* تأملات في كتاب
قضاة: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20
[1- وَكَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي أَيَّامِ حَصَادِ الْحِنْطَةِ أَنَّ شَمْشُونَ افْتَقَدَ امْرَأَتَهُ بِجَدْيِ مِعْزىً. 2- وَقَالَ: «أَدْخُلُ إِلَى امْرَأَتِي إِلَى حُجْرَتِهَا». وَلَكِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَدْخُلَ. وَقَالَ أَبُوهَا: «إِنِّي قُلْتُ إِنَّكَ قَدْ كَرِهْتَهَا فَأَعْطَيْتُهَا لِصَاحِبِكَ. أَلَيْسَتْ أُخْتُهَا الصَّغِيرَةُ أَحْسَنَ مِنْهَا؟ فَلْتَكُنْ. 3- فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «إِنِّي بَرِيءٌ الآنَ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ إِذَا عَمِلْتُ بِهِمْ شَرًّا». 4- وَذَهَبَ شَمْشُونُ وَأَمْسَكَ ثَلاَثَ مِئَةِ ابْنِ آوَى, وَأَخَذَ مَشَاعِلَ وَجَعَلَ ذَنَبًا إِلَى ذَنَبٍ, وَوَضَعَ مَشْعَلًا بَيْنَ كُلِّ ذَنَبَيْنِ فِي الْوَسَطِ,. 5- ثُمَّ أَضْرَمَ الْمَشَاعِلَ نَارًا وَأَطْلَقَهَا بَيْنَ زُرُوعِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ, فَأَحْرَقَ الأَكْدَاسَ وَالّزَرْعَ وَكُرُومَ الّزَيْتُونِ. 6- فَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ: «مَنْ فَعَلَ هَذَا؟» فَقَالُوا: «شَمْشُونُ صِهْرُ التِّمْنِيِّ, لأَنَّهُ أَخَذَ امْرَأَتَهُ وَأَعْطَاهَا لِصَاحِبِهِ». فَصَعِدَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَأَحْرَقُوهَا وَأَبَاهَا بِالنَّارِ. 7- فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «وَلَوْ فَعَلْتُمْ هَذَا فَإِنِّي أَنْتَقِمُ مِنْكُمْ, وَبَعْدُ أَكُفُّ». 8- وَضَرَبَهُمْ سَاقًا عَلَى فَخْذٍ ضَرْبًا عَظِيمًا. ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ فِي شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ. (قض 1:15-8). ]
من حيث أننا قلنا سابقًا أن شمشون دخل على زوجته أثناء فترة الوليمة، لذلك ليس لنا أن نظن أن أباها فكر في تزويجها لصاحبه في الحال، إذ من المؤكد أنه انتظر شهرًا إن لم يكن أشهر، ولما طال غياب شمشون، والأب بدوره لم يسعى لاستجلاء الوضع واستيضاحه، ربما خجلًا من خيانة ابنته لزوجها وربما ترفعًا واستعلاء على ذلك الإسرائيلي الذي ليس من جنسهم ولا مقامهم! ولذلك ما أن تأكد من عدم حبل ابنته من شمشون حتى قام بتزويجها لمن كان صديق العريس أثناء فترة العرس تلك.
لم يكن شمشون على علم بما حدث إذ انقطعت الاتصالات بين الأسرتين طوال تلك الفترة الماضية، التي كما سبق أن قلنا قد وصلت لشهور. ولذلك بمجرد أن هدأت مشاعره وسكن غضبه عادوه الحنين إلى زوجته التي أحبها والتمس لها العذر فيما فعلته، فأخذ جدي هدية ليصالح به زوجته وسعي في الحال إلى الدخول لحجرتها لكونه زوجها الشرعي، ولكنه فوجئ بمنع والدها من دخوله لديها، وبرر موقفه أنه ظن أن شمشون قد كرهها، وكان دليله غياب شمشون عنها طوال الفترة السابقة، فقام بتزويجها لصاحبه، وعرض عليه لتصحيح هذا الخطأ أن يزوجه أختها الأصغر منها واعتقد أن هذا عرضًا سخيًا لكون البنت الصغرى أجمل من أختها الكبرى، ولكن شمشون رفض العرض، ربما لكونه التي كان يحبها هي الكبرى وليس الصغرى، وربما أيضًا لأنه كان يتلكك ليوجد مبرر لإيقاع الأذى بالفلسطينيين، والذي يدفعني إلى تبني نظرية التلكك، هو مع أن الخطأ في حقه كان على نطاق ضيق وعائلي، ولكنه قال "إني برئ الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شرًا" (ع3).
ومن يدري قد يكون هو انتظر من أهل المدينة والجيران أن يعقلوا والدها فلا يعمل هذه الحماقة فيزوج ابنته لآخر دون طلاقها من زوجها، الأمر الذي اعتبره شمشون إهانة ليست بقليلة، ليست لشخصه فقط بل لشعبه، واعتبر أن أهل المدينة متواطئين مع أبيها، فقرر الانتقام من الكل.
لم يقحم شمشون أحدًا من إخوته فيما كان مزمعًا أن يعمله انتقامًا من الفلسطينيين، من ناحية حتى لا يصيبهم أذى بسببه لا سيما وأن الفلسطينيين متسلطين عليهم، ومن ناحية أخرى لأنه لن يجد من يساعده منهم إما من باب الخوف من الفلسطينيين أو لكونهم لم يوافقوه من البداية على مشروع زواجه من هذه الوثنية والغريبة الجنس والتي تنتمي لأعداء إسرائيل، ولذلك خطر في باله أن يستخدم بنات آوي لأكثر من سبب، فهي من ناحية متوفرة بأعداد كبيرة وتعيش في أسراب مع بعضها البعض في الأماكن الخربة (إش22:13)، ومن ناحية أخرى هي تخاف جدًا من النار، ولو قام هو بوضع مشاعل بين كل ذنبين يتم ربطهما ستفقد هذه الحيوانات صوابها ومن شدة الهلع ستجري في كل اتجاه ولو قام هو بتوجيهها نحو مزارع الفلسطينيين ستوقع أكبر قدر من الخسائر في صفوفهم.
ومن الواضح أنه لم يجد صعوبة في مسك العدد المطلوب وحبسه في موضع معين ثم قام بإطلاقها اثنين، اثنين بعد ربط ذيلاهما ببعض ووضع مشعل فيه، وبعد هذا يضرم النار في المشعل ويوجهه نحو حقولهم وبيوتهم. وفعلًا أحرقت هذه الحيوانات الأكداس، ويقصد بها أكوام الحبوب التي تم درسها أو سنابل الحبوب المعدة في أكوام للدرس، وباحتراق هذه من السهل أن تنتقل النار لأي شيء قابل للاشتعال بجانبها، فطالت النار الزرع الأخضر حتى وصلت إلى الأشجار ولحقت النار بأشجار الزيتون وكروم العنب، وهذه وتلك خشبها يقدم وقود مناسب لاشتعال النار أكثر.
وبخصوص عبارة "كروم الزيتون" نود القول إن هذا التعبير لم يقال من باب الاختصار فقط، إذ من المعروف أن شجر الزيتون ليكون جيد التهوية وتصل أشعة الشمس إلى كل جزء فيه وتمنع الإصابة بالآفات الزراعية، يتطلب الأمر أن يتم زراعته بحيث تكون هناك مسافة كبيرة تصل إلى ثمانية أمتار أحيانًا، وهذه مساحة كبيرة، لذلك يقوم البعض بزراعة كروم العنب بين هذه المساحات الكبيرة للاستفادة من الفراغ الكبير في الأرض، لذلك جاز القول هنا "كروم الزيتون".
من المرجح جدًا أن شمشون قام بهذا العمل بمفرده، إذ كما سبق أن قلنا لن يجد من يساعده من بني جنسه لخوفهم من الفلسطينيين ولخوفه عليهم من الانتقام، كما لن يقبل أحد من الفلسطينيين مساعدته لأنهم بالطبع عرفوا بما عمله صهره التمني وتوقعوا الانتقام، ولذلك أي طلب سيطلبه من أحدهم سيثير الريبة وقد يفسد عليه ما يخططه، لذلك هو قام بتجميع هذا العدد من هذه الحيوانات وحبسها وإعداد المشاعل ومتطلباتها بنفسه(23) ولو على مدى عدة أيام في سبيل أن لا يعرف أحد ما ينتوي عمله ولا يفسد عليه خططه التي بها سوف ينتقم منهم جميعًا.
وقد يكون البعض من الفلسطينيين قد لمحه وهو يقوم بتجميع هذه الحيوانات دون أن يفهم لماذا يفعل هذا، ولكن مع انطلاق هذه الحيوانات والمشاعل مربوطة بين ذيلي كل اثنين ليلًا وانتشار الحرائق هنا وهناك، عرفوا بسهولة من الذي كان وراء هذه الحرائق التي كبدتهم خسائر فادحة.
حقًا ما أعجب سخرية القدر إن جاز التعبير، فها زوجة شمشون أفشت أسره لتنجو من الموت حرقًا هي وبيت أبيها، ولكن لحكمة إلهية لا نعلمها، قد حُكم عليها وبيت أبيها بهذه الميتة بالذات دونًا عن غيرها، ومن يدري لو كانت أخبرت زوجها بالتهديد الواقع عليها هي وأسرتها لكانت الرواية اتخذت مسار آخر. ولذلك يمكن القول أن الضرر الذي نسعى لأن نفلت منه بوسائل غير مشروعة، كثيرًا ما نجتذبه رغمًا عنا ليأتي على رؤوسنا!
وحول (ع7) جاء في السنن القويم ما يلي:
[ولو فعلتم هذا فإني انتقم منكم: أي ولو فعلتم هذا لإرضائي، فإني انتقم منكم، لأنه إساءة فوق إساءة، فإنكم هددتم زوجتي حتى خانتني فغضبت عليها وفارقتها فخسرتها. وما كفاكم ذلك حتى أحرقتموها وهي التي أحبها، فزدتم على أحزاني حزنًا عظيمًا، ولذلك انتقم منكم انتقامًا يشفي غيظي ويخفف أحزاني..
وبعد أكف: أي بعد أن انتقم منكم كل الانتقام، أكف عن النقمة. ]
يمكن القول أن شمشون كان يتلكك ليوجد مبررًا شكليًا لصب غيظه على الفلسطينيين، لذلك أيًا كان التصرف الذي يأتونه فهو يتخذ منه مادة لمبرر به ينتقم لشعبه منهم. ولذا إذ لم يكن في يده آلة بها يحارب بها ويوقع الأذى بصفوف الفلسطينيين، لم يجد هناك سوى أن يركلهم ويضربهم برجليه بكل ما أوتي من قوة آنذاك فوقعت ضربات قدمه إما على أفخاذهم أو سيقان أرجلهم (ع8)، فسقطوا تحت ضرباته القوية كما النعاج، الأمر الذي أصاب كبريائهم بأذى ليس بقليل، فلم يحتملوا السكوت على هذه الإهانات والخسائر التي لحقتهم من شخص واحد ينتمي إلى شعب هم الأسياد الفعليين له.
بعد أن انتهى شمشون من التشفي منهم وشفى غليله وغيظه منهم، نزل من عندهم إلى حصن طبيعي على قمة صخرة عيطم وانتظر ليرى ماذا يكون رد فعل الفلسطينيين على ما فعله فيهم. أما عيطم هذه فمن الواضح أنها تقع في أرض سبط يهوذا، لأن إليهم دون غيرهم مضى الفلسطينيين ليمسكوا شمشون (ع10).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
[9- وَصَعِدَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَنَزَلُوا فِي يَهُوذَا وَتَفَرَّقُوا فِي لَحْيٍ. 10- فَسَأَلَهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا: «لِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيْنَا؟» فَقَالُوا: «صَعِدْنَا لِنُوثِقَ شَمْشُونَ لِنَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِنَا». 11- فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ يَهُوذَا إِلَى شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ, وَقَالُوا لِشَمْشُونَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا؟ فَمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمَا فَعَلُوا بِي هَكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ». 12- فَقَالُوا لَهُ: «نَزَلْنَا لِنُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ إِلَى يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ». فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: «احْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ». 13- فَأَجَابُوهُ: «كَلاَّ. وَلَكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ إِلَى يَدِهِمْ, وَقَتْلًا لاَ نَقْتُلُكَ». فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ وَأَصْعَدُوهُ مِنَ الصَّخْرَةِ. 14- وَلَمَّا جَاءَ إِلَى لَحْيٍ صَاحَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَائِهِ. فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ, فَكَانَ الْحَبْلاَنِ اللَّذَانِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ كَكَتَّانٍ أُحْرِقَ بِالنَّارِ, فَانْحَلَّ الْوِثَاقُ عَنْ يَدَيْهِ. 15- وَوَجَدَ فَكَّ حِمَارٍ طَرِيًّا, فَأَخَذَهُ وَضَرَبَ بِهِ أَلْفَ رَجُلٍ. 16- فَقَالَ شَمْشُونُ: «بفَكِّ حِمَارٍ كُومَةً كُومَتَيْنِ. بِفَكِّ حِمَارٍ قَتَلْتُ أَلْفَ رَجُلٍ». 17- وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ رَمَى الْفَكَّ مِنْ يَدِهِ, وَدَعَا ذَلِكَ الْمَكَانَ «رَمَتَ لَحْيٍ». (قض 9:15-17). ]
1- تعقب الفلسطينيون لشمشون والسعي بكل اجتهاد للإمساك به. إذ مضوا إلى يهوذا وانتشروا(24) في أعالي المنطقة وأسفلها مفتشين عن شمشون إذ سمعوا أنه سلك هذا الطريق. هنا تم إرسال جيش ضد شخص أعزل، ولما لا وقد أدركوا عمليًا أن ما أتاه من أعمال لا يقدر عليها شخص عادي، ونفس الانطباع كان لدى رجال سبط يهوذا، لذلك حين خرجوا للبحث عن يهوذا كان عددهم ثلاثة آلاف رجل.
وعلى نفس المنوال تم إرسال فرقة كاملة من المسلحين لإلقاء القبض على ربنا يسوع المسيح. ولو كانت ساعة ذلك الطوباوي قد حانت لكان أقل من عشر هذا العدد يكفي للقبض عليه وقتله، لكن هنا لا يمكن لأحد أن يمسه بأذى ولو كانت عددهم بالآلاف طالما أن ساعته لم تحن بعد.
2- قيام رجال يهوذا بخسة بخيانته وتسليمه للفلسطينيين (ع11). هل كانوا من يهوذا؟ إنهم لأغصان منحطة وفاسدة من ذلك السبط الشجاع! ومن يدري ربما كانوا ساخطين على شمشون وغير راضين عنه لأنه لم يكن من سبطهم، كما فعل رجال أفرايم مع جدعون ويفتاح. وهذا ليس بأمر مستبعد في أيام الظلمة والفساد الروحي، أن يتصرف رجال يهوذا أيضًا بدافع من ولعهم الأحمق بأولويتهم ورئاستهم المفقودة، فيفضلون بالأحرى أن يكونوا تحت نير الفلسطينيين عن أن يتم خلاصهم بواسطة واحد من سبط دان.
ومن المؤكد أنه لو ارتفعت نظرتهم الضيقة ورأوا فيه مخلصًا والتفوا حوله كقائد ومخلص لكان فعل أعاجيب وخلصهم من نير الفلسطينيين. وعلى العموم كثيرًا ما تتدخل مسائل الكرامة المزعومة والحسد والغيرة في أمور تختص بخلاص الكنيسة ونهضتها وانتعاشها روحيًا. إن الخطية تذل الناس، بل تسحرهم وتخفي عن أعينهم ما يختص بسلامهم. ربما مضى شمشون إلى تخوم يهوذا ليعرض عليهم خدماته مفترضًا "أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة كما فعل موسى (انظر أع25:7).
وبدلًا من أن يتصرفوا على هذا النحو، إذا بهم يطلبون منه أن يسمح لهم أن يربطوه ويسلموه للفلسطينيين. يا لهم من تعساء وأوغاد جبناء وغير شاكرين، إذ رفضوا خلاصًا هذا مقداره كان يمكن أن يتم على يد شمشون!
3- خضع شمشون بوداعة وارتضي أن يربطه مواطنيه ويسلموه لأيدي أعدائه الهائجين عليه (ع12، 13)، ولو شاء أن يوبخهم على جبنهم ويعيّرهم على عدم وضع يديهم في يده للمقاومة بدلًا من تسليمه بخسة ليد الأعداء، ما كان أحد يلومه أو يستطيع الرد عليه، ولو شاء أن يقاوم لكان قتل منهم الكثير وهرب منهم ولكنه لم يشاء أن يلطخ يديه بدماء أبناء وطنه. وعمومًا هو خضع بصبر:
أ- لكيما يعطي مثالًا لوداعة عظيمة ممتزجة بقوة وشجاعة فائقتين، بكونه إنسانًا ساد على روحه وعرف كيف يخضع وكيف ينتصر.
ب- لكيما إذ تم تسليمه للفلسطينيين يمكن أن تُتاح له فرصة لينزل فيهم ويشبعهم قتلًا.
ج- لكي يكون مثالًا للمسيح الذي عندما أظهر ما كان يمكنه عمله عندما طرح أرضًا من تقدموا لإلقاء القبض عليه (يو6:18)، ومع ذلك سلّم نفسه ليربطوه ويقودوه كما حمل للذبح. لقد برر شمشون نفسه فيما فعله ضد الفلسطينيين "كما فعلوا بي، هكذا فعلت بهم" (ع11)، لقد كانوا هم البادئين، ولذلك لست أنا الملوم بل هم. بعد هذا أخذ شمشون منهم تعهد بقسم أن لا يقتلوه لأن هذا ما نخرج به من عبارة "لا تقعون عليّ" (ع12)، حينما نضعها بجانب عبارة "قتلًا لا نقتلك" (ع13).
وحينما اطمأن إليهم سلم نفسه ليديهم ليربطوه، وكان هذا تصرف يتسم بالخيانة والغدر، لأنهم يعلمون جيدًا أن الفلسطينيين لن يرحموه، ولو كان لديهم ولو ذرة من المروءة، لكانوا اكتفوا بتسليمه دون تقييده إذ يكفي الأعداء أن يظهر أمامهم أعزل بدون سلاح بينما هم أغلبية ساحقة عدديًا.
د- ولكيما يبذل ذاته عن شعبه ولا يسبب لهم حزنًا أو قتلًا، إذ شعر أن تسليم نفسه للأعداء سيسكن غضبهم ولا يؤذوا رجال يهوذا.
4- أحسن شمشون القيام بدوره ضد الفلسطينيين حتى عندما تم تسليمه لهم وهو مكتوف الأيدي ومربوط بحبلين جديدين. عندما صار شمشون بينهم وفي متناول أيديهم صاح الفلسطينيين للقائه وهم متهللين بنجاحهم وصابين لعناتهم عليه. وإذ هتفوا ضده كإنسان ذليل واثقين أنهم ملكوا زمام الأمر، آنذاك حل عليه روح الرب، وإذ التهب هكذا:
أ- تخلص في الحال من قيوده. إن الحبلين انحلا لدى أول محاولة للتخلص منهما، الأمر الذي بدون شك سبب دهشة عجيبة ورعبًا لمن صاحوا للقائه، فانقلب صياحهم إلى رعب وخوف شديدين.
انظر فحيث روح الرب هناك توجد حرية، فمن حررهم الروح يكونون بالحق أحرارًا. وهذا يرمز إلى قيامة السيد المسيح بقوة روح القداسة، فبه فك قيود الموت، وحباله -أي الكفن- سقطت من يديه بدون أن تُحل -كما كان لعازر- لأنه كان يستحيل أن يُمسك منها المخلص الجبار، وهكذا انتصر على قوات الظلمة التي صاحت للقائه كما لو كانت قد تأكدت من إمساكها له.
ب- قتل شمشون لعدد كبير من الفلسطينيين الذين تجمعوا للاستهزاء به (ع15). انظر كم كان تسليحه بسيطًا إذ لم يجد سوى لحي(25) حمار، ومع هذا فما أعظم ما أنجز به، إذ لم يتركه من يده إلا بعد أن قتل به ألف فلسطيني، الأمر الذي يوحي ضمنًا أن عددهم كان عدة آلاف، هرب معظمهم! ولو كان اللحي لحي الأسد الذي سبق أن قتله لربما كان هذا ساعده على أن يعلّي إعجابه بنفسه، فيظن نفسه مخيفًا ومرهبًا بالأكثر، لكن أن يستخدم عظم هذا الحيوان المزدرى لصنع عجائب فهذا لكيما يكون فضل القوة لله وليس لإنسان. وصحيح ماذا كان يمكن أن يصنع لحي طري لحمار حديث الموت أمام جموع يقدر عددها بالآلاف لولا أن نعمة الرب تدخلت وحسمت المعركة لصالح شمشون. إن الذي أوقعهم أمامه هو الرب. وطالما أن نعمة الرب اختارت لحى حمار ميت والذي في عرف الناموس نجس، فليس لشمشون أو غيره أن يعترض، إذ ما طهرته نعمة الله ليس لأحد أن يعتبره نجس.
كان يمكن رؤية مثل هذا السقوط أمام شمشون وموت الفلسطينيين بهذا العدد الكبير أن يشفي رجال يهوذا من جبنهم ويهبوا للانقضاض على الفلسطينيين ويساعدوه، ولكن كيف هذا وهو مقدر له أن يكون كسيده الرب الذي كان له أن يجوز المعصرة وحده؟
5- لم يكن هناك أحد من رجال يهوذا مع شمشون ليحتفل معه بهذا الانتصار الذي حققه الله على يديه، ولذلك بادر هو بالاحتفال به بمفرده فألف أغنية قصيرة لنفسه كان قرارها بلحي حمار كومة كومتين، بلحي حمار قتلت ألف رجل (ع16). ونفس الكلمة التي تعني حمار وكومة في العبرية واحدة، ولذلك هذا جناس بديع ويمثل الفلسطينيين ساقطين أذلاء كالحمير أمامه. وأعطى شمشون للمكان اسمًا ليدعم ذكرى مهانة الفلسطينيين (ع17):"رمت لحي" ومعناها تل عظمة الفك، أو رمية الفك. ومما هو جدير بالذكر أنه لم يحتفظ بعظمة الفك هذه ليتباهى بها في كل موضع يمضي إليه، بل طرحها في الحال بمجرد انتهائه من الاستفادة بها، إذ لم تكن هناك أهمية وتقدير لمثل هذه الآثار.
[18- ثُمَّ عَطِشَ جِدًّا فَدَعَا الرَّبَّ: «إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِيَدِ عَبْدِكَ هَذَا الْخَلاَصَ الْعَظِيمَ, وَالآنَ أَمُوتُ مِنَ الْعَطَشِ وَأَسْقُطُ بِيَدِ الْغُلْفِ». 19- فَشَقَّ اللَّهُ الجَوْفَ الَّذِي فِي لَحْيٍ, فَخَرَجَ مِنْهَا مَاءٌ, فَشَرِبَ وَرَجَعَتْ رُوحُهُ فَانْتَعَشَ. لِذَلِكَ دَعَا اسْمَهُ «عَيْنَ هَقُّورِي» الَّتِي فِي لَحْيٍ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. 20- وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ عِشْرِينَ سَنَةً. (قض 18:15-20). ]
1- الضيق الذي كان فيه شمشون بعد هذا العمل العظيم (ع18). بعد الجهد الشديد الذي بذله شمشون في قتاله ضد الفلسطينيين وجد نفسه يكاد يخور ويموت لأجل احتياجه الشديد للماء. قال يوسيفوس أن المقصود بهذا كان عقابه لأنه لم يذكر الله ويده في ذكرى هذا الانتصار الذي أحرزه إذ نسب المجد كله لنفسه قائلًا: قتلت ألف رجل.
2- صلاته لله في ضيقته: الذين ينسون فضل الله فلا يقدموا له التسبيح اللائق به، يُجبرون على تذكره والالتفات إليه في الصلاة. كثيرًا ما تُرسل البلايا لكيما تُحضر غير الشاكرين إلى الله. وفي هذه الصلاة يتحاجج مع الله بشيئين:
أ- يعترف بأنه عبد لله فيما فعل ودعا انتصاره خلاصًا "هذا الخلاص العظيم" لأنه لو لم يساعده الله، ما كان انتصر على الفلسطينيين، بل كانوا قد ابتلعوه وقضوا عليه. انظروا كيف أن الخبرات السابقة برحمة الله وصلاحه هما ذرائع قوية في الصلاة لطلب مزيد من الرحمة من لدنه.
ب- هو الآن مُعرّض لأن يقتله أعداؤه: لئلا أسقط بيد الغلف، وآنذاك سينتصرون عليّ ويخبرون بانتصارهم في جت وشوارع أشقلون (انظر 2صم20:1).
3- نجدة الله له في حينه: سمع الله صلاته وأرسل له ماءًا إذ "شق الله الكفة التي في لحي فخرج منها ماء فشرب" وقد جاءت الكفة، جرن في هامش إنجيل الشواهد، وأيًا كان، فيبدو أنه موضع صخري جعل الله الماء يتفجر منه بطريقة إعجازية، فشرب منه شمشون وانتعشت روحه. وقد كان هذا في محيط تلك المنطقة التي أطلق عليها شمشون لحي، واحتفظت بذات الاسم لحين كتابة هذا السفر أيام صموئيل النبي.
حقًا أن الماء نعمة لا نشعر بقيمتها إلا حين يحدث جفاف، ولقد تابع العالم في مختلف وسائل الإعلام المختلفة بالصوت والصورة مدى الخراب والقحط والموت الذي يحل بالمناطق التي ينعدم فيها سقوط الأمطار، لذلك علينا أن لا نكف عن شكر الله في كل لحظة نرتوي من الماء وتنتعش نفوسنا.
4- كتذكار لهذه الحادثة أعطى شمشون لهذا النبع المتدفق اسم عين هقوري، ومعناه "عين الذي دعا". وبهذا حفظ للذكرى كلًٍ من ضيقه وعطشه ومعروف الله معه. كثيرًا ما يفتح الله لشعبه ينابيع عزاء يمكن عن حق أن تُدعى بهذا الاسم: إنه عين الذي دعا. أعطى شمشون اسم للموضع الذي ظهرت فيه عظمته وفيه انتصر "رمت لحي"، لكن هنا أعطاه اسم آخر يشير إلى عوزه واتكاله على الله
5- استمرار شمشون كقاضي بعد هذه الإنجازات والانتصارات (ع20). وربما بعد هذه الحادثة الشهيرة وما صاحبها من معجزة إرواء عطشه، خضع له بني إسرائيل واعترفوا بكونه قاضي، أرسله الله ليخلصهم ولو جزئيًا من الفلسطينيين ويقتص ممن كان يذلهم وربما قد يكون استرد بعض أشياء سلبها منهم الأعداء وقد يكون فصل في بعض القضايا والخلافات الصعبة، ولا يوجد ما نجزم به إذ لم يذكر الكتاب شيء عن مثل هذه الأمور.
_____
(23) علينا أن نضع في الحُسْبَان قوته غير العادية، فقد يكون الله قد ساعده في إمساكها بسهولة لأنها تخدم غرضه في الانتقام من أعداء شعبه، ومن يدري قد يكون شمشون أعد شباك بها يمسك أعداد كبيرة وينتهي من صيدها بسرعة.
(24) لو نرجع إلى (2صم22:5) سنجد هناك أيضًا أن الفلسطينيين صعدوا وانتشروا في وادي الرفائيين، ولذا يمكن اعتبار الصعود والتفرق في لحي كان له مغزى حربي، وبتعبير آخر هم جاءوا متسلحين بعدة الحرب للقتال إذ ا لم لزم الأمر، وهذا ما أخاف رجال يهوذا وقرروا تسليمه لهم. ومن ناحية أخرى، منطقة لحي الواردة في (ع9)، على ما يبدو لا تشتق اسمها من كونها تشبه لحي الحمار جغرافيًا، بقدر ما صارت منطقة تحمل هذا الاسم منذ الحادثة المذكورة بعد قليل (ع17).
(25) لحى الحمار أي فكه السفلي المتحرك.
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير القضاة 16 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري |
تفسير القضاة 14 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/chapter-15.html
تقصير الرابط:
tak.la/bba2cn3