س 38 : ما هو دور الجانب الإلهي، ودور الجانب البشري في تدوين الأسفار المقدَّسة؟ وهل حملت هذه الأسفار طبيعة مزدوجة، إلهيَّة وبشريَّة؟ وهل ضعف الآنية البشرية، واللغة البشرية، جعل تسجيل هذه الأسفار عرضة للأخطاء؟
قال "بارت أهيرمان": " كما قلت في البداية بدأت أرى العهد الجديد على أنه كتاب بشري جدًا، وعرفت أن العهد الجديد الذي نملك كان نتاج أيادٍ بشرية أيادي نسَّاخ نقلوه... إن مؤلفي العهد الجديد كانوا مشابهين لحد بعيد للنسَّاخ الذين نقلوا كلمات هؤلاء المؤلفين. إن المؤلفين أيضًا كانوا كائنات بشريَّة ذات حاجات ومعتقدات ووجهات نظر وآراء ومحبة وكره ورغبات وأشواق وأوضاع وصعوبات. وبالتأكيد فإن كل هذه الأشياء أثرت فيما كتبوه... وكما أن النسَّاخ عدَّلوا كلمات رواياتهم بتغيير هذه الكلمات بكلمات أخرى، كذلك كان مؤلفو العهد الجديد نفسه يخبرون الروايات ويعطون تعليماتهم ويسجلون ذكرياتهم باستخدام كلماتهم الخاصة، كلمات كانوا يؤلفونها ليوصلوا رسالتهم بطرق تبدو مناسبة للشعب والزمان والمكان الذي كانوا يكتبون فيه" (152).
وقال أحد النُقَّاد: "بما أن الإعلان الإلهي قد أُعطي من خلال آنية بشرية لذلك فإن إنكار وجود أخطاء به يتشابه تمامًا مع فكرة (Docetism) التي أنكرت إنسانية المسيح ورفضت طبيعته البشرية" (153). وقال آخر: " بالرغم من أن الكتاب المقدَّس هو نفخة الله إلاَّ أنه يصل إلينا عن طريق اللغة البشرية المعرضة للسقوط، أو عن طريق شهود من البشر غير المعصومين" (154).
ج: أولًا:
دور الجانب الإلهي
1ـ الاختيار والإعداد
والتكليف
2ــ الروح القدس
الناطق في الأنبياء
3ـــ
ترك الروح القدس للكاتب حرية التعبير ولم يلغِ شخصيته
4ــ كتب
رجال الله القديسون ما أرده الله بالضبط
5ــ وضع
الروح القدس النبوات على أفواه الأنبياء
6ـــ عبارات وأقوال
نطَق بها الله
ثانيًا: دور الجانب البشري
يشبه
دور الكاتب في كتابة الأسفار المقدَّسة
أ -
دور السفينة الشراعية
ب - البوق
جـ - القيثارة
د -
المصباح الكهربائي
ثالثًا: الطبيعة
المزدوجة للأسفار المقدَّسة
رابعًا:
هل ضعف الآنية البشرية واللغة البشرية جعل كتابة هذه الأسفار عرضة
للخطأ؟
اختار الله رجال قديسين مشهود لهم لتسجيل الأسفار المقدَّسة، وأعدَّ هؤلاء الأشخاص مثلما أعدَّ موسى إذ تهذَّب بحكمة قدماء المصريين أربعين عامًا، وتعلم الهدوء والتأمل وصفاء النفس في البرِّية أربعين عامًا أخرى، قبل أن يدون لنا أسفار التوراة الخمسة، وأعدَّ السيد المسيح تلاميذه إذ تتلمذوا على يديه وعاشوا معه لم يفارقونه أكثر من ثلاث سنوات، فدوَّن متى إنجيله، ويوحنا إنجيله ورسائله وسفر الرؤيا، وبطرس رسالتيه... وأعدَّ بولس الرسول الذي تتلمذ على يدي غمالائيل، ثم انفرد في البرِّيَّة ثلاث سنوات مقابل السنوات التي أمضاها التلاميذ مع معلِّمهم، فسجل أربعة عشر رسالة تضم مائة أصحاح من إجمالي 260 أصحاح ضمها العهد الجديد.
صاحب الروح القدس كل كاتب من كتبة الأسفار المقدَّسة منذ أن أمسك بالقلم وحتى انتهى من كتابته، فكان يرشده وينير ذهنه وينعش ذاكرته، ويعصمه من أي خطأ وارد، ويعلّمه أمور لا يعلمها، ويساعـده على انتقاء الألفاظ، فجاءت كتاباتهم صحيحة معصومة من الخطأ.
ويشبه "ج. د. مكجارفي" دور الروح القدس بدور قائد الفرس، فيقول: " لتقريب هذه الحقيقة إلى أذهاننا يمكننا أن نقارن عمل الروح القدس مع كتَّاب الوحي بقيادة فرس مدرَّب، أنك تجذب اللجام يمينًا أو يسارًا بحسب ما ترى، أنك تهدئه عندما يسرع، وتُحفِزه لكي يسرع عندما يبطئ، لكنه دائمًا يعدو أو يمشي بالطريقة التي تروق له سواء في الطرق أو في الجبال، أمَّا اللجام فهو دائمًا في يد السائق، ومهما كانت للحصان الحرية في طريقة السير فإن اللجام والوخز (النخس) في الوقت المناسب، له السيطرة الأولى والأخيرة على الحصان، بل يمكننا أن نقول أن الحصان يسير بإرادته، لكن هناك مَن يقود ويوجه هذه الإرادة" (155).
وجاء في "قانون الإيمان": " نعم نؤمن بالروح القدس... الناطق في الأنبياء"، فالروح القدس هو الناطق في كتبة الأسفار المقدَّسة، ولذلك:
† قال "متى البشير" : " لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ" (مت 1 : 15) وأيضًا (مت 1 : 22).
† قال "لوقا البشير" عن الـرب: " كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ" (لو1 : 70).
† قال "بولس الرسول": " وَلكِنَّ الرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحًا.." (1تي 4 : 1) وقال لأهل تسالونيكي: " إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ" (1تس 2 : 13).
† قال "بطرس الرسول": " وَأَمَّا اللهُ فَمَا سَبَقَ وَأَنْبَأَ بِهِ بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ أَنْ يَتَأَلَّمَ الْمَسِيحُ قَدْ تَمَّمَهُ هكَذَا" (أع 3 : 18).. " كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ.." (أع 1 : 16).. " الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ... بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ" (1بط 1 : 10، 11) (راجع أيضًا نح 9 : 30، أع 4 : 25).
لم يترك الروح القدس الكاتب مكتفيًا بجهده البشري وبصيرته النافذة كما رأينا في النظرية الطبيعية، ولم يلغِ شخصية الكاتب ويقيد حرية تفكيره كما رأينا في النظرية الميكانيكية، ولم يتلبس الكاتب ويفقده وعيه كما رأينا في نظرية الانخطاف الروحي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولم يعطِ الروح القدس الكاتب رأس الموضوع ثم ترك له الحبل على الغارب كما رأينا في النظرية الموضوعية، ولم يعصمه في بعض الأمور دون الأخرى كما رأينا في النظرية الجزئية، إنما صاحب الروح القدس الكاتب خلال رحلة تسجيله الأسفار المقدَّسة منذ البداية وللنهاية، لذلك فنحن نؤمن بالنظرية الديناميكية Dynamic Theory، ويقول "دكتور موريس تاوضروس": " وحسب هذه النظرية (الديناميكية) فإن الوحي هو عمل خاص وخارق للطبيعة، من قِبل الروح القدس، وبموجبه ترتوي وتمتلئ إرادة الكاتب وفكره، وكل ملكات الإنسان الباطنية، ولكن مع ذلك فإن الروح القدس لا يلغي شخصية الكاتب ولا يفقدها حريتها وعملها الخاص، وأن يرفعها وينهضها ويشكّلها لكي تعمل مع الروح القدس هذا العمل الإلهي المتمثل في كتابة هذه الكتب المُوحَى بها من الله.
الوحي، هو هذا الدخول والتغلغل للروح القدس في كل الشخصية الإنسانية للكاتب، وليس في هذا فقدان لشخصيته أو ضياع لها، وكذلك ليس فيه أي إقلال أو إنقاص لها. بل يتقدم بها ليكسب النفس لتكون أكثر تبصرًا وفطنة وحذقًا، وليجعل العقل أكثر إشراقًا وتلألؤًا ولمعانًا. وهنا، فإن كل كاتب من هؤلاء الكتَّاب يتكلّم لغته الخاصة ويُعبّر وفقًا لتعبيره وأسلوبه الخاص، ذلك لأن الروح القدس في وحيه يستخدم الكتَّاب، ككائنات شاعرة عاقلة وليس كآلات سلبية. على أن ما يصدر لهم لا يكتبونه كأنه من أنفسهم، ولكن من خلال تغلغل الروح القدس فيهم يكتبون حسبما يُوجَهون ويُرشَدون، وكما تكتب اليد بتوجيه الرأس الذي هو المسيح" (156).
فالكتاب المقدَّس هو كتاب إلهي، حمل لنا أفكار الله وأقواله وأفعاله، وكل ما فيه هو ما أراد الله أن يخبرنا به بالضبط، فيقول "جوش مكدويل" : " أن الكتاب هو أنفاس الله. لقد استخدم هو رجالًا ليكتبوا بالضبط ما أراد لهم أن يكتبوه، وجنَّبهم الأخطاء، لكن في نفس الوقت استخدم شخصياتهم المنفردة وأساليبهم المتميزة لينقل لنا ما أراده بالضبط" (157).. ويقول "بول ليتل": " فإن الأفكار التي أراد الله أن تكتب قد كُتبت، كذا فإن الكلمات التي استخدمها الكتَّاب كانت خاضعة لحماية الله" (158).. ويقول "ج. أ. بايكر": " فالله حرك أولئــك الرجــال الذين اختارهم وأعدهم (راجع إر 1 : 5، غل 1 : 15) وذلك ليكتبوا بالضبط ما أراده أن يكون مكتوبًا ليوصل معرفة الخلاص لشعبه، ومن خلالهم إلى العالم... وهكذا، فالكتاب المقدَّس المُوحَى به هو وحي الله المكتوب... " هكذا يقول الرب "عبارة قد تسبق كل سفر في الكتاب المقدَّس (359 مرة، وفقًا لكولر) دون أن تقلل من قيمة الكلام النبوي" (159).
وضع الله على أفواه كتبة الأسفار نبوات، ربما لم يدركوا أعماقها مثلما نطق إشعياء النبي بنبوته: " هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ" (إش 7 : 14)، فمن كان يصدق أن عذراء تحبل وتلد بدون زرع بشر؟!، حتى سمعان الشيخ لم يستطع أن يتصوَّر حدوث مثل هذا الحدث، حتى مرت الأيام والسنون وتحقَّقت النبوة وحمل سمعان الشيخ ابن العذراء على يديه، وما أعجب النبوات التي وضعها الروح القدس على فم إشعياء، وإرميا وحزقيال تجاه دمار بابل سيدة مدائن الأرض، وخراب صور وانتقالها وهيَ سيدة البحار... إلخ (راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدَّس ص 77 - 101).
مثل الوصايا العشر وأحاديث الله مع موسى عند تسلمه وصايا الناموس وشرح له خيمة الاجتماع بالتفصيل، ومثل أقوال الله التي سجلها الأنبياء. قال بلعام لعبيد بالاق: " وَلَوْ أَعْطَانِي بَالاَقُ مِلْءَ بَيْتِهِ فِضَّةً وَذَهَبًا. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتَجَاوَزَ قَوْلَ الرَّبِّ إِلهِي لأَعْمَلَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا... فَأَتَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ لَيْلًا وَقَالَ لَهُ... إِنَّمَا تَعْمَلُ الأَمْرَ الَّذِي أُكَلِّمُكَ بِهِ فَقَطْ... فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ هأَنَذَا قَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ. أَلَعَلِّي الآنَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ. اَلْكَلاَمُ الَّذِي يَضَعُهُ اللهُ فِي فَمِي بِهِ أَتَكَلَّمُ" (عد 22 : 18، 20، 38).
وقال الرب لإرميا النبي: " وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ... هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِـي فِي فَمِكَ" (إر1 : 7، 9)، وقال الرب لحزقيال النبي: " أَنَا مُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ. فَتَقُولُ لَهُمْ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ... وَتَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بِكَلاَمِي" (حز 2 : 4، 7)، وقال ميخا بن يملة: " حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّ مَا يَقُولُهُ لِيَ الرَّبُّ بِهِ أَتَكَلَّمُ" (1مل 22 : 14).
وقد أكد السيد المسيح على أن هناك وحي باللفظ عندما قال: " فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ" (مت 5 : 18)، وتمسك بولس الرسول بلفظة " نسل" وخرج منها بنتيجة هامة إذ ربط بين هذا النسل والسيد المسيح، فقال: " وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ وَفِي الأَنْسَالِ. كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُــوَ الْمَسِيـحُ" (غل 3 : 16).. لذلك عندما نسمع كلمات الكتاب المقدَّس ليكن لنا الإيمان الكامل أننا نسمع كلمات الله.
فهيَ تنقل الأشياء والبضائع من مكان إلى مكان بقوة دفع الهواء، فالكاتب يمثل السفينة التي حملت لنا أفكار وأقوال وأعمال الله، والهواء الذي يحرك شراع السفينة هو روح الله القدوس، ويقول "الخوري بولس الفغالي" أن: " الروح القدس الذي يدفع النبي ويقوده ويحمله كما يحمل الهواء السفينة ويدرها (ويدفعها) بسلطانـه المُطلّق. إن هذه الكلمات هيَ من وحي الروح، والوحي هو صوت الله، وشفاه الأنبياء هيَ أداة يلجأ إليها الله ليُسمِع صوته. ولهذا فالكلمات التي يتلفظ بها البشر هيَ بالحقيقة كـلام الله (1تس 2 : 13) وتتمتع بسلطان مُطلق على العقول والقلوب، وتحتوي على ينابيع النور والحياة (2تي 3 : 14 - 17) وهكذا يأتي الوحي إلينا عبر حروف وكلمات وجمل وفصول (أصحاحات) تكوّن الكتاب المقدَّس. هذا الكتاب، الله هو كاتبه، ومسئوليته في وضعه مباشرة. وإن لجأ الله إلى إنسان... فيصبح الإنسان أداة بين يديه وقيثارة تصل إلينا عبرها معرفة الأمور الإلهيَّة" (160).
لو وضعنا بوقًا أمامنا، فما هيَ أهميته؟!، فقيمة البوق تظهر عندما يبوّق فيه الإنسان، ومن نغماته ندرك المغزى، فربما يعلن عن تغيير نوبات الحراسة، أو استقبال إنسان عظيم، أو احتفال بالعيد، وربما ينذر بخطر قادم، أو نوبـة وداع لأحد الأحباء، فالكاتب يشبه البوق الذي لا فائدة منه بدون النافخ فيه، والنافخ هنا هو روح الله القدوس الذي يعلن مشيئة الله تجاه الإنسان.
فالقيثارة بدون عازف تمثل آلة موسيقية صامتة، ولكن متى أمسكت بها أنامل العازف فحينئذ ستشجوننا بأنغامها، وتثير فينا مكامن الفرح أو الشجن، والروح القدس هو العازف الماهر الذي يعزف أجمل الألحان وأعذبها على القيثارة، والقيثارة تمثل كاتب الأسفار المقدَّسة، ولذلك فالناتج النهائي هو سيمفونية سمائية رائعة.
فالمصباح الكهربائي بدون الكهرباء لا يؤدي عمله ولا ينير لأحد، ولكن عندما نصله بمصدر كهربائي عندئذ يظهر بلمعانه ويضئ لمَن في البيت، فالكهرباء هيَ عمل الله القدوس، والمصباح يمثل الكاتب، وكما أن المصابيح تتعدد أشكالها وتتنوع ألوانها، فمنها الشكل الكمثري، أو الأنبوبي المستقيم أو الأنبوبي اللولبي، ومنها مَن يصدر لونًا فسفوريًا أو لونًا ناصع البياض... إلخ. لكن التيار الكهربائي الذي يعمل في جميعها واحد، فتنوع المصابيح هنا يمثل تنوع الكتَّاب من جهة أعمارهم وأعمالهم وثقافاتهم ولغاتهم وشخصياتهم... إلخ والتيار الكهربائي يمثل عمل الروح القدس.
ووجه الإعجاز في الوحي الإلهي أن يتنازل روح الله ويشارك البشر لإنجاز هذا العمل العظيم، فتظهر كلمات الله المقدَّسة القوية في ثياب لغتنا البشرية الضعيفة، ورغم اختلاف كتبة الأسفار من جهة بيئاتهم وعلمهم وأزمانهم... إلخ، ولكن جميع كتاباتهم خرجت في انسجام تام تكمل بعضها البعض بدون أي نشاذ في هذه السيمفونية الرائعة. كل كاتب استخدم كافة إمكاناته فأبدع فيما كتب مستخدمًا الفنون الأدبية المختلفة، فنُسبـت الأسفار لكتَّابها، وفي نفس الوقت نُسبت لله لأنه المصدر الرئيسي لهذا الأسفار المقدَّسة.
ويقول "القمص عبد المسيح بسيط": "صيغت كلمة الله في شكل كلمات بشريَّة باللغات البشريَّة، العبرية والآرامية واليونانية، لأنها كانت مرسلة إلى البشرية عن طريق أنبياء ورسل من البشر لذا كُتبت بلغة يفهمها البشر، واستخدم في كتابتها كل أنواع وفنون الأدب والبلاغة اللغوية من شعر ونثر ودراما ورواية وقصة وأقصوصة وقصة قصيرة وملاحم وأمثال وحكم وتاريخ وفلسفة ولاهوت وسير ذاتية ومناظرات... إلخ. ووزن شعري وصور تخيلية، كالاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه، والطباق والجناس والتوازي والرمز... إلخ.
ومع ذلك ينسجم الكاتب انسجامًا تامًا ويتوافق توافقًا عجيبًا ومذهلًا في وحدة موضوعه، وتسلسل أحداثه، وتطابق تعاليمه وعقائده وأفكاره الجوهرية، وفي آياته ونصوصه وألفاظه وتعبيراته، وتبدو كل أسفاره كأجزاء أو فصول لكتاب واحد كاتبه شخص واحد، ولكنه متعدد المواهب، ومصدره واحد هو الله الذي حمل كتَّابه بروحه القدوس وساقهم وحفظهم وعصمهم من الخطأ وأرشدهم إلى كل الحق" (161).
2ــ عندما نتحدث عن الجانب الإلهي والجانب البشري في تدوين الأسفار المقدَّسة، لا نقصد تقسيم الأسفار إلى جزء إلهي وجزء بشري، إذ نتصوَّر أن الإنسان كتب أجزاء من عندياته، ثم أضاف إليها أجزاء أخرى مُوحَى بها، فمن المستحيل تقسيم الكتاب إلى قسمين، قسم إلهي وقسم بشري، ولا يمكن تقسيم الأسفار المقدَّسة، فنقول أن هذا الجزء من عمل الجانب البشري وذاك الجزء من عمل الجانب الإلهي، وأيضًا لا ننظر للأسفار المقدَّسة على أنها مختارات من روائع الكتابات البشرية، فأخذها الله وأضاف إليها بعض الأمـور اللاهوتية، ويقول "ج. أ. بايكر": " كل سفر في الكتاب المقدَّس هو رائعة أدبية من إنتاج كاتبه، لكن لاهوتيًا من حيث المحتوى... الكتاب بأكمله هو من صنع الله" (162).
إذًا مؤلف الكتاب هو الله بِاستخدام الأداة البشرية: " كيف (يكون) الله هو مؤلف الكتاب؟ الكتاب هو كتاب موسى ويشوع ومرقس وغيرهم، ولكن مع ذلك فالله هو المؤلف، هو الذي يوحي... الله حينما يتكلم في الكتاب يضع في "أداته" أفكاره هو وإرادته هو... الله ينحني نحو الإنسان ليكتب كتابه... إن الإنسان الذي يقتبل وحي الله يكتبه، ولكن الإنسان ليس أداة مائتة كالقلم بل شخص حي. الإنسان كائن مفكر حر، وبالتالي فهو ينقل وحي الله بكلامه هو وطريقته واستطاعته. كلام الله هو وحي الله حقًا. ولكنه يمر عبر الإنسان ويتحد بكلامه. إذًا أنا أقرأ في الكتاب كلامًا كتبه إنسان ولكن عليَّ أن أدخل إلى حيث الله حاضر في كلام مختاره" (163).
ويقول "دكتور إدوار ج. يونج": " أن الكتب المقدَّسة قد جاءت بنفخة الله، فهيَ تستمد في الواقع أصولها منه... ومن ثمَّ فالكتب المقدَّسة لم تخرج إلى الوجود لأن جماعة من عباقرة الناس، أبدعتها في لحظات وحي، أو أنشأتها لأن الله اختار أفضل ما كتب الإنسان وأضاف إليه بعض الإلهيات، أو لأنها خرجت محتوية على أفكار هيَ إلى حد ما الأفكار التي يوافق عليها الله... إن شيئًا من هذا ليس هو الأصل في الكتاب المقدَّس... إن الكتب المقدَّسة خرجت إلى الوجود بطريق خارق للعادة وبلا مثيل، أنها وحدها دون غيرها من الكتابات جاءت بنفخة من الله.." (164).
حملت الأسفار المقدَّسة طبيعة مزدوجة، إلهيَّة وبشريَّة، فالكتبة الملهمون هم قيثارات الروح القدس، وروح الله القدوس هو العازف على هذه القيثارات، لذلك فالأسفار المقدَّسة هيَ كلمة الله كُتبت بيد البشر، ويقول "أوريجانوس" : " إذا تبصَّر إنسان في أقوال النبوات بكل الشوق والتوقير اللائق بها، فمن المؤكد أن تتلامس روحه وأحاسيسه مع روح الله من خلال اطلاعه وتدقيقه فيها. وسوف يدرك أن الكلمات التي قرأها ليست من نطق بشر ولكنها لغة الله، وهكذا سوف يؤمن بكل يقين أن هذه الكتب لم تصنعها مهارة إنسان أو أي ذكاء أو فطنة أرضية، وإنما هيَ ذات طابع إلهي" (ANF. Vol. IV. P.345) (165).
ويقول "هنري نيس" عن الأسفار المقدَّسة: " يجب أن نعترف بالطبيعة المزدوجة للأسفار، فهيَ من جهة، كتاب مُوحَى به من الله، ومن الجهة الأخرى لا تلغي شخصية الإنسان" (166).
ويقول "جراهام سكروجي" : " مرَت هذه الكتب من خلال أذهان البشر، وكُتبت بلغة البشر وبأقلامهم، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر" (167).
ويقول "أنور يسى منصور": " وسيطر الله على هذا العنصر البشري للكتَّاب، فسمح بظهور طابعهم الشخصي فيما كتبوه، بينما كان يُوحي إليهم ويرشدهم بروحه القدوس وجعل هؤلاء الكتَّاب المعرضين للخطأ عند الكتابة، معصومين من أي خطأ. فالأسفار الإلهيَّة من ناحية هيَ كلمة الله بدون شك. ومن الناحية الأخرى هيَ أقوال موسى، وإشعياء، وبولس... وفي هذه الأسفار الإلهيَّة كتبوا ما أراده الله أن يُكتَب، وقدم لنا الله من خلالهم رسالته كما أرادها أن تكون...
قال البابا لاون الثالث عشر في رسالته: {لا يمكن أبدًا أن يقع أي خطأ في الوحي الإلهي، فهو بطبيعته ينفي كل خطأ، بل هو ينفيه ويستبعده بنفس الضرورة التي يمتنع فيها أن يكون الله تعالى الحقيقة العليا، مصدرًا لأي خطأ}..
وإن إنكار حقيقة أن الكتاب المقدَّس هو كلمة الله يؤدي إلى إنكار أن يسوع المسيح هو كلمة الله الأزلي، لأن الكتاب المقدَّس يعلن ذاته، وإن كان الكتاب يشير إلى المسيح، فإن المسيح يشير إلى الكتاب" (168).
ويقول "الأب ثيودور ستيليانوبولس": " كتب جورج فلوروفسكي أن الكتاب المقدَّس تاريخي بالجوهر... فيه لا نسمع صوت الله فقط إنما صوت الإنسان أيضًا... في داخله تكمن معجزة الكتاب وسرَّه، أي كلمة الله في لغة بشرية (الإعلان والتفسير - الفصل الثاني من الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد - وجهة نظر أرثوذكسية ص 19 - 44). فيندمج في الكتاب صوت الله في أصوات البشر العديدة. كل كلمات الكتاب بدون استثناء مسجَّلة بكلمات بشريَّة. الوحي الإلهي لم يتم في الفراغ... استعمل الله ممثلين هم بشر عاديون بمحدوديتهم في اللغة والمعرفة لنقل أوجه إرادته وأهدافه إلى أشخاص محدَّدين... أوريجانوس اعتبر أن الله في الكتاب يكلم البشر كالأطفال. القديس يوحنا الذهبي الفم رأى أن الكتاب تعبير عن التنازل الإلهي" (169).
ويقول "دكتور چورج فرج": " فهمت الكنيسة طبيعة الكتاب المقدَّس مثل فهمها لشخص السيد المسيح كونه إله كامل وفي ذات الوقت إنسان كامل بدون تعارض، كذلك الكتاب هو كتاب من الله بشكل كامل، وفي نفس الوقت كتاب بشري بشكل كامل، دون أدنى تعارض، فالوحي في المفهوم المسيحي يؤكد على شخصية الكاتب، فله لغة بشرية خاصة، يونانية كانت أو عبرية، له مستوى ثقافة معين، يعيش في حضارة محدَّدة، غير أنه كتب بفعل شركة كاملة مع الروح القدس، أي أن الكاتب لم يكن في حالة غير طبيعية أو فاقدًا لوعيه، إنما كان في حالة استنارة كاملة... " (170).
1ـــ بكل تأكيد أن الكتاب المقدَّس ناتج إلهي بشري مشترك، له طبيعة مزدوجة، طبيعة إلهيَّة كاملة، وطبيعة بشريَّة كاملة، ولا أحد ينكر ضعف الطبيعة البشرية وتعرضها للخطأ والسقوط متى كانت بمفردها، ولكن متى آزر الروح القدس تلك الطبيعة البشريَّة الضعيفة، فبلا شك أنه يحميها ويُكسِبها حصانة ضد أي خطأ كان، إذ يحفظها من أي ذلل أو أي شطط... نحن لا نؤمن بعصمة إنسان مهما كان، إلاَّ في حالة واحدة فقط، وهيَ حالة تسجيله الأسفار المقدَّسة، ويقول "جاك كاترول": " أن البشريَّة بحكم الطبيعة وبحكم الخلق منذ البدء لم تتضمن النقص. الله عندما خلق آدم وحواء خلقهما محدودين، ولكن لم يخلقهما ناقصين، وخطيتهما لم تكن محتومة، يسوع نفسه كانت له طبيعة بشريَّة لكن لم يكن هذا مبررًا للانزلاق في الخطية. نستطيع أن نُسلّم باحتمال الخطأ من الناحية الإنسانية وبقدر ما الإنسان معرَّض للخطأ والسقوط إلاَّ أن هذا لا يجعلنا نفترض ضرورة السقوط وضرورة الخطأ. لا بد أن نعرف أن احتمالات الخطأ هيَ أحد الأسباب الضرورية لوجود الوحي ولملازمته للكلمات والأفكار المنقولة من الله لأنبيائه ورسله. إذا كانت احتمالات الخطأ غير قائمة، لما كان هناك ضرورة للوحي، وإذا كانت الأخطاء محتومة فوجود الوحي إذًا بلا جدوى. إن الهدف الأساسي من إشراف الوحي على كل ما كُتب في الكتاب وعلى الكتَّاب هو لمنع الإنسان الذي يمكن أن يخطئ من أن يخطئ (171).
ويقول "ج. أ. بايكر": " أن الكتاب المقدَّس ليس فقط كلمة الإنسان (ثمرة فكر الإنسان، رؤيته، وفنه) بل هو أيضًا كلمة الله، التي نطقت بها شفاه الإنسان أو كتبها قلم الإنسان. بعبارة أخرى، الكتاب المقدَّس هو من تأليف مزدوج، والإنسان هو فقط الكاتب الثانوي، (أما) الكاتب والمؤلف الأساسي... هو الله الروح القدس" (172).
2ـــ الذين يقولون أن النتيجة الحتمية لاشتراك الدور البشري في تسجيل الأسفار المقدَّسة هيَ وقوع أخطاء، هم أنفسهم يعودون ويقولون ولكن الأمور اللاهوتية والعقائدية والأخلاقية فهيَ معصومة تمامًا من أي خطأ كان... فلماذا إذًا هذا التمييز..؟! إما أن هناك عصمة كاملة لجميع ما جاء في الأسفار المقدَّسة، وإما أنه ليس هناك عصمة على الإطلاق، لأن الذي يعصم الأمور اللاهوتية وهو الروح القدس هل يعجز عن عصمة الأمور التاريخية أو الجغرافية أو العلمي؟!
ويقول "جاك كاترول": "هناك جانب آخر لا بد أن نلاحظه أيضًا، وهو أن نفس الإنسان غير المعصوم الذي سجل التاريخ، هو نفسه الذي سجل رسالة الخلاص المعلنة لكل العالم. لذا من الخطأ أن نفرض السقوط على البشرية ثم نتمسك بعد ذلك بنظرية (العصمة المحدودة). إذا كان لا بد للبشرية أن تُفسِد التاريخ بالرغم من الوحي. فأنها يجب أن تُفسِد العقيدة والتعليم أيضًا بالرغم من الوحي، وبناء على ذلك لا بد أن نسجل هنا بوضوح كامل أنه إذا كان الروح القدس قادرًا على حماية العقيدة من الفساد بالرغم من أن الكتَّاب بشريون، فهو قادر أيضًا على حماية التاريخ" (173).
3ـــ الذين يركزون على الجانب البشري أكثر من الجانب الإلهي في كتابة الأسفار المقدَّسة قد جانبهم الصواب تمامًا، ويقول "دكتور إدوار ج. يونج": "أن النظريات العصرية تجتهد أكثر فأكثر أن تعطي مكانًا أوفى في الوحي لنشاط الإنسان، ومكانًا أقل لعمل الله، حتى أن دور الله يبدو في هذه النظريات أضعف وأضأل نسبيًا إلى الدرجة التي يبدو معها أحيانًا أنه ليس هناك من حاجة إلى الله في كل ما يتصل بأمور الوحي. بينما يختلف الرسول بولس مع هذه النظريات إلى أبعد الحدود، الأمر الذي لو صح، وهو صحيح، يبين كم تختلف فكرته في الوحي عن هذه النظريات... حقًا أنه أمر جوهري وأساسي أن توضح ما يكشف الكتاب نفسه عن عقيدة الوحي بأنه على وجه اليقين من الله نفسه!!" (174).
_____
(152) ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 263، 264.
(153) أورده جاك كاترول - سلطان الكتاب المقدَّس ص 37، 38.
(154) المرجع السابق ص 38.
(155) أورده جاك كاترول - سلطان الكتاب المقدَّس ص 26.
(156) موسوعة علم اللاهوت العقيدي - المجلد الأول ص 94، 95.
(157) برهان جديد يتطلب قرارًا ص 313.
(158) ترجمة وجدي وهبه - لماذا أؤمن؟ إجابات منطقية عن الإيمان ص 80.
(159) ف. ف. بروس وآخرون - قصة الكتاب المقدَّس ص 32.
(160) المدخل إلى الكتاب المقدَّس جـ 1 التوراة وعالم الشرق القديم ص 37.
(161) الوحي الإلهي واستحالة تحريف الإنجيل ص 76.
(162) ف. ف. بروس - قصة الكتاب المقدَّس ص 33.
(163) رهبنة دير مارجرجس الحرف - مدخل إلى الكتاب المقدَّس ص 18.
(164) ترجمة القس إلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 30، 31 .
(165) فكرة عامة عن الكتاب المقدَّس - دير القديس أنبا مقار ص 14 .
(166) أورده أنور يسى منصور - المتهم المعصوم ص 26.
(169) ترجمة الأب أنطوان ملكي - العهد الجديد - نظرة أرثوذكسية ص 42، 43.
(170) المدخل إلى تفسير العهد الجديد ص 23.
(171) ترجمة منى مرتجى بطرس - سلطان الكتاب المقدَّس ص 38.
(172) ف. ف. بروس وآخرون - قصة الكتاب المقدَّس ص 32.
(173) ترجمة منى مرتجى بطرس - سلطان الكتاب المقدَّس ص 38، 39.
(174) ترجمة القس إلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 31.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/38.html
تقصير الرابط:
tak.la/qx3855w