سنجد أنه من الممكن القول دون أن يجانبنا الصواب أن يشوع لم يكف عن توعية الشعب وحضه على التوبة والرجوع إلى الله بكل القلب كلما لاحت أمامه فرصة، بل إنني أجده ربما مارس ما قاله بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس "كرز بالكلمة اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب وبخ انتهر عظ بكل أناة و تعليم" (2تي2:4)، الأمر الذي جعله غير محبوب وغير مرغوب فيه عند قطاع كبير من الشعب لا سيما الشباب، ولذلك لم نرى أن الأمة كلها بكته عند موته كما سبق الإشارة في نهاية سفره.
نعود هنا لنحاول أن نوقع أو نحدد قدر المستطاع تاريخ تقريبي لهذه الفقرة التي نناقشها هنا. لو نعود إلى سفر يشوع سنجد أن الجلجال كان الموضع الذي حل فيه بني إسرائيل فور عبورهم الأردن مباشرة (يش10:5)، وهناك صنعوا الفصح بعد الختان الجماعي، وهناك أيضًا حل تابوت العهد وهناك أيضًا ظهر رئيس جند الرب ليشوع قبل غزو أريحا (يش12:5-15). ويبدو لي أن المقصود من ذكر صعود ملاك الرب من الجلجال هو محاولة جعل القارئ يربط بين تابوت العهد الكائن آنذاك في الجلجال(6) وهذا الملاك الذي فحوى كلامه يدل على أنه ملاك حضرة الرب، لأن اللهجة التي تكلم بها كما سبق القول ليس لملاك مخلوق أو لبشر أن ينطق بها بهذا السلطان، وباختصار هو أحد الظهورات المسبقة للرب يسوع في العهد القديم، وهنا ولأول مرة يظهر لجميع الشعب مرة واحدة. ومن المؤكد أنه قد مضى بعض الوقت بعد الاستيلاء على الأرض وتقسيمها بين الأسباط، وقبل نقل التابوت إلى شيلوه، وقت كان كافي بما فيه الكفاية لأن يحكم الله على تصرفاتهم وسلوكهم دون أن يستطيعوا الرد بأنه ظلمهم أو تجنى عليهم. ومن ناحية أخرى من غير المعقول أو الممكن القول أن هذا الاجتماع تم صدفة ودون سابق إعداد، ولذا من المؤكد أن يشوع دعا إلى هذا الاجتماع وحدد الزمان والمكان بناء على أمر من الله، ومن يدري قد يكون قال لهم أن رئيس جند الرب الذي ظهر لي من قبل هو شخصيًا يريد أن يجتمع بكم جميعًا، وبالطبع إن لم يكن أمر الرب فإن حب الفضول سيدفعهم لحضور الاجتماع.
نعم الرب أقسم لآبائهم أنه لا ينكث عهده، ولكن هذا له شروط سبق أن أخبرهم بها في سفر التثنية [1- «مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى الأَرْضِ التِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِليْهَا لِتَمْتَلِكَهَا وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الحِثِّيِّينَ وَالجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالكَنْعَانِيِّينَ وَالفِرِزِّيِّينَ وَالحِوِّيِّينَ وَاليَبُوسِيِّينَ سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ. 2- وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ وَضَرَبْتَهُمْ فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لا تَقْطَعْ لهُمْ عَهْدًا وَلا تُشْفِقْ عَليْهِمْ. 3- وَلا تُصَاهِرْهُمْ. ابْنَتَكَ لا تُعْطِ لاِبْنِهِ وَابْنَتَهُ لا تَأْخُذْ لاِبْنِكَ. 4- لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَليْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. 5- وَلكِنْ هَكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلهُمْ بِالنَّارِ. 6- لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. (تث1:7-6). ]. هنا تكلم الرب من باب الاختصار عن قطع العهد، لكن لو وضعنا أمامنا بقية الشروط المدرجة في الأعداد المنقولة عن سفر التثنية، سنجد أن قطع العهد قد يكون دافعه ما حدث من تزاوج بين بني إسرائيل، وهنا يحضرني القول الوارد في سفر التكوين ".. أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهم حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.." (تك1:6-3)، والآباء الذين تهاونوا مع أبنائهم نزلوا عند رغبتهم كما فعل أبوي شمشون عندما أراد أن يتزوج الفلسطينية لأنها حسنت في عينيه (قض1:14-3).. فكيف بعد هذا يثيروا عليهم حرب ويقتلوهم أو حتى يهدموا سواريهم؟ ألا يتطلب هذا عقد معاهدات صداقة وعدم اعتداء؟! إنهم بهذا ما أرادوا طردهم والله بدوره لن يطردهم من أمامهم، بل سيتركهم ليكونوا لهم مضايقين وتكون آلهتهم شركًا لهم (ع3).
يبدو أن بني إسرائيل لم يكونوا يتوقعون مثل هذا التوبيخ في محفل كهذا، لهذا ما أن سمع الجميع هذا الكلام حتى "رفعوا صوتهم وبكوا" (ع4)، و"ذبحوا للرب هناك" (ع5). ولم نسمع أنهم جددوا عهودهم مع الرب أو قرروا أن يتصرفوا بصورة جماعية مع الزيجات الأجنبية كما فعل عزرا الكاتب والشعب اليهودي آنذاك (عز9، 10). وإن كانوا لم يجعلوا بنيهم وبناتهم يتخلون عن الطرف الوثني في كل حالة، فهل نتوقع منهم أن يستطيعوا نقض العهود معهم أو يهدموا مذابحهم الوثنية؟ لقد ظنوا أن الرب الذي له الأرض وملئوها، الرب الذي له حيوان الوعر والبهائم على الجبال بالألوف (مز9:50، 10) سيرضيه تقديم ذبائح.. نعم هم بكوا، لكن ليس بكاء التوبة والندامة، ولذلك لم يبق من أثر لهذا الفعل السطحي سوى تسمية ذلك المكان باسم "بوكيم"! ولا يعرف هذا الموضع بالتحديد لأنه لم يترك أثرًا عميقًا في الشعب كما سبق القول.
[6- وَصَرَفَ يَشُوعُ الشَّعْبَ, فَذَهَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ لأَجْلِ امْتِلاَكِ الأَرْضِ. 7- وَعَبَدَ الشَّعْبُ الرَّبَّ كُلَّ أَيَّامِ يَشُوعَ, وَكُلَّ أَيَّامِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَ يَشُوعَ الَّذِينَ رَأُوا كُلَّ عَمَلِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. 8- وَمَاتَ يَشُوعُ بْنُ نُونَ عَبْدُ الرَّبِّ ابْنَ مِئَةٍ وَعَشَرَ سِنِينَ. 9- فَدَفَنُوهُ فِي تُخُمِ مُلْكِهِ فِي تِمْنَةَ حَارَسَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ, شِمَالِيَّ جَبَلِ جَاعَشَ. 10- وَكُلُّ ذَلِكَ الْجِيلِ أَيْضًا انْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ, وَقَامَ بَعْدَهُمْ جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ الرَّبَّ وَلاَ الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. (قض 6:2-10). ]
هنا ظهر على المسرح يشوع لكونه كما سبق القول كان الوسيط الذي من خلاله عرفوا موعد ومكان ذلك الاجتماع، ومن المؤكد أنه حثهم على التخلص من كل السلبيات التي وجه ملاك حضرة الرب أنظارهم إليها، ومن يدري ربما يكونوا قد وعدوه بعمل شيء..
إن عبارة "ذهب.. كل واحد إلى ملكه لأجل امتلاك الأرض" قد تبدو غامضة أو يظنها البعض ركيكة المستوى، ولكن هي خير من يمثل ويحمل المعنى المطلوب، فهم نعم قد استولوا على الأرض حديثًا، ولذلك جاءت عبارة "..كل واحد إلى ملكه"، ولكن لكونهم لم يتثبتوا بعد ويطول زمانهم بحيث وضع اليد لفترة زمنية طويلة يعطيهم أحقية فيها كما ذكر يفتاح فيما بعد 300 سنة (قض 26:11)، لذلك كان من الطبيعي القول "لأجل امتلاك الأرض".
قد يبدو للبعض غريبًا أن يقال أن الشعب بكل أجياله عبد الرب، ثم يعود ويقول في (ع10) أنه قام جيل لم يعرف الرب. قد يظن البعض أن هذا تم لجيل ثالث أو رابع بعد الجيل المعاصر ليشوع، ولكن أن يكون عثنيئيل هو أول قاضي لإسرائيل، فهذا يعني ضمنًا أن خيانة الرب وتركه بدأت تتفشى بين أبناء أول جيل للشباب بعد ذلك الجيل الذي عاصر يشوع، والذي كان أغلبه قد تخطى الستين إن لم يكن السبعين، إنما هم ما كانوا يبوحون بسرائر قلوبهم ويعلنوا على الملأ شرورهم وتركهم لإله آبائهم إكرامًا أو مراعاة لمشاعر آبائهم، ولذا كانوا يشاركونهم كل المحافل الدينية والفرائض العلنية والذبائح والتقدمات المطلوبة طوال فترة حياتهم إلى أن رقدوا جميعهم بما فيهم يشوع..
لقد قارنوا بين وصايا الله التي تنهاهم عن الفجور والشرور وتلك التي لآلهة الأمم من حولهم فوجدوا صارمة وصعبة، بينما تلك التي للأمم تبيح بل وتتيح لهم العيش على الفطرة وعمل كل ما يحلو لهم من ممارسة الملذات والمحرمات دون أن تتعب ضميرهم أو توبخهم من حين لآخر كما يحدث مع إله آبائهم، لذلك انهار كل مانع بموت الجيل الأول..
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم عبارة "قام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمل لإسرائيل" (ع10)، ليس بالمعنى الحرفي كما فهمه البعض بأنه لم يوجد من يخبرهم عنه وعن أعماله السابقة معهم، إذ سنرى قول جدعون ينفي ذلك "إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه وأين عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا.. " (قض 13:6)، بل نفهمها بمعنى أنهم نسوا إله آبائهم ورفضوا الاعتراف به وبأفضاله السابقة عليهم..
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[ 11- وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ,. 12- وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلَهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ, وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ. 13- تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ. 14- فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ, فَدَفَعَهُمْ بِأَيْدِي نَاهِبِينَ نَهَبُوهُمْ, وَبَاعَهُمْ بِيَدِ أَعْدَائِهِمْ حَوْلَهُمْ, وَلَمْ يَقْدِرُوا بَعْدُ عَلَى الْوُقُوفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ. 15- حَيْثُمَا خَرَجُوا كَانَتْ يَدُ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ لِلشَّرِّ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ وَكَمَا أَقْسَمَ الرَّبُّ لَهُمْ. فَضَاقَ بِهِمُ الأَمْرُ جِدًّا. 16- وَأَقَامَ الرَّبُّ قُضَاةً فَخَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ نَاهِبِيهِمْ. 17- وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضًا لَمْ يَسْمَعُوا, بَلْ زَنُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا. حَادُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا الرَّبِّ. لَمْ يَفْعَلُوا هَكَذَا. 18- وَحِينَمَا أَقَامَ الرَّبُّ لَهُمْ قُضَاةً كَانَ الرَّبُّ مَعَ الْقَاضِي, وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ كُلَّ أَيَّامِ الْقَاضِي, لأَنَّ الرَّبَّ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ بِسَبَبِ مُضَايِقِيهِمْ وَزَاحِمِيهِمْ. 19- وَعِنْدَ مَوْتِ الْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ بِالذَّهَابِ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا وَيَسْجُدُوا لَهَا. لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَطَرِيقِهِمِ الْقَاسِيَةِ. 20- فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ هَذَا الشَّعْبَ قَدْ تَعَدُّوا عَهْدِيَ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي. 21- فَأَنَا أَيْضًا لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَانًا مِنْ أَمَامِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِهِ. 22- لأَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ: أَيَحْفَظُونَ طَرِيقَ الرَّبِّ لِيَسْلُكُوا بِهَا كَمَا حَفِظَهَا آبَاؤُهُمْ, أَمْ لاَ». 23- فَتَرَكَ الرَّبُّ أُولَئِكَ الأُمَمَ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ سَرِيعًا وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ بِيَدِ يَشُوعَ. (قض 11:2-23). ]
هنا يمكن أن نرى فكرة عامة عن تسلسل الأمور في إسرائيل أثناء عصر القضاة:
1- لقد ظن بنو إسرائيل أنه يمكنهم أن يقلدوا الأمم من حولهم، الأمم الذين لا يستنكفوا من أن يعبدوا أي إله من آلهة الأمم من حولهم بجانب معبودهم المحلي، لا سيما وأن آلهة الأمم شياطين تتجاوب مع رغباتهم وشهواتهم الخاطئة. ولذا جاء هنا أنهم فعلوا الشر في عيني الرب، أي اسخطوا الله وعملوا الشرور على مرأى منه ولم يخف عنه شيء مما عملوه منها في الخفاء، وكذلك تركوا الرب (ع12، 13) وكان هذا أحد أعظم شرين تم اتهامهم به (ار13:2). لقد اتحدوا مع الرب بعهد، أما الآن فقد هجروه كزوجة خائنة تنصرف عن زوجها. وعلاوة على ذلك عندما تركوا الإله الحقيقي وحده، لم يصيروا ملحدين ولا صار كذلك حمقى بقولهم لا يوجد إله، بل هم اتبعوا آلهة أخرى، وما فيهم من عنصر خيّر ونقي أقرّ واعترف بالله، أما الجزء الفاسد من طبيعتهم فقد كان عظيمًا حتى أنهم كثّروا الآلهة وتآلفوا معها. إن بعليم تعني أرباب وهي الآلهة المذكرة، وعشتاروت تعني المباركات بحسب البعض وهي الآلهة المؤنثة، وهكذا عندما تركوا يهوه وهو واحد، كان لهم آلهة وأرباب كثيرين.
2- بهذا اسخطوا إله إسرائيل وأغاظوه، فأسلمهم لأيدي أعدائهم (ع14، 15). تحول ميزان التفوق العسكري ضدهم، بعد أن تخلى الله عن دفاعه عنهم وفارقتهم معيته ومعونته فاستهان بهم الأعداء وهم عجزوا عن الدفاع عن أنفسهم. سيعطي الله النجاح في الحرب بالأولى لمن لم يعرفوه أبدًا عن أن يعطيه لمن عرفوه واعترفوا به ولكن هجروه بعد ذلك وتركوه. لقد خدعوا أنفسهم، بكونهم سوف يصيرون الأقوى على الدوام، أو بكونه لن يتخلى عنهم قط طالما هم يتممون الفرائض الخارجية وحسب، ونسوا قول يشوع لهم عن الله أنه إله غيور لا يفغر لهم ذنوبهم التي لا يتوبون ويندمون عنها وإنهم في حالة تركهم له يمكنه أن يفنيهم (يش19:24، 20).
3- أشفق إله الرحمة اللامتناهية عليهم في ضيقاتهم مع أنهم جلبوها على أنفسهم بخطيتهم وحماقتهم وخلصهم. ولاحظ هنا:
أ- الباعث على خلاصهم: فهو جاء من باب شفقته وتحننه تمامًا، جاء من داخل الله وليس لاستحقاق فيهم. أما ما يقال عن كونه ندم، فالله منزه عن الندم وليس له الانفعالات التي للبشر، ولكن هذا تعبير بشري مقصود منه أنه رجع عن الاستمرار في التشديد والتضييق عليهم، لما وجدهم تابوا وندموا عن شرورهم. وما يقال عن أنينهم فهو بسبب تعبهم من ضيقاتهم أكثر منه أنين بسبب خطيتهم. فهم بالحق وعن صواب استحقوا أن يهلكوا إلى الأبد تحت لعنته، لكن لكون ذلك اليوم يوم صبره ويوم امتحاننا، فهو لم يثر كل سخطه وغضبه وإلا لكان أفناهم.
ب- الآلات التي خلصهم بها: أقام الله قضاة من بينهم -حسبما وجدت فرصة- أناس أعطاهم الله صفات ومؤهلات غير عادية مقارنة بمن حولهم لتقويم وتخليص إسرائيل وكلل الله محاولاتهم العظيمة بنجاح باهر حينما أقام الرب لهم قضاة، كان الرب مع القاضي (ع18)، وهكذا صاروا مخلَّصين للشعب. وعلى نفس النسق فإنه في أعظم أيام انحطاط الكنيسة وضيقتها سيرسل الله من هم أهلًا لأن يعالجوا أحزانها ويضعوا الأمور في نصابها الصحيح، ويعطيهم الله الحكمة والشجاعة والجسارة على الإقدام والتصرف. وعلينا أن ننظر لكل مسئول يخاف الله ويعمل كما يحق لرتبته وبحسب قلب الله بكونه هبة من الله لنا، علينا أن نشكره على الدوام لأجلها.
4- إن الإسرائيليين المنحطين والفاسدين لم يتقوموا أبدًا ولا كليًا ولا حتى بواسطة قضاتهم (ع17-19). لقد كانوا مقترنين بالله، لكنهم فسخوا عهد الزواج وزنوا وراء هذه الآلهة. عبادة الأوثان هي زنا روحي. وهم أفسدوا أنفسهم أكثر من آبائهم سواء المعاصرين لهم أو الذين كانوا على عهد موسى، وسعوا إلى التفوق عليهم في مضاعفة أعداد الآلهة الغريبة واختراع طقوس عبادة نجسة وفاسدة تناقض ما ينادي به مُصلحيهم.
5- لذلك عزم الله عن عدل في استمرار استخدام عصا التأديب معهم. فبعد موت يشوع لم يفعل سوى القليل ضد الكنعانيين على مدى فترة طويلة، ونظرًا لتساهل بني إسرائيل وتآلفهم معهم، لذلك لم يدفعهم الله بعد من أمامهم (ع21)، وفضّل الله أن يتركهم ليكونوا شوكة في ظهورهم، لأنه بمجرد صراخهم وظهور مخلص كان يلتفون حوله ويعدون بعبادة الرب من كل قلب وأن يسمعوا لذلك القاضي في كل ما يختص بالله، ولكن بمجرد زوال الخطر ودحر الأعداء لا يعودوا يسمعون لقضاتهم بل يمضوا ليعبدوا آلهة أخرى (ع16، 17).
لو كان بني إسرائيل متجاوبين مع الله لكان قد عمل على زيادة سرعة وتيرة القضاء على الكنعانيين، لكن نظرًا للفتور الذي بدأت ملامحه تتضح حتى ويشوع لا يزال حيًا، لذلك ترك الرب أولئك الكنعانيين ولم يطردهم سريعًا أو يدفعهم ليد يشوع، بل تركهم لكي لا تتصحر الأراضي الزراعية فتكثر الوحوش الضارية وتفتك بهم، ولكي يتعلموا فن القتال، وغير هذا فإن حياة الراحة الدائمة تولد الكسل وما ينجم عنه من خطايا وبلايا لا تخلو من إصبع الشيطان.. وأخيرًا لكي يتزكى الأبرار ويظهر للأشرار شرهم من خلال التجاوب أو الرفض لحروب الشيطان وإغراءاته.
وحول عبارة "لكي امتحن بهم إسرائيل.. " (ع22) يقول لنا أ. نجيب جرجس ص41 ما يلي:
[لم يكن الله في حاجة إلى الوقوف على حقيقتهم لأنه بعلمه السابق يعرف كل شيء. والوحي يعبر بلغتنا البشرية لأجل نفعنا الروحي فالرب قصد من الامتحان أن يظهر لهم وقتئذ وللأجيال القادمة حقيقة هذا الشعب وما كان عليه من الارتداد والإخفاق والتقلب حتى يتأكدوا وتتأكد جميع الأجيال أن قصاصات الرب لهم كانت عادلة وأعماله معهم كلها حكيمة وأنه لم يظلمهم في شيء بل هم الظالمون لأنفسهم.]
_____
(6) يبدو لي أن نقل التابوت إلى شيلوه والذي جاء عنه كلام في (يش18)، قد تم في وقت متأخر عن هذا الحدث، ولذلك لم يأت ذكر لشيلوه هنا من قريب أو بعيد.
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 3 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 1 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-02.html
تقصير الرابط:
tak.la/ya329xf