St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

672- هل حقًا أن يوحنا الإنجيلي لم يأتِ بجديد إنما أخذ فلسفة "اللوغوس" من الفلسفة اليونانية القديمة، فاستغل ثقافة عصره لنشر الإيمان المسيحي بين الشعوب اليونانية؟

 

س672: هل حقًا أن يوحنا الإنجيلي لم يأتِ بجديد إنما أخذ فلسفة "اللوغوس" من الفلسفة اليونانية القديمة، فاستغل ثقافة عصره لنشر الإيمان المسيحي بين الشعوب اليونانية؟

قال بعض النُقَّاد أن أول من استخدم تعبير "اللوغوس" في الأمور اللاهوتية هو "هيراقليطس" (535 - 470 ق.م)، الذي عاش في أفسس، تلك المدينة التي كتب فيها يوحنا الرسول إنجيله حول عقيدة ومفهوم اللوغوس. فقال النُقَّاد أن يوحنا الحبيب عندما تحدث عن "اللوغوس" لم يأتِ بجديد، بل أخذ فلسفة هيراقليطس، ومن هؤلاء النُقَّاد "ول ديورانت" الذي قال أن يوحنا أخذ من فلسفة هيراقليطس أن اللوغوس هو الكلمة الإلهية أو الحكمة المتجسدة التي خلق بها الله الأشياء ويحكمها (راجع حياة اليونان ص 268، 269، ودكتور موريس تاوضروس - اللوغوس مفهوم الكلمة في العهد الجديد جـ 1 ص 87). وقال "دكتور على سامي النشار" أن يوحنا الإنجيلي اعتنق آراء هيراقليطس وفيلون في اللوغوس، واستمر أثر هيراقليطس لدى المسيحيين الأوائل مثل يوستين وأكليمنضس السكندري كما أثر أكبر الأثر في أوريجانوس (راجع هيراقليطس فيلسوف التغيُّر ص 273 - 275).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: يدور محور السؤال حول: هل حقًا أخذ يوحنا الإنجيلي "مفهوم اللوغوس" من هيراقليطس وفيلون؟

1- نحن نؤمن أن القديس يوحنا مثله مثل بقية كُتَّاب الأسفار المقدَّسة، كتب إنجيله وسفر الرؤيا ورسائله الثلاث بالوحي الإلهي: "لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ الله الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بط 1: 21). فهل من يرشده روح الله القدوس يحتاج أن يقتبس من فلان أو عِلَّان؟!! الروح القدس هو الذي وضع في قلب كل كاتب من كتبة الأسفار المقدَّسة أن يكتب، وضع في قلبه الدافع للكتابة، وصاحبه أثناء الكتابة لم يتخلَ عنه لحظة، كان يرشده وينير ذهنه ويوحي له بما يكتبه وبما لا يكتبه دون أن يلغي شخصيته ولا ثقافته ولا علمه، ولم يمنع الوحي الإلهي الكاتب من الاستعانة بكل ما هو حق وما هو صحيح من معارف عصره، وفي نفس الوقت كان يعصمه من أي خطأ يمكن أن يتعرض له، فما جاء في الأسفار المقدَّسة هو كلام الله الذي عبر بالذهن البشري، فاكتسب ثقافة وعلم وأسلوب وشخصية الكاتب (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) من س38، س39، س40، س41). وبلا شك أن المسيحية لم تأتِ لترفض كل الفلسفات بما فيها من حق وباطل، فكيف ترفض أي حق ولو كان يسيرًا لمجرد أن نطق به السابقون؟!! لقد غربلت المسيحية ما هو سائد من عقائد وفلسفات وقبلت ما فيها من حق، فمثلًا لم ترفض أفكار وجود الله الصالح، وضرورة عبادته، والقيامة العامة، والدينونة، والحياة الأخرى، والثواب والعقاب لمجرد أن قال بها الأولون. أن الله: "صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ" (جا 3: 11). لقد جبل الله الإنسان، أي إنسان، وكل إنسان على صورته ومثاله، فدائمًا وأبدًا نجد الصورة تسعى نحو الأصل.

ويقول "القمص تادرس يعقوب" عن يوحنا الرسول: "إنما غايته تقديم الحق الإنجيلي الإلهي. لا يعني أن هذا الحق يرفض ويقاوم كل الفلسفات، إنما يغربلها ويرفض ما فيها من باطل. وقد انبرت مدرسة الإسكندرية خاصة في عصر القديس أكليمنضس السكندري تكشف عن إمكانية التزاوج بين الإيمان الحي والفلسفة بما فيها من حق، وليس بما أفسده الإنسان من أوهام وخيالات" (277)... أليس هذا منهج بولس الرسول أيضًا في لقائه مع الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين في "أريوس باغوس" في أثينا معقل الفلسفة وحصن الحضارة عندما استغل فرصة إقامتهم مذبحًا كتبوا عليه عبارة " لإِلهٍ مَجْهُول" (أع 17: 23)، ليبشرهم بيسوع المسيح، وخاطبهم قائلًا: "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ" (أع 17: 28).

 

2- يجب أن ندرك أن الله فوق الأسماء. قال القديس أكليمنضس كل اسم أُطلق على الله مثل "الواحد أو الصالح أو العقل أو الوجود أو الآب أو الله أو الخالق أو الرب" مثل هذه كلها أسماء غير دقيقة لأنها لا يمكن أن تصف الأبدي. فهذه الأسماء أُعطيت لنا من أجل قصورنا حتى نقدر أن ندرك سلطانه (راجع القمص تادرس يعقوب - آباء مدرسة الإسكندرية الأولون ص 91). ويقول "الشهيد يوستين": "لا يليق أن يُطلق على الله أبي الكل اسمًا مختلفًا لأنه (أي الله) غير مولود، لأن كل من له اسم فقد أُعطي له من شخص يكبره سنًا. أن كلمات: الآب، واللَّه، والخالق، والرب، والسيد، ليست أسماء حقيقية بل ألقاب مستمدة من أعماله الصالحة. ولكن ابن الله هو وحده الذي يُدعى بالحقيقة ابنه، وهو الكلمة الذي كان معه (أي مع الله الآب) والذي وُلِد منه قبل كل المخلوقات" (الدفاع الثاني ف 6) (278).

 

St-Takla.org Image: Saint John the Evangelist, and his symbol: the eagle. - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695. صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الإنجيلي ورمزه: النسر.: (يوحنا ) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1695 م.

St-Takla.org Image: Saint John the Evangelist, and his symbol: the eagle. - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695.

صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الإنجيلي ورمزه: النسر.: (يوحنا ) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1695 م.

3- تعبير "اللوغوس" (الكلمة) كان معروفًا جدًا للقديس يوحنا الحبيب بحسب الفكر الأرامي، وهو "الميمرافيوحنا الرسول بحكم يهوديته يدرك أن "الميمرا: شخص ذو عقل وإرادة وعاطفة، كائن منذ الأزل، يتمايز في أقنوميته عن أقنوم الآب، هو الخالق، الشافي، الذي يحفظ ويخلص، هو حكمة وقوة ومجد الله الآب، يشير أحيانًا للكلمة التي تفوه ونطق بها الله، ويشير أحيانًا إلى ذات الله. فيوحنا الإنجيلي لم يأخذ تعبير اللوغوس من الفلاسفة اليونانيين، إنما هو يعرف جيدًا "الميمرا" الذي يتردد اسمه كثيرًا في العبادات في الهيكل والمجامع عبر الترجومات المستخدمة في العبادات. يوحنا يعرف ويدرك "الميمرا" أكثر من إدراك أي فيلسوف يوناني. جميع الآيات التي تخبرنا عن "كلمة الله" كانت تلمع أمام عيني يوحنا، مثل كون الكلمة شخص (إش 55: 11)، وأزلية أقنوم الكلمة (أم 8: 22 - 30؛ سي 1: 5)، وتمايز أقنوم الكلمة عن أقنوم الآب (إش 48: 16)، و"كلمة الله" هو الخالق (مز 33: 6)، وهو الشافي (مز 107: 20)... إلخ. وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل، فيُرجى الرجوع إلى س 668.

 

4- تعرَّف يوحنا الحبيب على "اللوغوس" عن قُرب، فقد عاشر السيد المسيح بالجسد طوال سنوات التلمذة، فأكل وشرب معه، وتتلمذ على يديه، وعاش يوحنا طوال حياته متعبدًا له. فعندما كتب يوحنا عن "اللوغوس" كتب عن خبرة عملية وليست نظرية. لنصغى إلى أقوال الحبيب عن "اللوغوس": "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو 1: 14)... " الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا" (1يو 1: 1). فإنجيل يوحنا يحمل الطابع التاريخي الحي، فهو يقف على أرض صلبة، فطالما استند الكاتب على صدر من يكتب عنه، وعاين مجده، عيناه كلهيب نار " وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ الله. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ" (رؤ 19: 13، 16).

وجاء في "دائرة المعارف الكتابية": "فليس من الصواب أن نأتي بعقيدة "اللوجوس" لتفسير الإنجيل الرابع وشرحه، وأن ننظر إلى كل وقائع الإنجيل على أنها مجرد توضيحات لهذه العقيدة، بل الصحيح هو عكس ذلك تمامًا، لأن عقيدة "اللوجوس" ليس لها كيان أو واقع حي بعيدًا عن الحياة الشخصية (للسيد المسيح) التي كانت ظاهرة أمام الرسول... ويمكننا أن نفهم تعليم "اللوجوس" عندما ننظر إليه في ضوء هذه الوقائع المسجلة في الإنجيل، تلك الوقائع التي أعانت القديس يوحنا في معاينة مجده، ولا يمكننا أن نفهم هذه الوقائع إن كنا ننظر إليها فقط على أساس أنها إيضاحات فلسفية مجردة. وبالإيجاز، أن الإنجيل الرابع إنجيل واقعي، وليس إنجيلًا تجريديًا، أنه ليس تطورًا لنظرية أو محاولة إثباتها، ولكنه محاولة لرسم صورة لشخصية واقعية، للتعبير بكلمات مناسبة عن دلالة تلك الشخصية كما أصبح يوحنا يراها" (279).

ويقول "الأب متى المسكين": "لقد أستعلن المسيح ذاته ليوحنا عن قُرب، فأدرك يوحنا أنه هو الله متجسدًا، وأدرك سر أقنومه كابن قائم في حضن الآب... أدرك فيه اللوغوس في البدء، وابن الإنسان جالسًا عن يمين العظمة في السموات. لما يتكلم القديس يوحنا عن اللوغوس فإن نظره لا يغيب عن المسيح ولا لحظة واحدة، ولما كان يصف أعمال المسيح وأقواله كان اللوغوس حاضرًا في ذهنه لا يفارقه. حينما بدأ القديس يوحنا يشخص في اللوغوس الأزلي في البدء، كان نور المسيح الذي يملأ ذهنه والمالئ للعالم حاضرًا... حينما قال عن اللوغوس أن فيه كانت الحياة، كان كلام المسيح يرنُّ في قلبه: "اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو 6: 63)... وعندما قال: "وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو 1: 4)، كان يشير إلى قول المسيح: "مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ" (يو 8: 12)" (280). كما يقول "الأب متى المسكين": "القديس يوحنا لم يستلف اللوغوس من اليونان... ولا تعلمه على يد الغنوسيين أو ورثه عن فيلون، بل لوغوس القديس يوحنا هو "المسيح" وقد أدركه القديس يوحنا من أقواله وتعليمه ثم استلمه بالرؤيا وتكلم عنه كما يتكلم الإنسان عن شخص يراه" (281).

ويقول "وليم باركلي": "وهكذا كان الكلمة في الفكر اليوناني قوة الله الخالق، والمسيطر والمُرشد والحافظ، والمسير لكل ما في الوجود... فأتى يوحنا في بشارته وقال لليونانيين: أنكم لأجيال طويلة كنتم تفكرون في الكلمة، وتكتبون عن الكلمة وتحلمون عن الكلمة القوة الخالقة لهذا الكون، والقوة الحافظة والمسيرة لهذا الوجود، والقوة العاقلة المفكرة في قلوب الناس، والقوة الروحية المُلهمة لكل ما هو سام، ورفيع في الحياة، وها هو اللوجوس كلمة الله، وفكر الله قد تجسَّد إلى العالم في شخص يسوع المسيح: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا". وهكذا استطاع اليهود واليونانيين على السواء أن يصلوا إلى إدراك معنى اللوجوس - كلمة الله - وفكر الله، وعقل الله، الذي أبدع هذا الوجود، والذي أعطى لكل شيء معناه" (282). ويقول "الدكتور القس حنا جرجس الخضري": "وكأني بيوحنا يخاطب معاصريه وخاصة اليونانيين بالقول: أيها القوم أن فلاسفتكم يبحثون في دراساتهم وفلسفتهم عن "اللوغوس" لكي يعرفوا من هو وأين يوجد وماذا يعمل؟ وها أنا آتٍ إليكم لأكلمكم عن اللوغوس الحقيقي، لأني أعرفه بل تقابلت معه شخصيًا وأريد أن أقدمه إليكم (أع 17: 22 - 31). أن اللوغوس الذي يحلم فلاسفتكم بأنه بعيد كل البُعد عن البشر ويختلف عنهم الاختلاف كله، قد جاء إلى أرضنا وسكن بيننا، بل صار إنسانًا مثلنا: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا "..." (283).

فأقصى ما يمكن أن نقوله أن يوحنا الإنجيلي أخذ من معارف عصره تعبير "اللوغوس". أخذ الكلمة في مبناها، وليس في معناها، أخذ التعبير "اللوغوس" وأوضح معانيه الحقيقية التي تتعارض مع الفكر الفلسفي اليوناني، فيقول "يوسف درة الحداد": "أجل يستخدم الإنجيل بحسب يوحنا تلك التعابير الهلنستية، لكن بلفظها، لا بمعناها الهلنستي. لقد أقتبس من الهلنستية ومن فيلون تعبير "الكلمة" (اللوغوس) لأنه رأى فيه التعبير الذي يستوعب سر المسيح. لكن شتان ما بين معناه عندهم، ومعناه في الإنجيل. أن "لوغس" عندهم هو العقل المدبر الكامن في الكون، بينما هو عند يوحنا "نطق" الله الذاتي، من ذات الله، في ذات الله، لذات الله. و"الكلمة" عندهم أول خلق الله، بينما هو عند يوحنا مصدر خلق الله: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ "فالآية ترد عليهم" (284).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

5- قد يتساءل البعض: ألم يستخدم يوحنا الإنجيلي بعض المفردات التي شاعت في الفلسفة الهلينية مثل "النور"، و"الحياة"، و"الحق"؟ والحقيقة أن يوحنا الحبيب استخدم هذه المفردات لأن السيد المسيح هو الذي أعلن عن ذاته بمثل هذه الصفات، فمثلًا:

أ - عندما قال يوحنا الحبيب عن "اللوغوس": "وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ... كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ" (يو 1: 5 - 9)، فذلك لأن السيد المسيح قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يو 8: 12)... " مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ" (يو 9: 5).

ب - عندما قال يوحنا الحبيب عن "اللوغوس": "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو 1: 4)، فذلك لأن السيد المسيح قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يو 11: 25).

جـ - عندما قال يوحنا عن "اللوغوس": "أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يو 1: 17)، فذلك لأن السيد المسيح قال عن نفسه: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يو 8: 32)... " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6). هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الوحي الإلهي يقدم من خلال إنجيل يوحنا المسيحية للمثقف اليوناني الذي يعرف فلسفة اللوغوس ويفهم تلك المصطلحات الهلينية، وبذلك سهل الطريق للأمم لقبول الإيمان، وهذا ما فعله بولس الرسول، منقادًا بالروح القدس، في أثينا (أع 17: 15 - 33)، فسواء يوحنا الإنجيلي أو بولس الرسول أو غيرهما لم يرفض ما هو حق من معارف عصره، إنما رفض كل ما هو باطل. وما أجمل قول بولس الرسول: "فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ..." (1كو 9: 20 - 22)... كان اسم الله "إيل" معروفًا لدى الكنعانيين وكان لديهم "بيت إيل" وجاء موسى النبي واستخدم نفس اللفظ، ولكن مع اختلاف المعنى، فبنوا إسرائيل آمنوا بألوهيم السرمدي خالق كل شيء مالئ كل مكان وزمان، الواحد الذي لا شريك له في الربوبية، فتمسكوا بمبدأ الوحدانية المُطلقة (خر 20: 2-3؛ إش 43: 10-11؛ 45: 21)، أما بقية الشعوب فكان إيل بالنسبة لهم إله من آلهة عديدة مثل بعل وعناة وعشتاروت... وقد سبق لنا مناقشة هذا الموضوع والرد على القائلين كيف يستخدم موسى اسم "إيل" الذي كان شائعًا لدى الشعوب الوثنية؟ فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم جـ 4 س 295. وبنفس القياس لم ترفض المسيحية الألحان الراقية من التراث الشعبي، إنما استخدمتها مع تغيير كلماتها، واحتفظت باحتفالات بعض الأعياد مع تغيير أسمائها ومعانيها.

 

6- إن كان "فيلون" الفيلسوف اليهودي السكندري في النصف الأول من القرن الأول الميلادي حاول أن يقدم الإيمان اليهودي في ضوء الفلسفة اليونانية، وكان قد تأثر بالفلسفة الأفلاطونية، فإن يوحنا الرسول لم يتأثر لا بأفكار فيلون ولا أفكار أفلاطون ولا أفكار غيرهما، بل قدم مفاهيم لم يحلم بها لا هيراقليطس ولا أفلاطون ولا زينون ولا فيلون، مثل تجسد اللوغوس: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدا" (يو 1: 14). يقول "فهيم عزيز": "هناك أمران يفرقان ما بين يوحنا وفيلو وهما: أولًا: أن فيلو لا يعتقد بأن اللوغوس شخصية ولكنه فكرة في عقل الله وكلمة يقولها، أما القديس يوحنا فيقول أن اللوغوس شخصية، أنه كان عند الله. والفرق الثاني: مبني على الأول وهو أن اللوجوس صار جسدًا، وها ما لا يمكن أن يتخيله فيلو. أن الشيء الذي يشترك فيه يوحنا وفيلو هو أن كل منهما يرجع إلى العهد القديم ويستمد منه صور تفكيره. لكن فيلو حاول أن يحوّل العهد القديم عن طريق التفسير المجازي إلى جزء من الفلسفة اليونانية، بينما فسر القديس يوحنا العهد القديم كما فسرته كل الكنيسة الأولى، في ضوء المسيح المتجسد" (285).

أيضًا الفلسفة الرواقية التي كان لها وجودها في القرن الأول، والتقى بولس الرسول بفريق منهم في أثينا، وكان لهم تواجد في أفسس، كانوا يؤمنون بأن الله متغلغل في الكون كله (وحدة الوجود) فاللوغوس هو النفس الكلية، وهو أيضًا الكون كله، وعلى النفس البشرية التي تنشد الحياة الفضلى أن تتوافق مع النفس الكونية، أي مع اللوغوس، بينما رفض "فيلون" كيهودي مبدأ "وحدة الوجود" أن كل شيء هو الله، واللَّه هو كل شيء فهو حال في الكون وفي الإنسان، أما يوحنا الإنجيلي فأوضح أمرين أولهما أن اللوغوس هو الله " وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله" (يو 1: 1)، وثانيهما التجسد الإلهي " وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا"، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد لمبدأ "وحدة الوجود". وقد أوضحنا من قبل أن القديس يوحنا لم يأخذ عقيدة اللوغوس من هيراقليطس (راجع س 659)، ولا من فيثاغورث (راجع س 660)، ولا من سقراط (راجع س 661)، ولا من أفلاطون (راجع س 662)، ولا من الرواقيين (راجع س 665)، ولا من فيلون (راجع س 666)، (راجع أيضًا س 669).

ويقول "دكتور موريس تاوضروس": "بلا شك، فإن القديس يوحنا في تلقيبه للسيد المسيح باللوغوس، قد استعمل الاصطلاحات التي سادت في ذلك العصر، وفي إقامته في أفسس... ولكن أليس من الصواب أن يُقال أن القديس يوحنا استعمل كلمة "لوغوس" لكي يقدم المفهوم السليم عن طبيعة الله وعن علاقته بالعالم، وصحح النظريات الخاطئة التي سادت في عصره عن مفهوم العلاقة بين غير المحدود وبين المحدود، أو بين الله والعالم؟ أن تعاليم القديس يوحنا عن اللوغوس، تختلف عن فلسفة فيلون ولا تستند إليها. والاختلافات بينهما واضحة جلية. وإذ كان حقًا أن كلا الاثنين يستعملان نفس اللفظ، لكن مفهوم اللفظ عند كل منهما يغاير مفهومه عند الآخر. أن اللوغوس عند يوحنا هو شخص، يشعر بذاته، بينما هو عند فيلون لا شخصي. وتحت تأثير الفكر اليهودي، يدعو فيلون اللوغوس بالملاك الرئيس، وتحت تأثير الفكر الأفلاطوني يدعو مثال المثل. وتحت تأثير الرواقيين يدعوه " العقل اللاشخصي". ومن المشكوك فيه أن يكون فيلون قد تصوَّر اللوغوس كشخص... عند فيلون أكثر من ذلك، فإن وظيفة اللوغوس تنحصر في خلقة العالم وفي الحفاظ عليه، فهو لم يربطه أو يوحده بالمسيا. لقد كانت نظرية فيلون إلى حد كبير استبدالًا فلسفيًا للرجاء المسياني. وربما يكون قد أدرك أن اللوغوس عنده مبدأ عام، أما عند القديس يوحنا، فإن المسيا هو اللوغوس نفسه، يوحّد نفسه مع الإنسانية ويتجسَّد ليُخلص العالم" (286).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

وقد ارتبطت عقيدة "اللوغوس" بعقيدة "الثالوث القدوس"، فاللوغوس هو أقنوم الكلمة، أقنوم الحكمة، هو نطق الله العاقل وهو عقل الله الناطق، هو الابن الوحيد الجنس، هو صورة الآب غير المنظور، هو " بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عب 1: 3)، هو من ذات طبيعة الله، ومن ذات كيانه وجوهره، هو واحد مع الآب في الجوهر، هو الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، يتمايز عن أقنوم الآب، ولذلك قال الإنجيل " وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله" (يو 1: 1)، وهو يتمايز أيضًا عن الروح القدس... إلخ.، فأين كل هذا من الفكر الفلسفي اليوناني؟!!

الفكر اليوناني السائد أن "اللوغوس" ليس هو الله، بل كائن وسيط بين الله والعالم، وهو مخلوق أدنى من الله وأسمى من المخلوقات، بينما في الفكر الإنجيلي واضح تمامًا أن "اللوغوس" هو الله " وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله" (يو 1: 1)، خالق كل شيء (يو 1: 3، 10)، تجسد في ملء الزمان (يو 1: 14)، فأتخذ طبيعة بشرية اتحد بها، وظلت كل طبيعة من الطبيعيتين اللاهوتية والناسوتية محتفظة بخصائصها:

" لم يزل إلهًا... آتى وصار ابن بشر... لكنه هو الإله الحقيقي... آتى وخلصنا" (من ثيؤطوكية الخميس)...

يقول "دكتور موريس تاوضروس": "ونحن هنا نقوم بمقارنة بسيطة القصد منها أن نثبت أن الرسول يوحنا لم يأخذ تعليمه عن اللوغوس من الفلسفة اليونانية، فالإنجيل ليس كتابًا بشريًا، نبحث عن أصوله في الفكر البشري، بل هو كتاب إلهي مصدره الله والوحي السماوي الشيء الأساسي والمهم في عملية التفرقة أن يوحنا عندما يتكلم عن اللوغوس يتكلم عن شخص، عن الأقنوم الثاني، عن الإله المتأنس، عن الكلمة المتجسد الذي عاش بيننا ورأينا مجده، أحبنا وأحببناه وتكلمنا معه وسمعناه يكلمنا. فنحن أمام كائن حي. أما في الفلسفة اليونانية سواء عند هيراقليطس أو عند الرواقيين أو عند فيلون، فاللوغوس ليس شخصًا ولا كيانًا مشخَّصًا. هناك في الفلسفة اليونانية مبدأ عقلي. مجرد قانون عقلي، فما أبعد الفرق بين الاستعمالين" (287).

ولو أن يوحنا الحبيب أخذ من الفكر اليوناني فلماذا لم يأخذ منهم تعدد الآلهة، أو أن المادة شر وخطية، أو تناسخ الأرواح، أو جواز الانتحار... إلخ.؟!!... الحقيقة أنه قبل أن يكتب القديس يوحنا إنجيله، كان للفلسفة اليونانية بريقها وجاذبيتها، وسَبَت الغنوسية العقول. ولكن بعد أن كتب يوحنا اللاهوتي إنجيله، وبعد أن مرت الأيام والسنون ثبت إنجيل يوحنا وزالت جميع الأفكار المضادة له، من أفكار الفلسفات اليونانية، ومن الأفكار الغنوسية التي بدأت كقصص خيالية وخرافات، ولاسيما بعد اكتشاف مخطوطات مكتبة نجع حمادي الغنوسية وظهور عدد من أناجيل أبوكريفا مثل "إنجيل الحق" و"إنجيل الطفولة"، و"إنجيل توما".

شكرًا لإلهنا الصالح الذي آتى بنا إلى هذه الساعة، وبنعمته نستكمل البحث عن النقد الكتابي في إنجيل يوحنا في الجزء التاسع من هذه السلسلة، ملتمسًا منك أيها القارئ العزيز صلواتك عن ضعفي.

 ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين،،،

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ملاحظات:

1- قد يكون هناك بعض الاختلافات في بعض صفحات الشواهد، بسبب تعدد الطبعات، أو اختلاف الصفحات بين ما هو مُتاح على الإنترنت وبين الطبعات الورقية.

2- مراجع هذا الكتاب بالجزء الثاني من إنجيل يوحنا.

 

نورث كارولينا في 9 فبراير 2025م

عيد الأنبا بولا أول السواح

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(277) الإنجيل بحسب يوحنا جـ 1، ص23.

(278) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - القديس إيرينيئوس - ضد الهرطقات جـ 1، ص116.

(279) دائرة المعارف الكتابية جـ 1، ص478.

(280) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص187، 188.

(281) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص195.

(282) شرح بشارة يوحنا جـ 1، ص49.

(283) تاريخ الفكر المسيحي المجلد الأول، ص393.

(284) صوفية المسيحية 1- الإنجيل بحسب يوحنا، ص77.

(285) المدخل إلى العهد الجديد، ص572.

(286) اللوغوس مفهوم الكلمة في العهد الجديد، ص92، 93. 

(287) تفسير الإنجيل للقديس يوحنا جـ 1، ص108.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/672.html

تقصير الرابط:
tak.la/mx79y8z