← اللغة الإنجليزية: Jerusalem - اللغة العبرية: יְרוּשָׁלַיִם - اللغة اليونانية: Ιερουσαλήμ - اللغة الأمهرية: እየሩሳሌም - اللغة القبطية: (اختصار) Ⲓⲗ̅ⲏ̅ⲙ̅؛ كاملة: Ⲓⲉⲣⲟⲩⲥⲁⲗⲏⲙ - اللغة الأرامية: ܐܘܪܫܠܡ - اللغة اللاتينية: Hierosolyma.
وكانت عاصمة يهوذا وفلسطين السياسية لزمن طويل. كما أنها مدينة مقدسة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين.
أول مرة ورد فيها اسم أورشليم هو في نقش مصري قديم يرجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وفيه تصب اللعنة على أمير هذه المدينة. وربما أن معنى هذا الاسم هو "أساس السلام" أو "أساس الإله شاليم" وتدعى هذه المدينة في (مز 76: 2) "ساليم" ولذا فيرجح أن شاليم التي كان ملكي صادق ملكًا لها هي نفس. أورشليم (تك 14: 18). أما أسماء أورشليم الأخرى فهي: - يبوس (قض 19: 10، 11) أريئيل (1ش 29: 1) مدينة العدل (أش 1: 26) والمدينة (مز 72: 16) ومدينة القدس أو المدينة المقدسة (أش 48: 2؛ مت 4: 5) أما أسماؤها في العربية فبالإضافة إلى أورشليم فهي تسمّى أيضًا بيت المقدس والمقدس والقدس الشريف أما الاسم الغالب فهو القدس.
تقع أورشليم على مسافة أربعة عشر ميلًا غربي الطرف الشمالي للبحر الميت، وعلى بُعْد ثلاثة وثلاثين ميلًا جنوبي شرقي يافا الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مسافة ستة أميال شمال شرقي بيت لحم، وعلى بُعْد مئة وثلاثة وثلاثين ميلًا جنوبي غربي دمشق، ويتفاوت ارتفاع المدينة فوق سطح البحر بين 2350 قدمًا إلى 2850 قدمًا. ولذا فمناخها معتدل متوسط، درجة حرارته على مدار السنة 63 درجة فهرنهايت Fahrenheit، ومتوسط سقوط الأمطار فيها في السنة يصل إلى 26 بوصة تقريبًا. وتسقط معظم الأمطار بين تشرين الثاني (نوفمبر) ونيسان (ابريل).
بنيت أورشليم على خمسة تلال تكون في مجموعها نتوءًا صخريًا يبرز في وسط أرض يهوذا الجبلية في الشمال، وتحيط بها الوديان والتلال من الجهات الثلاث الأخرى. وكانت المدينة اليبوسية الأصلية على التل الجنوبي الشرقي، وهو الآن غير آهل بالسكان كثيرًا. وقد دعي هذا التل باسم "صهيون" ومدينة داود (2صم 5: 7) وكان اسم عوفل أو "الأكمة" يطلق على الطرف الشمالي من هذا التلّ على الأقل (2 أخبار 27: 3؛ نحم 3: 26) ويدعو يوسيفوس المؤرخ هذا التل باسم اكرا أو المدينة السفلى. أما التل الشرقي الأوسط فقد كان المكان الذي أقيم عليه الهيكل. ويدعى في (تك 22: 2) "المرّيا" وقد كان موضع بيدر أرونة أو أرنان، ومنه اشتراه داود ليكون الموضع الذي يبني فيه الهيكل (2 أخبار 3: 1) ويطلق الأنبياء اسم صهيون على التل المقام عليه الهيكل أيضًا (انظر 1ش 4: 5) ويدعو يوسيفوس المؤرخ التل الجنوبي الغربي المدينة العليا. ومنذ القرن الرابع الميلادي واسم صهيون يطلق خطأ على هذا التل. أما التلّ الشمالي الغربي فيرجح أنه لم يكن واقعًا ضمن نطاق المدينة في أزمنة العهد القديم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس الكتاب المقدس والأقسام الأخرى). ويدعوه يوسيفوس الحي الشمالي وهو الآن الحيّ المسيحي في المدينة. وأما التلّ الخامس وهو الشمالي الشرقي فلم يكن جزءًا من المدينة في أزمنة العهد القديم ويدعوه يوسيفوس بيزيثا أو المدينة الجديدة.
وتحيط التلال بأورشليم من ثلاثة جوانب (مز 125: 2) فإلى الشمال الشرقي منها جبل سكوبس، وجبل الزيتون في الشرق وجبل دير أبو طور في الجنوب، ويسمى أيضًا تلّ المشورة الشريرة، ويقول عنه التقليد أن يهوذا خنق نفسه هناك، وسلسلة تلال اليهودية الرئيسية في الغرب.
وادي قدرون وهو يقع بين المدينة وجبل الزيتون إلى الشرق. ويسمى أيضًا وادي يهوشافاط (يؤ 3: 12) ويدعى في العربية وادي سيدتي مريم، وإلى الغرب من المدينة يقع واد يدعى وادي الميس ويتجه شرقًا إلى بركة السلطان ويسير إلى جنوب المدينة ويسمى هذا الجزء منه وادي الربابة. ويرّجح أن وادي الربابة هو وادي ابن هنوم واسمه في العبرية جي هنوم (يش 18: 16) وهو نفس اسم "جهنم" في العربية. ويوجد بين التلال الشرقية والتلال الغربية في المدينة واد، وقد امتلأ الآن بقطع الأحجار والطوب وغيرها التي ألقيت فيه على مدى القرون ويسميه يوسيفوس وادي "تيروبيون" ومعناه "صانعوا الجبن" ويسمى في العربية بالوادي. ويتصل وادي الربابة بوادي سيدتي مريم جنوبي شرقي المدينة ويتكّون منها وادي النار الذي يسير في الجنوب الشرقي إلى البحر الميت.
1. الينابيع:
توجد في منطقة أورشليم أربعة ينابيع معروفة وهي:
النبع المسمى جيحون في (1 مل 1: 38) ويدعى الآن عين سيدتي مريم أو عين أم الدرج في وادي قدرون شرقي التل الجنوبي الشرقي مباشرة. وقد حفر الكنعانيون سردابًا في الصخر، يصل بين المدينة وبين هذا النبع ليستخدم في وقت الحصار، ويرجح أن يوآب ورجاله دخلوا المدينة من هذا السرداب ليأخذوها لداود (2صم 5: 8؛ 1 أخبار 11: 6). وتوجد بئر بالقرب من التقاء وادي الربابة بوادي سيدتي مريم تعرف ببئر أيوب، ويرجح أنها عين روجل التي ورد ذكرها في (1 مل 1: 9). وشمالي الهيكل وبالقرب من كنيسة القديسة آن الموجودة في الوقت الحاضر، توجد بركة بيت حسدا التي يمدها بالمياه نبع متقطع (يوحنا 5: 2-4) وتوجد غرب الهيكل ينابيع تسمى حمّام الشفاء.
2. مستودعات المياه:
بركة الحمرا في الطرف الجنوبي من التل الجنوبي الشرقي ويرّجح أنها نفس البركة السفلى والعتيقة (إش 22: 9-11)، وإلى الشمال قليلًا من بركة الحمرا توجد عين سلوان التي هي البركة العليا المذكورة في (2مل 18: 17) ويرّجح أنها نفس بركة الملك المذكورة في (نحم 2: 14)، وبركة سلوام المذكورة في (يوحنا 9: 7) وقد عمل هذه البركة الملك حزقيا (2مل 20: 20)، وإلى شمالي منطقة الهيكل توجد بركة إسرائيل الكبيرة وبركة بيت حسدا (يو 5: 2-4)، خارج الباب الشرقي الذي يدعى باب سيدتي مريم يوجد مستودع مياه يسمى بركة سيدتي مريم، وفي الجزء الغربي من سور المدينة توجد بركة حمّام البطريق، وقد دعاها البعض خطأ، بركة حزقيا. وخارج السور الحالي، وغربي باب يافا أو باب الخليل توجد بركة السلطان، وربما سميت كذلك نسبة إلى السلطان سليمان القانوني Suleiman the Lawgiver. وكذلك يوجد كثير من خزّانات المياه المغطاة والتي تستخدم لخزن المياه فيها وتشمل هذه خزّانات المياه الكبيرة الموجودة تحت منطقة الهيكل. وأقيمت مستودعات حديثة جلبت إليها المياه من عيون قارة.
3. القنوات:
اكتشف مجرى قديم يصل بين عين سيدتي مريم وبركة الحمرا، ويحتمل أنه نفس, مجرى مياه شلهوب الذي ورد ذكره في (اش 8: 6) وربما أن مجرى هذه القناة كان يسير خارج أسوار المدينة فقد كان من السهل على المحاصرين أن يوقفوا سير المياه فيها ولذلك فقد حفر الملك حزقيا سردابًا تحت الأرض في الصخر طوله ألف وسبعمائة قدم ليوصل مياه جيحون أو عين سيدتي مريم، إلى بركة سلوام أو عين سلوان (2مل 20: 20؛ 2 أخبار 32: 30) وقد اكتشف نقش عبري يصف هذا العمل في السرداب. وتوجد قناة تصل بين بركة ماملا وبركة حمّام البطريق. ويرّجح أن هيرودس الملك الكبير هو الذي حفر هذه القناة من برك البراق، والتي تدعى أيضًا برك سليمان بالقرب من بيت لحم، إلى الهيكل في أورشليم وقد مدّ بيلاطس البنطي هذه القناة جنوبًا إلى بركة أيوب. وتوجد قناة أخرى يرّجح أن الإمبراطور سفيرس الذي حكم أثناء القرن الثالث الميلادي هو الذي حفرها وكانت توصل المياه بين وادي بيار إلى نكان بالقرب من باب الخليل، أو باب يافا. وترفع المياه في الوقت الحاضر بالمضخات من رأس العين بالقرب من يافا إلى أورشليم.
مما لا شَك فيه أن الحرم الشريف يقوم في مكان ساحة هيكل سليمان وأن قبة الصخرة قائمة على الأرجح في مكان هيكل سليمان، والصخرة التي تحت هذه القبة هي على الأرجح في موضع المحرقة كما كان في هيكل سليمان وكان هيكل زربابل وهيكل هيرودس الذي زاره يسوع المسيح في هذا المكان أيضًا. ويظهر من (2 أخبار 3: 1) أنه على هذه البقعة ذاتها والتي تسمى أيضًا بجبل المريا شرع إبراهيم بتقديم ابنه إسحاق (تك 22: 2) ويعتقد المسلمون أن النبي محمد ارتقى إلى السماء بمعجزة من مكان ما في الحرم يدعى قبّة المعراج.
وتوجد في أورشليم أماكن كثيرة يربطها التقليد بحوادث في حياة يسوع المسيح. ولكن لا يمكن التثبت إلاّ من القليل منها على وجه التحقيق، فالبركة السفلية التي تحت الأرض وبالقرب من كنيسة القديسة آن (حنة) هي على الأرجح بركة بيت حسدا حيث شفى يسوع المقعد (يو 5: 2-9). وعين سلوان هي بالتحقيق بركة سلوام حيث اغتسل المولود من أعمى فاستعاد بصره وفقًا لأمر يسوع (يو 9: 7). وكان بستان جثسيماني على وجه التحقيق في المكان التقليدي المعروف عند سفح جبل الزيتون. وتوجد أرضية مرصوفة وعليها نقوش رومانية تحت كنيسة أخوات صهيون ويحتمل أن هذا البلاط في مكان هو البلاط الذي كان يدعى بالأرامية "جبّاثا" حيث كان يتخذ بعض الجنود الرومانيين مركزهم بالقرب من ساحة المحاكمة التي حاكم فيها بيلاطس المسيح (يو 19: 13). ويقول التقليد أن كنيسة القيامة مقامة فوق مكان الصلب ومكان قبر يسوع المسيح ولكن يظن بعض العلماء أن موضع هذهين المكانين غير معروف، ويقول بعض العلماء، أن موقعها يقع إلى الشمال من الأسوار الحالية.
لقد ذكر قبلًا نقش سرداب سلوام الذي يرجع إلى عصر الملك حزقيا. وقد وجد نقش على حجر كان يغطي عظام عزيّا الملك. وكذلك اكتشف نقشان من هيكل هيرودس وفيهما تحذير للأمم بالابتعاد عن ساحة العبرانيين (أفسس 2: 14).
يعكس تاريخ أورشليم في العصور الكتابية تاريخ الشرق الأدنى. وأول إشارة إلى أورشليم خارج الكتاب المقدس وردت في نصوص مصرية ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد وفيها تصب اللعنة على الأعداء الأجانب ومن ضمنهم ذكرت أورشليم. وتوجد رسائل بين لوحات تل العمارنة مرسلة من ملك أورشليم إلى اخناتون ملك مصر في القرن الرابع عشر قبل القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وكان ملكي صادق كاهنًا ملكًا على ساليم التي ي أورشليم (تك 14: 18) ويذكر (قضاة 1: 8) أن رجال يهوذا أخذوا أورشليم ولكن أخذها من اليبوسيون، ومنهم أخذها داود (2صم 5: 6-9) وجعلها عاصمة ملكة. وقد كانت هذه خطة حكيمة منم جانبه إلى المدينة لم تكن تتصل بأي سبط من الأسباط ولذا فقد كانت صالحة كعاصمة لكل الأسباط. ولقد نهب شيشق ملك مصر أورشليم (1مل 14: 25، 26) وكذلك نهبها الفلسطينيون والعرب معًا في عصر يهورام (2 أخبار 21: 16، 17) وكذلك نهبها يهوآش ملك إسرائيل (2 مل 14: 13، 14). وقد فشل سنحاريب ملك أشور في أخذ المدينة (2 مل 19: 36). وأما نبوخذنصر ملك بابل فقد أخذ المدينة مرتين (2 مل 24: 10-16؛ 25: 1-11). وقد أذن الملك كورش الفارسي وشجع كثيرين من اليهود للرجوع إلى أورشليم (عزرا ص 1) وكذلك تمكن نحميا بمساعدة احشويروش (اتزركسيس) ملك فارس من العودة إلى أورشليم وإعادة بناء أسوار المدينة. وقد ضّم الإسكندر الأكبر أورشليم ضمن إمبراطوريته وبعد موته صارت أولًا تحت حكم البطالسة في مصر ثم انتقلت إلى السلوقيين في سوريا. وفي 165 قبل الميلاد ثار المكابيون اليهود وأقاموا في النهاية مملكة يهودية وكانت عاصمتها أورشليم. وبعد أن أخذ القائد الروماني بومباي أورشليم عام 63 ق.م أصبحت المدينة تحت حكم الرومان، أما عن طريق غير مباشرة كما كانت الحال في أيام هيرودس الكبير الذي كان يحكم بأذن روما، أو عن طريق مباشرة كما كانت الحال في حكم بنطيوس بيلاطس. وبعد ما ثار اليهود على روما أخذ القائد تيطس الروماني المدينة وأحرق الهيكل وباع كثيرين من شعبها في السبي وكان ذلك سنة 70 ميلادية وقد تّم هذا وفقًا لتحذير السيد المسيح (مت 24: 2).
أولًا- الاسم:
(1) في الكتابات المسمارية Cuneiform: نجد أقدم إشارة إلى أورشليم في ألواح تل العمارنة (1450 ق.م.) حيث تظهر على هذا النحو: "أورو - سا - ليم " وهو ما يوافق اسمها على الآثار الأشورية من القرن الثامن: "أور - سا - لى - إمو".
(2) في العبرية: وأقدم الأشكال التي وردت بها في الكتاب المقدس بالعبرية هو "يوروشاليم" وقد اختصرت إلى "ساليم" أو "شاليم" (مزمور 76: 2؛ تك 14: 18)، ولكنها تنطق في النصوص الماسورية " يوروشالايم" (إرميا 26: 18؛ أستير 2: 6؛ 2أخ 25: 1؛ 32: 9) كما أنه الاسم المرسوم على العملة اليهودية إبان الثورة، وكذلك في الأدب اليهودي، كما يستخدمها عادة التلموديون المحدثون، والصورة التي يكتب عليها الاسم بنهايتيه ("يم" أو " أيم ") يعتبره البعض مثنى وأنه يشير إلى أورشليم العليا والسفلى، ولكن مثل هذه الصور ترد في أسماء أخرى لتضفى على الاسم نوعًا من الأهمية. وتعتبر هذه الصورة صورة محلية متأخرة.
(3) في اليونانية واللاتينية: وترد في الترجمة السبعينية على صورة "ايروسليم" وهي تعكس اللفظ العبري القديم، ولكن لا نلبث إلا قليلًا حتى نجدها " هيروسليم " في كتابات يوسيفوس و"هيروسلوما" أسفار المكابيين الثاني والثالث والرابع، وفي كتابات سترابو، وقد انتقلت الصورة الأخيرة إلى الكتَّاب اللاتين مثل شيشرون ويليني وتاسيتوس وسيوفونيوس، واستبدل الاسم على مدى قرون - بأمر من هادريان باسم "إيلياء الكبرى" Aelia Capitolina في المكاتبات الرسمية، وظل هكذا حتى زمن جيروم، ولكن عاد هذا الاسم يستخدم مرة أخرى في وثائق الصليبيين، بينما نجد الاسم " سوليما " يستخدم في أوقات مختلفة في الكتابات الشعرية.
وفى العهد الجديد نجدها تكتب على صورة "هيروسليم " وبخاصة في كتابات القديس لوقا والقديس بولس، وعلى صورة "هيروسولوما" في سائر المواضع. أما الصورة "جيروسليم" فقد ورد لأول مرة في الكتابات الفرنسية من القرن الثاني عشر.
(4) معنى أورشليم: وليس هناك رأى قاطع فيما يختص بمعنى الاسم الأصلي، ولكن أقدم الصور المعروفة للاسم وهي " أورو - سا- ليم " قد اعتبره الكثيرون أنه يعنى إما "مدينة السلام" و" مدينة (الإله) سالم ". ولكن مفسرين آخرين يعتبرونه اسمًا من أصل عبري يعنى " امتلاك السلام " أو " أساس السلام "، ومن سخريات التاريخ، أن مدينة لم تر إلا القليل من السلام عبر تاريخها الطويل، والتي من أجل الاستيلاء عليها أريقت أنهار من الدماء، يمكن أن يكون لاسمها مثل هذا المعنى.
(5) أسماء أخرى: وتوجد أسماء أخرى للمدينة، فقد كان اسمها قديمًا " يبوس" (قض 19: 10؛ 1أخ 11: 4، 5)، وتسمى " أريئيل " في (إشعياء 29: 1) ولعل معناها " موقد الله ". كما تدعى " مدينة العدل" (إش 1: 26)، وأحيانًا يطلق عليها " هاعير" (في العبرية) أي " المدينة " بالمقابلة مع " الأرض" (مز 72: 16؛ إرميا 32: 24، 25؛ حز 7: 3). وهناك مجموعة أخرى من الأسماء ترتبط بفكرة قداسة الموقع مثل " عير هاكودش" أي " المدينة المقدسة" (إش 48: 2؛ نح 11:1) و" أورشليم ها كدوشه " أي " أورشليم المقدسة " وهو الاسم الذي نقشه سمعان المكابي على العملة. كما نجد " المدينة المقدسة" (" وهي هجاى بوليس " في اليونانية) في (إنجيل متى 4: 5؛ 27: 53)، ويطلق عليها فيلو " هيروبوليس " بنفس المعنى. والاسم الشائع في اللغة العربية هو " بيت المقدس " أو " المقدس " أو " القدس" اختصارًا للاسم " القدس الشريف "، أما في الكتابات المسيحية فتسمى " أورشليم " نقلًا عن اسمها العبري.
ثانيا - الجيولوجية والمناخ والينابيع:
(1) جيولوجيتها : إن جيولوجية موقع أورشليم والمناطق المحيطة بها بسيطة نسبيًا عندما تدرس بالارتباط بأرض فلسطين ككل، والمظهر البارز هو أن الصخور كلها مكونة من أشكال مختلفة من الحجر الجيري مع طبقات تحتوى على الصوان، ولا توجد صخور أولية ولا أحجار رملية (مثل التي تظهر على السطح في شرقي الأردن)، كما لا توجد صخور بركانية، والتكوينات تبدو في طبقات منتظمة تنحدر نحو الجنوب الشرقي بزاوية قدرها عشر درجات تقريبًا.
ومازالت توجد طبقات ذات كثافة كبيرة كتلك الأحجار الطباشيرية من العصر بعد الترتيارى (الثلاثى Tertiary) التي تتوج الكثير من قمم التلال في فلسطين، والتي كانت تغطى في يوم من الأيام الأرض كلها. ومازالت هذه الطبقات ظاهرة في التلال العالية التي تطل على أورشليم من جهة الشرق، والجنوب الشرقي والجنوب الغربي. وتوجد على جبل الزيتون - على سبيل المثال - طبقة من الحجر الجيري المختلط يسمى بالحجر الناري وطبقات رسوبية أكثر كثافة تسمى " كاكولي "، ويمكن التمييز بين طبقتين فيها. وفي هاتين الطبقتين- وبخاصة الأخيرة - توجد جيوب تحتوى على الطين الغنى بكربونات الكالسيوم، كما توجد في الطبقتين أحزمة من الصوان.
أما فوق المدينة فقد زال كل ذلك منذ أزمنة طويلة، ولكننا نجد ثلاث طبقات من الحجر الجيري ذات كثافات متباينة يميز بينها بسهولة المشتغلون بالبناء من أهل البلاد:
(أ) - المزة الحلة: وهي طبقة صلدة ذات لون رمادي محمر يمكن صقلها، وتصل في بعض الأماكن إلى سمك 70 قدمًا أو أكثر، و" الصخرة المقدسة " في منطقة الهيكل تنتمي إلى تلك الطبقة. والكثير من أحجار البناء القديمة كان من تلك الطبقة.
(ب) - تحت هذه الطبقة توجد طبقة " الملكية "، وهي وإن لم تكن سميكة جدًا، إذ أن سمكها يقرب من 35 قدمًا، لكنها كانت كبيرة الأهمية في تاريخ المدينة، فما يميز هذه الطبقة هو أنها عندما تتعرض للهواء لأول مرة تصبح لينة إلى درجة يمكن قطعها بسكين، ولكن بتأثير الجو تتقسى حتى تصبح حجرًا صلدًا ذا قوة تحمل ملحوظة، تجعله صالحًا للبناء. ومع هذا فإن أعظم ما في هذه الطبقة هو أن فيها قد اكتشفت مئات الكهوف وخزانات المياه والقبور والقنوات التي تتخلل موقع المدينة.
(ج) - وتحت الطبقة الميكية يوجد حجر جيري حديث التكوين ذو صلابة شديدة يعرف باسم "المزة اليهودية"، وهو من أحجار البناء عالية القيمة، رغم أنه من الصعب العمل به، ويتميز جيولوجيًا عن " المزة الحلوة " باحتوائه على أصداف متحجرة، ويتميز بأنه حجر رمادي ضارب للصفرة، وفي بعض الأحيان يبدو ذا حمرة خفيفة. وثمة أنواع مختلفة ذات مظهر محمر متميز تعرف باسم "المزة الحمراء" مما يجعلها صالحة لتزيين الأعمدة وشواهد القبور وغير ذلك، وهي قابلة للصقل الشديد ويطلق عليها هناك أحيانًا اسم "الرخام".
وهذه الطبقة العميقة التي تستقر عليها المدينة كلها، تظهر على السطح في وادي قدرون، ونظرا لأنها لا تنفذ السوائل، فمن المحتمل أن يكون هذا هو سبب وجود النبع الحقيقي الوحيد، وهو "نبع العذراء". والماء الموجود في ذلك الموضع وفي المناطق المحيطة بأورشليم، ينفذ بسهولة في الطبقة العليا، ولكنه يجد طريقه إلى السطح بسبب هذه الطبقة الصماء. ومصدر ماء هذا النبع السطحي نسبيًا هو سبب ضعف نوعيته.
2- المناخ والأمطار: من المحتمل أن تكون الظواهر العامة لمناخ أورشليم باقية كما هي لم يطرأ عليها تغيير عبر التاريخ، على الرغم من وجود الكثير من الدلائل على وجود دورات من الأمطار الغزيرة والقليلة، والأحواض التي لا يمكن حصرها، والتي ترجع إلى كل العصور، والقنوات الطويلة المعقدة التي تجلب المياه من أماكن بعيدة، تشهد بأنه في معظم أدوار التاريخ كان سقوط المطر موسميًا كما هو الحال في الوقت الحاضر.
وعلى وجه العموم يمكن اعتبار مناخ أورشليم مناخًا صحيًا، ويمكن الوقاية من الأمراض الشائعة، إلى حد بعيد، في ظل حكومة واعية، حتى الملاريا التي تنتشر بكثرة وافدة من المناطق المنخفضة، يمكن القضاء عليها لو اتخذت إجراءات كافية لإبادة بعوضة الأنوفيلس ناقلة العدوى. وبسبب موقعها المرتفع والمكشوف، فإن الريح والمطر والبرد تتجاوز معدلها في السهول الساحلية ووادي الأردن. وعلى الرغم من أن برد الشتاء قارس كما أن الشتاء هو أيضًا موسم سقوط الأمطار الغزيرة (انظر عزرا 10: 9)، لكن منازل وملابس الأهالي معدة لتحمل الحرارة أكثر من البرودة، حيث أن أدني درجات البرد المسجلة هي 25 درجة فهرنهيت فقط، وفي العادة لا يظهر الضباب إلا في اثنتي عشرة ليلة في السنة كلها. وفي أثناء شهور الصيف عديمة الأمطار، يرتفع متوسط درجات الحرارة بانتظام حتى يصل إلى 73.6 درجة فهرنهيت في شهر أغسطس، ولكن في بعض الأيام قد تصل درجة الحرارة إلى مائة درجة فهرنهيت في الظل، ويحدث ذلك عادة في شهر سبتمبر. وفي منتصف الصيف، فان النسيم الشمالي الغربي البارد والذي يهب عادة بعد الظهيرة وفي أول الليل، يسهم كثيرًا في إتاحة حياة صحية. أما أسوا الأيام فتأتي في منتصف مايو وفي منتصف سبتمبر حتى نهاية أكتوبر، عندما تهب "السيروكو" Sirocco (الرياح الجنوبية الشرقية الجافة)، فهي تهب حارة خانقة قادمة من الصحراء حاملة معها في بعض الأحيان ترابًا ناعمًا يحيل الجو معتمًا، فيذبل كل نبات أخضر، وتقاسي الكائنات الحية، وبخاصة الناس غير المعتادين على مثل هذه الظروف، فيقاسون كثيرًا أو قليلًا من الاكتئاب والمتاعب البدنية، وتجد الملاريا "وذبابة الرمل" وسائر الحميات فرصتها لتتفشي بصورة ملحوظة، "في ذلك الزمان يقال لهذا الشعب ولأورشليم: ريح لافحة من الهضاب في البرية نحو بنت شعبي لا للتذرية ولا للتنقية" (إرميا 4: 11).
وفي الفترة الأخيرة من الصيف -بالإضافة إلى نوبات ريح "السيروكو"- يسقط ندي ثقيل في أثناء الليل. وفي نهاية سبتمبر أو بداية أكتوبر تسقط الأمطار "المبكرة" وهو أمر مألوف في الأمطار الاستوائية المصحوبة بالرعد. ويعقب ذلك فترة من الجفاف تستمر أسابيع عديدة، ثم يبدأ موسم سقوط الأمطار في ديسمبر ويناير وفبراير، وفي بعض الأحيان يكون سقوط الأمطار الغزيرة في مارس موضع رضي السكان، عندما تملأ المياه الأحواض في أواخر الموسم مما يعطي حصادًا وفيرًا. ومتوسط كمية المطر حوالي 26 بوصة في السنة، وأعلي كمية سجلت في المدينة كانت 42.95 بوصة في موسم 1877-1878، وكان الحد الأدني 12.5 بوصة في موسم 1869-1870. والأمطار الغزيرة ليست هامة للتخزين فقط، أو لتزويد الينابيع أو لإنتاج المحاصيل، ولكن حيث أن مخلفات المدينة تتكدس - بصورة كبيرة - في المصارف البدائية خلال موسم الجفاف، فان ذلك يستلزم قوة دفع مياه ضخمة لإزاحتها. ويسقط الثلج بغزارة في بعض الفصول مسببًا دمارًا ملحوظًا للأسقف رديئة البناء، وللأشجار. وقد وصل المطر في شتاء 1910-1911 إلى تسع بوصات.
3- الينابيع الطبيعية: يوجد نبع طبيعي واحد في منطقة أورشليم، ومع هذا فإن بعض المراجع لا تعتبره نبعًا حقيقيًا بالنسبة لضحالة مصدره. هذا النبع المتقطع هو المعروف حاليًا باسم "عين أم الدراج" (أي نبع أم الدرجات) ويسميه المواطنون المسيحيون "عين ستي مريم" (عين السيدة مريم)، ويطلق عليه الأوربيون عادة "نبع العذراء".
وتشير كل الدلائل الأركيولوجية إلى أنه كان السبب الأول في جذب السكان الأوائل إلى هذا الوقع. وكان يعرف هذا النبع في العهد القديم باسم "جيحون" (1مل 1:38)، ويرتفع الماء من قلب قاع وادي قدرون، وإن كان يظهر في الجانب الغربي وعلي بعد 300 ياردة من السور "للحرم". ويتم الوصول إلى النبع عن طريق صفين من الدرجات، الصف العلوي يتكون من 16 درجة ويؤدي إلى رصيف مستو صغير تغطيه قنطرة حديثة، والصف السفلي أضيق ويتكون من 14 درجة تنتهي عند فم كهف صغير. ويخرج الماء من شق طويل (يبلغ حوالي 16 قدمًا) ويجري شرقًا وغربًا في القاع الصخري لوادي قدرون، أسفل السطح الحالي بأقدام كثيرة. والطرف الغربي وهو الأعلى من هذا الشق، يوجد في مدخل الكهف، ولكن معظم المياه تتدفق من الجزء الأدنَى والأوسع الذي يقع تحت الدرجات. وعندما يكون الماء ضحلًا، تزحف نساء سلوام إلي النقرة تحت الدرجات ليملأن قِرب الماء منها، وفي مثل هذه الأوقات لا يصل الماء أبدًا إلى الكهف. وفي النهاية البعيدة للكهف توجد بداية أنفاق قنوات المياه القديمة التي سنتحدث عنها فيما بعد. وهذا النبع متقطع، فالماء يرتفع بسرعة ويتدفق بقوة ملحوظة عدة مرات في اليوم الواحد بعد الفصل المطير، ومرة أو مرتين فقط في فصل الجفاف. وظاهرة التقطع هذه في الينابيع، ليست بظاهرة نادرة في فلسطين. ويمكن تعليل ذلك بتراكم المياه الجوفية في بعض الكهوف أو شقوق الصخور، فتكوّن خزانًا يفرغ نفسه بفعل الامتصاص (مثل السيفون) فحينما يصل الماء المتراكم إلى منحني "السيفون" الطبيعي، يبدأ في الانسياب ويستمر في الجريان إلي أن يفرغ الخزان. وتعزي هذه الظاهرة -بالطبع- عند الجهلاء إلى عمل خارق للطبيعة، وتعزي عند الفلاحين الآن إلي عمل الشيطان. ويزور سكان البلاد الأصليون، وبخاصة اليهود، هذا النبع -حتى يومنا هذا- في فترات فيضانه بقصد الاستشفاء. ومن الصعب أن نقول إن حالة التقطع في هذا النبع قديمة جدًا، ولكن حيث أن جيروم قد أشار إليها، فمن المحتمل أنها كانت موجودة في أيام العهد الجديد. وإذا كان الأمر كذلك، يكون ذلك دليلًا قويًا علي وجود "بركة بيت حسدا" في هذا الموقع.
وفي العصور القديمة كانت كل كميات المياه تنحدر إلى الوادي الصخري المتسع. ولكن في زمن مبكر، أقيم جدار لكي يخزن المياه ويحول النبع إلى بركة، وبدون مثل هذا العمل، لم يكن ممكنًا أن يجد الماء طريقه إلى الكهف والأنفاق - وقد أنشئت هذه الأنفاق (التي سنصنفها فيما بعد) بغرض الوصول إلي الماء من داخل أسوار المدينة، كما لمنع أعداء اليهود من الوصول إلى الماء (2 أخ 32: 4).
وعلي الرغم من أن أهالي سلوام يستخدمون ماء هذا النبع في جميع الأغراض، فهو ملحي المذاق ويحتوي على نسبة ملحوظة من مياه المجاري وأقذارها، فهو غير صالح للشرب، وهذا راجع -دون شك- إلي التوزيع الواسع لمياه المجاري، إما قصدًا (لدي الحدائق) أو دون قصد (عن طريق رشح المجاري فوق التربة التي تغطي الصخور التي تفيض منها المياه). ولا شَك في أن المياه كانت أكثر نقاوة في الأزمنة القديمة، كما يحتمل أن النبع كان أغزر مياهًا، حيث تحبس الآن مئات الأحواض، المياه التي كانت تتسرب خلال التربة إلى مصادر النبع العميقة.
وتجري مياه نبع العذراء عبر نفق سلوام وتخرج عند "عين سلوان" (عين سلوام) إلي بركة سلوام، ومن هناك تنزل إلي وادي قدرون لتروي بساتين الخضر العديدة حول قرية سلوام.
والمصدر الثاني للمياه في أورشليم هو البئر العميقة المسماة "بئر أيوب" والتي تقع أدني قليلًا من النقطة التي يتقابل عندها وادي قدرون مع ابن هنوم. وترجع تسميتها بهذا الاسم إلى أسطورة تقول إن الله أمر أيوب أن يقف علي قدميه فينفجر نبع بعمل معجزي. وكانت البئر قد اختفت عن الأنظار، ولكن أعيد اكتشافها بواسطة الصليبيين في 1184 م، وقاموا بتطهيرها. ويبلغ عمقها نحو 125 قدمًا، والماء الذي يغذى هذه البئر لا ينضب، ولكن نوعيته ليست بأفضل من نوعية ماء "عين العذراء". وبعد عدة أيام من المطر الغزير، يتسرب الماء إلى تحت الأرض، وينفجر أسفل الوادي ببضع ياردات مكونًا مجري صغيرًا، ويستمر في الجريان عدة أيام بعد أن ينتهي سقوط الأمطار بغزارة. و" قدرون الفائض" عامل عظيم في جذب انتباه سكان أورشليم الوطنيين، فيهرعون من المدينة للاستمتاع بذلك المنظر النادر لجريان المياه. ولابد أن "عين روجل" كانت في أحد الأماكن المجاورة لبئر أيوب. ولو كانت "عين روجل" ينبوعًا طبيعيًا، فلابد أن مصدرها مطمور الآن تحت كتل القمامة الهائلة المتجمعة هناك.
وعلي بعد نحو 600 ياردة جنوبي بئر أيوب، يوجد حوض صغير مفروش بالحصباء حيث ينفجر نبع صغير يسمي "عين اللوزة" عندما تفيض بئر أيوب، وهو ليس نبعًا حقيقيًا، ولكنه يستمد مياهه من مياه بئر أيوب، التي تنساب خلال قناة قديمة محفورة في الصخر في الناحية الغربية من وادي النار.
والنبع الآخر في منطقة أورشليم هو "حمام الشفاء" وهو عبارة عن حوض صخري تحت الأرض في وادي "التروبيون" داخل أسوار المدينة حيث تتجمع فيه المياه عن طريق الرشح عبر نفايات المدينة. ورغم أنه كان مرة خزانًا -ربما كانت له قنوات محفورة في الصخر لتوصيل المياه إليه- إلا أنه الآن بئر عميقة أقيمت فوقها قناطر في فترات مختلفة حيث تجمعت قمامة المدينة عبر القرون.
وليس ثمة دليل علي أنه كان هناك أي نبع طبيعي، حيث أن الماء في فصل الجفاف هو في الواقع من مياه المجاري علي الرغم من أنه يستخدم في حمام تركي مجاور.
ويعتقد ج. أ سميث أن بئر "عين التنين" التي يذكرها نحميا (نح 2: 13) كانت تقع في وادي هنوم، ولعلها كانت نبعًا طارئا ظهر على مدي بضع سنوات، ولكن لا يوجد الآن مثل هذا النبع أو البئر.
ثالثًا - الموقع الطبيعي:
وتقع أورشليم الحديثة علي خط عرض 45ً 46َ 31ْ شمالًا، وخط طول 25ً 13َ 35ْ شرقًا، وفي وسط هضبة صخرية جرداء تعتبر من أقل المناطق إثمارًا في كل فلسطين المسكونة. وهي ذات تربة سطحية رمادية أو مائلة إلى الحمرة، وطبقات صخرية بارزة من حجر جيري. ومثل كل منحدرات التلال التي تطل على الجنوب الشرقي، فإنها تتعرض للوهج الشديد لشمس الصيف، فالموقع في طبيعته قاحل تقريبًا، أما الآن فنتيجة للزراعة الفنية والري الدائم، انتشرت الأشجار والشجيرات في الضواحي التي تتسع بسرعة، وشجرة الزيتون هي الشجرة المثمرة الوحيدة التي تبلغ حد الكمال حول أورشليم.
1- الجبال المحيطة: وتقع أورشليم بين أضلاع مثلث من سلاسل جبلية عالية، ويوجد الجبل الرئيسي إلى الغرب، وهو خط خروج مياه اليهودية الذي ينحدر إلى الغرب، ومن هذه السلسلة تمتد حافة جبلية إلى الجنوب الشرقي وإلى الشرق تنتهي في شرقي المدينة في جبل الزيتون على ارتفاع نحو 2700 قدم فوق سطح البحر، وحوالي 300 قدم فوق متوسط ارتفاع المدينة القديمة، وهناك حافة أخري تعرف باسم جبل "دير أبو طور" ارتفاعه 2,550 قدمًا يمتد شرقًا من هضبة البقيعة التي تقع إلي الجنوب الغربي من المدينة، ويقول التقليد إنها "تل المشورة الشريرة". وهكذا فإن موقع المدينة تحدده من جميع الجهات هذه السلاسل الجبلية المرتفعة "أورشليم الجبال حولها.." (مز 125: 2). وبينما كانت المدينة القديمة مختفية عن الأنظار من مسافة كبيرة ومن أي اتجاه، عدا الجنوب الشرقي، فقد كان يمكن مشاهدتها بوضوح من خلال هذه الثغرة المفتوحة ناحية الصحراء وجبال موآب. ولهذا المنظر الغريب من البرية، مع الحائط الجبلي البعيد، جمال رائع في ضوء الشمس الغاربة.
2- الوديان: ويتميز موقع المدينة بين هذه التلال التي تطوقها، بوجود واديين رئيسيين. ففي الجنوب والجنوب الغربي، يبدأ أولهما من تجويف تحتله مقابر المسلمين حول "بركة حاملا"، ويتجه الوادي شرقًا صوب بوابة يافا الحديثة، وهناك ينحني جنوبًا، ويعرف في هذا الجزء العلوي من مجراه باسم "وادي الميس" ويفطعه في مجراه الجنوبي سد ضخم تسير فوقه الطريق الحديثة إلي بيت لحم، ويحوِّل مساحة شاسعة من بطن الوادي إلي بركة عظيمة هي "بركة السلطان". ويوجد أسفل هذا الوادي، "وادي الربابة" الذي يتجه إلى الجنوب الشرقي ثم إلى الشرق، وأخيرًا إلى الجنوب الشرقي مرة أخري، إلى أن يتحد مع الوادي الغربي بالقرب من "بئر أيوب" ليكوِّن "وادي النار" على عمق 670 قدمًا، أدني من مستوي بدايته، وقد عرف هذا الوادي بصفة عامة "بوادي هنوم".
والوادي الشرقي أكثر إتساعًا، ويبدأ على ارتفاع في الهضبة الواقعة شمالي المدينة بالقرب من مفرق المياه الكبير ثم ينحدر كواد واسع مفتوح في اتجاه الجنوب الشرقي حتى يخترقه الطريق الشمالي العظيم ويعرف هنا باسم "وادي الجوز" الذي يتجه إلي الشرق ثم ينحني تدريجيًا إلى الجنوب، وفي مساره شرقي أسوار المدينة يطلق عليه اسم "وادي ستي مريم". وأسفل الركن الجنوبي الشرقي لمنطقة الهيكل بالقرب من المكان التقليدي "لقبر أبشالوم"، يزداد الوادي عمقًا ويتخذ اتجاهًا طفيفًا نحو الجنوب الغربي، ويمر "بنبع العذراء" ويتحد "بالوادي" من ناحية الشمال على بُعْد نحو ربع ميل منه، ثم بوادي الربابة من الغرب بعد ذلك بقليل. وإلى الجنوب من بير أيوب، يطلق على الوادي المتكون من اتحادهما، اسم "وادي النار" حتى البحر الميت. وهذا الوادي الغربي هو الذي يعرف عادة باسم "غدير قدرون" أو "الغدير" (نحال) أو الخور. ولكن المسيحيين أسموه "وادي يهوشافاط" منذ القرن الخامس. واللسان الصخري من الأرض، والمحصور بين هذين الخورين المنخفضين -وهي منطقة تزيد قليلًا عن الميل طولًا ونصف الميل عرضًا- تنقسم بعد ذلك إلى عدد من التلال، تفصل بينها وديان ضحلة، وأشهرها - وهو الذي يمكن أن يراه العابر - هو الوادي الرئيسي العظيم المعروف في وقتنا الحاضر باسم "الوادي" فقط، ويبدأ من منخفض طفيف في الأرض إلى الشمال قليلًا من بوابة دمشق الحديثة، وبعد أن يدخل المدينة من هذه البوابة، ويزداد عمقه بسرعة، وهي حقيقة يكاد يطمسها تراكم القمامة الضخمة في مجراه. وهو يخترق المدينة، والحرم إلى الجانب الشرقي منه، والأحياء المسيحية والإسلامية إلى الجانب الغربي منه. ويمكن ملاحظة مجراه بالقرب من "باب السلسلة حيث يمر فوقه طريق علوي قديم. وإلى الجنوب من ذلك يعود الوادي للظهور، وإلى الشرق منه توجد أسوار الحرم (بالقرب من حائط "المبكي وقوس روبنسون"). والقمم المنحدرة التي تعلوها ببيوت الحي اليهودي إلى الغرب منه. ويترك المدينة عند "باب الدمن" ويسير بانحناء واسع إلى الشرق حتى يصل إلى بركة سلوام ومنها إلى وادي ستي مريم. هذا هو مجري الوادي الرئيسي، ولكن فرعًا ذا أهمية كبري في الطبوغرافيا القديمة للمدينة، يبدأ على بُعْد 50 ياردة إلى الغرب من بوابة يافا الحديثة وينحدر إلى "سويقة علون" المعروفة عادة عند السياح باسم "شارع داود"، ويسير إلى جهة الشرق عبر طريق باب السلسلة حتى يندمج في الوادي الرئيسي، والذي يعتبر عادة أنه وادي "التروبيون" أو "وادي باعة الجبن" كما يسميه يوسيفوس، ولكن بعض الكتَّاب حاولوا أن يقصروا هذا الاسم على الذراع الغربي منه.
وهناك واد داخلي آخر تحدده الحدود الصخرية أكثر من المظاهر السطحية، يكاد يكون مردومًا كله الآن، ويخترق الركن الشمالي للمدينة الحديثة، وليس له اسم حديث وإن كان يسمي أحيانًا "وادي القديسة حنة"، وهو يبدأ من الهضبة بالقرب من بوابة هيرودس، والمعروفة باسم "الصحراء"، وإذ يدخل المدينة علي بعد نحو مائة ياردة شرقي تلك البوابة، يجري نحو جنوبي الجنوب الشرقي، ويغادر المدينة بين الزاوية الشمالية الشرقية للحرم والبوابة الذهبية، ويتصل بوادي قدرون في الجنوب الشرقي. وتجري "بركة إسرائيل" عبر عرض هذا الوادي الذي كان له تأثير بعيد علي الطبوغرافية القديمة للمدينة أكثر مما يبدو، وهناك واد صناعي بين الحرم والمباني القائمة إلي شماله، ويعتقد الكثيرون بوجود واد بين التل الجنوبي الشرقي المسمي عادة "عوفل" (أي الأكمة) ومنطقة الهيكل، وهذه الوديان -الكبير منها والصغير- هي التي تحدد مواقع التلال التاريخية التي شيدت عليها المدينة -وكلها وبخاصة في الأجزاء الجنوبية- كانت أعمق في العصور القديمة بصورة ملحوظة. وفي بعض الأماكن يبلغ ارتفاع الأنقاض المتراكمة 80 قدمًا أو أكثر، وكلها كانت أصلًا قيعان سيول جافة، فيما عدا بعد سقوط الأمطار الغزيرة. ومجري الماء الوحيد الدائم طول العام هو المجري الضئيل المتقطع الذي يفيض من بركة سلوام والذي يستخدم في ري البساتين في وادي ستي مريم.
3- التلال: والوديان الشرقية والغربية تحصر بينها لسانًا من الأرض رباعي الشكل تقريبًا من غربي الشمال الغربي إلى جنوبي الجنوب الشرقي، وينحني حتى يواجه الجنوب الشرقي. وهذا اللسان يقسمه الوادي بعد ذلك إلى سلسلتين طويلتين من الجبال تنعطفان إحداهما نحو الأخرى في الهضبة إلى جهة الشمال. والسلسلة الغربية تبدأ في شمالي السور الحديث مكونة جزءًا من الأرض المرتفعة الواقعة بين طريق يافا الحديث في الغرب، وبداية وادي قدرون في الشرقي، وداخل أسوار المدينة ترتفع إلى 2581 قدمًا بالقرب من الركن الشمالي الغربي، ويقسمها الفرع الغربي لوادي "التروبيون" إلى جزئين: جزء شمالي، التل الشمالي الغربي الذي تقوم عليه الآن كنيسة القبر المقدس والجزء الأعظم من " الحي المسيحي" من المدينة، والتل الجنوبي - في الجنوب الغربي - الذي يرتبط بالتل الشمالي الغربي بمرتفع ضيق عرضه 50 ياردة بالقرب من بوابة يافا، ويسند هذا التل القلعة - المسماة "برج داود" - والثكنات والحي الأرمني داخل الأسوار، والمباني المجاورة خارج الأسوار. ويتراوح ارتفاع هذا التل بين 2500، 2350 قدمًا عند القمة، ولكنه ينحدر بشدة في جوانبه الجنوبية الغربية، والجنوبية، والجنوبية الشرقية. أما في الجزء الرئيسي منه فينحدر انحدارًا هادئا نحو التل الشرقي عبر الوادي المردوم أغلبه.
والسلسلة الشرقية يمكن اعتبار أنها تبدأ بالتل الصخري "الأدهمية" المعروفة عند العامة باسم "جمجمة غوردون"، ولكن الخندق العريض الذي نشأ عن قطع الأحجار، يجعل هذه الحقيقة غامضة ومبهمة إلى حد ما. ويمكن اعتبار هذه السلسلة مكونة من ثلاثة أجزاء: الشمالي الشرقي، والمتوسط أو المتوسط الشرقي، والقمم الجنوبية الشرقية. والتل الشمالي الشرقي يقع داخل السور الحديث، ويجاوز الحي الإسلامي، ويرتفع في بعض الأماكن إلى أكثر من 2500 قدم، ويضيق حتى يصير مجرد برزخ ضيق بالقرب من "قوس إيكهومو" Ecce homo [أي: "هوذا الإنسان" - (يوحنا 19: 5)] حيث يتصل بالثكنات عند موقع قلعة أنطونيا القديمة، ويفصلها عن قمة الهيكل خندق صخري عميق.
والقمة الرئيسية أو الشرقية الرئيسية هي تلك التي تعرف "بالصخرة" أي صخرة الهيكل المقدسة، ويبلغ ارتفاعها 2404 من الأقدام، وهي أعلي نقطة حيث تنحدر الأرض عندها بشدة نحو الشرق والجنوب والغرب، ولكن الحدود الطبيعية الفاصلة للأرض المجاورة غير واضحة تمامًا نتيجة للأساسات العظيمة التي وضعت ليشيد فوقها الهيكل.
والتل الجنوبي الشرقي المنحدر إلى جنوبي منطقة الهيكل، يبدو اليوم ذا منحدر ثابت، من 2350 قدمًا جنوبي السور الجنوبي للحرم، إلي أكثر من 2100 قدم بالقرب من بركة سلوام. وهو مرتفع ضيق يسير في اتجاه منحن إلى حد ما، له قمة تعلو نحو 200 قدم فوق قدرون، 100 قدم أعلي قاع التيروبيون. ولا يزيد طول التل عن 600 ياردة، وأقصي عرض له 150 ياردة، ولكن ملامحه الرئيسية وعظمته لا تظهر علي حقيقتها بسبب القمامة التي تغطي سفوحه وتملأ الوديان المحيطة به، وفي الأزمنة المبكرة كانت تحمي ثلاثة من جوانبه -على الأقل- وديان عميقة، ومن المحتمل أنه كان يحيط بحوالي ثلثي محيط قمته ركام صخري طبيعي، وطبقًا لما يذكره البروفسور جوته، ينقسم هذا التل من أعلاه نحو الشمال بمنخفض يبلغ عمقه 12 قدمًا، وعرضه من 30-50 ياردة، ولكن لم يؤيد هذا القول أحد آخر. وحيث أن المدينة تفترش موقعًا جبليًا مثل هذا، فلا بد أنها كانت مشيدة -كما هو الحال اليوم- من بيوت مصفوفة على منحدرات حادة تقوم السلالم فيها مقام الشوارع.
رابعًا - الطبوغرافية العامة لأورشليم:
ومن الوصف السابق للموقع الطبيعي، يبدو أنه علينا أن نتناول خمسة أقسام أو تلال طبيعية، اثنان منها في السلسلة الغربية، وثلاثة في السلسلة الشرقية.
1- الوصف الذي ذكره يوسيفوس: عندما نناقش الوضع الطبوغرافي Topography، فمن المفيد أن نبدأ بالوصف الذي أورده يوسيفوس حيث يعطي لهذه المناطق الخمس، الأسماء التي كانت شائعة في أيامه (حروب اليهود - يوسيفوس - المجلد الخامس - الفصل الرابع: 1، 2) فيقول: "كانت المدينة على تلين يواجه أحدهما الآخر، ويفصل بينهما واد هو وادي "باعة الجبن" كما كان يطلق عليه، وكان يفصل تل الجزء الأعلى من المدينة عن تل الجزء الأسفل منها والذي كان يمتد حتى سلوام (نفس المرجع 5: 4-1)، وهكذا نري أول مظهر طبيعي واضح وهو انشطار موقع المدينة إلى تلين رئيسيين، ثم بعد ذلك يميز يوسيفوس - مع وجود شيء من الغموض في أقواله - بين خمس مناطق محددة:
أ- المدينة العليا أو السوق الأعلى: أي التل الذي يقوم عليه الجزء العلوي من المدينة، وهو أكثر ارتفاعًا وأكثر استقامة في الطول، ولذلك دعي "قلعة الملك داود"... ولكننا نطلق عليه "السوق الأعلى" وهذا بلا شك هو التل الجنوبي الغربي.
ب- أكرا والمدينة السفلي: والتل الآخر الذي دعي "أكرا"، ويقوم عليه الجزء الأسفل من المدينة، وكان مزدوج الانحناء، ولا يمكن انطباق هذا الوصف إلا على الشكل شبه الدائري للتل الجنوبي الشرقي، كما يظهر من المدينة العليا. وهذان الاسمان: "أكرا" و"المدينة السفلى"، ينطبقان -مع بعض التحفظات- على التل الجنوبي الشرقي.
ج- تل الهيكل: ووصف يوسيفوس له وصف غريب بالنسبة لعدم التحديد، ولكن ليس ثمة شك في التل الذي يقصده. كتب يقول: "وفي مقابل هذا، يوجد تل ثالث، ولكنه بطبيعته أقل ارتفاعًا من "أكرا" وكان ينفصل عن الآخر قبلًا بواد منبسط. ومع هذا ففي أيام حكم المكابيين، تخلصوا من هذا الوادي لرغبتهم في ربط المدينة بالهيكل رفض أيام حكم المكابيين، تخلصوا من هذا الوادي لرغبتهم في ربط المدينة بالهيكل، فقطعوا الجزء الأعلى من قمة أكرا، فصارت أقل ارتفاعًا، ليكون الهيكل أكثر ظهورًا منها. ومن المقارنة بأقواله الأخرى، ندرك أن هذا التل الثالث هو التل الرئيسي الشرقي - تل الهيكل.
(د) - بزيثا: وكان الملك أغريباس هو الذي طوق الأجزاء المضافة إلى المدينة بذلك السور (السور الثالث) وكانت هذه الأجزاء مكشوفة من قبل، لأنه إذ أصبحت المدينة أكثر ازدحامًا، زحفت بالتدريج متجاوزة حدودها القديمة، وهذه الأجزاء التي قامت إلى شمالي الهيكل وربطت ذلك التل بالمدينة، جعلت المدينة أكثر اتساعًا بصورة ملحوظة، وجعلت ذلك التل، وهو الرابع ويسمي "بزيثا" آهلًا بالسكان أيضًا. وهو يقع مقابل قلعة أنطونيا، ولكن يفصله عنها واد عميق حفر لهذا الغرض ..وهذا الجزء من المدينة المبنى حديثًا دعي في لغتنا "بزيثا" الذي إذا ترجم إلى اليونانية، يمكن أن يسمي "المدينة الجديدة" وواضح أن هذا هو التل الشمالي الشرقي.
ه- الحي الشمالي من المدينة: ومما ذكره يوسيفوس عن الأسوار يتضح أن الجزء الشمالي من السور الأول -الذي ذكره- كان يسير بمحاذاة الحافة الشمالية للتل الجنوبي الغربي، والسور الثاني كان يحيط بالجزء المسكون من التل الشمالي الغربي. ويقول يوسيفوس: "السور الثاني كان يبدأ من البوابة التي أطلقوا عليها "جنات" في السور الأول، وكان يطوق الحي الشمالي إلى "أنطونيا". وهذه المنطقة لا تعتبر تلًا منفصلًا مثل المنطقة الآهلة بالسكان، وفيما عدا الجنوب، لم تكن تحددها وديان طبيعية، وبالإضافة إلى تغطيتها للتل الشمالي الغربي، لا بُد أنها كانت تمتد إلى وادي التيروبيون.
2- ملخص أسماء التلال الخمسة: وهاك الأسماء التي أطلقها يوسيفوس على هذه المناطق الخمس:
(أ) - التل الجنوبي الغربي: "المدينة العليا" و"السوق الأعلى" وكذلك "فرويون" أو "قلعة داود". ومنذ القرن الرابع الميلادي، وهذا التل يعرف باسم "صهيون" ويقوم عليه ما يسمي "برج داود" القائم على أساسات اثنين من أبراج هيرودس العظيمة.
(ب) - التل الشمالي الغربي: "الحي الشمالي من المدينة"، وهذه المنطقة لا يبدو أن لها اسمًا آخر في العهد القديم أو الجديد، علي الرغم من أن بعض المراجع القديمة يضع "أكرا" هنا. وهي اليوم "الحي المسيحي" في أورشليم الذي يحيط بكنيسة القبر المقدس.
(ج) - التل الشمالي الشرقي: "بزيثا" أو "المدينة الجديدة"، وهو حتى الآن منطقة قليلة السكان، وليس لها اسم في الأسفار المقدسة.
(د) - التل الأوسط الشرقي: وهو التل الثالث الذي يذكره يوسيفوس، وواضح أنه موقع الهيكل، الذي يقول يوسيفوس إنه مبنيًا علي تل حصين.
(ه) - التل الجنوبي الشرقي: وهو ما يسميه يوسيفوس "أكرا" و"المدينة السفلي". بينما تحتاج هذه الأسماء إلي توضيح، فهناك أسماء أخري أطلقت في فترات مختلفة على هذا التل، مثل "مدينة داود"، و"صهيون"، و"عوفل" أي الأكمة، وسنتناول هذه الأسماء بالترتيب.
3- "أكرا": علي الرغم من دقة الوصف الذي ذكره يوسيفوس، فما زال اختلاف ملحوظ في الآراء فيما يختص بموقع "أكرا". وقد ذكرت المراجع القديمة مواقع مختلفة لها، ما بين التلال الواقعة في الشمال الغربي، إلى الشمال الشرقي، إلى الجنوب الشرقي، بل جعلها البعض في الجزء الشرقي الأوسط نفسه، ولا يسعنا هنا إلا الإشارة إلى النواحي الإيجابية التي تشير إلى التل الجنوبي الشرقي، فيوسيفوس يقول أنه في أيامه كان اسم "أكرا" يطلق علي التل الجنوبي الشرقي، ولكن بالرجوع إلى ما قبل يوسيفوس، نجد أن "أكرا" لم تكن تلًا كاملًا، ولكنها كانت قلعة محددة (فمعني "أكرا" هو قلعة").
(أ) - كانت مشيدة على الموقع (أو على جزء منه) الذي كان يعتبر في أيام المكابيين "مدينة داود". وبعد أن دمر أنطيوكس أبيفانس أورشليم (168 ق. م.) حصَّن مدينة داود بسور عظيم وأبراج حصينة وصارت لهم "أكرا" أي قلعة (1 مك 1: 33-36). والقلعة الهائلة التي سميت بعد ذلك "أكرا" أصبحت مصدر خطر دائم لليهود حتى وقعت أخيرًا (في 142 ق. م) في يد سمعان، الذي لم يدمر القلعة كلها فقط، ولكنه - طبقًا لما يرويه يوسيفوس (تاريخ يوسيفوس، المجلد الثالث عشر، الفصل السادس: 7، وحروب اليهود، المجلد الخامس، الفصل الرابع: 1) - أزال أيضًا التل الذي كانت القلعة مشيدة عليه، ويقول: "اشتغل الجميع وأزالوا التل، ولم يتوقفوا عن العمل ليلًا أو نهارًا، المدة ثلاث سنوات كاملة، حتى وصلوا به إلى مستوي الأرض فأصبح الهيكل أعلى شيء بعد إزالة القلعة والتل الذي بنيت عليه. وحقيقة أنه في عصر يوسيفوس كان ذلك التل أدني من تل الهيكل، هذه الحقيقة دليل كاف على دحض أي نظرية تقول بأن القلعة "أكرا" كانت في التل الشمالي الغربي، أو الجنوب الغربي.
(ب) - كانت القلعة "أكرا" ملاصقة للهيكل (1 مك 13: 53)، وكان رجال الحامية في الحقيقة يستطيعون مشاهدته من أسوارها (1 مك 14: 36)، وكان هذا التل - قبل إزالته - يخفي موقع الهيكل.
(ج) - ويذكر يوسيفوس أنها جزء من المدينة السفلي التي كانت تلاصق الهيكل (حروب اليهود، المجلد الأول 1: 4؛ المجلد الخامس 4: 1؛ 6: 1).
(د) - تجمع الترجمة السبعينية بين "أكرا" و"ملو" [القلعة - (2 صم 5: 9؛ 1 مل 9: 15-24؛ 2 أخ 32: 5)].
وباعتبار أن القلعة السورية الأصلية كانت على التل الجنوبي الشرقي، فما زال من الصعب تحديد المكان الذي أقيمت فيه، وبخاصة إن الشكل الطبيعي للأرض قد تغير إلى حد بعيد كما يقول يوسيفوس. ويبدو أن أبرز النقاط على التل الجنوبي الشرقي المجاور لجيحون قد احتلتها قلعة اليبوسيين في صهيون، ولكن لا يمكن أن يكون موقع "أكرا" مطابقًا لهذه، لأن هذه أصبحت "مدينة داود"، وهنا كانت قبور داود وملوك يهوذا، التي لا بُد أنها دمرت لو كان ذلك التل قد أزيل كما يقول يوسيفوس. وبناء على ذلك ولأسباب أخري، يجب أن نبحث عن موقع أبعد إلى جهة الشمال. وقد ذكر سير تشارلس واطسن حجة طبوغرافية قوية تحدد مكانها حيث يوجد المسجد الأقصى اليوم، ويميل كتَّاب آخرون إلى وضعها في مكان ما إلى الجنوب، إلى جوار البرج الضخم الذي اكتشفه "وارن" عند سور "عوفل" (أي الأكمة)، فإذا كانت رواية يوسيفوس التي كتبت بعد الأحداث بقبرنين، تؤخذ حرفيًا، فوجهة نظر واطسن تبدو أكثر احتمالًا.
4- المدينة السفلي: حدد يوسيفوس موقع أكرا في أيامه في المدينة السفلي، ولم يذكر هذا الاسم في الكتاب المقدس، لأنه -كما سنرى فيما بعد- كان اسمها في العهد القديم "مدينة داود"، فيوسيفوس يعني بالمدينة السفلي، التل الجنوبي الشرقي وهو ما تؤيده جملة حقائق، وهي في الواقع الجزء الأسفل من المدينة بالمقابلة مع "المدينة العليا"، تل الهيكل والبزيثا، ويفصلها - كما يذكر يوسيفوس - عن "المدينة العليا" وادي التيروبيون العميق. وهذا التل الجنوبي الشرقي مزدوج الانحناء كما يصفه يوسيفوس. ويتضح من عدة فقرات في كتاباته، أن المدينة السفلى كانت تتصل بالهيكل في أحد طرفيها وببركة سلوام في الطرف الآخر.
وبمفهوم أشمل، لا بُد أن المدينة السفلي كانت تشمل ليس فقط جزء المدينة الذي يغطي التل الجنوبي الشرقي إلى حرم الهيكل حيث كانت توجد القصور (الحروب اليهودية - المجلد الخامس 6: 1؛ والمجلد السادس 6: 3) ومنازل الأثرياء، ولكن كان هناك أيضًا جزء يسكنه الفقراء -بلا شك- في وادي التروبيون Tyropoeon Valley من سلوام حتى "بيت المجلس" الذي كان قريبًا من السور الشمالي الأول (الحروب اليهودية - المجلد الخامس 4: 2).
5- مدينة داود وصهيون: وواضح أن قلعة صهيون اليبوسية (2 صم 5: 7؛ أخ 11: 5) أصبحت هي "مدينة داود" بعد أن استولي عليها اليهود. وهناك حقائق قليلة وثيقة الصلة بـ"مدينة داود" يمكن أن نذكرها هنا. إن الاستيلاء على مدينة اليبوسيين عن طريق قناة تصريف مياه الأمطار (2 صم 5: 8) - والتي يظن - على أسس معقولة - أنها "عمود وارن"، والإشارة إلى توقف داود في أثناء هروبه (2 صم 15: 23) وإرسال سليمان إلى جيحون لتتويجه (1 مل 1: 33)، والتعبير المتكرر عن "إصعاد" التابوت عند نقله من مدينة داود إلى تل الهيكل (1 مل 8 : 1؛ 2 أخ 5: 2؛ 1 مل 9: 24)، كلها تتفق مع وجهة النظر هذه. والدليل الحاسم هو الإشارة إلى القناة الصناعية لجلب المياه التي أنشأها حزقيا، لجلب مياه جيحون "تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود"(2 أخ 32: 30)، ووصف مدينة داود متاخمة لبركة شيلوه (إش 8: 6) و"جنينة الملك" (نح 3: 15)، وموقع "باب العين" [في هذا الفصل وفي (نحميا 12: 37)]، والقول بأن منسي "بني سورًا خارج مدينة داود غربًا إلى جيحون في الوادي" [أي وادي قدرون (2 أخ 33: 14)].
ويبدو أنه أصبح للاسم دلالة أوسع عندما نمت المدينة. فـ"مدينة داود" كانت أصلًا اسم قلعة اليبوسيين، ولكنها أصبحت تطلق بعد ذلك على كل التل الجنوبي الشرقي. وهكذا كانت "أكرا" أصلًا اسم القلعة السورية، ثم أصبح الاسم شاملًا لكل التل الجنوبي الشرقي. ويوسيفوس يعتبر "مدينة داود" و"أكرا" مترادفين ويطلق على الاثنين اسم "المدينة السفلي".
خامسًا - الحفريات والآثار:
لقد زودتنا اكتشافات وحفريات أجيال متتابعة من المهندسين وعلماء الآثار خلال المائة السنة الأخيرة، بالكثير من المعلومات عن الحالة التي كانت عليها أورشليم قديمًا، وأهم هذه الاكتشافات هي:
في سنة 1833 بدأ السادة بونومي وكاثروود وأرنديل أول مسح دقيق للحرم (منطقة الهيكل)، وكان ذلك أساس كل الخرائط التي عملت بعد ذلك لأكثر من ربع قرن.
1- روبنسون: في 1838 ثم في 1852، زار الرحالة واللاهوتي الأمريكي الشهير القس أ. روبنسون (دكتوراه في اللاهوت) البلاد ممثلًا لجمعية أمريكية، وقام بسلسلة من الأبحاث الطبوغرافية الرائعة التي لها أهميتها الكبيرة لكل دارس للأرض المقدسة حتى اليوم.
وفي 1849 قام ألدريش وسيموندس من سلاح المهندسين الملكي بمسح أورشليم، واستخدمت البيانات التي حصلا عليها في عمل خريطة رسمها فان دي فلد ونشرها ن. توبلر. وفي 1857 قام الأمريكي ج. ت. باركلي بنشر خريطة أخري لأورشليم وضواحيها "من مسح واقعي حديث".
وفي المدة من 1860-1863 اكتشف "دي فوجي" موقع الهيكل في أثناء قيامه بأبحاث واسعة في سوريا.
2- ولسون وصندوق استكشاف فلسطين 1865: وفي سنتي 1864، 1865 تكونت في لندن لجنة لدراسة الحالة الصحية في أورشليم وبخاصة لتزويد المدينة بمورد صالح للمياه، وقدمت السيدة بوردت كوتس 500ج. ك لعمل مسح دقيق لأورشليم وضواحيها كخطوة أولي. وقد أعير الكابتن ولسن (الجنرال سير تشارلس فيما بعد) من مصلحة المساحة البريطانية لهذا الغرض. وكانت نتائج هذا المسح وبعض الحفريات التي أجريت علي سبيل التجربة، والأبحاث التي تمت في تلك الأثناء، جد مشجعة، حتى إنه في 1865 أنشء "صندوق استكشاف فلسطين"، بهدف استكشاف أركيولوجية وجغرافية وجيولوجية الأرض المقدسة، وتاريخها الطبيعي أيضًا.
3- وارن وكوندر: وفي الفترة من 1867-1870 أجرى الكابتن وارن سلسلة من الحفريات تتميز بالأصالة والإثارة في موقع أورشليم، وبخاصة حول الحرم. وفي الفترة من 1872-1875 قام الكولونيل كوندر بإسهامات كثيرة في زيادة معرفتنا بالمدينة المقدسة بالمسح الكبير الذي أجراه للجزء الغربي من فلسطين.
4- مودسلي: وفي 1875 قام هنري مودسلى مستفيدًا من فرصة إعادة بناء مدرسة الأسقف جوبات للبنين، بإجراء فحص دقيق للقطع الصخرية التي استخدم بعضها في مباني المدرسة، وأجري حفريات قيّمة نشرت نتائجها في مجلة "مذكرات صندوق استكشاف فلسطين" (إبريل 1875).
وفي 1881 أجري بروفسور جوته سلسلة من الحفريات الهامة في التل الجنوبي الشرقي المسمي "عوفل" (الأكمة)، وكذلك بالقرب من بركة سلوام، وقد نشرت تقاريره في مجلة "الاستكشافات الألمانية في فلسطين" (1882).
5- شيك: وفي 1881 اكتشف نقش "سلوام" المشهور الذي كتب عنه الهربورات شيك - وكان يقيم في أورشليم - أول تقرير. وقد أجرى في الفترة من 1866 وحتى وفاته في 1901، سلسلة طويلة من الأبحاث بالغة الأهمية عن طبوغرافية أورشليم. ولقد كانت لديه فرص فريدة للفحص العلمي لمباني الحرم. وقد كتب أيضًا تقريرًا مفصلًا عن القنوات القديمة في المدينة. وأهم هذه كلها، التقارير التي سجلها بكل صبر ودقة عن مستويات الصخور في كل أجزاء موقع المدينة التي ظهرت عند حفر الأساسات للمباني أو عند التنقيب عن الآثار. وقد كتب مئات المقالات عن مشاهداته، نشرها في المجلتين السابق ذكرهما.
6- كليرمونت جانو: سجل كليرمونت جانو - الذي كان مقيمًا في أورشليم في خدمة القنصلية الفرنسية - مشاهداته الدقيقة علي مدي سنوات عديدة من 1880 وصاعدًا، عن أركيولوجية أورشليم وما حولها، وقد نشر الكثير منها في مذكرات صندوق استكشاف فلسطين. كما يذكر اسم القس سيلا مريل - الذي عمل سنوات كثيرة قنصلًا للولايات المتحدة في أورشليم - بكل فخر لدراسته الدقيقة الطبوغرافية أورشليم، في نفس هذه الفترة تقريبًا.
7- بليس وديكي: وفي المدة من 1894-1897، قام صندوق استكشاف فلسطين بسلسلة ناجحة من الحفريات لتحديد مسار الأسوار الجنوبية القديمة، تحت إشراف بليس (ابن القس دانيال بليس مدير الكلية البروتستنتية في بيروت، في ذلك الوقت) وبمعاونة المهندس المعماري "ديكي" وبعد كشف أساسات الأسوار المدفونة في الركن الجنوبي الشرقي - حيث كشف خندق مودسلي في مقابر البروتستنت - تتبع بليس وديكي هذه الأساسات حتى بركة سلوام عبر التيروبيون حتى "عوفل" وكذلك في سائر الاتجاهات. وقد أسفر ذلك عن اكتشافات على جانب كبير من الأهمية فيما حول بركة سلوام.
وقد استكملت هذه الحفريات بعدد من الأبحاث التي قام بها الأغسطينيون في منطقة واسعة حصلوا عليها، في الجانب الشرقي من جبل صهيون.
وفي الفترة من 1909-1911 قامت جماعة من الإنجليز بقيادة الكابتن باركر بعدد من الاكتشافات عن طريق عمل أنفاق كثيرة في الأكمة التي تعلو نبع العذراء مباشرة، وفي سبيلهم لذلك طهروا قنوات سلوام جميعها، واستكملوا استكشافات وارن السابقة في المنطقة المجاورة "لعمود وارن".
8- جمعيات أورشليم الأركيولوجية: وتوجد جمعيات عديدة تعمل علي استكشاف حقائق جديدة عن طبوغرافية أورشليم القديمة، وأهمها: كلية الآثار التابعة لجامعة القديس استفانوس الدومينيكانية، والكلية الأمريكية للآثار، والكلية الألمانية لأركيولوجية الكتاب المقدس تحت إشراف البروفسور والمان، وصندوق استكشاف فلسطين.
سادسا - أسوار المدينة وأبوابها:
1- الأسوار القائمة: على الرغم من أن أسوار أورشليم -في صورتها الحالية- تعود إلى أيام السلطان سليمان الكبير Suleiman the Magnificent (حوالي 1542م)، فإن دراستها لازمة لمعرفة الأسوار القديمة. والمحيط الكلى للأسوار الحديثة هو 4.326 ياردة أي حوالي ميلين ونصف الميل، ومتوسط ارتفاعها 35 قدمًا وعليها جميعها 35 برجًا وثمانية أبواب، أحدهما مسدود بحائط. وهي على شكل مربع تقريبًا. وتواجه جوانبها الأربعة الجهات الأساسية للبوصلة. والمباني ذات أشكال متعددة، وهناك الكثير من الأدلة على أن الأسوار الحالية بنيت في أزمنة عديدة. والسور الشمالي بالقرب من الزاوية الشمالية الغربية وإلى مسافة نحو الشرق من "بوابة دمشق"، يقع موازيًا لخندق قديم - وإن يكن إلى حد ما داخله - وهو والباب نفسه تظهر فيهما بوضوح الخطوط القديمة. والأسوار الشرقية والغربية - وإن كانت تلتزم في اتجاهها العام حافات الوديان العميقة - لا بُد أنها - بصورة أو بأخرى - تتبع مسار الأسوار القديمة. أم السور الشرقي من جنوبي بوابة القديس استفانوس إلى الزاوية الجنوبية الشرقية، فيتبع مسارات عديدة قديمة، ويعود الخط العام له إلى زمن هيرودس الكبير على الأقل. وامتداد السور الغربي من "برج دادو" إلى الركن الجنوبي الغربي يتبع - ولا شك - خطًا قديمًا، وقد قاوم الزمن قرونًا عديدة. وهذا الجزء من السور لم يتعرض للدمار عندما أمر تيطس بتسوية باقي الأسوار بسطح الأرض. وفي الزاوية الشمالية الغربية توجد بعض أطلال تعرف باسم "قلعة جلعود" (قلعة جليات)، التي على الرغم من أنها تعود بصورة كبيرة إلى العصر الوسيط، إلا أنها تحتوي على بعض الصخور والمباني من أيام هيرودس، وتعتبر أطلال برج سيفينوس الشامخ.
2- نظرية ولسون: ظل مسار السور الجنوبي زمنًا طويلًا يشكل صعوبة واضحة، فهو بالتأكيد ليس مسار السور الذي كان قبل تيطس، فليس من المميزات الطبيعية الموجودة في الأسوار الغربية والشرقية. ولا يوجد أي أثر لخندق صخري عظيم مثل الموجود في الشمال، ومعظم الطرف الشرقي قائم على المسارات المنخفضة لسور هيرودس في الجنوب، بسبب ساحة الهيكل المتسعة، وما زالت هناك البوابات المفردة والمزدوجة والثلاثية التي تؤدي إلى الهيكل. والخط غير المنتظم الذي تسير فيه بقية هذا السور لم يجد له تفسيرًا حتى وقتنا الحاضر. ويطرح السير تشارلس ولسون في كتابه "الجلجثة والقبر المقدس" التفسير المحتمل، وهو أن مسار السور من الطرف الجنوبي الغربي إلى "بوابة صهيون" قد حدده معسكر الجيش، الذي كان في جزء المدينة الذي تغطيه الآن الثكنات والحي والأرمني. وإذ نأخذ في الاعتبار أن البقية الباقية من السور الأول من ناحية الشمال والغرب كانت جزءًا من هذا الحصين (من 70 - 132م)، وإذ نفترض أن المعسكر كان يحتل مساحة 50 فدانًا، كما كان الحال في معسكرات رومانية أوربية مختلفة مازالت بقاياها موجودة، فإن سور المعسكر الجنوبي كان - ولا بُد - يسير بمحاذاة خط الأسوار الجنوبية الحالية. وإذ تم اختيار خط التحصين بهذه الطريقة، يبدو أنه قد روعي اتِّباعه عبر الجزء الأكبر من القرون المتعاقبة حتى أيامنًا الحاضرة. والخلط الذي يربط بين أطراف السور الجنوبي والذي حددته ساحة الهيكل ومعسكر الجيش على الترتيب، من المحتمل أن يكون هو الذي بني عليه السور الجنوبي لمدينة هادريان "إيلياء".
3- الأبواب الحالية: من أبواب المدينة الثمانية، لا يوجد في الجانب الغربي سوي باب واحد فقط هو باب الخليل (باب حبرون) والذي يعرف عند السائحين باسم "باب يافا"، ومن المحتمل أنه هو نفسه موقع أبواب قديمة متعددة. وتوجد في الشمال ثلاثة أبواب: "باب عبد الحميد" (علي اسم السلطان عبد الحميد، الذي أقيم في عهده) أو "الباب الحديد" و"باب العمود" الذي يطلق عليه الآن عادة اسم "بوابة دمشق" ولكنه كان يعرف قديمًا باسم باب القديس استفانوس، وواضح من الأطلال الباقية أنه موقع بوابة قديمة، ويوجد في أقصى الشرق "باب الصحراء" أو "باب هيرودس". أما في الجانب الشرقي، فالباب الوحيد المفتوح هو "باب الأسباط" الذي يسميه المسيحيون الوطنيون عادة باسم "باب ستي مريم" ولكنه يسمي في كتب السياحة "باب القديس استفانوس"، وإلى الجنوب من ذلك، بالقرب من الطرف الشمالي الشرقي للحرم، يوجد الباب البيزنطي الكبير المعروف باسم باب "الضاهرية" أو (باب الظافر) ولكنه يعرف عند الأوربيين باسم "الباب الذهبي". وينسب الكثيرون هذا البناء إلى جستنيان وهرقل، ولكن أجزاء ضخمة منه ترجع إلى زمن أقدم. وتضع التقاليد المسيحية المبكرة، "باب الجميل" في هذا الموقع. ويوجد في السور الجنوبي بابان أحدهما عادي قليل الأهمية يشغل مركز "الوادي" ويعرف باسم "باب المغاربة" وعند الأوربيين باسم "باب الدمن". وثانيهما يوجد عند قمة التل الغربي - وهو جبل صهيون كما يقول التقليد - وهو "باب النبي داود" أو "باب صهيون".
وقد اتخذت كل هذه الأبواب شكلها الحالي منذ أن أعاد السلطان سليمان الكبير بناء الأسوار، ولكن أهم هذه الأبواب يوجد في مواقع الأبواب القديمة، وقد اختلفت أسماؤها كثيرًا وبخاصة منذ أيام الصليبيين. وتعدد أسماء هذه الأبواب - فلكل منها اسمان أو ثلاثة أسماء في الوقت الحاضر - مع التغييرات المتعددة التي طرأت عليها، لأمر جدير بالملاحظة بالارتباط بتلك الحقيقة وهي أن في تاريخ العهد القديم أيضًا تظهر بعض الأبواب ولكل منها اسمان أو أكثر.
ومسار السور الجنوبي حاليًا كما سبق القول - هو نتيجة إعادة بناء المدينة الذي قام به الرومان منذ عهد تيطس. ونحن مدينون لوارن وجوته ومودسلي وبليس بالمعلومات المرتبطة بمساراتها القديمة، فقد أثبت هؤلاء المكتشفون أنه في كل فترة ما قبل الرومان، كان الامتداد الجنوبي للسلاسل الجبلية الغربية والشرقية، وكذلك الوادي العريض بينهما - وهي منطقة قليلة الكثافة السكانية حاليًا - من أكثر المواقع ازدحامًا بالسكان، كما أنها أكثر المناطق إثارة في التاريخ العبري للمدينة. إن قداسة القبر المقدس قد جعلت الحياة في المدينة تدور باستمرار حول هذا المكان المقدس، مما جعل الطبوغرافية القديمة غير واضحة على مدى قرون عديدة.
4- بقايا الأسوار القديمة المطمورة:
(1) لقد كشفت حفريات "وارن" عن:
(أ) - سور ضخم ارتفاعه 46 قدمًا شرقي البوابة الذهبية Golden Gate ينحني نحو الغرب عند طرفه الشمالي حسب اتجاه الصخور في هذه المنطقة. ويحتمل أن يكون هو سور المدينة الشرقي فيما قبل أيام هيرودس. ولسوء الحظ فإن وجود مقابر واسعة للمسلمين خارج السور الشرقي للحرم، يحول دون إمكانية إجراء أي حفريات أخري في الأماكن المجاورة.
(ب) - أطلال أكثر أهمية في التل الجنوبي الشرقي المعروف باسم "عوفل" (أي "الأكمة")، فابتدأ من الزاوية الجنوبية الشرقية، كشف وازنٍ عن سور يبلغ سمكه 14.5 أربعة عشر ونصفا من الأقدام، يسير نحو الجنوب مسافة 90 قدمًا ثم يتجه بعد ذلك إلى الجنوب الغربي محاذيًا لحافة التل لمسافة 700 قدم. وهذا السور، الذي ينتمي إلى عصرين - على الأقل - من عصور البناء، يتصل بسور الهيكل بوصلة مستقيمة، وكانت توجد على مساره أربعة أبراج صغيرة تبرز ستة أقدام، ويتراوح عرضها من 22-28 قدمًا، ثم برج ركني ضخم يبرز واحدا وأربيعن ونصفًا من الأقدام من السور بواجهة عرضها ثمانون قدمًا. وتتكون واجهة هذا البرج الكبير من أحجار ارتفاع الواحد منها يتراوح ما بين قدم وقدمين، وطوله ما بين قدمين وثلاثة أقدام، وهو مؤسس على الصخر ويرتفع إلى 66 قدمًا. ويعتبر وارن أنه من المحتمل أنه هو "البرج الذي خارج بيت الملك الأعلي" (نحميا 3: 25).
(2) - في 1881 النقط البروفسور جوته بقايا من هذا السور في الجهة الجنوبية منه. كما وجد الكابتن باركر (1910-1911) بعض شظايا أخرى من حوائط ضخمة وبوابة قديمة.
(3) - قام مودسلي بالتنقيب في التل الجنوبي الغربي في الموقع الذي تحتله "مدرسة الأسقف جوبات - للبنين" وفي المدافن الأنجلو ألمانية - المجاورة. والمدرسة مبنية فوق كتلة ضخمة من صخرة منحدرة مساحتها 45 قدمًا مربعًا، وترتفع عشرين قدمًا فوق منبسط من الأرض يحيط بها، ويتصل بها بدرج محفور في الصخر، وعلي هذا الأساس الضخم، كان يقوم - ولابد - برج عظيم عند الركن الجنوبي الغربي للمدينة في الأزمنة القديمة. ويوجد عند هذه النقطة منحدر يواجه الغرب، أمكن تتبعه مسافة 100 قدم جهة الشمال نحو الزاوية الجنوبية الغربية للسور في وضعه الحالي، بينما يوجد منحدر صخري يبلغ ارتفاعه في بعض الأماكن 40 قدمًا على الجانب الخارجي أو الجنوبي، 14 قدمًا على الجانب الداخلي، ويمتد 250 قدمًا نحو الشرق حتى يتصل ببروز صخري عظيم عرضه 43 قدمًا، وعلى الرغم من أنه لم توجد أحجار في هذا الموقع، فمن الواضح أن مثل هذه الأعمال الصخرية كانت لتدعيم سور وبرج في منتهي المتانة، وتوجد مئات من الأحجار الضخمة المربعة المأخوذة من هذا السور، الآن في حوائط المباني المجاورة.
(4) - بدأ عمل بليس وديكي عند الطرف الجنوبي الشرقي لمنحدر مودسلي عند هذا البروز الضخم للبرج -السابق ذِكره- حيث وجدت عدة آثار لأبنية مازالت في مواقعها. ويبدو هذا البرج كنقطة تشعب لمسارين متميزين من السور، واحد منها يسير في الاتجاه الشمالي الشرقي ملتفًا حول حافة التل الجنوبي الشرقي، ولعله كان يتصل بمسار الأسوار الحديثة عند بناء البرج المحطم المعروف باسم برج الكبريت. ويسير الآخر نحو الجنوب الشرقي نازلًا نحو بركة سلوام على حافة وادي الربابة (هنوم). ولا يمكن أن يكون السور الأول قديمًا لوجود حليات معمارية بيزنطية متأخرة، في أساساته.
ويقول بليس إنه من المحتمل أن يكون ذلك السور هو الذي بناه فردريك الثاني في 1239 م. وعلى الرغم من أن هذه البقايا المعمارية تعتبر متأخرة بالمقارنة بغيرها، فهناك بعض الأسباب التي تدفع إلى الظن بأنه في وقت مبكر جدًا كان أحد الأسوار يسير في اتجاه مشابه بمحازاة الحافة الجنوبية الغربية للتل. ويري البعض أن حائط سليمان قد اتخذ أيضًا هذا المسار، ولكن ليس ثمة براهين أركيولوجية تؤيد ذلك. والسور الذي يتجه ناحية الجنوب الشرقي من البرج على حافة وادي هنوم، له أهمية أعظم من الناحية التاريخية. وقد أظهرت حفريات بليس أنه كانت هناك أطلال تعود إلى عصور متعددة تغطي أكثر من ألف سنة. وكان الجزء الأعلي من السور من بناء دقيق من أحجار 1×3 قدم مترابطة ترابطًا دقيقًا ومصقولة صقلًا جميلًا. ويبدو هذا السور في بعض الأماكن مؤسسًا علي بقايا السور الأسفل، وفي أماكن أخري تتوسطه طبقة من الأنقاض. ومن المستحيل أن يكون هذا السور العلوي سابقًا للعصر الروماني، ويرده بليس إلى الإمبراطورة إيدوكسيا وقد استقر السور الأسفل على الصخر، ويبدو أن بناءه تم على ثلاث فترات، على الأقل. ففي الفترة المبكرة كانت للحجارة حافات عريضة وكانت شديدة الترابط بدون استخدام الملاط، وقد يكون ذلك من عمل سليمان أو أحد ملوك يهوذا الأولين. ومن الواضح أن البقايا المتأخرة نتيجة للإصلاحات التي قام بها ملوك يهوذا ونحميا وكل من أسهم في ترميم الأسوار حتى الخراب في 70 م. وعلى أبعاد غير منتظمة من السور، كانت هناك أبراج مشابهة تمامًا في عرضها وفي مسقطها لتلك الموجودة في سور وارن على التل الجنوبي الشرقي، وقد أمكن تتبع أساسات السور حتى مدخل وادي التيروبيون فيما عدا جزءًا منها يمر تحت مدفن لليهود، وقد اختفي الجزء الأعلى من السور (حيث أخذت بعض الأحجار لاستخدامها في أبنية أخرى) قبل الوصول إلى مدفن اليهود.
(5) - سد التيربيون العظيم: في معظم العصور - إن لم يكن في جميعها - كان السور يعبر مدخل وادي التيروبيون فوق سد مازالت أساساته الضخمة موجودة تحت سطح الأرض، ويوجد بعضها على بُعْد 50 قدمًا إلى الشرق من السد الأصغر الذي يمد بركة الحمرا الآن بالمياه. ومن الواضح أن هذا السد كان يمد البركة الموجودة في مدخل التيروبيون بالمياه، كما أن هناك دلائل على أنه قد تناولته أيدي الإصلاح والتعديل والتدعيم. وعلى الرغم من أنه من الواضح، أنه في خلال الجزء الأكبر من التاريخ اليهودي قبل السبي وبعده، كان سور أورشليم الجنوبي يمر فوق هذا السد، إلا أن هناك بقايا من الأسوار التي تدل على أنه في فترة من الفترات دار السور حول بركتي سلوام تاركًا إياهما خارج التحصينات.
(6) - أطلال البوابات القديمة: ولقد وجدت - على امتداد السور من "خندق مودسلي" إلى وادي التيروبيون - بقايا بوابتين من بوابات المدينة وهناك دلائل - يحوم حولها الشك - على وجود اثنتين أخريين. وبقايا أولي هاتين البوابتين واقعة الآن ضمن الامتداد الجديد للمدافن "الأنجلو ألمانية". وكان للبوابة أعتاب وأوقاب من أربعة عصور، بعضها فوق بعض. وكان عرض المدخل أولًا ثمانية أقدام وعشر بوصات، وأصبح أخيرًا ثمانية أقدام فقط. ويبدو من نظام البناء أن البوابة كانت جزءًا من السور الأعلى الذي يعود - بكل تأكيد - إلى العصر المسيحي، وعليه فلا يمكن أن يكون هو الباب المذكور في (نحميا 3: 13)، على الرغم من أن الباب الأقدم يمكن أن يكون قد قام في هذا الموقع. ويقترح "بليس" كموضع محتمل لهذا الباب، فرجة بين البرجين المتجاورين، الرابع والخامس، وإلى الشرق قليلًا.
وكانت هناك بوابة أخري ولكنها أصغر، عرضها أربعة أقدام وعشر بوصات، لا يدل عليها سوي الحفر الموجودة في الصخر لأوقاب البوابة، وكان يقع ناحية الغرب قليلًا من بوابة المدينة التي سيأتي ذكرها بعد ذلك. ونظرًا لموقعها وعدم أهميتها، يبدو أنها لم تكن مدخلًا للمدينة، بل لعلها كانت - كما يظن "بليس" مدخلًا للبرج الذي تهدم الآن.
والبوابة الثانية الكبيرة وجدت على بُعْد نحو مائتي قدم جنوبي بركة الحمرا ملاصقة للزاوية الجنوبية الشرقية للسور القديم والأطلال الموجودة حاليًا تتصل بأسوار من عصور أسبق، لكن الأعتاب الثلاثة للأبواب وأوقابها، والتي تبدو اليوم مكشوفة في نفس الموقع، تدل على ثلاث فترات طويلة متميزة، وتؤدي البوابة إلى الشارع الرئيسي الكبير الذي ينحدر نحو التيروبيون، والذي كان يجري تحته مصرف كبير محفور في الصخر، ويحتمل أنه كان يخترق كل الوادي الرئيسي للمدينة. وقد أقيم برج في أثناء الفترتين الأخيرتين اللتين استخدمت فيهما البوابة، لحماية المدخل. ويحتمل أيضًا أن أقدم الآثار تعود إلى عصر الملوك اليهود، والأرجح أننا هنا أمام الباب الذي ذكره (نحميا 3: 13) باسم "باب المن". وفي رأي "بليس" أنه يمكن أن يكون "باب العين" (نح 3: 15) الذي يحتمل أنه كان جهة الشرق، على الرغم من أن "بليس" لم يجد أي آثار باقية منه. ولقد كانت الإصلاحات والتغييرات التي جرت كثيرة حتى إن اختفاءه لا يثير الدهشة. ويكاد يكون من المؤكد أن باب العين هو الباب "بين السورين" الذي هرب منه صدقيا وجميع رجال القتال (2 مل 25: 4؛ إرميا 39: 4؛ 52: 7).
(7) - وصف يوسيفوس للأسوار: إن أكثر الروايات تحديدًا للأسوار القديمة، هي تلك التي يذكرها يوسيفوس. وعلي الرغم من ارتباطها بالأسوار التي كانت موجودة في أيامه، إلا أنها مناسبة لبدء المسح التاريخي. ويصف يوسيفوس ثلاثة أسوار:
(8) - السور الأول: بدأ من الشمال من البرج المسمي "هيبيكوس" وامتد حتى "اكزستوس" وبعد أن يلتقي بدار المجلس ينتهي عند الرواق الغربي من الهيكل. ولا جدال حول مسار هذا الجزء من السور حيث أن برج هيبيكوس كان ملاصقًا لباب يافا الحالي، وقد سار السور من هذا المكان نحو الغرب إلى منطقة الهيكل على امتداد الطرف الجنوبي للفرع الغربي من التيروبيون، ويحتمل أن تكون "حارة الدواية" - وهي تسير موازية تقريبًا للشارع المجاور "شارع داود" -ولكنها أعلي منه- ممتدة فوق أساسات هذا السور، ولا بد أنه كان يعبر التيروبيون الرئيسي بالقرب من "طريق باب السلسليل" حتى يتصل بالرواق الغربي الملاصق "للمحكمة" حيث يوجد "دار المجلس" حاليًا. ويقتفي يوسيفوس المسار الجنوبي للسور قائلًا بأنه بدأ من نفس المكان (أي هيبيكوس) وامتد عبر مكان يدعي "بتسو" إلى باب الأسينيين، وبعد ذلك اتجه جنوبًا نحو عين سلوام، وعندها ينعطف مرة أخري نحو الشرق إلى بركة سليمان، ويمتد حتى يصل إلى مكان يسمونه "عفلة" حيث يتصل بالرواق الشرقي للهيكل.
وبالرغم من أن المسار الرئيسي لهذا السور أمكن الآن تتبعه باستخدام المعاول والمجارف، فإن الكثير من النقاط مازالت غير معروفة تمامًا، فلا نعرف شيئًا عن "بتسو" ولكن لابد أنها كانت قريبة من الزاوية الجنوبية الغربية التي تحتلها "مدرسة الأسقف جوبات" الآن. ويحتمل أنها هي "برج التنانير" المذكور في (نحميا 3: 11)، بينما كان باب الأسينيين - ولا بد - قريبًا من باب الدمن، إن لم يكن هو نفسه (نح 3: 13). ويبدو أن الوصف الذي ذكره يوسيفوس يتضمن أن فم قناة سلوام (عين سلوام) وبركتي سلوام كانت خارج الاستحكامات. وقد رأينا من هذه الدلائل في الآثار الموجودة تحت الأرض، أن ذلك كان الوضع في فترة ما. ويحتمل أن بركة سليمان هي المُسَمَّاة حديثًا بِركة الحمرا. ومن الواضح أن السور من هنا حتى الزاوية الجنوبية الشرقية لساحة الهيكل، قد سار على حافة التل الجنوبي الشرقي، وانطبق بعد ذلك من ناحية الشمال، على السور القديم الذي نقب عنه "وارن". وكان السور الأول هو الاستحكامات الرئيسية للمدينة منذ عصر ملوك يهوذا. وفي أيام يوسيفوس، كان لهذا السور الأول ستون برجًا.
(9) - السور الثاني: ويقول يوسيفوس إن السور الثاني "بدأ من البوابة التي أطلقوا عليها اسم "الجنة" وهي جزء من السور الأول، وطوق الحي الشمالي فقط من المدينة حتى برج "أنطونيا". ولم يحدث أن لقي أي جزء من طبوغرافية أورشليم، من الاختلاف في الرأي أكثر مما لقي هذا السور فيما يختص بمنعطفاته أو فيما يختص بتاريخ إقامته. ولسوء الحظ، ليس لدينا أي فكرة عن المكان الذي كان فيه "باب الجنة". نحن نعرف "قلعة أنطونيا"، ولابد أن الخط قد مر في اتجاه منحن أو متعرج من نقطة غير معروفة في السور الأول، أي من باب يافا والحرم إلى برج انطونيا. ويربط عدد ملحوظ من الثقاة في الماضي، وعدد قليل من العلماء المدققين اليوم، بين المسار العام لهذا السور والسور الشمالي الحديث. وأعظم الاعتراضات على هذا الرأي، هو أنه ليس ثمة مسار مرضي يمكن أن يكون بديلًا للسور الثالث، وأن ذلك لا بد أنه قد سار بعيدا شمالي "أنطونيا"، وهو مسار يبدو أنه لا يتفق مع وصف يوسيفوس الذي يقول إن السور "صعد" حتى "أنطونيا". ومن الناحية الأخرى لم تكتشف آثار أكيدة لأي سور داخل السور الشمالي الحالي. وقد كتب الكثيرون عن مشاهدتهم لبعض حطام (مثل القطعة التي يقال إنها كانت تشكل الجزء الشرقي مما يمسي "بركة حزقيا")، ولكن في منطقة كثيرًا ما تعرضت للهدم ثم البناء - حيث كانت الحاجة ماسة دائمًا إلى أحجار مربعة - يحتمل أن تكون الآثار - إن كان ثمة آثار باقية - ضئيلة جدًا. هذا هو الحال مع السور الجنوبي الذي اكتشفه "بليس" وقد ظل ما حوله متروكًا دون أن يبني فوقه، على مدي قرون عديدة. ويحتمل جدًا أن المنطقة الواقعة داخل السور الثاني كانت صغيرة نسبيًا، فكانت تضم المباني المتجمعة حول جوانب التيروبيون فقط. ولعل أبراجه الأربعين كانت صغيرة ومتلاصقة لأن الموقع كان ضعيفًا من وجهة النظر العسكرية. ويجب أن نذكر أن عدم كفاية السور الثاني هو الذي أدي إلى الحاجة إلى السور الثالث. وليس ثمة سبب لعدم استبعاد الجزء الأكبر من التل الشمالي الغربي (ومعه موقع كنيسة القبر المقدس)، ولكن لا دليل علي أن ذلك قد حدث. وتاريخ إقامة السور الثاني غير معروف.
(10) - السور الثالث: وهو الذي بدأه هيرودس أغريباس الأول بعد عصر المسيح. ويصفه يوسيفوس بتفصيل أوفي. وقد بدأ العمل فيه طبقًا لخطة محكمة، ولكنه لم ينفذ حسب التصميم الأصلي، لأن أغريباس كان يخشي كلوديوس قيصر، لئلا "يرتاب في أن سورا قويًا مثل هذا، يبني لمجرد إجراء بعض التجديدات العامة". ومع هذا ففي مدة الحصار كان عرضه يزيد عن 18 قدمًا، وارتفاعه 40 قدمًا، وكان عليه تسعون برجًا ضخمًا. ويقول يوسيفوس بأنه كان يبدأ من برج هيبيكوس (بالقرب من باب يافا) "ويصل إلى الحي الشرقي للمدينة وبرج سيفينوس". وكان هذا البرج العظيم الذي بلغ ارتفاعه 135 قدمًا، في الزاوية الشمالية الغربية، وقد أطل على كل المدينة. وطبقًا لما يذكره يوسيفوس، كان يمكن رؤية البلاد العربية (موآب) منه عند شروق الشمس، وكذلك "أقصي حدود بلاد العبرانيين عند البحر غربًا". ومن هذا الركن اتجه السور نحو الشرق حتى وصل مقابل قبر هيلانة في الأديابين، وهي عبارة يجب أن تقرأ بالارتباط مع فصل آخر (تاريخ يوسيفوس - المجلد العشرون، الفصل الرابع: 3) حيث يقول إن هذا القبر "كان لا يبعد أكثر من ثلاث غلوات (أو 660 ياردة) من مدينة أورشليم". وقد امتد السور بعد ذلك إلى مسافة طويلة ومر بكهوف مقابر الملوك التي قد يكون من الأفضل أن يطلق عليها "محاجر سليمان"، ثم انحني عند "برج الزاوية" واتصل بالسور القديم في وادي قدرون.
والنظرية التي تحظي بأكثر قبول، هي أن جزءًا كبيرًا من مسار هذا السور هو نفس مسار السور الشمالي الحديث، وأن "قلعة الجلود" أو بالأحري أساسها هو موقع "برج سيفينوس". ولا شك أن بوابة دمشق تقوم على موقع بوابة من البوابات القديمة. ويحتمل أن "برج الزاوية" كان - على وجه التقريب - في المكان الذي تقع فيه بوابة هيرودس الحديثة، أو إلى الشرق قليلًا منها. ويحتمل أن مسار السور كان يبدأ من هنا ويسير بمحاذاة الحافة الجنوبية "لوادي القديسة حنة" ويتصل بالركن الشمالي الشرقي من "الحرم"، وإلى الجنوب قليلًا من بوابة القديس استفانوس الحالية. وهذا المسار للسور يتفق تمامًا مع وصف يوسيفوس.
ولكن آخرين يتفقون مع رأي روبنسون، ويرون أنه من المستحيل الاعتقاد بأن المنطقة الكلية للأسوار كانت صغيرة إلى هذا الحد، ويحددون موقع السور الثالث إلي الشمال بمسافة ملحوظة، وبهذا يجعلون المسار العام للسور الشمالي الحالي مطابقًا للسور الثاني عند يوسيفوس. والذين يؤيدون هذا الرأي، يشيرون إلى وصف المنظر الشاسع من برج سيفينوس، ويؤكدون أن هذا الموقع المفترض كان أعلى من ذلك، أي حيث توجد الآن المباني الروسية، ويبدو أيضًا أن العبارة التي تقول إن السور كان "مقابل" قبر القديسة هيلانة تعني بالتأكيد أنه كان أقرب جدًا إلى القبر من السور الحالي.
أما الدكتور روبنسون وآخرون من مؤيديه، فقد أشاروا إلى بعض الشظايا المتناثرة التي يزعمون أنها قطع من السور المفقود، لكن كاتب هذا البحث -بعد الإقامة لسنوات- عديدة في أورشليم، ملاحظًا المباني التي قامت خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة، فوق المنطقة التي يقال إن مسار هذا السور كان يمر بها - لم ير أثرًا لأساسات السور، أو لأي خندق يمكن أن يتيح أقل قدر من الإقناع، وعلى الجانب الآخر، نجد أن هذه المنطقة - وقد أصبحت تغطيها، بشكل سريع، ضواحي أورشليم - تقع تحت مستوي الصخور الأصلية، وليس ثمة دليل علي أي مبان أخري سوي عدد من الفيلات الرومانية ذات أرضيات من - الفسيفساء. وقد وصل كاتب هذا البحث -مضطرًا- إلى الاعتقاد بأن أسوار المدينة لم تكن أبعد في هذه الجهة عن الخط الذي تقوم عليه الآن.
وقد كشفت الحفريات الحديثة في المنطقة القريبة من قبر الملكة هيلانة عن ما يحتمل أن يكون السور الثالث الطويل المفقود. ويكشف التنقيب حول هذا السور باستمرار عن عظمة فن العمارة. وانحناء السور نحو الجنوب أمام "المدرسة الأمريكية للدارسات الشرقية" يبدو مطابقًا تمامًا للوصف الذي ذكره يوسيفوس. والشيء الذي أصبح مؤكدًا هو أنه كان سورًا ضخمًا من أسوار المدينة. وقد علق أحد سكان أورشليم بقوله: "لا يمكن أن يكون أحدهم قد بني هذا السور حول فناء مزرعة دواجن".
(11) - تاريخ بناء السور الثاني: إذ نضع في اعتبارنا أسوار أورشليم كما وصفها يوسيفوس، فقد يلزمنا أن نعود إلى الوراء ونري كيف كان مسار الأسوار في العصور القديمة. والسور الثالث لا يعنينا الآن، حيث أنه بني بعد حادثة الصليب. ويدور جدل كثير حول السور الثاني وتاريخ إقامته. فالبعض مثل السير تشارلس واطسون، يري أنه ليس أقدم كثيرًا من زمن المكابيين، بينما يري آخرون (مثل سميث)، بسبب العبارة الواردة في (أخبار الأيام الثاني 32: 5) أن حزقيا بعد أن رمم السور "بني سورًا آخر خارجًا"، وعليه فهذا السور يعود إلى عصر هذا الملك، ولكنه دليل غير حاسم. وأكثر وجهات النظر احتمالًا، تبدو في أن "السور الأول" كما وصفه يوسيفوس كان هو السور الكامل الوحيد منذ عصر ملوك يهوذا وحتى القرن الثاني قبل الميلاد وربما إلي ما بعد ذلك.
(12) - رواية نحميا عن الأسوار: وأكمل وصف كتابي عن أسوار أورشليم وأبوابها هو ما جاء في نحميا، فروايته لها قيمة عظيمة، ليس فقط باعتبارها تسجيلًا لما فعله، ولكن وصفًا للحالة التي كانت عليها الأسوار قبل السبي. وواضح تمامًا أنه كانت هناك آثار ذات قيمة للأسوار القديمة والأبواب، وكان هدفه الوحيد هو إعادة بناء ما كان قائمًا من قبل، رغم أن اتساع المدينة كان أكبر من اللازم في وقته. والفصول المتعلقة بهذا الموضوع في نحميا هي: ذهابه ليلًا (نح 2: 13-15)، إعادة بناء الأسوار (نح 3: 1-32)، والطريق الذي سار فيه كل من الموكبين عند تدشين السور (نح 12: 31-39).
(13) - باب الوادي: ونعلم من الرواية الأولي أن نحميا خرج ليلًا من باب الوادي المؤدي إلى وادي هنوم، ويحتمل أنه كان عند الباب الذي اكتشفه بليس أو قريبًا منه، والذي هو الآن جزء من المدافن الأنجلو ألمانية، وقد مرَّ منه نحميا إلي "باب الدمن" حيث عاين من هناك أسوار المدينة.
(14) - باب الدمن: والأرجح أنه الموقع الذي تحتله الأساسات المنهدمة لباب كشف عنه بليس عند الركن الجنوبي الشرقي من المدينة، وواضح أن السور كان يوازي الحافة الجنوبية للتل الجنوبي الغربي، من المدافن الأنجلو ألمانية حتى هذه النقطة.
(15) - باب العين: ثم تقدم من "باب الدمن" إلى "باب العين" الذي لم يكشف موقعه حتى الآن، ولكن حيث أنه لا شك في أن مياهًا كانت تجري إلى ذلك المكان من فم نفق سلوام (كما يحدث الآن)، فمن المحتمل جدًا أنه كان في ذلك الموقع. وكانت توجد بالقرب من ذلك المكان "بركة الملك" ويحتمل أنها البركة المطمورة حاليًا والتي تدل عليها "بركة الحمرا". وهنا فكر نحميا في العودة إلى المدينة "ولكن لم يكن مكان لعبور البهيمة التي تحتي" (نح 2: 14) وعلي هذا فقد صعد في الوادي (قدرون) ورأي الأسوار من هناك، ثم استدار إلى باب الوادي. ويحتمل أيضًا أن بركة الملك كانت هي البركة في جيحون (التي لا شك في أنها كانت موجودة وقتئذ) وعليه فلابد أن "باب العين" كان في المنطقة المجاورة.
والدليل الأركيولوجي يؤيد أن السور قد عبر مدخل التيروبيون عن طريق السد الكبير الذي كان قائمًا في ذلك الوقت. وقرب السد من باب العين واضح في نحميا (نح 3: 15) حيث نقرأ أن "شلون" رمم العين وسقفه وأقام مصاريعه وأقفاله وعوارضه وسور بركة سلوام عند جنينة الملك إلى الدرج النازل من مدينة داود، وكلها كانت مواقع متلاصقة عند مدخل الوادي.
ومن هنا يمكننا أن نتتبع دائرة من روايات إعادة بناء الأسوار المذكورة في نحميا (نح 3: 15، 16) فقد امتد السور من هذا المكان إلى "مقابل قبور داود" والتي نعلم أنها كانت في "مدينة داود" فوق جيحون، وإلى "البركة المصنوعة" وإلى "بيت الجبابرة"، وهما موقعان غير معروفين. وواضح أن السور قد امتد إلى حافة التل الجنوبي الشرقي في اتجاه الهيكل. ونقرأ عن زاويتين في السور - استلزمتها الظروف الجغرافية - عند "بيت رئيس الكهنة" وعند "البرج الخارجي" (الذي يظن أن وارن قد كشف عنه) إلى "سور الأكمة" (نح 3: 20، 26، 27).
(16) - ويذكر أيضًا "باب الماء" في هذا الموقع حيث نتوقع وجود طريق ينزل من منطقة الهيكل إلى جيحون. ومن العدد الكبير للجماعات التي اشتغلت ببناء السور يمكن أن نستنتج أنه علي امتداد هذا السور من التيروبيون إلى الهيكل كان تدمير الأسوار تدميرًا واسعًا بصورة خاصة (نح 3: 15-27).
(17) - باب الخيل: وإذ نتقدم شمالًا نأتي إلي باب الخيل وكان المدخل المؤدي إلي بيت الملك (2 مل 11: 16؛ 2 أخ 23: 15؛ إرميا 31: 40). وعبارة "ما فوق باب الخيل" (نح 3: 28) قد تعني أن الباب نفسه لم يكن قد أصابه ضرر، ولعله كان نوعًا من الممرات المحفورة في الصخر أو نفقًا من الأنفاق. ولا يمكن أنه كان بعيدًا عن الزاوية الجنوبية الشرقية الحالية للمدينة، ومن ثم "رمم الكهنة كل واحد مقابل بيته" (نح 3: 28)، وكانت بيوتهم تقع شرقي الهيكل.
(18) - باب الضأن: ثم نأتي إلى باب العد إلى المصعد (أو "عليه" العطفة، وأخيرًا إلى باب الضأن الذي رممه الصياغون والتجار، وهو النقطة التي بدأت منها أعمال الترميم، وبالوصول إليه اكتملت دائرة السور، والشواهد في نحميا واضحة وتدل على أنه كان عند الحدود الشرقية للسور الشمالي (نح 3: 1، 31، 32؛ 12: 39).
والتفاصيل التي يذكرها نحميا عن الأبواب والبنايات في السور الشمالي، تبدو غامضة وعسيرة على الفهم، فهذا الجانب لا بُد أنه كان بالضرورة الجانب الضعيف من ناحية الدفاع إذ لم يكن يحميه أي وادٍ طبيعي حصين، ولا يمكن الجزم بما إذا كان نحميا يصف سورًا يطابق في ثلثيه الغربيين السور الأول أو السور الثاني من أسوار يوسيفوس. وإذا رجحنا الرأي الأول فيمكن أن نوضحه كما يلي: إلي الغرب من باب الضأن يرد ذكر برجين (نح 3: 1؛ 12: 39) منهما "برج حنئيل" الذي كان أقرب إلى الشرق من "برج المئة". ويبدو من (نبوة زكريا 14: 10) أنه كان أقصي أماكن المدينة شمالًا. ويحتمل أن برجين قد قاما فوق التل الهام الذي قامت عليه بعد ذلك قلعة "باريس"(Baris) ثم قلعة "أنطونيا". وعند برج المئة ينزل السور إلى التيروبيون ليتصل بالطرف الشرقي للسور الأول حيث كانت "دار المجلس" في أيام يوسيفوس.
(19) - باب السمك: ويرجع أن "باب السمك" قد أقيم عبر التيروبيون (نح 3: 3؛ 12: 39؛ صفنيا 1 : 10؛ 2 أخ 33: 14)، مثلما يقوم "باب دمشق" حاليًا، وإنما إلي الجنوب قليلًا. والأرجح أنه سمي بهذا الاسم لأن أهل صور كانوا يبيعون السمك في ذلك المكان (نح 13: 16)، ويحتمل جدًا أنه هو "الباب الأوسط" المذكور في (إرميا 39: 3)، ويرتبط بهذه المنطقة "المشنة" أو "القسم الثاني" (صفنيا 1: 10) ومكتيش (صفنيا 1: 11).
(20) - الباب العتيق: والباب الثاني جهة الغرب - وعلي مسافة كبيرة نوعًا - هو "الباب العتيق". ويثور الجدل حول المقصود "بهذا الاسم" (نح 3: 6)، فالبعض يرون أن المقصود به المدينة العتيقة أو السور العتيق، بينما يفترض ميتشل (في أسوار أورشليم حسبما جاء في سفر نحميا) أنه "البركة القديمة" وهي "بركة حزقيا" ونحن نري أن رواية نحميا تشير إلى السور الأول فقط، ومن ثم فعبارة "السور العتيق" قد تكون أكثر ملائمة إذ يبدو أنه كان هناك جزء من السور الأول ظل بدون تغيير منذ زمن سليمان. وقد أعيد بناء السور الغربي على امتداد 400 ذراع بعد تدميره على يد يهوآش ملك إسرائيل. ورمم منسي السور من جيحون شمالًا ثم دار غربا إلى باب السمك.
ويقول البعض إن هذا الباب هو "باب الزاوية" (2 مل 14: 13؛ 2 أخ 25: 23؛ إرميا 31: 38؛ زك 14: 10)، وإنه هو أيضًا "الباب الأول" (زك 14: 10)، وعلى هذا كان "الباب العتيق" أو "باب الزاوية"، كان - ولابد - بالقرب من الركن الشمالي الغربي للمدينة قريبًا من موقع باب يافا حاليًا.
(21) - باب أفرايم: ثم يذكر "باب أفرايم" (نح 12: 39) وكان يبعد بمقدار 400 ذراع عن "باب الزاوية" (2 مل 14: 13؛ 2 أخ 25: 23)، فلابد أنه كان في مكان ما في السور الغربي. ولا يمكننا أن نقبل ما يقوله بعض الكتَّاب من أنه لم يكن هناك أي باب بين باب الزاوية بالقرب من الركن الشمالي الغربي، وباب الوادي في السور الجنوبي.
(22) - برج التنانير: يبدو أن "السور العريض" (نح 12: 38) كان الامتداد الجنوبي للسور الغربي، حتى "برج التنانير" (أو الأفران). ويحتمل أنه كان برج الزاوية بالغ الأهمية، والذي تحتل مكانه الآن "مدرسة الأسقف جوبات". وهذه الدائرة من الأسوار تفي إلى حد ما بما تتطلبه جميع الأحوال. ولكن هناك بعض الصعوبات في الناحيتين الشمالية والغربية، فهناك مشكلة في عدم ورود ذكر باب أفرايم بين الترميمات، ولكن سميث يري أنه من المحتمل أنه المشار إليه في عبارة "كرسي والى عبر النهر" (نح 3: 7). وإذا صحت النظرية التي تقول إن السور الثاني - كان قائمًا فعلًا، فلابد أن باب الزاوية وباب السمك كانًا أبعد إلى جهة الشمال.
(23) - باب بنيامين: في العهد القديم، وفي أوقات متأخرة أيضًا، يبدو أنه كان لبعض الأبواب أسماء مختلفة في الأزمنة المختلفة، فيبدو أن "باب الضأن" في الزاوية الشمالية الشرقية هو نفسه "باب بنيامين" أو "باب بنيامين الأعلى" (إرميا 20: 2؛ 37: 13؛ 38: 7)، ولا شك أن النبي كان يسير في أقرب طريق إلى بيته في عناثوث. ونجد في نبوة زكريا تحديدًا لعرض المدينة: "وترتفع وتعمر في مكانها من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا" (زك 14: 10).
(24) - الباب الأعلى للهيكل: ويحتمل أن "الباب الأعلى لبيت الرب" (2 مل 15: 35؛ 2 أخ 27: 3؛ انظر 2 أخ 23: 20؛ حز 9: 2) كان اسمًا آخر لنفس الباب (باب بنيامين). ويجب أن نذكر أن عدد الأبواب - كما كشفت الحفريات - كان أقل ما يمكن في المواقع الحصينة، لأنها الأبواب كانت نقط ضعف.
وما ذكرناه عن الأسوار والأبواب هو عما كان قائمًا في عهد نحميا منذ قيام مملكة يهوذا بل يحتمل منذ عهد سليمان.
(25) - الأسوار الأولي: علي الأرجح كان سليمان هو أول من أدخل التل الشمالي الغربي داخل الأسوار، وينسب إليه عادة كل الامتداد الشمالي والغربي للسور الأول. أما هل سار هذا السور منحدرًا إلى مدخل التيروبيون، أو التف فقط حول قمة التل الشمالي الغربي، فهذا أمر لا يمكن الجزم به، ولكن وجهة النظر الأخيرة هي المرجحة. وقد كانت تحصينات اليبوسيين القوية هي التي تحمي مدينة داود، والأرجح أنها كانت تطوق التل الجنوبي فحسب، وقد أضاف داود إليها قلعة "ملّو" ويحتمل جدًا أنه كان للمدينة اليبوسية الأصلية، باب واحد فقط في الجهة الشمالية (2 صم 15: 2). ولكن لا بُد أن المدينة في زمن داود قد تعدت حدودها الضيقة، مما كان يستلزم دفاعًا قويًا ومتصلًا مثلما فعل سليمان لتوفير عنصر الأمان للعاصمة.
سابعًا - الأطلال الأثرية المرتبطة بمصادر المياه:
في مدينة أورشليم، حيث تكون مشكلة مصادر المياه واحدة من أكبر المشاكل، من الطبيعي أن تتركز حول هذه المشكلة بعض الأعمال القديمة الهامة. وقد كانت مصادر المياه ثلاثة: الينابيع والخزانات والقنوات الصناعية.
الينابيع الطبيعية: وقد سبق وصف الينابيع الطبيعية في البند الثاني من هذا البحث (في الفقرة الثالثة). ولكن هناك بعض الأطلال الأثرية على جانب كبير من الأهمية ترتبط بهذه المصادر وبخاصة بجيحون أعظم المصادر وأهمها:
(1) - نبع العذراء: وهو جيحون القديم، وكما وصفناه سابقًا (البند الثاني، الفقرة الثالثة) ينبع من شق صخري في قاع وادي قدرون. وفي الظروف الطبيعية كان يجري الماء في بطن الوادي الذي يوجد الآن مطمورًا تحت أنقاض المدينة القديمة. ولا شَك في أنه عندما استقر المستوطنون القدامى في الكهوف (التي تم التنقيب عنها) على جانبي الوادي بالقرب من النبع، عاشوا هم وقطعانهم علي ضفاف مجري ماء جار في واد منعزل بين تلال لا ماء فيها، ومع هذا فمنذ وقت مبكر - علي الأقل منذ ألفي سنة ق. م. - بذلت جهود ضخمة لحجز بعض الماء، وبني سد حجري أصم حوَّل مصادر المياه إلى بركة ذات عمق ملحوظ. ومنذ ذلك الوقت أو بعده بقليل، أجريت حفريات في الشقوق الصخرية المحيطة بالبركة، والتي جرت منها علي الأقل كميات من الماء علي طريق شق نفق في قلب التل الجنوبي الشرقي "عوفل" (أي "الأكمة")، حتى يمكن الحصول علي المياه منها داخل أسوار المدينة. واليوم يوجد نوعان من الأنفاق يعتبران عادة نفقًا واحدًا باسم "قناة سلوام"، ولكن يحتمل أن النفقين من عصرين تفصل بينهما قرون كثيرة.
(2) - قناة الكنعانيين: يبدأ النفق الأقدم من كهف مجاور للمنبع ثم يجري بعد ذلك ناحية الغرب مسافة 67 قدمًا، وفي النهاية الداخلية للنفق يوجد نفق عمودي يرتفع إلى أكثر من 40 قدمًا، ويصب في ممر صخري مرتفع، يسير في انحناء جانبي ضئيل نحو الشمال في اتجاه السطح. وقد انهدمت النهاية العليا في بعض أجزائها، وأعيد بناء السقف الذي كان قد سقط، عن طريق بناء قنطرة. وتقطع هوة عميقة شديدة الانحدار أرضية هذا الجزء من الممر الذي كشف عنه وارن جزئيًا، ولكن باركر أثبت بشكل حاسم أنها انتهت بنهاية مسدودة. ومن الواضح أن هذا الدهليز الكبير البالغ عرضه ما بين ثمانية وتسعة أقدام، والذي كان مرتفعًا في بعض المواضع، قد شيد (وقد يكون أصلًا كهفًا طبيعيًا استخدم في العمل) لتمكين سكان المدينة المسورة من الوصول إلى النبع، وهو في الواقع عمل مشابه للممر المائي الكبير في "جازر" الذي بدأ من حفرة في الصخر عمقها 26 قدمًا، وتنزل بدرجات إلى عمق 94 قدمًا وست بوصات تحت مستوي سطح الصخر. وكان ارتفاع الممر المنحدر 23 قدمًا وعرضه 13 قدمًا. وهذا الممر الذي يرجع تاريخه بالتأكيد إلي ما قبل 1500 ق. م، بل يكاد يكون من المؤكد أنه يعود إلى 2000 ق. م. قد حفر بواسطة سكاكين من الصوان للوصول إلى مصدر كبير من المياه الجوفية.
(3) - نفق أو خندق وزن: وقد ألقى اكتشاف الممر المائي في جازر، فيضًا من النور علي "نفق وارن" في أورشليم، الذي يبدو أنه حفر لغرض مشابه. ولعل الهوة - التي سبق ذكرها قد عملت للوصول إلي مصدر الماء من نقطة أعلي، أو لعلها قد عملت أو عدلت فيما بعد لتمنع الدخول إلى المدينة عن طريق الأنفاق. وعلي أي الوجوه فإن هذا الممر هو "القناة" المذكورة في (سفر صموئيل الثاني 5: 8)، والتي صعد عن طريقها يوآب ورجاله سرًا (1 أخ 11: 6)، ولابد أنهم خاضوا في المياه عند منبعها وصعدوا النفق العمودي (وهو عمل عظيم قام به بعض الضباط البريطانيين في 1910 م دون الاستعانة بالسلالم)، واتجهوا بعد ذلك إلى قلب المدينة عن طريق النفق الكبير. وبناء علي ما يوجد في نفق المياه المشابه في جازر، فإن هذا العمل العظيم، لم يكن موجودًا في زمن داود فحسب بل لعله أنشئ قبل ذلك بحوالي 1000 عام.
4- قناة سلوام أو قناة حزقيا: يعتبر نفق سلوام الحقيقي عملًا متأخرًا. وهو يتفرع من القناة القديمة عند نقطة علي بعد 67 قدمًا من المدخل، وبعد أن يسير في مجري شديد الالتواء مسافة 1682 من الأقدام، يصب في بركة سلوام (الطول الكلي 1.749 قدمًا) والقناة كلها محفورة في الصخر ويتراوح عرضها بين قدمين وثلاثة أقدام، وتختلف في ارتفاعها من 16 قدمًا في الطرف الجنوبي، إلى أربع أقدام ونصف عند نقطة قرب المنتصف. وقد تغيرت ظروف هذا النفق تغيرًا كبيرًا مؤخرًا نتيجة لما قامت به جماعة الكابتن باركر، فقد أزالت الطمي المتراكم على مدي قرون، وقبل ذلك كان عبور بعض أجزاء هذه القناة، يتم بمشقة وجهد كبيرين. وتبدو الطبيعة البدائية لهذا البناء، من الممرات الوهمية الكثيرة التي عملت فيه، وكذلك بسبب الالتواءات الكثيرة التي تضاعف من طوله، ولعل هذه الالتواءات حدثت من العمال الذين توخوا مسار الطبقات الرخوة. وقد اعتقد كلير مونت - جانو وآخرون أن واحدًا أو أكثر من الالتواءات الكبيرة قد عمل لتجنب قبور ملوك يهوذا. وقد رويت طريقة بناء هذا النفق في نقش سلوام. فقد بدأ العمل فيه من كلا طرفيه في نفس الوقت، والتقي الفريقان عند الوسط. ومما تجدر ملاحظته، وجود فارق في المنسوب قدره قدم واحد فقط. ولكن الارتفاع الشاهق عند الطرف الجنوبي يرجع غالبًا إلى انخفاض في التربة بعد أن تم التقاء الطرفين. ومن المؤكد أن هذا العمل العظيم هو المشار إليه في (سفر الملوك الثاني 20: 20): "وبقية أمور حزقيا وكل جبروته وكيف عمل البركة والقناة وأدخل الماء إلى المدينة، أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا". ونقرأ في (سفر أخبار الأيام الثاني 32: 30): "وحزقيا هذا سد مخرج مياه جيحون الأعلى وأجراها تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود".
(5) - قنوات أخري في جيحون: وعلاوة علي هاتين القناتين اللتين لهما أهمية كتابية خاصة، توجد بقايا لقناتين أخريين على الأقل، تبدآن مع نبع العذراء: إحداهما قناة عميقة محفورة في الصخر على الجانب الغربي من وادي قدرون، وقد اكتشفها الكابتن باركر، والقناة الأخرى مبنية ومبطنة بالملاط، وهي تبدأ من مستوي أدني من سائر القنوات المجاورة للشق الصخري السابق ذكره والذي تنبع منه المياه، وتسير في اتجاه متعرج جدًا على الجانب الغربي لقدرون، ولعل إحدى هاتين القناتين - ويحتمل أن تكون الأولي منهًا - هي التي يطلق عليها "شيلوه" (إش 8: 6) قبل أن يحفر حزقيا قناته.
وتوجد كهوف أخري وقنوات محفورة في الصخر حول جيحون القديمة مما يؤكد أهمية الموقع.
(6) - بير أيوب: وعمقها 125 قدمًا، ويتجمع الماء في القاع في غرفة كبيرة منحوتة في الصخر، ومن الواضح أنها في فترة من الفترات زيد في عمقها، لأنه عند عمق 113 قدمًا توجد غرفة تجميع، استبدلت الآن بالغرفة الأعمق. وقد وجد "وارن" ممرات أو درجات عديدة محفورة في الصخر في المنطقة المجاورة لهذه البئر.
(7) - الخزانات والصهاريج المختلفة: لقد حفرت الخزانات لتخزين مياه الأمطار، في كل مكان في أرض فلسطين الجبلية. ولقد اعتمد كل ساكن من سكان أورشليم، ولقرون عديدة، اعتمادًا كاملًا، على الماء الذي يجمعه من فوق سطح منزله، ليستخدمه في أغراضه المنزلية. وكانت هذه الخزانات تحفر أسفل المسكن أو إلى جانبه. وكان الكثير من هذه الخزانات علي شكل الإناء له فم ضيق نسبيًا منحوت في الصخر الصلد، وقد وجدت بعض الحفر المستديرة في الطبقة السفلي المسماة "الملكة" (انظر ما جاء في الفقرة الأولي من البند الثاني من هذا البحث). وبعض هذه الخزانات القديمة عبارة عن كهوف منحوتة في الصخر، ذات أشكال غير منتظمة وذات سطوح من صخر أصلد، وفتحات عديدة في الغالب. والأشكال المتأخرة ذات قباب، إما محفورة في الصخر، أو في بعض الأحيان مبنية جزئيًا في طبقات القمامة المتراكمة.
وقد شيدت خزانات ضخمة في "الحرم" (أي في منطقة الهيكل) للأغراض العامة، الكثير منها معروف، ويسع أكبرها ثلاثة ملايين من الجالونات. ومثل هذه المنشآت عملت أصلًا للطقوس الدينية، ولكن -كما سنري- كانت مصادر أخري غير الأمطار تمد هذه الخزانات بالماء. وقد أقيمت خزانات مكشوفة في أجزاء كثيرة من المدينة، ويطلق على هذه الخزانات في العربية اسم "بركة". ويحوم الشك حول تاريخ إنشائها، لكن المرجح أنه لا توجد واحدة منها من قبل العصر الروماني.
(8) - بركة إسرائيل: "وبركة إسرائيل" هي أضخم خزان داخل أسوار المدينة، إذ تمتد من الزاوية الشمالية الشرقية للحرم، إلى مسافة 360 قدمًا في اتجاه الغرب، ويبلغ عرضها 125 قدمًا، وكان عمقها أصلًا 80 قدمًا، ولكنها في السنوات الأخيرة امتلأت بشكل كبير بنفايات المدينة. وبعض الأطراف الشرقية والغربية من هذه البركة محفورة في الصخر، وأجزاء أخري منا مبنية. ومن الأجزاء المبنية في الطرف الشرقي، خزان ضخم عرضه 45 قدمًا، يحازي الجزء الأسفل منه السور الشرقي القديم في منطقة الهيكل. وجوانب البركة كلها مبنية، لأن هذا الخزان مشيد في عرض الوادي المشار إليه قبلًا (البند الثالث - الفقرة الثانية) علي أنه "وادي القديسة حنة". وبعض أجزاء هذا الوادي مملوءة بالأنقاض بعمق مائة قدم. والقاع الأصلي للخزان مغطي بطبقة سمكها حوالي 19 بوصة من خرسانة صلبة جدًا. وقد كانت هناك قناة كبيرة عند الطرف الشرقي للبركة مبنية بحجارة ضخمة ومتصلة بالبركة عن طريق حجر به ثلاثة ثقوب مستديرة، قطر كل ثقب منها خمس بوصات ونصف البوصة. ووضع هذا المخرج يدل على أن كل كمية المياه فوق عمق 22 قدمًا، كانت تفيض عنه. ويعتبر بعض الثقاة أن هذه البركة تعود إلى ما قبل السبي. وكان الحجاج المسيحيون الأوائل، يقولون إنها "بركة الضأن" المذكورة في (إنجيل يوحنا 5: 2). وفي مرحلة متأخرة وحتى زمن قريب كان يظن أنها "بركة بيت حسدا".
(9) - بركة بيت حسدا: كان اكتشاف حوض الماء الذي اختفي منذ زمن طويل - وهو الاكتشاف الذي تم منذ سنوات، بالقرب من "كنيسة القديسة حنة"، وهو دون شك "بركة بيت حسدا" التي كانت موجودة في القرن الخامس الميلادي، سببًا في استبعاد الظن بأن "بركة إسرائيل" هي بركة بيت حسدا.
(10) - البركتان التوأمتان: وإلى الغرب من بركة إسرائيل توجد البركتان التوأمتان الممتدتان تحت الطريق في المنطقة المجاورة لقوس "اكهومو" Ecce homo [أي: هوذا الإنسان - (يو 19: 5)]. وأبعاد الغربية منهما 165 قدمًا × 20 قدمًا، والشرقية 127 × 20 قدمًا، ويظن "كليرمونت - جانو" أنهما بركة ستروثيوس التي ذكرها يوسيفوس. ولكن آخرين يحددون لوجودهما تاريخًا متأخرًا عن ذلك، إذ يعتبرون أنهما قد انشئتا في الواقع في خندق أنطونيا. وقد اكتشفت قناة كبيرة في 1817م. عرضها ما بين قدمين ونصف، وثلاثة أقدام، وترتفع في بعض الأماكن إلى 12 قدمًا. وتجري من منطقة مجاورة لبوابة دمشق، ولكنها منهدمة في أقصى الشمال. وتجري من البركتين قناة أخرى في اتجاه الحرم.
(11) - بركة حمام البطريق: وعلي التل الشمالي الغربي بين باب يافا وكنيسة القبر المقدس، يوجد خزان كبير مكشوف يعرف عند سكان المدينة الحاليين باسم "بركة حمام البطريق" وطولها 240 قدمًا (من الشمال إلى الجنوب)، وعرضها 144 قدمًا، وعمقها من 19-24 قدمًا. وقد تشققت البطانة الاسمنتية للقاع وأصبحت عديمة الفائدة من الناحية العملية. والحائط الشرقي لهذه البركة ضخم بشكل ملحوظ يكوِّن قاعدة الشارع المستوي المسمي "حارة النصارى"، وليس من المستبعد أنه جزء من السور "الثاني" الذي طال التنقيب عنه، وإذا صح ذلك، فان البركة - التي ثبت أنها كانت تمتد في وقت من الأوقات مسافة 60 قدمًا في اتجاه الشمال - قد تكون شيدت أصلًا كجزء من أجزاء الخندق. ومن ناحية أخري يبدو أن هذه البركة هي بركة "أميجدالون" (أو "بركة البرج") التي ذكرها يوسيفوس، والتي كانت مسرحًا لعمليات الفرقة العسكرية العاشرة، ولكن يبدو أن هذا يتعارض مع النظرية السابقة، حيث أن الأحداث المذكورة، يبدو أنها تعني ضمنًا أن السور الثاني كان يقع خارج البركة. ويرجع هذا الاسم الشائع الذي يطلقه السائحون عليها وهو "بركة حزقيا" إلى النظرية التي ثبت عدم صحتها الآن، والتي كانت تزعم أن هذه البركة هي المشار إليها في (سفر ملوك الثاني 20: 20)..."عمل البركة والقناة وأدخل الماء إلى المدينة". وقد ذكر بعض الطبوغرافيين القراص أنها " البركة العليا " المذكورة في (إشعياء 7: 3؛ 26: 2).
(12) بركة ماميلا: وتأخذ "بركة حمام البطريق" مياهها من بركة "ماميلا" الواقعة علي مسافة نصف ميل إلي الغرب. وهذه البركة التي يبلغ طولها 293 قدمًا وعرضها 193 قدمًا وعمقها تسعة عشر قدمًا ونصف القدم، تقع في وسط مقابر شاسعة للمسلمين، علي رأس "وادي ميس" وهو بداية "وادي الربابة" (هنوم). وتخرج القناة التي تربط البركتين من الطرف الشرقي لبركة ماميلا وتسير في مجري متعرج بعض الشيء، وتدخل المدينة بالقرب من باب يافا. والقناة في حالة سيئة، والماء الذي تحمله -وبخاصة في موسم سقوط الأمطار الغزيرة-ماء قذر. وكان يظن في العصور الوسطي أنها "بركة جيحون العليا"، ولكن هذه و"طريق حقل القصار" يقعان في موضع آخر. ويقول ولسون وآخرون إنها "بركة الثعبان" التي ذكرها يوسيفوس حيث يقول: إن تيطس قد هدم كل الأماكن من سكوبس إلي هيرودس التذكاري الذي يتأخم "بركة الثعبان" وسواها بالأرض. ولكن ليس من السهل أن نجزم بشيء. والأرجح أن البركة كانت موجودة في وقت الحصار، ويحتمل أنها " بيت ممل" المذكورة في التلمود البابلي.
(13) بركة السلطان: وهي بركة كبيرة، فطولها 555 قدمًا من الشمال إلي الجنوب وعرضها 220 قدمًا من الشرق إلي الغرب. ويحيط بها من الغرب ومن الشمال منحني كبير من القناة ذات المنسوب المنخفض عندما تمر بها، ثم بعد ذلك إلي وادي الربابة. ويتكون الجانب الغربي من سد ضخم عبر الوادي، يمر فوقه طريق العربات إلي بيت لحم. وقد يعني الاسم "البركة العظيمة" أو أنه يعود إلي إعادة بنائها بأمر السلطان سليمان بن سليم الأول Suleiman the Magnificent في القرن السادس عشر، كما هو منقوش علي نبع جانبي علي السور الجنوبي.وهذه البركة مسجلة في سجلات كنيسة القبر المقدس باسم "لاكوس جرماني" علي اسم فارس الماني بني البركة أو جددها في 1176 م. ومن المحتمل أن جزءًا كبيرًا من البركة هو منطقة لتجميع مياه الأمطار، وأن الخزان الحقيقي هو البركة المحفورة في الصخر عند الطرف الجنوبي والتي ظهرت حديثًا. ويصعب الظن بأنه في أي وقت من الأوقات كانت كل المنطقة تمتلئ بالماء، فالآن يتجمع الماء في الخزان عند طرفه الأسفل -بعد موسم الأمطار -لارتفاع يقرب من 10-12 قدمًا من الماء شديد القذارة، والذي يأتي أكثرة من مياه مجاري طريق يافا، بينما يستخدم الثلثان العلويان من المكان سوقًا للماشية في أيام الجمع، ويستخدم ماؤها الآن لرش الشوارع المتربة في موسم الجفاف.
وتوجد الآن خزانات أخري ذات أحجام ملحوظة، داخل المدينة وحولها، مثل: "بركة ستي مريم" بالقرب من "باب القديس استفانوس"، وهي بركة غير مبطنة بالأسمنت في "وادي الجوز" تتصل بها قناة محفورة في الصخر وغيرها من القنوات التي لا أهمية تاريخية لها.
(14) برك سليمان: والقناتان اللتان تجلبان المياه إلي المدينة من مسافة بعيدة هما "القناة العليا" و" القناة السفلي" لأنهما كانتا تصلان إلي المدينة علي مستويين مختلفين، والأرجح أن الأولي كانت بالقرب من باب يافا، والثانية عند ساحة الهيكل.
(15) القناة
السفلي: ورغم أن "القناة السفلي " في حالة سيئة لا يمكن ترميمها، إلا أنه من
الممكن تتبع مجراها كله، فقد كانت تنقل المياه من ثلاث برك كبيرة في وادي
"أرتاس" (الحارث) علي بعد سبعة
أميال جنوبي أورشليم، وتسمي عادة "برك سليمان"،
لعلها المشار إليها في (سفر الجامعة 2: 6): "عملت لنفسي برك مياه لتستقي بها
المغارس المنبتة الشجر"،ولا نستطيع أن نقول كثيرًا علي الاسم حيث أن أي عمل
عظيم في فلسطين كان خليقًا به أن ينسب إلي ملك إسرائيل الحكيم. وهذه الخزانات
الثلاثة مشيدة في عرض الوادي، وأسفلها وأكبرها طوله 582 قدمًا وعرضه 177
قدمًا، ويصل عمق طرفه الأسفل إلي 50 قدمًا. وعلي الرغم من أن المياه الفائضة من
"عين الصالح" والتي تسمي عادة "الينبوع المختوم" (نشيد الأنشاد 4: 12) تصل إلي
البرك، فالأرجح أن وظيفتها الرئيسية كانت جمع مياه أمطار الشتاء الغزيرة، ثم
يمر الماء من خزان إلي خزان بعد تنقيته. وتوجد في هذا الوادي أربعة ينابيع تمد
القناة التي مازالت تنقل المياه إلي بيت لحم، حيث تمر عبر التل عن طريق نفق، ثم
بعد أن تسير متعرجة طول جوانب التل، تدخل نفقا آخر -تحول الآن إلي خزان لخزن
المياه لمدينة أورشليم -ومنه تسير بجانب الجبل علي المنحدرات الجنوبية لأورشليم
حتى تصل إلي الحرم. والطول الإجمالي لهذه القناة يبلغ حوالي 12
ميلًا، ولكن في
زمن لاحق، زاد طولها 28
ميلًا إلي "وادي عروب" في الطريق إلي حبرون علي بعد
خمسة
أميال أخرى إلي الجنوب من البرك. ويوجد هنا أيضًا خزان هو "بركة العروب"
لتجميع مياه الأمطار، كما توجد عدة ينابيع صغيرة يربطها بالقناة عدد من القنوات
الفرعية المحفورة في الصخر تحت الأرض. والطول الكلي للقناة السفلي هو 40
ميلًا
تقريبًا، ويهبط المستوى من "بركة العروب" (علي ارتفاع 2645 قدمًا فوق سطح
البحر) عند طرفها الأقصي إلي "القص" حيث تنتهي عند الحرم (علي ارتفاع 2410
أقدام فوق سطح البحر) أي بمقدار 235 قدمًا.
(16) القناة العليا: وتبدأ من سلسلة من الآبار متصلة بنفق طوله أربعة
أميال
تقريبًا في "وادي بيار" أي "وادي الآبار" حيث تتجمع مياه أكثر من خمسين بئرًا
في أسفل الوادي، ثم يمر الماء بعد ذلك في بركة حيث تترسب المواد الصلبة، ثم
تخترق نفقًا طوله 1700 قدم إلي "وادي أرتاس"، وكان مستواها هنا يعلو 150 قدمًا
فوق القناة السفلي، وتتلقي المياه من "الينبوع المختوم"، وفي النهاية تصل إلي
أورشليم علي مستوي يعلو حوالي 20 قدمًا فوق باب يافا. وأكثر ما نلاحظه في هذه
القناة هو السحارة المقلوبة المبنية من كتل من الحجر الجيري المخرم، والتي
تكوِّن أنبوبة حجرية قطرها 15 بوصة، وتحمل الماء عبر الوادي بالقرب من قبر
راحيل.
(17) تواريخ بناء هذه القنوات: وقد وجدت علي عدد من هذه الكتل الحجرية نقوش لاتينية عليها أسماء بعض قادة المئات من عصر الإمبراطور ساويرس (195 م). وقد أدي هذا بالكثيرين إلي تحديد تاريخ هذا العمل العظيم، ولكن ولسن -وهو أحد الثقاة- يعتبر أن هذه الكتابات قد تشير إلي الإصلاحات، وأن الأرجح هو أن هذا العمل يعود إلي عصر هيرودس. وما لم تكن روايات يوسيفوس مبالغًا فيها، فإن هيرودس كان له -ولا بُد- بعض الوسائل لجلب كمية وفيرة من الماء الجاري للمدينة علي نفس مستوي هذه القناة. ويري "شيك" أنها تعود إلي ما قبل ذلك، إلي عصر يوحنا هيركانس (135 -125 ق.م.). ولنا تاريخان محددان بالنسبة للقناة السفلي، فيوسيفوس يقرر أن بيلاطس البنطي اضطلع بمهمة تزويد أورشليم بمياه جارية، وقد عمل ذلك بالأموال المقدسة، وجلب مياه هذا المجرى من مسافة تزيد علي مائتي غلوة (أكثر من 22 ميلًا)، وفقي موضع آخر ذكر أنه أتي بالمياه من مسافة أربعمائة غلوة (ولعلها خطأ من الناسخ)، ولكن قد يكون ذلك إشارة إلي التجديدات التي عملها هيرودس أو الامتداد من وادي العروب إلي وادي أرتاس (28 ميلًا)، لأن القناة السفلي من البرك إلي أورشليم من نفس بناء القناة من هذه البرك إلي "جبل الفرنج" (الهيرودية) بناء علي ما ذكره يوسيفوس من أنها عملت في عصر هيرودس الكبير. وبالإجمال فإن الرأي الشائع هو أن القناة العليا كانت من عصر ساويرس، وأن القناة السفلي كانت من عمل هيرودس، أما امتدادها نحو الجنوب فقد تم في عهد بيلاطس البنطي.
ومازالت أورشليم تستخدم -إلي حد ما- القناة السفلى التي تم ترميمها حتى بيت لحم، مع أن كل ما يصل إلي المدينة يأتي عن طريق أنبوبة منفردة قطرها أربع بوصات. أما القناة العليا فقد دمرت تدميرًا لا أمل في إصلاحه، ويمكن تتبع بقاياها في بعض الأماكن فقط. أما أبار وادي البيار فقد طمرت ولم تعد لها فائدة، أما القناة المتعرجة الطويلة إلي وادي العروب فمتهدمة تمامًا.
ثامنا- القبور والأطلال الأثرية والمواقع الدينية :
لسنا في حاجة إلي القول بأن جميع القبور القديمة المعروفة في منطقة أورشليم قد عبثت الأيدي بمحتوياتها منذ زمن طويل:
(1) قبور الملوك: والقبور التي يطلق عليها قبور الملوك في "وادي الجوز" هي في الواقع من آثار الملكة هيلانة ملكة أديابين، وكانت يهودية دخيلة (48م) ويقول يوسيفوس إن عظامها وعظام أفراد أسرتها قد دفنت في " الأهرامات" وكانت ثلاثة تبعد عن أورشليم بثلاث غلوات (660 ياردة)، وقد وجد "دي سولكي" تابوتًا حجريًا عليه نقوش عبرية تقول: "الملكة سارة" ويحتمل أن يكون هذا هو الاسم اليهودي للملكة هيلانة.
(2) قبر هيرودس: وعلي الجانب الغربي من وادي الميس (أعلي جزء في هنوم) يوجد قبر عظيم الأهمية من القبور اليونانية يضم داخله توابيت جميلة النحت، تعرف عادة باسم "قبور هيرودس" (مع أن هيرودس الكبير دفن في الهيرودية) وقد يكون أحد هذه التوابيت- كما يقول شيك- لماريا مين زوجة هيرودس،ولكن الأكثر احتمالًا أنه قبر حنانيا رئيس الكهنة.
(3) قبر أبشالوم: علي الجانب الشرقي لوادي قدرون وبالقرب من الزاوية الجنوبية الشرقية للحرم، توجد ثلاثة قبور تستلفت النظر، يعرف أقصاها من جهة الشمال، باسم "قبر أبشالوم"، وهو قبر يوناني يهودي من عصر الأسمونيين (المكابيين)، ويقول "كوندور" إنه يحتمل أن يكون قبر إسكندر جانوس. وإلي الجنوب منه يوجد القبر المعروف باسم "قبر القديس يعقوب" الذي نعلم من الكتابة العبرية المربعة الموجودة فوق الأعمدة بأنه قبر من قبور العائلة الكهنوتية من بني "حيزير" (1 أخ 24: 15) وقد يعود تاريخه إلي القرن السابق للمسيح.
والقبر المجاور والمعروف باسم "قبر زكريا" هو نصب تذكاري محفور في الصخر، مساحة قاعدته 16 قدمًا مربعًا، وارتفاعه ثلاثون قدمًا، وله أعمدة مربعة في أركانه تتخللها أعمدة ايونية الطراز، وقمة هرمية الشكل، ولا نعرف أصله، ولكن اسمه التقليدي "زكريا" يعود إلي كلمات الرب المدونة في إنجيلي متي ولوقا (مت 23: 35؛ لو 11: 51).
(4) القبر المصري: وعلي مسافة قليلة من وادي قدرون، وعند مدخل قرية سلوام، يوجد قبر آخر محفور في الصخر يسمي "القبر المصري"، أو حسب ما يظنه البعض "قبر زوجة سليمان المصرية".وهو عبارة عن قبر حجري قاعدته 18 قدمًا مربعًا، وارتفاعه 11 قدمًا. وقد استخدم الجزء الداخلي منه في وقت من الأوقات للصلاة، وهو الآن من الممتلكات الروسية، ويحتمل أنه يرجع إلي نفس زمن القبور الثلاثة سابقة الذِّكْر، ويبدو فيه التأثير المصري بقوة.
والقبور التي يطلق عليها "قبور القضاة" تعود إلي العصر الروماني، كما تعود إليه عشرات الآثار في نفس الوادي. و"قبور الأنبياء" علي السفوح الغربية لجبل الزيتون تعتبر الآن، أنها تنتمي إلي القرن الرابع أو القرن الخامس المسيحي.
وبالقرب من الربوة فوق كهف إرميا، وإلي الغرب والشمال الغربي منه، يوجد عدد كبير من القبور، معظمها من قبور المسيحيين، والموجود منها ناحية الشمال، يدخل الآن ضمن أملاك الدومينيكان المرتبطين بكنيسة القديس استفانوس.
(5) قبر البستان: لقد شد أحد هذه القبور -وهو أقصاها جنوبا -الانتباه منذ أن زعم الجنرال غوردون أنه قبر المسيح. وعندما تم اكتشافه،كانت حالته -دون شك- مثل سائر القبور المجاورة، قبرا من قبور المسيحيين يعود إلي القرن الخامس تقريبًا، مملوءا بالهياكل العظمية. ولم يثبت أنه كان أصلًا قبرًا يهوديًا، ولم يكن له أي مسحة من القداسة حتى أعلن الجنرال غوردون نظريته.
(6) قبر سمعان البار: ويوقر اليهود توقيرًا شديدًا، قبرًا في الجانب الشرقي "لوادي الجوز"، لا يبعد كثيرًا في جهة الجنوب عن الطريق الشمالي الكبير.وهم يعتبرنه قبر سمعان البار، ولكنه علي الأرجح ليس قبرًا يهوديًا علي الإطلاق.
(7) آثار أخري: ولا يسعنا هنا إلا أن نذكر ذكرًا عابرًا بعض الآثار الهامة والمرتبطة بالأسوار الخارجية للحرم. وقد بنيت أساسات ساحة الهيكل وبخاصة في جهات الشرق والجنوب والغرب، من كتل ضخمة من حجارة ملساء، متوسط ارتفاعها ثلاثة أقدام ونصف القدم، ويمتد أحد هذه الصفوف-المعروف بأنه "المسار الرئيسي" نحو 600 قدم إلي الغرب من الزاوية الجنوبية الشرقية، من كتل حجرية ارتفاعها سبعة أقدام. وبالقرب من الزاوية الجنوبية الشرقية عند الأساسات ذاتها، اكتشف مهندسو بعثة "صندوق استكشاف فلسطين" بعضًا من هذه الكتل عليها حروف فينيقية، ظن الكثيرون عند اكتشافها أنها ترجع إلي عصر الملك سليمان.
والمعتقد الآن -بصفة عامة- أن هذه "الشواهد الحجرية" ربما استخدمت في زمن هيرودس الكبير، ومن جهة أخري يظن أن كل هذه الأبنية الضخمة ترجع إلي زمن إعادة بناء الهيكل التي بدأها ذلك الملك العظيم.
ويقع "قوس روبنسون" في السور الغربي للحرم بين الركن الجنوبي الغربي للحرم بين الركن الجنوبي الغربي و"حائط المبكي اليهودي" وهو بداية قوس عرضة خمسون قدما، ناتئ من سور الهيكل، ويبلغ طول القنطرة المقامة عليه 50 قدمًا، وقد اكتشف "وارن" الدعامة الموجودة في الجانب الآخر. ويوجد تحت القنطرة شارع مرصوف يرجع للعصر الروماني، وقد وجد أسفل الرصيف السليم داخل قناة حجرية لبنة من لبنات قنطرة أقدم.وقد ربطت هذه القنطرة بين فناء الهيكل والجزء الأعلى من المدينة في أيام الملوك الأسمونيين، وقد حطمها اليهود في 63 ق.م. عندما توقعوا هجوم بومبي، ولكن هيرودس أعاد بناءها في 19 ق.م. ثم دمرت نهائيًا في 70 م.
ويوجد "قوس ولسن" علي بعد نحو 600 قدم إلي الشمال بجوار سور الهيكل الغربي. وهو يقع تحت السطح داخل حدود الطريق الذي يعبر التيروبيون إلي "باب السلسلة" في الحرم، ومع ان هذا القوس نفسه ليس قديمًا جدًا، إلا أنه توجد هنا علي أعماق أبعد أقواس تعود إلي الطريق الممهد الذي أنشأه هيرودس، والذي يقترب هنا من ساحة الهيكل.
(8) الأماكن الدينية: لسنا في حاجة إلي أن نقول الكثير هنا عن الأماكن الدينية المعروفة التي يزورها الحجاج المتدينون. فمجموعة الكنائس التي تضمها كنيسة القبر المقدس، تحتوي علي الكثير جدا من الأماكن الصغيرة لمشاهد أسبوع الآلام التي يعوزها الدليل القاطع. فبالإضافة إلي القبر المقدس نفسه -والذي لا يمكن التثبت من حقيقته تمامًا، حيث لحقه التدمير- فالموقع الوحيد الهام هو" جبل الجلجثة" وكل ما يمكن أن يقال هو أنه إذا كان موقع القبر صحيحا، فموقع جبل الجلجثة قد يكون صحيحًا أيضًا. وهو صخرة مجوفة في ربوة صخرية مكسوة بالرخام وبغيره من الأحجار تنتشر عليها الكنائس.
والعمود المجاور لقبر داود (وهو موقع غير مقطوع بحقيقته)، قد اعتبره البروفسور "ساندي" (في كتابه "أماكن الأناجيل المقدسة") من الأماكن المحققة، وأكبر الأدلة أهمية هو ما أورده أبيفانياس من أنه عندما زار هادريان أورشليم في 130 م.، كان من المباني القليلة التي كانت ما زالت قائمة "كنيسة الله الصغيرة ض في الموضع الذي ذهب إليه التلاميذ بعد عودتهم من جبل الزيتون بعد صعود المخلص، حيث ذهبوا إلي العلية، لأنه في هذا الموضع بنيت الكنيسة في حي صهيون". وبالارتباط بهذه البقعة تواترت الأنباء منذ الأيام الأولي للمسيحية، عن مكان منزل قيافا، ومكان وفاة العذراء مريم. وبناء علي هذا التقليد الأخير شيد الروم الكاثوليك الألمان كنيستهم الجديدة الضخمة "كنيسة الدورميتيون" (أي كنيسة المثوي)، ولكن هناك تقليد آخر يحدد موقع قبر العذراء في وادي قدرون بالقرب من جثسيماني حيث توجد كنيسة صغيرة لليونانيين، تحت الأرض.
تاسعًا- التاريخ- ما قبل إسرائيل:
ترجع أورشليم إلي عصور ما قبل التاريخ المكتوب. ففي مواقع عديدة في المناطق المجاورة، كما في البقيع إلي الجنوب الغربي، وفي أقصي الطرف الشمالي لجبل الزيتون إلي الشمال الشرقي منها، كانت هناك أماكن كثيرة مأهولة في العصر الحجري القديم قبل فجر التاريخ بكثير، كما يبدو من الكميات الهائلة من الأدوات الحجرية المتناثرة فوق السطح. ومن المؤكد أن موقع المدينة نفسه كان مأهولًا قبل داود بعدة قرون، والأرجح أنها هي مدينة "شاليم" (تك 14: 18) والتي كان ملكي صادق ملكًا عليها.
(1) رسائل تل العمارنة: وترجع أول إشارة مؤكدة إلي هذه المدينة إلي 1450 ق.م. حيث ورد الاسم أورشليم في عدة خطابات من رسائل تل العمارنة. وفي سبعة من هذه الخطابات يرد الاسم "عبد خيبا" وواضح أن هذا الرجل كان ملكًا أو حاكمًا للمدينة ممثلًا لفرعون مصر. وفي هذه المراسلات يصور "عبد خيبا" نفسه مجاهدًا بكل قواه للمحافظة علي حقوق سيده في وجه القوات المعتدية التي تهدد بالسيطرة عليه. ومن هذا يمكن أن نستنتج أن الموقع كان مدينة حصينة تحرسها قوات مصرية مرتزقة، وهناك ما يحمل علي الاعتقاد بأن فرعون مصر في ذلك الوقت، أمنحتب الرابع (أخناتون)، جعلها مقدسًا لإلهه "آتون" (قرص الشمس. ويبدو أن بعض الأراضي -التي ربما كانت تمتد جهة الغرب حتى عجلون كانت خاضعة لسلطة الحاكم. ويقول البروفسور "سايس" إن "عبد خيبا" ربما كان رئيسًا حثيًا، ولكن هذا أمر مشكوك فيه. وتنتهي الرسائل بصورة مفاجئة وتتركنا في حيرة فيما يختص بمصير الكاتب، ولكننا نعلم أن سيطرة مصر علي فلسطين قد اعتراها الضعف في ذلك الوقت.
(2) غزو يشوع: وفي أثناء غزو يشوع لكنعان، يذكر اسم أدوني صادق (يش 10: 1-27) باعتباره ملك أورشليم، وقد اتحد مع ملوك حبرون ويرموت ولخيش وعجلون لمحاربة الجبعونيين الذين صالحوا يشوع. ولكن يشوع هزم الملوك الخمسة، فهربوا واختبأوا في مغارة "مقيدة" فأخرجهم يشوع منها وذبحهم جميعًا. وثمة ملك آخر اسمه "أدوني بازق" هزمه سبط يهوذا بعد موت يشوع، وبعد أن شوهوا جسده، "أتوا به إلي أورشليم فمات هناك" (قض 1: 1-7). ثم حارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وأشعلوا المدينة بالنار" (قض 1: 8)، ولكن المدينة ظلت في أيدي اليبوسيين بضع سنوات أخري (قض 1: 21؛ 19: 11) رغم أنها كانت محسوبة -من الناحية النظرية -ضمن التخوم الجنوبية لسبط بنيامين (يش 15: 8؛ 18: 16، 18). وبعد أن ملك داود سبع سنوات وستة أشهر في حبرون، قرر أن يجعل من أورشليم عاصمة له، وفي حوالبي 1000ق.م فتح المدينة واستولي عليها.
(3) موقع المدينة اليبوسية: ولعل أورشليم ظلت إلي ذلك الوقت كباقي المواقع الحصينة المعاصرة لها، مدينة صغيرة نسبيًا تحيط بها أسوار حصينة قوية لها باب واحد أو بابان. وهناك إجماع علي أن المدينة كانت تشغل السلسلة الجبلية جنوبي الهيكل، وهو الموضع الذي أطلق عليه خطأ ولمدة طويلة "عوفل" (أي الأكمة)، وكانت أسوارها علي سفوح تلال صخرية شديدة الانحدار فوق وادي قدرون من جهة، والتيروبيون من الجهة الأخرى. وهناك الكثير من الدلائل علي أن نظام الأنفاق المعروف باسم "خندق أو نفق وارن" كان موجودًا طوال هذه المدة.
(4) داود: وقصة فتح داود لأورشليم تبدو غامضة، ولكنها قد يكون فيها تفسير لأحد الفصول الصعبة، (2 صم 5: 6-9)، وإن كنا نستنتج أن اليبوسيين، اعتمادًا علي موقعهم المنيع، تحدوا داود قائلين: لا تدخل إلي هنا.. فإن العميان والعرج سيطردونك .. (2 صم 5: 6)، فدفع داود رجاله لأن يصعدوا إلي القناة ويضربوا "العُمي والعُرج"، وهو تعبير يذكره هو بدوره، سخرية باليبوسيين "فصعد أولًا يوآب ابن صروية فصار رأسا" (1 أخ 11: 6)، ويبدو- علي الأقل -أن رجال داود استولوا علي المدينة في هجوم مفاجئ خاطف عن طريق الأنفاق الضخمة. وإذ استولي داود علي حصن "صهيون"، دعاه "مدينة داود" وأقام بها وزاد في تحصينها: "وبني داود مستديرًا من القلعة فداخلًا، وبمعونة العمال الفينيقيين الذين أرسلهم إليه حيرام ملك صور، بني لنفسه بيتًا من خشب الأرز (2 صم 5: 11؛ 7: 2)، وأحضر تابوت عهد الرب من بيت عوبيد أدوم، ووضعه في خيمة (2 صم 6: 17) في مدينة داود (انظر 1 مل 8: 1). ثم اشتري بيدر أرونة اوارنان (1 أخ 21: 15) اليبوسي، ليبني عليه الهيكل.
(5) امتداد المدينة: وكانت أورشليم التي استولي عليها داود مدينة صغيرة مكتظة بالسكان، ولكن ثمة دلائل علي أنه في مدة محكمة، اتسعت بصورة ملحوظة نتيجة لنمو الضواحي خارج الأسوار اليبوسية. ولابد أن عدد السكان قد ازداد من جملة مصادر، فلاشك في أن تدفق أتباع داود علي المدينة قد دفع بالكثيرين من السكان القدامي الي لالتجمع خارج المنطقة المسورة. كما يبدو أنه كانت هناك حامية عسكرية كبيرة (2 صم 15: 18؛ 20: 7) وموظفون كثيرون وكهنة مع عائلاتهم (2 صم 8: 16-18؛ 20: 23-26؛ 23: 8-38)، وأفراد أسرة داود العديدون وأقاربهم (2 صم 5: 13- 16؛ 14: 24، 28؛ 1 مل 1: 5، 53.. إلخ). ومن المستحيل أن نفترض أن كل هؤلاء قد تجمعوا في مكان جد ضيق، في الوقت الذي نقرأ فيه أبشالوم قضي سنتين كاملتين في أورشليم دون أن يري وجه الملك، مما يدل علي وجود ضواح للمدينة (2 صم 14: 24، 28) أما المساكن الجديدة فيحتمل أنها امتدت إلي الشمال الغربي نحو وادي التيروبيون علي امتداد الطريق الشمالي الكبير، ولكن ليس من المحتمل أنها شغلت الكثير من التل الغربي.
(6) سليمان : وبتولي سليمان الملك، فإن عظمة البلاط المتزايدة، والزوجات الأجنبيات والأماكن التي أعدها لهن، والموظفين الجدد، والعدد الغفير من العمال الذين جاءوا إلي المدينة لتشييد المباني الضخمة التي أقامها سليمان، كل هذا- ولابد -قد ضاعف من عدد سكان المدينة وجعله يتضخم جدًا. كما أن المباني المذكورة في الكتاب المقدس: الهيكل وبيت الملك وبيت ابنة فرعون وبيت وعر لبنان، ورواق الكرسي (أو قاعة العرش) ورواق الأعمدة (1 مل 7: 1-8)، لا بُد أن كل هذا قد غير معالم المدينة تماما. ونتيجة لهذه المباني الجديدة من الهيكل وبيوت عامة الشعب، كان من الضروري إقامة سور جديد حول المدينة. وهناك عبارة تتكرر مرتين من أن سليمان بني "سور أورشليم حواليها" (1 مل 3: 1؛ 9: 15)، كما بني القلعة (1 مل 9: 15، 24؛ 11: 27)، وأنه "سد شقوق مدينة داود أبيه" (1 مل 11: 27). ولعل "الشقوق" تشير إلي السور الذي كان يلزم بناؤه لإدخال القلعة داخل دائرة التحصينات، أو لعلها جزءًا من التحصينات التي حال دون إتمامها موت داود.
(7) سور المدينة الذي بناه سليمان: أما السور الذي بناه سليمان، فمن المؤكد أنه كان جهة الشمال والغرب، والذي وصفه يوسيفوس بأنه السور الأول. ويشهد الجرف الواسع المحفور في الصخر في الركن الجنوبي الغربي،ب ضخامة البناء. ولكن ثمة شك حول ما إذا كان التل الجنوبي الغربي كله داخلًا فيه. وحيث أنه توجد في "برج بليس" (انظر سادسًا من هذا البحث) دلائل علي سور قديم يسير في اتجاه الشمال الشرقي ويشمل قمة التل الجنوبي الغربي، فمن المحتمل جدًا أن سور سليمان سار في نفس هذا الاتجاه، وفي هذه الحالة، لأبد أنه عبر التروبيون عند مكان السور الجنوبي الحالي، ثم سار بعد ذلك إلي الجنوب الشرقي ليتصل بالسور الغربي لمدينة اليبوسيين القديمة. وكان يحيط بمباني الهيكل والقصر سور متصل العمارة، مما جعلها مكانًا حصينًا كما يبدو من التاريخ العبري. وكانت هذه الأسوار -في الأجزاء خارج المدينة- تكوِّن جزءا من دائرة التحصينات.
ومع أن سليمان بني بيتًا فخمًا للرب، فإنه أقام في الأماكن المجاورة معابد لآلهة أخري (1 مل 11: 7، 8)، وهي زلة ترجع أساسًا إلي تأثير نسائه الأجنبيات، والتحالفات الأجنبية التي ترتب ذلك.
(8) الانقسام (933 ق.م): ولا بد أن انقسام المملكة كان ضربة قوية لأورشليم، إذ لم تعد عاصمة لدولة موحدة، ولكن لسبط صغير. وقد انقطعت فجأة الموارد التي كانت تحت امرأة سليمان لبناء المدينة، نظرًا للسياسة التي أعلنها يربعام. ولابد أن حالة الحرب الطويلة التي دارت بين الشعبين، والتي امتدت ستين عامًا (1 مل 14: 30؛ 15: 6، 16؛ 22: 44)، قد أعاقت نمو التجارة والفنون التي تزدهر في أيام السلم.
(9) غزوة شيشق (928 ق.م): "وفي السنة الخامسة للملك رحبعام (928 ق.م) صعد شيشق (شيشنق) ملك مصر إلي أورشليم" (1 مل 14: 25، 26) وأخذ "المدن الحصينة التي ليهوذا" (2 أخ 12: 4). وكان يظن أنه حاصر أورشليم واستولي عليها، ولكن حيث أنه لا يُذكر شيء عن تدمير التحصينات، وحيث أن اسم هذه المدينة لم يكتشف في السجلات المصرية عن هذه الحملة، فالأرجح- وهو ما يتفق مع ما جاء بالكتاب المقدس -أن شيشق اكتفي بأن قدموا له: "خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك .. وجميع أتراس الذهب التي عملها سليمان" (1 مل 14: 26).
(10) العرب ينهبون المدينة: وواضح أنه عندما تولي يهوشفاط العرش، استردت المدينة أهميتها (انظر 1 مل 22). ولكن في مدة حكم ابنه يهورام (849- 842 ق.م) صعد العرب والفلسطينيون "إلي يهوذا وافتتحوها ونهبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك" (2 أخ 21: 16، 17). أما أخزيا (842 ق.م) ابن يهورام فقد ذهب لزيارة أقارب أمه في يزرعيل، وبعد أن جرح في مركبته بالقرب من يبلعام، مات بالقرب من مجدو، ونقل جسده إلي أورشليم ودفن هناك (2 مل 9: 27، 28). وأصبحت أورشليم في ذلك الوقت مسرحًا للأحداث المثيرة من اغتصاب عثليا للعرش ثم مقتلها (2 مل 11: 16؛ 2 أخ 23: 15)، وتتويج حفيدها يوآش وما قام به من إصلاحات (2 مل 12: 1-16؛ 2 أخ 24: 1-14). وبعد موت الكاهن التقي يهوياداع، أزاغ رؤساء يهوذا الملك وتركوا بيت الرب (2 أخ 24: 15-22).
(11) حزائيل ملك أرام (797 ق.م): وكانت النتيجة أن الأراميين بقيادة حزائيل، حاربوا يهوذا وأورشليم وقتلوا الأمراء وضربوا الأرض، وأعطاه يوآش الكثير من خزائن القصر وبيت الرب (2 مل 12: 17، 18، 2 أخ 24: 23). وأخيرًا فتن عبيد يوآش عليه وقتلوه (2 مل 12: 20، 21؛ 2 اخ 24: 25) "في بيت القلعة حيث ينزل إلي سليَّ".
(12) يهوآش ملك إسرائيل يستولى علي المدينة: في أثناء حكم أمصيا (797- 729 ق.م.) ابن الملك المقتول، يبدو ان الانتصار علي أدوم جعل أمصيا يغتر بنفسه، حتى إنه أرسل يتحدي يهوآش ملك إسرائيل للحرب (2مل 14: 8، 9)، وتقابل الجيشان في بيت شمس وانهزم يهوذا "وهربوا كل واحد إلي خيمته". ولم تستطع أورشليم أن تقاوم المنتصرين، فهدم يهوآش "سور أورشليم من باب أفرايم إلي باب الزاوية أربع مئة ذراع "، ثم عاد بعد ذلك إلي السامرة محملًا بالغنائم والرهائن (عدد 14) وبعد ذلك بخمسة عشر عامًا، قتل أمصيا في لخيش التي هرب إليها من فتنة ضده، ولكنهم حملوا جثته علي الخيل ودفنوه في أورشليم.
(13) عزيا يعيد بناء التحصينات (779- 740 ق.م.): لا شك في أن ما جعل عزيا (أو عزريا) يعمل علي تقوية نفسه، إنما هو تذكره لإذلال الذي أصاب أباه. فهزم عزيا الفلسطينيين والعرب في جور، ووضع العمونيين تحت الجزية (2 أخ 26: 7، 8) "وبني أبراجًا في أورشليم عند باب الزاوية وعند باب الوادي وعند الزاوية وحصَّنها" (عد 9)، كما أنه " عمل في أورشليم منجنيقات اختراع مخترعين لتكون علي الأبراج وعلي الزوايا لترمى بها السهام والحجارة العظيمة" (عدد 15). ويبدو أن أورشليم في عهده قد استعادت بعض أمجادها التي كانت لها في أيام سليمان في وقت السلم الطويل الذي تمتعت به مع جيرانها في الشمال. وفي أيامه حدثت في المدينة زلزلة كبيرة (زك 14: 5؛ عا 1: 1؛ انظر إش 29: 6؛ عا 4: 11؛ 8: 8). وبني يوثام ابنه "الباب الأعلى لبيت الرب" (2 مل 15: 35؛ 2 اخ 27: 3). ويحتمل أنه هو "باب بنيامين الأعلى" (إرميا 20: 2)، وبني كذلك معظم السور الذي علي الأكمة، ويحتمل أن في ذلك إشارة إلي حصن صهيون القديم علي التل الجنوبي الشرقي (2 أخ 27: 3).
(14) آحاز يتحالف مع آشور (736- 728 ق.م): كان علي آحاز أن يشكر لأبيه وجده ما قاما به لتحصين المدينة، فقد نجحت أسوارها في الدفاع عنها ضد ملوك أرام وإسرائيل (2 مل 16: 5، 6)، ولكن آحاز -وقد شعر بضعف مملكته الصغيرة- اشتري بالذهب والفضة التي أخذها من بيت الرب، تحالفا مع تغلث فلاسر ملك أشور، وذهب لملاقاة ملك أشور في دمشق، وتملقه بأن بني مذبحًا مشابهًا للمذبح الذي كان في دمشق، ليقدم عليه الذبائح في الهيكل (2 مل 16: 10-12). وقد خيم الظلام علي عهده بالممارسات الوثنية، وبخاصة أنه "عبَّر ابنه في النار" - كذبيحة بشرية- في وادي بن هنوم (1 مل 16: 3، 4؛ 2 أخ 28: 3).
(15) أعمال حزقيا العظيمة: خلف حزقيا آحاز أباه علي العرش (727- 699 ق.م) في وقت خطر شديد، فقد سقطت السامرة ومعها مملكة إسرائيل، وبصعوبة فائقة ردت أشور علي أعقابها، وكان الشعب في حالة ارتداد عظيم، ومع هذا فإن أورشليم لم تبلغ من قبل مثل هذه العظمة والتقدير في أعين الأنبياء (إش 7: 4، 5؛ 8: 8، 10؛ 10: 28، 29؛ 14: 25-32.. إلخ). وفي بداية ملكه، كان قيام مرودخ بلادان الكلداني ضد أشور، عاملًا علي إراحة يهوذا من أعظم الأخطار التي كانت تتهددها، ودخل حزقيا في علاقات صداقة مع ملك بابل الجديد، عندما أطلع رسله علي كل كنوزه (إش 39: 1، 2). ويبدو أن حزقيا قد قام -في ذلك الوقت أو بعده بقليل- بأعمال عظيمة، بها هيأ عاصمته للأوقات العصيبة القادمة "فسد مخرج مياه جيحون الأعلَى وأجراها تحت الأرض" وأدخل الماء إلي المدينة ليمنع ملوك أشور من الوصول إليها (2 مل 20: 20؛ 2 أخ 32: 4، 30).
ومن المؤكد، أنه ليكون للنفق الذي عملوه أي فائدة، لا بُد أن التل الجنوبي الغربي كان داخل دائرة السور، ومن المرجح جدًا أن ما جاء في (سفر أخبار الأيام الثاني 32: 5) من أنه " بني كل السور المنهدم، وأعلاه إلي الأبراج، وسورًا آخر خارجًا، يشير- في العبارة الأخيرة- إلي امتداد السور علي حافة التل الجنوبي الغربي إلي سلوام. ومن الناحية الأخرى، لو أن هذا كان من عمل سليمان، فإن "السور الآخر" قد يكون هو السد العظيم الذي يغلق فم التروبيون، فقد كان ذلك جزءًا أساسيًا في خطته ليمنع جيشًا يحاصر المدينة من الوصول إلي المياه. كما حصَّن القلعة علي التل الجنوبي الشرقي. وإذ أصبح حزقيا آمنًا داخل هذه التحصينات التي جعلت من أورشليم مدينة من أقوي المدن المسورة في أسيا الضربية، وبمعاونة المرتزقة العرب- كما نعلم من الأقوال التي سجلها سنحاريب- كان قادرًا علي التخلص من الملك الأشوري العظيم، والاحتفاظ بمدينته عزيزة (2 مل 18: 13-16)، غير أنه يبدو أنه واجه تهديدًا جديدًا بالهجوم علي المدينة (2 مل 19: 9-37).
(16) إصلاحاته الدينية: قام حزقيا بإصلاحات كثيرة "فهو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى.. ودعوها "نحشتان" أي قطعة من النحاس (2 مل 18: 4).
(17) تحالف منسي مع أشور: جاء منسي بعد أبيه حزقيا، وكان عمره حين ملك اثنتي عشرة سنة، وملك خمسًا وخمسين سنة (698 -643 ق.م.) في أورشليم، وكان خاضعًا لآسرحدون وأشور بانيبال كما نعلم من نقوشهم، ويشير أشور بانيبال في أحد نقوشه، إلي منسي بأنه ملك "مدينة يهوذا". وملك أشور الذي أخذ منسي مقيدًا في سلاسل إلي بابل، يحتمل أنه كان أشور بانيبال [(2 أخ 33: 11)، انظر يوسيفوس- المجلد العاشر 3: 2]. ويتضح مدي تغلغل النفوذ الأشوري في البلاد، من اللوحين اللذين عثر عليهما حديثًا في جازر وعليهما كتابة مسمارية من عهد هذا الملك الأشوري.
وقد امتد هذا النفوذ إلي المجال الديني حيث نقرأ عن منسي: "وبني مذابح لكل جند السماء في داري بيت الرب" (2 مل 21: 5). وهناك إشارات أخري لعبادة الأصنام التي أدخلها هذا الملك [انظر (إرميا 7: 18؛ 2 مل23: 5، 11، 12.. إلخ.)]، كما ملأ أورشليم من دم الشهداء الأزكياء الأمناء للرب (2 مل 21: 16؛ إرميا 19: 4). ويحتمل أن فترة السلام الطويلة مع الأمم المجاورة، قد أدت إلي ازدياد عدد السكان وبخاصة بتدفق الغرباء من المناطق المتاخمة لها.
(18) ترميمه الأسوار: ونقرأ في (سفر أخبار الأيام الثاني 33: 14) عن الإصلاحات المعمارية التي قام بها هذا الملك لتحصين أورشليم: "وبعد ذلك بني سورًا خارج مدينة داود غربًا إلي جيحون في الوادي وإلي مدخل باب السمك". ولابد أن هذا السور كان سورًا جديدًا، أو سورًا أعيد بناؤه علي كل الجانب الشرقي من المدينة، وحوط الأكمة بسور وعلاَّه جدًا.
وكان منسي أول ملك من ملوك يهوذا يدفن بعيدا عن مدافن الملوك، فقد دفن (كما دفن ابنه آمون) "في بستان بيته في بستان عزا" (2 مل 21: 18)، ولعل هذه القبور هي المشار إليها في (حزقيال 43: 7-9) والقريبة من مباني الهيكل.
(19) يوشيا والإصلاحات الدينية (640- 609 ق.م.) : وجد "سفر الشريعة" في زمن يوشيا، وبناء علي ذلك قام الملك بإصلاحات جذرية (2 مل 22، 23). لقد أحرق السارية "في وادي قدرون ودقها إلي أن صارت غبارًا، وذري الغبار علي قبور عامة الشعب"، وأحرق كل آنية البعل، "ونجس توفة التي في وادي بني هنوم" (2 مل 23: 6-10). وبعد حكم دام 31 عامًا (2 مل 23: 29، 30). حاول يوشيا أن يعترض طريق فرعون مصر، نخو، حتى لا ينضم إلي ملك بابل ضد أشور، فهزم وقتل في مجدو، ودفن في قبره في أورشليم، ويحتمل أنه دفن في نفس المكان الذي دفن فيه أبوه وجده. وبعد ذلك أخذ نخو فرعون مصر يهوآحاز أسيرًا إلي مصر بعد ملك دام ثلاثة شهور فقط (2 مل 23: 34) ومات في مصر، ودفن-علي ما يبدو- في قبور الغرباء (إرميا 22: 10-12). أما أخوه ألياقيم- الذي غيَّر نخو ملك مصر اسمه إلي يهوياقيم -فقد خلفه علي العرش، وفي السنة الرابعة لملكه هزم البابليون مصر في كركميش، فكان علي يهوياقيم أن يتحول عن الخضوع لمصر إلي الخضوع لبابل (1مل 23: 35- 24: 7).
(20) إرميا يتنبأ بالمصير المرتقب: وفي أثناء هذه الفترة كان إرميا يطوف بكل همة في شوارع أورشليم وساحاتها (إرميا 5: 1.... إلخ.) منبئًا بالخراب القادم علي المدينة، وقد قوبلت أقواله بالازدراء والغضب من الملك والبلاط (إرميا 36: 23). ونتيجة لتمرد يهوياقيم علي ملك بابل، أرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين والأراميين والموآبيين والعمونيين (2 مل 24: 2) ومات مغمورًا (2 مل 24: 6؛ إرميا 22: 18، 19).
وخرج ابنه يهوياكين -الذي خلفه في الحكم- مع كل أهل بيته إلي نبوخذنصر ملك بابل، واستسلموا له (597 ق.م)، فأخذه الملك نبوخذنصر إلي بابل حيث قضي أكثر من 37 سنة (2 مل 25: 27-30)، ونهبت كل كنوز أورشليم، وسبى كل سكانها من ذوي الجاه والمركز.
(21) نبوخذنصر يفتح أورشليم مرتين (586 ق.م): بعد أحد عشر عامًا، قام صدقيا الملك المعين من قبل ملك بابل، بالثورة ضده، فحاصرت الجيوش البابلية أورشليم مدة سنة ونصف حتى "اشتد الجوع في المدينة". وفي التاسع من شهر آب "هرب جميع رجال القتال ليلا عن طريق الباب بين السورين اللذين نحو جنة الملك" أي بالقرب من فم التيروبيون.أما الملك فقد ذهب "في طريق البرية" فقبض عليه في "برية أريحا". ولقد لقي عقابًا صارمًا لعدم أمانته لبابل (2 مل 25: 1-7)، وأخربت المدينة وأحرقت بالنار، ولقي الهيكل نفس المصير، وهدمت أسوار أورشليم ولم يبق بها إلا مساكين الأرض ليعملوا "كرامين وفلاحين" (2 مل 25: 8-12؛ 2 أخ 36: 17-21)، والأرجح أن التابوت قد نقل في ذلك الوقت.
(22) كورش والرجوع الأول (538 ق.م): بعد أن دمرت المدينة، اتجهت قلوب أفضل العناصر في يهوذا، بأشواقها إلي فكرة إعادة بنائها. ويحتمل أن بعضًا من السكان الباقين في البلاد، قد احتفظوا ببعض المظاهر الخارجية لعبادة الرب في موقع الهيكل. وأخيرًا في 538 ق.م عندما أصبح كورش الفارسي سيدًا علي الإمبراطورية البابلية، أصدر الكثير من الأوامر بإعادة بناء معابد الآلهة الأشورية والبابلية، كما أعطي الإذن لليهود بالعودة إلي بلادهم وبناء بيت الرب (عز 1: 1، 2).وقد عاد أكثر من 40,000 (عز 1، 2) بقيادة شيشبصر رئيس يهوذا (عز 1: 8، 11) حاملين معهم آنية بيت الرب المقدسة، واستؤنف تقديم الذبائح اليومية والاحتفال بالأعياد والأصوام (عز 3: 3-7).
وأخيرًا وضعت أساسات الهيكل (عز 3: 10؛ 5: 16). ولكن نظرًا لمعارضة سكان البلاد والسامريين لم يكتمل البناء إلا بعد عشرين سنة (عز 6: 15).
(23) نحميا يعيد بناء الأسوار: إن الوصف التفصيلي لإعادة بناء أسوار أورشليم في زمن نحميا (445 ق.م) يعطينا صورة عن هذه التحصينات أوفي من أي وقت سابق، فلقد كرس نحميا نفسه لإعادة بناء الأسوار إلي الحالة التي كانت عليها قبيل السبي، بقدر المستطاع. وقد تم إنجاز العمل بسرعة رغم ظروف الخطر التي كانت تحدق بهم، فقد كان نصف العمال يمسكون الرماح والأتراس والقسي والدروع، للدفاع عن الباقين، كان كل عامل جنديا (نح 4: 13، 16-21). وقد استغرقت عملية إعادة البناء 52 يوما، وما كان ذلك ممكنًا علي الإطلاق، لو لم تكن كمية ضخمة من المواد في متناول اليد وسط أنقاض الأبنية المنهدمة. ولا شَك في أن العجلة والموارد المحدودة، أدت إلي بناء سور أضعف كثيرًا من السور الذي حطمه نبوخذنصر منذ 142 سنة مضت، ولكن السور الذي بناه نحميا سار علي نفس الخط، وكان له نفس الطراز المعماري.
(24) الحاكم باغوهي: وليس لدينا معلومات تاريخية وافية عن أورشليم طيلة المائة العام التالية لذلك. غير أن البرديات التي وجدت في جزيرة "ألفنتين" (قرب أسوان) تعطينا لمحة من ذلك التاريخ، حيث نقرأعن جماعة يهودية في صعيد مصر، تلتمس من "باغوهي" حاكم اليهودية أن يمنحهم الإذن بإعادة بناء هيكلهم، هيكل الرب في مصر.ويذكرون في سياق الحديث أنهم سبق أن رفعوا التماسًا إلي يهوحنان رئيس الكهنة ورفقائه في أورشليم، ولكن بلا جدوي. وفي وثيقة أخري نجد أن هذا الالتماس المقدم للحاكم الفارسي قد لقي قبولًا. ويرجع تاريخ هذه الوثائق إلي 411-407 ق.م. وبعد ذلك- ويحتمل أنه في حوالي 350 ق.م. نجد بعض الشواهد -الغامضة بعض الشيء -عن تدمير أورشليم، وأسر عدد من اليهود في زمن ارتحشستا الثالث (358- 337 ق.م).
ولكن ابتداء من معركة ايسوس وحملة الإسكندر الأكبر على فلسطين (332 ق.م تقريبًا)، نجد أنفسنا أمام حقائق تاريخية أثبت، علي الرغم من أن تفاصيل قصة زيارة الإسكندر لأورشليم، يحوطها الشك. وبعد موته في 323 ق.م. عانت فلسطين كثيرًا نتيجة لموقعها بين البطالمة في مصر والسلوقيين في أنطاكية، فقد تبادل الاثنان حكمها. ويبدو أن الجزية كانت تقسم بينهما في وقت من الأوقات.
(25) حكم البطالمة: في 321 ق.م. غزا "بطليموس سوتر" فلسطين واستولي علي أورشليم بخدعة إذ دخل المدينة يوم السبت كما لو كان راغبًا في تقديم ذبيحة. وأخذ معه عددًا كبيرًا من الأسري اليهود إلي مصر وأسكنهم فيها. وفي الصراع بين الملوك المتنافسين، ظلت أورشليم بمنأي عن الاضطرابات تحت حكم مصر المطلق، وذلك بسبب موقعها المنعزل، علي الرغم من أن فلسطين نفسها قاست الكثير. وفي 217 ق.م. زار بطليموس الرابع (فيلوباتر) الهيكل في أورشليم وقدم القرابين بعد انتصاره علي أنطيوكس الثالث في رافيا. وجاء في الأصحاح الأول من المكابيين الثالث أنه دخل (قدس الأقداس). وازدهار المدينة النسبي في أيام الحكم المصري، يشهد به هيكاتيوس الأبديري، الذي يستشهد به يوسيفوس، إلي حد أنه يقدَّر عدد سكان المدينة بنحو 120,000 نسمة، ولكن يحتمل أنه كان مغاليًا في ذلك.
(26) أنطيوكس الكبير: وفي 198 ق.م. عندما هزم أنطيوكس الكبير جيش بطليموس في موقعة بانياس الحاسمة- والتي تعتبر نقطة تحول في التاريخ- ذهب اليهود من أنفسهم إليه وزودوا جيشه بكميات كبيرة من المؤن، وأعانوه في محاصرة القوات المصرية المرابطة في القلعة. ويذكر يوسيفوس رسائل يسجل فيها أنيوكس رضاه عن الاستقبال الذي قوبل به من اليهود، ومنحه لهم الكثير من الامتيازات. وكتب يشوع بن سيراخ تقريرًا عن ازدهار المدينة في ذلك الوقت (190-180 ق.م.) في كتاب "حكمة يشوع". لقد كانت المدينة مزدحمة تعج بمظاهر الحياة أو الأنشطة الكثيرة، ويذكر بعبارات براقة، رئيس الكهنة العظيم سمعان بن أونياس (226-199 ق.م.) (حكمة يشوع 50: 1-4) الذي رمم الهيكل وحصنه، وقوَّي الأسوار لمقاومة أي حصار. ويقدم لنا خطاب "أرستياس" -الذي يحتمل أن يكون قد كتب في نهاية حياة هذا الرجل العظيم (حوالي 20 ق.م.) صورة مماثلة. ولكن سرعان ما تعرَّض للخطر ذلك الازدهار الملحوظ والحرية الدينية -التي نعم بها اليهود تحت حكم المصريين- عندما صاروا تحت سلطة الحاكم الجديد، فقد زادت الضرائب، وأصبح الولاء للمبادئ اليهودية يعتبر خيانة للحاكم السلوقي.
(27) صبغ المدينة بالصبغة اليونانية في عهد أنطيوكس أبيفانس: وسار صبغ الأمة بالصبغة اليونانية بخطي سريعة (2 مك 4: 9-12). فبناء علي طلب الحزب اليوناني، أقيمت "مدرسة للرياضة" في أورشليم (1 مك 1: 14؛ 2 مك 4: 7، 8)، فبني "الجيمنيزيوم" (الملعب) وسرعان ما احتشد فيه صغار الكهنة، وأصبحت القبعة اليونانية غطاء الرأس المألوف في أورشليم. وكان الحزب اليوناني المكوَّن من الطبقة الارستقراطية متطرفًا في ولائه الواضح للملك والخضوع لرغباته، حتى إن أنطيوكس -الذي استقبل في زيارته للمدينة بالتحية والترحاب الشديد- ظن أن الفقراء والأتقياء الذين قاوموه نتيجة دوافع دينية، إنما فعلوا ذلك بدافع ميولهم نحو أعدائه المصريين. أما الانفجار الحقيقي، فقد حدث عندما وصلت الأنباء لأنطيوكس -بعد حملة ناجحة علي مصر، وإن كانت لم تجده نفعا من الناحية السياسية- أن أورشليم قد ثارت في مؤخرته لحساب البطالمة. أما ياسون رئيس الكهنة المرتد الذي كان مختبئًا في عبر الأردن، فقد عاد فجأة بعد سماعه النبأ الكاذب عن موت أنطيوكس، وتولي مرة أخري مقاليد الأمور في المدينة. ولم تبق لسوريا سوي القلعة وقد احتشد فيها منيلاوس وأتباعه الذين فروا من سيف ياسون.
(28) الاستيلاء علي المدينة في 170 ق.م.: لم يضع أنطيوكس وقتًا بل أسرع (170 ق.م.) إلي أورشليم بجيش عظيم وفتح المدينة وأعمل في الناس ذبحًا، ونهب الهيكل [(1 مك 1: 20-24)، يوسيفوس-المجلد الثاني عشر 5: 3]. وبعد ذلك بسنتين- وقد أحبطت روما حملته علي مصر- يبدو أنه صمم ألا يكون في أورشليم أي متعاطفين مع مصر.
(29) الاستيلاء علي المدينة في 168 ق.م.: فأرسل أنطيوكس الملك رئيس الجزية. (1 مك 1: 30) الذي هاجم المدينة بقوة كبيرة، ودخلها بعد أن خاطبهم بمكر (عد 31). وبعد أن نهبها، أشعل فيها النار وهدم الأسوار والبيوت وذبح الرجال وباع الكثيرات من النساء والأطفال في سوق الرقيق (1 مك 1: 31-35؛ 2 مك 5: 24)، وقدم الخنازير كذبائح (أو علي الأقل قدم خنزيرة) علي المذبح المقدس.
(30) محاولة قمع اليهودية: وأمر أنطيوكس رئيس الكهنة نفسه- وهو من ذوي النزعة اليونانية -أن يشترك في احتفالات تقديم الذبائح النجسة، وحاول في قسوة بربرية أن يمنع ممارسة الختان، وبذل كل ما يستطيع -مؤيدًا من أنصار الثقافة اليونانية -ليجعل من أورشليم مدينة يونانية. ولكي يؤمن مركزه بني سورًا قويًا وبرجًا عظيمًا للقلعة، وزودها بالأسلحة والمؤن، وترك فيها حامية قوية (1 مك 1: 33-35). ولكن السوريين تجاوزوا الحدود، فكانت ثورة المكابيين رد الفعل الطبيعي ضد الاضطهاد ومحاولات القمع الديني.
(31) الثورة المكابية: أدت هزيمة القائد السوري ليسياس وتراجعه، ثم موت انطيوكس أبيفانس، إلي تغيير كامل في السياسة من جانب حاشية الملك الصغير أنطيوكس الخامس، فقد صدر عفو عام مع السماح بإعادة العبادة في الهيكل علي الصورة التي كان يمارسها الأسلاف. وفي السنة التالية (165 ق.م) وجد يهوذا المكابي "المقدس خاليًا والمذبح منجسًا والأبواب محرقة، وقد طلع النبات في الديار كما يطلع في غابة... وغرفات الكهنة مهدومة" (1 مك 4: 38).
(32) تدشين الهيكل: (165 ق.م.) فشرع فورًا في إعادة بناء المذبح، واستئناف الخدمات في الهيكل، وهو عمل أصبح عيدًا يحتفل به منذ ذلك الوقت تحت اسم "عيد التجديد أو التدشين" (1 مك 4: 52-59؛ 2 مك 10: 1-11؛ انظر يوحنا 10: 22). وبني يهوذا "علي جبل صهيون من حوله أسوارًا عالية وبروجًا حصينة" وأقام فيه جيشًا للحراسة، محولًا إياه إلي قلعة حصينة (1 مك 4: 41- 61).
(33) هزيمة يهوذا واستسلام المدينة: ولقد عاني الحزب اليوناني كثيرًا نتيجة رد الفعل هذا، وحوصرت الحامية السورية في القلعة- التي كانت تمثل قبضة سوريا علي اليهودية- حصارًا محكمًا، ولكن رغم أن يهوذا قد هزم ثلاثة جيوش سورية في العراء، لم يستطع أن يطرد هذه الحامية. وفي 163 ق.م. أتي جيش سوري عظيم ومعه العديد من الجمال والأفيال لنجدة الحامية المحاصرة وقد ضاق عليها الخناق. وقام ليسياس ومعه الملك الصغير نفسه (أنطيوكس الخامس) بالزحف علي المدينة من الجهة الجنوبية عن طريق "بيت صور". فانهزم يهوذا في "بيت زكريا" وقتل أليعازار أخوه، واستولي السوريون علي أورشليم، واستسلمت القلعة التي علي جبل صهيون والتي كانت تحيط بالهيكل بناءً علي المعاهدة التي تم عقدها، ولكن عندما رأي الملك الموضع حصينًا، نقض الحلف وأمر بهدم التحصينات (1 مك 6: 62). ورغم ما أحاط بالموقف من عوامل اليأس، استطاع يهوذا وأتباعه أن ينجوا بأنفسهم. وفي ذلك الوقت، قام فيليب - وهو شخص ادَّعي المُلك- بثورة في جزء ناءً من الإمبراطورية، فاضطر ليسياس إلي عقد هدنة مع اليهود الوطنيين، كانت أكثر إرضاء ليهوذا مما كان قبل هزيمته، ولكن ظلت الحامية في القلعة لتذكر اليهود باستمرار بأنهم لا يتمتعون بالاستقلال. وفي 161 ق.م. جاء قائد سوري آخر، هو نيكانور للقضاء علي الثورة المكابية، ولكنهم استطاعوا أن يستميلوه إلي جانبهم في البداية، ولكنه- بتحريض من الحزب اليوناني -اضطر بعد ذلك إلي مهاجمة يهوذا، بجنود جمعهم علي عجلة، فانهزم في أداسا إلي الشمال قليلًا من أورشليم. ولكن يهوذا لم يهنأ طويلًا بهذا الانتصار.
(34) موت يهوذا في 161 ق.م.: فبعد شهر من الزمان، ظهر بكيديس أمام أورشليم، وفي ابريل 161 ق.م. قتل يهوذا في معركة معه في بيرية، واحتل السوريون المدينة وما حولها. ومع هذا فإنه في 152 ق.م. كان يوناثان اخو يهوذا، وكان يقيم في مخماش - هو الحاكم الفعلي للبلاد، وعن طريق مفاوضات تتسم بالدهاء، مع ديمتريوس والإسكندر -المنافسين المطالبين بعرش أنطاكية- استطاع يوناثان أن يكسب أكثر مما كسبه أي فرد من أفراد أسرته، فتعين رئيسا للكهنة ونائبًا للملك في اليهودية.
(35) إصلاحات يوناثان: جدد يوناثان المدينة وأعاد بناء قلعة الهيكل بحجارة منحوتة (1 مك 10: 10، 11) وارتفع بالأسوار، وبني جزءًا كبيرًا من السور الشرقي الذي كان قد تهدم، ورمم "السور المسمي كافيناطا" (1مك 12: 36، 37). وشيد حائطا عاليا بين القلعة والمدينة ليفصلها عن الحامية السورية.
(36) استسلام المدينة لأنطيوكس سيديتس (134 ق.م): وأخيرًا استولي سمعان -الذي خلف يوناثان -علي القلعة في 139 ق.م، ويقول يوسيفوس إنه لم يكتف بتدمير القلعة، بل سوي التل الذي كانت تقوم عليه بالأرض (انظر 1 مك 14: 36، 37). وبعد ذلك بخمس سنوات حاصر انطيوكس سيديتس -في السنة الرابعة لملكه - يوحنا هيركانوس (134 ق.م) في أورشليم، وفي أثناء الحصار أقام الملك السوري مائة برج، ارتفاع كل منها ثلاثة طوابق في مقابل السور الشمالي، ومن المحتمل أنها قد استخدمت فيما بعد في بناء أساسات السور الثاني. وأخيرًا رشا أنطيوكس بإطلاق سراح الأسري الرهائن، وبدفع جزية باهظة، يقال إن هيركانوس قد حصل عليها بفتح قبر الملك داود ومع كل ذلك فإن الملك حطم التحصينات التي كانت تحيط بالمدينة.
(36) أبنية الأسمونيين: ولقد أقام الأسمونيين في أيام ازدهارهم الكثير من الأبنية، فكان هناك قصر عظيم علي التل الغربي (الغربي الجنوبي) يطل علي الهيكل، وكان يتصل به -في وقت من الأوقات -بقنطرة فوق التيروبيون. كما شيدت في الجانب الشمالي من الهيكل، قلعة- لعلها قامت مكان قلعة أخري أقيمت في عصور ما قبل السبي، وكانت تعرف باسم "باريس" -وهذه القلعة هي التي وسَّعها هيرودس فيما بعد، وأطلق عليها اسم قلعة "أنطونيا".
(37) تدخل روما: ونتيجة للصراع بين الأمراء الأسمونيين في أواخر عهدهم، تعرَّضت المدينة لأخطار كثيرة، ففي 65 ق.م. ثار هيركانوس الثاني، بتحريض من أنتيباس الأدومي، ضد أخيه أرستوبولس الذي كان قد تنازل له عن المطالبة بالسلطة. وبمعونة أريتاس ملك النبطيين حاصر أرستوبولس في الهيكل، ولكن القائد الروماني سكاروس- بأمر من بومبي- أرغم أريتاس علي التراجع ثم ساعد أرستوبولس فانتصر علي أخيه.
(38) بومبي يستولي علي المدينة عنوة: بعد ذلك بسنتين (63 ق.م)، وبعد أن تقابل بومبي مع رسل الفريقين، حاملين معهم الهدايا بالإضافة إلي هدايا الفريسيين، جاء بنفسه لتسوية النزاع بين المتنافسين، وإذ منع من دخول المدينة، استولي عليها عنوة، وشق طريقه إلي "قدس الأقداس" ولكنه ترك ذخائر الهيكل دون أن يلحقها ضرر، ولكنه هدم أسوار المدينة، وأعاد هيركانوس الثاني رئيسًا للكهنة، أما أرستوبولس فأخذ أسيرًا إلي روما، وهكذا أصبحت المدينة خاضعة للامبراطورية الرومانية، ولكن "لوسنيوس كراسوس" الوالي السوري عند قيامه بحملته ضد البارثيين Parthians في 55 ق.م. حمل معه من الهيكل الأموال التي تركها بومبي.
(39) يوليوس قيصر يعين أنتيابرا واليًا (47 ق.م.): في 47 ق.م. صار أنتيباترا - الذي ظل طيلة عشر سنوات، يكتسب قوة باعتباره مشيرًا متطوعًا لهيركانوس الضعيف- مواطنًا رومانيًا، وعين واليًا من أجل الخدمات المادية التي استطاع أن يقدمها ليوليوس قيصر في مصر. وفي نفس الوقت أعطي القيصر الإذن لهيركانوس ليعيد بناء أسوار أورشليم بالإضافة إلي امتيازات أخري. وقد جعلها أنتيبايرا اكبر أبنائه فاسيليوس حاكما علي أورشليم، وعهد بالجليل إلي أصغر أبنائه هيرودس.
(40) غزو البارثيين: في 40 ق.م. خلف هيرودس أباه واليًا علي اليهودية بأمر من مجلس الشيوخ الروماني، ولكن في نفس السنة قام البارثيون بقيادة باكوروس وبارزافرنيس بالاستيلاء علي أورشليم ونهبها، وأعادوا أنتيجونوس واليًا عليها، ونقل هيرودس أسرته وكنوزه إلي مسادا، وإذ عينه أنطونيوس ملكًا علي اليهودية، عاد في 37 ق.م. بعد مغامرات كثيرة، وبمساعدة سوسيوس الوالي الروماني،استولي علي أورشليم عنوة بعد حصار دام خمسة شهور، وبناء علي وعد بمكافاءات سخية، منع العسكر من نهب المدينة.
(41) حكم هيرودس الكبير (37- 4ق.م.): في أثناء حكم هذا الملك العظيم، بلغت أورشليم من العظمة ما لم تبلغه في كل العصور. وفي 24 ق.م. بني الملك قصره المنيف في أعلي المدينة علي التل الجنوبي الغربي بالقرب من الموقع الحالي للثكنات التركية والحي الأرمني، وأعاد بناء القلعة إلي الشمال من الهيكل- باريس القديمة- ولكن بصورة أعظم، وأقام أربعة أبراج عالية في أركانها الأربعة، وأطلق عليها اسم "أنطونيا" تخليدا لاسم ولي نعمته أنطونيوس قيصر، وأقام المباريات الرياضية في ساحة جديدة وأنشأ مدرجًا (أو استادًا). ولابد أنه رمم الأسوار ودعمها، ولكن كل هذا لا يضارع الأبراج الأربعة التي أنشأها وأطلق عليها: هبيكوس وفارسئيل وماريامن بالقرب من باب يافا الحالي، ويظن أن أساسات الاثنين الأولين تدخل ضمن ما يطلق عليه حاليًا "برج داود"، ثم البرج الرابع العالى المثمن الأضلاع المسمي "سفينوس" في الشمال الغربي.
(42) أبنية هيرودس العظيمة: وفي 19 ق.م. بدأت خطط هيرودس لإعادة بناء الهيكل، ولكنها لم تكتمل حتى 64م (يو 2: 20؛ مت 24: 1، 2؛ لو 21: 5، 6) وقد قام ببناء "القدس" ألف كاهن من المدربين تدريبًا خاصًا، في مدة ثمانية عشر شهرا (11-10 ق.م.) وكان التخطيط رائعًا أسفر عن مجموعة من الأبنية الضخمة الجميلة، التي فاقت كل ما سبق إقامته من أبنية هناك.. والواقع أن كل بقايا أساسات الهيكل الموجودة الآن بالارتباط بالحرم، إنما تعود إلي تلك الفترة. وفي 4 ق.م. - وهي سنة ميلاد المسيح- حدثت الاضطرابات الناتجة عن تدمير النسر الذهبي الذي كان هيرودس قد أقامه فوق بوابة الهيكل الكبيرة، وبعد ذلك بفترة قصيرة مات هيرودس، بعد أن كان قد حبس الكثيرين من قادة اليهود في ساحة الألعاب الرياضية، وأصدر الأمر بذبحهم عند موته. وقد تميز حكم أرخيلاوس، بعده بالشغب الذي قام في أيام عيد الفصح، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة آلاف شخص، نتيجة لما حاق بالنسر الذهبي.
(43) هيرودس أرخيلاوس (4 ق.م- 6 م.): وإذ ظن أرخيلاوس أن النظام قد استتب، سافر إلي روما لتثبيته واليًا علي اليهودية. وفي أثناء غيابه، تسبب سابينوس الوالي الروماني- بدافع من الشراهة وسوء الإدارة -في إثارة المدينة كلها. وقد تميز عيد الفصح التالي بمذبحة وقتال في الشوارع، مع عمليات سلب ونهب علي أوسع نطاق، ولكن "فاروس" حاكم سوريا أسرع إلي مساعدة تابعه، فأخمد التمرد بعنف شديد، وصلب ألفي يهودي. وعاد أرخيلاوس بعد ذلك بفترة قصيرة واليًا علي اليهودية، وهي وظيفة ظل يشغلها إلي أن نفي في السنة السادسة بعد الميلاد. وفي أثناء ولاية كوبونيوس (6-10م) حدث شغب آخر في عيد الفصح نتيجة لتطرف بعض السامريين.
(44) بيلاطس البنطي: وفي أثناء ولاية بيلاطس البنطي (26- 37 م) حدثت اضطرابات عديدة انتهت بشغب نتيجة لاستيلائه علي بعض "القرابين" أو التقدمات المقدسة في الهيكل لبناء قناة للمياه، ولعلها- علي الأقل- جزء من "القناة السفلى". وقد أحاط هيرودس أغريباس الأول، الضواحي- التي كانت قد اتسعت إلي الشمال من السور الثاني ومن الهيكل -بما يسميه يوسيفوس "السور الثالث".
(45) الملك أغريباس: وقد أضاف الملك أغريباس (ابن هيرودس) في 56 م. تقريبًا، جزءًا كبيرًا للقصر الأسموني القديم، والذي منه يستطيع أن يشرف علي منطقة الهيكل، وقد ساء ذلك في نظر اليهود، فبنوا سورًا حول الحدود الغربية للفناء الداخلي ليمنعوا عنه الرؤية، وفي النزاع الذي نتج عن ذلك، نجح اليهود في الحصول علي تأييد نيرون. وفي 64 م تمت عملية إعادة بناء أروقة الهيكل، التي كانت قد بدأت في 19 ق.م. ويبدو أن الثمانية عشر ألفًا من العمال الذين تعطلوا عن العمل، قد سخروا في "رصف المدينة بالحجارة البيضاء".
(46) الثورة ضد فلوروس وهزيمة جالوس: وأخيرًا، انفجر غضب اليهود، الذي طال كبته ضد الرومان، عن ثورة عارمة مكشوفة في 66 م، بسبب "جيسيوس فلوروس"، فأشعلت الجموع الغاضبة النيران في القصور والأبنية العامة. وبعد يومين فقط من الحصار، استولوا علي قلعة "أنطونيا" وأشعلوا فيها النار وذبحوا حرسها، فأسرع سستيوس جالوس بجيوشه من سوريا، وحاصروا المدينة واقتحموا السور الثالث واحرقوا ضاحية "بيزيتا" بالنار، ولكن عندما كانوا علي وشك إعادة الهجوم علي السور الثاني، يبدو أن جالوس قد تملكه الرعب، وتحول انسحابه الجزئي إلي تراجع مشين، فتتبعه اليهود علي الطريق إلي بيت حورون حتى أنتيباترس.
(47) حصار تيطس للمدينة (70م): لقد كلف هذا الانتصار اليهود غاليًا في نهاية الأمر، حيث أدي إلي قدوم فسباسيان في حملته العسكرية التي انتهت بسحق كل آمال اليهود القومية. بدأ فسباسيان زحفه من الشمال وتقدم في خطوات وئيدة ولكن ثابتة، وعندما استدعي إلي روما ليصبح إمبراطورًا -والحرب ما زالت مشتعلة- انتقلت مسئولية حصار أورشليم والاستيلاء عليها ابنه تيطس. ولا وجه للمقارنة بين النكبات الكثيرة التي حلت بالمدينة علي مدي تاريخها الطويل، وتلك النكبات التي حلت بها في هذا الحصار المريع. لم تكن المدينة- في أي وقت من الأوقات- بمثل تلك الروعة، كما لم تكن تحصيناتها بمثل تلك القوة، أو عدد سكانها بمثل تلك الكثرة. وكان الوقت عيد الفصح، وبالإضافة إلي الجمهور الذي احتشد فيها لهذه المناسبة، فإن أعداد غفيرة قد هرعت إلي هناك هربًا من الجيش الروماني الزاحف، فكانت الخسائر في الأرواح فادحة، وقد قدر اللاجئون إلي تيطس، عدد القتلى بستمائة ألف نسمة، ولكن يبدو أنه عدد مبالغ فيه.
(48) انقسام الأحزاب داخل الأسوار المحاصرة: بدأ الحصار في الرابع عشر من شهر نيسان في 70 م. وانتهي في الثامن من أيلول أي أنه استمر 134 يومًا، استشرت فيها الانقسامات الداخلية بين الأحزاب، واشتدت الخصومات، وقد أشرف سمعان علي المدينتين العليا والسفلى، ويوحنا- من جسكالا- علي الهيكل والقلعة، ودافع الأدوميون- الذين جاء بهم الغيورون- عن أنفسهم فحسب، فأعفوا المدينة مما كانوا يسببونه لها من رعب. وكانت هناك جماعة أخري- أضعف من أن تجعل لرأيها اعتبارًا- تسعى للسلام مع روما، وهي سياسة لو كانت قد جاءت في وقتها المناسب، لوجدت في تيطس روح التعقل والرحمة. إن مآسي الحصار وهلاك النفوس والممتلكات، كانت من فعل اليهود أنفسهم بقدر ما كانت من فعل الغزاة. وفي اليوم الخامس عشر من الحصار اقتحم الرومان السور الثالث (سور أغريباس....) الذي كان قد أقيم علي عجلة عند تقدم الرومان، ثم اقتحموا السور الثاني في اليوم الرابع والعشرين، وفي اليوم الثاني والسبعين سقطت قلعة أنطونيا، وبعد ذلك باثني عشر يوما توقف تقديم الذبيحة اليومية.
(49) فتح المدينة وتدميرها نهائيًا: وفي اليوم الخامس بعد المائة- التاسع من شهر آب، اليوم المشئوم- اُحرق الهيكل والمدينة السفلى، ولم يأت اليوم الأخير إلا وكانت المدينة كلها شعلة من النيران، ولم يبق منها سوي أبراج هيرودس الثلاثة الكبيرة: هيبيكوس، وفارسئيل وماريامن مع السور الغربي، التي لم تحرق، وذلك لحماية معسكر الفرقة العاشرة التي تركت لحراسة الوقع، "لتكشف للأجيال القادمة عما كانت عليه المدينة وكم كانت حصينة". أما سائر المدينة فقد هدم إلي الأساسات.
(50) ثورة باركوكبا: خيم السكون طيلة 60 عامًا بعد سقوطها، ونعرف أن الموقع ظلت تحرسه حامية عسكرية، ولكن لم تتم إعادة بنائه بأي شكل. وقد زار هادريان الموقع في 130 م.، فلم يجد سوى القليل من المباني قائمًا فيها. وبعد ذلك بعامين (132- 135م) حدثت الانتفاضة العظيمة الأخيرة لليهود بقيادة "باركوكبا" (ابن الكوكب) بتشجيع من الربي "عقيبة". وبقمع يوليوس ساويرس لهذه المحاولة الأخيرة للتحرير، سحقت البقية الباقية من اليهودية، ويذكر التلمود الأورشليمي أن أنيوس روفوس قد حرث موقع الهيكل، وأقيم مذبح للإله جوبيتر في مكانه، ونُفي اليهود من أورشليم مع تهديد كل من يعود بالموت.
(51) هادريان يبني إيلياء كابيتولينا: وفي 138 م. أعاد هادريان بناء المدينة وأطلق عليها اسم إيلياء كابيتولينا. ولعل مسار السور الجنوبي لإيلياء قد حددته التحصينات الجنوبية للمعسكر الروماني الكبير علي التل الغربي (الجنوبي الغربي)، ويحتمل أنه كان المسار العام للسور الجنوبي القائم الآن. علي أي حال، نحن نعلم أن المنطقة التي يحتلها "قبر داود" كانت خارج الأسوار في القرن الرابع. وقد أقيم تمثال لهادريان علي صهوة جواد في موقع "قدس الأقداس" [جيروم في تفسيره لإشعياء (إش 2: 8؛ مت 24: 15)]. وتوجد كتابة منقوشة علي السور الجنوبي لمنطقة الهيكل يذكر فيها اسم هادريان، لعلها تعود إلي ذلك العهد. وقد اكتشفت في المنطقة المجاورة لأورشليم مؤخرًا، رأس حجرية لعلها كانت جزءًا من تمثال هادريان. ولقد أقام هادريان نفسه، أو واحد من الأباطرة الأنطونيين، هيكلًا لفينوس علي التل الشمالي الغربي، حيث بعد ذلك كنيسة القبر المقدس (يوسابيوس: حياة قسطنطين- المجلد الثالث: 36). وعادة الحج إلي الأماكن المقدسة، التي يبدو أن جذورها تمتد إلي القرن الثاني، يبدو أنها قد ازدهرت جدًا في القرنين التاليين، وفيما عدا ذلك لا نعرف سوى القليل عن المدينة في تلك الفترة.
(52) قسطنطين يبني كنيسة انستازيس: وفي 333 م، وبأمر من قسطنطين بدأ العمل في بناء كنيسة انستازيس (القيامة) الجديدة فوق الموقع الذي يظن أنه القبر المقدس، والتقاليد المتعلقة بهذا الموقع وبالصليب المقدس الذي يزعمون أنهم وجدوه هناك، هذه التقاليد قد دونت في وقت لاحق لهذه الأحداث، ويحوم الشك حول صحتها. ولابد أن البناء كان رائعًا وكان يغطي منطقة أكبر من المنطقة التي تغطيها الكنيسة الحالية. ويقال إن جوليان حاول في 362م. أن يعيد بناء الهيكل، ولكن انفجارًا أوقف العمل، وهي رواية مشكوك فيها.
وفي تاريخ - لا يعرف علي وجه اليقين - قبل 450 م، أدخلت "كنيسة جبل صهيون المقدس" داخل الأسوار، كما يذكر يوخاريوس الذي كتب في المدة من 345- 350م. مبينًا أن دائرة الأسوار تضم الآن جبل صهيون الذي كان -من قبل- خارج الأسوار، والذي يقع علي الجانب الجنوبي ويشرف علي المدينة كأنه "قلعة". ويحتمل أن يكون ذلك من عمل الإمبراطور فالنتنيان الذي نعلم أنه قام ببعض التعديلات في الأسوار.
(53) الإمبراطورة يودوكسيا تعيد بناء الأسوار: وفي 450 م. أقامت الإمبراطورة يودوكسيا - ارملة ثيودوسيوس الثاني- في أورشليم، وأعادت بناء الأسوار في مواقعها القديمة، وأدخلت كل التل الجنوبي الغربي بالإضافة إلي بركة سلوام، داخل دائرة المدينة. وإدخال البركة داخل الأسوار، وقد وصفه الشهيد أنطونيوس في 560 م، وأيده ما قام به "بليس" من تنقيب. كما بنت كنيسة القديس استفانوس والكنيسة التي عند بركة سلوام وغيرها.
(54) جستنيان: وقد أقام الإمبراطور جستنيان- الذي لعله أعظم البناة المسيحيين- كنيسة عظيمة هي كنيسة القديسة مريم والتي يرى بعض التُّقاة أن بقاياها داخلة الآن في المسجد الأقصى. كما بني كنيسة "القديسة صوفيا" في "البراتوريوم" وهو الموقع الذي كانت تحتله قلعة أنطونيا. وبنى أيضا مستشفي غربي الهيكل. ويبدو أن موقع الهيكل نفسه ظل أطلالًا حتى القرن السابع.
(55) خسرو الثاني يفتح المدينة: وفي 614 م. فتح خسرو الثاني الفارسي فلسطين وقد تهدمت كنائس أورشليم بما فيها كنيسة القبر المقدس، مما مهد الطريق أمام المهندسين المسلمين- بعد ذلك بنحو نصف قرن- لاستخدام الكثير من أعمدة الكنائس المنهدمة في بناء "قبة الصخرة".
(56) هرقل يدخل المدينة منتصرًا: وفي 629م. عقد هرقل صلحًا مع خلفاء خسرو الثاني، ودخل أورشليم منتصرًا حاملًا معه بعض شظايا الصليب التي كان قد أخذها خسرو، ودخل المدينة عبر "البوابة الذهبية" والتي يعتقد الكثيرون بحق أنها وصلت إلي شكلها الحالي نتيجة الإصلاحات التي قام بها هرقل.. ولكن هذا الانتصار لم يكن إلا لفترة قصيرة، فقبل ذلك بسبع سنوات حدثت الهجرة من مكة إلي المدينة، وفي 637 م. وصل المسلمون المنتصرون إلي المدينة المقدسة.
(57) عدالة عمر: استسلمت المدينة بعد حصار قصير، وعامل الخليفة عمر بن الخطاب المسيحيين معاملة كريمة، فاستثنيت الأماكن المسيحية، ولكن أقيم مسجد خشبي فوق موقع الهيكل، والذي لم يكن حتى ذلك الوقت قد أقيمت عليه مبان مسيحية ذات أهمية، ولكن كانت له قداسة خاصة عند المسلمين مرتبطة بقصة الإسراء والمعراج، وكان هذا المسجد الخشبي يتسع لثلاثة آلاف من المصلين. ثم بني الخليفة العاشر عبد الملك في 691 م. في نفس المكان المسجد الفخم "قبة الصخرة". ظلت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين علاقة صداقة ومودة علي مدي قرون. وكتب المؤرخ "المقدسي" في 985م. أن المسيحيين واليهود كانت لهم اليد العليا في أورشليم. وفي 969م. خضعت أورشليم لحكم الفاطميين في مصر. وفي 1010م قام الحاكم المصري المجنون "الحاكم بأمر الله" بإحراق الكثير من الكنائس، التي أمكن إعادة بناء بعضها بناء حقيرًا.
(58) الأتراك السلاجقة وفظائعهم: وفي 1077 م. غزا الأتراك السلاجقة فلسطين من الشمال، وطردوا المصريين، وقتلوا ثلاثة آلاف من سكان أورشليم، وكانت فظائع الأتراك - علي النقيض من سلوك العرب المسلمين- هي السبب المباشر للحملات الصليبية. وفي 1098م. استعاد الفاطميون المدينة.
(59) استيلاء الصليبيين علي المدينة علي المدينة في 1099 م: وفي السنة التالية، استولت الحملة الصليبية الأولي علي المدينة بعد حصار دام أربعين يومًا، وأصبح "جودفري دي بويون" أول ملك، وقامت حركة بناء نشيطة في خلال الثمانين عامًا من السلام تحت حكم اللاتين، فبنيت كنائس عديدة، ولكن ظلت الأسوار مهملة حتى قرب نهاية تلك الفترة. وفي 1177 م. أعيد ترميمها، ولكن بعد عشر سنوات عجزت عن مقاومة أسلحة صلاح الدين الظافر، فاستسلمت المدينة، ولكنه عفا عن السكان. وفي 1192 م. رمم صلاح الدين الأسوار، ولكنها في 1219 م. جردت من وسائل الدفاع بأمر من سلطان دمشق.
وفي 1229 أخذ الإمبراطور الألماني فردريك الثاني المدينة المقدسة بناء علي معاهدة سلام بشرط أن لا يعيد التحصينات، وهو شرط قام السكان، بعد عشر سنوات، بنقضه، مما جلب عليهم نقمة أمير الكرك. وقد أعيدت المدينة مرة أخري للمسيحيين دون شرط وذلك في 1243 م.
(60) الخوارزميون : وفي السنة التالية تدفق التتار الخوارزميون- وهم قبائل بربرية عنيفة من وسط آسيا- علي فلسطين حاملين معهم الدمار والتخريب، فاستولوا علي أورشليم وقتلوا السكان ونبشوا قبور الملوك اللاتين. ولكن بعد ذلك بثلاث سنوات طردهم المصريون من فلسطين واحتفظوا بالسيطرة عليها حتى 1517 م.
(62) استيلاء الأتراك العثمانيين علي المدينة في 1517 م: ففي تلك السنة هزم الأتراك العثمانيون المصريين واستولوا علي الشام ثم علي مصر، وظلوا يسيطرون عليها حتى الحرب العالمية الأولي. وفي 1542م. بني السلطان سليمان العظيم- أعظم سلاطينهم- الأسوار الحالية. وفي 1832 م. استولت الجيوش المصرية في عهد محمد علي المدينة، ولكن بعد ذلك بعامين، قام الفلاحون بثورة ضد حكمه، واستولوا -بعض الوقت- علي المدينة فيما عدا القلعة. وقد دخلوا المدينة عبر المصرف الرئيسي، ولكن انفك الحصار عن القلعة بوصول إبراهيم باشا من مصر مع قوات عسكرية جديدة. ثم عاد الأتراك العثمانيون واستردوا المدينة بقوات عظيمة في 1840 م.
عاشرًا- أورشليم الحديثة: ظلت فلسطين بما فيها أورشليم في يد الأتراك العثمانيين حتى 1917 م. عندما دخلتها الجيوش الإنجليزية وأنهت الحكم التركي في الشام. وفي الثاني من نوفمبر أصدرت الحكومة الإنجليزية "وعد بلفور" بخصوص إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فبدأ اليهود يتدفقون علي فلسطين من كل بلاد العالم، وبخاصة بعد أن وضعت عصبة الأمم فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي. وقد بذلت جهود كثيرة لحل المشكلة التي ذاد من تعقيدها الحكم النازي في ألمانيا، حيث زادت هجرة اليهود الأوربيين إلي فلسطين. وفي 1947 م. أعلنت انجلترا عن عزمها علي إنهاء انتدابها علي فلسطين في 15 مايو 1948 م، وفي ذلك التاريخ أعلن اليهود قيام دولة إسرائيل علي جزء من فلسطين، وهكذا انقسمت فلسطين ومعها أورشليم إلي قسمين بين الإسرائيليين والعرب، حتى قامت حرب1967م. فاحتل الجيش الإسرائيلي كل فلسطين. وتحاول إسرائيل جاهدة أن تجعل من أورشليم عاصمة لها، ولكن العالم يكاد يجمع علي مقاومة ذلك.
* انظر أيضًا: يهوه نسي، حفصيبة، السامرة، السبي البابلي (سبي بابل)، خراب أورشليم، وادي الرؤيا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/h3wgj3y