حينما نقترب من كتابات الأنبياء التي تحدثنا عن المستقبل يتكرر في أسماعنا ما قيل ليوحنا في رؤياه (رؤ 4: 1) "اصعد هنا فأريك". ونبوة حزقيال التي اشتهرت بصعوبتها تحتاج لفهمها صعودًا بالفكر إلى أعلى وابتعادًا عن الأرضيات. وكلما نجحنا في هذا يزداد فهمنا لها وتزداد الأعماق التي يأخذنا إليها الروح القدس، كما تزداد المياه المقدسة عمقًا (حزقيال 47). ففي البداية تبدو هذه المياه وكأننا في مواضع نستطيع أن نسبر غورها ومع التقدم نكتشف كم هي عميقة، ولكن مع هذا العمق يخرج من مجاريها ما يفرح مدينة الله حيث يسكن الله مع شعبه. بل سنكتشف في نهاية الأيام أن الله كان يخبرنا بما سيحدث في نهاية الأيام فنطمئن، فمن يعرف ما سيحدث، فهو يعرف بالتأكيد كيف يحمي أولاده في هذه الأيام الصعبة، كما قال الرب يسوع "وَقُلْتُ لَكُمُ ٱلْآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ" (يو29:14). وكثيرون يهملون دراسة هذه النبوة، ولكن هناك تساؤل يرغمهم على مراجعة أنفسهم.... ماذا لو قابلهم حزقيال في السماء وسألهم.. هل قرأتم نبوتي..؟ ماذا يا ترى سيكون جوابهم؟!!
الكاتِب هو حزقيال، ومعنى اسمه "قوة الله" أو "تَقَوَّى بالله" أو تمنطق بحزام. وهذا الاسم يشير لما عمله النبي فعلًا إذ قد قواه الله وأظهر قوته فيه، وعمومًا من يدعوه الله للخدمة يمنحه القوة للتنفيذ، ولكن كان الشعب في أيام حزقيال في حالة سيئة جدًا، والله أعطاه القوة ليتنبأ بلا خوف لهذا الشعب، وليتنبأ بالخراب على أورشليم بسبب خطايا شعبها، لذلك قال له الله [هَا قَدْ جَعَلْتُ وَجْهَكَ صُلْبًا مِثْلَ وُجُوهِهِمْ] (حز 3: 8). ومن ضمن الوسائل التي إستعملها الله مع النبي هذه الرؤيا العجيبة، هذه أعطته صلابة فلم ينسحب أمام هجوم اليهود عليه.
وقد تنبأ حزقيال في أوائل فترة السبي، وكان هو ودانيال ضمن المسبيين. وعاش حزقيال بجوار نهر خابور. وكان متزوجًا. ولد حوالي سنة 623 ق.م. وكان والده واسمه بوزي كاهنًا من نسل صادوق. إذًا فقد عايش النبي الخدمة الكهنوتية في الهيكل، وكان يحلم في صباه بالكهنوت حينما يصل لسن الثلاثين التي يبدأ فيها الكاهن عمله. ولكن جاء السبي وحطم هذه الآمال.
كتبت أثناء سبي بابل حيث استُعبِد إسرائيل. لذلك كتبت للمسبيين هناك. ومن المعروف أن حزقيال ودانيال هما النبيين الوحيدين اللذين تنبئا خارج إسرائيل باستثناء يونان الذي أرسل ليتنبأ لنينوى. وقد ذهب الشعب للسبي بسبب سقوطهم في العبادات الوثنية واحتقارهم للأنبياء وخطاياهم المتعددة. ولكن الله لم يتركهم بل أرسل لهم هذا النبي وسط أحزانهم وآلامهم في السبي ليقنعهم بالتوبة، وليتأكدوا أن ما يحدث لهم ليس هدفه إفنائهم بل تأديبهم. وفي السنة الخامسة من السبي أي الخامسة من ملك صدقيا وقبل خراب أورشليم النهائي سنة 586 ق م. انفتحت السموات لأول مرة أمام حزقيال ليرى رؤيا الرب والمركبة الإلهية النارية فيبدأ عمله النبوي الذي استمر 22 عامًا. ولقد بدأ عمله النبوي من السنة الخامسة من السبي (حز 1: 2-3) حتى السنة 27 من السبي (حز 29: 17) وفي السنة 25 كتب الإصحاحات 40-48 (حز 40: 1).
كثير منها غامض يَصْعُب فهمه، ولكن بالاتضاع الشديد والارتفاع عن الأرضيات سوف تخرج بفوائد كثيرة، وما سوف نعرفه من أسرار هذه النبوة سيقوي إيماننا ويوطد رجاؤنا في إلهنا. وهذا فيما يختص بالرؤى، أما العظات فهي سهلة وتتحدث عن تعديات الشعب على وصايا الله وتدعوهم للتوبة عِوَضًا عن التذمر، ويتضح من النبوة أن الشعب بدأ يصدقه ويلتف حوله عندما وصل رسول من أورشليم ينبئ بسقوط المدينة حسب ما كان حزقيال يتنبأ به. وكان قلب النبي يتمزق من أخبار خراب الهيكل وأورشليم، ولكننا نجد بعد ذلك أن الله الذي يحب أن يعزي أولاده، فتح عينيه ليرى رؤى متعددة عن أورشليم جديدة وهيكل جديد يحمل سمات العصر الماسياني Messianic، عصر الإنجيل وتأسيس مملكة المسيح. ونرى في نبوة حزقيال أن الله يريه ما يحدث في أورشليم بالرغم من وجوده في بابل، ونرى النبي يتنبأ على من في أورشليم.
والسفر يشتمل على الوعيد بالخراب ثم وعود معزية بأيام بركة، فالله لا يدمر لينتقم بل ليؤدب، وهذا ما قاله لإرميا (إر 1: 10). ودائمًا هناك بقية تستفيد من التأديب (نوح وفلكه ينجو من الطوفان، ولوط وبناته ينجون من سدوم).
تقول تقاليد اليهود أن المسبيين قتلوه في بابل بسبب أمانته وجرأته وتوبيخه لهم، ويقال أنهم سحلوه على الأحجار وظلوا يسحبونه حتى تحطم رأسه.
1- تهديدات قبل سقوط أورشليم، وإنذارات بعقوبة الخطية، ودعوة للتوبة إصحاحات (حز 1-24).
2- نبوات ضد الأمم الذين ظلموا شعب الله (حز 25-32).
3- نبوات عن الرجوع من السبي، وفضح حالتهم الراهنة، ووصف لرجوع اليهود في المستقبل وهلاك أعدائهم وسعادتهم الروحية، وهي نبوات تتكلم عن عودة اليهود من بابل، لكنها تشير لزمان ملك المسيح في كنيسته (حز 33-39).
4- الهيكل الجديد وأورشليم (حز 40-48).
في الإصحاح الأول نرى الله في مجده، وفي هذا إشارة للحالة التي خلق عليها آدم في الجنة، إذ كان يرى الله. وبسبب الخطية فقدنا رؤية الله، وهذا ما نلمسه في الإصحاحات (حز 2-24). إذ دخل الفساد والخراب للعالم بسبب الخطية. وفي الإصحاحات (حز 25-32) نبوات ضد الأمم وهي ترمز للشيطان الذي أسقط آدم وبنيه ففقدوا رؤية مجد الله. وهذه نبوات بضرب مملكة الشيطان الذي خدع آدم فتسبب في موته وموت بنيه. ثم تأتي الإصحاحات (حز 33-39) التي تشير لإسرائيل الجديد أي الكنيسة فالله يقلع ليغرس، يقلع إسرائيل القديم ليزرع إسرائيل الجديد أي الكنيسة. يخلع الإنسان العتيق لتحيا الكنيسة كخليقة جديدة. وتأتي الإصحاحات 40-48 لتشرح هذه الكنيسة بطريقة رمزية فهي تتكلم عن هيكل جديد يتم تأسيسه، والهيكل الجديد هو جسد المسيح (يو 2: 21).
تم هذا السبي على أربع مراحل. وبدأ سنة 606 ق.م. وانتهى سنة 536 ق.م.
I) السبي الأول / П) السبي الثاني / Ш) السبي الثالث / ІV) السبي الرابع
وبدأ السبي سنة 606 ق م. في أيام يهوياقيم الملك وانتهى سبي بابل بسقوط دولة بابل ومجيء كورش ملك الفرس للحكم، وتحرير السبايا سنة 536 ق, م. أي أن مدة السبي كانت 70 سنة حسب ما تنبأ إرميا النبي (إر 25: 12 + 29: 10).
1- يوشيا:- بدأت في عهد هذا الملك الصالح إصلاحات كثيرة، ولكنها للأسف لم تستطع أن تصلح من أحوال الشعب الداخلية، بل اقتصرت الإصلاحات على الممارسات الطقسية دون تغيير في قلب الشعب الذي كان قد فسد، وبدأت نبوة إرميا النبي خلال حكم هذا الملك، واستمر يتنبأ لمدة 18 سنة خلال ملكه، ثم أكمل نبواته لمدة تربو على الأربعين عامًا. وقتل يوشيا في معركة مع نخو فرعون مصر الذي أقام ابنه يهو أحاز ملكًا على يهوذا.
2- يهو أحاز:- كان شريرًا وعزله نخو وأسره إلى أن مات في مصر. وأقام أخوه يهوياقيم بدلًا منه.
3- يهوياقيم:- كان شريرًا جدًا، وحدث في عهده ارتداد للوثنية. وفي سنة 606 ق. م. هزم نبوخذ نصر نخو ملك مصر في معركة كركميش واستولى على أملاكه ومن ضمنها مملكة يهوذا، وجاء نبوخذ نصر إلى أورشليم واستولى على جزء من آنية بيت الله، وسبا بعض سكان أورشليم وكان منهم دانيال ورفاقه (وكان هذا السبي الأول) (دا 1: 1). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). ثم عصى يهوياقيم وتمرد فحذره إرميا من عاقبة ذلك عليه وعلى الشعب والهيكل وأورشليم، ولكنه حينما رأى الدَرْج الذي به نبوات إرميا مزقه وألقاه في النار. وصعد عليه نبوخذ نصر وأسره فمات في الطريق كنبوة إرميا عليه (أر 22: 18، 19؛ 36: 29-31). وتم هذا في (2أي 36: 6، 7). وكان هذا بعد ما حوصرت أورشليم بجيوش بابل لمدة 18 شهرًا. وفي هذه المرة لم يحرق نبوخذ نصر أورشليم ولا هدم الهيكل ولا الأسوار، ولكنه أخذ سبايا (وكان هذا هو السبي الثاني).
4- يهوياكين : ابن يهوياقيم، وكان شريرًا. وحاصر نبوخذ نصر أورشليم ثانية في أيامه، فاستسلم هو ومن معه، فسباهم نبوخذ نصر إلى بابل مع آخرين. (وكان هذا السبي الثالث). وملك متانيا عمه باسم صدقيا (2مل 24: 10-16). وفي هذا السبي الثالث تم سبي حزقيال (حز 1: 1)، أي بعد دانيال بحوالي ثمان سنوات. وهنا انكسر قلب حزقيال حينما رأى آنية بيت الرب وقد نهبها الوثنيون، كما حملوا معهم أيضًا خيرة الشباب للسبي وهو منهم.
5- صدقيا:- كان شريرًا ونجس الهيكل بالعبادات الوثنية، وتمرد
بعد ملكه بثمان سنوات على نبوخذ نصر في السنة التاسعة لحكمه وحاصر
أورشليم، وهرب صدقيا وقبضوا عليه، وقتلوا أولاده أمام عينيه ثم قلعوا
عينيه، وأخربوا أورشليم وهدموا سورها وهيكلها، وأحرقوا كل شيء، وسبوا
سكان أورشليم، ولم يتركوا سوى مساكين الأرض (وكان هذا
هو السبي الرابع)
(2مل 25:
1-21). وكانت هذه المراحل للسبي، حتى يعطيهم الله فرصًا للتوبة، فالله
يطيل أناته لعل طول أناته تقتادنا للتوبة (رو 2: 4). وكان هدم الهيكل
وخرابه سببًا لكسر قلب كل يهودي حقيقي، خصوصًا حزقيال النبي. لذلك ولكي
يعزي الله حزقيال النبي والكاهن ويعزي المؤمنين الأتقياء، أظهر الله أن
الهيكل سيعاد بنائه (إصحاحات
40-48) ولكن كان المقصود حقيقة بهذه
الإصحاحات، كنيسة المسيح كما سنرى في حينه.
هكذا كان الله يخاطب حزقيال بقوله "يا ابن آدم" وتكرر هذا التعبير كثيراً، وهذا يعني أن له أهمية كبيرة. فالله جعل حزقيال النبي شاهد على مراحم الرب، كما كان هناك كاروبيم على باب الجنة ليمنع آدم من الآكل من شجرة الحياة فيحيا للأبد وهو بجسده الذي أفسدته الخطية، بل عليه أن ينتظر ليخلقه المسيح كخليقة جديدة بها يخلص (2كو17:5). وكان هناك كاروبان فوق تابوت العهد ينظران إلى دم الكفارة على الغطاء ويشهدان على مراحم الله وغفرانه لخطايا شعبه بدم الذبيحة. بل هما شاهدان على أنه في ملء الزمان سيقدم المسيح دمه غفرانا لخطايا البشر.
والله يُشهِد السماء والأرض على شر إسرائيل (إر12:2، 13). وموسى يفعل نفس الشيء ويجعل السماء والأرض شهوداً على كلامه (تث26:4+ 19:30+ 28:31).
وهنا يجعل الله حزقيال كممثل عن البشر (أولاد آدم) يشهد على:-
1. الله خلق الإنسان ليتمتع بمجد الله = حزقيال يرى عرش الله والمركبة الكاروبيمية (ص1). وكانت هذه إرادة الله أن يعاين الإنسان مجده كما كان آدم يعاين مجد الله في الجنة. وأيضاً ها هو حزقيال إبن آدم يعاين مجد الله. فكانت إرادة الله أن كل بني آدم يعاينون مجد الله. وكانت هذه آخر طلبات المسيح للآب أن نكون معه لنرى مجده "أيُّهَا ٱلْآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي" (يو24:17).
2. بسبب خطايا البشر فقدنا كل هذا (حز 2-24) = الله يشهد النبي على حال الشعب وزناهم الروحي حتى داخل الهيكل.
3. الله يجعل حزقيال شاهداً على ما يستحقه هذا الشعب من عقوبة (حز 5-9).
4. الله جعله شاهداً أنه فعل مع شعبه كل شيء وهم رفضوا.
5. معاناة حزقيال من الأنبياء الكذبة الذين يخدعون الشعب بسلام زائف، قائلين أنه لن يكون خراب قادم، كما يقول إرمياء والأنبياء الحقيقيون الذين يرسلهم الله ليحذروا الناس فيتوبوا، فإستمر الناس في خطاياهم مصدقين أقوال الأنبياء الكذبة، وهذا نفسه ما يحدث وسيحدث في الأيام الأخيرة كما يقول القديس بطرس الرسول "عَالِمِينَ هَذَا أَوَّلًا: أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ ٱلْأَيَّامِ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لِأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ ٱلْآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ هَكَذَا مِنْ بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ" (2بط3 : 3 ، 4) وهذا هو عمل الشيطان دائمًا في كل عصر حتى لا يتوب أحد . والله يشهد حزقيال على ذلك، لينتبه باقي أولاد آدم الذين هم نحن.
6. الله يشهده على وجود مجده في الهيكل، وأنه بسبب خطاياهم سيفارق الهيكل، وكان يود لو لم يفعل. فصاروا بلا حماية فالله ليس في وسطهم فخربت أورشليم وخرب الهيكل، فحين غادره الرب صار كومة من الحجارة. وهكذا الإنسان إذ إنفصل الرب عنه مات. وكون حزقيال يرى مجد الرب داخل الهيكل بالرغم من كل خطايا الشعب، وإحتمال الله العجيب لهم، فهذا يظهر مدى محبة الله لشعبه، ولكن إذ زاد الأمر عن الحد فارق الرب الهيكل.
7. ووسط كل هذا نسمع عن محبة الله الذي سيفتقد البشر في زمن الحب بعمل المسيح الفدائي (حز 16). فمحبته لا نهائية، والكنيسة عروس المسيح.
8. الله يشهد النبي أنه يتعامل بعدل مع كل الناس، كل واحد بحسب عمله، وكان يود لو خلص كل البشر، وعادوا بالتوبة ليحيوا، فهو لا يُسَّر بموت أحد.
9. الله يشهد النبي على رغبته في تدمير الأمم التي ضايقت شعبه. والله ليس ضد الأمم كبشر، بل الله ضد الشيطان الذي أدى حسده للإنسان إلى إسقاط الإنسان وبالتالي موته وهلاكه. ولذلك نفهم أن هذه النبوات ضد ملوك الأمم إنما هي موجهة للشيطان العدو الحقيقي للإنسان، وهذا الشيطان هو من وراء ملوك الأمم وعبادتهم الوثنية وإضطهادهم لشعب الله. فالنبي صار شاهداً على محبة الله لأولاده وأنه لا ينسى من يسبب لهم الأذى (حز 25-32؛ 35؛ 38؛ 39).
10. النبي صار شاهداً على رحمة الله ومحبته لشعبه وإنه بعد أن خرب الهيكل (إشارة لموت الإنسان) سيعيد الحياة للموتى (حز 37). ولذلك يدعو الكل للتوبة للحصول على هذه الحياة (حز 33). والله سيفتقدنا بالمسيح الراعي الصالح، والذي سيرسل لنا رعاة (حز 34). ويعيد لشعبه إسرائيل أرضه (إشارة لعودتنا للميراث السماوي (حز 36).
11. والله يجعل النبي شاهداً على تأسيس الهيكل الجديد بدل الهيكل الساقط. وهذا رمز للمسيح الذي سيؤسس الكنيسة جسده. والمسيح سيجعلنا خليقة جديدة (حز 40-48). وهذا كله سيصنعه المسيح الذي سيتجسد ويصير إبن آدم.
12. الآن يمكن أن نفهم أن كل ما وجهه الله لحزقيال النبي قائلاً "يا ابن آدم" إنما هو موجه لكل البشر "بني آدم" ليخبرنا بمحبته لنا، وإرادته من نحونا أن نعاين مجده كما عاينه حزقيال ابن آدم. ويخبرنا بأننا حرمنا من هذا بسبب خيانتنا له. وأن كل عقوبة سمح بها الله لنا، إنما نحن نستحقها. ولكن الله يعطينا رجاء في تجديد خلقتنا لنصبح هيكل جسده كخليقة جديدة بها نخلص ونعود لنعاين مجده (غل15:6)، وهذا ما سنراه في هيكل حزقيال [الإصحاحات الأخيرة حز 40-48)].
منعًا للتكرار ولكي تتكامل الصورة يُرْجَى مراجعة ما جاء عن الكاروبيم في:-
دانيال الإصحاح الثاني. تمثال دانيال ووجوه الكاروبيم الأربعة.
(تك24:3). الكاروبيم شهود على رحمة الله الذي لا يريدنا أن نحيا للأبد بهذا الجسد الفاسد.
غطاء تابوت العهد (مقدمة خر 25، والإصحاح 25 من سفر الخروج). الكاروبيم فوق غطاء تابوت العهد ناظرين إلى دم ذبيحة الكفارة الذي ينضحه رئيس الكهنة على غطاء التابوت فيكفر الله عن خطايا شعبه. وبهذا هم شهود على وعد الله بأنه سيقدم نفسه ذبيحة كفارية عن البشر.
في سفر الرؤيا نجد الكاروبيم يسبحون الله على خلاصنا، بل يوحدون أنفسهم بنا، ويسبحون بلساننا "وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لِأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى ٱلْأَرْضِ" (رؤ10،9:5)، فهل المسيح ذُبح لأجلنا أم لأجلهم؟! – بل هم وحدوا أنفسهم بنا في محبة وفرح بخلاصنا. فالمسيح صار رأسا للسمائيين والأرضيين (أف10:1).
كاروب يعني كلي المعرفة لذلك يقال عنهم المملوئين عيونا (رؤ6:4) فهم يعرفون الرب. ومن يعرف الرب فهو ثابت فيه. ومن يعرف الله حقيقة يحب الله ولا يتعارض مع الله في أحكامه وهذا يتحد به المسيح فيثبت فيه. لذلك يقال أن الرب [جالس على الشاروبيم] كما نرنم في تسابيح أحد الشعانين. وكما قالها داود النبي في (مز1:80 + مز1:99). وقال أيضاً "رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ" (مز10:18). فقوله جالس تشير لراحة الله -الذي يرتاح فيمن يعرفونه- ويشتكي ممن لا يعرفونه "قالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (مت20:8). وقوله طار يشير إلى أن الله يحملهم إلى أعلى الدرجات السماوية. وقوله طار تجعلنا نطلق على هذا المشهد المركبة الكاروبيمية. هذه المركبة هي الملائكة الكاروبيم يحملون العرش الإلهي، بل المعنى أن الله في مجده يحملهم هو إلى أعلى السموات إذ يرتاح هو فيهم. الله ليس له عرش يجلس عليه، ولكن قوله عرش الله فهذا تعبير عن الله في مجده وسلطانه. وبهذا يصير المعنى أن الله بمجده يكون في وسطهم كما قال عن أورشليم "أكون مجداً في وسطها" (زك5:2). فالله بمجده يحل وسط من يحبونه. وهكذا قال الرب يسوع "لِأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ" (مت20:18). المسيح يحب ويفرح بأن يوجد في وسط أحباءه، وحينما يوجد في وسط أحباءه يكون هذا بمجده. وحينئذٍ يكون هذا المشهد سمائي. فالمسيح أتى لنا بإمكانية الحياة في السماويات [طأطأ السموات ونزل] (مز9:18).
ولكن بالنسبة للملائكة فالمسيح حين يحل في وسطهم بمجده يقال أنه "جَالِسٌ عَلَى الْكَرُوبِيمِ" وحين يقال أنه "جلس على كروب وطار" فهذا يعني أنه رفع هؤلاء الملائكة الكاروبيم إلى درجة سمائية عالية.
صفاتهم وإمكانياتهم: لهم قوة جبارة تم تشبيهها بقوة الأسد، يعملون بلا كلل ولا ملل ولا تعب وتم تشبيه هذا بالثور الذي يعمل طول النهار بلا كلل. هم لهم قوى عقلية، ولهم عاطفة ومحبة تم تشبيهها بوجه الإنسان. ولهم حدة بصر، وأيضا هم يحيون في السماويات وتم تشبيه حياتهم السماوية بشكل النسر. والله قادر لمن هو ثابت في المسيح، والمسيح يجد راحته فيه، أن يعطيه هذه الإمكانيات فيقول مع الرسول "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فى13:4). هذا هو عمل النعمة فينا. وألم يغلب داود النبي أسد ودب ثم قتل جليات الجبار. وسنرى أن لكل كاروب له أربع أوجه، أي لكل كاروب كل هذه الإمكانيات التي يشير لها الأربعة المخلوقات الحية.
هذه الصور أخذتها الكنيسة لتشير للأربعة الأناجيل: التي بها نعرف المسيح. فإنجيل متى يشار له بوجه الإنسان، فإنجيل متى هو أكثر إنجيل تحدث عن المسيح إبن الإنسان. وإنجيل لوقا يشار له بوجه الثور الذي يُقدم ذبيحة ليُقبل كل البشر أمام الله. ووجه الأسد يشير لإنجيل مرقس، فالقديس مرقس إهتم بإظهار قوة المسيح. أما إنجيل يوحنا فيشار له بوجه النسر، فإنجيل يوحنا هدفه إثبات لاهوت المسيح.
ولكن هل يكفي قراءة الأربعة الأناجيل لنعرف المسيح فيرتاح فينا؟ قطعاً لا. فنحن لا بد أن نتقدس أي نكرس كل طاقاتنا لحساب مجد المسيح.
تقديس طاقاتنا لمجد المسيح: الطاقة العضلية ويشار لها بوجه الأسد. والطاقة الشهوانية ويشار لها بوجه الثور (أي تتجه كل عواطفنا إلى محبة المسيح كما يقول الرسول "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ" (رو36،35:8). ومن تتقدس شهواته يحب الله من كل قلبه ومن كل فكره ومن كل قوته (تث 6: 5). القوة الذهنية ويشار لها بوجه الإنسان. القوة الروحية ويشار لها بوجه النسر.
ومرة أخرى هل تكفي مجهوداتنا الشخصية لأن نتقدس ويرتاح فينا المسيح؟ قطعاً لا. بل نحتاج لعمل المسيح الفدائي.
وجوه الكاروبيم تشير لعمل المسيح الفدائي: وكل هذا لا ينفع بدون عمل المسيح الفدائي: فوجه الإنسان يشير للمسيح الذي تجسد لأجل خلاصنا. ووجه الثور يشير لأنه قدم نفسه ذبيحة لأجلنا. ووجه الأسد يشير للمسيح الذي قام من الأموات ورآه القديس يوحنا في رؤياه [كأسد قد غلب].. ورآه [كخروف قائم كأنه مذبوح] (رؤ6،5:5). ووجه النسر يشير لصعوده لأعلى السموات.
ووجوه الكاروبيم تشير لشفاعتهم في الخليقة: فوجه الإنسان يشفع في البشر. ووجه الثور يشفع في حيوانات الحقل. ووجه الأسد يشفع في حيوانات البرية. ووجه النسر يشفع في الطيور. وهذا ما يعمله الأربعة والعشرون قسيساً أمام الله، إذ يرفعون صلواتنا أمام الله (رؤ8:5) وهذه صورة محببة عند الله أن تسود المحبة بين الجميع، فيصلي الأرضيين لأجل السمائيين ويصلي السمائيين لأجل الأرضيين. وراجع تفسير الآية [نش1: 7]. ولكن لا شفاعة في السمك، فالسمك يمثل مَنْ غرق في محبة العالم وشهواته وترك الله تمامًا "دِيمَاسَ.. تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ" (2تى10:4). ولا شفاعة في الزواحف فهي تمثل من يحيا يأكل من طين هذا العالم وهذا عكس ما يقوله بولس الرسول "فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللهِ. ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لَا بِمَا عَلَى ٱلْأَرْضِ ... فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض ....." (كو3: 1-6).
ونرى هنا صورة لشفاعة الملائكة في البشر "فَأَجَابَ مَلَاكُ ٱلرَّبِّ وَقَالَ: «يَارَبَّ ٱلْجُنُودِ، إِلَى مَتَى أَنْتَ لَا تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا ٱلَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هَذِهِ ٱلسَّبْعِينَ سَنَةً" (زك12:1). فهنا الملاك يطلب الرحمة لأورشليم والساكنين فيها. وأيضا يقول رب المجد "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ" (لو7:15)
وهل يحتاج الله لأن يشفع أحد في خليقته؟ هل يحتاج الله لمن يذكره بأن يهتم بخليقته؟ الله يطلب هذا كما يقول الوحي في (إش11:45) "هَكذا يَقُولُ ٱلرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ وَجَابِلُهُ: «اِسْأَلُونِي عَنِ ٱلْآتِيَاتِ! مِنْ جِهَةِ بَنِيَّ وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ يَدِي أَوْصُونِي" ولماذا يقول الله هذا؟ الله يفرح بهذا – أن نطلب عن بعضنا البعض - فهذا علامة على المحبة التي بها يفرح الله. لذلك يقول القديس يعقوب الرسول "وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لِأَجْلِ بَعْضٍ، لِكَيْ تُشْفَوْا" (يع16:5). وهذه الشفاعة أو المحبة سبب آخر لراحة الله في الكاروبيم.
هل يستطيع البشر أن يكونوا مركبة تشبه المركبة الكاروبيمية؟ لو ثبت إنسان في المسيح = أي يعرف المسيح ويتحد به، ويقدس طاقاته يرتاح فيه المسيح ويعطيه الحياة السماوية، فالمسيح تجسد ليأتي لنا بالحياة السماوية على الأرض كما يقول داود النبي "طأطأ السماوات ونزل" (مز9:18). بل وأن تُقبل شفاعته كما يقول القديس يعقوب "وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لِأَجْلِ بَعْضٍ، لِكَيْ تُشْفَوْا. طَلِبَةُ ٱلْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا" (يع16:5).
الشيطان كان من طغمة الكاروبيم: فالوحي يقول عن الشيطان "أَنْتَ ٱلْكَرُوبُ ٱلْمُنْبَسِطُ ٱلْمُظَلِّلُ، وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ ٱللهِ ٱلْمُقَدَّسِ كُنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ ٱلنَّارِ تَمَشَّيْتَ. أنت كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ" (حز15،14:28). وقد رأينا قوة الكاروبيم سابقا، وهذه هي نفسها قوة الشيطان. ولكن الكاروبيم القديسين الذين لم يسقطوا كرسوا قوتهم لخدمة الله وتنفيذ أوامره. أما الشيطان فقد إستخدم هذه القوة المهولة في الشر ومقاومة الله. ولكي نفهم قوته المهولة، نرى كيف قاوم الملاك جبرائيل 21 يومًا وعطله، إلى أن أرسل الله الملاك ميخائيل ليعينه "وَرَئِيسُ مَمْلَكَةِ فَارِسَ (هو الشيطان الذي يقاوم عمل الله) وَقَفَ مُقَابِلِي وَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهُوَذَا مِيخَائِيلُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ ٱلْأَوَّلِينَ جَاءَ لِإِعَانَتِي" (دا13:10). وشكرا لربنا يسوع المسيح الذي حطم قوته "يَا ٱبْنَ آدَمَ، إِنِّي كَسَرْتُ ذِرَاعَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ (فرعون هنا كملك متكبر يعبد الأصنام يرمز للشيطان)، وَهَا هِيَ لَنْ تُجْبَرُ بِوَضْعِ رَفَائِدَ وَلَا بِوَضْعِ عِصَابَةٍ لِتُجْبَرَ فَتُمْسِكَ ٱلسَّيْفَ" (حز21:30). بل أعطانا نحن البشر الضعفاء أن ندوسه" (لو19:10). المسيح بصليبه قيده، ونحن بالصليب نغلبه. هو ما زال يحاربنا، لكنه صار عدو مهزوم ضعيف. وعند المجيء الثاني للرب يسوع للدينونة، يذهب هذا العدو الشرير للنار الأبدية المعدة له ولملائكته (مت41:25). وقيل عنها البحيرة المتقدة بنار وكبريت (رؤ10:20).
← تفاسير أصحاحات حزقيال: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/qr894b3