* تأملات في كتاب
قضاة: |
شرح سفر القضاة
+ سفر القضاة هو السفر الثاني من أسفار الثاني من أسفار الأنبياء، وفيه يصف تاريخ الفترة ما بين موت يشوع بن نون وظهور صموئيل النبي والقاضي والكاهن.
+ والقضاة هم الذين قادوا شعب إسرائيل في تلك الفترة لإجراء الحق والعدل بين الشعب.
+ القاضي مثله مثل النبي مدعو من الله وعمله يكون سبب نجاة وخلاص للشعب من ضيقاته.
+ لذلك معنى القاضي هو المنقذ أو المخلص وكان صموئيل آخر قضاة بني إسرائيل.
+ القاضي هو المؤهل للقيام بفضل من دعاه وأهله بقوته الإلهية ألا وهو الله بذاته، لذا نرى روح الله لبس جدعون أو امتلكه بقوة وشمشون حل عليه روح الرب.
+ نرى أيضًا القضاة تمتعوا بمواهب روحية وقيادية لخلاص الشعب.
+ هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ فيه النص وشرحه والتأمل في بعض أموره لذا عندما تدرسه، تأمل عمل الله مع شعبه بني إسرائيل، مرة يسانده ومرة أخرى يؤدبه.
+ إنها صورة لعمل الله مع شعبه المؤمن به الذي يقودهم بروحه القدوس.
+ أطلب من الله أن يجعل هذا الكتاب سبب بركة لكثيرين ويبارك في مجهود أبونا القس أنجيلوس المقاري الذي تعب كثيرًا في إخراجه بهذه الصورة الرائعة، وأيضًا يزيده الله بركة ونعمة وإرشاد حتى يخرج لنا ما عنده من معرفة حتى يستفيد الجميع من أبحاثه.
بصلوات البابا تواضروس الثاني الذي دائمًا يشجع أولاده في البحث والاستقصاء يبارك هذا العمل، ولربنا المجد والكرامة إلى الأبد آمين.
← الفرق بين الملك والقاضي - كاتِب السفر - فترة عصر القضاة - الموضوعات الرئيسية
نحن هنا مع السفر الثاني من أسفار الأنبياء رغم أن الصبغة التاريخية هي التي تغلب عليه، وإن قلنا تاريخية إلا أنه ليس لنا أن نتوقع منه تاريخًا شاملًا ووافيًا لكل الأحداث التاريخية التي تغطى فترته الزمنية التي قصدها الكاتب أثناء كتابته، بل كاتب أي سفر مقدس لا يسجل لتاريخ شخص أو حدث إلا من جهة ارتباطه بتطور ملكوت الله بين البشر، لأن التاريخ المقدس هو بالأساس تاريخ ملكوت الله أولًا، أما تاريخ الأفراد أو الأحداث فهو يأتي في المرتبة الثانية.
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم لماذا مثلًا لم يأت ذكر البتة لخمسة من القضاة سوى أسمائهم رغم أن الذي أقامهم قضاة هو الله وليس بشر، ولأجل هذا السبب أيضًا نجد أنه يتم أحيانًا اختيار بعض أحداث قد تبدو للقارئ السطحي تافهة أو عسيرة الفهم، ولكن الدراسة المدققة والمتأنية ستُظهر أن المغزى الحقيقي من وراء هذه القصص أو الأحداث هو توضيح أحد المبادئ العظيمة لتدبير العهد القديم. بل ومن هذا المنطلق أيضًا ليس لنا أن ننتظر أو نتوقع ترتيب وتسلسل تاريخي للأحداث في بعض الأحيان، إذ الترتيب التاريخي لإصحاحات السفر يأتي على النحو التالي: (قض 2: 6 - 9؛ 1؛ 2: 10 - 13؛ 2 :1- 5؛ 17-21؛ 2: 14-23؛ 3-16).
وما دمنا في سياق التكلم عن التسلسل التاريخي سنجد أنه قد يقضي قاضي ما لسبط أو أكثر أو لكل الأسباط ويأتيهم بخلاص من مضايقيهم، الأمر الذي يجعله معاصر لآخر في جزء مختلف من الأراضي المقدسة وهذا ما يؤكده قول دبورة النبية: "قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين في الشعب باركوا الرب" (قض9:5) فهنا كلامها عن وجود أكثر من قاضٍ يقومون بمباركة الرب. ومن هنا نجد أن تحديد فترة حكم القضاة بالدقة المطلوبة أمر عسير تحقيقه رغم اجتهاد كثير من المفسرين في هذا الأمر.
يمكننا القول أن هذا السفر منقسم إلى ثلاثة أجزاء، مقدمة عامة (قض 1:1-6:3) تشكل الإطار العام لخط سير فترة القضاة من جهة كيف بدأ الشعب يتراخى روحيًا رغم أن الجذوة الروحية كانت لا تزال مشتعلة أثناء حياة يشوع ومن عاصره من الشيوخ، وكيف تقاعسوا عن التعامل كما ينبغي مع أهل كنعان، إلى أن وبخهم الله في عهد يشوع (قض 1:2-5)، لتبدأ دورة من ارتداد ثم مضايقة من الأعداء ليقيم الرب لهم مخلصًا، وهنا يبدأ الجزء الثاني لمجموعات ستة من الأحداث (قض 7:3-11؛ 12:3-31؛ 4،5؛ 1:6-5:10؛ 6:10-15:12؛ 13-16)، ثم يختم الكاتب بملحق عبارة عن حدثين منفصلين اختارهما من فترة زمنية مبكرة لعصر القضاة، وهذا ما يتضح من مقارنة 1:18 مع 34:1، و28:20 مع (يش33:24)، والمقصود من أول القصتين وصف الحالة الدينية، أما الثانية فهي لوصف الانحلال الأخلاقي بين أسباط إسرائيل، وكليهما خير من يلقي ضوءًا كافيًا على فترة عصر القضاة برمتها ويجسدها.
سنرى كيف أنه بعد موت يشوع سريعًا ما تدهورت إسرائيل روحيًا باختلاطها بمن حولها من الوثنيين مما أدى إلى عمل خلط ومزج بين الطقوس الوثنية وعبادة الله، وتدهورت على المستوى القومي بتوقف الأسباط عن شن حروبها ضد الكنعانيين، والتفات الأسباط إلى مصالحها الشخصية فقط والتناحر الناتج عن الغيرة بغض النظر عن الصالح العام (قض 15:5-17، 23؛1:8-9)، إلى أن شن الإفرايميون الحرب ضد يفتاح (قض 1:12-6)، ووصل أبناء سبط يهوذا إلى درجة من الخسة حتى أنهم سلموا شمشون إلى أيدي أعدائهم الفلسطينيين (قض 9:15-13)!
وإلى جانب هذا التدهور والانحطاط الذي أصاب إسرائيل، سنرى تدهور مماثل في المستوى الروحي للقضاة إذ لن نرى شمشون ويفتاح على نفس المستوى الروحي الذي لعثنيئيل. لقد كانت مهمة هؤلاء القضاة بالأساس محلية ودائمًا وقتية. لقد أقام الله مخلصًا معينًا في وقت محدد لاحتياج خاص. ومن الواضح تمامًا أن مثل هذه الآنية لم تكن دائمًا وبالضرورة تحت تأثير دوافع روحية. إن الله على كل مدى فترات التاريخ استخدم ما يشاء من آلات ليخلص شعبه، فسيان عنده أن يستخدم كورش أو داريوس أو حتى غمالائيل، مع أنه يبدو للعيان أن مثل هؤلاء أبعد ما يكون عن تحقيق مقاصده. لكن فيما يختص بتاريخ القضاة، فيبدو واضحًا على الدوام أنه يتم اختيار الأفضل روحيًا وأخلاقيًا على مستوى المكان أو الزمان، حتى أنه يمكن القول إلى حد بعيد أن القضاة خير من يعطون الانطباع أو المعيار للحالة الروحية والأخلاقية لزمانهم ومكانهم. ففي كل واحد منهم يمكننا أن نلحظ وجود إيمان حقيقي (انظر عب11) يعمل كقوة رافعة لتحقيق ما عليهم إنجازه، مع أن إيمانهم كثيرًا ما يختلط بمفاسد زمانهم ومكانهم. لقد كان القضاة بحق يمثلون شعب إسرائيل من جهة الإيمان والرجاء وأيضًا خطيته وفساده. فكل ما أنجزه القضاة كان بالإيمان، وحتى فيما يختص بشمشون، فإن كل أعماله العظيمة أنجزها من منطلق إيمانه بعطايا الله له كنذير، وعندما كان يحل عليه روح الله. ومن ثمَّ فإن القضاة جديرون بأن نحسبهم في قائمة أفاضل العهد القديم، لكن من ناحية أخرى ليس لنا أن ننسى تأثير روح عصرهم عليهم.
ليس لنا أن نفهم كلمة "قاض" بحسب مفهوم اليوم والذي عمله الأساسي يتخلص في فض النزاعات ومعاقبة أي متعدي للقانون، وإلا لن يفرق عمل القاضي المذكور هنا عن القضاة الذين تم تعيينهم منذ أيام موسى بناء على مشورة حموه يثرون وكانوا يعملون على مستوى رؤساء مئات وألوف ورؤساء الأسباط، بل القاضي المذكور هنا هو شخص معين من الله لقيادة الأمة ومهمته في الأساس لتحرير شعبه من سيطرة من يستعبدهم وهذا ما نفهمه من القول "وأقام الله قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم" (قض 16:2)، مع العلم بأن لقب القاضي لم يأت بطريقة مباشرة في أحايين كثيرة، إنما جاء الفعل "قضى". ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء القضاة كانوا يبتون في القضايا العويصة كما كان الحال مع دبورة النبية التي كان الشعب يصعد إليها لأجل هذا الغرض (قض 5:4)، وربما من لم يأت السفر على شيء لهم سوى أسمائهم قد يكون عملهم قاصرًا على البت في القضايا العويصة للشعب.
ولو سنضع هذا في بالنا سنجد أن باراق لا يمكن أن نقول عنه أنه من القضاة بل كان هو مجرد قائدًا عسكريًا ساعد دبورة النبية في مجال تخصصه، بينما كانت هي القاضية الفعلية للأمة، وبهذا يكون عددهم اثني عشر قاضيًا. ويبدو أن الهدف من ذكر الأثني عشر قاضيًا -يمثلون كل أجزاء أرض كنعان وشرقي الأردن- هو إثبات أن كل الأسباط في الجهات المختلفة قابلوا متاعب شديدة من أعداء مختلفين، من الآراميين والموآبيين والعمونيين والكنعانيين والفلسطينيين، فكان الضغط على إسرائيل شديدًا على كل التخوم تقريبًا.
لقد كان شمشون آخر القضاة المسجلين في هذا السفر، وقد يبدو غريبًا لماذا لم يتم إضافة عالي أو صموئيل إلى هذا السفر لا سيما وأنه جاء ذكر لكون عالي قد قضى إسرائيل لمدة أربعين سنة (1صم18:4)، وبكون صموئيل قضى لإسرائيل كل أيام حياته (1صم15:7). أما بالنسبة لعالي فقد كان عمله كقاضٍ مشتق من طبيعة عمله كرئيس للكهنة وليس في هذا من جديد. هذه نقطة، أما النقطة الثانية فهي كونه أخفق في تربية بنيه وفي منع الشعب حتى من أخذ تابوت العهد إلى ساحة الحرب، كما أنه لم يساهم بشيء في وقف مضايقة الفلسطينيين أو استيلائهم على تابوت العهد. أما صموئيل فهو ما من شك آخر القضاة وأعظمهم، ولكنه يفرق عنهم في كونه نبي للرب وقد ساهم في صنع خلاص عظيم لإسرائيل من الفلسطينيين ليس بقيادة الجيش في الحرب، بل بقوة كلمة الصلاة وشفاعته المقبولة لدى الله عنهم. وغير هذا كان وضعه كما يوحنا المعمدان بين العهدين، لذلك كان جديرًا بأن تُذكر سيرته وأعماله في سفر منفصل عنهم. وأخيرًا فإن عمله كقاضي كان مُستمد ومُعان بالأكثر من وظيفته النبوية.
لقد سقط الشعب في تيه روحي وهم في داخل الأرض المقدسة كما سقط أبوانا الأولين وهما في جنة عدن، لقد سقطوا في العبودية لفرعون في أرض مصر وهاهم يسقطون في العبودية لأمم كثيرة بعد أن ورثوا أرض الموعد، الأمر الذي يظهر الفشل الرهيب الذي نعانيه بسبب رفضنا أن يملك الله علينا ويقود حياتنا، ويكشف عن فساد قلب الإنسان فبعد كل بركة إذ يستريح يرتد عن الله طالبا ملذاته الخاصة ومع ذلك فالله في طول أناته يرسل خلاصا، ولذا يمكننا أن نقدم الشكر لله أنه لا يترك شعبه بلا مخلص أو محرر، بل من منطلق محبته الفائقة ينتشله في الحين الحسن من يأسه وضياعه، بعد أن يتركه قليلًا ليأكل من ثمرة عصيانه ويتأدب، ليدرك كم أن الخطية خاطئة جدًا وكم أن نير الله ووصاياه أخف من نير الشيطان وخطاياه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
- لم يكن الحكم وراثي.
- لم يكن لهم أجور أو رواتب.
- لم يكن لهم حق جمع الضرائب أو تسخير الناس.
- لم يكن لهم سلطة سن القوانين بل الدفاع عن القوانين الموروثة.
- لم يكن حكم القاضي في أغلب الأحيان له صفة الشمولية التي للملك، بل كان قاصرًا على سبط أو بعض أسباط مجاورة.
- لم يكن قيام القضاة بالتتابع، إذ تمر فترة بعد موت القاضي فيها يرتد الشعب ليسمح الله بمن يستعبدهم فيصرخون إليه، فيقيم لهم مخلصًا جديدًا، وهلم جرًا.
أعلن الله في هذا السفر أنه اختار الضعفاء ليخزى الحكماء والأقوياء، فاختار عثنئيل الأصغر من كالب أخيه، وأهود الرجل الأعسر، وشمجر حيث كانت عدته الحربية منساس بقر (المنساس عصا تنخس بها البهائم)، وجدعون وعشيرته الصغرى الذي في منسي، ويفتاح الجلعادي من نسل زانية ومضطهد من أخوته، وشمشون الذي استخدم لحى حمار يقتل به ألف رجل ...الخ.
انتمي القضاة إلي 8 أسباط وهناك 4 أسباط لم يخرج منهم قاضٍ (رأوبين - شمعون - جاد - أشير).
ينسب التقليد اليهودي والمسيحي السفر لصموئيل النبي والدلائل الداخلية في صالح هذا النسب، إذ تدل على أنه كتب بعد موت شمشون وبعد تتويج شاول ملكًا (قض 17: 6، 18 :1، 19: 11، 21 :25)، ولكن قبل استيلاء داود على أورشليم [(2صم 5 :4-7) حوالي 1100-1000 ق.م - أنظر أيضًا (قض 1 :21)] كما نقرأ في الإصحاح الأول من السفر أن "أفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر (قض 1 :29) مما يدل على أن السفر قد كتب قبل أن يستولى فرعون مصر على جازر (حوالي 970 ق.م.) ويعطيها مهرًا لابنته التي تزوجها سليمان (1مل 9: 15-17)، بل أيضًا كتُب في وقت لم يطرد بنو بنيامين اليبوسيين من أورشليم (قض 21:1)، هذه التي لم يتم افتتحاها كليًا إلا في عهد داود.
ومن الواضح أن وضع صموئيل كنبي للرب ويطوف البلاد (1صم16:7، 17)، قد سهّل بل أتاح له ما هو موجود من كتابات شخصية لهؤلاء القضاة أو ما سجله الناس في حينه وتوارثوه عن مآثرهم، فقام هو بإرشاد من الروح القدس بصياغة أجزاء منها في هذا السفر.
هناك نقطتان قد تجعل البعض يعترض على نسب السفر إليه، إلا وهي عبارة "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل" والتي تكررت في (قض 6:17؛ 1:18؛ 1:19؛ 5:21)، فهذه قد تجعل البعض لا ينسب السفر لصموئيل لكون هذه العبارة تشير إلى تحبيذ الملكية مع أنه القراءة السريعة لسفر صموئيل الأول لا تقول بهذا، والنقطة الأخرى هي عبارة ".. إلى يوم سبي الأرض" (قض 30:18)، التي جعلت البعض يعتقد أن هذه العبارة إما مضافة بيد غريبة أو أن السفر تم كتابته في وقت متأخر بعد السبي البابلي.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فيمكن القول أن هذه العبارة لا شأن لها باستحسان أو استهجان صموئيل للملكية، بل هي عبارة تشير بصفة عامة إلى غياب أية سلطة حاكمة، سلطة لها قوة الردع لكل من تسول له نفسه الخروج عن شريعة الله وعمل ما يحسن في عينيه. وعلى العموم لأن العرف السائد في البلاد المجاورة كقوة لها سلطة الردع لكل مخالف كان الملوك، لذلك جاءت هذه العبارة عفويًا فيما كتبه صموئيل في الأماكن السابق ذكرها، ومن الواضح أنه كتب هذا السفر في بداية عهد شاول، حيث كان عهده في البداية يبشر بالخير، لا سيما وأنه لم ير أحد يتصرف بمثل هذه التصرفات التي من باب الاستهجان قال عبارته "ولما لم يكن هناك ملك.. ". وأما بخصوص النقطة فإن أ. نجيب جرجس قال عنها في كتابه ص11، 12 ما يلي:
[إن بعض الذين يقولون بأن السفر قد كُتب في تاريخ متأخر يقدمون نصًا من السفر يؤيدون به رأيهم هو قوله "وكان يهوناثان بن جرشوم بن منسى هو وبنوه كهنة لسبط دان إلى يوم سبط الأرض" (قض 30:18)، ويظنون أن هذا السبي هو سبي تغلث فلاسر ملك أشور لمملكة إسرائيل ويستنتجون من ذلك أن سفر القضاة كُتب بعد السبي.
على أن هذا الرأي يمكن الرد عليه لأنه كلمة السبي قد لا تعني فقط السبي الحقيقي الذي يؤخذ فيه الشعب من أرضه ويُنقل إلى أراضي غريبة، ولكنه قد يكون سبيًا معنويًا، فقد يُقصد به التأخر الروحي والاجتماعي والمذلة التي تصحبها مثل قول الوحي "ورد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه" (أي10:42)، ويقصد بذلك محنته وبلاياه, ومثل قول داود النبي "عند رد الرب سبي شعبه يهتف يعقوب ويفرح إسرائيل" (مز7:14؛ 6:53)، وقوله "رضيت يا رب على أرضك، أرجعت سبي يعقوب، غفرت إثم شعبك، سترت كل خطيتهم" (مز1:85، 2)، ومن المعروف أن داود كان قبل السبي بأجيال طويلة، فرد السبي في ترنيمه يشير إلى رفع المحن عن الشعب ومغفرة خطاياهم.
وعلى هذا القياس فالسبي المذكور في نص سفر القضاة يشير إلى هزيمة شعب إسرائيل الساحقة أمام الفلسطينيين في أواخر أيام عالي الكاهن بسبب شرور ابنيه وآثام الشعب، ودُعي سبيًا لأن الفلسطينيين أخذوا تابوت عهد الرب من بيته المقدس ونقلوه إلى أرضهم فحاق الخزي والعار بالشعب وحل بهم الحزم وزال عنهم المجد لأن التابوت كان يمثل حلول الله في وسطهم. وقد قتل في هذا الحادث الأليم حفني وفينحاس فضلًا عن الألوف الكثيرة (1صم9:4-22)، حتى أن امرأة فينحاس قالت في احتضارها "قد زال المجد من إسرائيل".
ومما يؤيد أن المقصود بسبي الأرض هنا هو هزيمة الشعب وأخذ التابوت من بيت الرب، أن آساف المغني في بيت الرب في أيام داود وقبل السبي بأجيال طويلة (1مل1:25، 2) رنم بالروح القدس ذاكرًا هذه المأساة الأليمة من هزيمة الشعب إلى قتل الكهنة إلى سبي التابوت بسبب خطايا شعب إسرائيل حيث يقول ".. سمع الرب فغضب ورذل إسرائيل جدًا. ورفض مسكن شيلوه الخيمة التي نصبها بين الناس. سلم للسبي عزه وجلاله ليد العدو. ودفع إلى السبي شعبه.. كهنته سقطوا بالسيف.. " (مز59:78-63).
ومما يبين أيضًا أن السفر مكتوب قبل السبي أنه خال بالمرة من الألفاظ والتعبيرات الآشورية أو الكلدانية (البابلية)، بل هو بالعكس مكتوب باللغة العبرية البحتة مثل الأسفار التي كُتبت في أيام موسى ويشوع وصموئيل ويقارب في رواياته جدًا الأسلوب الذي كُتب به سفرا صموئيل الأول والثاني، في حين أن الأسفار التي كُتبت في أوقات سبي الآشوريين ثم سبي البابليين أو بعد هذين السبيين، وكذلك في عهد مملكة مادي وفارس، تلك التي لا تخلو من بعض الألفاظ التي كانت لهذه الشعوب ومن ذكر مدن وعادات لها. وقد أوحى بها إلى عبيده الكتبة لأن الشعب اليهودي قد ألف هذه الألفاظ والتعبيرات وعرفها باختلاطه بالشعوب. ]
لقد سبق القول أنه نظرًا لوجود أكثر من قاضٍ معاصر لغيره، ولتداخل فترة الراحة التي ينعم بها موضع مع فترة المذلة والضيق التي في موضع غيره، فإنه من العسير الوصول إلى تحديد قاطع لتلك الفترة، ولكن سنحاول قدر الإمكان الوصول إلى رقم تقريبي، وسيكون دليلنا في هذا رقمين أحدهما في العهد القديم والآخر في العهد الجديد. فقد ورد في (1مل1:6)، أن السنة الرابعة من مُلك سليمان يوافق السنة 480 من الخروج من مصر. وورد في (أع20:13) قول بولس الرسول "وبعد ذلك في نحو 450 سنة أعطاهم الله قضاة حتى صموئيل النبي".
أما بالنسبة للرقم الأول، فهناك أرقام ثابتة وتقريبية يمكن معرفتها بسهولة ومنها 40 سنة في سيناء، 30 سنة تقريبًا ليشوع في أرض كنعان، عالي 40 سنة، شاول 40 سنة، داود 40 سنة، وصموئيل تقريبًا 40 سنة فيكون المجموع 230 سنة وبخصمها من 480 يكون الناتج 250 سنة. وبالطبع هذا رقم تقريبي لكن لن يبعد عن الحقيقة كثيرًا.
أما بالنسبة للرقم الثاني فبولس الرسول يحدده من بعد غزو الأرض وتقسيمها، فيقول أنه بالتقريب 450 سنة شاملًا فترة عالي وصموئيل، فيكون الناتج 370 سنة، مع العلم أن فترة عالي وصموئيل كان الواحد منهم قاضي لكل إسرائيل وليس له منافس أو معاصر، بينما غيرهم كان هناك أحيانًا أكثر من قاضٍ معاصر لغيره كما سبق القول وتضخم الرقم عن 250 سنة الذي توصلنا إليه يرجع إلى كون الرقم الوارد في (1مل1:6) هو من السجل الرسمي الديني للسنوات بحسب التقويم العبري، أما ما ذكره بولس الرسول فهو رقم تقريبي باعتراف لسانه وفي الغالب هذا الرقم يشمل فترات حكم القضاة وفترات الراحة والمذلة المتداخلة في بعضها، الأمر الذي من الطبيعي له أن يسبب أحيانًا ازدواجية حساب السنوات لأنها غير مرتبطة بشيء ثابت كالتقويم العبري، بل بأحداث متداخلة تجعل حساب بعض سنوات أكثر من مرة شيء وارد، ويقينًا هذا الرقم منقول عن التقليد اليهودي، الذي قد يكون مسجل فيه فترة حكم شمجر الذي لم يسجل سفر القضاة فترته كما هو الحال في باقي القضاة، ثم من يدري إن كان صموئيل النبي قد سجل لنا كل القضاة الذين ظهروا في تلك الفترة أم هناك في التقليد أسماء لقضاة لم يذكرهم في سفره. ولذا يمكن القول أنه لا تضاد البتة بين الرقمين لو وضعنا هذا في الحسبان.
وقد يخطر ببال القارئ رقم ثالث، ذُكر هنا في هذا السفر، ألا وهو رقم ثلاثمائة سنة الذي أورده يفتاح الجعادي عندما قال لملك بني عمون أن إسرائيل استولت على أراضي شرق الأردن منذ 300 سنة (قض 26:11). وهنا نرد بالقول بأن هذا الرقم لا يخرج عن نطاق لغة السياسة والدبلوماسية في المراسلات وليس له علاقة بالوحي الإلهي، وإلا سنخرج باستنتاجات خاطئة من جهة يفتاح، إذ سنقول أنه يصدق أن كموش إله الموآبيين إله حقيقي يملّك أراضي ويطرد شعوب (قض 24:11) على نفس قدم المساواة مع إله إسرائيل الإله الوحيد الحقيقي، بل وسنصدق أن تقديم ابنته ذبيحة بشرية لله كما يحدث مع كموش أيضًا، كان بوحي من الله.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الموضوع |
التفسير |
الأهمية |
الانحطاط/ التهاون |
واجه الشعب الانحطاط والفشل لأنهم تهاونوا في مقصدهم الروحي السامي، من وجوه كثيرة، فقد تخلوا عن مهمتهم في طرد الشعوب الوثنية من الأرض، كما اعتنقوا عوائد الشعوب المحيطة بهم. |
يمنح المجتمع الكثير من الجوائز لمن يتهاونون في إيمانهم، فيمنحهم: الثروة والقبول والتقدير والسلطة والنفوذ. فعندما يكلفنا الله بمهمة، فيجب ألا تلوثها الرغبة في إرضاء المجتمع. |
الانحلال/ الارتداد |
كان انحدار بني إسرائيل أدبيًا، نابعًا من الرغبة الشديدة في الاستقلال الذي ابتغاه كل سبط. وقد أدى ذلك إلى أن يفعل كل واحد ما يحسن في عينيه، فلم تكن هناك وحدة في الحكومة أو في العبادة، وانهار القانون والنظام، وأخيرًا أدت عبادة الأوثان، والديانة التي اخترعها الإنسان إلى الابتعاد تمامًا عن الإيمان بالله. |
علينا أن نتوقع الانحلال عندما نعتبر أي شيء أعظم من الله. فإذا اعتبرنا استقلالنا أعظم من الله، فإننا نكون قد وضعنا صنمًا في قلوبنا، وسرعان ما تصبح حياتنا هياكل لذلك الإله. فيجب علينا، على الدوام، أن نراعي حق الله أولًا على حياتنا ورغباتنا. |
الهزيمة/ الاضطهاد |
استخدم الله مضايقين أشرارًا لمعاقبة بني إسرائيل على خطيتهم، ليعود بهم إلى نقطة التوبة، وليختبر ولاءهم له. |
التمرد على الله يؤدي إلى كارثة. وقد يستخدم الله الضيق ليرد القلوب الشاردة، إليه مرة أخرى. |
التوبة |
أدى الانحطاط والانحلال والهزيمة إلى أن يصرخ الشعب طلبًا للمعونة، ونذروا أن يرجعوا إلى الله طلبًا للرحمة والنجاة. |
تكتسب عبادة الأوثان مكانًا لها في قلوبنا متى جعلنا أي شيء أهم من الله. ويجب أن نحدد الأوثان الحديثة في قلوبنا، ونتخلى عنها، ونرجع إلى الله طلبًا لمحبته ورحمته. |
النجاة/ الأبطال |
لأن بني إسرائيل تابوا، أقام الله لهم أبطالًا لإنقاذهم من طريق الخطية، وما جلبه عليهم من ضيق. وقد استخدم أنواعًا كثيرة مختلفة من الناس لإتمام هذا الغرض. |
إن محبة الله ورحمته متاحان لجميع الناس. وكل من يكرس نفسه لله، يمكن أن يستخدمه الله، والأبطال الحقيقيون يدركون عدم جدوى الجهد البشري بدون قيادة الله. (1) |
لقد كانت أحداث سفر راعوث في صلب عصر القضاة وهذا واضح من العدد الأول في ذلك السفر، ولكن نظرًا لأن خريطة السفر كانت مرتبطة بمسار معين: ارتباط بالرب ثم ترك له وتجرع مرارة الفشل والخطية، لذلك لم يكن من الممكن إدراجه ضمن صفحات هذا السفر، ولكن جاء ذلك السفر منفردًا ليشير إلى تلك النفوس العامرة بالإيمان في وسط جيل معوج، ويأتي على رأس تلك النفوس التقية والفاضلة، بوعز ونعمي، وسكان بيت لحم الذين كان كلامهم مُصلح بملح النعمة، ويظهر لنا ذلك السفر بوضوح أنه في الوقت الذي فيه يُطرح خارجًا بعض أولاد إبراهيم تأتي راعوث الأممية بإيمان متأجج واتكال كامل لتحتمي تحت جناحي القدير..
_____
(1) عن التفسير التطبيقي ص474.
← تفاسير أصحاحات القضاة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/judges/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/9w4zdn4