المقال السابع عشر
(تبع) الروح القدس
الروح القدس في العهد
الجديد
الروح القدس هو واحد
نؤمن بالروح القدس الواحد
أسماء الروح القدس
ألقاب أخرى للروح القدس
الروح القدس وتجسد الكلمة
الروح القدس يعمل في
أليصابات
الروح القدس في يوحنا
المعمدان
الروح القدس وعماد الرب
حمامة نوح رمز لهذه
الحمامة
حديث المسيح عن الروح
القدس
الآب واهب الروح
حلول الروح القدس
في يوم البنطقستي
عمل الروح القدس
الناري في النفس
حلول الروح القدس كما من هبوب ريح عاصفة
يتكلمون بألسنة الأمم
الحقيقية
وسيلة السقوط صارت
وسيلة الشفاء
خمر جديدة هي نعمة
العهد الجديد!
إنهم سكارى، لكن ليس
كما تظنون
الروح القدس في
العهد الجديد
الروح القدس يعمل
في جميع الرسل معًا
عجائب بقوة الروح القدس
الروح القدس يعضد
الرسل أمام الحكام
الروح القدس يعمل في
الشمامسة
الروح القدس يعمل في فيلبس
الروح القدس يعمل في بولس
الروح القدس يعمل في بطرس
الروح القدس وهب المؤمنين اسم "مسيحيين"
أقام الروح القدس عهدًا جديدًا
في الكنيسة
الروح القدس يقود بولس
الروح القدس يقود بولس (يتبع)
بولس يشهد لعمل الروح
القدس
الروح القدس ينبئ للرسل
أقنوم الروح القدس
اقبلوا الروح القدس بغير
رياء!
يا لخطورة من يتقدم
للعماد في خداع!
لا تحزن روح الله القدوس
ختام
الحواشي والمراجع
"فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة" (1 كو 12: 8).
1. في المقال السابق قدمت لكم يا أحبائي المستمعين قدر ما استطعت نصيبًا قليلًا من الشهادات الخاصة بالروح القدس. وفي هذه الفرصة أواصل بمسرة الله معالجة الشهادات الباقية من العهد الجديد قدر ما أستطيع. وإذ التزمت بالحدود اللازمة لانتباهكم، قامعًا اشتياقنا في المقال السابق، فإنني الآن أيضًا ألتزم بالحديث عن نصيبٍ قليلٍ فقط مما تبقى (لأنه لا يشبع الإنسان من الحديث عن الروح القدس).
إنني أعترف الآن كما سابقًا أيضًا بأنني أُبتلع من كثرة الأمور المكتوبة. والآن أيضًا لن أستخدم حذاقة إنسانية، لأن هذا غير مفيد، إنما اعتمد على ما ورد في الأسفار المقدسة، إذ هذه أكثر الطرق أمانًا. وكما يقول المطوّب الرسول بولس: "التي نتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات" (1 كو 2: 13). فإننا أشبه بالمسافرين أو المُبحرين، الذين لهم هدف واحد لرحلة طويلة جدًا، فمع أنهم يتعجلون مشتاقين للوصول، لكنهم بسبب الضعف البشري محتاجون إلى الاستراحة في الطريق في مدن ومواني مختلفة.
2. لذلك فبالرغم من أن مقالًاتنا عن الروح القدس منفصلة، لكن هو غير منقسم بل واحد بنفسه لا غير. فكما تكلمنا عن الآب وعلمنا مرة أنه العلة الوحيدة، ومرة أخرى أنه يدعى "الآب" أو القادر على كل شيء، ومرة أخرى أنه خالق العالم، لكن انقسام المقالات لا يصنع انقسامًا في الإيمان بموضوع تعبدنا، بل هو واحد وما زال واحدًا. كذلك عندما تعلمنا في الوعظ أن ابن الله الوحيد من جهة لاهوته، وتارة على ناسوته، مقسمين التعاليم الخاصة بمخلصنا يسوع المسيح في محاضرات كثيرة، ومع ذلك فنحن نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته. هكذا الآن فمع أن المقالات عن الروح القدس منفصلة لكننا نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته، لأنه هو الروح الواحد بعينه الذي "يقسم مواهبه لكل واحد بمفرده كما يشاء"، ويبقى هو غير منقسم. لأن "المعزي" ليس غير الروح القدس بل هو واحد بنفسه مدعو بأسماء متعددة، الذي يعيش ويبقى ويتكلم ويعمل، وأيضًا هو مقدِّس كل الطبائع العاقلة التي خلقها الله خلال المسيح، أي الملائكة والناس.
3. ولكن لئلا يظن أحد عن جهل أن هذه الأسماء العديدة للروح القدس تعني أرواحًا عديدة وليس روحًا واحدًا بذاته، الكائن وحده، لذلك فإن الكنيسة الجامعة بصّرتكم من قبل وسلمت إليكم في قانون الإيمان أنه "نؤمن بالروح القدس الواحد المعزي، الناطق في الأنبياء"، حتى يمكنكم أن تعرفوا أنه مع كثرة أسمائه لكنه الروح القدس الواحد وحده، وسنعيد على مسامعكم بعض هذه الأسماء العديدة.
4. إنه يدعى "الروح" حسبما قُرأ عليكم حالًا من الكتاب المقدس: "لأنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة" (1 كو 12: 28). ويُدعى "روح الحق" كقول المخلص: "وأما متى جاء ذاك روح الحق" (يو 16: 13). ويُدعى أيضًا "المعزي" كقوله: "لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" (يو 16: 7). أما كونه واحدًا لا غير بالرغم من دعوته بألقاب كثيرة فهذا يظهر من الآتي:
إن الروح القدس والمعزي هما واحد كما تعلن العبارة: "وأمّا المعزي الروح القدس" (يو 14: 26). وأن المعزي هو نفسه روح الحق كما يظهر من القول: "فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق" (يو 14: 26، 27)... إنه يُدعى روح الله كما كُتب: "ورأيت روح الله نازلًا" (يو 1: 32). وأيضًا: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو 8: 14). أيضًا يُدعى روح الآب كما يقول المخلص: "لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 20). وأيضًا يقول بولس: "بسبب هذا أحني ركبتيّ للآب... لكي يعطيكم أن تتأيدوا بالقوة بروحه" (أف 3: 14-16). يدعى أيضًا روح الرب كقول بطرس: "ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟!" (أع 5: 9) يُدعى روح الله والمسيح كما يكتب بولس: "وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له" (رو 8: 9). يُدعى روح ابن الله كما هو مكتوب "بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه" (غل 4: 6). يُدعى أيضًا روح المسيح كما هو مكتوب: "أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح فيهم" (1 بط 1: 11). وأيضًا: "بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح" (في 1: 19).
5. إنك تجد ألقابًا أخرى كثيرة للروح القدس بجانب هذه. فهو يُدعى "روح القداسة" كما هو مكتوب: "حسب روح القداسة" (رو 1: 4). ويُدعى "روح التبنّي" كما يقول بولس: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ أيها الآب أبا" (رو8: 15). ويُدعى "روح الموعد" كما يقول بولس: "الذي فيه أيضًا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13). ويُدعى "روح الإعلان" كما هو مكتوب: "كي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته" (أف 1: 17). ويُدعى "روح النعمة" كما يقول أيضًا: "ازدرى بروح النعمة" (عب 10: 29).
لقد دُعيَ بألقاب كثيرة على هذا النمط. وقد سمعت في المقال السابق أنه يُدعى في المزامير بـ"الروح الصالح"(1)، وفي مرة أخرى "روح الرئاسة" (مز 110: 12 LXX). وفي إشعياء "روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إش 11: 2). من خلال عبارات الكتاب المقدس السابق ورودها أو التي نقتبسها الآن يظهر أنه وإن كانت ألقاب الروح القدس متنوعة لكنه واحد، حيّ كائن ودائمًا حال مع الآب والابن...
إنني أطلب إليكم أن تتذكروا ما أخبرتكم به أخيرًا، وأن تعرفوا بوضوح أنه ليس هناك روح في الشريعة والأنبياء وآخر غيره في الأناجيل والرسل، بل هو روح واحد بعينه هو الروح القدس الذي في العهد القديم والجديد ينطق بالأسفار الإلهية"(2).
6. إنه الروح القدس الذي حلَ على العذراء القديسة مريم، لأنه حيث أن من حُبل به هو المسيح الابن الوحيد، لذلك فإن قوة العليّ تظللها، والروح القدس يحل عليها (لو 1: 35) ويقدسها، حتى تقدر أن تحمل ذاك الذي به كان كل شيء (يو 1: 3).
إنني لست محتاجًا إلى كلمات كثيرة لأعلمك أن الميلاد كان بغير دنس أو فساد، إذ قد سبق أن تعلمت هذا. إنه جبرائيل الذي قال لها: "أنا (مجرد) رسول لما يحدث، لكن ليس لي نصيب في العمل. فمع كوني رئيس ملائكة لكنني أعرف مكاني، ومع إنني بفرحٍ أعطيكِ السلام قوة العلي تظللك، لذلك المولود منك القدوس يُدعى ابن الله" (لو 1: 35).
7. عمل الروح القدس في أليصابات، فإنه لا يعرف فقط العذارى بل والمتزوجات إذ يجعل زواجهن شرعيًا. "وامتلأت أليصابات من الروح القدس" (لو 1: 43) وتنبأت، فقالت الأم النبيلة عن ربها: "فمن أين لي أن تأتي أم ربي إليّ"؟! (لو 1: 43)، إذ حسبت أليصابات نفسها مطوّبة. وإذ امتلأ زكريا والد يوحنا من الروح القدس تنبأ (لو 1: 67) محدثًا عن أمورٍ صالحةٍ يفعلها الابن الوحيد، وأن يكون يوحنا سابقًا نذيرًا له (لو 1: 76) خلال العماد.
بالروح القدس أيضًا أُعلن لسمعان البار أن لا يرى الموت قبل أن يعاين الرب المسيح (لو 2: 26-35)، وحمله على ذراعيه وشهد له بوضوح في الهيكل.
8. وأيضًا يوحنا المعمدان امتلأ من الروح القدس وهو في أحشاء أمه(3)، لكي يتقدس، فيعمد الرب، لا أن يهب الروح، بل لكي يكرز بالبشارة المفرحة التي للرب واهب الروح القدس. إذ يقول: "أنا عمدتكم بالماء للتوبة. وأمّا الذي يأتي بعدي فهو يعمدكم بالروح القدس ونار" (مت 3: 11).
لماذا يعمد بالنار؟ لأن الروح القدس كان في ألسنة نارية، هذا الذي قال عنه الرب بفرحٍ: "جئت لأُلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49)
9. نزل الروح القدس هذا عندما تعمد الرب حتى لا تختفي كرامة الذي يعتمد، وكما قال يوحنا: "الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي تري الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" (يو 1: 33).
لكن انظروا ماذا يقول الإنجيل؟ "السماوات انفتحت". انفتحت من أجل كرامة الذي نزل. إذ يقول: "السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا (مضيئًا) عليه" (مت 3: 16)... إنه كان لائقًا -كما فسر الرب- أن يكون أول ثمار وبكور الروح القدس من جهة الوعد بالعماد أن يتحقق أولًا في شخص المخلص واهب النعمة ذاتها.
وربما نزل على شكل حمامة -كما يقول البعض- لكي يعلن أنه على مثل الحمامة من جهة أنها نقية وبريئة وطاهرة، كما أنها تعين صغرها الذين تلدهم... كذلك تحمل بطريقة رمزية ما سبق أن أخبرت به، وهو أن المسيح يُظهر في منظر عينيه، إذ تصرخ (النفس) في نشيد الأناشيد بخصوص العريس قائلة: "عيناه كالحمام على مجاري المياه" (نش 5: 12).
10. هذه الحمامة كانت لها حمامة نوح رمزًا من جانبٍ معينٍ. لأنه كما في عهده جاء الخلاص وبداية عهد جديد بواسطة الخشب والماء، وعادت إليه الحمامة بغصن الزيتون، هكذا يقولون إن الروح القدس نزل على نوح الحقيقي واهب الميلاد الجديد الذي يجمع بين جدران الأمم وحدة واحدة، إذ كانت أنواع الحيوانات المختلفة التي كانت بالفلك رمزًا. هذا الذي بمجيئه صارت الذئاب الروحية ترعى مع الحملان، وفي كنيسته الثور والأسد والذئب يقتادون في مرعى واحد كما نرى في أيامنا هذه، حيث اقتاد رجال الكنيسة حكام العالم وعلّموهم.
لذلك، كما يفسر البعض جاءت الحمامة الروحية في وقت عماده لكي يظهر أنه هو الذي يخلص المؤمنين بواسطة خشبة الصليب في الماء، واهبًا خلاصًا خلال موته.
11. هذه الأمور قد نعود فنوضحها فيما بعد، لكنه يلزمنا الآن أن نستمع إلى كلمات المخلص نفسه بخصوص الروح القدس. إنه يقول: "إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5). هذه النعمة هي من الآب، كما يظهر من قوله: "فكم بالأحرى الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟!" (لو 11: 13)
يلزمنا أن نعبد الله في الروح، إذ يقول: "لكن تأتي الساعة وهي الآن حين الساجدون (الحقيقيون) يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 23-24). وأيضًا: "إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين" (مت 12: 28). وبعد ذلك يقول للحال: "لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمّا التجديف على الروح فلن يُغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 31، 32). وأيضًا يقول: "وأنا أطلب من الآب فسيعطيكم معزيًا آخر يمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأمّا أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو 14: 16). ويقول: "بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو 14: 25). ويقول: "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 15: 26).
ويقول المخلص أيضًا: "لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي" (يو 16: 7)... ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة" (يو 16: 8). وبعد ذلك يقول: "إن لي أمورًا كثيرة لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب فهو لي. لهذا قلت يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 12-15).
12. منح الرب تلاميذه شركة الروح إذ مكتوب: "ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت" (يو 20: 13).
هذه هي المرة الثانية التي فيها نفخ على الإنسان... ليتم الكتاب: "وصعد نافخًا في وجهك، ومخلصًا إيّاك من الحزن" (نا 2: 1 LXX). لكن متى صعد؟ إنه صعد من الجحيم كما يروى لنا الإنجيل، أنه بعد قيامته نفخ فيهم، و بالرغم من أنه وهب لهم في ذلك الوقت نعمته، لكنه يهب بسخاء بأكثر غزارة (فيما بعد)، إذ قال لهم: أنا مستعد أن أعطيها لكم من الآن، لكن الإناء لا يقدر أن يمسك بها. لكن بعد حين تتقبلون نعمة عظيمة هكذا، حيث يمكنكم أن تحتملوها. انظروا إلى قدام قليلًا. "أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لو 24: 39).
الآن اقبلوها جزئيًا (ليس لأنها تُجزأ، لكن بسبب ضعفكم) بعد ذلك تلبسونها في كمالها. لأن من يقبل شيئًا، غالبًا ما يملك العطية جزئيًا، أما من يلبس فيلتحف بثوبه تمامًا.
إنه يقول: لا تخافوا أسلحة إبليس وسهامه، فإنكم تحملون قوة الروح القدس.
لكن تذكر ما قد قيل أخيرًا إن الروح القدس لا ينقسم، لكن النعمة التي تُعطى بواسطته (تكون جزئية قدر احتمالنا).
13. لذلك صعد يسوع إلى السماوات وتمم الوعد، إذ قال لهم: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر" (يو 14: 16). لهذا كانوا جالسين متطلعين إلى مجيء الروح القدس، وإذ حل يوم البنطقستي أيضًا في مدينة أورشليم هذه... نزل الروح القدس من السماء، الذي هو حارس الكنيسة ومقدسها، ومدبر الأرواح، ضابط العواصف الثائرة، الذي يرد الضالين إلى الحق ويحكم المقاتلين ويكلل المنتصرين.
14. نزل لكي يُلبس الرسل بالقوة ويعمدهم، إذ يقول: "ستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بقليل" (أع 1: 5). هذه النعمة لم تكن جزئية، بل هي قوته في كمالها، لأنه كما أن الذي يغطس في المياه ويعتمد تغمره المياه من كل جانب، هكذا هم اعتمدوا بالروح القدس بالكمال...
ولماذا تتعجب؟! خذ مثالًا واقعيًا وإن كان فقيرًا وعامًا، لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد، فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا صار محترقًا، ومن كان أسود صار لامعًا، فإن كانت النار التي هي جسم هكذا تخترق الحديد وتعمل فيه بغير عائقٍ وهو جسم أيضًا، فلماذا تتعجب من الروح القدس أن يخترق أعماق النفس الداخلية؟!
15. ولئلا يجهل الناس عظمة العطية القديرة النازلة عليهم، لذلك كان الصوت مثل أبواق سمائية، إذ "صار بغتة من السماء كما من هبوب ريح عاصفة" (أع 2: 2)، مشيرًا إلى حلول ذاك الذي يهب قوة للبشر ليتمتعوا بملكوت الله بقوة، فترى أعينهم الألسنة النارية، وتسمع آذانهم الصوت. "وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين"، إذ صار البيت إناءً للماء الروحي وجلس التلاميذ فيه، امتلأ البيت كله. وبهذا اعتمدوا تمامًا حسب الوعد ولبست النفس والجسد ثوب الخلاص الإلهي.
"وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نارٍ، واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس". لقد اشتركوا في النار، لا للاحتراق بل النار المخلصة، النار التي تحرق أشواك الخطية بل تهب بهاءً للنفس. هذه تحل عليكم الآن وتنزع خطاياكم وتحرقها كالشوك، فتضيء نفوسكم الثمينة، وتنالون نعمة... لقد استقرت على الرسل مثل ألسنة نارية حتى تتوجهم بتيجان روحية جديدة على رؤوسهم. في القديم كان هناك سيف ناري على أبواب الفردوس، والآن لسان ناري جالب الخلاص يرد العطية.
16. "وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أع 2: 4). بطرس الجليلي أو أندراوس تكلم بالفارسية أو المديانية. يوحنا وبقية الرسل تكلموا بكل ألسنة هؤلاء الأمميين الأصل. لأنه ليس فقط في أيامنا نحن بدأت هذه الجماعات الغريبة أن تجتمع، بل منذ ذلك الحين كانوا يجتمعون هنا من كل الكون. أي معلم يمكن أن يكون هكذا عظيمًا حتى يعلم البشر جميعًا في وقت واحد أمورًا قد لم يكونوا قد تعلموها؟!
يحتاج الإنسان إلى سنوات كثيرة ليتعلم أصول النحو وفنون اللغة حتى يتحدث اليونانية وحدها حسنًا، لكنهم تعلموا جميعًا اللغات الحسنة. قد ينجح الخطيب في التحدث حسنًا، لكن رجل النحو أحيانًا لا يقدر أن يتحدث حسنًا، وصاحب النحو الماهر قد يتحدث أحيانًا لكنه يجهل مواضيع الفلسفة. أما الروح القدس فعلمهم عدة لغات في وقت واحد لم يعرفوها قط طيلة حياتهم. إنها حكمة واسعة. إنها قوة إلهية!
يا للتناقض بين جهلهم الشديد في الماضي وما حدث لهم فجأة، إذ مارسوا هذه اللغات بصورة كاملة ومتنوعة لم يعتادوا عليها.
17. إن جماهير المستمعين قد ارتبكت. وهذه هي المرة الثانية للارتباك. الأول حدث كأمر شرير في بابل، إذ كان ارتباك اللغة بقصد الانقسام بسبب أفكارهم المعادية لله، أما هنا فقد انصلحت الأذهان واتحدت بقصد صالح. وسيلة السقوط صارت وسيلة الشفاء!
لماذا تتعجبون قائلين "كيف نسمعهم يتكلمون بألسنتنا؟" (أع 2: 8) لا تتعجب إن كنت جاهلًا ذلك، فإنه حتى نيقوديموس كان جاهلًا عن مجيء الروح، وقد قيل له: "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب" (يو 3: 8). فإنك وإن سمعت صوته لا تعرف من أين يأتي، فكيف نوضحه هو نفسه في جوهره؟!
18. لكن آخرين سخروا قائلين "إنهم سكارى" (أع 2: 13). في استهزائهم تكلموا بالحق، لأنهم في الحقيقة كانت الخمر جديدة هي نعمة العهد الجديد. هذا الخمر الجديد هو من الكرمة الروحية... كانت قبلًا تحمل هذا الثمر في الأنبياء، والآن قد أنبتت برعمًا في العهد الجديد.
فإنه حتى في الأمور الحسّية نجد الكرمة تبقى كما هي، لكنها تحمل ثمارًا جديدة في مواسمها، هكذا الروح هو بنفسه يستمر كما عمل في الأنبياء والآن يعمل أعمالًا جديدة وعجيبة. فبالرغم من أن نعمته قد تقدمت للآباء أيضًا، لكن هنا تأتي بغزارة، لأنه كان للناس فقط (نصيب) شركة من الروح القدس، أما الآن فاعتمدوا فيه تمامًا.
19. لكن بطرس الذي له الروح القدس عرف ما قد ناله فيقول (موبخًا): يا رجال إسرائيل أنتم الذين يبشركم يوئيل لكنكم لا تعرفون الأمور المكتوبة "لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون" (أع 2: 15). إنهم سكارى، لكن ليس كما تظنون، بل حسبما هو مكتوب: "يسكرون بدسم بيتك، ويشربون بملذاتك" (مز 36: 8). إنهم سكارى بمسكرٍ سام مميت للخطية وواهب حياة للقلب. مسكر مضاد للسُكر الخاص بالجسد. لأن هذا الأخير يسبب نسيان حتى بالنسبة لما كان الإنسان يعرفه، أما هذا فيمنح معرفة حتى لما لم يكن يعرفه الإنسان.
إنهم سكارى لأنهم شربوا خمر الكرمة الروحية القائلة: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو 15: 5). لكن إن كنتم لا تقتنعون، افهموا ما أخبركم به من ذات الوقت الذي نحن فيه، إنها الساعة الثالثة من النهار (أع 2: 25، 15).
فكما يروي لنا مرقس قد صُلب في الساعة الثالثة، والآن الساعة الثالثة يرسل لنا فيها نعمته. لأن نعمته ليست شيئًا بخلاف نعمة الروح. إنما ذاك الذي صُلب وقتئذ هو أيضًا يهب الموعد... وإن أردتم شهادة بذلك أصغوا إلى ما قيل بيوئيل النبي: "يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي" (أع 2: 18)، (كلمة "أسكب" تحمل غنى العطية، إذ لا يُعطي الله روحه بمقياس...) "أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم"، وبعد ذلك يقول: "وعلى عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام، فيتنبأون" (أع 2: 19).
لا يبالي الروح القدس بالأشخاص إذ لا يطلب كرامات بل تقوى الروح. لا ينتفخ الأغنياء ولا ينخذل الفقراء، بل ليستعد كل واحد لتقبل النعمة السماوية.
20. لقد تكلمنا اليوم كثيرًا، ولعلكم قد قلقتم من الاستماع، لكن بقي أن أقول شيئًا. حقًا أن التعليم بخصوص الروح القدس يحتاج إلى مقال ثالث، بل إلى مقالات أخرى، لكن يليق بنا أن يكون لنا معرفة بكل النقط.
وإذ اقترب عيد الفصح المقدس لهذا نطيل مقالنا اليوم، وإن كان لا يكفي المجال لسرد كل شهادات العهد الجديد كما ينبغي... إنما نجمع القليل منها كما تجمع زهور قليلة من مروج واسعة على سبيل المماثلة.
21. لأنه في قوة الروح القدس بإرادة الآب والابن وقف بطرس مع الأحد عشر ورفعوا أصواتهم... وأسَروا في الشبكة الروحية لكلماته حوالي 3000 نسمة.
عظيمة هكذا هذه النعمة التي كانت تعمل في جميع الرسل معًا، حتى أنه من اليهود صالبي المسيح، آمن هذا العدد العظيم، واعتمدوا باسم المسيح "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والصلوات" (أع 2: 42).
وأيضًا بنفس القوة التي للروح القدس "صعد بطرس ويوحنا معًا إلى الهيكل في ساعة الصلاة التاسعة" (أع 3: 1)، وباسم يسوع المسيح شفيا الرجل الذي عند باب الجميل الأعرج من بطن أمه منذ أربعين عامًا، فتحقق ما قيل: "حينئذ يقفز الأعرج كالأيل" (إش 35: 6).
وهكذا إذ أسَرا في شبكة تعليمهما الروحية خمسة آلاف مؤمنًا في وقت واحد، وقفا ضد رئيس الكهنة وقادة الشعب الضالين ليس بحكمتهما الخاصة إذ "أنهما عديما العلم وعاميان" (أع 4: 13)، بل بقدرة الروح القدس القدير، إذ مكتوب حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس (أع 4: 8).
هكذا أيضًا عظيمة هي نعمة الروح القدس التي عملت بواسطة الاثني عشر رسولًا في الذين آمنوا حتى أنهم كانوا "بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ" (أع 4: 32)، وكان كل ما لهم مشتركًا، وأصحاب المقتنيات يبيعونها ويقدمون أثمانها، ولم يكن أحد محتاجًا إلى شيءٍ، بينما حاول حنانيا وسفيرا أن يكذبا على الروح فسقطا تحت العقاب المناسب لهما.
22. "وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب" (أع 5: 12). هكذا عظيمة هي النعمة الروحية التي ظللت الرسل، حتى وهم ودعاء كانوا مُرعِبين. "وأمّا الآخرون فلم يكن أحد منهم يجسر أن يلتصق بهم، لكن كان الشعب يعظمهم. وكان مؤمنون ينضمون للرب، جماهير من رجال ونساء" (أع 5: 13-14). وامتلأ الطريق بالمرضى على أسرَّتهم وفراشهم، "حتى إذا جاء بطرس يخيم ولو ظلّه على أحدٍ منهم، واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم"، هذه المدينة المقدسة، "حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة وكانوا يبرأون جميعهم" (أع 5: 51، 16) بقوة الروح القدس.
23. وأيضًا سجن الاثنا عشر رسولًا بأمر رئيس الكهنة بسبب التبشير بالمسيح، وبأعجوبة خلصوا منه في الليل بواسطة ملاك، فاُستُدعوا من الهيكل في المجمع للحكم، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وفي خوف انتهروهم بسبب حديثهم عن المسيح، فأجابوا أن الله يعطيهم روحه لطاعته. وعندما جلدوهم ذهبوا فرحين، ولم يكفوا عن التعليم والتبشير بيسوع أنه المسيح (أع 5: 12).
24. ولم تكن نعمة الروح القدس عاملة في الاثني عشر رسولًا فحسب، بل وفي بكر أبناء الكنيسة... أقصد السبعة شمامسة الذين اُختيروا. وكما هو مكتوب أنهم كانوا "مملوءين من الروح القدس وحكمة" (أع 6: 3). هؤلاء الذين كان منهم استفانوس الذي بحق دُعي هكذا، أول الشهداء، إنسان "كان مملوءًا إيمانا وقوة (من الروح القدس)، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب" (أع 6: 8)، ويفحم المجادلين له. إنهم "لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أع 6: 10). وعندما اتهموه بمكرٍ، وأتوا به إلى المجمع كان متلألئًا بضياء ملائكي، ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك... وإذ بحكمته دافع مفحمًا اليهود الذين هم "قساة القلب وغير المختونين بالقلوب والآذان، دائمًا يقاومون الروح القدس" (أع 7: 51).
"نظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله" (أع 7: 56). لقد رآه لا بقوته الذاتية، بل كما يقول الكتاب المقدس: "وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله" (أع 7: 55).
25. في قوة الروح القدس أيضًا فيلبس في وقت ما في اسم المسيح كان يُخرج الأرواح النجسة، التي كانت تخرج صارخة بصوت عظيم، وشفى المفلوجين والعرج وآمن جمع كثير بالمسيح (راجع أع 8)...
ثم إن ملاك الرب دعا فيلبس في الطريق من أجل الإثيوبي الخصي التقي جدًا، إذ سمع بوضوح الروح يقول له "تقدم ورافق هذه المركبة" (أع 8: 29). لقد علَّم الخصي، وعمّده، فذهب إلى إثيوبيا كرسول المسيح، كما هو مكتوب: "إثيوبيا تبسط يدها" (مز 31:68). واختطف الملاك فيلبس فصار يبشر بالإنجيل في المدن بالتتابع.
26. أيضًا بهذا الروح القدس امتلأ بولس بعدما دعاه ربنا يسوع المسيح. وها هو حنانيا البار يشهد لما نقول، إذ في دمشق قال له: "قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس" (أع 9: 17). وللوقت تحوّل عمى بولس إلى حدة نظر بعمل الروح القدير، إذ نال نعمة ختمه في نفسه، جعلته إناءً مختارًا لحمل اسم الرب... فارتد المضطهد السابق إلى سفيرٍ وخادمٍ صالحٍ، "حتى أنه من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكمل التبشير بالإنجيل" (راجع رو 15: 19). وعلَّم في روما الإمبريالية، وحمل غيرة تبشيره إلى أسبانيا محتملًا معارك (روحية) بلا حصر وصانعًا آيات وعجائب...
27. بنفس قوة الروح أيضًا بطرس شفى إينياس المفلوج باسم المسيح في لدة التي هي الآن ذيوسبلس Diospolis. وفي يافا أقام طابيثا من الموت. وهو على السطح رأى السماء مفتوحة، وبواسطة الإناء النازل عليه مثل ملاءة مملوءة من حيوانات من كل شكل ونوع، تعلم بوضوح ألاّ يدعو أحدًا نجسًا أو دنسًا، حتى وإن كان يونانيًا (أع 10: 11-16 أمميًا أو وثنيًا). وعندما أُرسل إلى كرنيليوس سمع بوضوح الروح القدس نفسه يقول: "هوذا (ثلاثة) رجال يطلبونك، قم وأنزل وأذهب معهم ،غير مرتابٍ في شيءٍ، لأني أنا قد أرسلتهم" (أع 10: 19، 20).
ولكن يظهر بوضوح أن الذين من الأمم يؤمنون أيضًا، وتعاد لهم شركة نعمة الروح القدس، لذلك عندما ذهب بطرس إلى قيصرية وكان يعلم بالأمور المختصة بالمسيح يقول الكتاب عن كرنيليوس والذين معه: "فبينما بطرس يتكلم بهذه الأمور حلَ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة. فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان، كل من جاء مع بطرس، بأن موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأمم أيضًا" (أع 10: 44، 45).
28. وفي أنطاكية أيضًا، المدينة المشهورة جدًا في سوريا، عندما كان التبشير منتشرًا، أرسل برنابا إلى هناك ليساعد في العمل إذ "كان رجلًا صالحًا وممتلئًا من الروح القدس والإيمان" (أع 11: 24)، وإذ كان محصول المؤمنين بالمسيح كبيرًا أحضروا بولس من طرطوس إلى أنطاكية ليعينه في جهاده. وإذ تعلم جمع غفير بواسطتهما إذ اجتمعا في الكنيسة "ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا" (أع 11: 26). يبدو لي أن الروح القدس إذ وهب المؤمنين الاسم الجديد... وإذ سكب الله روحه بغزارة في أنطاكية نجد هناك أنبياء ومعلمين من بينهم "واحد منهم اسمه أغابوس" (أع 11: 28).
"وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع 13: 2)، وبعدما وضعوا الأيدي عليهما أُرسلا بواسطة الروح القدس.
من الواضح إذن الروح الذي يتكلم ويرسل هو روح حي، كائن عامل كما قلنا.
29. هذا الروح القدس في وحدة مع الآب والابن أقام عهدًا جديدًا في الكنيسة الجامعة، محررًا إيّانا من أثقال الناموس... اقصد ما هو دنس وما هو ليس دنسًا، واللحوم والسبوت والشهور الجديدة، والختان والنضحات والذبائح (الدموية). الأمور التي تُعطي إلى زمان، وهي ظل للأمور العتيدة (عب 10: 1)، لكن متى جاء الحق نُزعت هذه بحق.
لأنه عندما أرسل بولس وبرنابا بسبب السؤال الذي ثار في أنطاكية بواسطة القائلين بضرورة اختتانهم وحفظ عوائد موسى، فإن الرسل الذين كانوا هنا في أورشليم حَرَّروا كل العالم من كل الملاحظات الرمزية والناموسية بأمر كتابي، لكنهم لم ينسبوا الحق إلى أنفسهم في أمرٍ عظيمٍ كهذا، بل أرسلوا أمرًا مكتوبًا، جاء فيه "لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلًا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم والمخنوق والزنا" (أع 15: 28-29)، مظهرين بوضوح بما كتبوه أنه بالرغم من أن الكتابة كانت بأيدي الرسل البشريين، لكن القانون صادر من الروح القدس، هذا الذي أخذ به بولس وبرنابا ثبتاه في العالم كله.
30. والآن إذ بلغت هذا الحد في مقالي أطلب من محبتكم الاهتمام، أو بالأحرى أطلب من الروح الساكن في بولس بسبب عجزي عن سرد كل شيء على مسامعكم بسبب ضعفي أو قلق المستمعين. لأنه بأية عبارات لائقة أتحدث عن الأعمال العجيبة التي حدثت بواسطة الروح القدس في اسم المسيح؟ هذه الأعمال التي تمت في قبرص... وسيليكية وفريجية وغلاطية وميسيا ومكدونية؟! أو ما حدث في فيلبي... وتسالونيكي، أو الخطاب الذي ألقي في أريوباغوس وسط الأثينيين، أو التعاليم التي سردت في كورنثوس وفي كل آسيا؟!...
عظيمة هي النعمة الروحية التي كانت عليهم (أهل أفسس) حتى أن الأمراض كانت تًشفى والأرواح الشريرة تخرج، ليس فقط بلمسة، بل بأخذ العصائب والمناديل التي على جسده (أع 19: 12). وأخيرًا أولئك الذين مارسوا فنون السحر، إذ أحضروا كتبهم وأحرقوها أمام كل الناس (أع 19: 19).
31. إنني أعبر على الأعمال التي حدثت في ترواس لأفتيخوس الذي غلبه النوم فسقط من الدور الثالث، وحُمل ميتًا، فأعاده إلى الحياة (أع 20: 9-12).
إنني أعبر أيضًا على النبوات التي أعلنها لقسوس أفسس الذين دعاهم إليه في ميليتس، محدثًا إيّاهم بصراحة قائلًا: "غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلًا: (أع 20: 23)... فبقوله "كل مدينة" يعلن بولس الرسول أن العجائب التي تمت على يديه(4) في كل مدينة هي من عمل قوة الروح القدس بإرادة الله في اسم المسيح الذي يتكلم فيه.
بقوة هذا الروح القدس كان الرسول نفسه يسرع إلى هذه المدينة المقدسة أورشليم. وبالرغم من أن أغابوس أنبأ له بالروح بما سيحل به، لكنه في ثقة تكلم مع الشعب، معلمًا بالأمور المختصة بالمسيح.
وعندما أُحضر إلى قيصرية ووُجد بين محاكمات، تارة أمام فيلكس، وأخرى أمام فيستوس الوالي والملك أغريباس، تلقى بولس الرسول من الروح القدس قوة عظيمة، وهكذا غلب في حكمة، حتى أن أغريباس نفسه ملك اليهود قال: "غالبًا ما تقنعني أن أصير مسيحيًا"(5).
وفي جزيرة مالطة وهبه الروح القدس ألاّ يصيبه ضرر عندما لدغته أفعى، مقدمًا شفاءات للمرضى.
هذا الروح القدس قاد المُضطهِد القديم كرسول للمسيح حتى إلى روما الإمبريالية، وهناك أقنع يهودًا كثيرين ليؤمنوا بالمسيح، وكان يحاججهم قائلًا بوضوح: "حسنًا كلّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي (عنكم) قائلًا..." (أع 28: 25)
32. أما كون بولس مملوءً من الروح القدس هو وكل رفقائه الرسل والذين آمنوا بالآب والابن والروح القدس فاسمع منه بنفسه، إذ يكتب بوضوح في رسائله قائلًا: "وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة" (1 كو 2: 4). وأيضًا: "الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون (غيرة) الروح" (2 كو 1: 22). وأيضًا "الذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11). ويكتب إلى تيموثاوس قائلًا: "احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس المعطى لنا"(6).
33. أما عن كون الروح القدس قائمًا ويحيا ويتكلم وينبئ، فهذا سبق أن تحدثت عنه قبلًا. يكتب بولس إلى تيموثاوس بوضوح: "ولكن الروح يقول صريحًا إن في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان. الارتداد الذي نراه ليس في الأيام السابقة، بل وفي أيامنا نحن إذ كثيرة ومتنوعة هي أخطاء الهراطقة.
مرة أخرى يقول بولس "الذي في أجيال أُخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه في الروح" (أف 3: 5).
وأيضًا: "لذلك كما يقول الروح" (عب 3: 7).
وأيضًا: "ويشهد لنا الروح القدس أيضًا" (عب 10: 15).
وأيضًا: "وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي كلمة الله" (أف 6: 17).
وأيضًا: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية" (أف 5: 18، 19).
وأيضًا: "نعمة الرب يسوع ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2 كو 13: 14).
34. بكل هذه البراهين التي قدمتها وأكثر منها يُمكن أن نفهم أقنومية الروح القدس وتقديسه وقوته العاملة. لأن الوقت لا يسعفني في مقالي لو رغبت في اقتباس ما تبقى من العبارات الخاصة بالروح القدس في الأربع عشرة رسالة التي لبولس حيث يعلم فيها بكل كمال ووقار... وإنني استمد الغفران من قوة الروح القدس نفسه لما حذفناه بسبب قلة الأيام. أما أنتم أيها السامعون، فيليق بكم أن تهتموا بأكثر كمال أن تعرفوا ما تبقى خلال القراءات المختلفة في الكتاب المقدس، إذ تجتهدون لفهم هذه الأمور.
من خلال المقالات الحالية أو السابق عرضها عليكم يمكننا أن نتمسك بأكثر ثبات بالإيمان أننا "نؤمن بالله الواحد، الآب القدير، وربنا يسوع المسيح ابنه الوحيد، والروح القدس المعزي".
وبالرغم من أن الكلمة نفسها واللقب "روح" تنطبق على (الثالوث) عامة في الكتاب المقدس، إذ قيل عن الآب: "الله روح" (يو 4: 24)، كما جاء في إنجيل يوحنا وقيل عن الابن: "روح أمام وجهنا المسيح الرب" كقول إرميا النبي (راجع مرا 4: 20). وعن الروح القدس قيل: "المعزي الروح القدس" (يو 14: 25)...
35. أحذروا لئلا تكونوا مثل سيمون فتأتوا إلى مدبري العماد في رياء فلا تكون قلوبكم طالبة الحق. عملنا نحن أن نمنع هذا، وعملكم أنتم أن تحفظوا نفوسكم. إن كنتم ثابتين في الإيمان، فمباركون أنتم. وإن كنتم ساقطين في عدم الإيمان فاطرحوا عنكم كفركم واقبلوا إيمانًا كاملًا.
ففي فصل العماد، عندما تأتوا في حضرة الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة... اقتربوا إلى خادم العماد، ولا تفكروا في الوجه المنظور، بل تذكروا الروح القدس هذا الذي نتكلم عنه الآن. لأنه حَال، ليختم نفوسكم. إنه سيهبكم ذلك الختم الذي ترتعب منه الأرواح الشريرة، ختمًا سماويًا مقدسًا كما هو مكتوب: "الذي فيه أيضًا أنتم إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13).
36. لكنه هو يمتحن النفس. إنه لا يلقي لآلئه قدام الخنزير. فإن جئت برياءٍ فإنه حتى وإن عمدك الناس لا يعمدك الروح القدس. وإن تزكَّيت بإيمان، فإن الناس يخدمون (السرّ) فيما هو منظور والروح القدس يهب ما هو غير منظور.
إنك تأتي إلى تجربة عظيمة، إلى ضيقة شديدة، فإنه في ساعة واحدة تُطرد وتكون كارثتك مرعبة. أما إن كنت مستحقًا للنعمة، فتستنير نفسك وتتقبل قوة لم تكن لك من قبل، تتقبل أسلحة مرعبة ضد الأرواح الشريرة. فإن لم تلقِ عنك أسلحتك محتفظًا بالختم على نفسك لا يقدر أي روح شرير أن يقترب إليك بل يهرب، لأن بروح الله تخرج الأرواح الشريرة.
37. إن كنت تؤمن، فإنه ليس فقط تنال غفران الخطايا بل وتصنع أمورًا فوق الطاقة الإنسانية. ربما تتأهل لنعمة النبوة أيضًا. إنك تتقبل نعمة حسب قياس طاقتك لا حسب كلماتي. لأنني ربما أتكلم عن أمورٍ قليلةٍ وأنت تُوهب أمورًا أعظم، لأن للإيمان عمل عظيم للغاية.
في كل حياتك يسكن معك حارسك المعزي يعتني بك كجندي لك في خروجك ودخولك وضد أعدائك (الروحيين).
إنه يهبك عطايا النعمة من كل نوع إن كنت لا تحزنه بالخطية، إذ مكتوب "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء" (أف 4: 3).
ماذا إذن ألا تحتفظ أيها الحبيب بالنعمة؟ تهيأ لتقبلها، ومتى تقبلتها لا تطردها عنك.
38. ليت إله الكل ذاته الذي تكلم بالروح القدس خلال الأنبياء، والذي أُرسل على رسله في يوم البنطقستي في هذا المكان، هو نفسه يرسله عليكم في هذا الوقت، وبواسطته يحفظنا نحن أيضًا لكي نتمتع ببركاته نحن جميعًا، حتى نرد إليه ثمار الروح "محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غل 5: 22، 23)، في المسيح يسوع ربنا الذي له وبه ومع الروح القدس المجد للآب الآن والي الأبد وإلى أبد الأبد. آمين.
_____
(4) كان الحديث عن الآلام والأتعاب التي يلاقيها الرسول في كل مدينة.
(5) أع 26: 28 "بقليل تقنعني أن أكون مسيحيًا".
(6) 2 تي 1: 4 "الروح القدس الساكن فينا".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/cyril/ghost.html
تقصير الرابط:
tak.la/fb8dt6z