← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30
اَلأَصْحَاحُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
إذ حرص الكاتب على إبراز كل ما في قلب داود من تقوى والتصاق بالرب، الآن إذ يتحدث عن إحصائه للشعب. لم يقصد أن يكشف عن ضعف في حياة داود، إنما غاية ذلك هو إبراز كيف استخدم الله حتى خطأ داود في الكشف عن الموقع الذي يُقَام فيه الهيكل بعد موته. بتوبته نال المغفرة، وتحوَّل الخطأ إلى بركة.
يبدو للقارئ أن قصة سقوط داود في طلب إحصاء الشعب في (2 صم 24) توضح أنها جاءت مؤخرًا في حياة داود، أما هنا فجاءت كما لو كانت في بداية حُكْمِه. والسبب في هذا أن سفر أخبار الأيام الأول لم يذكر الكثير من الأحداث التي تمَّت في حياة داود، لأنها لا تمس هدف السفر وهو الربط بين الأحداث التاريخية والعبادة. ومن جانب آخر عالجت التسعة أصحاحات الأخيرة [21-29] موضوع الهيكل والإعداد له وتنظيماته الخ.، حتى بدا ما ورد في هذا الأصحاح كما في وقت مُبَكِّر في حياة داود.
يختص هذا الأصحاح بالحديث عن خطية اقترفها داود يحسبها البعض أخطر ما سقط فيه داود الملك.
ربما يتساءل البعض: لماذا التزم هنا بالحديث عن هذا الخطأ الذي ارتكبه داود، مع أنه لم يذكر شيئًا عن خطيته في أمر بثشبع وزوجها أوريّا الحثِّي ولا المصاعب التي حلَّتْ بأسرته بعدها فلم تُذكَر هنا أو عصيان أبشالوم؟
سُجِّلَتْ خطية داود في أمر إحصاء الشعب في هذا الأصحاح، لأن التكفير عن هذه الخطية أدَّى إلى الإشارة إلى المكان الذي سيقوم عليه الهيكل. هذه القصة تكشف لنا عن الأرض التي اشتراها داود، وأقام عليها مذبحًا للرب، وصارت فيما بعد موقعًا لبناء هيكل الرب. وكأن خطأ داود تحوَّل إلى الخير، فساهم داود في بناء الهيكل بشرائه الأرض.
يرى البعض الدارسين أن هذه الأرض مرتبطة أيضًا بذبح إسحق (تك 22) على جبل المُريِّا. كلمة "مُريَّا" معناها "الرب يرى" أو "يهوه يراه" (تك 22: 14). جاء في أخبار الأيام الثاني: "وشرع سليمان في بناء بيت الرب في أورشليم في جبل المُريَّا، حيث تراءى لداود أبيه، حيث هيَّأ داود مكانًا في بيدر أُرنان (أَرونة) اليبوسي" (2 أي 3: 1). لقد حقَّق داود بطريقة فريدة الوعود التي قُدِّمَت للآباء البطاركة[1].
1. مع ما اتَّسم به داود النبي منذ صباه حتى يوم نياحته بالتواضع، غير أنه كإنسانٍ بشريٍ جُرِّب بالكبرياء، وللأسف سقط بالرغم من تحذير يوآب له [1-7]. فمن مخاطر القيادة، التعرُّض للسقوط في الكبرياء، لهذا يحتاج القادة أكثر من غيرهم إلى الصلاة من أجلهم.
2. إذ تعرَّف داود على خطئه، للحال رجع إلى الله بالتوبة. لقد غُفِرَ له، لكنه كان محتاجًا إلى التأديب، حتى يتذوَّق مرارة الخطية، فلا يعود إليها.
3. شراء حقل أُرنان اليبوسي الذي يُقَام عليه هيكل الرب لتقديم مُحرَقة للرب.
يمكن تلخيص محتويات الأصحاح كالآتي:
|
1-6. |
|
|
7-8. |
|
|
9-13. |
|
|
14-17. |
|
|
18-30. |
سبق أن درسنا هذه الحادثة المؤلمة في كتابنا: تفسير وتأملات الآباء الأولين في سفر صموئيل الثاني (2 صم 24)، وهنا نذكر بعض التأملات الأخرى:
1 وَوَقَفَ الشَّيْطَانُ ضِدَّ إِسْرَائِيلَ، وَأَغْوَى دَاوُدَ لِيُحْصِيَ إِسْرَائِيلَ. 2 فَقَالَ دَاوُدُ لِيُوآبَ وَلِرُؤَسَاءِ الشَّعْبِ: «اذْهَبُوا عِدُّوا إِسْرَائِيلَ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ إِلَى دَانَ، وَأْتُوا إِلَيَّ فَأَعْلَمَ عَدَدَهُمْ». 3 فَقَالَ يُوآبُ: «لِيَزِدِ الرَّبُّ عَلَى شَعْبِهِ أَمْثَالَهُمْ مِئَةَ ضِعْفٍ. أَلَيْسُوا جَمِيعًا يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ عَبِيدًا لِسَيِّدِي؟ لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا سَيِّدِي؟ لِمَاذَا يَكُونُ سَبَبَ إِثْمٍ لإِسْرَائِيلَ؟» 4 فَاشْتَدَّ كَلاَمُ الْمَلِكِ عَلَى يُوآبَ. فَخَرَجَ يُوآبُ وَطَافَ فِي كُلِّ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. 5 فَدَفَعَ يُوآبُ جُمْلَةَ عَدَدِ الشَّعْبِ إِلَى دَاوُدَ، فَكَانَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِئَةَ أَلْفِ رَجُل مُسْتَلِّي السَّيْفِ، وَيَهُوذَا أَرْبَعَ مِئَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ رَجُل مُسْتَلِّي السَّيْفِ، 6 وَأَمَّا لاَوِي وَبَنْيَامِينُ فَلَمْ يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ لأَنَّ كَلاَمَ الْمَلِكِ كَانَ مَكْرُوهًا لَدَى يُوآبَ.
وَوَقَفَ الشَّيْطَانُ ضِدَّ إِسْرَائِيلَ،
وَأَغْوَى دَاوُدَ لِيُحْصِيَ إِسْرَائِيلَ. [1]
من الذي وراء هذه الخطية؟ جاء في (2 صم 24: 1) "غضب الرب حمى على إسرائيل، فأهاج عليهم داود ليفعلها". كأن الرب حثَّ داود على ذلك، لأن غضبه حلَّ على الشعب. وفي سفر الأخبار يُقَال إن الشيطان وراء هذا التصرُّف. الاثنان حق، فالله سمح للشيطان أن يُجَرِّب داود. الله ليس مصدرًا للشر، بل يسمح به لتحقيق غاياته. يُقَدِّم الشيطان الغواية، لكن لا يُلزِم الإنسان بقبولها.
يبرز هنا أن الشيطان لا يقف مكتوف الأيدي أمام خطة الله وأعماله المستمرة لتحقيق الخلاص، فقد أغوى قلب داود لكي ما يُبَدِّد خطط الله من نحو شعبه. أغواه الشيطان كما أغوت الحيّة حواء وآدم، وحاول أيضًا أن يُجَرِّب أيوب ليُحَطِّمه (أي 1، 2)، ورآه زكريا النبي في إحدى الرؤى التي شاهدها (زك 3: 1).
إحصاء الشعب ليس بشرٍ في ذاته، إذ يليق بالراعي أن يعرف رعيته. ولكن من الواضح أن داود أخطأ في هذا العمل، وكان سببًا في غضب الله، لأنه عمل ذلك عن كبرياء قلب وقلة ثقة في الله، بالاعتماد على الأعداد. أجرى داود هذا التعداد بهدف الافتخار بقوة جيشه، ليتَّكل على إمكانيّاته العسكرية لا على الله. الدافع لعمله خطية وهي الغرور. كثيرًا ما تكون الخطية لا في تصرفاتنا الظاهرة، بل في دوافعنا الخفيّة.
نحن متأكدون أن الله لا يتسبَّب في الخطية، "فهو لا يُجرِّب أحدًا"، لذلك عندما يُقَال أنه أهاج داود ليفعلها، يجب التوضيح أنه لأجل هدف حكيم ومُقدَّس سمح الله للشيطان أن يفعلها، وهنا نقتفي أثر هذا التيار الخاطئ في مصدره وأساسه. فليس غريبًا أن الشيطان، الذي هو عدو الله، وكل خير، أن يقف ضد الشعب؛ فهدفه هو تحطيم داود والشعب. وهنا نلاحظ الآتي:
1. من المُدهِش أن الشيطان يؤثر على داود ليفعل شيئًا خاطئًا، وهو الرجل الذي قلبه مثل قلب الله، إذ يُظَن أنه من أولئك الذين لا يمسهم الشرير. سمح الله بذلك لكي نَعْلم أن أَقْدَس القديسين يجب ألا يفكروا أنهم ليسوا في متناول تجارب الشيطان. وهذا يذكرنا بالقديس مقاريوس الكبير الذي قال له الشيطان: "لقد وصلتَ يا مقارة"، فاستمر يجيبه "لم أَصِلْ" إلى أن سلَّم روحه في يد خالقه، فقال "الآن وصلتُ". والآن لما نوى الشيطان أن يحيق أذى بإسرائيل أيّ طريق اتخَّذ؟ إنه لم "يهيج الله ضدهم ليبتلعهم"(أي 2: 3) ولكنه هيَّج داود أعز صديق لهم لكي يَحْصيهم وبذلك يُغضِب الله ويُثِيره ضدهم.
2. عندما يغوينا الشيطان لنخطئ ضد الله، يُصيبنا بأذى أكثر من شكواه ضدنا أمام الله. إنه يُحَطِّم الناس بأنفسهم وأياديهم.
3. أعظم ضرر يُمكن الشيطان أن يفعله بكنيسة الله هو أن يغوي قادتها بالكبرياء، لأنه لا يستطيع أحد أن يرى هذه الخطية في الجميع وبالأخص المُتقدِّمين في الكنيسة "وأما أنتم فليس هكذا. بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر. والمُتقدِّم كالخادم" (لو 22: 26).
v آمن داود بك، وأخذتَه من وراء الغنم، وجعلته ملكًا، وانتصر على جليات وقهر كل مضطهديه.
هيَّج إبليس عليه قواته من كل جهة، ولأن يمينك أمسكَتْ بيده، ثابر ونال شجاعة.
ألقى الشرير في قلبه أن يُحصي الأمة، فأدَّبه الرب بالرحمة، وقبله بمحبة (2 صم 24).
جعله ملكًا، وملأه بروح النبوة، وفاضت ثروة كلماته وملأت كل الخليقة.
صار ينبوعًا، تفجرَّت منه كلمات الروح القدس، وشربت منه الشعوب والعوالم، ولا زالوا عطشى إليها[2].
فَقَالَ دَاوُدُ لِيُوآبَ وَلِرُؤَسَاءِ الشَّعْبِ:
"اذْهَبُوا عُدُّوا إِسْرَائِيلَ مِنْ بِئْر سَبْعٍ إِلَى دَانَ،
وَأْتُوا إِلَيَّ، فَأَعْلَمَ عَدَدَهُمْ". [2]
فَقَالَ يُوآبُ: "لِيَزِدِ الرَّبُّ عَلَى شَعْبِهِ أَمْثَالَهُمْ مِئَةَ ضِعْفٍ.
أَلَيْسُوا جَمِيعًا يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ عَبِيداً لِسَيِّدِي؟
لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا سَيِّدِي؟
لِمَاذَا يَكُونُ سَبَبَ إِثْمٍ لإِسْرَائِيلَ؟" [3]
تُبرِز هذه القصة سقوط داود في ضعفٍ لا يتوقَّعه أحد، الأمر الذي دفع يوآب أن يُوَبِّخ داود عليه. أخطأ داود لأنه اتَّكل على ذراع شعبه على غير عادته، وطلب مجد نفسه.
لقد حذَّره الرب نفسه حين قال له على لسان ناثان النبي: "كنتُ معك حينما توجَّهتَ، وقرضت جميع أعدائك من أمامك، وعملت لك اسمًا كاسم العظماء الذين في الأرض" (1 أخ 17: 8).
لم يستشر داود الله قبل إجراء الإحصاء، كما لم يُصغِ لنصيحة يوآب. فقد كان يوآب ضد فكرة عمل إحصاء، ولم يأخذ الأمر الذي أصدره داود في هذا الشأن بجديةٍ.
كان يوآب الذي استخدمه داود رجلاً ذا شأن في الأعمال العامة، ولكنه أُرْغِمَ على هذا العمل، وفعله بأقصى ما يمكن تصوُّره من التردُّد. لقد قدَّم احتجاجًا على هذا العمل قبل أن يبدأه، فلم يكن هناك إنسان أكثر منه تقدُّمًا في أيّ شيء يؤول إلى ما فيه مجد الملك وخير المملكة، ولكن في هذا الأمر كان يود أن يُعفَى مسرورًا لسببيْن وهما:
1. رأى أنه لا داعي له ولم يكن له أيّة مناسبة، فالله قد وعد أن يُكثِّرَ شعبه، ولم يكن عند يوآب أيّ تساؤل من جهة تنفيذ هذا الوعد، فكل الشعب خدامه ولم يكن عنده شك في ولائهم ومحبتهم له.
2. هذا الأمر خطير والقيام به قد يكون سبَّب تعديًا لإسرائيل، وربما يُثِير غضب الله عليهم، وهذا فهمه يوآب، ولكن داود لم يفهمه، لذا يلزم التشاور بروح التواضع.
فَاشْتَدَّ كَلاَمُ الْمَلِكِ عَلَى يُوآبَ.
فَخَرَجَ يُوآبُ وَطَافَ فِي كُلِّ إِسْرَائِيلَ،
ثُمَّ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. [4]
كان مُضجرًا من هذا الأمر قبل أن يقوم به: "لأن كلام الملك كان مكروهًا لدى يوآب". كل ما صنعه داود الملك قبل ذلك كان حسنًا في أعين جميع الشعب (2 صم 3: 36)، ولكن الآن وُجِدَ اشمئزاز عام على هذه الأوامر وهو الشيء الذي ثَبَّت كُرْه يوآب لها.
فَدَفَعَ يُوآبُ جُمْلَةَ عَدَدِ الشَّعْبِ إِلَى دَاوُدَ،
فَكَانَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ مِلْيُوناً وَمِئَةَ أَلْفِ رَجُلٍ مُسْتَلِّي السَّيْفِ،
وَيَهُوذَا أَرْبَعَ مِئَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مُسْتَلِّي السَّيْفِ، [5]
مع أن نتيجة هذا الاستعراض كانت عظيمة جدًا، إلاَّ أن يوآب لم يكن عنده قلب ليُكَمِّلَه وقد ترك سبطيْن مُهميْن بدون تعداد وهما سبطي لاوي وبنيامين (ع 5-6)، وربما لم يكن مُدَقِّقًا في تعداد الأسباط الأخرى، لأنه فعل الأمر مُتضرِّرًا مما يوضح السبب في اختلاف أرقام التعداد عما ورد في (2 صم 24: 9).
الفرق في أرقام التعداد هنا مع (2 صم 24) يرجع إلى أن صموئيل الثاني لا يحسب عدد الجيش القائم في (1 أي 28)، والذي يضيف أيضًا رؤساء المئات ورؤساء الألوف. فإن داود لم يكن يريد معرفة عدد الجيش النظامي، ذلك لأنه كان يعرفه جيدًا بشكل إجمالي، ولكنه أراد معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه قوة إسرائيل حتى يمكن أن يستخدمه في أية مناسبة ممكنة.
وَأَمَّا لاَوِي وَبِنْيَامِينُ فَلَمْ يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ،
لأَنَّ كَلاَمَ الْمَلِكِ كَانَ مَكْرُوهاً لَدَى يُوآبَ. [6]
لم يُحصَ سبط لاوي لأنهم لا يخضعون للتجنيد الإجباري، ولأن السبط كان منتشرًا بين بقية الأسباط، وكان من الصعب تجميع عدد اللاويين. ولم يُحصَ بنيامين، لأن الإحصاء ارتبك قبل الوصول إلى بنيامين (1 أي 27: 24)، بسبب انتشار الوباء.
هناك تبايُن كبير بين هذه الحادثة بالمقارنة مع ما حدث لداود الصبي الراعي عندما جاء إلى أرض المعركة ورأى جليات الجبار يجول مختاًلا ومُعَيِّرًا لإسرائيل. لم يرغب ذاك الراعي الصغير في عمل تعداد ولم يُحصِ عدد الجيش، ولكن جاء في مزاميره: "الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان. الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء" (مز 118: 8-9)، إنما قال "دعني أواجهه"، لماذا كانت عنده الشجاعة ليفعل ذلك؟ لأنه وثق في الرب. وتَعَلَّم الدرس من حادثة الإحصاء .
v عظيمة هي قوة الرجاء في الرب، قلعة لا تُقهَر، سور واقٍ لا يمكن مهاجمته، إمداد عسكري لا ينهزم، ميناء هادئ، برج منيع، سلاح لا يُقاوم، قوة لا تُقهَر قادرة على اكتشاف ملجأ في موضع لا يتوقعه أحد. بهذه القوة يصير غير المُسَلَّحين مُسَلَّحين، يكون حال النساء أفضل من الرجال، ويبرهن الأطفال أنهم بسهولة يصيرون أكثر قوة من الذين يمارسون فنون الحرب. أي عجب إن كانوا يغلبون أعداءً بينما في الواقع هم يغلبون العالم نفسه... الرجاء بالرب يُغَيِّر كل شيء![3]
v لم يقل: "سوف لا أتألم إنما "لا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان"، بمعنى إن كنت أتألم إلا إني لا أخاف، وكما قال بولس أيضًا: "إن كان الله معنا، فمن علينا؟" (رو 8: 31). في الواقع كانت أمور بلا حصر ضده، لكنه لم يستخدمها بطريقة خاطئة... كان أسمى وأعلى فوق كل المخاوف...
الله يُحِبُّكم يا أعزائي، لهذا فهو يجتذبكم بعيدًا من كل شيء... ويسحبكم إليه[4].
v يقولون: لماذا لا تسندكم (العناية الإلهيّة) حين تُضطهَدون؟... أي شَرٍّ يصيبنا مادمنا نتطلع إلى الموت كانطلاق، به نذهب إلى الرب، وكأنما هو تغيير في الحياة، نخرج من حياة إلى حياة أخرى؟!...
يقول كل منَّا بثقة: "الرب لي مُعِين فلا أخاف، ماذا يفعل بي الإنسان؟" (مز 118: 6). "فإن نفوس الأبرار في يد الرب لا يَمسّها أذى" (حك 3: 1)... إنهم يضطهدوننا ليس لأنّنا فعلة شر، لكنهم يظنون إنّنا كمسيحيين نخطئ ضدّ الحياة، وإنّنا نعمل ضدّ أنفسنا[5].
v قبل أن تبدأ الحرب ابحث عن حليف؛
قبل السقوط في مرض ليكن لك طبيبك؛
قبل أن تَحِلَّ عليك الأمور المُحزِنة صِلّ، ففي وقت أحزانك تجده وهو يسمع لك[6].
ونحن يجب علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال الهام: هل نحن دائمًا نؤمن ونثق في الرب؟ "ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه..." (عب 11: 6) والرب يسوع له المجد قال: "متى جاء الروح القدس فهو يُبَكِّت العالم على الخطية. أية خطية؟ "... لأنهم لا يؤمنون بي" (يو 16: 8)، والقديس بولس الرسول قال: "كل ما ليس من الإيمان فهو خطية" (رو 14: 23)، هذه كانت خطية داود في تلك الحادثة، وسرعان ما تَيَقَّن مقدار الخطأ الذي وقع فيه في هذا الأمر.
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
7 وَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ اللهِ هذَا الأَمْرُ فَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ. 8 فَقَالَ دَاوُدُ لِلهِ: «لَقَدْ أَخْطَأْتُ جِدًّا حَيْثُ عَمِلْتُ هذَا الأَمْرَ. وَالآنَ أَزِلْ إِثْمَ عَبْدِكَ لأَنِّي سَفِهْتُ جِدًّا».
وَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ اللهِ هَذَا الأَمْرُ فَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ. [7]
في الإحصاء لم تُجمَعْ الفدية التي جاء الأمر بها في (خر 30: 12). وجاء كبرياء داود وعصيانه بنتائج خطيرة.
v يرتبط سلوك الحكام غالبًا بسمات الخاضعين لهم، فحتى الذين هم بالحق رعاة صالحون يخطئون كثمرة لشرِّ قطيعهم. فإن داود النبي الذي مُدِحَ بشهادة الله نفسه، والذي تأهَّل لمعرفة أسرار سماوية، انتفخ بكبرياء مُفاجِئ، وأخطأ بإحصاء الشعب. ومع أنه هو الذي أخطأ، سقط الشعب تحت العقوبة. لماذا؟ لأنه في الحقيقة تتأثر قلوب الحُكَّام باستحقاقات شعوبهم.
لقد وُبِّخ القاضي (داود) التقي على خطأ الخاطي بفرضه عقوبة على الأشخاص أنفسهم الذين بسببهم أخطأ هو...
إذ سقط في الكبرياء بكامل حرية إرادته، سقط تحت العقوبة عن خطيته. فإن هذا الغضب الشديد الذي ضرب الشعب في أجسامهم أنهك حاكم الشعب بألم في أعماق قلبه. فبالتأكيد أن استحقاقات الحُكَّام والشعب مُشترَكة ومُترابِطة معًا، إذ غالبًا ما يصير سلوك الشعب شريرًا بسبب خطأ رعاتهم، وسلوك الرعاة يَتغيَّر حسب استحقاقات شعبهم[7].
فَقَالَ دَاوُدُ لله: "لَقَدْ أَخْطَأْتُ جِدًّا،
حَيْثُ عَمِلْتُ هَذَا الأَمْرَ.
وَالآنَ أَزِلْ إِثْمَ عَبْدِكَ، لأَنِّي سَفِهْتُ جِدّاً". [8]
عندما أدرك داود خطيته مع خطورتها، تَحَمَّل المسئولية وبسرعة انسحق مُعترِفًا بخطئه أمام الرب، وطلب منه أن يغفر له.
لقد اعترف اعترافًا صادقًا بخطيته وصلَّى لأجل مغفرتها [8]. اعترف أنه أخطأ جدًا، وأنه فعل هذا الأمر بحماقةٍ شديدةٍ وتوسل أن أن يزول الإثم.
v عندما أمر داود بإحصاء الشعب ضُرِبَ في قلبه جدًا، وقال: "لقد أخطأت جدًا حيث عملت هذا الأمر، والآن أزل يا رب إثم عبدك، لأني سفهت جدًا" (راجع 1 أي 21: 8). وأُرِسَل ناثان النبي (إليه) مرة أخرى لكي يختار (إحدى التأديبات)... قال داود إن هذه الثلاثة (تأديبات) هي كوارث عظمى بالنسبة لي، ولكنني أسقط في يد الرب، لأن مراحمه عظيمة جدًا، ولا أسقط في أيدي الناس.
خطأ داود أنه رغب في معرفة أعداد كل الناس الذين كانوا معه، هذه المعرفة كان يجب تركها لله وحده.
قيل إنه عندما حلَّ الوباء على الشعب في اليوم الأول في وقت العشاء، إذ رأى داود الملاك يضرب الشعب، قال: "أنا الراعي أخطأت وصنعتُ شرًا، فماذا فعل هذا القطيع؟ لتكن يدك عليَّ وعلى بيت أبي". فندم الرب، وأمر الملاك أن يعفي الشعب، وأن يُقَدِّم داود ذبيحة، إذ كانت الذبائح في ذلك الوقت تُقَدَّم عن الخطية، ولكن الآن هي ذبائح الندامة. هكذا بتواضعه صار أكثر قبولاً لدى الله. فإنه ليس غريبًا أن يُخطِئ البشر، إنما يكونون مستحقين التوبيخ إن كانوا لا يعرفون أنهم أخطأوا فيتواضعون أمام الله[8].
9 فَكَلَّمَ الرَّبُّ جَادَ رَائِي دَاوُدَ وَقَالَ: 10 «اذْهَبْ وَكَلِّمْ دَاوُدَ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: ثَلاَثَةً أَنَا عَارِضٌ عَلَيْكَ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَاحِدًا مِنْهَا فَأَفْعَلَهُ بِكَ». 11 فَجَاءَ جَادُ إِلَى دَاوُدَ وَقَالَ لَهُ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: اقْبَلْ لِنَفْسِكَ: 12 إِمَّا ثَلاَثَ سِنِينَ جُوعٌ، أَوْ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ هَلاَكٌ أَمَامَ مُضَايِقِيكَ وَسَيْفُ أَعْدَائِكَ يُدْرِكُكَ، أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَكُونُ فِيهَا سَيْفُ الرَّبِّ وَوَبَأٌ فِي الأَرْضِ، وَمَلاَكُ الرَّبِّ يَعْثُو فِي كُلِّ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ. فَانْظُرِ الآنَ مَاذَا أَرُدُّ جَوَابًا لِمُرْسِلِي». 13 فَقَالَ دَاوُدُ لِجَادٍ: «قَدْ ضَاقَ بِيَ الأَمْرُ جِدًّا. دَعْنِي أَسْقُطْ فِي يَدِ الرَّبِّ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ، وَلاَ أَسْقُطُ فِي يَدِ إِنْسَانٍ».
فَقالَ الرَّبُّ لِجَادَ رَائِي دَاوُدَ: [9]
"اذْهَبْ وَقُلْ لِدَاوُدَ: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
ثَلاَثَةً أَنَا عَارِضٌ عَلَيْكَ،
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَاحِداً مِنْهَا فَأَفْعَلَهُ بِكَ". [10]
فَجَاءَ جَادُ إِلَى دَاوُدَ، وَقَالَ لَهُ:
"هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: اقْبَلْ لِنَفْسِكَ [11]
أَوْ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ هَلاَكٌ أَمَامَ مُضَايِقِيكَ وَسَيْفُ أَعْدَائِكَ يُدْرِكُكَ،
أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَكُونُ فِيهَا سَيْفُ الرَّبِّ وَوَبَأٌ فِي الأَرْضِ،
وَمَلاَكُ الرَّبِّ يَعْثُو فِي كُلِّ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ.
فَانْظُرِ الآنَ، مَاذَا أَرُدُّ جَوَاباً لِمُرْسِلِي". [12]
سقط داود تحت عصا التأديب بسبب إحصاء الشعب. عصا التأديب هذه التي تطرد الحماقة من القلب، حماقة الكبرياء والاعتماد على الأعداد بدلاً من الثقة في الله، ولنتأمل الآتي:
1. لقد أدرك داود أن هذا الأمر قبيح في عيني الله [9-11]، وهذا ليس بالأمر الهَيِّن لإنسان صالح مثل داود. ينظر الرب ولا يُسَرّ بخطية شعبه، وليس هناك خطية أكثر استياء لدى الله من كبرياء القلب وعدم الثقة في الله، كذلك ليس شيء مُحزِن ومُميت لنفس مرهفة الحس أكثر من أن تكون موضع استياء الله.
من النافع لنا أن نلاحظ كيف أن الله يُركِّز على أشياء مُعَيَّنة في حياة داود، فكثيرون هنا يعتبرون أن بعض المواقف خطية ومواقف أخرى إنها ليست خطية أو أنها أقل خطأً، ولكن عندما نمتثل في حضرة الله سوف نكتشف أن نظرتنا كانت خاطئة في هذا المضمار، ونعرف معنى الخطية. يجب أن نَعْلَمَ أن الخطية ليست فقط في الأفعال، أيّ الأشياء التي نعملها أو لا نعملها، بل هي أيضًا في الأفكار والنوايا، وبدراسة كلمة الله نعرف نظرته للخطية.
2. وُضِعَ أمام داود أن يختار عقوبة من ثلاث عقوبات: الحرب، المجاعة، أو الوبأ، وبذلك يسمح الله أن يذله من أجل توبته وخلاص نفسه بالأكثر وُضِعَ في موقف عسير جدًا أمام رهبة ثلاث عقوبات، بلا شك وسط ذهوله العظيم حينما فكر أيًا من الثلاثة يختار.
فَقَالَ دَاوُدُ لِجَادٍ: "قَدْ ضَاقَ بِيَ الأَمْرُ جِدًّا.
دَعْنِي أَسْقُطْ فِي يَدِ الرَّبِّ،
لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ،
وَلاَ أَسْقُطُ فِي يَدِ إِنْسَانٍ". [13]
عندما قُدِّمَت له فرصة اختيار التأديب، فضَّل الوقوع في يد الرب عن الوقوع في يد إنسانٍ، لأنه يَعْلَمُ أنه رحوم.
14 فَجَعَلَ الرَّبُّ وَبَأً فِي إِسْرَائِيلَ، فَسَقَطَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُل. 15 وَأَرْسَلَ اللهُ مَلاَكًا عَلَى أُورُشَلِيمَ لإِهْلاَكِهَا، وَفِيمَا هُوَ يُهْلِكُ رَأَى الرَّبُّ فَنَدِمَ عَلَى الشَّرِّ، وَقَالَ لِلْمَلاَكِ الْمُهْلِكِ: «كَفَى الآنَ، رُدَّ يَدَكَ». وَكَانَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عِنْدَ بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ. 16 وَرَفَعَ دَاوُدُ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ وَمَمْدُودٌ عَلَى أُورُشَلِيمَ. فَسَقَطَ دَاوُدُ وَالشُّيُوخُ عَلَى وُجُوهِهِمْ مُكْتَسِينَ بِالْمُسُوحِ. 17 وَقَالَ دَاوُدُ للهِ: «أَلَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟ وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا عَمِلُوا؟ فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ».
جَعَلَ الرَّبُّ وَبَأً فِي إِسْرَائِيلَ،
فَسَقَطَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ. [14]
للخطية تأثير متسلسل، فهي تجر وراءها سلسلة من العواقب. وإذ نتذكر ما سيحلُّ علينا من عواقب تصير الخطية مُرَّة في فمنا فنرفضها.
سمع داود في غضون ساعات قليلة عن سقوط سبعين ألفًا من رعيته وموتهم بالوبأ. لقد كان فخورًا بوفرة شعبه، ولكن التأديب الإلهي أخذ مجراه ليجعلهم أقل عددًا؛ فباستحقاق يؤُخذ منا ما نفتخر به فنسقط في الضعف ونشعر بمذاقه المُرِّ. فداود أصرَّ على إحصاء شعبه وقال: "اذهبوا عدوا إسرائيل وأتوا إليَّ فأَعْلَم عددهم" [2]، ولكن الله الآن يعدهم بطريقة أخرى: "فأني أُعَيِّنكم للسيف..." (أش 65: 12)، وأتوا لدواد بعدد آخر وكان لإرباكه وليس لمسرَّته فهو عدَّ الذين هلكوا بسيف الملاك، وثيقة الموت السوداء التي كانت لطمة لسجل جنود داود.
ارتكاب الخطية يجر وراءه سلسلة من العواقب الخطيرة؛ قُتِلَ 70,000 إنسان قبل أن يتوقَّف الوباء.
كثيرًا ما تتألم الجماعة بسبب خطأ القائد، لكن في يوم الرب يُدَان كل إنسانٍ عن خطئه الشخصي.
ربما يسأل أحد لماذا سمح الله بموت سبعين ألفًا من الشعب بسبب خطية داود؟
يقول القديس جيروم إنه كثيرًا ما يتساءل الإنسان، لماذا سمح الله بهلاك سبعين ألف رجل بسبب خطأ إنسانٍ واحدٍ، وهو داود؟ ولماذا سمح بهلاك كثيرين بسبب خطأ عخان بن كرمي (يش 7)؟ ولماذا تأخَّر السيد المسيح في مجيئه لخلاص العالم؟ الخ.، يجيب بأننا نحاول أن ندافع عن الله ونُبَرِّر تصرُّفاته، لكن من هو الإنسان حتى يدرك حكمة الله وخطته: [اترك لسلطان الله السيادة على سلطانك، فهو ليس في حاجة إليك لكي تُبَرِّر تصرفاته[9].]
يُقَدِّم لنا القديس أمبروسيوس تساؤلات كثيرة بخصوص أحكام الله. يصعب على الإنسان أن يدرك خطة الله، لأن أحكامه أسمى من أحكامنا. إنه يقول: [هل تتنازل أنت أيضًا... دع الله بسلطانه فوق ما له. إنه لا يحتاج إليك كي تُبَرِّر أعماله[10].]
v بالحقيقة سبق فقلتُ بأن جريمة شخصٍ واحدٍ كانت سببًا في هلاك كثيرين من شعب الله، وذلك كما تَحَطَّم الشعب بسبب سرقة عاخان (يش 7)، والوباء الذي حلَّ بسبب حسد شاول (الملك 1 صم 19)، كما حلَّ الموت بسبب إحصاء الشعب بواسطة القدِّيس داود (1 صم 14؛ 1 أي 21).
كنيسة الله تشبه بالعين، وكما أن ذرة من القذارة، مهما كانت صغيرة، متى سقطت على العين قد تضر البصر، هكذا بنفس الطريقة، إن ارتكب البعض، أعمالاً دنسة، مهما كان عددهم قليلاً في جسم الكنيسة، يعوقون نور الكنيسة البهي[11].
سالفيان كاهن مارسيليا[12]
وَأَرْسَلَ الله مَلاَكًا عَلَى أُورُشَلِيمَ لإِهْلاَكِهَا،
وَفِيمَا هُوَ يُهْلِكُ، رَأَى الرَّبُّ فَنَدِمَ عَلَى الشَّرِّ،
وَقَالَ لِلْمَلاَكِ الْمُهْلِكِ: "كَفَى الآنَ، رُدَّ يَدَكَ!"
وَكَانَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفاً عِنْدَ بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ. [15]
هنا نرى ختامًا للأمر فحالما تاب داود عاد إليه سلامه مع الله: "لقد غضبت عليَّ، ولكن غضبك زال عني"(إش 12: 1). لقد وضع الرب حدًا لتَقَدُّم الهلاك [15]، فلما تاب داود عن هذه الخطية، ندم الرب على حكم الشر وأمر الملاك المُهلِك أن يَرُدَّ يده ويَرُدَّ سيفه إلى غمده [27]، فسيف الحكم رُدَّ إلى الغمد، ولكن عند الجلجثة السيف اخترق جنب ربنا يسوع المسيح، وكما قال أحد الدارسين: "أنا دخلت إلى قلب الله خلال جرح رمح".
فَرَأَى مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ،
وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ،
وَمَمْدُودٌ عَلَى أُورُشَلِيمَ.
فَسَقَطَ دَاوُدُ وَالشُّيُوخُ عَلَى وُجُوهِهِمْ مُكْتَسِينَ بِالْمُسُوحِ. [16]
كان داود يرى الملاك المُهلِك وسيفه ممدود على أورشليم [16]، وهذا سبَّب له رعبًا شديدًا، لأنه علامة غضب السماء وتهديد بإفناء تلك المدينة المحبوبة. فإذا كان منظر ملاك آتيًا في مهمة سليمة قد جعل أعظم الرجال يرتعد، فما بالك بمنظر ملاك سيفه مسلول بيده، سيف ناري كالذي للشاروبيم الذي كان مُتقلبًا لحراسة طريق شجرة الحياة. حينما نكون تحت غضب الله، تكون الملائكة الأطهار التي تفرح بخاطئ تائب ضدنا، ولكننا لا نراهم كما رأى داود.
وَقَالَ دَاوُدُ لله: "أَلَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟
وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ؟
وَأَمَّا هَؤُلاَءِ الْخِرَافُ، فَمَاذَا عَمِلُوا؟
فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهِي، لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي،
لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ". [17]
بقول داود لله هذا، يُقَدِّم مثالاً عمليًا للحُبِّ مع التواضع. في حديث القديس أمبروسيوس عن التحرُّر من الموت، قَدَّم لنا طلبة داود النبي من الله أن تكون يده عليه وعلى بيت أبيه، وليس على الشعب مثالاً عمليًا لقبول الموت كتأديب من أجل تحرُّر النفس من الخطية.
v إذ يُعَلِّمنا الرسول أن الشخص الذي يعبر من جسده يكون مع المسيح، بشرط أن يستحق هذا، فلنتأمل في طبيعة الحياة والموت. إننا نعرف من تعليم الكتاب المقدس أن الموت هو تحرُّر النفس من الجسد، كنوعٍ من الانفصال في الإنسان. فإننا نتحرَّر من هذا القيد بين النفس والجسد عندما نرحل...
لقد قَدَّمَ (داود) نفسه للموت ليُكَفِّرَ عن معصيته للرب، وقَدَّم نفسه مُستعدًا أن يحتمل انتقام الله من أجل راحة شعبه المتألم.
لقد عرف أنه يكون أكثر مجدًا عندما يموت من أجل المسيح عن أن يحكم في هذا العالم (كملكٍ)، فأي شيء أعظم من أن يصير الإنسان تقدمة من أجل المسيح؟[13]
كتب القديس أمبروسيوس في رسالته إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس يُشَجِّعه على التوبة على ما ارتكبه في مذبحة تسالونيكي حوالي عام 390م، ويسأله أن يتشبَّه بداود الملك الذي أخطأ، لكنه قَدَّم توبة عما فعله.
قبل داود العقوبة على إثمه: "لتكن يدك عليَّ وعلى بيت أبي" [17] "أضع نفسي لعصى التأديب، فدعني أُعاني وحدي، فأنا هو الذي أخطأ وأساء وأنا هو الرأس المُذنِب التي يجب أن يُستلَّ السيف عليها".
ألقى نفسه تحت رحمة الله، بالرغم من عِلْمِه أن الله كان غاضبًا منه، ولم يخطر بباله أيّ فكر رديء ضد الله، فمهما يحدث "دعني أسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة جدًا" [13]. فالإنسان الصالح يفكر حسنًا من جهة الله حتى وإن عبست الدنيا في وجهه: "ولو قادني للذبح، فإني أثق فيه".
لقد أظهر شعورًا واهتمامًا حنونًا من جهة شعبه، وقد وُخِزَ في قلبه حينما رآهم مضروبين من أجل تعدِّيه: "وأما هؤلاء الخراف فماذا عملوا" [17].
لم يكن من السهل أن يرى داود ملاك الرب يسحب سيفه على شعبه المحبوب لديه، وعلى مدينة أورشليم التي لها مكانها الخاص في قلبه.
أما موقف داود فهو:
أ. اعترف بخطيته، وسأل الرب من كل قلبه من أجل الصفح عنه [8]. اعترف أنه تصرَّف بغباوةٍ وسفَّه نفسه.
ب. قبِل التأديب من يد الله على خطيته [17]، بكل خضوعٍ.
ج. ألقى بنفسه على رحمة الله بالرغم من معرفته أن الله غاضب عليه [13].
د. أظهر حنوًا على شعبه، وتألم للغاية حين أدرك ما حلَّ بشعبه كان بسبب خطيته.
لا نعجب إن كان الله يسمح بتأديب كثيرين بسبب خطية ارتكبها قلة قليلة، وربما شخص واحد. فإن الله يريد أن تكون كنيسته مقدسة بلا عيب. يسمح بالتأديب الجماعي المؤقت، لأنه في يوم الرب العظيم، يعطي كل واحدٍ حسابًا عن عمله الشخصي. أما هنا فالتأديب العام يسمح به الرب كعظة عملية للجميع.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير)[14] إن شخصيات القادة ترتبط بحال الخاضعين لهم. وغالبًا ما يكونون أناسًا صالحين، لكن للأسف تتغيَّر بسبب السلطان الذي أُعطِي لهم. وكما قال صموئيل النبي لشاول الملك إن الرب يقول له: "أليس إذ كنت صغيرًا في عينيك، صرت رأس أسباط إسرائيل، ومسحك الرب ملكًا على إسرائيل" (1 صم 15: 17).
v رعى داود قطيع أبيه، فأُخِذَ من القطيع ليرعى شعبه. "فرعاهم حسب كمال قلبه، وبمهارة يديه هداهم" (مز 78: 72). وعندما أحصى داود عدد قطيعه، حلَّ الغضب عليهم، وبدأوا يهلكون. عندئذ سَلَّم داود نفسه لحساب قطيعه عندما صَلَّى، قائلاً: "ها أنا أخطأت، وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف، فماذا عملوا؟ فلتكن يدك عليَّ وعلى بيت أبي" (2 صم 24: 17).
هكذا أيضًا اعتاد كل الرعاة الساهرين أن يبذلوا أنفسهم لحساب قطيعهم[15].
v صالح هو التواضع. إنه يُخَلِّص الذين في خطر، ويُقِيم الساقطين. عُرف التواضع عن القائل: "ها أنا أخطأت، وأنا الراعي الذي أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا. فلتكن يدك عليَّ" (راجع 2 صم 24: 17؛ 1 أي 21: 17). حسنًا يقول داود هذا، الذي جعل مملكته تخضع لله، وقَدَّم ندامة، واعترف بخطيته، وطلب الصفح. لقد نال الخلاص بالتواضع!
تواضع المسيح نفسه، ومن يتبع تواضع المسيح ينال الراحة في المسيح[16].
v هكذا بتواضعه صار (داود) أكثر قبولاً لدى الله، فإنه ليس بالأمر الغريب أن يُخطِئ الشعب، لكنهم يُلامون إن كانوا لا يدركون أنهم أخطأوا فلا يتواضعون أمام الله[17].
v ماذا تقول عن داود الذي نال شهادة عظيمة من الله، إذ قال عنه: "وَجَدْتُ رجلاً حسب قلبي، داود بن يسَّى، مسحته برحمتي الدائمة" (مز 89: 21).
هذا الرجل عَيْنُه يقول لله: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، ومثل كثرة رأفتك امح إثمي" (مز 51: 1–17).
اغسلني كثيرًا من إثمي، ومن خطيّتي طَهِّرني، لأني أنا عارف بإثمي وخطيّتي أمامي في كل حين.
لك وحدك أخطأت، والشرّ قدّامك صنعت، لكي تتبرَّر في أقوالك، وتغلب إذا حوكمت.
لأني هأنذا بالإثم حُبل بي، وبالخطايا ولدتني أمي.
لأنك هكذا قد أحببت الحق، إذ أوضحت لي غوامض حكمتك ومستوراتها.
تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج.
تسمعني سرورًا وفرحًا، فتبتهج عظامي المتواضعة.
اصرف وجهك عن خطاياي، وامح كل آثامي.
قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّده في داخلي.
لا تطرحني من قُدَّام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني.
امنحني بهجة خلاصِك، وبروحك الرئاسي (القيادي) قوِّني.
فأُعلِّم الأثمّة طرقك، والمنافقون إليك يرجعون،
نجِّني من الدماء يا الله إله خلاصي، فيبتهج لساني بعدلك.
يا رب افتح شفتي، فيُخبِر فمي بتسبيحك.
لأنك لو آثرت الذبيحة لكنتُ الآن أعطي، ولكنَّك لا تُسَرُّ بالمُحرَقات.
فالذبيحة لله روح منسحق، القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله[18].
← وستجد تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين.
18 فَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ جَادَ أَنْ يَقُولَ لِدَاوُدَ أَنْ يَصْعَدَ دَاوُدُ لِيُقِيمَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ. 19 فَصَعِدَ دَاوُدُ حَسَبَ كَلاَمِ جَادَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ. 20 فَالْتَفَتَ أُرْنَانُ فَرَأَى الْمَلاَكَ. وَبَنُوهُ الأَرْبَعَةُ مَعَهُ اخْتَبَأُوا، وَكَانَ أُرْنَانُ يَدْرُسُ حِنْطَةً. 21 وَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى أُرْنَانَ. وَتَطَلَّعَ أُرْنَانُ فَرَأَى دَاوُدَ، وَخَرَجَ مِنَ الْبَيْدَرِ وَسَجَدَ لِدَاوُدَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. 22 فَقَالَ دَاوُدُ لأُرْنَانَ: «أَعْطِنِي مَكَانَ الْبَيْدَرِ فَأَبْنِيَ فِيهِ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. بِفِضَّةٍ كَامِلَةٍ أَعْطِنِي إِيَّاهُ، فَتَكُفَّ الضَّرْبَةُ عَنِ الشَّعْبِ». 23 فَقَالَ أُرْنَانُ لِدَاوُدَ: «خُذْهُ لِنَفْسِكَ، وَلْيَفْعَلْ سَيِّدِي الْمَلِكُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ. اُنْظُرْ. قَدْ أَعْطَيْتُ الْبَقَرَ لِلْمُحْرَقَةِ، وَالنَّوَارِجَ لِلْوَقُودِ، وَالْحِنْطَةَ لِلتَّقْدِمَةِ. الْجَمِيعَ أَعْطَيْتُ». 24 فَقَالَ الْمَلِكُ دَاوُدُ لأُرْنَانَ: «لاَ! بَلْ شِرَاءً أَشْتَرِيهِ بِفِضَّةٍ كَامِلَةٍ، لأَنِّي لاَ آخُذُ مَا لَكَ لِلرَّبِّ فَأُصْعِدَ مُحْرَقَةً مَجَّانِيَّةً». 25 وَدَفَعَ دَاوُدُ لأُرْنَانَ عَنِ الْمَكَانِ ذَهَبًا وَزْنُهُ سِتُّ مِئَةِ شَاقِل. 26 وَبَنَى دَاوُدُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَدَعَا الرَّبَّ فَأَجَابَهُ بِنَارٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ. 27 وَأَمَرَ الرَّبُّ الْمَلاَكَ فَرَدَّ سَيْفَهُ إِلَى غِمْدِهِ. 28 فِي ذلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا رَأَى دَاوُدُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَجَابَهُ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ ذَبَحَ هُنَاكَ. 29 وَمَسْكَنُ الرَّبِّ الَّذِي عَمِلَهُ مُوسَى فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَذْبَحُ الْمُحْرَقَةِ كَانَا فِي ذلِكَ الْوَقْتِ فِي الْمُرْتَفَعَةِ فِي جِبْعُونَ. 30 وَلَمْ يَسْتَطِعْ دَاوُدُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَمَامِهِ لِيَسْأَلَ اللهَ لأَنَّهُ خَافَ مِنْ جِهَةِ سَيْفِ مَلاَكِ الرَّبِّ.
فَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ جَادَ أَنْ يَقُولَ لِدَاوُدَ أَنْ يَصْعَدَ دَاوُدُ،
لِيُقِيمَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ. [18]
صدرت التعليمات لداود بأن يبني مذبحًا للرب في بيدر أُرنان [18]، وقد أمر الملاك جاد النبي بأن يأتي بهذه التعليمات إلى داود. فنفس الملاك الذي نَفَّذَ الحرب باسم الرب، هنا يأتي بالخطوة المؤدية إلى السلام. لأن الملائكة لا تريد لنا الحزن.
كان في الإمكان أن يأتي الملاك بهذه التعليمات لداود مباشرةً، ولكنه أتى بها عن طريق الرائي، لكي ما يُظهِرُ شرف الأنبياء.
وكذلك إعلان يسوع المسيح أعطاه الله ليوحنا الرسول بيد ملاك، ومنه إلى الكنائس.
وكانت التعليمات لداود بإقامة المذبح رمزًا مباركًا للمصالحة، فإنه لو كان الله يُسَرُّ بموته لما قبل الذبيحة من يديه.
على جبل المرايا التقت النعمة بالبرِّ.
v لاحظوا يا إخوة، إنه لا يوجد مكان في أرض اليهود يستحق أن يُقَام فيه هيكل الرب، إنما في أرض الأمم يوجد موضع مُختَار، حيث نُظِرَ الملاك بُنِيَ المذبح، وبهذا هدأ غضب الرب. وهذا يرمز إلى أن قلوب اليهود لم توجد مُؤهلة كي يُقَدَّم فيها ذبائح، إنما أرض الأمم؛ أي ضمير المسيحيين يُختَار كمكان لهيكل الرب. هذا ما يشير إليه الرسول بوضوح عندما وَبَّخ اليهود، قائلاً: "كان يجب أن تكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجَّه إلى الأمم" (أع 13: 46)... هذا هو السبب أن ملاك الرب وقف في بيدر الملك الأممي، فإن الملاك الحقيقي، المسيح افتقد شعب الأمم[19].
v هنا أيضًا أمسك الملاك سيفه، وبينما كان يهلك كل مدينة الأشرار، أشار إلى هيكل الرب في بيدر أرنان ملك اليبوسيين. هكذا قد أوضح مُبَكرًا أن كنيسة المسيح تنمو، لا في إسرائيل، وإنما بين الأمم[20].
فَصَعِدَ دَاوُدُ حَسَبَ كَلاَمِ جَادَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِاسْمِ الرَّبِّ. [19]
فَالْتَفَتَ أُرْنَانُ فَرَأَى الْمَلاَكَ.
وَبَنُوهُ الأَرْبَعَةُ مَعَهُ اخْتَبَأُوا،
وَكَانَ أُرْنَانُ يَدْرُسُ حِنْطَةً. [20]
أسرع داود يعمل اتفاقًا مع أرنان لأجل البيدر لأنه لا يخدم الله على حساب الآخرين، مع أن أرنان قَدَّمَه له مجانًا، ليس فقط لأجل اللطف قبالة الملك، بل لأنه رأى الملاك [20]، الأمر الذي أثار الرعب فيه مع أولاده الأربعة واختبأوا جميعًا. لأنهم لم يحتملوا بهاء مجده، وخافوا من سيفه المسلول. خوفه من الشر المرتقب جعله مستعدًا أن يعمل أيّ شيء من أجل التكفير، فكل الذين عندهم إحساس مرهف بخوف الله يُعَزِّزون التوبة، ويُشَجِّعون كل طرق المصالحة لأجل ردِّ غضب الله.
وَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى أُرْنَانَ.
وَتَطَلَّعَ أُرْنَانُ، فَرَأَى دَاوُدَ وَخَرَجَ مِنَ الْبَيْدَرِ
وَسَجَدَ لِدَاوُدَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ. [21]
فَقَالَ دَاوُدُ لارْنَانَ: "أَعْطِنِي مَكَانَ الْبَيْدَرِ،
فَأَبْنِيَ فِيهِ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ.
بِفِضَّةٍ كَامِلَةٍ أَعْطِنِي إِيَّاهُ،
فَتَكُفَّ الضَّرْبَةُ عَنِ الشَّعْبِ". [22]
فَقَالَ أُرْنَانُ لِدَاوُدَ: "خُذْهُ لِنَفْسِكَ، وَلْيَفْعَلْ سَيِّدِي الْمَلِكُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ.
انْظُرْ. قَدْ أَعْطَيْتُ الْبَقَرَ لِلْمُحْرَقَةِ،
وَالنَّوَارِجَ لِلْوَقُودِ،
وَالْحِنْطَةَ لِلتَّقْدِمَةِ.
الْجَمِيعَ أَعْطَيْتُ". [23]
فَقَالَ الْمَلِكُ دَاوُدُ لأرْنَانَ: "لاَ! بَلْ شِرَاءً أَشْتَرِيهِ بِفِضَّةٍ كَامِلَةٍ،
لأَنِّي لاَ آخُذُ مَا لَكَ لِلرَّبِّ،
فَأُصْعِدَ مُحْرَقَةً مَجَّانِيَّةً". [24]
المُحرَقة هنا تعني تقديم القلب بكامله لله، أيضًا تقديم الوقت أو المال أو ما نملكه. لذا أراد داود أن يُقَدِّم كل شيءٍ من ماله، وليس من مال الغير.
v قَدَّم أرونة للطوباوي داود البيدر والثور كذبيحة مُحرَقة، لكن الملك داود رفض أن يقبلهما ما لم يدفع أولاً الثمن. هذا أيضًا تحقق عند مجيء ربنا ومخلصنا، إذ رفض أن يأخذ قلوب الأمم لنفسه ما لم يدفع دمه الثمين عنهم[21],
وَدَفَعَ دَاوُدُ لأُرْنَانَ عَنِ الْمَكَانِ ذَهَباً وَزْنُهُ سِتُّ مِئَةِ شَاقِلٍ. [25]
ذكر سفر صموئيل أن ثمن الثيران والبيدر بسيط جدًا، لذلك دفع داود 50 شاقل من الفضة (2 صم 24: 24)، أما سفر الأخبار هنا فواضح أن داود قد قام بشراء المكان كله (Hebrew hammaqom) والذي يتضمن كل منطقة جبل الموريا، لذلك دفع 600 شاقل ذهب.
وقد يكون شراء هذه المنطقة الكبيرة قد أتى في مرحلة تالية، وذلك بعد القيام بشراء بيدر الحنطة والثيران التي استخدمها داود في الذبيحة الأولى.
ولعل الفارق بين الشراء الأول والثاني يفسر لنا لماذا عرض أرونا في المقدمة أن يعطي داود بيدر الحنطة. فمن الصعب أن نفترض إنه كان في مركز يسمح له بإعطاء كل جبل موريا، وإنما يعطي البيدر فقط.
وَبَنَى دَاوُدُ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ،
وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ،
وَدَعَا الرَّبَّ، فَأَجَابَهُ بِنَارٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ. [26]
رفض الملك داود أن يأخذ بيدر أُرنان اليبوسي، ليُقِيمَ فيه مذبحًا مجَّانًا، فإنه لا يُقَدِّم للرب ما هو من مال الآخرين.
أظهر الله قبوله لتقدمات داود على هذا المذبح، "فأجابه بنار من السماء" [26]. فالدليل على رفع غضب الله عنه هو أنه بدل أن تستقر النار بعدل على الخاطئ، استقرت على الذبيحة وأكلتها، وتلا ذلك رد السيف المُهلِك إلى غمده. وكذلك المسيح جُعِلَ خطية ولعنة من أجلنا، لأن الرب سُرَّ أن يسحقه لكي ما يكون الله لنا من خلاله ليس نارًا آكلة بل أبًا مُتصالِحًا.
وَأَمَرَ الرَّبُّ الْمَلاَكَ، فَرَدَّ سَيْفَهُ إِلَى غِمْدِهِ. [27]
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا رَأَى دَاوُدُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَجَابَهُ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ،
ذَبَحَ هُنَاكَ. [28]
استمر داود في تقديم ذبائحه على هذا المذبح، فمذبح النحاس الذي أقامه موسى كان في ذلك الوقت في المرتفعة في جبعون [29]، وكانت ذبائح إسرائيل تُقَدَّم هناك. ولكن داود خاف من جهة نظره سيف الملاك، حتى أنه لم يستطع أن يذهب إلى جبعون ليسأل الله [30]، فالأمر استدعى العجلة عندما بدأ الوبأ. فكان يلزم أن يُسرِعَ هارون بل يجري لكي يصنع تكفيرًا (عد 16: 46- 47). والحالة هنا لم تكن أقل طلبًا للعجلة، فالوقت لم يسمح لداود، لئلا تأتي الضربة القاضية قبل رجوعه. ولذلك أمره الله، شفقةَ منه عليه، أن يُقِيم مذبحًا في ذاك المكان، ومنحه الله حلاً من شريعته الخاصة بالمذبح الواحد بسبب المحنة الحاضرة، وسمح برفع الذبائح على هذا المذبح الذي لم يقم مضادًا للذي في جبعون ولكن مُلازِمًا له، فشعارات الوحدة لم يُصدُّ عليها مثل الوحدة نفسها، وحتى بعد مرور المحنة الحالية (كما هو ظاهر) استمر داود في تقديم الذبائح هنا بالرغم من استمرارية المذبح الذي في جبعون، لأن الله اعتمد الذبائح المقدمة على المذبح الذي في بيدر أُرنان وأقر قبوله لها [28].
وَمَسْكَنُ الرَّبِّ الَّذِي عَمِلَهُ مُوسَى فِي الْبَرِّيَّةِ،
وَمَذْبَحُ الْمُحْرَقَةِ كَانَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْمُرْتَفَعَةِ فِي جِبْعُونَ. [29]
اختار الله موقع بيدر أُرنان اليبوسي على جبل المريا حيث المكان الذي أمر الله إبراهيم أن يُقَدِّمَ ابنه ذبيحة، ناظرًا إلى وقت ذبائح الهيكل، وأخيرًا ذبيحة حمل الله الذي يغفر خطايا العالم. فداود بنى هذا المذبح حيث سيُبْنَى الهيكل وتُقَدَّم ذبيحة، وهذا هو الموضع الذي يجتمع فيه الله مع شعبه وأصبح الآن مكان الذبيحة.
أقام داود هذا المذبح، وقَدّم ذبيحة مُحرَقة، وهي تُشير إلى شخص المسيح، ثم قَدَّم ذبيحة سلامة، وهذه أيضًا تُشير إلى المسيح سلامنا. فالمسيح صنع سلامًا بسفك دمه على الصليب وهو سلامنا، وهو الذي رُشَّ دمه على كرس الرحمة لأجلنا. وهو رئيس كهنتنا الأعظم، وقد صعد إلى السماوات وهو قائم عن يمين الآب، فليس هناك وصول إلى الآب إلاَّ خلال ربنا يسوع المسيح وسيط العهد. أدرك داود هذا بروح النبوات، وقَدَّم ذبيحة المُحرَقة وذبيحة السلامة لله.
وَلَمْ يَسْتَطِعْ دَاوُدُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَمَامِهِ لِيَسْأَلَ الله،
لأَنَّهُ خَافَ مِنْ جِهَةِ سَيْفِ مَلاَكِ الرَّبِّ. [30]
هاتان الآياتان [29-30] تُفَسِّران سبب نقل تلك العبادة إلى أورشليم من جبعون، حيث كان المسكن الذي كانوا يسألون الرب أمامه (1 أخ 16: 39-40؛ خر 29: 42)[22].
ما يشغل الكاتب هنا أن هذه التجربة مرتبطة باختيار موقع الهيكل الذي يبنيه سليمان بن داود (1 أي 21: 18؛ 2 أي 1؛ تك 22: 2).
v إلهي، ترتعب نفسي لئلا تسقط في الضعف!
داود الذي يسلك حسب قلبك،
خدعه الشيطان، فتجاهل إلى حين عنايتك به،
وبعث برئيس جيشه ليُحصِي القادرين على الحرب!
تُرَى هل نسى يوم وقف أمام جليات الجبار،
وهو صبي لا يحمل إلا مقلاعًا؟!
احفظني من أفكار إبليس وخداعاته.
احمني بنعمتك، فلا أنحرف يمينًا أو يسارًا.
v لم يحتمل داود أن يرى شعبه يُبَاد بسبب خطيته.
من أعماق قلبه طلب أن تسقط العقوبة عليه وعلى بيت أبيه.
نظرتَ إلى صرخات قلبه ودموعه.
تطلَّعتَ إلى قلبه المُحب لشعبه،
أكثر من حُبِّه لنفسه وبيت أبيه.
أعطني قلب داود ونصيبين من روحه!
لا أطلب في أنانية من أجل نفسي وعائلتي،
بل أطلب من أجل كل الشعب، بل وكل البشر.
فرِّح قلبي بخلاص الكثيرين.
متى أُرافِقك في حُبِّك للبشرية؟
فأتطلَّع على الدوام على صليبك.
وأترقَّب في رجاء،
أن تصير الأرض وملؤها لك يا مُخَلِّص العالم!
_____
[1] Céline Mangan: 1-2 Chronicles, Ezra, Nehemiah, Delware 1982, p.54.
[2] ميمر 11 على الزانيتين (راجع الأب بول بيجان ترجمة الدكتور سوني بهنام).
Stephen A. Kaufman: Jacob of Sarug's Homily on the Judgment of Solomon, Gorgias, 2008.
[3] On Ps. 11.
[4] On Ps. 118.
[5] Strom. 4: 11.
[6] The Ascetic Homilies, 5.
[7] Morals on the Book of Job 25:16.
[8] Letter 3.
[9] Letter 133:9.
[10] Letter 133:9.
[11] The Governance of God, 7:19.
[12] حوالي عام 400-480م. كاهن معاصر للقديس يوحنا الذهبي الفم، موهوب في الوعظ، حتى أن البعض ينسب عظاته لذهبي الفم، ترك إيارشيته وذهب إلى القسطنطينية وسبب مشاكل للقديس ذهبي الفم.
[13] Death as a Good, 3:8.
[14] cf. Morals on the Book of Job, 25:16.
[15] Demonstrations, 10: 2.
[16] On the Death of Theodosius, 27.
[17] Letter 3.
[18] 1 Clement 18.
[19] Sermon 122:1.
[20] Letter 46:2.
[21] Sermon 122:2.
[22] العهد القديم، الترجمة اليسوعية، المكتبة الشرقية، بيروت 1991.
← تفاسير أصحاحات أخبار أول: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير أخبار الأيام الأول 22 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير أخبار الأيام الأول 20 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/w2666q3