ج: مفهوم "اللوغوس" في الفكر الإنجيلي: وهذا واضح فيما سجله القديس يوحنا في صدارة إنجيله، حيث تلاحظ الآتي:
1- دعى يوحنا الرسول أقنوم الكلمة "اللوغوس" أي النطق الذي يعبر عن فكر وحكمة وعقل الله، هو الفكر المنطوق الذي بدونه لا ندرك العقل، فلا يمكننا أن ندرك العقل بدون النطق، فلو أنك التقيت بإنسان صامت فكيف تعرف تفكيره وعقله وحكمته وذكائه وفطنته؟! أقنوم اللوغوس هو الذي يُعرِفنا بالآب: "الله لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو 1: 18)، فبدون أقنوم الكلمة نعجز تمامًا عن معرفة الله الآب، وهذا ما ذكره إشعياء النبي في معرض حديثه عن يوحنا المعمدان، فقال: "فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ" (إش 40: 5)، ففي التجسد الإلهي أُعلن مجد الله الآب، وقال السيد المسيح لفيلبس " اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ" (يو 14: 9)، وقال بولس الرسول أن الله الآب " كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ" (عب 1: 2)، اللوغوس هو نطق الله العاقل أو عقل الله الناطق.
2- "اللوغوس" أزلي بأزلية الآب، هو كائن منذ الأزل مع الآب والروح القدس: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ" (يو 1: 1)، و" الْبَدْءِ" هنا الذي ليس قبله بدء، أي الأزل، وعندما ادعى "أريوس" أن أقنوم الكلمة مخلوق قال له البابا أثناسيوس بما معناه: هل تدرك يا أريوس ماذا تقول؟ بقولك أن الابن مخلوق، والابن هو عقل الله الناطق، فمعنى قولك أنه مرَّ وقت كان فيه الآب بلا عقل؟!! ويقول "البابا شنودة الثالث": "أن عبارة "الكلمة" تعني عقل الله الناطق أو نطق الله العاقل، فهي تعني العقل والنطق معًا... وطبيعي أن عقل الله لا ينفصل عن الله، واللَّه وعقله كيان واحد... ومادام المسيح هو عقل الله الناطق، إذًا فهو الله... وإذًا فهو أزلي، لأن عقل الله كائن في الله منذ الأزل... وإذًا فهو غير مخلوق، لأن المخلوق لم يكن موجودًا قبل خلقه، ومحال أن تقول هذا عن الله، وهل يعقل أحد أن الله مرَّ عليه وقت كان فيه بدون عقل؟ ثم بعد ذلك خلق لنفسه عقلًا! وبأي عقل يخلق لنفسه عقلًا؟! أن فهم الثالوث يعرّفنا أزلية الأقانيم الثلاثة، وأن أقنوم الكلمة من طبيعة الله ذاته، وكائن فيه منذ الأزل. وهكذا فإن الأقنوم الثاني، اللوغوس، الكلمة، هو أقنوم المعرفة أو العقل أو النطق في الثالوث القدوس، هو "الْمَسِيحِ الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كو 2: 3)، أو هو أقنوم الحكمة في الثالوث لذلك قال القديس بولس الرسول عن السيد المسيح أنه: "حِكْمَةِ الله" (1كو 1: 24) (275).
3- "اللوغوس" هو الله " وَكَانَ الْكَلِمَةُ" (يو 1: 1)، من نفس طبيعة الله الآب، وليس غريبًا عنه، ولا في رتبة أقل من رتبة الآب، هو مولود من الآب وليس مخلوقًا، ولادة النور من النور، وولادة الشعاع من الشمس، ليست ولادة جسدية حسية لحمية، بل ولادة روحية مستمرة منذ الأزل وإلى الأبد (راجع كتابنا: أسئلة حول حتمية التثليث والتوحيد، س 19).
![]() |
4- "اللوغوس" الذي خلق الله به كل شيء ما يُرى وما لا يُرى كقول الإنجيل: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يو 1: 3)... " كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ" (يو 1: 10)، وقال بولس الرسول: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ" (كو 1: 16)، كما قال عن الابن الكلمة: "الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ" (عب 1: 2)... " بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ الله" (عب 11: 3).
5- أقنوم الكلمة "اللوغوس" يتمايز عن الآب، فليس هو الآب، ولا هو الروح القدس (روح الآب والابن). والآب والابن (اللوغوس) والروح القدس لهم ذات الطبيعة الإلهيَّة الواحدة، ذات الكيان الإلهي الواحد، ذات الجوهر الإلهي الواحد، وهناك تمايز بين الآب واللوغوس والروح القدس، ولتسهيل المعنى نضع أمام أعيننا الشمس، فقرص الشمس يتولَد منه الشعاع وتنبثق منه أو تنبعث منه الحرارة، وكل منهم غير الآخر، فالشعاع ليس هو القرص ولا هو الحرارة، وكل منهم هو الشمس، فالقرص هو الشمس، والشعاع هو ذات الشمس، والحرارة كذلك هيَ ذات الشمس، لأنها شمس واحدة، وليست ثلاث شموس. ومن أجل أن كل أقنوم غير الآخر، لذلك قال الإنجيل " وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله" (يو 1: 1)، عند الله أو نحو الله، ليشير للتمايز بين اللوغوس وبين الآب، وعندما قال "عند" الله لم يكن يقصد مكان معين أو في زمن معين، لأن الله فوق المكان والزمان، فعلاقة اللوغوس بالآب منذ الأزل وإلى الأبد مستمرة بلا انقطاع، فاللوغوس كائن في الحضن الأبوي كل حين: "اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ" (يو 1: 18)... " الآبَ يُحِبُّ الابْنَ" (يو 5: 20)، والابن يحب الآب: "لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ" (يو 14: 31)، والروح القدس هو روح الحب، لهذا لا نستعجب عندما نرى الابن يخاطب الآب، والآب يجيبه: "أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضًا" (يو 12: 28).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
6- في ملء الزمان تجسَّد "اللوغوس" وتأنس: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو 1: 14)، فاتخذ اللوغوس طبيعة بشرية، جسدًا حقيقيًا ماديًا وروح بشرية، وهو ما عبَّر عنه بولس الرسول: "وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ الله ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ" (غل 4: 4). وهذا لم يرد في الفكر اليوناني ولا الفكر الغنوسي، فالفكر اليوناني نظر للجسد على أنه سجن وقبر للروح، والفكر الغنوسي نظر للمادة على أنها شر وخطية، وأن الله منزَّه عن الاتصال بالمادة. يقول "وليم باركلي": "هنا (في إنجيل يوحنا) يتقدم بالفكر الفريد الذي يبدو غريبًا كل الغرابة عن مفاهيم الفكر اليوناني، لقد قال أوغسطين، وهو حجة في الدراسات الفلسفية القديمة، أنه قرأ ودرس جميع الفلسفات التي تقدم بها كبار فلاسفة الوثنية، ولكنه لم يجد في واحدة منها كلمة توازي ما جاء في بشارة يوحنا، مع أن الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا، ولقد كان اليونانيون يعتقدون أن هذا هو المستحيل. فالشيء الوحيد الذي ما كان ممكنًا أن يحلم به يوناني أن يرى الله، وقد أخذ جسدًا، وحلَّ إنسانًا بين بني البشر فالجسد في الفكر اليوناني كان شرًا، سجنًا قُضي على النفس أن تبقى فيه لاختبارها وتصفيتها... قبرًا منتنًا كُتب على الروح أن تلازمه ردحًا من الزمن" (شرح بشارة يوحنا جـ 1 ص 88) (276).
7- ما سجَّله يوحنا الإنجيلي عن "مفهوم اللوغوس" يتوافق تمامًا مع ما جاء في العهد القديم ولاسيما في أسفار الحكمة، فاللوغوس هو "الميمرا" في الفكر العبراني كما رأينا من قبل (راجع س 668). وقد أورد "رندل هَرّس" Rendel Harris J. بعض ما أورده يوحنا الإنجيلي (يو 1: 1 - 14) وقابلها بما ورد في أسفار الحكمة:
أ - " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ" (يو 1: 1)، تقابل: "اَلرَّبُّ قَنَانِي (جعلني) أَوَّلَ طَرِيقِهِ" (أم 8: 22).
ب - " وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله" (يو 1: 1)، تقابل " كُنْتُ عِنْدَهُ" (أم 8: 30).
جـ - " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يو 1: 3)، تقابل: "وَفَاطِرَ الإِنْسَانِ بِحِكْمَتكَ" (حك 9: 2)... " كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا" (أم 8: 30)... " الرَّبُّ بِالْحِكْمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ" (أم 3: 19).
د - " فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو 1: 4)، تقابل: "مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ" (أم 8: 35)... فقال الكتاب عن أقنوم الحكمة " لأَنَّهَا ضِيَاءُ النُّورِ الأَزَلِيِّ" (حك 7: 26).
هـ - " وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يو 1: 5)، تقابل: "وَإِذَا قِيسَتْ بِالنُّورِ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ لأَنَّ النُّورَ يَعْقُبُهُ اللَّيْلُ أَمَّا الْحِكْمَةُ فَلاَ يَغْلِبُهَا الشَّرُّ" (حك 7: 29-30).
و - " كَانَ فِي الْعَالَمِ" (يو 1: 10)، تقابل: "إِنِّي خَرَجْتُ مِنْ فَمِ الْعَلِيِّ بِكْرًا قَبْلَ كُلِّ خَلِيقَةٍ وَجَعَلْتُ النُّورَ يُشْرِقُ فِي السَّمَوَاتِ عَلَى الدَّوَامِ وَغَشَّيْتُ الأَرْضَ كُلَّهَا بِمِثْلِ الضَّبَابِ" (سي 24: 5-6).
ز - " وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. جَاءَ إِلَى خَاصَّتِهِ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يو 1: 10-11)، تقابل: "لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي. بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي وَلَمْ تَرْضَوْا تَوْبِيخِي... لَمْ يَرْضَوْا مَشُورَتِي. رَذَلُوا كُلَّ تَوْبِيخِي" (أم 1: 24 - 30).
ح - " وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ الله" (يو 1: 12)، تقابل: "تَحِلُّ فِي النُّفُوسِ الْقِدِّيسَةِ فَتُنْشِئْ أَحِبَّاءَ للَّهِ وَأَنْبِيَاءَ" (حك 7: 27).
ط - " وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يو 1: 14)، تقابل: "وَالَّذِي حَازَنِي عَيَّنَ مَقَرَّ مَسْكَنِي وَقَالَ اسْكُنِي فِي يَعْقُوبَ" (سي 24: 12-13).
ى - " وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ" (يو 1: 14)، تقابل: "فَإِنَّ فِيهَا الرُّوحَ الْفَهِمَ الْقُدُّوسَ الْمَوْلُودَ الْوَحِيدَ... بُخَارُ قُوَّةِ الله وَصُدُورُ مَجْدِ الْقَدِيرِ الْخَالِصُ" (حك 7: 22 - 25). (راجع الأب متى المسكين - المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا ص 390، 391).
فواضح أن "اللوغوس" (السيد المسيح) هو صاحب هذه الأسفار المقدَّسة جميعها، فهو موجود داخل هذه الأسفار، وكون يوحنا الحبيب في معرض حديثه عن "اللوغوس" يلتقي مع هذه الأسفار المقدَّسة فهذا دليل على وحدة الوحي وترابط الأسفار، ونلاحظ أن النصوص تنتقل للحديث من الله إلى الحكمة، ومن الحكمة إلى الله، لأنها تتحدث عن أقنوم الحكمة، فاللوغوس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح هو "حِكْمَةِ الله" (1 كو 1: 24).
_____
(275) لاهوت المسيح، ص8، 9.
(276) أرده د. محمد على زهران - إنجيل يوحنا في الميزان، ص248، 249.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/671.html
تقصير الرابط:
tak.la/9w3q7b5