* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36 - 37 - 38 - 39 - 40
[1- وَكَانَ يَفْتَاحُ الْجِلْعَادِيُّ جَبَّارَ بَأْسٍ, وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ. وَجِلْعَادُ وَلَدَ يَفْتَاحَ. 2- ثُمَّ وَلَدَتِ امْرَأَةُ جِلْعَادَ لَهُ بَنِينَ. فَلَمَّا كَبِرَ بَنُو الْمَرْأَةِ طَرَدُوا يَفْتَاحَ, وَقَالُوا لَهُ: «لاَ تَرِثْ فِي بَيْتِ أَبِينَا لأَنَّكَ أَنْتَ ابْنُ امْرَأَةٍ أُخْرَى». 3- فَهَرَبَ يَفْتَاحُ مِنْ وَجْهِ إِخْوَتِهِ وَأَقَامَ فِي أَرْضِ طُوبٍ. فَاجْتَمَعَ إِلَى يَفْتَاحَ رِجَالٌ بَطَّالُونَ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ. (قض 1:11-3). ]
قرأنا في ختام الإصحاح السابق كيف كان الشعب ورؤساء جلعاد يتشاورون من جهة اختيار قائد لهم. والآن اتفقوا على أن يفتاح الجلعادي كان جبار بأس ومناسب جدًا لهذه المهمة ولا أحد أكفئ منه موجود لديهم، لكن مرتبط به ثلاث عيوب:
1- هو كان ابن امرأة زانية (ع1)، امرأة أخرى (ع2)، ويقول اليهود إنها كانت إسماعيلية وغريبة عن رعوية إسرائيل. لو كانت أمة زانية فهذا لم يكن ذنبه، لكنها وصمة عار له. لا ينبغي تعيير الناس بتعاساتهم من جهة آبائهم أو أصلهم. إن ابن زانية لو ولد ولادة ثانية بالمعمودية سيقبله الله وسيرحب به -مثل أي ابن آخر- في حرية مجد أولاده.
2- من الواضح أن يفتاح الذي معنى اسمه "الرب يفتح" أو "الذي يفتح" أن أبيه ضمه إلى بيته، وهذا يعني أنه كان في نيته أن يحسبه في عداد أولاده الشرعيين، لا سيما وأنه بكره، لأن زوجته الشرعية لم تكن قد أنجبت آنذاك، وعلى ما يظهر فإنه أباه قد وافته المنية قبل أن يكبر أولاده الشرعيين الذين تركوه بينهم عن غير رضي ولكن بمجرد أنهم كبروا لم يتوانوا عن البت في أمر طرده.
3- قام إخوته بطرده من البلدة. إن الأبناء الشرعيين لأبيه أصرّوا على تطبيق القانون بصرامته عليه وحرموه من الميراث معهم دون أي اعتبار لمؤهلاته غير العادية التي جعلته يستحق أن يشاركهم في الميراث والتي جعلته جبار بأس وزينة لأسرته، وواضح من (ع7) أن هذا تم بمباركة وموافقة شيوخ الموضع، وربما كان في هذا مستندين جزئيًا في هذا إلى القول الوارد في(تث2:23) "لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب". كثيرًا ما يذّل الله من يخطط لرفعهم، ويجعل الحجر الذي رفضه البناؤون حجر الزاوية. هكذا كان يوسف وموسى وداود، فهؤلاء وهم أعظم ثلاثة رعاة لإسرائيل رفضهم الناس قبل أن يدعوهم الله لمراكزهم العظيمة.
4- كان يمكن ليفتاح أن يقاوم أو يحتج أو يستخدم قدرته لكونه جبار بأس في أن يأخذ حقه بسيفه، ولكن نفسه العظيمة وإيمانه القوي بالله -وهذا ما سيتضح فيما بعد ومن ضم بولس الرسول إياه إلى قائمة أبطال الإيمان- منعه من أن يأخذ حقه بنفسه بل سلّم الأمر لمن بيده الأمر، ولم يخذله نصير المظلومين ومحب من يلجأون إليه..
5- حينما خرج يفتاح طواعية إلى منفاه في طوب، اجتمع إليه رجال بطالون، وبطالون هنا جعلت بعض المفسرين يظنون أن يفتاح كان يقودهم ليقوم بعمليات سلب ونهب، بينما هي تعني أناس لا عمل لهم، ولأن هذا هو المعنى المقصود، نجد أنه أضيف إليها كلمة "طائشين" حينما تم وصف من ساروا وراء أبيمالك (قض 4:9)، بينما لو كان المعنى سيئ ما كان هناك مبرر أو أساس لإضافة كلمة أخرى. ولو تمشينا مع من ينادون بأنه كان يقود عصابة للسلب والنهب، لكان علينا أن نقول نفس الشيء على داود إذ اسمع ما يقوله عنه الكتاب "واجتمع إليه (إلى داود) كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مرّ النفس فكان عليهم رئيسًا وكان معه نحو أربعمائة رجل" (1صم2:22). لكن هناك موقف يمكن أن يحل لنا هذا اللغز وهو المذكور في (1صم2:25-35) إذ واضح فيه أن داود ورجاله كانوا يحرسون أملاك نابال وأرسل يطلب معونة لقاء خدماته هذه..
وهكذا يمكن أن يكون يفتاح ورجاله قد قاموا بحراسة أملاك الأغنياء أو كانوا يعرضون أنفسهم لمن يستأجرهم للحراسة، ومن يدري ربما أعماله البطولية في هذا المجال هي التي أكسبته هذه الشهرة وعُرف لدى الجميع بأنه جبار بأس ومتمرس في فنون الحرب، ولو كان هو من قطاع الطرق لكان عليه بالأولى أن ينزل على إخوته وينهبهم أو يقتلهم لما فعلوه به، لأن قانون العهد القديم هو"عين بعين وسن بسن"، لكن واضح من لغته تقواه، وكذلك تصرفه الحكيم في محاولة حل الأمر سلميًا مع بني عمون، ولعل نذره العجيب ووفاءه بالرغم من صعوبته يغنينا عن الاستطراد في الدفاع عنه من جهة هذا الأمر.
أخيرًا يمكن القول أن يفتاح جابه ظروفًا صعبة كان يمكنها أن تحطمه نفسيًا وتقضي على إيمانه بالله ولكنه تسامى فوق الظروف الصعبة بنعمة خاصة من الله، وهكذا ثبت فيه عمليًا القول الذي مفاده أن الريح التي لا تكتسح الشجرة من جذورها تزيدها متانة وتجعلها تتثبت أكثر في التربة.
[4- وَكَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّ بَنِي عَمُّونَ حَارَبُوا إِسْرَائِيلَ. 5- وَلَمَّا حَارَبَ بَنُو عَمُّونَ إِسْرَائِيلَ ذَهَبَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَأْتُوا بِيَفْتَاحَ مِنْ أَرْضِ طُوبٍ. 6- وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: «تَعَالَ وَكُنْ لَنَا قَائِدًا فَنُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ». 7- فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: «أَمَا أَبْغَضْتُمُونِي أَنْتُمْ وَطَرَدْتُمُونِي مِنْ بَيْتِ أَبِي؟ فَلِمَاذَا أَتَيْتُمْ إِلَيَّ الآنَ إِذْ تَضَايَقْتُمْ؟». 8- فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: «لِذَلِكَ قَدْ رَجَعْنَا الآنَ إِلَيْكَ لِتَذْهَبَ مَعَنَا وَتُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ, وَتَكُونَ لَنَا رَأْسًا لِكُلِّ سُكَّانِ جِلْعَادَ». 9- فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: «إِذَا أَرْجَعْتُمُونِي لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ أَمَامِي فَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ رَأْسًا». 10- فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: «الرَّبُّ يَكُونُ سَامِعًا بَيْنَنَا إِنْ كُنَّا لاَ نَفْعَلُ هَكَذَا حَسَبَ كَلاَمِكَ». 11- فَذَهَبَ يَفْتَاحُ مَعَ شُيُوخِ جِلْعَادَ, وَجَعَلَهُ الشَّعْبُ عَلَيْهِمْ رَأْسًا وَقَائِدًا. فَتَكَلَّمَ يَفْتَاحُ بِجَمِيعِ كَلاَمِهِ أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْمِصْفَاةِ. (قض 4:11-11). ]
لقد سبق أن جاء كلام عن اجتماع بني عمون ونزولهم إلى جلعاد (قض 17:10)، وهنا يبدو أنه تم اتخاذ خطوات عملية للبدء في الحرب، كأن يكون قد حدث اشتباكات أو مناوشات خفيفة (ع4).
استعطاف شيوخ جلعاد ليفتاح ليأتي ويساعدهم. لم يكتبوا له رسالة أو يرسلوا له رسول بل ذهبوا هم بأنفسهم ليطلبوه، لأن الوقت لا يحتمل أي تأخير أو تعوق فالعدو على الأبواب واضطرام الحرب بات وشيكًا. لقد اجتمع بني إسرائيل في المصفاة، ليس المصفاة التي في سبط بنيامين (يش26:18)، فهذه في غرب الأردن وبعيدة عن أرض القتال، بينما التي جاء ذكرها هنا هي مصفاة جلعاد (ع29)، والأرجح أنها هي التي جاءت في سفر يشوع تحت اسم رامة المصفاة (يش26:13)، ولذلك كان من الطبيعي والمنطقي أن الذين يمضون إلى يفتاح شيوخ جلعاد، بينما لو كانت هي مصفاة غرب الأردن لكان الوفد مشكل من شيوخ بينهم من يمثل أسباط أرض كنعان.
وغير هذا من أين لأحد من أسباط أرض كنعان أن يعرف شيء عن يفتاح سواء من جهة ماضيه وطرده أو قدراته العسكرية في الحاضر؟ لقد عرفه رجال وطنه جلعاد وشيوخه بأنه إنسان شجاع ومتمرس في استخدام السيف، ولذلك تيقنوا أنه هو الشخص الذي تتوافر فيه المواصفات المطلوبة.
انظر كيف يعد الله الناس للخدمة التي لأجلها خلقهم فيجعل أتعابهم تعمل لصالح رقيهم وحصولهم على المراكز العليا. لو لم يتحايل إخوته ويأخذوا موافقة الشيوخ لطرده بغير رحمة ما كانت ستُتاح ليفتاح هذه الفرصة ليمارس عبقريته العسكرية، وبهذا يتميز ويصير شهيرًا. إن جيشًا بلا قائد، هو كجسد بلا رأس. إن أي مجتمع سيطلب باتضاع نعمة أن يكون له قائدًا يحكمه، فهذا بلا شك أفضل من أن يكون كل إنسان سيد نفسه بلا رقيب ولا حسيب ويعمل ما يحلو في عينيه. علينا أن نشكر الله لأجل إقامته لنظام الحكم -الذي هو في أسوأ الأحوال أفضل من الفوضى- لا سيما لو كان أعضاء الحكومة صالحين وعادلين.
لم يقبل يفتاح العرض في الحال بل وجد الفرصة سانحة لعتاب شيوخ جلعاد لأنهم لم ينصفوه يوم أن كان في مسيس الحاجة إليهم، إذ وقفوا بجانب إخوته الأصغر منه وبموافقتهم تم طرده رغم أنه تربى أمامهم لبعض الوقت في بيت أبيه، وكأنه بأسلوب آخر يعاتبهم كيف تكسرون مشيئة أبي لكونه مات وتقيمون مشيئة إخوتي الأصاغر لكونهم أحياء: "أما أبغضتموني أنتم وطردتموني من بيت أبي؟" (ع7).
كان يفتاح يرغب جدًا في خدمة وطنه، لا سيما أنه رأى ضيقتهم وسمع عن المظالم التي يوقعها بهم بني عمون، لكنه اعتقد أنه من المناسب أن يلّمح لهم على قسوتهم السابقة معه لكيما يتوبوا ويندموا عن خطية إساءتهم له بمثل هذه الإساءة العظيمة، فهكذا فعل يوسف وضيق على إخوته قبل أن يستعلن نفسه لهم. وعلى نفس النمط كثيرون يستخفون بالله وبالناس الصالحين إلى أن يمروا بضيقة وآنذاك يتلهفون على رحمة الله وصلوات الناس الصالحين.
من الواضح أن شيوخ جلعاد كانوا يتوقعون مثل هذا العتاب من يفتاح، لذلك لم يتجاسروا على أن يرسلوا له رسالة أو رسول، ووجدوا أن أقل شيء يمكن أن يعملوه من باب الاعتذار عما مضى هو أن يذهبوا إليه بأنفسهم ويستعطفوه ويمتصوا انفعالات غضبه وهذا ما نستشفه من عبارة "لذلك قد رجعنا إليك الآن.. " ولم يتوقف عرضهم على قيادته لهم أثناء الحرب، بل تنازلوا له عن رئاستهم وقبلوا بأن يكون رأسًا ورئيسًا لكل سكان جلعاد في وقت السلم. ولو لم يجدوا فيه من الخصال الروحية والأخلاق الحميدة ما كانوا سيقدمون على هذه الخطوة، ولو كانوا قدموا هذا العرض لمجرد الظروف الراهنة فقط، لكان بإمكانهم أن يسحبوا هذا العرض بعد انتهاء الحرب، ولكن لم نسمع عن حدوث نكوص من جانبهم لهذا العرض.. وعمومًا ليت ما حدث هنا يكون:
أ- تحذيرًا لنا ألا نزدري أو ندوس على أحد لكونه وضيع أو مزدرى. ليس لنا أن نجعل أحدًا عدوًا لنا، لأننا لا نعرف مدى السرعة التي يمكن لضيقاتنا أن تأتي، وآنذاك سيكون كل همّنا واهتمامنا هو أن نجعله صديق لنا.
ب- تشجيع للناس المعتبرين والذين لهم قيمة، ممن يتم الاستخفاف بهم أو تساء معاملتهم، أن يحتملوا هذا بوداعة وببشاشة ويتركوا الأمر بين يدي الله ليجعل نورهم يشرق في الظلمة.
لقد كان يفتاح يتشكك في أن يسلّموا برئاسته بعد أن يكون حارب معهم وعرّض نفسه للموت في حرب التحرير لأجلهم وربما خشي أن يرجعوا فيطردوه بعد انتهاء الحرب، وهذا ما نستشفه ليس من الكلمات الواردة في (ع9) حرفيًا، إنما محاولة تخيل الطريقة التي بها تم نطق هذه الكلمات في ضوء ردهم الوارد في (ع10) وكأن عبارة "فأنا أكون لكم رأسًا" بطريقة النطق تعني: فهل تقبلون أن أكون لكم رأسًا؟ هل سأمارس مهام الرئاسة فعليًا، أم بطريقة صورية؟
إن عبارة "ودفعهم الرب أمامي" تعطى لمحة ليست هينة عن تقوى هذا الإنسان، إذ بالرغم من أن أي شخص عادي في مكانه كان له أن يغتر لما يتمتع به من قدرات عسكرية متميزة وها من سبق أن طردوه يتوددون إليه، ولكنه لم ينس قط أن قدراته لن تكون السبب في رد الأعداء، بل هو يعلم يقينًا أن النصرة من عند الرب (أم31:21).. ومن الواضح أن تقوى هذا الإنسان فرضت نفسها على كل الشعب، إذ قيل فيما بعد "قضى يفتاح لإسرائيل.. " (قض 7:12)، وهنا نتوقف لنسجل ما كتبه القمص تادرس يعقوب في هذا الأمر:
[يفتاح يمثل شخصية فريدة، فقد اعتدنا أن نجد أبطالًا روحيين حين تسلموا مراكز قيادية انحرفوا، إذ ابتلعتهم محبة السلطة والكرامة. أما يفتاح الذي بدأ حياته مع رجال بطالين كانوا يخرجون معه، حينما سُئل أن يكون قائدًا للحرب اشتهى أن يكون رأسًا دائمًا لإسرائيل في الحرب كما في السلم.. لكنه ما أن تسلّم العمل حتى رأيناه رجل إيمان عجيبًا في تصرفاته. فإن كان البعض لا يحتملون المسئولية ولا الكرامة فينهارون روحيًا، فإن البعض الآخر ترهبهم المسئولية داخليًا لينطلقوا إلى بدايات جديدة لعمل روحي نامٍ في الرب.
تسلّم يفتاح العمل بعد حواره مع شيوخ جلعاد لا من أيديهم بل من يدي الرب نفسه، لهذا لم يعتمد على ذاته ولا على رجاله بل اتكل على الرب نفسه قائلًا "إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي" (ع9). إن كانوا هم يرجعونه، لكنه يحارب بالرب نفسه، سر غلبته ونصرته.]
لقد غفر الله لإسرائيل الإساءات التي لحقت في حقه بعد توبتهم (قض 16:10)، ولذا حول قلب يفتاح أيضًا فغفر لشعبه ما أساءوا به إليه من قبل، فمضى معهم يفتاح إلى حيث يجتمع الشعب في مصفاة جلعاد (قض 17:10)، وبدأ في الحال ممارسته لشئون الرئاسة بأن ناب عن الشعب في التكلم أمام الله، وليس من المستبعد أنه صلى لله طالبًا غفران خطايا الشعب حتى يمكن لمراحمه أن تنزل عليهم كما المطر ولنعمته أن تنزل كما الندى فيتمكن الشعب من الصمود في الحرب ورد الأعداء خائبين على أعقابهم.. وصلى أيضًا أن يعطيه الرب حكمة التصرف ويرشده إلى السبل التي بها يتمكن من إنزال الهزيمة بالأعداء لو لم يقبلوا التفاوض وإنهاء الموقف بطريقة سلمية.. ولذا لم يكن غريبًا أن ينتهي بالمجد ذاك الشئ الذي بدأ بداية تتسم بالتقوى.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[12- فَأَرْسَلَ يَفْتَاحُ رُسُلًا إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلَكَ أَنَّكَ أَتَيْتَ إِلَيَّ لِلْمُحَارَبَةِ فِي أَرْضِي؟». 13- فَقَالَ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِرُسُلِ يَفْتَاحَ: «لأَنَّ إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخَذَ أَرْضِي عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى الْيَبُّوقِ وَإِلَى الأُرْدُنِّ. فَالآنَ رُدَّهَا بِسَلاَمٍ». 14- وَعَادَ أَيْضًا يَفْتَاحُ وَأَرْسَلَ رُسُلًا إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ. 15- وَقَالَ لَهُ: «هَكَذَا يَقُولُ يَفْتَاحُ: لَمْ يَأْخُذْ إِسْرَائِيلُ أَرْضَ مُوآبَ وَلاَ أَرْضَ بَنِي عَمُّونَ,. 16- لأَنَّهُ عِنْدَ صُعُودِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ سَارَ فِي الْقَفْرِ إِلَى بَحْرِ سُوفٍ وَأَتَى إِلَى قَادِشَ. 17- وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلًا إِلَى مَلِكِ أَدُومَ قَائِلًا: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ. فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ أَدُومَ. فَأَرْسَلَ أَيْضًا إِلَى مَلِكِ مُوآبَ فَلَمْ يَرْضَ. فَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي قَادِشَ. 18- وَسَارَ فِي الْقَفْرِ وَدَارَ بِأَرْضِ أَدُومَ وَأَرْضِ مُوآبَ وَأَتَى مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى أَرْضِ مُوآبَ وَنَزَلَ فِي عَبْرِ أَرْنُونَ, وَلَمْ يَأْتُوا إِلَى تُخُمِ مُوآبَ لأَنَّ أَرْنُونَ تُخُمُ مُوآبَ. 19- ثُمَّ أَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلًا إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ مَلِكِ حَشْبُونَ, وَقَالَ لَهُ إِسْرَائِيلُ: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ إِلَى مَكَانِي. 20- وَلَمْ يَأْمَنْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْبُرَ فِي تُخُمِهِ, بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ كُلَّ شَعْبِهِ وَنَزَلُوا فِي يَاهَصَ وَحَارَبُوا إِسْرَائِيلَ. 21- فَدَفَعَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ سِيحُونَ وَكُلَّ شَعْبِهِ لِيَدِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوهُمْ, وَامْتَلَكَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ سُكَّانِ تِلْكَ الأَرْضِ. 22- فَامْتَلَكُوا كُلَّ تُخُمِ الأَمُورِيِّينَ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى الْيَبُّوقِ وَمِنَ الْقَفْرِ إِلَى الأُرْدُنِّ. 23- وَالآنَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ الأَمُورِيِّينَ مِنْ أَمَامِ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُهُ؟. 24- أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلَهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلَهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ. 25- وَالآنَ فَهَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ بَالاَقَ بْنِ صِفُّورَ مَلِكِ مُوآبَ, فَهَلْ خَاصَمَ إِسْرَائِيلَ أَوْ حَارَبَهُمْ مُحَارَبَةً؟. 26- حِينَ أَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي حَشْبُونَ وَقُرَاهَا وَعَرُوعِيرَ وَقُرَاهَا وَكُلِّ الْمُدُنِ الَّتِي عَلَى جَانِبِ أَرْنُونَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ, فَلِمَاذَا لَمْ تَسْتَرِدَّهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؟. 27- فَأَنَا لَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ بِي شَرًّا بِمُحَارَبَتِي. لِيَقْضِ الرَّبُّ الْقَاضِي الْيَوْمَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي عَمُّونَ». 28- فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِكَلاَمِ يَفْتَاحَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ. (قض 12:11-28). ]
تتحدث هذه الأعداد عن المداولات والمراسلات التي تمت بين يفتاح قاضي إسرائيل الان، وملك بني عمون:
1- أرسل يفتاح بصفته مسئول وله سلطان إلى ملك بني عمون الذي كان المعتدي والمتعدي في هذه الحرب، يسأله عن أسباب غزوه لأرض إسرائيل. وهذا المطلب العادل يبين:
أ- أن يفتاح لم تكن الحرب تسره، إذ تصرف بحكمة روحية عالية إذ لم ينطلق إلى محاربة بني عمون بالرغم من إذلالهم لشعب إسرائيل سنوات طويلة. مع أنه كان جبار بأس وشجاع، لم يتسرع لملاقاة العدو المتواجد في أرضه جلعاد (قض 17:10)، بل بروح الحكمة بذل جهود سلامية لتحاشي الحرب وويلاتها على الطرفين. يلزم أن تكون الحرب آخر الوسائل لاسترداد حق مهضوم، ولا يُحبذ الإقدام عليها إلا بعد استنفاذ كل السبل الأخرى التي يمكن بمقتضاها حل الأمور التي هي محل نزاع. ينبغي مراعاة هذه القاعدة بالالتجاء إلى القانون لحل المشاكل المُتنازع عليها. إن سيف العدالة كما سيف الحرب، يلزم عدم اللجوء إليهما، إلا بعد أن تكون الأطراف المتنازعة قد سعت أولًا بواسطة وسائل ألطف ليفهموا بعضهما البعض وليسووا الأمور المتنازع عليها (1كو1:6).
ب- أن يفتاح تبهجه العدالة، فهو لم يكن يهدف لشيء سوى أن يتم إجراء العدل.
2- صرح ملك بني عمون بمطلبه الذي كان ينبغي عليه أن يعلنه قبل قيامه بغزو أرض إسرائيل (ع13). وادعائه هو "لأن إسرائيل قد أخذ أرضي عند صعوده من مصر من أرنون إلى اليبوق وإلى الأردن، فالآن ردها بسلام".
3- أعطى يفتاح إجابة وافية وشافية جدًا على هذا المطلب، إجابة تبين سعة إطلاعه على التاريخ المقدس، إجابة فيها بيّن أن لا حق للعمونيين في الأراضي الواقعة بين نهري أرنون ويبوق والتي هي الآن في حوزة وملكية سبطي رأوبين وجاد.
أ- إن إسرائيل لم يأخذ قط أرض من الموآبيين أو العمونيين. ويفتاح ضمهما سويًا لأنهما كانا إخوة وأبناء لوط وجيران مع بعضهما البعض ولهم مصالح مشتركة ولهم كموش إلهًا وربما كان لهما نفس الملك. والأراضي التي هي محل النزاع أخذها إسرائيل من سيحون ملك الآموريين. فإن كان الآموريين قبل مجيء إسرائيل إلى أرض كنعان قد استولوا على هذه الأراضي من الموآبيين أو العمونيين، وهذا واضح من (عد26:21؛ يش25:13)، فإسرائيل لم يكن يعنيها أن تبحث في هذا الأمر أو تجيب عنه.
ب- أنهم كانوا أبعد من أن يغزو أملاك أيًا من الأمم الأخرى سوى تلك الأمم التي تنتمي إلى كنعان الملعون، والذين الآموريين كانوا أحد الشعوب المنتمية إليه، أما بالنسبة للأدوميين بنو عيسو أو الموآبيين بنو لوط، فهم لم يطلبوا سوى ممر للعبور ولم يقوموا بالاستيلاء على أيًا من أراضيهم.
ج- إنهم في الحرب التي فيها استولوا على هذه الأرض من يدي سيحون، لم يكونوا هم المتعدين أو البادئين بالحرب (ع19، 20)، فالإسرائيليون أرسلوا إليه طلب متوسلين منه أن يسمح لهم بعبور أرضه، وكانوا مستعدين لإعطائه أي ضمان على حسن سلوكهم أثناء اجتيازهم أرضه. لكن سيحون ليس فقط أنكر عليهم هذا المعروف بل جرد كل قواته وحارب إسرائيل (ع20). لذلك إسرائيل في حربها معه كان معها حق وفي موقف من يدافع عن نفسه، وهكذا إذ استأصلت جيشه، كان يحق لبني إسرائيل انتقامًا من إساءته لهم أن يستولوا على بلاده ويصادروها لحسابهم، وبهذا استولى بني إسرائيل على بلاد الآموريين، ومن غير المعقول أو المقبول أن يطالب العمونيين بعد هذا بأي حق فيها.
د- إن الله منحهم الأرض بقرار واضح محدد وخلع عليهم حق ملكيتها، الأمر الذي يمكن لهم أن يثبتوه أمام كل العالم: "قد دفعت إلى يدك سيحون ملك حشبون الآموري وأرضه" (تث24:2). لقد وهبهم الله أن يملكوا ويطردوا الأمم فهل يرفضون عمل الله معهم؟ الأرض تحمل علامة ملكية الرب "للرب الأرض وملؤها"، وعدم قبول المؤمنين لوعوده وعطاياه وكل تراخ في امتلاكها يُحسب إهانة موجهة ضد الله شخصيًا.
ولكيما يعزز هذه الحجة، يشدد يفتاح في ملاججته مع ملك بني عمون "أليس ما يملكك إياه كموش إلهك تمتلك؟" (ع24). ليس معنى هذا أن يفتاح يعتقد أن كموش إله، بل قالها على سبيل الاعتراف بالأمر الواقع "إلهك"، لأن هذه الآلهة الكاذبة مع كونها لا تستطيع أن تعمل خيرًا أو شرًا، إلا أن عبدتها يعتبرون أنفسهم مدينين لها في كل ما يملكون. وكأن يفتاح يقول له: نحن الآن لدينا وثيقة جيدة بامتلاك أرض بلادنا مثلما أنت لديك وثيقة بهذا من إلهك كموش!
هـ وهو يتذرع بمقتضى حق وضع اليد:
•لم ينازعهم أحد في حق ملكيتها عقب دخولهم فيها مباشرة (ع25).
• إن ملكيتهم لها كانت متواصلة بلا أي توقف على الإطلاق (ع26). وهنا احتج يفتاح بأنهم احتفظوا بهذه الأرض لمدة ثلاثمائة سنة إلى الآن، ولم يحاول العمونيين أبدًا في أخذها منهم طوال هذه الفترة. وهكذا بافتراض أن حق تملكها لم يكن واضحًا من البداية، فلماذا لم يحاول بني عمون المطالبة بها على مدى أجيال كثيرة مضت. بدون شك أن دخول بني عمون كان ممنوعًا عليهم أبدًا. إن التملك الذي يبقى طويلًا دون أن يطعن فيه أحد، سيفترض ضمنًا أنه مسألة منتهية.
و- بهذه الحجج برر يفتاح نفسه وزكى قضيته وأدان العمونيين: إنك تفعل بي شرًا بمحاربتي (ع27) إذ لم يحاول بني إسرائيل في الفترات التي كانوا فيها أقوياء في عهد القضاة أن يسيئوا فيها إلى جيرانهم أو يضايقونهم. إن ملك بني عمون عندما كان يطلب فرصة للاحتكاك بهم أُجبر على النظر وراء ثلاثمائة سنة ليوجد لنفسه حجة.
ز- وللفصل في هذا النزاع، اتكل يفتاح على الله وسيفه وقال لملك بني عمون "ليقض الرب القاضي اليوم بين بني إسرائيل وبني عمون" (ع27). لم يؤثر نداء يفتاح ولا المبررات التي قدمها لإنهاء النزاع سلميًا في جعل ملك بني عمون يرجع عن غيه، لأن بني عمون قد استساغوا نهب إسرائيل لمدة ثمانية عشرة سنة فيها ضايقوهم (قض 8:10)، وكانوا يأملون الآن أن يجعلوا أنفسهم سادة مالكين للشجرة مع ثمرها الذي كثيرًا ما اغتنوا به.
[29- فَكَانَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ, فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ, وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ. 30- وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلًا: «إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي. 31- فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ, وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً». 32- ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِهِ. 33- فَضَرَبَهُمْ مِنْ عَرُوعِيرَ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى مِنِّيتَ وَإِلَى آبَلِ الْكُرُومِ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا. فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 34- ثُمَّ أَتَى يَفْتَاحُ إِلَى الْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ, وَإِذَا بِابْنَتِهِ خَارِجَةً لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وَهِيَ وَحِيدَةٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلاَ ابْنَةٌ غَيْرَهَا. 35- وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَّزَقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «آهِ يَا ابْنَتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْنًا وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ, لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوعُ». 36- فَقَالَتْ لَهُ: «يَا أَبِي, هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى الرَّبِّ؟ فَافْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ, بِمَا أَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي عَمُّونَ». 37- ثُمَّ قَالَتْ لأَبِيهَا: «فَلْيُفْعَلْ لِي هَذَا الأَمْرُ: اتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ فَأَذْهَبَ وَأَنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَأَبْكِيَ عَذْرَاوِيَّتِي أَنَا وَصَاحِبَاتِي». 38- فَقَالَ: «اذْهَبِي». وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى الْجِبَالِ. 39- وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ الشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا, فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَ. وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلًا. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ. 40- أَنَّ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ يَذْهَبْنَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَنُحْنَ عَلَى بِنْتِ يَفْتَاحَ الْجِلْعَادِيِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ (قض 29:11-40). ]
نرى هنا انتصار يفتاح الذي كدره وعكره نذره الطائش:
1- كان انتصار يفتاح باهرًا:
أ- أعطاه الله روح عظيمة فأكمل نجاحه الباهر بشجاعته. حلّ روح الله على يفتاح فطوّر جدًا من ملكات يفتاح الطبيعية وجعله يتحلى بقوة من الأعالي. وبهذا ثبته الله في مركزه كقاضي وأكد له نجاحه في القيام بمهامها، وإذ تشجع وتقوى هكذا لم يضيع وقته بل عبر جلعاد ومنسى ومصفاة جلعاد وجمع ما يمكن جمعه من رجال للقتال وتقدم للقتال بعزم لا يلين.
ب- أعطاه الله نصرًا ساحقًا، وهو بشجاعته أحسن استغلال تأييد الله له فجعله نصر نهائي (ع32). فإذ قد استأصل قواتهم في ساحة القتال تعقبهم حتى إلى مدنهم. لكن لا يظهر أنه أفنى الشعب تمامًا أو أنه حاول أن يجعل نفسه سيدًا لبلاد بني عمون. مع أن آخرين بمحاولتهم الإساءة لنا، سيبررورنا في الدفاع عن حقوقنا، لكن هذا لن يبيح لنا أن نسئ إليهم أو نظلمهم، إذ سيسير الله معنا ويؤيدنا في السعي لرفع الظلم عن كاهلنا، لكنه يرفع تأييده عن مواصلة السير معنا لو حاولنا ظلم الآخرين والإساءة إليهم.
2- إن نذر يفتاح مظلم وغيومه كثيرة:
عند خروجه من بيته للقيام بهذه المهمة الخطرة، صلى يفتاح لله طالبًا حضوره معه، ونذر لله نذرًا مهيبًا أنه لو أرجعه ظافرًا، فأيًا كان الخارج من بيته لملاقاته يكون للرب ويصعده محرقة (ع31). وعند عودته سبقته أخبار انتصاره، فخرجت للقائه ابنته الوحيدة وعلامات الفرح تطفح على وجهها، وهذا وضعه في اضطراب عظيم. لكن لم يكن هناك دواء للموقف، وبعد أن أمضت بعض الوقت لبكاء عذراويتها، خضعت بشجاعة له لكيما ينفذ نذره.
وهنا توجد عدة دروس جيدة يلزم تعلمها من هذه القصة:
+ أنه يمكن أن يوجد بقية شك وعدم ثقة بوعود الله حتى في قلوب أعظم المؤمنين الحقيقيين. لقد كان يسيطر على يفتاح تخيل أنه لن يستطيع أن يعد نفسه بانتصار ما لم يتعهد بتقديم شيء ثمين لله مقابل هذا الانتصار.
+ أنه أمر جيد جدًا كذلك، عند طلب رحمة أو انتظارها أن ننذر لله خدمة مقبولة له ليس كثمن للمنة أو المعروف الذي نرغبه بل كتعبير عن عميق عرفاننا له وكإحساس عميق بالتزامنا أن نعطي بحسب الصنيع الذي عمل معنا.
+ أننا في احتياج عظيم لأن نكون حذرين تمامًا وعلينا أن نتروى جدًا في التعهد بمثل هذه النذور، لئلا بانغماسنا في انفعال حاضر حتى لو كان حرارة فاضلة نورط ضمائرنا فيما لا طاقة لنا به.
+ إن ما تعهدنا بنذره لله، يلزمنا أن نوفيه بكل تدقيق لو كان ممكن ومشروع حتى لو كان صعب جدًا وتنفيذه مؤلم ومحزن لنا.
+ أنه حسنًا يليق بالأبناء أن يخضعوا طاعة وسرورًا لوالديهم في الرب، وأن يمتثلوا بالأخص لقراراتهم الفاضلة التي تختص بإكرام الله وحفظ التقوى في الأسرة حتى لو كانت صعبة وصارمة، كالركابيين الذين لأجيال كثيرة راعوا بطريقة روحية وصايا أبيهم يوناداب في الامتناع عن شرب الخمر، وكبنت يفتاح هنا التي إرضاء لضمير أبيها ولأجل مجد الله ووطنها سلّمت نفسها وخضعت كإنسانة مكرسة (ع36).
+ إن أحزان أصدقائنا ينبغي أن تكون أحزاننا. فحيثما مضت ابنة يفتاح لتبكي مصيرها الصعب، انضمت إليها العذارى رفيقاتها في البكاء معها (ع38). غير جديرين باسم الأصدقاء، الذين فقط يفرحون معنا ولا يبكون لبكائنا في وقت حزننا.
+ إن الحماس البطولي لمجد الله وإسرائيل ولو أنه شابه شيء من الخلل والطيش، لكنه جدير أن يكون له تذكار أبدي. كان لائق جدًا ببنات إسرائيل أن يحفظن -بعيد سنوي- الذكرى المكرمة لابنة يفتاح التي استخفت حتى بحياتها لوفاء نذر أبيها.
1- من المؤكد أن يفتاح فعلًا قَدَّم ابنته ذبيحة لأنه قال بصريح العبارة عن أول خارج من بتيه لاستقباله "يكون للرب وأصعده محرقة" (ع31)، وكدليل آخر على صدق هذا أن بنات إسرائيل يذهبن من سنة إلى سنة لينحن على بنت يفتاح (ع40). أما ما استند عليه بعض الشُّرَّاح من واقع عبارة "تبكي عذراويتها" أنه حبسها ومنع زواجها، فهذا على ما يبدو لي أنه استنتاج خاطئ، لأن ما ورد هنا عن عذراويتها مقصود منه صباها وشبابها ليس أكثر وعبارة "هي لم تعرف رجلًا" تعزز هذا الاستنتاج.
2- يبدو أن يفتاح في تطوافاته بعد طرده من بيت أبيه قد زار موآب وعمون، وفيها رأى تقديم الذبائح البشرية فتلوث عقله بما رآه ودخل هذا المبدأ على غفلة منه إلى عقله الباطن وجاءت لحظة النذر فطفا على سطح عقله هذا المبدأ الخطأ ولما وقعت الواقعة وجد نفسه ملزمًا بوفائه بمقتضى قول الناموس "إذا نذر رجل نذرًا للرب أو أقسم قسمًا أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه" (عد2:30). ولكن هذا قيل في ما هو شرعي لا فيما هو مناف للشريعة كالتقدمات والمحرقات البشرية الوثنية. وبخلاف هذا لم يسمح الناموس بقتل نفس بريئة أو نذر كيان لا يخصنا، فمع أنها بنته لكنها كائن مستقل عنه في نظر الله.
3- بقاء ابنة يفتاح لمدة شهرين تبكي عذراويتها معناه أن أغلب إن لم يكن كل إسرائيل قد سمع بخبرها، ومن المؤكد أنه قيل له ما يختص بإمكانية استبدال النذر بمال يدفعه (انظر لا 1:27-8)، ولكن على ما يبدو أنه رفض الرجوع عن نذره مهما كان الأمر ربما عن ضمير مدقق أكثر من اللازم أكثر منه تمسكًا بكلمته التي لا ينبغي له الرجوع عنها بحسب مكانته كقائد، لأنه لو كان الأمر يتعلق بكلمته لكان تنازل عنها إذ الضحية هي ابنته الوحيدة المحبوبة، لأنه إن كان داود وهو لديه بنين كثيرين كان يتمنى أن يموت عوض أبشالوم العاصي، فكم بالأولى كان سيتنازل يفتاح عن تقديم ابنته محرقة وفدائها لو كان الأمر يتعلق بكلمة.
ولكن لأن الموضوع يختص بضميره، لم يستطع الفكاك أو قبول أي مخرج ولو كان نص كتابي!، لذلك لم يكن بغريب أن يموت يفتاح بعد ست سنوات من هذا الحدث، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن عمره لن يتجاوز الأربعين بأي حال من الأحوال، ومن هنا نستشف أنه مات نائحًا على ابنته إلى القبر، ولذا انطفأت شمعة حياته مبكرًا قبل الأوان، مع أنه لو أعمل عقله وصلى للرب، لكان ينبغي له أن يدرك مغزى عدم قبول الله لذبح اسحق وإيجاد بديل من عنده له فيخرج من هذا بعدم قبول الله للذبائح البشرية..
4- كان يمكن لابنة يفتاح أن تختفي عن أبيها في خلال فترة الشهرين وربما ما كان أحد يلومها، ولكن رجوعها طاعة لأبيها ووفاء لنذره لله يدل على معدنها الأصيل..
5- يقول القمص تادرس يعقوب [يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لم يوقف تقديم هذه الذبيحة كما فعل في ذبح اسحق بالرغم من عدم قبوله الذبائح البشرية وذلك لكي تكون درسًا للبشرية، فلا يتسرع أحد بتقديم نذر بقسم لئلا يفقدون أولادهم إذ يقول (بسماحه تحقيق مثل هذا النذر وضع الله نهاية لتكرار مثل هذا في المستقبل..
ويقول في موضع آخر من شرحه: كان هذا النذر -في رأي كثير من الآباء- لا يحمل شيئًا من الحكمة، ولعل الله أراد أن يلقن يفتاح بل وكل المؤمنين عبر الأجيال درسًا قاسيًا، فسمح بخروج ابنته الوحيدة العذراء للقائه فصار يفتاح في مرارة.. ]
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 12 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 10 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-11.html
تقصير الرابط:
tak.la/th54a8k