س 39 : هل يمكن أن تكون هناك أمور معصومة في الكتاب المقدَّس مثل الأمور اللاهوتية والعقائدية والأخلاقية، وأخرى غير معصومة مثل الأمور التاريخية والجغرافية والعلمية فهيَ تحتمل الصواب والخطأ، لأن الكاتب ابن عصره وكتب بحسب ثقافة عصره؟
وقال أصحاب هذه النظرية الجزئية أن الكاتب تأثر بمعارف عصره، فأين موسى الذي عاش نحو 1500 ق.م. من علماء الفلك والطبيعة والجيولوجيا اليوم حتى يتحدث عن خلق الكون..؟! كما قال البعض الآخر أن موسى أخذ قصة الخلـق مــن أسطورة "الأينوماإيليش" أشهر قصيدة خلق بابلية عُرفت على مستوى التاريخ، وذلك بعد أن نقاها من عناصر الشرك، كما أخذ قصة الطوفان من أسطورة "جلجاميش".. وهلم جرا.
ويقول "تشارلس أ. بريجز": "أن الكتب المقدَّسة معصومة في كل الأمور الخاصة بالإعلان الإلهي، وفي كل ما يحتاجه الناس من إرشاد إلهي معصوم... مع أننا لا نعتقد أن كاتبًا يسكن أرض فلسطين له معرفة معصومة بأقطار لم يزرها، وبتواريخ أحداث لم يختبرها، ويكتب معتمدًا على تقاليد أو سجلات بشريَّة ناقصة، ويستطيع في الوقت نفسه أن يقدم تقارير دقيقة ومعصومة للكلمات التي قيلت في قرون سابقة، وربما لم يسبق لأحد تسجيلها، أو يعطي وصفًا لأحداث جرت في بلاد وعصور بعيدة... كما لا نعتقد أن كاتبًا يكتب منظومة شعرية عن الخليقة ويعرف في الجيولوجيا والفلك والتاريخ الطبيعي أكثر مما يعرف العلماء المتخصصون في ذلك العصر الحديث، في الوقت الذي يقصد منه أن يكلمنا عن الله والفداء وفن الحياة المقدَّسة والمعيشة الإلهيَّة... إن الكتاب المقدَّس معصوم فقط في قوانين الإيمان والأعمال" (175).
ورأى أصحاب المدرسة البارثية Barthian School التي كوَّنها أتبـاع "كارل بارت" Karl Barth أنهم يوافقون بضمير صالح على أن الكتاب المقدَّس ضم أخطاء تاريخية وعلمية. (راجع تفسير الكتاب المقدَّس - إصدار دار المطبوعات المسيحية جـ 1 ص 25، 26).
وشبه بعض النُقَّاد الأداة البشرية بزجاج النافذة العالق به بعض الشوائب والأتربة، ولذلك فإن الشعاع الذي ينفذ من خلالها لا يكون في نقاوته الأولى وضياءه الأول، ولذلك يجب الاعتراف بالأخطاء الكتابية، وللأسف الشديد أن مثل هذه الأفكار قد تسلَّلت للكنائس البروتستانتية في مصر، فيقول "الدكتور القس فايز فارس" أن الأسفــار المقدَّسة كُتبت: " بأسلوب بشري قابل للتأويل والتفسير... لذلك لا يزعجنا إذا وجدنا:
1ـــ اختلافات أو شبه تناقضات في هذه النصوص، ولا يضعف من إيماننا.
2ـــ اختلافات روايات أسفار الكتاب المقدَّس في بعض الحقائق التاريخية.
3ــ أو تشابهها مع ما ورد من ثقافات أخرى مثل أساطير بعض الديانات أو كتابات الحضارات الأخرى كبابل أو مصر. ولا يضيرنا إذًا.
4ـــ كان موسى قد استفاد من حكمة المصريين التي تعلمها من بعض ما كتبه أو إذا
5ـــ كانت نصوص كاملة في المزامير موجودة في كتابات وصلوات أخناتون. أو
6ــ كانت بعض الأمثال موجودة بالنص في حِكم وكتابات بعض الحكماء في مختلف الحضارات" (حول أزمة الدين والأخلاق في المجتمع المعاصر) (176).
ويقول "الدكتور القس أكرام لمعي": " نجد مَن يقرأ الكتاب المقدَّس ويستطيع أن يُخرِج منه متناقضات وأخطاء علمية" (كيف تفهم الكتاب المقدَّس ص 5) (177).
ج : سبق الإجابة على هذا التساؤل فيُرجى الرجــوع إلـى مــدارس النقد جـ 2 س91 (ص 121 - 131)، ومع هذا يجب التأكيد على الأمور الآتية:
1ـ
وحي الكتاب المقدَّس
وحي مُطلّق
2ــ
من ينسب الخطأ لجزء من الكتاب المقدَّس، فهو ينسب الخطأ لصاحب
الكتاب
3ــ
الله قادر أن يحفظ كلمته نقية رغم ضعف الأداة البشريَّة
4ــ
لو سلمنا بضعف الطبيعة البشريَّة لفقدنا الثقة في الكتاب المقدَّس
ككل
5-
لا يمكن فصل الأمور الإيمانية عن الأمور التاريخية
6ــ الشك في الجزء
ينتهي بالشك في الكل
فكل ما جاء في الكتاب المقدَّس سواء أمور لاهوتية أو تاريخية، روحية أو جغرافية، أخلاقية أو علمية، جميعها مُوحَى بهـا مـن الله (2تي 3 : 16، 2بط 1 : 21) وبالتالي فإن جميعها معصومة من أي خطأ يظنه الإنسان، فهيَ معصومة في مجملها ومعصومة أيضًا في جميع تفصيلاتها، ويقول "جوش مكدويل" : " العصمة تعني أنه عندما تتكشف كل الحقائق وتُترجم الكتب من أصولها، وتُفسَّر بشكل صحيح، فأنها حينذاك ستكون كلية الصدق في كل ما يُكتب به، سواء كان الكلام عن المعتقدات، أو الأخلاقيات، أو العلوم والمبادئ الاجتماعية، أو الطبيعية للحياة" (178).
كيف يؤمن الإنسان أن الكتاب المقدَّس كلام الله، ثم يشك في جزئية منه..؟! كيف يعتقد الإنسان أن الله هو الحق كله ثم ينسب الضلال لجزء من كتابه..؟! كيف يصدق الإنسان أن كلمة الله مثل الذهب المصفَّى، ثم يشك أن بعضه يشوبه الخطأ والنقصان..؟! وإن احتج أحد قائلًا: أن الله كامل ولكن الأخطاء مصدرها ضعف الكاتب وعجزه ومعرفته المحدودة، نقول له أن حجته تصح لو كان الكتاب مجرد كتاب بشري محض لم يشارك في خروجه للنور روح الله القدوس، ولكن مَن يؤمن أن الكتاب كما أن له طبيعة بشريَّة كاملة فهو أيضًا له طبيعة إلهيَّة كاملة، عليه أن يسأل نفسه: أين دور الروح القدس الذي كان يرافق الكاتب يُعلّمه ويرشده وينير ذهنه ويُنشّط ذاكرته ويعصمه من أي خطأ..؟! أين كلام الله: " أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا" (إر1 : 12)..؟! هل عجز الله عن إنتاج كتابًا خاليًا من الأخطاء..؟! هل عجز أن يحفظ للأداة البشريَّة نقاوتها حتى تنطق بكلمته بعيدًا عن أي ضعف أو وهن؟!
الذين يقبلون أن الكتاب المقدَّس يحوي بعض الأخطاء، هم في الحقيقة يطعنون في صاحب الكتاب ذاته، الله الكامل، ويتهمون المسيحية بأنها ديانة باطلة. يقول "دكتور إدوار ج. يونج": "هل يمكن أن يحتوي الكتاب المقدَّس على خطأ وهل يجوز أن تشوب أقوال الله الضلال؟.. أن السؤال قد ينعكس في دقة إلى سؤال أخطر... هل الله نفسه نقي وخالٍ من كل خطأ؟!!. وإذا كان الله هو بذاته الحق دون معين، فلا بد أن كلمته الخارجة من فمه، تكون بدورها الحق الذي لا شائبة فيه" (179).
كما يقول "دكتور إدوار ج. يونج": " فإذا كان المُؤلَف الذي صدر عنه (عن الله) لا يخلو من الخطأ، فمعنى ذلك أنه لم يقل الحق في كلمته، وإذا أمكن أن نتصوَّر أن الكلمة الخارجة من فمه تحتوي على أخطاء، فمن المتصوَّر أنه يخطئ، وحاشا لله من ذلك... إننا نعتقد بكل يقين أن الأصل الذي صدر عنه معصوم من الخطأ، للسبب البسيط أنه صدر منه مباشرة... النص الأصلي لكلمة الله والذي صدر من فم الله، معصوم، وأن أي تهاون، في قبول هذه النتيجة، لا يضع الكتاب نفسه في خطر، بل أكثر من ذلك يضع الله ذاته في كرامته وصدقه ومجده في أدق المواضع... إن تصوَّر أن النص الأصلي لكلمة الله خاطئ، وغير معصوم يعني أن الكلمة التي خرجت من فم الله ليست كاملة، وأن إله الحق نفسه مُدان بالذنب، وإذا كانت كلمة الله باطلة، وهو مُدان بالبُعد عن الحق، فأنه يُبتَنى على تلك النتيجة التي لا مهرب منها، وهيَ أن الديانة المسيحية ديانة باطلة" (180).
حقًا أن الطعن في العصمة الكاملة الشاملة التامة للكتاب المقدَّس يعني أحد أمرين: الأمر الأول هو الطعن في الكمال الإلهي، والثاني هو الشك في أن الكتاب المقدَّس هو كلمة الله بالحقيقة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فيقول "جوش مكدويل" : " الكتاب المقدَّس هو كلمة الله... والله لا يخطئ أبدًا (عب 6 : 19، تي 1 : 2) وأن ننكر عصمة الكتب المقدَّسة، فإننا بذلك نطعن في كمال الله، أو نشك في كون الكتاب المقدَّس هو كلمة الله.
تستلزم صفات الله العصمة، وإذا كانت كل عبارة في الكتاب المقدَّس هيَ من الله، والله هو الحق، كما أعلن عنه الكتاب، لذا يجب أن يكون الكتاب المقدَّس كله حقيقي وصحيح، وهو معصوم من الخطأ، قال يسوع عن كلام الله "كَلاَمُكَ هُوَ حَق" (يو 17 : 17).. إذًا فالتحليل النهائي يخلص إلى أن أي هجوم على الكتاب المقدَّس هو هجوم على صفات الله" (181).
وقد أكد الكتاب هذه الحقيقة: " كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ نَقِيَّةٌ" (أم 30 : 5) ويُصحّح "وورفيلد" تشبيه الشعاع النافذ من زجاج عالق به شوائب، فيقول: " كما أن الضوء الذي يمر في الزجاج الملون لنافذة الكاتدرائية يتأثر بألوان الزجاج التي يمر فيه، هكذا كلام الله يمر بعقل ونفس الإنسان، فيخرج وهو يحمل طابع الشخصية التي مرَّ بها، وأنه عند هذه الدرجة يكف عن أن يكون كلمة الله النقية الصافية (كقول النُقَّاد) ولكن ماذا لو أن هذه الشخصية قد شكَّلتها وصاغتها يد الله، بحيث تصبح منسجمة تمامًا مع كلمته، وبحيث يخرج الضوء منها محتفظًا بخواصه الأصلية، وبحيث يتحقق بذلك قصد الله في توصيل كلمته صافية للناس" (182).
لقد جُبلَ الإنسان على صورة الله، لذلك فهو قادر على النطق بكلمات الله دون أن يصيبها بالضعف، فالعنصر البشري المقدَّس بالروح القدس لا يمكن أن يُضعِف أو يُوهِن كلمة الله، فالروح القدس يستطيع أن يطوّع اللغة لتحقيق هدفه بنسبة مائة في المائة دون أي انحراف عن القصد الإلهي، ويقول "الأب جورج فلوروفسكي": " أن الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة بشريَّة، فالله كلَّم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض وجود مَن يسمع الكلمة ويعيها... لا مجال هنا للانزلاق نحو الضعف البشري، لأن اللسان البشري لا يفقد خصائصه الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان الإلهي... إن الإلهام الإلهي لا يمحو العنصر البشري... وما دام الإنسان مخلوقًا على صورة الله ومثاله فهو يقدر أن يُعبّر عن كلمة الله بكلماته البشريَّة بشكل كافٍ وصحيح، لأن كلمة الله لا تخفت عندما ينطق بها لسان بشري... وعندما ينفخ الروح القدس في نظام اللغة البشريَّة يقدر الإنسان، أن ينطق بكلام الله" (183).
فالذي يقول أن الضعف البشري ترتب عليه ورود بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية والعلمية، فمَن يضمن لنا أن الأمور اللاهوتية والعقائدية والأدبية لم يشبها الخطأ أيضًا..؟! أليس الكاتب واحد..؟! كيف يكون الكاتب الواحد معصوم وغير معصوم في آن واحد؟!، وأي كتاب تشوبه أخطاء من أي نوع كيف يمكن أن نثق فيه..؟! أليست القضية التي تفقد مصداقيتها في جزئية منها هيَ قضية خاسرة أمام القضاء العادل؟!
ويقول "د. إميل ماهر إسحق" عن العصمة الكاملة المُطلقة للكتاب المقدَّس: " لا يكفي فقط أن نقرّر أن الكتاب مُوحَى به وله سلطان، إنما لا بد أن نعترف أيضًا بأنه منزَّه عن الخطأ (Imarrancy) ومعصـوم (Infallibility)، ونعني بذلك أنه بدون أخطاء في مخطوطاته الأصلية، فهو منزَّه عن الخطأ في كل ما يؤكده، سواء كانت هذه أمور تاريخية أو علمية أو أخلاقية أو عقائدية، والتنزُّه عن الخطأ يمتد إلى الكتاب كله، ولا يقتصر على تعاليم معينة في الكتاب" (184).
والذين يشكّكون في قصة الخلق وقصة الطوفان في الكتاب المقدَّس، هم في حاجة لدراسة ما جاء في أسطورة الأينوماإيليش وأسطورة جلجاميش، ومقارنة ما جاء فيهما بما جاء في الكتاب المقدَّس، فأبسط شيء معروف أن القصة في حقيقتها تكون بسيطة، وعندما تتلقفها أيدي العامة يضيفون إليها ما يشاءون فتتضخم القصة وتصير أسطورة، فإذا أدركنا أن موسى النبي كتب قصة الخلق في إصحاحين يشملان 56 عددًا، بينما قصيدة الأينوماإيليش تبلغ 1100 بيتًا، وبالمثل قصة الطوفان شملت أربع أصحاحات تحتوي 105 عددًا بينما أسطورة جلجامش بلغت 3600 بيتًا، حينئذ يسهل علينا إدراك أيهما تمثل القصة الحقيقية وأيهما تمثل الأسطورة، أما سبب التشابهات بين الحقيقة والأسطورة فهو حقيقة الحدث، بينما أوجه الخلافات هيَ أكثر وأشد وأعمق (راجع كتابنا: مدارس النقد جـ 4 - هل أُخذ سفر التكوين من الأساطير؟).
ويقول "دكتور إدوار ج. يونج": " أن الذين يعتقدون بأن هناك أخطاء في الكتاب، أو أن هذه الأخطاء المزعومة ترجع في أصلها إلى قصور الكتَّاب البشريين، وما دام هؤلاء الكتَّاب قاصرين، فلا بد وأن يتناول القصور الكتاب أيضًا، وإن صح هذا الزعم فإن القصور لا يتناول أجزاءً من الكتاب فحسب بل يتناول الكتاب كله، لأن كلمة الله قد صارت إلينا جميعها خلال الأداة الإنسانية القاصرة، وكل ما يمر خلال القاصر، على حد زعمهم، لا بُد أن يكون قاصرًا، ومن ثمَّ لا مهرب من النتيجة أن الكتاب كله أضحى قاصرًا، وليس مجرد المزاعم التاريخية أو الجغرافية على حد تصوُّرهم" (185).
وأيضًا ردًا على القائلين بأن الكتاب المقدَّس حوى أخطاء تاريخية، يقول "جوش مكدويل": " أما روبرت ديك ويلسون المُلِم بأكثر من خمس وأربعين لغة، فبعد أن أمضى حياته في دراسة العهد القديم خلُص إلى ما يلي: يمكنني أكثر فأكثر إلى تعميق إيماني بأن لدينا من خلال العهد القديم سجلًا تاريخيًا صحيحًا لتاريخ الشعب الإسرائيلي" (Wilson WB. 42) (186).
مَن يستطيع أن يفصل الأمور الإيمانية عن الأمور التاريخية، والاثنان ممتزجان معًا..؟! الإصحاح الأول في سفر التكوين... هل هو تاريخي أم إيماني..؟! الاثنان معًا، فهو موضوع تاريخي لأنه حدث داخل إطار الزمن، فيتحدث فيه عن أيام وترتيب المخلوقات وظهورها على الأرض، وهيَ أمور زمنية وهو موضوع إيماني لاهوتي لأنه يخص عقيدة الله الخالق، وهكذا التجسد، وحياة السيد المسيح على الأرض، والصلب والموت والقبر والقيامة والصعود، وكرازة الرسل، ومجيئه الثاني... أليست جميع هذه الحقائق هيَ حقائق إيمانية وتاريخية فـي آن واحد..؟! متى ينتهي الإيمان ويبدأ التاريخ أو متى ينتهي التاريخ ويبدأ الإيمان..؟! حقًا إن محوت التاريخ فقد أزلت الإيمان، فالإيمان قد وصل إلينا محمولًا على أجنحة التاريخ، والله هو العامل في التاريخ.
وجاء في "معجم اللاهوت الكتابي" عن الوحي: " يقوم الدين الذي يقدّمه لنا الكتاب المقدَّس على أساس من الوحي التاريخي... يبدو الوحي من الكتاب المقدَّس أنه حقيقة تاريخية يمكننا التحقُّق منها... فالإيمان إذًا بالنسبة إلى المسيحي يعني قبول هذا الوحي الذي يصل إلى البشر محمولًا على أجنحة التاريخ" (187).
ويقول "أنور يسى منصور": على حد تعبير "الآب چورج فلورفسكي" والذي أضاف قائلًا: {التجسد والقيامة والصعود هيَ أحداث تاريخية... من الطبيعي ألاَّ نستطيع تأكيدها إلاَّ عن طريق الإيمان. لكن هذا التأكيد لا يبعدها عن إطارها التاريخي، فالإيمان يكتفي بالكشف عن بُعد جديد، وبفهمها المعنى التاريخي في عمقه وحقيقته الكاملة" (أنظر علم اللاهوت الكتابي ص 113).
إن الوحي الإلهي قد عصم الكتَّاب من أي خطأ تاريخي أو غير تاريخي، والكتاب المقدَّس هو السنديان الإلهي الذي تتحطم عليه جميع مطارق النُقَّاد القائلين بوجود تعارض الكتاب مع بعض حقائق التاريخ. ومع أن الكتاب المقدَّس ليس كتاب تاريخ، لكنه يُستخدَم كمرجع من أهم المراجع التاريخية، حتى أن الجنود البريطانيين كانوا يستعملونه كدليل لأرض فلسطين (القس صموئيل مشرقي - مصادر الكتاب المقدَّس ص 106، 107)" (188).
فمَن يشك في آية واحدة، ما المانع أن يشكَّ في آية ثانية؟!، وإذا صدق هذا، فما المانع أن يشكَّ في فقرة كاملة؟ وهكذا ينتهي الأمر بالشك في الكتاب المقدَّس كله، ومتى شك الإنسان في الكتاب المقدَّس، فعلى الفور يشك في صاحب الكتاب الذي عجز عن حفظ كتابه من الأخطاء الواردة والهنَّات والضعفات، ومتى فتح الإنسان على نفسه هذا الباب سيُواجَه بمارد الإلحاد الذي يطويه ويفتك به، فيفقد حياته الأبدية، وهيَ خسارة ما بعدها خسارة، فالإنسان الذي يخسر كل شيء، كل شيء، ويربح الملكوت فهو ربح كل شيء، والعكس صحيح... ولو نجح المحامي في تشكيك المحكمة في جزئية من القضية، مثل عدم حصول الشرطة على إذن النيابة قبل القبض على المتهم، فأنه يفسد القضية بالكامل ويضربها في مقتل.
ويعلق "أنور يسى منصور" على النظرية الجزئية، فيقول: " أن الكتاب المقدَّس بكل أجزائه وكل كلماته معصوم عصمة كاملة من أي خطأ بالوحي الإلهي للأسباب الآتية:
1ــــ فكرة العصمة الجزئية ليس لها أي برهان أو سند كتابي أو غير كتابي، ولا يوجد أي مقياس كتابي أو غير كتابي يبين ما هو معصوم وما هو غير معصوم... يركز الرب يسوع على "الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ" (لو 24 : 25) وكذلك الرسول بولس يقول: "أَعْبُدُ إِلهَ آبَائِي مُؤْمِنًا بِكُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَــاءِ" (أع 24 : 14).
2ـــ حقيقة عصمة الكتاب المقدَّس متأصلة في تعاليم الرب يسوع المسيح... (يو 10 : 35)..
3ـــ لا يمكن أن نقول أن الأمور الروحية معصومة، والأمور التاريخية أو الطبيعية غير معصومة، فمثلًا تعليم المسيح عن الطلاق لا ينفصل عن تأكيده بأن الله خلــق آدم وحواء (مت 19 : 4)..
4ـــ إن كنا لا نثق في الكتاب المقدَّس وفي أقوال الرب يسوع المسيح عن الأحداث التاريخية (قصة يونان مثلًا)، فكيف نثق في الأمور الروحية التي أعلنها: "إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ" (يو 3 : 12).
5ـــ حقيقة عصمة الكتاب المقدَّس كله هو معتقد الكنيسة المسيحية العامة منذ القرن الأول وإلى الآن...
6ـــ إذا كان الوحي الإلهي عاجز عن عصمة الكتاب المقدَّس في الأمور التاريخية أو العلمية أو غيرها، فهو عاجز عن عصمة ما هو أخطر وهو رسالة الله للبشر وسائر الأمور الروحية والعقائدية والأخلاقية. فإن لم يكن الكتاب المقدَّس معصومًا كله، فلا ضمان لأي شيء يقوله، ويكون غير جدير بالثقة لوحي يعجز عن عصمة كل ما يُكتَب، وحاشا لله أن يكون إلهًا لا يُوثق به.
7ـــ أن الوحي الإلهي كان ملازمًا للكلمات كما كان ملازمًا للأفكار والمعاني لأنه لا توجد أفكار أو معاني بدون كلمات تعبر عنها...
8ـــ إن كنا نؤمن أن الكتاب المقدَّس هو كلام الله... وكلام الله هـو حق... (يو 17 : 17)، فلا بد أن نؤمن أن الكتاب المقدَّس هو معصوم منزَّه عن أي خطأ في أي جزء منه...
9ـــ إن أي خطأ في بطاقة التهنئة بالعيد لا يشكل خطورة على أحد، لكن الأخطاء في الاتصالات العسكرية يمكن أن تكلف البعض حياتهم، وقياسًا علــى ذلك المنطـــق فإن "المكتوب" هو أهم رسالة في الحياة... رسالة الحياة الأبدية للبشرية أو رسالة الموت للبشرية كلها...
10ـــ مَن يقول أن هناك جزء معصوم في الكتاب المقدَّس والجزء الآخر غير معصوم فكيف نميز بينهما؟! أنه فتح الباب على مصراعيه لكي يختار الفرد ما يريد وينتقي ما يريد... وهيَ الخطوة التمهيدية لإنكار عصمة الكتاب المقدَّس كله...
11ـــ وإن لم يكن الكتاب المقدَّس معصومًا في كل أجزائه فهو غير معصوم في أي جزء منه...
12ـــ كلمة الله ما درج عليه الأنبياء بقولهم (هكذا قال الرب) وما يماثلها... وهم يقصدون بذلك أن الكلمات التي ينطقون بها هيَ ذات الكلمات التي وضعها الله في أفواههم...
13ــ بالنسبة للعقيدة الإنجيلية الأصلية عن الكتاب المقدَّس، يقول "مارتن لوثر": {أن القديس أوغسطينوس في رسالته إلى القديس جيروم قد وضع حقيقة بديهية وهيَ أن الكتاب المقدَّس كتاب معصوم}، وقال {أن كلمة الله يستحيل أن تخطئ}، وقال "جـون كالفن": {الكتاب المقدَّس هو التسجيل الموثوق بــه والمعصوم}، {أنه كلمة الله الخالية من كل عيب}..
14ـــ يقول البابا لاون 13 في الرسالة العامة: {من الخطأ المبين حصر الوحي في بعض أجزاء الكتاب المقدَّس فقط، أو التسليم بوقوع الكاتب الموحى له في الخطأ، ولا يمكن الإقرار برأي الذين لا يترددون في التسليم بأن الوحي الإلهي يقتصر على أمور الإيمان والأخلاق دون سواها.." (189).
_____
(175) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 117، 118 .
(176) أورده أنور يسى منصور - قضايا خطيرة ص 16.
(177) المرجع السابق ص 25.
(178) برهان جديد يتطلب قرارًا ص 313.
(179) ترجمة القس إلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 61.
(180) أصالة الكتاب المقدَّس ص 101 - 103.
(181) برهان جديد يتطلب قرارًا ص 312، 313.
(182) أورده صموئيل كريج - ترجمة باقي صدقة جرجس - المسيحية الحقيقية ص 91.
(183) الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 32.
(184) الكتاب المقدَّس - أسلوب تفسيره السليم وفقًا لفكر الآباء القويم ص 43.
(185) ترجمة القس إلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 86.
(188) قضايا خطيرة ص 38.
(189) قضايا خطيرة ص 85-89.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/39.html
تقصير الرابط:
tak.la/zzk7p6m