* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18
[1- وَقَامَ بَعْدَ أَبِيمَالِكَ لِتَخْلِيصِ إِسْرَائِيلَ تُولَعُ بْنُ فُوَاةَ بْنِ دُودُو, رَجُلٌ مِنْ يَسَّاكَرَ, كَانَ سَاكِنًا فِي شَامِيرَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ. 2- فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي شَامِيرَ. 3- ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ يَائِيرُ الْجِلْعَادِيُّ, فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً. 4- وَكَانَ لَهُ ثَلاَثُونَ وَلَدا ًيَرْكَبُونَ عَلَى ثَلاَثِينَ جَحْشًا, وَلَهُمْ ثَلاَثُونَ مَدِينَةً. يَدْعُونَهَا «حَّوُوثَ يَائِيرَ» إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. هِيَ فِي أَرْضِ جِلْعَادَ. 5- وَمَاتَ يَائِيرُ وَدُفِنَ فِي قَامُونَ. (قض 1:10-5). ]
كان حكم هذين القاضيين تولع ويائير هادئ وسلامي ولذلك لم يحتلا سوى مساحة صغيرة في هذا التاريخ. لكن بدون شك كلاهما أقامه الله لخدمة وطنهم بصفتهم قضاة مدعوين منه وليس مدّعين كأبيمالك الذي اشتهى التملك ولم ينسبا لأنفسهما كرامة ولا اقتحما منصبيهما اقتحامًا بل دعاهما الله إليه.
1- بخصوص تولع قيل إنه قام بعد أبيمالك لتخليص إسرائيل (ع1). دفع الله هذا الرجل الصالح للظهور ليصلح الانتهاكات ويقوض عبادة الأوثان ويسكّن الاضطرابات ويشفي الجراحات التي أصابت الوطن من اغتصاب أبيمالك للسلطة. والمقصود بالقيام هنا هو من جهة مجئ تولع زمنيًا بعد أبيمالك ليس إلا، ولكن هذا لا يمنع أن الله حفظ البلاد من غزوات خارجية بالرغم من الحروب الداخلية التي تسبب فيها، ولم يكن له فضل في هذا الحفظ، إذ صيت أبيه ونسبه إليه أعطاه مهابة أمام من هم من خارج فلم يفكر أحد في احتلال أراضيهم.
"لتخليص إسرائيل" ليس معنى هذا أنه كان هناك من يضايقهم كالمديانيين ومن هم على شاكلتهم، بل ربما هو حفظهم بسياسته من تعدي الجيران والأعداء عليهم، وربما اقتصر دورهم على أمور القضاء وفض المنازعات داخليًا بين الأسباط وبعضها أو ربما كانوا هم الحفظة والمفسرون للفتاوى القانونية.
ومع أن تولع من سبط يساكر، إلا أنه لما دعاه الله ليكون قاضيًا للأمة غادر موضعه ليقيم في جبل أفرايم، وهو نفس الجبل الذي أقامت في منطقته دبورة النبية لتدير دفة شئون الأمة وتحل مشاكلها وتبت فيما استعصى من قضايا وخلافات، ولذا إليه انتقل تولع ليكون في متناول معظم أفراد الشعب ويسهل وصولهم إليه. وهو عاش هناك وقضى لمدة 23سنة ومات ودُفن هناك، الأمر الذي يعني أنه ظل أمينًا لله ويخدم شعبه إلى النفس الأخير.
2- قام بعده يائير الجلعادي، وكانت أيامه أيام سلامية وقضى لإسرائيل لمدة 22 سنة بنفس الطريقة والسمات التي لسابقه تولع. وبينما لم يُذكر شيء عن عائلة تولع نجد هنا كلام عن عائلة يائير الذي نعته بالجلعادي يشير إلى أنه من نسل منسى المقيم شرق الأردن. وكون له ثلاثين من الأبناء فهذا يعني ضمنًا أنه تزوج من أكثر من امرأة وهذا ليس بغريب في ذلك الوقت وتحت التدبير اليهودي، كما أنه من الواضح أنه كان واسع الثراء إذ لم يكن يركب فصيلة الجحش غير القوم الأثرياء. أما ثلاثون مدينة فليس لنا أن نأخذها بالمعنى الحرفي لأنه واضح من (عد41:32) أن حووث يائير تعني مزارع يائير، وربما بجهودهم الدءوبة استطاعوا توسيع تخوم تلك المزارع بحيث صارت كما المدن في الاتساع والتعداد السكاني. ومن الواضح أن يائير نهج في هذا المسلك جريًا على يائير الأول أحد الجدود الذين عاصروا غزو الأرض، ومما يؤسف له أن بعض الشراح قد خلط بين الاثنين مع أنه لو تم عد السنوات التي تفصل بينهما ستصل إلى حوالي 250 سنة. ولذا يمكن القول بالفصل بينما وإن كان يجمعهما التشابه في الاسم والمنهج!
وبينما لا نعرف شيء عن مزارع يائير الأول، وإن كان ليس من المستبعد أنه مع تزايد سكانها والتوسع العمراني قد تحولت إلى مدن، إلا أن مزارع يائير الثاني كانت باقية إلى حين كتابة هذا السفر.
[6- وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ, وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالْعَشْتَارُوثَ وَآلِهَةَ أَرَامَ وَآلِهَةَ صَيْدُونَ وَآلِهَةَ مُوآبَ وَآلِهَةَ بَنِي عَمُّونَ وَآلِهَةَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ, وَتَرَكُوا الرَّبَّ وَلَمْ يَعبدوه. 7- فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَبَاعَهُمْ بِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَبِيَدِ بَنِي عَمُّونَ. 8- فَحَطَّمُوا وَرَضَّضُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً. جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ فِي أَرْضِ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ فِي جِلْعَادَ9- وَعَبَرَ بَنُو عَمُّونَ الأُرْدُنَّ لِيُحَارِبُوا أَيْضًا يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ وَبَيْتَ أَفْرَايِمَ. فَتَضَايَقَ إِسْرَائِيلُ جِدًّا. (قض 6:10-9). ]
قد يستغرب المرء هذا الانقلاب السريع والمريع من العودة لعبادة الأوثان كلما لاحت فرصة. ولكن هنا يستوقفنا ويسترعي انتباهنا أن عمل الشر سابق لعبادة البعليم (ع6)، ولو تتأمل في الماضي القريب أو الحاضر ستجد أنه لن يترك إنسان مسيحيته ومسيحه إلا لولعه بخطية حب المال أو مناصب العالم الزائلة أو شهوات الجسد وبالأخص الجنس.. فواحدة من هذه أو بعضها أو كلها هي التي تسبق دائمًا تركه لعبادة الله الحي، والذي في الغالب لا يعرفه هذا الجاحد كما ينبغي!
ومن ناحية أخرى لو جاز لنا أن نصور الديانات الموجودة منذ وجد الإنسان وإلى نهاية العالم على أنها حزب يقدم وعود أو برامج انتخابية، سنجد أن الله لا يقدم للإنسان وعود تمتع بلذات العالم وشهواته الفانية لكون الإنسان يقيم في العالم بصفة مؤقتة ولكن يترتب على السعي حسنًا في فترة عمره هذا ثواب أبدي ونعيم دائم، لذلك عليه أن يعد نفسه ويجتهد بكل مثابرة ويذاكر كما لو كان يحضر رسالة دكتوراة لأن الجعالة عظيمة والمعية مع الله رائعة بطريقة لا يمكن وصفها.
أما برنامج أحزاب الديانات الأخرى فيقدم وعود كاذبة بالتمتع بملذات الجسد وشهواته وتلبية كل غرائزه، ويبيح له أن يكذب ويزني ويقتل ويغتصب ويسرق.. وبالاختصار يخدر ضميره بكل طريقة ممكنة إلى أن يستيقظ يومًا في الأبدية فيجد نفسه ضائعًا هالكًا فيندم في يوم لا ينفع فيه الندم ويبكى في يوم لا يشفع فيه بكاء إذ قد فات الأوان وأُغلق باب التوبة.
وهكذا لوجود بون شاسع وفرق هائل بين البرنامجين.. من الصرامة الهائلة والتدقيق الشديد، إلى الترويج للانحلال والتشجيع عليه، سنجد أن الإنسان في غبائه ينظر إلى تحت رجليه ولا يتطلع قط إلى ما يترتب على اختياره من عواقب جسيمة، فإما تعب هنا لفترة قصيرة مهما طالت، وتعب وهلاك لفترة ليس لها نهاية في عذاب لا ينتهي.. ولكن في النهاية ليس لنا أن نلوم بني إسرائيل في تقلبهم وسرعة رجوعهم من عبادة الله الحي إلى العالم وأباطيله، إذ نحن كثيرًا ما نشبههم في كثير من الأوجه ونفعل مثلها وأكثر مع فرق شاسع وهائل بيننا وبينهم وهو أن "من أُعطي كثيرًا يُطلب منه كثير، ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر" (لو48:12).
نعود هنا للأعداد التي أمامنا لنقول أنه بينما كان هذان القاضيان تولع ويائير يبتان في شئون إسرائيل ويقضيان فيها، كانت الأمور تسير حسنًا، لكن بعد نياحتهما:
1- عاد إسرائيل إلى عبادتهم للأصنام:
أ- فقد عبدوا آلهة كثيرة، ليس فقط عبدوا البعليم والعشتاروت التي كان يعبدها الكنعانيون، بل كما لو كانوا سيعلنون حماقتهم لكل جيرانهم على الملأ عبدوا آلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين (ع6)، كما لو أن التجارة الأساسية لإسرائيل هي أن تستورد الآلهة من كل الدول المجاورة. من العسير القول إن كان هذا التصرف يتسم بوقاحة أكثر أم بعدم تبصر زائد! لأن تلك الدول التي سعوا إلى اكتساب ودها بواسطة هذه الأساليب الشريرة صاروا ظالميهم ومضطهديهم بمقتضى أحكام الله العادلة.
ب- وليتهم اعترفوا بإله إسرائيل كواحد من الآلهة الكثيرة التي عبدوها، بل إنهم تركوا الرب ولم يعبدوه. الذين يظنون أنهم يخدمون الله والمال سرعان ما يهجرون الله تمامًا ويتفرغوا لعبادة المال فقط. فإن لم يكن القلب كله لله سرعان ما يفقد الله مكانته فيه، لأن الله من بغضه للخطية لا يستطيع أن يتواجد معها في مكان واحد، لا سيما أن الإنسان بطبعه يميل إليها ويعطيها الأفضلية والتسيد على القلب، وهذا أمر لا يقلبه الله الذي هو أصلًا ينبغي أن يكون ملك على القلب بمقتضى خلقته لنا وفدائنا الذي دفع فيه ثمنًا غاليًا، إذ بذل دمه على الصليب طواعية..
2- جدد الله أحكامه عليهم وجعلهم تحت سلطان الأعداء المضطهدين لهم. لقد سبق أن قال الله أنه إن حادت إحدى مدن إسرائيل إلى عبادة الأصنام، يلزم لبقية المدن أن تحاربها وتستأصلها (تث12:13)، ولكن ها جميع المدن قد حادت، فماذا يفعل الرب؟ لم يكن هناك بد من أن يجلب الله عليهم الأمم المجاورة لكي يعاقبهم على ارتدادهم. فكان أنه في ذات السنة التي بدأوا عصيان الله وتركه سمح الله للغرباء أن يحطموا بني إسرائيل ويرضوهم رضًا (ع8)
كان الضيق الذي جاء على إسرائيل بواسطة العمونيين، نسل لوط:
أ- طويلًا جدًا إذ استمر لمدة ثمانية عشر عامًا.
ب- شديد جدًا. إذ ابتدأوا بتلك الأسباط المجاورة لهم في شرق الأردن والتي دُعيت هنا أرض الآموريين (ع8)، لأن الإسرائيليين قد فسدوا جدًا وجعلوا أنفسهم مثل الوثنيين حتى صاروا بطريقة ما آموريين تمامًا (انظر حز3:16). لكن العمونيين لم يتوقف زحفهم على مدن شرق الأردن، بل تقدموا تدريجيًا وعبروا الأردن وغزوا يهوذا وبنيامين وأفرايم (ع3)، وهم ثلاثة من أشهر الأسباط وأقواها، لكن بسبب تركهم للرب أهانوا أنفسهم وصاروا عاجزين عن صد الغزاة.
ومع أن الأعداء كانوا بني عمون من الشرق، شرق الأردن، والفلسطينيين من جنوب يهوذا، إلا أننا سنلاحظ أن التركيز في طلب التحرير كان من نير بني عمون، وهذا ما سنلمحه في الإصحاح التالي، بينما يبدو أن نير الفلسطينيين لم يكن ثقيلًا آنذاك بل متقطعًا ومحتملًا..
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[10- فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ: «أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ لأَنَّنَا تَرَكْنَا إِلَهَنَا وَعَبَدْنَا الْبَعْلِيمَ». 11- فَقَالَ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «أَلَيْسَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَبَنِي عَمُّونَ وَالْفِلِسْطِينِيِّينَ خَلَّصْتُكُمْ؟. 12- وَالصَّيْدُونِيُّونَ وَالْعَمَالِقَةُ وَالْمَعُونِيُّونَ قَدْ ضَايَقُوكُمْ فَصَرَخْتُمْ إِلَيَّ فَخَلَّصْتُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ؟. 13- وَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمُونِي وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً أُخْرَى. لِذَلِكَ لاَ أَعُودُ أُخَلِّصُكُمْ. 14- اِمْضُوا وَاصْرُخُوا إِلَى الآلِهَةِ الَّتِي اخْتَرْتُمُوهَا. لِتُخَلِّصْكُمْ هِيَ فِي زَمَانِ ضِيقِكُمْ». 15- فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلرَّبِّ: «أَخْطَأْنَا فَافْعَلْ بِنَا كُلَّ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ. إِنَّمَا أَنْقِذْنَا هَذَا الْيَوْمَ». 16- وَأَزَالُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ مِنْ وَسَطِهِمْ وَعَبَدُوا الرَّبَّ, فَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ مَشَقَّةِ إِسْرَائِيلَ. 17- فَاجْتَمَعَ بَنُو عَمُّونَ وَنَزَلُوا فِي جِلْعَادَ, وَاجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي الْمِصْفَاةِ. 18- فَقَالَ الشَّعْبُ رُؤَسَاءُ جِلْعَادَ الْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: «أَيٌّ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ, فَإِنَّهُ يَكُونُ رَأْسًا لِجَمِيعِ سُكَّانِ جِلْعَادَ». (قض 10:10-18). ]
هنا نطلع على أحد بنود البرنامج الانتخابي الذي لله وديانته، فبينما باقي ديانات العالم التي من اختراع الشيطان ومن يبيعون أنفسهم له من البشر، تبيح الشر وتروج له وتخدر الضمير بكافة السبل الممكنة سواء بالتهديد أو بالإغراء، نجد أن الله الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون لا يرضيه هلاك الناس وبالأخص بنيه الذين دُعي اسمه عليهم وهم عليه محسوبين ولو كانوا في الكورة البعيدة يقتاتون خرنوب العالم..
لذلك يبادر الله إلى السماح بالتجارب المرة أن تقع بهم، ليس لمسرته في إذلالهم ولا لأنه يريد لهم المذلة في حد ذاتها، بل هو يفعل هذا رغمًا عنه -إن جاز القول- إذ هذا هو فعله أو عمله الغريب (انظر إش21:28)، وهو من محبته يتصرف معنا هكذا لكي نعود ونصرخ إليه ويترتب على هذا عودتنا إليه وتمتعنا بحياة الشركة معه وما يترتب عليها من عودة للمذاكرة باجتهاد في سنوات العمر التي هي بمثابة سنة دراسية طويلة طول فترة عمر الإنسان ليتأهل بهذا لحياة أبدية سعيدة لا نهاية لها.
1- اعتراف إسرائيل في ضيقهم بخطأهم إلى الله (ع10). إنهم اعترفوا بتقصيراتهم، لأن بها ابتدأت خطيتهم: لأننا تركنا إلهنا فتورطنا وعبدنا البعليم وبهذا تصرفنا بحماقة وغدر وبمنتهى الشر.
2- رسالة تبكيت أرسلها الله لإسرائيل بهذا الشأن، ولا يُعلم بيقين هل أرسلها بواسطة ملاك كما في (قض 1:2)، أم بواسطة نبي (قض 8:6)، وإن كنت أرجح الاحتمال الأخير، لأن هذا يتماشى مع مقولة أن الله لا يترك نفسه بلا شاهد في كل مكان وزمان، ومع قول الرب لإيليا بأنه حتى وإن ضل إسرائيل لكن لا تزال هناك سبعة آلاف ركبة لم تنحي لبعل، ومن هؤلاء القليلين الذين بقوا موالين لله على الرغم من حالة الارتداد، أرسل الله واحد منهم بهذه الرسالة. والله في هذه الرسالة:
أ- وبخهم على نكرانهم وتنكرهم الشديد له، وذكّرهم بالأمور العظيمة التي فعلها لهم، من تخلصيه إياهم من ظلم المصريين والآموريين وبني عمون.. وهذه السلسلة للأعداء معروفة كلها عدا المعونيين، وعنهم يقول أ. نجيب جرجس ص158 ما يلي:
[هم سكان معون الواقعة في أرض أدوم واسمها الآن معان على بعد تسعة عشرة كيلومترًا وثلث تقريبًا جنوب شرقي بترا، ولأن سكناهم شرقي الأردن، فربما ركزوا مضايقتهم على الأسباط الشرقية، وربما انضموا مع جيرانهم من العمونيين والموآبيين في مضايقتهم، ولكن الرب خلص شعبه منهم على أيدي عبيده القضاة أمثال إهود وجدعون (قض4، 6). ]
ومما هو جدير بالذكر أن الملك عزّيا هزمهم ضمن آخرين وقدموا له هدايا (2أخ7:26)، وسيأتي ذكر لهم في أيام حزقيا حيث حرمهم بني شمعون وسكنوا مكانهم (1أخ40:4-42).
إن الله أدبهم بالحق وبالرحمة خلّصهم، ولذلك يحق له أن يتوقع أن يلتصقوا به وبخدمته سواء عن طريق مخافته كعبيد أو محبته كبنين له.
ب- يبين لهم كيف أنه -عن صواب وحق- يمكنه أن يتخلى عنهم ويتركهم للهلاك بتركه لهم للآلهة التي عبدوها. ولإيقاظهم ليتوبوا توبة خالصة وينصلح حالهم تمامًا، يدعهم يرون:
• حماقتهم في عبادة البعليم: امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها (ع14)، جربوا ماذا بإمكانها أن تفعله لكم الآن. يلزم الإقرار بتوبة خالصة وبالاقتناع التام بالعجز التام لكل هذه الآلهة عن أن تقدم لنا يد المعونة في ضيقتنا. علينا أن نقتنع أن ملذات الحواس التي شغفنا بها لا يمكن أن تشبعنا، ولا كذلك لغنى العالم الذي طمعنا في أن يكون نصيبنا، إذ لا يمكن أن نكون سعداء أو نجد راحة في أي شيء سوى في الله.
• بؤسهم وتعاستهم والأخطار التي وقعوا فيها بتركهم لله: انظروا ما جلبتموه على أنفسكم، والآن لا يمكنكم إلا أن تتوقعوا أن أقول لكم: لا أعود أخلصكم (ع13)، فماذا سيصير حالكم آنذاك؟ امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لماذا تصرخون إليّ الآن؟
قال الله لهم هذا ليشير من طرف خفي أنه لا يكتفي ولا يرضيه الاعتراف من الشفتين بينما القلب مبتعد عنه، بل ليستحثهم على أن يتخلوا عن تلك الآلهة ويصلحوا أمورهم في المستقبل.
3- أظهر بني إسرائيل خضوع متضع لعدل الله مع تقديم طلب بتذلل لأن يشملهم برحمته (ع15). اجتمع بني إسرائيل معًا ربما في محفل مهيب عند باب خيمة الاجتماع التي هجروها، ومع أن الانطباعات التي تلقوها من رسالة الله لهم تدعو ظاهريًا إلى الإحباط واليأس لما شملته من صد وهجر، لكنهم آثروا أن يطرحوا أنفسهم عند قدمي الله، وإن كان لهم أن يهلكوا فليهلكوا هناك. هم ليس فقط كرروا اعترافهم "أخطأنا" (ع10، 15)، بل أيضًا:
أ- سلّموا أنفسهم لعدل الله "افعل بنا كلما يحسن في عينيك". بهذا أقرّوا أنهم يستحقون أقسى علامات استياء الله، وكانوا متأكدين أنه لم يظلمهم في كل ما سمح به من بلايا حلت بهم، وخضعوا تحت يد الله القوية والثقيلة وقبلوا عقوبة إثمهم.. وهذه كانت الشروط التي وضعها موسى لعودة الله إليهم بالمراحم (انظر40:26-42).
لاحظ إن التائبين الحقيقيين سيتجاسرون على أن يسلّموا أنفسهم لله ليؤدبهم بحسب ما يراه مناسبًا، عالمين أن خطيتهم تستحق تأديب صارم وأن الله ليس قاسيًا أو مبالغ في مطالبه.
ب- توسلوا لله طالبين رحمته: إنما أنقذنا هذا اليوم، نتوسل إليك خلصنا من هذا العدو. هم أقرّوا بما يستحقونه من تأديب، ولكن طلبوا من الله أن لا يعاملهم بحسب استحقاقهم. ومن هنا علينا أن نخضع لعدل الله مع رجاء في نوال رحمته.
4- وبعد هذا شرعوا في إصلاح مبارك، إذ أنتجوا ثمر يليق بالتوبة (ع16): "أزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم وعبدوا الرب". دفعهم الاحتياج للعودة لله، بعد أن عرفوا بالخبرة العملية أنه ليس مجدي المضي إلى الآلهة التي عبدوها باطلًا، ولذلك رجعوا إلى الله الذي استخفوا به. وهذه كانت توبة صادقة ليس فقط لأجل الخطية بل أيضًا عن الخطية.
5- عودة الله الكريمة لهم بالرحمة (ع16): "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل". وكما ارتضى أن يضع نفسه في مرتبة أب لشعبه الذي في عهد معه، كذلك ارتضى هو أن يمثّل صلاحه لهم بأحشاء أب تجاه أولاده، لأنه كما هو أب الأنوار، كذلك هو أب المراحم.
وهنا نسجل ما جاء في السنن القويم:
[فضاقت نفسه تجاه مشقة إسرائيل: يجب على القارئ هنا أن يتأمل وينتبه. فإن ضيق النفس لا يجوز أن يُنسب إلى الله حقيقة - وهو كناية عن الجزع، أي عدم الصبر والاحتمال.. والله مُنَزَّه عن كل ذلك باعتبار المعنى الحقيقي. وَنُسِبَ الله ذلك إلى نفسه، لأن إسرائيل حبيبه، والإساءة إلى الحبيب، إساءة إلى المحب له. إن الإسرائيليين أولاد الله، فمصابهم لا يرضى الله به كما لا يرضى الوالد بمصاب أولاده. ]
6- بعد هذا بدأت الأمور تعمل تجاه خلاصهم من ظلم العمونيين لهم (ع17، 18). لقد سبق أن قال الله "لذلك لا أعود أخلصكم" (ع13)، لكن الآن لم يعودوا هم الشعب الذي كان من قبل، إنهم أناس آخرين، هم أناس جدد لذلك سيخلصهم الآن.
أ- تقسى العمونيون بطريقة تؤول لهلاكهم. لقد اجتمعوا في موضع واحد لكيما يمكن إفنائهم بضربة واحدة (رؤ16:16). وربما هم تجمعوا هناك (ع17)، لما عرفوا برجوع إسرائيل إلى الرب والاستعداد للتخلص من عبوديتهم لهم.
ب- انتعش الإسرائيليون وتجدد الآمال في نجاتهم بتوبتهم، فاجتمعوا هم كذلك (ع17). كان العدو يطاردهم ويهزمهم طوال ثمانية عشر سنة، كما في كل عبودية سابقة، لأنهم لم يكونوا متحدين، فكانت كل عشيرة أو مدينة أو سبط يقف بمفرده ويتصرف على حده، لذلك صاروا فريسة سهلة لمضايقيهم لعوزهم إلى شعور لائق بالمصلحة العامة لتوحدهم سويًا. أما عندما يتحدون فكانوا يحسنون التصرف وهذا ما فعلوه هنا. عندما يصير بني إسرائيل كرجل واحد يتقدم لمصلحة عامة ويقاوم عدو مشترك عقب صلحهم مع الله وتوبتهم إليه، أية مشكلة أو صعوبة أو عدو يمكنه أن يقف أمامهم؟
التقى رؤساء جلعاد والشعب وتشاورا باحثين عن قائد يقودهم لمحاربة العمونيين. من جاءوا من قبل لتخليص إسرائيل من مضايقيه كانوا مدعوين بدعوة خاصة من الله مثل إهود وباراق وجدعون، أما هنا فقد جاء المخلص بطريقة عادية بعد اتفاق الكل علي البحث عن قائد مناسب ومؤهل لقيادة الجيش، وبعد البحث وجدوا الشخص المناسب والله أقرّ ووافق على هذا الاختيار بأن جعل روحه يحل عليه (قض 29:11)، وكان هذا مثالًا يمكن الاحتذاء به عندما لا يتوقع وجود دعوة خاصة من الله لشخص بعينه (ولقد سبق أن دافعنا عن القرعة في سفر يشوع وأظهرنا كيف أن ما يسبقه صلاة ويتم في حضرة الله يكون حكمها من السماء وأثبتنا هذا بأدلة هناك، وها هنا نجد دليلًا آخر دامغًا إذ بارك الله على اختيار الشعب ليفتاح وحل بروحه عليه، فإن كان فعلًا بارك على اختيار المؤمنين لشخص عادي في قيادتهم لحرب تحرير، فكم بالأولى يبارك على من تختاره قرعة هيكلية). ليته يتم اختيار بلا محاباة لمن يتم ترشيحهم للمناصب العامة، والله آنذاك سيتكفل بالاعتراف ومباركة كل من يتم اختيارهم ويعطيهم المواهب والإمكانيات التي بها يديرون مناصبهم بحسب ما يرضي الله ويؤول لخير الشعب ونفعه الروحي والمادي.
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 11 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 9 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-10.html
تقصير الرابط:
tak.la/5zv5hv6