* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20
[1- وَنَزَلَ شَمْشُونُ إِلَى تِمْنَةَ وَرَأَى امْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ,. 2- فَصَعِدَ وَأَخْبَرَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ, فَالآنَ خُذَاهَا لِيَ امْرَأَةً». 3- فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ: «أَلَيْسَ فِي بَنَاتِ إِخْوَتِكَ وَفِي كُلِّ شَعْبِي امْرَأَةٌ حَتَّى أَنَّكَ ذَاهِبٌ لِتَأْخُذَ امْرَأَةً مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْغُلْفِ؟» فَقَالَ شَمْشُونُ لأَبِيهِ: «إِيَّاهَا خُذْ لِي لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَي. 4- وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الرَّبِّ لأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ عِلَّةً عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ مُتَسَلِّطِينَ عَلَى إِسْرَائِيلَ. 5- فَنَزَلَ شَمْشُونُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ إِلَى تِمْنَةَ وَأَتَوْا إِلَى كُرُومِ تِمْنَةَ. وَإِذَا بِشِبْلِ أَسَدٍ يُزَمْجِرُ لِلِقَائِهِ. 6- فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ, فَشَقَّهُ كَشَقِّ الْجَدْيِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَلَمْ يُخْبِرْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِمَا فَعَلَ. 7- فَنَزَلَ وَكَلَّمَ الْمَرْأَةَ فَحَسُنَتْ فِي عَيْنَيْ شَمْشُونَ. 8- وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ لِيَأْخُذَهَا مَالَ لِيَرَى رِمَّةَ الأَسَدِ, وَإِذَا جَمَاعَةٌ النَّحْلِ فِي جَوْفِ الأَسَدِ مَعَ عَسَلٍ. 9- فَأَخَذَ مِنْهُ عَلَى كَفَّيْهِ, وَكَانَ يَمْشِي وَيَأْكُلُ, وَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَعْطَاهُمَا فَأَكَلاَ, وَلَمْ يُخْبِرْهُمَا أَنَّهُ مِنْ جَوْفِ الأَسَدِ أَخَذَ الْعَسَلَ. (قض 1:14-9). ]
1- إن شمشون بتوجيه إلهي غير عادي يبحث عن فرصة بها يتشاجر مع الفلسطينيون بالزواج من أحدهم وهي طريقة غريبة للاحتكاك والتشاجر، لكن الحقيقة هي أن شمشون نفسه كان لغزًا وشخصًا متناقضًا فيعمل ما هو فعلًا عظيم وحسن بطريقة كان يبدو فيها الضعف والشر، لأنه لم يكن مقصود منه أن يكون نموذج لنا لنحتذي به أو مثال لنقتدي به، بل ليكون رمز لمن مع كونه لم يعمل خطية صار خطية لأجلنا، وظهر في شبه جسد الخطية ليدين الخطية في الجسد (رو3:8).
قبل أن نواصل كلامنا نود قول الآتي:
• إن تمنة ذاتها، كانت في البدء من نصيب سبط يهوذا (يش57:15)، ثم أُعطيت لسبط دان (يش43:19)، وقد استعادها داود من الفلسطينيين، لكنهم استولوا عليها مرة أخرى في ملك آحاز (2أخ18:28).
• واضح جغرافيًا أن محلة دان كانت أعلى من مدينة تمنة، لذلك قيل عنه أنه نزل (انظر ع1، 5، 10)، وعند عودته لبيت أبيه قيل أنه صعد (ع2، 19).
• لسنا نستطيع أن نقول أين رأى شمشون هذه المرأة، لكن يمكن القول أنه بحسب عوائد تلك الأيام كما هو الحال في كل الشرق إلى عهد قريب، لم يكن مسموحًا للشاب أن يتكلم مع أي فتاة أو امرأة في الشارع، لذلك قيل هنا أنه رآها (ع1) وحسنت في عينيه (ع3)، ولما تكلم معها في محضر الأسرتين قيل أيضًا أنها حسنت في عينه إذ أعجبته أيضًا طريقة كلامها (ع7)، ولكن ليس حسنًا أن يعوّل الشاب اليوم على مجرد المنظر وطريقة الكلام، بل من الأفضل له أن يشرك الله في الأمر حتى يختار له الشريك الصالح المناسب له، ونفس الشيء ينطبق طبعًا على الفتاة!
• ورد من البداية عن هذه الفلسطينية أنها امرأة، مع أن الواجب أن يقال عنها أنها فتاة، ولذلك ليس من المستبعد أنها وإن كانت شابة، إلا أنها إما أرملة أو مطلقة، والذي يؤكد هذا أنه من جهة شمشون قيل عنه أنه من الفتيان (ع10).
• تعجبت حين قرأت عن بعض الشراح أن الزواج من فلسطينيات لم يكن ممنوعًا على اليهودي لكون الفلسطينيين ليسوا من الكنعانيين الذين حرّم الله مصاهرتهم والتزاوج معهم، مستندين في هذا بالنص الصريح الذي ورد في (خر16:34؛ تث3:7، 4)، لكون لكونهم عبدة الأوثان مثلهم مثل الكنعانيين، فمن المؤكد أنهم مثلهم تمامًا في ارتكاب نفس الشرور، لأنه من الطبيعي أن كل ديانة ليس مصدرها السماء لها ارتباطًا وثيقًا بالشيطان مهما بدت جذابة، وبالتالي النجاسة ستكون طعام تابعيها والشر بكافة أنواعه سيكون شرابهم.
أ- من حيث أن التفاوض لزواج شمشون كان أمرًا عامًا، يمكننا أن نلاحظ:
+ أنه كان من الحماقة أن يحب واحدة من بنات الفلسطينيين. فهل من هو ليس فقط إسرائيلي بل نذير ومكرس للرب يطمع في أن يقترن بواحدة تعبد داجون؟ هل من تعين لأن يكون ثائرًا وغيورًا لوطنه يتوافق مع من هم أعدائه الألداء؟ إن والديه فعلا حسنًا إذ حاولا أن يثنياه عن أن يكون تحت نير مع غير المؤمنين: أليس في بنات إخوتك وفي كل شعبي امرأة إسرائيلية تعجبك، واحدة يمكن أن تعتبرها جديرة بحبك حتى أنك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين الغلف؟
+ إن لم يكن هناك سببًا خاصًا لذلك، لكان من غير اللائق له أن يصمم على اختياره ولا كان لهما أخيرًا أن يوافقا عليه. إن هذا النذير في خضوعه لوالديه وسؤاله موافقتهما ورضاهما وعدم شروعه في إجراءات الزواج إلا بعد حصوله على موافقتهما، يرى البعض أنه كان مثالًا لكل الأبناء ليقتدوا به.
ب- لكن قيل بوضوح في الكتاب أن فكرة الزواج هذه من الرب (ع4) ليس فقط أن الله تحكم في الأمر فيما بعد ليخدم مقاصده ضد الفلسطينيين، بل إنه وضع في قلب شمشون أن يختار هذا الاختيار وأنهي على كل اعتراض لأبويه، لأنه كان يطلب علّة على الفلسطينيين. على ما يبدو أن الطريقة التي بها ضايق الفلسطينيون بني إسرائيل لم تكن بواسطة جيوش كبيرة، بل بواسطة الغارات والهجمات الخفية لجبابرتهم والجماعات الصغيرة من عصابات النهب والسلب الفلسطينية، لذلك كان يلزم أن يتعامل معهم بنفس الطريقة (بدون حروب أو حمل للسيف)، وهكذا فليدخل بواسطة هذا الزواج بينهم وبه سيجد الفرصة لكي يكون شوكة في أجنابهم.
أما بخصوص الضمير على من يعود في عبارة "لأنه كان يطلب علّة على الفلسطينيين" فيبدو لي أن الضمير يعود على شمشون، لأنه الله الذي يقول للشيء كن فيكون، لا يحتاج إلى علل ليفعل أي شيء. ولكن لو نرجع إلى الخلف قليلًا، سنجد أن الرب سبق أن أخبر أبوي شمشون قبل مولده أنه يبتدأ في أن يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين (قض 5:13)، وليس من المستبعد أنهما أخبراه بهذا الأمر، لأنه من غير المنطقي أن يخبراه عن نذره وعدم قصه لشعره، ولا يخبراه ببقية قصة الحبل به، ولذلك وإن كان قد نسيا هذا الأمر، إلا أن شمشون من المؤكد كان دائم التفكير فيه، ولعل ذهنه هداه إلى الارتباط بأحد الفلسطينيات ليوجد مبرر للاحتكاك بهم، بالفلسطينيين المتسلطين على إسرائيل آنذاك، ولم يخبرهم به كما فعل في قتله للأسد هنا، ومن هذا المنطلق سمح الرب بأن يوافقاه على هذا الزواج رغم استهجانهم من فكرة الزواج من وثنية.
2- الله بتدبير خاص يظهر مباركته لما قصده شمشون من وراء هذا الزواج، إذ:
أ- جعله يتمكن في هذه الرحلة من قتل شبل أسد (ع5، 6):
• كان نزال شمشون مع الأسد ينطوي على خطورة، فقد كان شبل أسد وهو أشرس الأنواع المفترسة ذاك الذي هجم عليه زائرًا لكي يفترسه. وكان شمشون بمفرده في الكروم، وربما جنح من أبيه وأمه إلى هناك ليأكل عنبًا. لو كان شمشون قابل هذا الأسد في الطريق لكان يحق له بالأكثر أن يتوقع معونة من الله والناس، لكنه هنا بمفرده في وسط الكروم وبعيدًا عن الطريق العام وبدون سلاح في يده. لكن كان هناك في الأمر كما قلنا تدبير إلهي خاص.
• كان الانتصار على الأسد شيئًا مجيدًا جدًا. لقد تم نواله بدون أية مشقة أو صعوبة إذ قام بخنق الأسد ومزق زوره بنفس السهولة التي بها يخنق جدي، لكن لئلا يظن أحد أن هذا تم بقوة جسدية عادية قيل "فحل عليه روح الرب" (ع6). لقد كانت قوته عظيمة لكنه لم يفتخر بها، إذ لم يخبر أباه وأمه بما فعل (ع6)، الأمر الذي كان كثيرون سيبادرون بنشره في كل البلاد لو أتوا هذا الفعل. حقًا إن الاتضاع والوداعة يصنعان أبهى إكليل للأعمال العظيمة. ومن المؤكد أنه لم يفتخر بما حدث لكونه شعر يقينًا بأدلة قاطعة على أنه فعل هذا ليس بقوته بل بقوة خاصة من الله، لذلك عرف يقينًا أنه ليس له أن يفتخر بما لا يستطيعه بقوته الشخصية، وبما لا يلازمه كل حين إذ كانت تحل عليه هذه القوة حين يحل عليه روح الله وليس حينما يشاء هو.
ب- بإمداده في الرحلة التالية بعسل من جثة هذا الأسد (ع8، 9). يرجح البعض أن عبارة "ولما رجع بعد أيام لكي ياخذها.. " (ع8)، تعني فترة قد تصل إلى سنة، ولكن ليس ما يسند هذا التحديد، إذ بحسب العرف اليهودي كان يتم كتب الكتاب وتصير المخطوبة زوجة شرعية، يحق له أن يدخل عليها ولكن هذا يتم حين يتم ترتيب مستلزمات بيت الزوجية، وهذه فترة تختلف من شخص آخر بحسب أحواله المادية، ولكن يمكن القول أنها كانت فترة كافية، لأن تنهش الطيور أو الحيوانات المفترسة لحم هذا الأسد وتكون الشمس قد جففت الهيكل العظمي له بحيث يكون مهيأ للنحل ليكون فيه خلية يضع فيها عسله، وهذا الأمر لا يأخذ شهور كثيرة نظرًا لشمس أرض كنعان الشديدة كما هو الحال عندنا.
وعلى كل حال أخذ شمشون عسلًا وأكل منه، وليس من المستبعد أن النحل حاربه بلا هوادة ليمنعه من أخذ العسل، ولكن من لم يخف من أسد، ليس هناك ما يبرر خوفه من لسعات النحل. وبإزاحته للنحل قد تعلم ألا يخشى جموع الفلسطينيين حتى لو أحاطوا به كنحل.
وبخصوص العسل الذي أكله هنا نجد:
• أنه أكله بنفسه ولم يتشكك من جهة الضمير. وليس لنا أن ننسى إن يوحنا المعمدان نذير العهد الجديد قد عاش على العسل البري.
• أعطى لوالديه فأكلا منه، إذ لم يأكل كل ما أخذه من العسل، بل أشرك والديه فيه. ليت من بنعمة الله وجدوا بأنفسهم عذوبة في التقوى ينقلون خبراتهم لأصدقائهم وأقاربهم ويدعونهم للمجيء ويشاركونهم.
• لم يخبر شمشون والديه من أين جاء بالعسل لئلا يتشككا فلا يأكلا منه، فالعسل لا يزال عسل حتى لو جيء به من بطن أسد ميت!
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[10- وَنَزَلَ أَبُوهُ إِلَى الْمَرْأَةِ, فَعَمِلَ هُنَاكَ شَمْشُونُ وَلِيمَةً لأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ الْفِتْيَانُ. 11- فَلَمَّا رَأُوهُ أَحْضَرُوا ثَلاَثِينَ مِنَ الأَصْحَابِ فَكَانُوا مَعَهُ. 12- فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «لَأُحَاجِيَنَّكُمْ لُغَزًا, فَإِذَا حَلَلْتُمُوهُ لِي فِي سَبْعَةِ أَيَّامِ الْوَلِيمَةِ وَأَصَبْتُمُوهُ أُعْطِيكُمْ ثَلاَثِينَ قَمِيصًا وَثَلاَثِينَ حُلَّةَ ثِيَابٍ. 13- وَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَحُلُّوهُ لِي تُعْطُونِي أَنْتُمْ ثَلاَثِينَ قَمِيصًا وَثَلاَثِينَ حُلَّةَ ثِيَابٍ». فَقَالُوا لَهُ: «حَاجِ لُغْزَكَ فَنَسْمَعْهُ». 14- فَقَالَ لَهُمْ: «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ». فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحُلُّوا الُّلغْزَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. 15- وَكَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أَنَّهُمْ قَالُوا لاِمْرَأَةِ شَمْشُونَ: «تَمَلَّقِي رَجُلَكِ لِكَيْ يُظْهِرَ لَنَا الُّلغْزَ لِئَلاَّ نُحْرِقَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ بِنَارٍ. أَلِتَسْلِبُونَا دَعَوْتُمُونَا أَمْ لاَ؟». 16- فَبَكَتِ امْرَأَةُ شَمْشُونَ لَدَيْهِ وَقَالَتْ: «إِنَّمَا كَرِهْتَنِي وَلاَ تُحِبُّنِي. قَدْ حَاجَيْتَ بَنِي شَعْبِي لُغْزًا وَإِيَّايَ لَمْ تُخْبِرْ». فَقَالَ لَهَا: «هُوَذَا أَبِي وَأُمِّي لَمْ أُخْبِرْهُمَا, فَهَلْ إِيَّاكِ أُخْبِرُ؟». 17- فَبَكَتْ لَدَيْهِ السَّبْعَةَ الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَتْ لَهُمُ الْوَلِيمَةُ. وَكَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أَنَّهُ أَخْبَرَهَا لأَنَّهَا ضَايَقَتْهُ, فَأَظْهَرَتِ الُّلغْزَ لِبَنِي شَعْبِهَا. 18- فَقَالَ لَهُ رِجَالُ الْمَدِينَةِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: «أَيُّ شَيْءٍ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ, وَمَا أَجْفَى مِنَ الأَسَدِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «لَوْ لَمْ تَحْرُثُوا مَعَ عِجْلَتِي لَمَا وَجَدْتُمْ لُغْزِي». 19- وَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ فَنَزَلَ إِلَى أَشْقَلُونَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ رَجُلًا, وَأَخَذَ سَلَبَهُمْ وَأَعْطَى الْحُلَلَ لِمُظْهِرِي الُّلغْزِ. وَحَمِيَ غَضَبُهُ وَصَعِدَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ. 20- فَصَارَتِ امْرَأَةُ شَمْشُونَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ يُصَاحِبُهُ. (قض 10:14-20). ]
نزل أبوه إلى المرأة: بالطبع لم تجد فكرة زواج شمشون من فلسطينية قبول لدي أقاربه، لذلك يمكن القول هنا أن الكاتب يود أن يلّمح لهذا الأمر، لأننا سنجد فيما بعد عن موته قيل "فنزل إخوته وكل بيت أبيه وحملوه.. " (قض 31:16).. لذلك لم يأت معه سوى أبيه وأمه (ع16). وإذ رأى أهل العروس أنه لم يأت أحد من أهل العريس لا سيما أنه جرت العادة أن يحضر شباب يصاحبون العريس طوال فترة وليمة العرس التي تستمر لمدة سبعة أيام، لذلك قام أهل العروس إنقاذًا للموقف بدعوة ثلاثين من الشباب الفلسطيني، وعلى رأسهم من يقوم بمقام صديق العريس، فيكون رهن إشارة العريس فيما يطلبه أو ما تتطلبه منه بعض المواقف، الأمر الذي يعني ضمنًا أن له الصلاحيات أن يكون بنفس القرب من العروس كما العريس. وبالطبع كان هو فلسطينيًا، لكون شمشون لم يحضر معه من أقاربه ومعارفه من يقوم بهذه الخدمة له في يوم عرسه.
ولو حاولنا أن نفهم ما بين السطور أو بالأحرى دخلنا خلسة لنفهم أو نسمع ما في الصدور أو القلوب، سنجد أن هؤلاء الشبان المدعوين أو صديق العريس هذا، كان يسوءهم أن يتم زفاف فلسطينية من إسرائيلي وهم بمثابة سادة لليهود في ذلك الوقت، لذلك يمكن القول أنهم جاءوا على مضض ولبوا هذه الدعوة لأجل خاطر أهل العروس فقط، فكانوا مع شمشون (ع11) لمجاملتهم ليس أكثر!
التزم شمشون بعادة البلاد الشرقية آنذاك في عمل وليمة للعرس تستمر لمدة سبعة أيام (ع10)، ولازمه أثنائها أصحابه الثلاثين الذين أعدهم له أهل العروس، ولا أظن أنهم قصدوا مراقبته والتجسس عليه أو حماية أهل العروس منه كما ذهب البعض من المفسرين، إذ هم من ناحية انقلبوا علي أهل العروس كما سنرى بعد قليل، كما أنهم لم يراقبوه ويعرفوا خط سيره ليروا كيف سيأتي لهم بالحلل، إذ لو راقبوه ما كان شمشون سيسعى للحصول على حلل لهم من مواطنيهم من أشقلون (ع19).
نظرًا لوجود شمشون وسط أغراب في هذا العرس وصاروا أصحابه من باب المجاملة، لذلك لكسر جمود عدم الألفة، وربما من ناحية أخرى ليتشفى من بغضه للفلسطينيين في شخصهم، طرح عليهم من باب التسالي والسمر لغز طلب منهم حله خلال فترة سبعة أيام الوليمة التي هم فيها ضيوف عليه، واعدًا إياهم في حالة التوصل إلى حله أن يعطيهم ثلاثين قميصًا وثلاثين حلة ثياب، على أن يعطوه نفس العدد في حالة عدم قدرتهم على حل هذا اللغز (ع12، 13). فوافقوا على هذا الشرط ظانين أن سبعة أيام وقت ليس بقليل، كما أن كثرتهم العددية تتيح لهم ميزة في صالحهم: حاج أحجيتك فنسمعها (ع13).
يبدو أن بمجرد سماعهم اللغز "من الآكل خرج أُكل ومن الجافي خرجت حلاوة" (ع14)، كانت هناك رنة يأس، وليس من المستبعد أن صديق العريس استشعر الخطر الماثل في الأفق بحكم معرفته جيدًا لطباع هؤلاء الأصحاب، فنقل تفاصيل ما حدث للعروس وأهلها في الحال طالبًا من العروس أن تتدخل في الحال لمعرفة حل اللغز بكل طريقة ممكنة بحكم كونها عروس شمشون، على أن تحتفظ بالحل لنفسها وتبوح به إذا لاح تهديد لأسرتها في الأفق.
وقد كان فبدأت هذه المرأة في ممارسة ضغوط شديدة على شمشون سواء بالبكاء أو باتهامه بعدم حبها والوثوق بها.. وكونها تبكي لديه من أول يوم فهذا ينفي ما يقوله البعض أنه لم يدخل عليها، إذ لو نرجع إلى قصه عرس يعقوب من ليئة وراحيل، نجد أن العريس يدخل على عروسه من اليوم الأول، وهذا لم يكن يتعارض مع إقامة الوليمة لمدة سبعة أيام، إذ كان العريس وعروسه يفترقان نهارًا ليلتقيا ليلًا طوال فترة الوليمة. وهكذا بدأت العروس في الضغط قليلًا، قليلًا، دون أن يؤثر هذا في البداية على بهجة المناسبة السعيدة، ودون أن تثير ريبته من جهتها، لأنها علمت أن هناك لا يزال متسع من الوقت، كما أنه لم يلوح في الأفق بعد فقدان كل أمل في حل اللغز من جانب الأصحاب الثلاثين.
أتضح مع نهاية اليوم الثالث ما كان يخشاه ويتوقع حدوثه صديق العريس "فلم يستطيعوا أن يحلوا الأحجية في ثلاثة أيام" (ع14)، وفقد كل أمل في إمكانية حل هذا اللغز المحير، وبدأوا يتهامسون فيما بينهم كيف أنهم جاءوا لمجرد المجاملة وإنقاذ العريس من الحرج لعدم وجود أصدقاء من أقاربه، وإذا بهم يكافئون بغرامة لم تكن في الحسبان، إذ ما طلبه شمشون منهم كان ثمنه غاليًا جدًا، وحتى إن كان لدى كل واحد منهم ما شرطه شمشون، فلماذا يدفعون مجانًا هذا الثمن الباهظ للغز لم يفكروا فيه وأحجية لم يسعوا إليها..
وزادت وتيرة الغضب المكتوم في الصدور، وزاد الهمس والغمز الذي يشير إلى استياء المجموعة وتذمرها للوضع الذي صاروا فيه، فنقل صديق العريس هذه الانطباعات إلى العروس وأهلها لإنقاذ الموقف، وإلا سيكابدون من الأصحاب الثلاثين ما لا تحُمد عقباه، وطلب من العروس أن تكثف من ضغوطها بكافة السبل لأن الوقت يجري بسرعة، فواصلت بكائها بشدة أكثر "فبكت امرأة شمشون لديه وقالت إنما كرهتني ولا تحبني. قد حاجيت بني شعبي وإياي لم تخبر" (ع16).
وكان رد شمشون المنطقي لها بأنه إن كان لم يخبر أبويه، وهو يحبهما جدًا، فلماذا لها أن تتخيل أن عدم إخباره إياها بحل اللغز برهان عدم حبه لها؟ وهكذا صار اللغز مصدر نكد خيم بسحبه الكثيفة والسوداء على أيام وليمة عرسه التي كان ينبغي لها أن تكون من أسعد أيام حياته، إذ قيل "فبكت لديه السبعة الأيام التي فيها كانت الوليمة.. " (ع17).
وحدث ما توقعه صديق العرس والعروس إذ في بداية اليوم السابع والذي يبدأ مع غروب الشمس كما هو المعتاد وكانت تلك الليلة هي الفرصة الوحيدة المتبقية والتي فيها ستختلي بشمشون أن قام الأصحاب الثلاثون بالتهديد العلني فقالوا لها "تملقي رجلك لكي يظهر لنا الأحجية لئلا نحرقك وبيت أبيك بنار. ألتسلبونا دعوتمونا أم لا" (ع15). وفي الحقيقة ليس لنا أن نلومها بالخيانة، إذ الظروف كانت أصعب مما تحتمل، والتهديد بحرقها وأهلها أشد مما كانت تتصور أو تنتظر في أسبوع فرحها، ومن المؤكد أنها ظنت أن شمشون لن يفلت من الموت حرقًا معهم.
قد يقول المرء أنه كان لها أن تبلغه بالتهديد الذي وصلها من الأصحاب الثلاثين ليسعى لأن يجد مخرج من هذا المطب، ولكن من أين لها هذا وعقلها توقف عن التفكير وانحصر في التهديد المسلط كسيف على الرقاب، ثم أنه من ناحية أخرى من أين لها أن تعرف بالقدرات غير العادية التي لزوجها شمشون حتى تلجأ إليه وإليها لتنقذها في موقف كهذا؟ وأخيرًا يمكننا من بين ثنايا السطور أن نلمس التماس العذر لها وذلك في قوله "لو لم تحرثوا على عجلتي لما وجدتم أحجيتي" (ع18)، ومن كونه لم يطلقها، بل تركها لفترة من الزمن ربما على سبيل القصاص وليس البغضة كما تصور أبيها، ولو لم يكن يحبها حقًا ليس فقط ما كان قد أفشى لها سر اللغز، الذي لم يعلم به أبويه، بل أيضًا كان قد قبل الزواج من أختها عوضًا عنها (قض 2:15).
إذ لم يعد أمام زوجة شمشون سوى تلك الليلة فقط، لم تكف عن البكاء من أول لحظة وظلت تضايقه بإلحاحها بشدة لمعرفة سر اللغز، لأن الأمر بالنسبة لها مسألة حياة أو موت لها ولأهلها، وربما لشمشون نفسه بحسب ظنها، فلم يستطع شمشون الصمود إلى الصباح، بعد أن أخذ وعد منها بعدم البوح به لأحد، لأنه ارتاب فيها بسبب إلحاحها الشديد غير المبرر لديه..
ومع الصباح أبلغت المهددين لها، وهم بدروهم سعوا قدر استطاعتهم أن يظهروا وكأنهم عرفوه من تلقاء أنفسهم -منعًا لإحراج زوجة شمشون واتهام زوجها لها بالخيانة له- فصاغوه بطريقة استفهامية شعرية قائلين: "أي شيء أحلى من العسل، وما أجفى من الأسد"(ع18). وكأنهم بأسلوب آخر انتظروا حتى آخر لحظة ليس لعجز عن معرفة الحل، بل لإيهامه بعجزهم عن معرفته فيحرقوا أمنيته بالفوز في اللحظات الأخيرة فيزداد غيظًا على غيظه من إلزامه بتنفيذ الرهان الباهظ الثمن، لأنه أن يقوم كل واحد منهم بتقديم قميص وحلة ثياب، أسهل جدًا من أن يقوم هو بمفرده ليقدم من القمصان والحلل ثلاثين!
ولكن غيظ شمشون كان يرجع بالأساس ليس للرهان الباهظ الذي كان عليه أن يرده بقدر ما أحزنه وأغاظه أنه شعر بالتهديد الذي وقع على زوجته من قبلهم ليصلوا إلى حل اللغز ولولا ذلك ما كانوا استطاعوا للوصول إلى الحل، وليظهر أنه عرف كيف حصلوا على الحل قال لهم "لو لم تحرثوا على عجلتي لما وجدتم أحجيتي" (ع18).
إذ وجد شمشون نفسه ملزمًا بتقديم ما وعد به عند حل اللغز، حل عليه روح الرب، ليستغل الموقف لينتقم من الفلسطينيين المتسلطين على بني إسرائيل، فاتجه إلى أشقلون التي تبعد عن تمنة بحوالي23 ميلًا، والتي ليس من المستبعد أنها كانت تحتفل بعيد أوثانها، لأن الناس عادة لا يلبسون مثل هذه الثياب الغالية إلا في أيام الأعياد أو الأفراح، ودون أن يشعر به أو يتعرف عليه أحد، قتل من رجالها ثلاثين وسلب ثيابهم وأعطاه لهؤلاء الثلاثين وهو في قمة الغضب من خستهم لا سيما وأنه عرف يقينًا من زوجته وأهلها التهديد الذي هددوهم به، ومراعاة لزوجته وأهلها لم يمسهم بسوء، ولكنه بدلًا من أن يصحب زوجته معه إلى بيت أسرته، تركها وصعد إلى بيت أبيه، مع أنها كانت زوجة شرعية وليست سرية كما ظن البعض..
وعلى ما يبدو أن ملابسات والظروف التي أحاطت بالموقف وغياب شمشون -ربما لفترة غير قليلة- اعتبر والد الزوجة أن شمشون بعد معرفته بخيانة زوجته له وإفشاء السر الذي تعهدت له بكتمانه، لن يعود إليها مرة ثانية، لذلك قام بتزويجها لمن قام بدور صاحب العريس لا سيما وأنه كما قلنا من قبل قد يكون لعب دور كبير لخدمة العروس وأهلها كما شرحنا، فكافأه والدها بأن أهداها عروس له (ع20).
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 15 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 13 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-14.html
تقصير الرابط:
tak.la/mm6sag4