St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

665- كيف عاش "زينون" (336 - 264 ق.م) مؤسَّس الرواقية حياة الفضيلة ودعى إليها ثم أنهى حياته بالانتحار؟ وما هيَ أهم مبادئ الرواقيين؟ وما هو مفهوم "اللوغوس" لدي الرواقيين؟ وهل أخذ القديس يوحنا مفهوم "اللوغوس" من الرواقيين؟

 

ج: أولًا: Zeno زينون (336 - 264 ق.م): وُلِدَ "زينون بن أمناسياس" في "أكتيوم" بجزيرة قبرص من أصل فينيقي، وكان نحيفًا طويل القامة أسمر البشرة، حتى أنه لُقّب بالنخلة المصرية. كان أبوه تاجرًا ماهرًا يبحر إلى أثينا معقل الفلسفة وحصن الحضارة، يحرص على أن يحضر بعض الرقوق لابنه "زينون" الذي كان يُسر بها ويلتهمها قراءةً وفهمًا، وعندما شبَّ زينون اشتغل بالتجارة مثل أبيه، وفي سنة 312 ق.م حمل بضاعته من الأرجوان الفينيقي وأبحر إلى أثينا، ولكن هبت عاصفة هوجاء أطاحت بالسفينة وحطمتها ونجا هو ودخل أثينا، فاستهوته الفلسفة وأبحر في بحورها، وقال قولته الشهيرة: "لقد قمت بتجارة رابحة عندما غرقت سفينتي". استمع إلى "ثاوفراسطس" و"أقراطيس"، ثم أنشأ مدرسة في رواق من أروقة الأدب والشعر والفنون في أثينا، وهو الرواق المنقوش Stoa Poikile، فدُعى أتباعه بالرواقيين. وعاش حياة فاضلة، ونادى بالبعد عن الشهوات والملذات والأهواء، كما دعى إلى عدم المبالاة بالمتاعب والآلام، فهذا من قدر الإنسان، واحتماله لهذه المتاعب يجلب له الخير، وتعلَّم زينون أن يعيش عيشة الكفاف على الخبز مع قليل من العسل والتين والقليل من النبيذ. وقد اتهمه البعض بالشُح لأنه ليس له خادم يخدمه، وهو برئ من هذه التهمة بدليل أنه كان يقدم تعليمه مجانًا بلا أي مقابل، فقط عندما تزاحم عليه الشعب وأُنهكت قواه اضطر أن يأخذ مبلغ بسيط من كل طالب ليخفف حدة الزحام. ومن قناعة "زينون" أن صديقه "أنتيخونوس جوناثان" تولى عرش مكدونيا سنة 276 ق.م ودعى زينون إلى بلاطه، اعتذر وأرسل اثنين من تلاميذه، فضُرب به المَثَل في القناعة، فكانوا يقولون عن الشخص القنوع: "إنه أقنع من زينون". ولكن للأسف في شيخوخته ألم به شعور قوي بأن السماء تريده أن يموت، فانتحر سريعًا وأنهى حياته سنة 264 ق.م.

وبعد أن أنهى "زينون" حياته خلَّفه في رئاسة الرواق Cleanthes "كليانتس" (331 - 232 ق.م) ولأن إمكاناته كانت أقل كثيرًا من زينون لذلك تقهقرت المدرسة في أيامه، فقد كان كليانتس في البداية مصارعًا، وعندما جذبته الفلسفة ترك المصارعة وعمل خبازًا تارة، وتارة كان يروي الحدائق ليوفر نفقات المعيشة، ووصفه زينون قائلًا أن كليانتس مثل اللوح الصلب يصعب الكتابة عليه، ولكنه يحتفظ بالكتابة التي تُحفَر عليه طويلًا، وبسبب بطء فهمه وضعفه في الجدل، أطلقوا عليه لقب "الحمار"، والأمر العجيب أنه لم يغضب بل قال أنه أقدر إنسان يستطيع أن يحمل بردعة زينون. ثم تولى رئاسة مدرسة الرواقيين Chrysippe "كريزيبوس" (282 - 209 ق.م) ثالث فلاسفة الرواقيين من جهة التسلسل الزمني، ولكنه يعتبر المؤسس الثاني للرواقية، وبسبب نشاطه ومهارته في الجدل ومؤلفاته الغزيرة التي بلغت (700) مؤلفًا، قيل عنه لولا كريزيبوس لانتهت الرواقية. أما عن مشاهير الرواقيين في القرنين الأول والثاني فهم "سينيكا" الذي تعلم بيلاطس البنطي على يديه، و"أبكتيتس" الذي كان عبدًا، والإمبراطور "ماركوس أوريليوس" كان أيضًا رواقيًّا يحتقر الجسد بجوار الروح، وقال: "وينبغي أن نحتقر هذا الجسد، هذه المجموعة المتشابكة من الأعصاب والأوردة والشرايين التي تحيط بالعظام ويغذيها الدم، فإن الجسد كله خاضع للفساد"(237). لقد انتشر المذهب الرواقي انتشارًا واسعًا في الإمبراطورية الرومانية، وإن كان الصدوقيون الذين ينكرون القيامة قد مالوا إلى مذهب الرواقيين الذين يعتقدون بفناء الإنسان جسدًا وروحًا، فإن الفريسيين أخذوا بالحكمة الرواقية (راجع عباس محمود العقاد - حياة المسيح).

 

St-Takla.org Image: Zeno of Citium (c. 334-262 BC) was a Hellenistic philosopher from Citium, Cyprus. He was the founder of the Stoic school of philosophy, which he taught in Athens from about 300 BC. - from: The History of Philosophy, book by Thomas Stanley, 1660. صورة في موقع الأنبا تكلا: زينون الكيتومي (حوالي 334-262 قبل الميلاد)، فيلسوف هيلنستي من كيتومي، قبرص. وهو مؤسس المدرسة الفلسفية الرواقية، التي درسها في أثينا منذ حوالي 300 قبل الميلاد. - من كتاب تاريخ الفلسفة، توماس ستانلي، 1660 م.

St-Takla.org Image: Zeno of Citium (c. 334-262 BC) was a Hellenistic philosopher from Citium, Cyprus. He was the founder of the Stoic school of philosophy, which he taught in Athens from about 300 BC. - from: The History of Philosophy, book by Thomas Stanley, 1660.

صورة في موقع الأنبا تكلا: زينون الكيتومي (حوالي 334-262 قبل الميلاد)، فيلسوف هيلنستي من كيتومي، قبرص. وهو مؤسس المدرسة الفلسفية الرواقية، التي درسها في أثينا منذ حوالي 300 قبل الميلاد. - من كتاب تاريخ الفلسفة، توماس ستانلي، 1660 م.

ثانيًا: الفلسفة الرواقية: من أهم مبادئ الفلسفة الرواقية ما يلي:

1- وحدة الوجود: اعتقد الرواقيون بوحدة الوجود، الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، ويقول "عباس محمود العقاد" عن نظرة زينون للَّه: "إن الإله جوهر ذو مادة Soma وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله، وأن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخلل العسل قرص الخلايا"(238).

2- نهاية الكون: اعتقد الرواقيون بنظرية "الاحتراق الكوني"، فالنار الفعالة ستلتهم العالم ويحترق الكون كله (الاحتراق العام). ثم يُولَد العالم من جديد من النار الفعالة، فتتحقق العودة الأبدية أو الرجعة الأبدية، وهذا يمثل دورة تشمل الاحتراق الكوني ثم ولادة العالم من جديد، وتتكرر هذه الدورة خلال سلسلة من الدورات لا تنتهي، وقد عرف هذه النظرية من قبل "أنكسيمندريس"، و"هيراقليطس"، و"أفلاطون" و"أرسطو" (راجع د. رشدي حنا عبد السيد - فلسفة الكلمة "اللوغوس" جـ 1). ويقول "الشهيد يوستين": "إن الفانيات سوف تحترق بالنار، كما يعلّم هؤلاء الذين يُدعون الفلاسفة الرواقيين بأنه حتى الله سوف يتحوَّل إلى نار وأن بعد هذا التطور سيُصنع العالم من جديد. أما نحن فنؤمن بأن الله خالق كل الأشياء يسمو فوق كل المتغيرات... وعندما نُعلن أن كل الأشياء ستحترق في نهاية العالم فنحن نقول بالتعاليم نفسها التي دعى إليها الرواقيون" (الدفاع الأول - ف 20)(239). يؤمن الرواقيون بأن كل شيء سيحترق ثم يُولَد العالم من جديد، أما نحن فنؤمن أن العالم سيحترق بضجيج ثم تأتي الدينونة وينتهي هذا الكون للأبد، فيقول "الشهيد يوستين": "ولكن ستنزل نار الدينونة وسيتلاشئ كل شيء مثلما اجتاح الطوفان العالم قديمًا، ولم ينج أحد إلاَّ شخص واحد مع أسرته... نحن نقول أن العالم سوف يحترق بالنار في النهاية بهذه الطريقة وليس كما يعتقد الرواقيون بأن كل الأشياء سوف تتغيَّر إلى أشياء أخرى بحسب عقيدة التحوُّل الشائنة" (الدفاع الثاني - ف7)(240).

3- الفضيلة والعدالة: اهتم الرواقيون بحياة الفضيلة والعدالة، فالبشر جميعهم متساوون، وأخذوا عن "سقراط" أن "الفضيلة علم والرذيلة جهل"، فالرذيلة تصدر من عقل غير عاقل، والناس جميعهم إخوة، الطبيعة هيَ أمهم، ليس بينهم أسياد وعبيد، لا تفرقهم الأوطان، فالإنسان الحكيم يرى أن الدنيا كلها هيَ وطنه، ويقول "يوسف كرم": "لقد كانت الرواقية مدرسة فضيلة وشمم وشجاعة، وأن لم يخل أصحابها من التعجب وحُب الظهور يذهبان ببعضهم أحيانًا إلى حد الانتحار، إظهارًا لشجاعتهم وفضيلتهم"(241).

4- العفة والصبر: حضت الرواقية على حياة العفة والترفع عن الشهوات، وأيضًا الصبر في مواجهة الشدائد والضيقات، وأن على الإنسان أن يطيع عقله ولا ينصاع وراء شهوات الجسد، وأن يُخضِع جسده لعقله، فالإنسان يلتقي بالآلهة عن طريق عقله. ويقول "عباس محمود العقاد": "وقد نشأ الرواقيون الأُوَل ماديين يؤمنون بأن الوجود كله أصل واحد، ولكنهم تدرجوا في الروحانية وانتهى خلفاؤهم في عصر الميلاد وما بعده إلى الإيمان بحرية الروح في مواجهة المادة، فالإله الأكبر "زيوس" لا يستطيع أن يجعل الجسد حرًّا من قيود المادة ولكنه يعطينا قبسًا من روحه الإلهية نصبح بنعمته إخوانًا لا يفرق بينهم وطن ولا جنس ولا لغة وأينما يكونوا فهم مع الله"(242).

5- محبة الحكمة: ركزت الفلسفة الرواقية على محبة الحكمة وممارستها من خلال علم الأشياء الإلهية والأشياء الإنسانية. يقول "يوسف كرم" عن الفلسفة الرواقية: "والفلسفة عندها "محبة الحكمة ومزاولتها" والحكمة "علم الأشياء الإلهية والإنسانية" تنقسم إلى ثلاثة أقسام: العلم الطبيعي والجدل - المنطق - والأخلاق... العلم الطبيعي يعلمنا وحدة الوجود... المنطق صورة الطبيعة في العقل، والأخلاق خضوع العقل للطبيعة، بحيث أن الرجل الفاضل طبيعي وجدلي، وأن الطبيعي جدلي وفاضل بالضرورة، وحيث أن: "الحكمة تشبه حقلًا أرضه الخصبة العلم الطبيعي، وسياجه الجدل، وثماره الأخلاق"..."(243).

6- بين الاحتمال والانتحار: من تعاليم الرواقيين أن الإنسان الذي يسلك بالعقل، ويحيا وفقًا للطبيعة، يستطيع أن يختار ما ينفعه ويتجنب ما يضره، والشجاعة هيَ الحكمة في الاحتمال، والعفة هيَ الحكمة في الاختيار، والعدالة هيَ الحكمة في التوزيع، والإنسان الحكيم هو من يؤمن بالإرادة الإلهية، فالقدر هو المُتحكم والمُهيمن في الأمور، ومتى حلت المصائب بالإنسان فعليه أن يتحملها بشجاعة، لأن هذا هو قدره، فيحصل على الخير الحقيقي، أما إذا كانت الكوارث فوق طاقة الإنسان فأجازوا له الإنتحار. يقول "يوسف كرم" أن الإنسان الرواقي: "إذا ابتُلي بمرض أو أصابته مصيبة آثر ذلك لعلمه أنه مقدَّر عليه، فيتوفر له الخير الحقيقي في كل حال، اللَّهم إلاَّ إذا نزلت به فوادح لا تُطاق، فله حينئذ أن ينتحر ويتخلص من حياة لم يعد فيها شيء مطابقًا للطبيعة، وفيما خلا هذه الشدائد فإنه يصمد للدهر لا يخاف... ولا يأسف ولا يندم، بل يرتفع بنفسه فوق كل شيء ويحتفظ بحريته وينعم بفضيلته"(244).

7- القضاء والقدر: اعتقد الرواقيون بنظرية القضاء والقدر، فإذا أخطأ إنسان يقول هذا قدري، وهذا مكتوب لي، وكأنهم يشركون الله في أخطائهم التي يرتكبونها، بينما خلق الله الإنسان حرًا مريدًا مسئولًا عن تصرفاته (راجع القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد - الدفاع الثاني ف7 ص113).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

ثالثًا: مفهوم "اللوغوس" لدى الرواقيين: اهتم الرواقيون بفلسفة اللوغوس، واستخدموا مصطلح "اللوغوس" للتعبير عن:

1- النظم والغائية في العالم: فكل موجود له غاية من وجوده، لأن وجوده لم يكن عبثًا، فمثلًا غاية وجود النباتات لكي تكون غذاءً للإنسان والحيوان، وغاية وجود الحيوانات لمنفعة وخدمة الإنسان، فالإنسان هو محور الطبيعة ومركزها وغايتها.

2- "اللوغوس" لدي الرواقيين يعادل مفهوم "الله"، فهو المبدأ الذي خلق العالم.

3- "اللوغوس" في المفهوم الرواقي يعني العناية الكاملة والقدر، فقال الرواقيون عن العناية الإلهية: "إن فكر الله يرعى الكون ويهيمن على نظام العالم ويُدبر الأشياء جميعًا على مقتضى قواعد الكمال، ويجعل من الكون تحفة فنية رائعة الجمال يمكن أن يُطلق عليه اسم "التدبير" الذي وضع الأمور في نصابها، ولم يترك للمصادفة منفذًا تنساب منه، أو اسم: "العناية الحاضرة في العالم كله والتي رتبت الأمور على أحسن ما يمكن أن يكون"..."(245).

4- "اللوغوس" في الفلسفة الرواقية هو الذي يُعطي للإنسان قوة المعرفة، وقوة العمل الأخلاقي.

5- اعتبر "كريسيبوس" أن "اللوغوس" هو "زيوس"، فجاء في قصيدة كلياتتس الشهيرة: "أيا زيوس يا أجل الخالدين. ويا من يذكره الناس بشتى الأسماء والصفات، يا مدبر الكون كله، يا حاكم الأشياء جميعًا وفق ناموسك وسننك ويا من يخضع لك كل هذا العالم الذي يدور حول الأرض ويذعن بإرادته لسلطانك. من دونك لا يحدث شيء على الأرض ولا في البحر ولا في السماء، سوى أفعال الأشرار، وسببها جهلهم وقلة إدراكهم وأنت لا يغرب من علمك شيء، تؤلف ما افترق، وتُنظم ما تناثر وترتب الخيرات على قدر الشرور، وتُعطي كل شيء بحساب" (راجع دكتور عثمان أمين - القضاء والقدر عند الرواقيين ص158 - 186).

6- "اللوغوس" لدي الرواقيين هو الروح المتأجج الذي يشيع الحياة في العالم، القوة التي تُنشئ وتُشكل المادة وتُعطي النمو للنباتات والحركة للحيوانات.

7- "اللوغوس" هو أصل ونبع ومصدر جميع الكائنات والموجودات، فهو يحتوي في ذاته الأصول البذرية لجميع الكائنات والموجودات، فهو "لوجوس اسبرماتيكوس" Logosspermaticus أي "الأصل البذري".

8- جميع القوى تصدر من اللوغوس، وجميعها تعود إليه، فاللوغوس يتخلل كل شيء ويسيطر على كل شيء، يسيطر على هذا الوجود، كما يسيطر على كيان الإنسان. يقول "وليم باركلي": "وحين اكتشف اليونانيون هذا الحق تمسكوا به، ونادى به أكثر أتباع المدرسة الرواقية، فقد كان الرواقيون في عجب ودهشة من النظام الذي يسير عليه هذا الوجود، فالنظام يستلزم وجود قوة مُفكرة، والناموس يستوجب كيان عقل مُدبر.

فمن الذي يحفظ الكواكب في مجراتها؟ من الذي يسيطر على المد والجزر؟

من الذي يسود على تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول بانتظام؟ والجواب كما أسلفنا: اللوجوس، كلمة الله، عقل الله. فاللوجوس هو هذه القوة التي تُفسر ظواهر هذا الوجود. وهو السلطان الذي يسيطر على نواميس الكون فلا يسوده الارتباك والتشويش، وهو المقدرة السامية التي تدفع العوالم إلى الحركة بكل هدوء وانتظام، أو بحسب التعبير الرواقي اللوجوس هو الذي يتخلل كل شيء ويتسلط على كل شيء"(246).

 

رابعًا: هل أخذ يوحنا الرسول مفهوم "اللوغوس" من الرواقيين: ادعى كثير من النُقَّاد أن يوحنا الإنجيلي لم يأتِ بجديد، فعندما استخدم مصطلح "اللوغوس" فهو استمده من الرواقيين الذين كان لهم تواجد قوي، حتى في أفسس، ولكن الحقيقة أن يوحنا الإنجيلي لم يأخذ لا من هيراقليطس ولا من الرواقيين ولا من أي مذهب فلسفي، إنما كتب بإرشاد من الوحي الإلهي، وهناك فروق واضحة للعيان بين مفهوم "اللوغوس" لدي الرواقيين، ومفهومه لدي يوحنا الرسول، فمثلًا:

1- اعتقد الرواقيون أن اللوغوس يتخلل كل شيء، المادة والنار، فهو جسم أثيري، بينما "اللوغوس" في إنجيل يوحنا هو الله الأزلي، أقنوم الكلمة، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، المولود من الآب قبل كل الدهور، ولادة روحية مستمرة بلا انقطاع مثل ولادة الشعاع من الشمس، بينما في الفكر الرواقي لا نجد أي حديث عن الثالوث القدوس.

2- في إنجيل يوحنا نجد تجسد اللوغوس " وَالْكَلِمَةُ صارَ جَسَدًا" (يو 1: 14) فقد اتخذ أقنوم الكلمة جسدًا بشريًا حقيقيًا ماديًا مع روح بشرية حقيقية، واتحد اللاهوت بالناسوت بدون افتراق ولا امتزاج ولا تغيير، وهذا فكر غريب تمامًا عن الفلسفة الرواقية، ولم يأتِ في الفكر الرواقي أي أثر عن تجسد اللوغوس.

3- خلطت الفلسفة الرواقية بين اللوغوس والمخلوقات، واعتقد الرواقيون أن "اللوغوس" حوى في ذاته الأصول البذرية لكل الكائنات، وجميع الأشياء تصدر عن اللوغوس وإليه تعود، فخلطوا بين الخالق والخليقة، بينما الأمور واضحة تمامًا في إنجيل يوحنا، "اللوغوس" هو الخالق: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يو 1: 3). فشتان بين الخالق والمخلوق، والمخلوقات ليست من طبيعة العالم، وليست جزء من الخالق.

4- لو أخذ يوحنا الرسول فكره من الرواقيين فلماذا لا نجد أثرًا في إنجيله عن احتراق العالم، ثم ولادته من جديد، ولا نقرأ في إنجيل يوحنا عن العودة الأبدية أو الرجعة الأبدية؟!!

5- لو أخذ يوحنا الرسول أفكاره من الرواقيين فلماذا لم يجيز الانتحار متى حلَّت الكوارث بالإنسان وصارت فوق طاقته؟!!

ويقول "يوسف كرم": "وأما الرواقية فكان المسيحيون ينكرون منها قولها بوحدة الوجود، والمادية المُطلقة... وفناء الشخصية بالموت، وجواز الانتحار، وكانوا يأخذون على أصحابها تناقضهم في تقواهم، وهم لا يعترفون للَّه بوجود مفارق وشخصية مستقلة"(247).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(237) أورده وليم باركلي - شرح بشارة يوحنا جـ 1، ص88.

(238) حياة المسيح، ص58.

(239) النصوص المسيحية في العصور الأولى - القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، ص48، 49.

(240) المرجع السابق، ص112، 113.

(241) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص276.

(242) حياة المسيح، ص57.

(243) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص268.

(244) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص274.

(245) القمص عبد المسيح بسيط - وكان الكلمة الله، ص56.

(246) تفسير العهد الجديد - شرح بشارة يوحنا، جـ 1 ص47.

(247) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص254.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/665.html

تقصير الرابط:
tak.la/58a5vhx