St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

661- ما هو موقع "سقراط" (470 - 399 ق.م) في الفلسفة اليونانية القديمة؟ وكيف شطر "سقراط" تاريخ الفلسفة إلى نصفين؟ وما هو مفهوم "اللوغوس" لدى سقراط؟ وكيف قابل سقراط الموت بشجاعة وابتسامة وسرور؟

 

ج: أولًا: موقع سقراط في الفلسفة اليونانية القديمة: لقد شطر "سقراط" تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة إلى الفلسفة ما قبل سقراط، والفلسفة بعد سقراط، وكما رأينا في مقدمة هذا الباب أن الفلسفة اليونانية نشأت في مقاطعة أيونيا بآسيا الصغرى، بظهور مدرسة الطبيعة التي اهتمت بدراسة الطبيعة وحل أسرار الظواهر الطبيعية، وبرز فلاسفتها الثلاث طاليس، وأنكسمندريس، وأنكسيمانس. ثم نشأت المدرسة الفيثاغورية التي أسَّسها فيثاغورث أول من استحدث لفظتي "فلسفة" و"فيلسوف" فاهتم بالعلوم الطبيعية من طب وفلك وهندسة ورياضيات وموسيقى، ولم يهمل الجانب العلمي ولا الجانب الديني الأخلاقي، بل جمع بينهما مع الاتجاه للتصوف وممارسة الصلوات والتراتيل، وعاشت جماعة الفيثاغوريين حياة الشركة والالتزام بالنُسك والطاعة، وبعد اجتياح الفرس منطقة أيونيا سنة 548 ق.م هاجر الفلاسفة وجهابزة العلم إلى مدينة "إيليا" جنوب إيطاليا، فازدهرت المدرسة الفيثاغورية، ونشأت "المدرسة الإيلية" أو الإيليائية نسبة إلى مدينة "إيليا" التي أسَّسها "أكسانوفان" الذي أكد على مبدأ الوحدانية، رافضًا تعدد الآلهة، واهتمت هذه المدرسة بالمبادئ العقلية.

وبعد أن قهر اليونانيون الفرس وردوهم إلى أعقابهم، وامتلكوا أسطولًا عظيمًا، فكانت سفنهم تجوب العالم، ونشط التبادل التجاري والحضاري والصناعي، وأُشتهرت مدينة "أثينا" وانتقل مركز الفلسفة إلى أثينا وظهر الفلاسفة الثلاث "سقراط" (470 - 399 ق.م)، وتلميذه "أفلاطون" (427 - 347 ق.م)، و"أرسطو" (384 - 322 ق.م)، ثلاث علامات فارقة في أثينا حصن الحضارة ومعقل الفلسفة، فظهرت "المدرسة السفسطائية" في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، واهتمت بفن الخطابة والشعر والجدل والإقناع وعلوم اللغة والنحو والبيان. لقد دعى فلاسفة أثينا أنفسهم بِاسم "السوفيست" أي الحكماء ودعوا عملهم "السوفيسم" أي الحكمة، ومنها جاءت كلمة "السفسطائية" و"السفسطائي" أي "الحكيم" أو المُعلم الذي يتيح المعرفة لعامة الشعب ولا سيما الشباب، وأحب الشعب ولا سيما الشباب هؤلاء الفلاسفة وأغدقوا عليهم الحب والمال، وصار مصطلح "السفسطانية" يحمل معنًا إيجابيًا.

ونتيجة ظهور آراء متعارضة كثيرة، فمثلًا أرجع "طاليس" أصل الكون للماء، بينما أرجعه "أنكسيمندريس" إلى اللامتناهي، و"أنكسيمانس" للهواء، و"هيراقليطس" للنار، و"أمبادوقليس" للعناصر الأربعة الماء والهواء والنار والتراب، و"فيثاغورث" للأعداد. واشتد الجدل، وادعى كل واحد أنه وحده هو الذي يملك الحق، وما عداه على باطل، فاضطربت الأفكار وحارت العقول، وصار الجدل بغرض الجدل، والسعي لإقناع الآخرين برأي معين دون غيره، حتى لو كان هذا الرأي يشوبه العوار، وكان الجدال يشتعل على أشده في محاكم أثينا وساحاتها، حتى سادت الديمقراطية الهدامة على الأرستقراطية المحافظة، وعمت الإباحية، وشاع الإلحاد، وكثر الكلام، حتى أن الإنسان يمكنه أن يجادل ليقنعك برأي معين في قضية معينة، ثم يجادل ثانية ليقنعك بأن هذا الرأي خطأ، فمثلًا لو أن ابنًا لطم أبيه، فيأتي أحد السفسطائيين ليدين الابن ويحكم عليه ويظهر مدى بشاعة فعلته. ثم يتبنى الاتجاه المضاد فيدافع عن الابن ويظهره بأنه الابن البار بأبيه ولكن الظروف التي وُضع فيها مثلًا كانت أقوى منه، ويشيد بأخلاق هذا الابن، فصار المقصود بالسفسطة هيَ الكلام الذي يموّه الحقائق، باستخدام الخطابة والجدل والإقناع والتلاعب السفسطائي هو من يضلل الناس ويتيههم، ومذهب السفسطة صار مبنيًا على إنكار حقائق الأشياء، والوهم، وأنه لا توجد حقيقة ثابتة فما أراه أنا باطل يراه غيري حق. ومن هنا صار لمصطلح "السفسطة" مفهومًا سيئًا يعادل التضليل والمراوغة والمخادعة والتهريج. ومن هذا المذهب انبثق مذهب "اللاأدرية"، فالشخص اللاأدري لا يجيبك على أي تساؤل، من أين جاء؟ وما هيَ النهاية؟ وهل الطريق الذي يسير فيه صحيح؟... إلخ.

ومن مشاهير المذهب السفسطائي "بروتاغوراس" (487 - 420 ق.م)، و"جورجياس الليونتيني" (480 - 375 ق.م) من مدينة "ليونتيني" بصقلية، الذي وُلِدَ نحو سنة 500 ق.م، وجاء إلى أثينا نحو 427 ق.م، فبُهر الأثينيين ببلاغة خطابه، حتى أنه كان يستطيع أن يُظهِر الصغير على أنه كبير والعكس، ويُظهِر القديم على أنه حديث والعكس، وجمع ثروة طائلة من التعليم، وهكذا سبى السوفسطائيون عقول الشعب، ولا سيما الأثرياء فاغتنموا منهم، حتى لمع في سماء أثينا ذاك الرجل العظيم الصادق "سقراط" الذي فضح السوفسطائيين، فأظهر خواء أفكارهم وفراغ رؤوسهم، فنقموا عليه وناصبوه العداء، وزجوا به إلى قاعات المحاكم حتى استصدروا حكمًا ظالمًا جائرًا بإعدامه، وإن مات يتكلم بعد، فسيرته وشجاعته يدينان أولئك الذين ظلموه.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

St-Takla.org Image: Socrates (by Peter Scheemakers), bust, Stall C - Library of Trinity College, Dublin, Ireland - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, April 21, 2017. صورة في موقع الأنبا تكلا: سقراط، الفنان بيتر شيماكرز، تمثال نصفي - من صور مكتبة كلية الثالوث (ترينيتي كوليدج)، دبلن، أيرلندا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 21 إبريل 2017 م.

St-Takla.org Image: Socrates (by Peter Scheemakers), bust, Stall C - Library of Trinity College, Dublin, Ireland - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, April 21, 2017.

صورة في موقع الأنبا تكلا: سقراط، الفنان بيتر شيماكرز، تمثال نصفي - من صور مكتبة كلية الثالوث (ترينيتي كوليدج)، دبلن، أيرلندا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 21 إبريل 2017 م.

ثانيًا: Socrates سقراط (470 - 399 ق.م): لم يظهر نجمًا لامعًا في الفلسفة اليونانية القديمة مثل "سقراط" الذي لم يكتب شيئًا عن نفسه، إنما كتب عنه تلميذه أفلاطون. كانت حياته هيَ العظة والقدوة والمَثَل... تُرى هل كان سقراط مسيحيًا قبل أن توجد المسيحية؟!. يقول "دكتور جوزيف موريس فلتس": "ويقول ق. يوستينوس في دفاعه الأول لقد تعلمنا أن المسيح هو بكر الخليقة، وقد أعلن أنه هو الكلمة الذي اشترك فيه كل جنس البشر وأن كل من عاش عيشة تتفق مع الكلمة كان مسيحيًا حتى ولو عُرِف بالوثنية كما جرى بين اليونانيين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما"(198). ومن أقوال سقراط الشهيرة أنه لا سبيل إلى معرفة الحق إلاَّ إذا أُظهر رب الحق وأعلن ذاته للبشر (راجع الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي - الإنجيل للقديس يوحنا ص209). وإن كانت الشعوب عرفت عن طريق الحكماء والفلاسفة بعض الحق، فأنها عرفت عن طريق السيد المسيح الحق كله كاملًا، لأنه هو الحق المُطلّق.

ويقول "د. محمد غلاَّب" عن سقراط أنه: "شيخ الفلاسفة، وأعظم حكمائهم، وأكبرهم شأنًا، والذي لم يعرف التاريخ قبله في أغريقا أحدًا أغزر منه علمًا، ولا أعمق بحثًا، ولا أدق تفكيرًا، ولا أسلم منطقًا، ولا أجل نفسًا، ولا أعظم حكمة، ولا أكثر تواضعًا. ذلك هو إمام المفكرين ونبراس الباحثين، أبو الفلسفة الأولى، ومصيرها الأوحد، سقراط الذي أنزل السفسفة من السماء إلى الأرض، وحوَّل تيارها من النظريات الجدلية إلى المعرفة الإنسانية، وتحديد الفضيلة الخلقية! سقراط ذلك الفيلسوف المعدوم الند، المفقود النظير، الذي وضع الحجر الأساسي للفلسفة المعقولة منذ عصره إلى هذا اليوم، والذي مدَّ أغصان دوحة الفلسفة حتى جعلها تتناول علم الأخلاق لا كشيء أجنبي عنها، ولكن كجزء منها، والذي أنار الطريق للمدرسة "الأسكوتلاندية" قبل وجودها بأكثر من ثلاثة وعشرين قرنًا بنظريته الشهيرة: "لا علم بلا فضيلة، ولا فضيلة بلا علم، كما لا جهل بلا رذيلة، ولا رزيلة بلا جهل". والذي كان أول من فرَّق بين المعرفة العامة والمعرفة الفلسفية وكان أول من نعت الإله بنعوت... إلهيَّة وأدخلهم في باب إجلال الله وتقديسه... سقراط، الذي ضحى بحياته في سبيل إيمانه بمبدئه"(199).

وُلِدَ سقراط في "أثينا" سنة 470 ق.م، تلك السنة التي وُلِدَ فيها "فيثاغورث" رجل العلم والفضيلة، والتي وُلِدَ فيها "أكسونافان" أيضًا الذي أنكر تعدد الآلهة معترفًا بالوحدانية. كان والد سقراط "صوفرنيسقوس" Sophronisque حاذقًا في نحت التماثيل، وأمه "فيناريت" Phainarete كانت قابلة ماهرة، فقال سقراط عن نفسه: "إن مهمتي هيَ مهمة القابلة أستطيع - بوساطة معرفتي قدر نفسي - أن أميز بين الحق والباطل، وأنتزع الأول من الثاني كما تنتزع القابلة الطفل من رحم أمه"(200). درس "سقراط" الفلسفة والرياضيات، وكان على اتصال مع زعماء المدرسة السفسطائية "بروتاجورس" و"جورجياس" و"بروديكوس"، وعمل مع أبيه في نحت التماثيل، ثم ترك هذه المهنة وألقى بنفسه في بحر الفلسفة الهائج، لأن السفسطائيين كانوا قد غزوا العقول وسبوا القلوب بالفصاحة والبلاغة بعيدًا عن الحق والحقيقة، فتصدى لهم سقراط وكافحهم بعلمه الغزير وأسلوبه البسيط ومنطقه السديد، مع سمو أفكاره وطهارة حياته، فاكتسب محبة واحترام الجميع، وخطف الأنظار نحو القوة العليا التي أوجدت الكون، وما زالت تسهر على تدبير جميع شئونه، فكان سقراط ناجحًا في حياته، وصار عضوًا في مجلس الشيوخ سنة 406 ق.م، فعُرِف بالنزاهة واستقلال الرأي. وبالرغم من أن الاعتقاد العام السائد هو تعدد الآلهة، فلا أحد يستطيع أن يتجاوز هذا الخط الأحمر ويخطئ في حق الآلهة أو يجحد بها، فإن ذاك الرجل الشجاع "سقراط" كان يوجه صلواته للإله الواحد، وسخر من تعدد الآلهة وما نسج حولها من خرافات وأساطير إغريقية، ونادى بالوحدانية والإيمان باللَّه الخالق الذي خلق العالم لا عن اضطرار بل تفضلًا منه وإنعامًا وحبًا، وهو الذي يسهر على تدبير الكون ويحفظ نظامه وانسجامه، وهو العالِم بكل شيء حتى خلجات النفوس وما في الضمائر، وهو الذي أوصى الإنسان بالعبادة والصلوات والأصوام من أجل فائدة الإنسان الروحية وتطهير النفوس من إدران الشرور. ودعى سقراط إلى إلتزام الإنسان في سلوكه بالفضائل الأربع، وهيَ الحكمة، والشجاعة، وضبط النفس، والعدل.

وتزوج سقراط من "أكزانثيب" التي كانت أصغر منه كثيرًا، وكانت حادة الطباع صعبة المعشر دائمة الإساءة إليه. أما هو فكان يعاملها بحكمة ولُطف وصبر، فقال عنها: "إن أكزانثيب مثل السماء عندما ترعد سرعان ما تبكي". كما قال: "إني مدين لسوء طباعها بفضيلة الصبر". وكان سقراط وطنيًا صادقًا خدم في الجيش، وشارك ضمن المشاة في عدة حروب، وفي معركة "دليون" أظهر شجاعة نادرة عندما أنقذ "السيبياد" الذي سقط جريحًا وسط أعدائه. أحب سقراط الحكمة منذ شبابه المُبكر، واهتم بالعلم كوسيلة لتهذيب النفس، وقمع جسده وروَّضه ليكون خاضعًا لإرادته، ودعى للتحكم في العاطفة، وقال أن المزيد من الحب هو عبودية، فالأفضل الاعتدال والاتزان في العاطفة، أما من لا يتحكم في عاطفته وسلوكه فإنه يهبط إلى مرتبة الحيوانات، فالنزعة العقلية الجادة خط واضح في فلسفة سقراط، لم يعتمد على الحواس والمشاهدات المنظورة بقدر اعتماده على الأمور العقلانية، ومحور منهج سقراط الفلسفي هو النفس البشرية والتصورات الأخلاقية، فقال عنه "أرسطو": "لقد انصرف سقراط عن البحث في الطبيعة كلية، وعكف على دراسة الموضوعات الأخلاقية"(201). لقد كان جل اهتمام سقراط أن يرتقي بالنفس، فكان شعاره: "اعرف نفسك بنفسك" فعندما يعرف الإنسان نفسه يعرف ما يناسبها من خير وفضيلة فيسعى نحوهما، ويعرف أن الشر لا يناسب النفس فيحذر منه ويتجنبه، ومن يعرف نفسه يعرف أن سعادته تكمن في قناعة النفس وطهارتها، وليس في الملذات والشهوات الجسدية الحسية. تقول "د. أميرة حلمي مطر": "إنما السعادة التي يسعى سقراط إلى بلوغها والتي يتحقق بها الخير الأقصى إنما تتلخص في قناعة النفس وطهارتها. لذلك فقد ترتب على مبدأ: "اعرف نفسك" عند سقراط نظريته الأخلاقية التي تتلخص في أن الفضيلة معرفة، والرذيلة جهل، فمعرفة الإنسان بنفسه هيَ السبيل الوحيد لتحقيق الفضيلة... فجهل الإنسان بالخير هو وحده مصدر التورط في الشر، وإذا كان الخير يتحد بالسعادة عند سقراط فإن الشر سوف يتحد بالشقاء، ولذلك يستحيل على الإنسان أن يرتكب الشر وهو يعلم أنه شر إذ ليس من المعقول أن يتخلى الإنسان عن سعادته بإرادته"(202). كان "سقراط" مهتمًا بمعرفة نفسه بهدف تهذيبها وتقويمها، حتى أنه عندما امتدحته كاهنة "ويلف" وقالت له أن الوحي هبط عليها وأخبرها أن سقراط أحكم الحكماء، أحكم من أظلته سماء الإغريق وأقلته أرضها، أما سقراط الذي لم يوافقها القول اتضاعًا منه، وفي نفس الوقت لا يرد إحراجها، فقال لها: إن ما يميزني عن غيري أنني أدرك جهلي، وهذا يُعد فضيلة. وكان "سقراط" مهتمًا أيضًا بتهذيب نفوس من حوله ولا سيما الشباب، حتى قال عنه "شيشرون": "إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض"، فبعد أن كان التركيز على علم الفلك والعناصر جاء سقراط ليركز على النفس والتعقل وحُب الخير. قال "يوسف كرم" عن نظرة سقراط وفلسفته: "فمن يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي، وقد يحتال البعض في مخالفتها بحيث لا يناله أذى في هذه الدنيا ولكنه مأخوذ بالقصاص العادل لا محالة في الحياة المقبلة، والإنسان يريد الخير دائمًا ويهرب من الشر بالضرورة... أما الشهواني فرجل جهل نفسه وخيره... وعلى ذلك فالفضيلة علو والرذيلة جهل، وهذا قول مشهور عن سقراط يدل على مبلغ إيمانه بالعقل وحبه للخير"(203). وأنكر "سقراط" تقديم الصلوات والقرابين من نفس ملوثة بالإثم، بل آثر الاهتمام بنقاوة الضمير، وآمن سقراط بالخلود، وأن النفس لا تفسد بفساد الجسد بالموت، إنما تتخلص من سجنها وتعود إلى صفاء طبيعتها.

وكان "سقراط" يهوي التعليم، يتحدث كثيرًا مع الشباب الذين أفسد السوفسطائيون أفكارهم، وكان يعلم الناس في الشوارع والملاعب والأسواق، عن طريق السؤال، فيسأل سؤالًا ثم يُعقّب على إجابتهم، وفي ذات مرة سأل "أكسانوفان": هل تعرف أين يُباع الخبز؟ فأجابه أكسانوفان بالإيجاب، ثم سأله عن أماكن بيع اللحم، والأقمشة، والأحذية، وأكسانوفان يجيب. ثم سأله عن مصدر الفضيلة أو الخير المُطلّق، فأجاب أكسانوفان بالسلب، فقال له: أليس من العار أن تعرف مصدر الخبز واللحم والأقمشة والأحذية وتجهل مصدر الفضيلة، مع أنها الميزة الوحيدة التي تفرق الإنسان عن الحيوان؟!

واستنكر "سقراط" ما يقوم به الخطباء والشعراء من الفلاسفة السوفسطائيين والسياسيين من تضليل وتغيير الحقائق مستخدمين الفصاحة والخطابة وعلم البيان حتى أفسدوا العقول وأماتوا الضمائر، فوقف لهم سقراط بالمرصاد وأظهر بطلان حججهم وفراغ أفكارهم ورذائلهم وفسادهم، ونادى بأنه من المفروض أن تكون مقاليد الأمور التشريعية والتنفيذية في يد العقلاء وليس السفهاء المنتهزين المفسدين، فإن القوانين العادلة تصدر من العقل المستنير، فهيَ صورة من القوانين التي رسمها النظام الإلهي في قلوب البشر، ومن يحترم القوانين العادلة فإنه يحترم العقل والنظام الإلهي. فناصبه أولئك السفسطائيون العداء وهاجموه بقسوة متهمين إياه بالإلحاد واحتقار آلهة أثينا، وأنه يفسد عقول الشباب، فدفع "سقراط" حياته ثمنًا لجرائته وشجاعته وشهادته للحق، وبالرغم من أن "سقراط" لم يكن وسيمًا ويصفه أفلاطون بأنه كان أفطس الأنف، غليظ الشفتين، غائر العينين، عاش زاهدًا متقشفًا محتقرًا الأمور المادية، حتى أنه كان يسير حافي القدمين، يرتدي قميص بالٍ وعباءة مرقَّعة، يقاسي من برد أثينا القاسي، كما يعاني من الجوع والعطش، لكن كل ما كان يشغله هو الحديث في الشوارع والأسواق والساحات عن الفضيلة، فاستطاع أن يسبي عقول مستمعيه بأسلوبه السلس الذي جمع بين البساطة والبلاغة والعمق، حتى أنه كان يُبكي من يصغى إليه.

 

ثالثًا: مفهوم "اللوغوس" لدي سقراط: اعتبر سقراط أن "اللوغوس" هو "الوحي"، فقد آمن سقراط باللَّه الواحد الذي خلق الكون وكل ما فيه، ويسوس ويدبر كل الوجود ويوجه البشر للفضيلة عبر الوحي للرسل، فاللوغوس هو الوحي، والوحي ليس ملاكًا لكنه أشبه بفكرة الوحي عند الغنوسيين، فهو صوت داخلي يدفع الإنسان للسلوك بحسب الفضيلة، والبُعد عن الرذيلة، وهذا الصوت الداخلي (اللوغوس) على الإنسان أن يصغى له ويطيعه، فعلل سقراط عدم إنشغاله بالسياسة لأن الوحي (الصوت الداخلي) نهاه عن ذلك، وهو لا يستطيع أن يخالف صوت اللوغوس. إذًا "مفهوم اللوغوس" لدى سقراط أنه الوحي أو الإلهام الذي يوجه البشر.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

رابعًا: سقراط يلتقي الموت مبتسمًا مغتبطًا: هناك ثلاثة أشخاص اختصموا سقراط، ورفعوا دعاوي ضده، وهم:

1- أنيتوس Anytos: أحد زعماء الديمقراطية.

2- مليتوس Meletos: الشاعر التراجيدي.

3- ليقون Lycon: وكان خطيبًا.

أما التُهم التي وُجهت إليه فأهمها الإلحاد، واحتقار آلهة أثينا، وأنه يُفسد أفكار الشباب، ويلبس الباطل ثياب الحق، وضمت المحكمة التي عُقدت لمحاكمة سقراط (500) شخص من المُحلفين، تم اختيارهم بالقرعة بغض النظر عن كفائتهم، وكانوا من النوتية والتجار الذين يجهلون قوانين القضاء. وفي المحاكمة صرَّح "سقراط" أنه لن يستخدم الأسلوب البلاغي حتى لا يؤثر على آراء من يحاكمونه، لكنه سيتوخى الدقة في أقواله، وأوضح أنه علَّم الشعب والشباب من أجل الخير، وبلا مقابل، وقدم دفاعًا قويًا حتى كاد أن يحظى بالبراءة، وعندما سُئل عن العقوبة التي يقترحها لنفسه غير الإعدام، قال أنه يستحق تكريم الدولة له وتخصيص معاشًا له إلى يوم موته. وعندما تم الاقتراع على الحكم زاد عدد الذين طالبوا بإعدامه عن عدد الذين طالبوا ببرائته، فلم ينهار، ولم يرتعب ولم يخف بل ظل قويًا ثابتًا رابط الجأش، وقف وقفة الضيغم الذي لا يهاب الموت. لم يسترحمهم ولم يستعطفهم ولا زرف أمامهم دموع التوبة، وعندما صدر الحكم بإعدامه قال: "لقد حان الوقت الذي نفترق فيه، أنا إلى الموت، وأنتم إلى الحياة. فأينا صاحب الحظ الأفضل؟. لا أحد يعلم ذلك إلاَّ الإله"(204). لم يرى العظيم "سقراط" في الموت شرًا، بل رأى فيه كل الخير، فهو متأكد أن نفسه ستظل خالدة للأبد، ولأن أثينا كانت منشغلة بالاحتفالات، لذلك تم تأجيل تنفيذ حكم الإعدام لمدة شهر قضاها في سجن أثينا، فكان مؤيدوه يقفون على أبواب السجن منذ الفجر كل يوم، ويقضون معه اليوم كله إلى أن يحل الظلام ليحظوا بالحديث معه، وعندما اقترح عليه المقرَّبون منه أن يقدم إلتماسًا يُظهِر حُسن نواياه، وأنه لم يقصد أن يهين الدولة والآلهة، سخر منهم قائلًا: إنه أرفع من أن يهين نفسه بالتزلف للقضاة، وعندما اقترح عليه البعض أن يسهلوا له أمر الهرب والفرار من السجن، وكان هذا الأمر شبه متعارف عليه، رفض في شمم وكبرياء موضحًا لهم أنه يجب احترام قوانين البلاد لأنها هيَ بمثابة السياج التي تحفظ الدولة.

وفي يوم تنفيذ الحكم أبلغ الحارس "سقراط" بأن الميعاد حلَّ، وهو يبكي، أما "سقراط" العظيم الشامخ فلم يهتز قيد أنملة، إنما ظل يبث البهجة والسعادة في الحاضرين حتى أنهم كانوا يضجون بالضحك وسريعًا ما ينقلبون للبكاء والنحيب، وصرف "سقراط" زوجته التي كانت تولول عليه، حتى لا ترى لحظات موته، ودار حديث "سقراط" الخالد حول خلود النفس مع أحد تلاميذه، وكان مغتبطًا بموته كأنه ينتظر حدثًا سعيدًا للغاية. ثم استحم حتى لا يتعب النساء في تغسيل جسده بعد موته، وبعد غروب الشمس أحضروا له سُم الشوكران مسحوقًا في كأس، فتناولها بثبات وشجاعة، تجرَّعها حتى الثمالة دون أن يبدي أي ضجر أو اشمئزاز، والابتسامة الصادقة قد ارتسمت على محياه، وعندما أجهش تلاميذه بالبكاء وبخهم، وكل يتمشى في سجنه وسريعًا بدأ السُم يسري في أوصاله، واستلقى على ظهره وأسلم الروح في سلام تام. حضر تلك اللحظات تلميذه المُخلص "أفلاطون" وكم بلغ به الأسى والحزن على مُعلم عظيم كهذا، وسجل ذلك الحدث، ويقول "يوسف كرم": "انظر الآن إلى أفلاطون يصوّر هذا المُحب الكامل والحكيم العادل... هذا الرجل هو سقراط في سجنه وقد دنا أجله. ليس يكفي القول في وصف حاله أنه لا يخشى الموت أو أنه ينتظره بشجاعة فهو مغتبط به أشد اغتباط، هو يعلم أننا ملك الآلهة وأن الانتحار إنتفاض على إرادتهم، ولكنه يرحب بالموت (عندما) يأتي على يد غيره، لأن الفيلسوف يحس الشوق إلى الإلهيات، ويحس ثقل الجسم يعوقه عن اللحاق بها، فالموت خلاص النفس وبداية حياة جديدة مع الآلهة، والفيلسوف الحق يجتهد ساعة فساعة أن يعيش في هذه الدنيا العيشة الروحية التي يشتهيها، وأن يتعجل الحياة الأخرى بممارسة العفة بمعناها الأسمى.. لأنه يعلم أن سعادته في التشبه باللَّه"(205).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(198) النصوص المسيحية في العصور الأولى - القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد - مقدمة، ص18.

(199) الفلسفة الإغريقية، جـ 1 ص155، 156.

(200) أورده د. محمد غلاَّب - الفلسفة الإغريقية، جـ 1 ص170.

(201) أوردته د. أميرة حلمي مطر - الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص142.

(202) المرجع السابق، ص150.

(203) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص71.

(204) أورده د. محمد غلاَّب - الفلسفة الإغريقية، جـ 1 ص160.

(205) تاريخ الفلسفة اليونانية، ص119.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/661.html

تقصير الرابط:
tak.la/r9wgf35