محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29
غل1:3 ”أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا!”
أيها الغلاطيون الأغبياء= (راجع تفسير الأغبياء في الصفحة الأولى من المقدمة).
السيد المسيح حين قال: " من قال لأخيه يا أحمق..." كان هذا بعد قوله: " من يغضب على أخيه باطلًا.."، وباطلًا تعني أن تهين شخصًا لأسباب دنيوية كأن يهينك مثلًا. وبولس لم يغضب عليهم ويصفهم بالأغبياء باطلًا أي لأسباب شخصية، بل كان له سبب وجيه، هو خوفه على خلاص نفوسهم. حزن بولس وغضبه يرجعان لسرعة اٍرتداد الغلاطيون للعبودية بعد أن تعب معهم وأراهم طريق النعمة وطريق الحرية وطريق الإيمان، بسبب الإخوة الكذبة. رقاكم: الرقية هنا هي السحر، أي من كتب لكم تعويذة أو سحرًا، فارتدادهم كان سريعًا بدرجة عجيبة كأن عقلهم في غيبوبة لذلك أسماهم بالأغبياء. فهم قد عميت عيونهم كأنها بسحر شيطاني، فلم يعودوا يميزون الحق من الباطل. وذهبي الفم يقول إن الرُقية هنا ناتجة ليس عن سحر حقيقي، بل هي ناتجة عن حسد الإخوة الكذبة بمفهوم العين الشريرة الحاسدة، وهم حسدوهم على الحرية التي هم فيها، فأرادوا أن يزعزعوهم عن الحق الذي هم فيه. الشيطان أغواهم لكي لا يطيعوا الحق. ومن المؤكد أن بولس الرسول لا يؤمن بهذه الأفكار (الرقية والحسد) ولكنه تعبير دارج للشرح.
قَدْ رُسِمَ
: فيها تصوير لطريقة عمل الروح القدس الذي تكلم على لسان بولس الرسول في شرح عمل المسيح كأنه قدم لهم لوحة مرسومة، وهذا عمل الروح القدس معنا دائما (يو16: 14)، فهو أوضح لهم كل صفات المسيح، قوته ومحبته وتواضعه... وأَوضَحْ صفة تميز شخص المسيح، وتبرز صفاته كلها هي صليبه (1كو23:1+ 2:2). وهذه الصفة هي التي أثرت في الغلاطيين وألهبت قلوبهم بحب المسيح. ونلاحظ أنه ليس من المهم أن نعرف شكل المسيح جسديا، فعين الإيمان ترى بوضوح أكثر من عين الجسد، ولنلاحظ ان الروح القدس هو الذي يعطي هذه الرؤية. فبعين الاٍيمان نرى المسيح مصلوبا بحب وبذل عجيب عنا وهذا لا تراه عين الجسد. فاليهود رأوه بعيونهم الجسدية مصلوبًا ولم يروا حبه، رأوه بالجسد وصلبوه.. رأوه ولم يؤمنوا به ولم يحبوه. وحتى تكون لنا العيون الداخلية التي نرى بها الله والأذان التي تميز صوته، وحتى نتذوق حلاوة عشرته، هذا يستلزم نقاوة القلب ويستلزم القداسة (مت8:5+عب14:12).
غل 2:3: ”أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هذَا فَقَطْ: أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟”
هذه سخرية من بولس الرسول عليهم. هذه مثل مدرس أجابهُ تلميذ بإجابة خاطئة جدًا فسخر منه قائلًا: "علمني من أين أتيت بهذه المعلومات الخطيرة". فهم آمنوا وحل عليهم الروح القدس وابتدأ يعمل فيهم بقوته أعمال إعجازية عجيبة وأعطاهم مواهب ألسنة وشفاء. وهم قد اختبروا كل هذا، فكيف بعد ذلك يصدقون الإخوة الكذبة أن أعمال الناموس لازمة للخلاص.
غل 3:3: ”أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟”
عمل الروح القدس فينا هو أنه يهدم الإنسان العتيق الذي فينا ويبني الإنسان الجديد الذي هو على صورة المسيح. وهذا قطعا لمن آمن واعتمد وحل عليه الروح القدس وكانت له إرادة التغيير التي تظهر في جهاده "كم مرة أردت.. ولم تريدوا" (مت37:23) وكلما مات فينا الإنسان العتيق وقام الانسان الجديد نَكمُل. وهذا معنى نَكمُل بالروح، أي هذا الكمال هو عمل الروح القدس فينا، وعمل الروح فينا يستمر العمر كله لنقترب من صورة المسيح (غل4: 19). وغباوتهم هنا راجعة لأنهم لجأوا لعمل جسدي هو الختان ليكملوا، فهل عجز الروح القدس عن أن يكملهم وكان الختان قادرا أن يقوم بما عجز عنه الروح.
ومن يعمل ما عمله الغلاطيون يكون بلا حكمة: أغبياء: فهم بعدما حصلوا على الروح القدس باعتباره القوة التي تغير طبيعتنا لنصير خليقة جديدة، وجدهم الرسول عادوا لأعمال الجسد من ختان وتطهيرات ناموس ليكملوا. ويسميها الرسول هنا ممارسات جسد لأن فرائض الناموس تعتمد على ممارسات ظاهرية وخارجية، ولا تمس أعماق الحياة الباطنية، ولذلك قال عنها أنها لا تستطيع إلا أن تطهر الجسد (عب 13:9). هنا الرسول يتعجب منهم كيف يعودون لأعمال الجسد بعد أن اختبروا عمل الروح فيهم. ولاحظ أنه يستعمل كلمة الجسد، فالجسد ضعيف وله شهواته الخاطئة إشارة لضعف الطرق التي ارتدوا إليها.
غل4:3: ”أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا؟ إِنْ كَانَ عَبَثًا!”
هم حين آمنوا تحملوا اضطهادات وأتعاب حتى بلغوا الإيمان الصحيح. وذلك من الوثنيين واليهود والإخوة الكذبة الذين يزعجونهم، فهل ما تحملوه كان عبثًا أي بلا سبب. إن كان عبثًا: أي هو ليس عبثًا قطعًا فأنتم تلمسون التغيير الذي حدث فيكم والمواهب التي حصلتم عليها. أي لماذا احتملتم ما احتملتوه من آلام، هل أخطأتم حين آمنتم، بل أنتم تخطئون الآن بارتدادكم.
غل 5:3: ”فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟”
فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ
: الله هو الذي يمنح الروح: والروح هو الذي يعمل قوات فيهم. أي أن الله منحهم الروح وبدأ الروح يعمل قوات فيهم بعد إيمانهم، فلم يسمع أن يهودي في ظل الناموس كان يعمل قوات، وهم كأمم لم يعرفوا القوات (المعجزات والمواهب الروحية) قبل إيمانهم. فبولس هنا يلجأ للمنطق. وكأنه يقول... قارنوا بين حالكم الآن وحالكم قبل الإيمان. الآن لكم مواهب وتعملون معجزات، وهذا بالإيمان بدون ناموس، واليهود أمامكم لم يكن لديهم القدرة على عمل قوات في ظل ناموسهم، فلماذا تعودون للناموس، فبماذا سيفيدكم الناموس. وفي هذه الآية نراهم يعملون معجزات وفي الآية السابقة نراهم يحتملون الآلام لأجل المسيح، واحتمال الآلام هذه درجة أعلى روحيًا.
غل 6:3: ”كَمَا «آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا».”
بعد أن قدم الرسول أدلة من اختبارهم الشخصي ها هو يقدم أدلة من الكتاب، وهو هنا يقدم شخصية من الكتاب يمجدها الجميع وهو إبراهيم الذي قيل عنه آمن بالله فحسب له برًا تك 6:15 (ترجمة سبعينية). وهذا التبرير حصل عليه إبراهيم قبل أن يختتن بحوالي 15 سنة. فالأمر في الختان كان في تك14:17 بل أن إبراهيم قيل عنه أنه تبرر قبل ناموس موسى بحوالي 400 سنة. إذًا إبراهيم قد تبرر دون ناموس ودون ختان.
غل 7:3: ”اعْلَمُوا إِذًا أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ”.
كيف يصير الغلاطيون أبناءً لإبراهيم وهم لم يعرفوه؟ البنوة التي يتكلم عنها الرسول هنا ليست البنوة الجسدية، بل بنوة فيها يتشابه الابن بأبيه ليس تشابه جسدي ولكن في الصفات. فهم بإيمانهم شابهوا إبراهيم في إيمانه، فليس من المهم أن يجري في عروقهم دماء إبراهيم، بل أن يجري في قلوبهم إيمان إبراهيم. وهكذا كل مؤمن هو ابن لإبراهيم. وهذا هو ما قاله السيد المسيح لليهود (يو8: 39، 44).
غل 8:3: ”وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»”.
فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ
: قيل في (تك 3:12) "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض". وقيل في (تك 18:18) "ويتبارك به جميع أمم الأرض". لقد عاش الأمم في ظلام دامس ولم تنقذهم فلسفاتهم من الخطايا ومن ألامهم. والناموس كشف لليهود عن خطاياهم ولكنه لم يخلصهم منها. لذلك صار الكل أمما ويهود في احتياج إلى مخلص الذي هو المسيح. ولو كان بالناموس خلاص لبَشَّر الله إبراهيم بالناموس. ولكن الله بَشَّر إبراهيم أنه سيأتي من نسله من سيكون سبب بركة لكل العالم "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك18:22). وإبراهيم حصل على هذه البركة أن من نسله ستكون بركة لكل العالم لأنه آمن، أي أن كل هذه البركة كانت بالإيمان.بَشَّرَ
: كلمة يبشر تشير لخبر مفرح. وقوله "لجَمِيعُ الأُمَمِ" يشير إلى علم الله السابق أن الأمم سيدخلون في الإيمان، فهو هنا قال جميع قبائل الأرض وجميع الأمم، فهو بهذا أدخل الوثنيون مع اليهود في البركة وفي الموعد، وأنهم بإيمانهم سيصيرون أبناء لإبراهيم. ونلاحظ كون أن إبراهيم يتبرر بالإيمان وأن في نسله تتبارك الأمم، بهذا يكون الناموس مجرد مرحلة مؤقتة.
آغل9:3، 10: ”إِذًا الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ. لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»”.
هنا نجد الرسول يرسم لهم طريق للبركة وطريق للعنة. فطريق البركة هو الطريق الذي سلكه إبراهيم فتبرر وباركه الله. وكان كل هذا لأنه آمن، أما طريق الناموس فهو يقود للعنة إذ يقول الناموس إن كل من لا يلتزم بالناموس هو ملعون (تث26:27). وهنا سؤال لكل واحد فيهم... هل فيكم من استطاع أن يلتزم بكل بنود ووصايا الناموس، لذلك من يرجع للناموس يجد أن الناموس يحكم عليه باللعنة. هل كان لإبراهيم خطايا؟ قطعًا كان له خطايا. ولكن نوعية إيمان إبراهيم جعلت الله يبرره بالرغم من خطاياه. والسؤال هنا لأهل غلاطية.. أي طريق تختارون البركة أو اللعنة.. الإيمان أم الناموس.؟!
وإيمان إبراهيم كان يتلخص في أن الله قادر أن يخرج حياة من الموت، فالله قادر أن يعطيه نسل من مستودع ميت، والله قادر أن يقيم له إسحق بعد أن يقدمه ذبيحة. لذلك كانت العلامة التي أعطاها الله لإبراهيم فيصبح بها في عهد مع الله ولا يُقطع من شعب الله، أي تكون له حياة، هي علامة الختان. ولماذا الختان بالذات؟ لأن الختان فيه إشارة لنوعية إيمان إبراهيم. فالختان هو قطع جزء من الجسم وتركه ليموت، وبهذا يحيا الإنسان، فهو حياة بعد موت وهذا هو إيمان إبراهيم. ولذلك قال عنه بولس إنه ختم لبر الإيمان (رو11:4 وراجع تك9:17ـ14 وقارن تك4:17 مع رو17:4)، وهل إيماننا بالمسيح فقط يبررنا؟ راجع المقدمة لترى أن الإيمان هو المدخل لطريق التبرير. ولكن علينا أن نجاهد ونحيا حياة التوبة وبهذا نثبت في المسيح، ومن هو ثابت في المسيح يحسب كاملًا، فالمسيح جاء ليكمل الناموس عنى، يكمل الناموس الذي لم يستطيع أحد أن يكمله، وبذلك فكل من يثبت فيه يحسب كاملًا (كو1: 28). وحياة التوبة هي أن نجاهد لنحيا كأموات أمام الخطية (رو11:6+ كو5:3) ومن يخطئ عن ضعف يسرع بالتوبة والاعتراف (1يو8:1، 9) وبهذا نظل ثابتين في المسيح. ختامًا نقول إن الختان كان إظهارًا لنوعية إيمان إبراهيم ولكنه ليس شرطًا للخلاص بدليل أن إبراهيم نفسه تبرر قبل أن يختن. وإيمان إبراهيم كان في أن الله قادر أن يخرج حياة من الموت. ومن يؤمن بالمسيح القادر أن يعطيه حياة إن مات عن الخطية يتبرر (ليس المقصود أن يحيا الإنسان بلا خطية تمامًا بل أن يجاهد وإن سقط عن ضعف يتوب).
غل 11:3: ”وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا»”.
نجد الرسول هنا يلتقط آية من سفر حبقوق هي أن "البار بالإيمان يحيا" ويستشهد بها بأن الإيمان هو طريق الحياة. وهذه الآية من (حب4:2)، وقالها حبقوق بقصد أن المؤمن بالله سينجو من الهلاك الآتي بيد بابل. قطعًا لو استطاع إنسان أن يلتزم بالناموس بالكامل سيحيا ولن يهلك. ولأنه لا يوجد مثل هذا الإنسان، دبَّر الله أن يكون الإيمان بالمسيح هو طريق التبرير وطريق الحياة.
غل 12:3: ”وَلكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»”.
قيل عن الناموس إن الإنسان الذي يفعلها يحيا بها (لا5:18). لكن الناموس هذا يشمل وصايا أخلاقية كما يشمل أعمال تطهير وخلافه كالختان... إذًا نقطة البدء في الناموس هي الأعمال.
الناموس ليس من الإيمان: في المسيحية نقطة البدء هي الإيمان، ومن يؤمن بالمسيح، فالمسيح يعينه في كل شيء، بل بدونه لا نقدر على شيء (يو5:15 + فى13:4). لذلك الناموس ليس من الإيمان، هو مختلف عنه تمامًا. لأن الناموس **يركز على أن أعمل أنا الأعمال**. أما الإيمان بالمسيح فيعطيني أن **المسيح يحيا فيَّ** فتكون لي أعمال بر أعملها بالمسيح الذي فيَّ، هي أعمال نابعة عن النعمة والتي تأتي كثمرة للإيمان، ودليل على وجوده وفاعليته. ولكن وضع الله الناموس ليعلم الإنسان الطاعة والخضوع لله وكره الخطية والنجاسة، وكل الطقوس والممارسات الشكلية في الناموس كانت رمزًا للمسيح لذلك نسمع في آية 24 أن الناموس مؤدبنا إلى المسيح. ولم يستطيع أحد أن يلتزم بالناموس، لكن بالمسيح استطعنا ذلك (رو 3:8، 4).
غل 13:3: ”اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»”.
في (غل10:3 + تث26:27) نرى أن من لا يلتزم بكل الناموس يكون تحت اللعنة. وفي (غل12:3+لا5:18) من يفعلها يحيا بها. وهذا ثبت إستحالته. لذا صار الكل تحت اللعنة. وهذا ما إعترف به الرسل في (أع 10:15) أن وصايا الناموس كانت كنير لم يستطيعوا أن يحملوه. والمسيح إفتدانا من هذه اللعنة لما حمل خطايانا في جسده، ومات تحت اللعنة على الخشبة (تث22:21، 23) وبنفس المفهوم قيل إنه صار خطية لأجلنا (2كو21:5). فالكهنة اليهود حكموا على المسيح بأنه مخالف للناموس أي خاطئ وأوقعوا عليه لعنة الناموس وحكموا بموته معلقًا على خشبة رمزًا للعنة والعار. والمسيح رضى بالحكم ولم يعترض، فهو الحكم الصادر على البشرية التي يحملها في جسده معتبرا جسده ذبيحة خطية. واللعنة هي لعنة الله نفسه التي تأكل بنار متقدة المضادين ولقد قبلها المسيح في نفسه إذ صار هو لعنة وقَبِلَ أن تشتعل فيه نار الغيرة الإلهية لتحمل لعنتنا.
ويقول البابا أثناسيوس الرسولي إن القول بأن المسيح صار لعنة وصار خطية يشير إلى أنه قَبِلَ اللعنة والخطية (صار منظره على الصليب منظر خاطئ مدان فهو حمل لعنتنا وحمل خطيتنا ليميتها بموته) وذلك كقولنا صار جسدًا (يو14:1) فهذا لا يشير لتحوله إلى جسد بل أنه لبس جسدًا (اتخذ له جسدًا) مع احتفاظه بلاهوته بلا تحول ولا تغيير. وهكذا هو صار له منظر الخطية واللعنة مع احتفاظه ببره وقداسته. وهو حمل خطيتنا لنأخذ نحن بره.
وقوله صار خطية يوسع دائرة تحمل المسيح لخطايا البشرية لتتعدى الزمان والمكان بمعنى أنه صار كفارة أبدية. وهو لحمله خطايا كل البشر صار لعنة بحسب الناموس= فكما رأينا أن الناموس يلعن المصلوب وصار خطية (1بط24:2) وبموته قتل الخطية لينقذنا منها.
افْتَدَانَا
: قارن مع (1بط18:1 - 20) فهي فدية على مستوى الذبيحة للكفارة + (أع28:20 + إش1:43، 3، 4، 14، 25 +6:44، 22 – 24)، فالرب اشترانا لنفسه لمحبته. ويمكن أن نقول عن إنه صار خطية وصار لعنة أن المسيح ظهر في شكل جسد الخطية ومات بجسده ميتة ملعونة ناموسيًّا أي الصلب.
غل 14:3: ”لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ”.
قيل في (تك3:12) "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" وفي آية 8 من هذا الإصحاح يقول الرسول "فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ": فما الذي عطَّل هذه البركة أن تصل للأمم فورا بعد أن وعد الله إبراهيم بذلك؟ السبب هو الخطية، واللعنة التي أصابت الجميع بسببها. إلى أن أتى المسيح وحملها عن الجميع يهودا وأمم.
وكأن لعنة الناموس ظلت حاجزة بين بركة إبراهيم والنسل الموعود له بالبركة (أي الأمم كلها). وكان لا يمكن للبركة أن تصل لنا إلا بعد أن حمل المسيح اللعنة. وبعد أن حملها تم الصلح مع الله وحلت على المؤمنين (أولاد إبراهيم بالإيمان) أعظم بركة أي الروح القدس الذي نناله بالإيمان. لقد صار موعد الروح بالإيمان لمن يؤمن بالمسيح عوضًا عن موعد سيناء بالناموس. ولقد صار الإيمان بالمسيح سببًا في رفع اللعنة عنا. فالصليب أزال اللعنة، والإيمان أعطانا التبرير. وكلما نجاهد لنسلك في البر تغمرنا نعمة الروح. لقد كان الناموس هو الخطوة الأولى للتعرف على الله. ثم صار الإيمان هو واسطة نوال موعد الروح.
غل 15:3: ”أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ”.
أيها الإخوة: سبق وقال لهم يا أغبياء للتوبيخ وهنا يشجعهم بقوله لهم إخوة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). فمن الحكمة أن يقسو مرة عليهم، ومرة أخرى يعاملهم برفق ليجتذبهم. وهنا يلجأ بولس الرسول لمنطق واضح جدًا. أنه إذا وعد إنسان إنسان آخر بشيء، لا أجرؤ أنا أو غيري أن نغير وعد هذا الرجل ونضيف شروطًا أخرى عليه. فما بالك بوعد الله لإبراهيم، فالله تعهد لإبراهيم فكيف يجرؤ الإخوة الكذبة على نقض عهد الله بالزيادة أو بالنقصان، فهم يريدوا أن يضيفوا ناموس موسى لوعد الله لإبراهيم؟
1 ـ إبراهيم يتبرر بالإيمان... راجع آية6... (تك6:15)
2 ـ فيك تتبارك كل الأمم...راجع آية 8... (تك3:12)
وكانت هذه الوعود لمجرد إيمان إبراهيم، فمَنْ مِنْ حقه أن يضيف شيئًا آخر كالختان أو الناموس الذين أتوا بعد وعد الله بسنوات طويلة. بولس يريد أن يقول لأهل غلاطية، إن الله وضع شرط الخلاص والتبرير بالإيمان. إذًا عليهم أن لا يضيفوا شيئًا آخر على ما قاله الله لإبراهيم. ونلاحظ أن الناموس أتى بعد الوعد بحوالي430 سنة ولم يذكر في الوعد شيء عن حفظ أعمال الناموس، بل ذكر فيه الإيمان، فإذا ما أضيف شيء، أي حفظ الناموس لوعد الله، يُساء إلى العهد الإلهي. فهل يُغيِّر الناموس الذي أتى بعد الوعد بـ430 سنة وعد الله لإبراهيم؟ قطعًا لا. ووعد الله لإبراهيم بأن يبارك الأمم فيه (تك3:12) شرطه أن يشبهوا أباهم إبراهيم ويؤمنوا مثله ويعملوا أعماله (يو8: 39) فيكونوا أولاده في الإيمان (غل7:3، 8). فمن يؤمن مثله يتبارك مثله.
بحسب الإنسان: أي سأستعمل تشبيهات بشرية.
غل 16:3: ”وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ: «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ: «وَفِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ”.
الكتاب تكلم عن البركة التي ستكون لأولاد إبراهيم الذين يشبهونه في إيمانه. فما هي هذه البركة؟ هنا نسمع أنها نسل إبراهيم أي المسيح. ولاحظ بولس الرسول أن الكتاب قال "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك18:22) ولاحظ أن نسلك جاءت بالمفرد. وهنا يقول أن الكتاب لم يَقُل " وفي الأنسال" حتى لا يقول اليهود إنهم هم الذين سيباركون العالم كأنسال إبراهيم بالجسد. وعود الله لإبراهيم بدأت في تك3:12 ثم18:18 ثم18:22 وقارن مع رو13:4. وإبراهيم نال هذه البركة، أنه سيتبارك العالم كله في واحد من نسله أي من أحفاده. والناموس لا يستطيع أن يلغي هذا الوعد الذي أخذه إبراهيم خصوصًا أنه جاء بعد 430 سنة من الوعد الذي كان في حاران.
غل 17:3: ”وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا: إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ”.
430 سنة: هي مدة تاريخ الوعد الأول (تك2:12و3) حتى ناموس موسى.
من هذه الآية نفهم أن المدة التي قضاها بني إسرائيل في مصر لا تتعدى 215 سنة. فالوعد لإبراهيم كان وعمره 75 سنة. وإبراهيم ولد إسحق وعمره 100 سنة. إذًا المدة من الوعد حتى ولادة إسحق = 25 سنة. وإسحق ولد يعقوب وعمره 60 سنة. ويعقوب نزل مصر وعمره 130 سنه. فتكون المدة من الوعد حتى النزول لمصر هي =25+60+130=215 سنة. وبالتالي تكون مدة بقاء بني إسرائيل في مصر= 430-215=215 سنة. أما لماذا قال الله إن نسل إبراهيم سيتغرب 400 سنة (تك 13:15) فذلك لأن مدة الـ400 سنة تشمل مدة بقاء إبراهيم وإسحق ويعقوب في أرض فلسطين كغرباء دون أن يمتلكوها. ولاحظ أنه حين يقول 400 سنة فهو يبدأ في حساب المدة من يوم أهان إسماعيل أخوه إسحق (تك9:21) فكلمة يمزح تعني في اللغة الأصلية يسخر منه. هذا بالإضافة لأن إبراهيم وإسحق ويعقوب عاشوا في الأرض التي وعدهم الله بها كغرباء في خيام(إبراهيم اشتهر بأنه كان له خيمة ومذبح) ولم يمتلك في أرض الميعاد سوى مقبرة مغارة المكفيلة إشارة لطبيعة حياتنا كغرباء في هذا العالم (عب 10،9:11) ولكن نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب هم الذين امتلكوا الأرض بعد ذلك.
ووعود الله ثابتة للأبد، ووعد الله يتركز في الإيمان بنسل إبراهيم الواحد والذي فيه تتبارك كل الأمم. وغلطة المتهودين أنهم حسبوا أن الناموس التأديبي قادر أن ينسخ= أي يلغي العهد المجاني لإبراهيم. هؤلاء تمسكوا بناموس يؤدب بالموت واللعنة كل من يتعدى عليه، ويبطلوا عهد الإيمان المجاني بالبركة. هؤلاء لم يفهموا أن الناموس (أي قانون) دائمًا للعقاب أما وعد الله لإبراهيم فيتضمن الميراث المجاني لمن يؤمن (رو17:8).
غل 18:3: ”لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ، فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ”.
هذه الآية تعني ببساطة أن هناك طريقين للوراثة:
1 ـ إما بأعمال الناموس. 2 ـ أو بوعد من الله. (وكان الوعد سابق للناموس).
والآن لنرَ ماذا سنرث؟
مجد أبدي وفرح أبدي، ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على بال إنسان. وأجسادنا يصير لها نفس مجد جسد المسيح فنصير مثله (1 كو9:2 + في 21:3 +1 يو2:3). فإن فهمنا أن الميراث سيكون في نظير أعمال، فما هو العمل الذي يوازي ما سنحصل عليه في السماء.
الناموس يلزم الخاطئ بتقديم شاة أو غسل يديه، فهل هذه الأمجاد السمائية تناظر شاة. لقد تساءل هذا السؤال ميخا النبي فقال: "بم أتقدم إلى الرب... هل يسر الرب بألوف الكباش. بربوات أنهار زيت" (مى6:6، 7)، ويجيب ميخا عن ما الذي يفرح الرب حقيقة وأجاب النبي قائلا: "أن نصنع الحق ونحب الرحمة ونسلك بتواضع مع الله" (مى8:6). إن الله لا يُسَّر بألوف الكباش لأنه قدم ابنه محرقة، ولن أقدم أنا زيتًا لله، فالله هو الذي سكب الروح القدس على الكنيسة وملأنا نعمة لتغيير طبيعتنا، وبالطبيعة الجديدة نخلص. أعمالنا لن تخلصنا وإلا ما كان المسيح قد تجسد وصلب. ولكن حتى نمتلئ من النعمة علينا أن نجاهد وهذا ما قاله ميخا: "أن نصنع الحق ونحب الرحمة...".
إن من يتصور أنه يرث البركة بسبب الناموس فهو يلغي الوعد بالبركة الذي أعطاه الله لإبراهيم بالإيمان. وبنفس المنطق لا يصح أن أقف أمام الله وأقول: أنا صليت لك وصمت لك وخدمتك... فلماذا تسمح لي بكذا وكذا من التجارب. لا يصح أن نتفاخر بأعمالنا أمام الله فهذا هو البر الذاتي الذي تكلم عنه المسيح: " لا تعلم شمالك ما تفعله يمينك".
غل 19:3: ”فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ”.
هنا يبدأ الرسول في بحث جديد وهو إذا كان الوعد بالبركة مجانيًا بالإيمان فلماذا الناموس؟ ونفس السؤال أجاب عنه في رسالة رومية (راجع المقدمة تحت عنوان عمل الروح القدس في تجديد طبيعة الإنسان).
قَدْ زِيدَ
: أي أضيف على الوعد بالإيمان. بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ: بعد سقوط آدم تحجر قلب البشر وصاروا ينحدرون من مستوى إلى مستوى أحط وزادت التعديات. وبعد خروج بني إسرائيل من مصر، خطط الله ليجعلهم شعبًا مقدسًا فكان أن أعطاهم الناموس عونًا ليسيطر على أخلاقهم الشرسة ويهذبهم. كان الناموس كلجام لهم ليضبطهم حتى لا ينفلتوا في الشر بسبب عقوبات الناموس وتأديبه. والناموس عَرَّفَ الخطية وأدخل الخاطئ تحت عقوبة الموت. وبولس هنا يشرح أن عمل الناموس كان إلى أن يأتي النسل الموعود به الذي ستكون به البركة، لكل من يؤمن به في موعد محدد أزليا أسماه الرسول ملء الزمان أي الزمان المناسب. فالفداء وإرسال الروح القدس سيغير طبيعتنا كطريق للخلاصمرتبًا بملائكة في يد وسيط: بولس يشرح هنا التقليد اليهودي أن الله أعطى الناموس لموسى كوسيط بينه وبين الشعب. وعين الله ملائكة خاصة ليسلموا موسى الناموس ويشرحوه له (أع 53:7 + عب 3،2:2). وربما هذا ما عناه موسى في (تث2:33). وهكذا كان ملاك مرافق ليوحنا في رؤياه ليشرح له. وهذا الناموس تم تسليمه بيد ملائكة ولم يسلم لإسرائيل رأسًا شأن وعد الله لإبراهيم، الذي استلمه إبراهيم مباشرةً من الله. وكان موسى وسيط بين الله والناس ليُذَّكِر بالمسيح الوسيط بين الله والإنسان، المسيح الذي سيأتي في ملء الزمان.
غل 20:3: ”وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ”.
أَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ
: في العهد القديم. الأمر إستلزم أن يكون هناك وسيط بين الله والناس وهو موسى. فالله يعطي الناموس للملائكة، والملائكة تعطيه لموسى، وموسى يعطيه للشعب. وقوله الوسيط لا يكون لواحد تعني أنه طالما هناك وسيط، فهذا الوسيط يكون بين طرفين والطرفين هنا هما الله والشعب. وَلكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ: أما في العهد الجديد فلم يكن هناك وسيط بين طرفين، بل أن الله تجسد وإتحد بالطبيعة البشرية.
الرسول يريد أن يقول هل تريدون أن ترتدوا من هذا الوضع الذي صرتم فيه واحدًا مع المسيح، اتحدتم به. والمسيح هو الله، لتعودوا للناموس ويكون هناك وسيط بينكم وبين الله. ونلاحظ قول بولس الرسول "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح" (1تى5:2). استشعر الإنسان في العهد القديم غضب الله، فطلب أيوب وسيطًا بينه وبين الله فقال "ليس بيننا مصالح يضع يديه على كلينا، ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه، إذًا أتكلم ولا أخافه" (أى33:9 ـ35). فهو اشتهى وجود مصالح بين الله وبينه ليرفع الله غضبه عنه. وكمرحلة أولى نجد الله يرسل موسى كوسيط بينه وبين البشر، وناموس موسى كان معاهدة بين الله والشعب اليهودي. ويظل الاتفاق ساري المفعول طالما ينفذ كلا الطرفين بنوده بكل دقائقه وحذافيره. ولكن الشعب اليهودي لم يلتزم ولذلك ثبت بطلان وعدم نفع الناموس الذي كان وسيطه موسى. وفي العهد الجديد كان الوسيط بين الله والإنسان هو الله يسوع المسيح. إذًا لا وسيط آخر بل الله الواحد لذلك ارتفع مستوى العهد الجديد عن العهد القديم الذي استلزم وسيطًا من البشر ومن الملائكة، وفي العهد الجديد لا يوجد طرفي تعاهد، بل يوجد واحد هو الله معطي الوعد، والله الذي اتحد بالطبيعة البشرية، فالله المعطي هو كل شيء وهو الوسيط. والإنسان قابل العطية قد اتحد به الوسيط ابن الله. والعطية كانت هي هذا الإتحاد. لم يعد هناك طرفان بينهما وسيط، فالله المسيح أخذ جسدًا وتأنس واتحد بالبشرية. الله صار هو كل شيء، لم يعد يظهر في الصورة سوى الله، فالإنسان مهما كان هو لا شيء أمام الله. وهذا هو ما سنصل إليه في اليوم الأخير حين يكون الله الكل في الكل (1كو28:15). والكل سيكون خاضع لله. وبهذا المفهوم أيضًا يكون وعد الله لإبراهيم أعلى درجة من وعد الله للشعب بالناموس، إذ لم يكن وسيط بين الله وإبراهيم.
ولأن الله الذي اتحد بالبشر واحد، فهو سيجمع اليهود والأمم لأنه إله الجميع يهود وأمم.
غل 21:3: ”فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ”.
فهل الناموس ضد مواعيد الله... هذا سؤال يسأله بولس. لأنه لو أُعْطِيَ ناموس قادر أن يحيى لكان البر بالناموس... هذا شرح للسؤال وإجابة هذا السؤال نجدها في آية 22.
والجزء الثاني من الآية هو نفسه تكرار للآية 21:2 " لأنه إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذًا مات بلا سبب". هنا بولس يتساءل. إذا كان وعد الله له كل هذه البركات، والناموس صار سبب لعنة لمن يخالف وصاياه، ولم يوجد من استطاع الالتزام بكل الناموس. فهل الناموس ضد مواعيد الله. ويسترسل بولس الرسول ليقول، إنني أسأل هذا السؤال لأنه لو وُجِدَ ناموس يقدر أن يعطي حياة وبر ـ والله يريد أن يعطينا حياة وأن يبررنا ـ لكان الله أعطانا هذا الناموس. في نظر الرسول أن الناموس مقدس والوصية مقدسة (رو12:7). ولكنه لم يستطع أن يكمل وعد الله لإبراهيم. فالناموس حكم بالموت واللعنة بينما وعد الله بركة وحياة. ولو كان هناك ناموس يعطي حياة لوفر الله على نفسه مشقة الصليب. الناموس لا يقاوم مواعيد الله فكلاهما مصدرهما الله ولكن هذا كنور الشمس (الوعد) وذاك كنور شمعة (الناموس) ومع هذا أفرز الناموس قديسين وأنبياء أطهار، وكان الشعب اليهودي أفضل بمراحل ممن حوله، وهذا دليل على نجاح الناموس. ولكن من استفاد من الناموس هو من لم يبحث عن بره الذاتي وانتفخ. أما في العهد الجديد فأنا أستطيع تنفيذ الوصايا بالمسيح الذي فيَّ. فهل أنتفخ وأتفاخر بنجاح مصدره هو المسيح، وكأنني أنا مصدر البر وليس المسيح. المسيحي الحقيقي يزداد تواضعًا كلما ازداد بره. فبر المسيحي راجع لأن المسيح يحيا فيه. والمسيح الذي يحيا في المسيحي هو مسيح متواضع.
غل22:3: ”لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ”.
الكتاب: الأنبياء وبقية الكتاب المقدس (العهد القديم)
أَغْلَقَ
: أقنع. إذًا الكتاب المقدس بنبواته ووصاياه أقنع الكل أممًا ويهود. إن الكل زاغ وفسد ويحتاج لمخلص من السماء هو المسيح. وأن أحسن من في البشر قد زاغ وله خطاياه، لذلك سجل الكتاب خطايا الآباء الكبار وضعفاتهم (إبراهيم ويعقوب وداود...).ونسمع في (رو9:3ـ18) أوصاف فظيعة عن البشر كما يصفهم الناموس، فهذه الأوصاف كلها مأخوذة من الكتاب المقدس. وملخص نبوات الأنبياء أن البشر في حالة خطية فظيعة، لكن يشير الأنبياء كلهم أن هناك مخلص سوف يأتي لينقذ البشرية. وبهذا فالكتاب أقنع البشر بفسادهم وجعلهم في وضع انتظار للمخلص الآتي. هذا بالإضافة لأن الناموس بتأديباته وعقوباته كان كمؤدب للشعب اليهودي. وبهذه الآية يجيب الرسول على سؤاله في آية 21 أن الناموس كان:
1) مؤدب؛ 2) ليعطي البشر أن يكونوا في حالة انتظار وترقب لمجيء المخلص.
ولكن لا يوجد ناموس يعطي حياة. وحتى الآن فإن النعمة لا تعمل في إنسان ما لم يدرك أنه خاطئ وفي حاجة للمسيح ليبرره، أما من يشعر أنه غير محتاج للمسيح يتقيأه المسيح (رؤ16:3و17) أي لا يعود ثابتا في المسيح. إذًا الناموس ليس ضدًا للإيمان بل هو يقود إليه. إذًا كل خاطئ الآن ليس ثابتًا في المسيح، والمسيح لا يحيا فيه، هو خاضع للناموس وعليه لعنة الناموس. وحينما يدرك بالناموس خطيته يبحث عن المسيح.
إيمان يسوع المسيح: تصديق يسوع المسيح أنه ابن الله وأن عمله أدى للخلاص. وهذا عين ما عمله إبراهيم حين آمن بالله أي صدَّق الله فتثبتت له المواعيد. وهكذا بالإيمان نال جميع الأمم في المسيح يسوع موعد الله لإبراهيم فتباركت فيه كل أمم الأرض حسب وعد الله: للذين يؤمنون.
غل 23:3: ”وَلكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ”.
مَحْرُوسِينَ
: تعني محبوسين كمن في سجن بأوامره ونواهيه. مُغْلَقًا عَلَيْنَا: في الحبس. في الآية السابقة سمعنا أنه قد أغلق علينا تحت الخطية أي صار الكل مقتنعًا بأنه خاطئ نجس يستحق الموت، والكل في انتظار الموت. وهنا نجد الكل مغلق عليه بأوامر ونواهي الناموس، بأن هذا حلال وهذا حرام، كنا كمن في سجن الناموس. والناموس أيضًا يحكم بالموت على من يخالف وصاياه وأوامره وطقوسه. أما الوضع في المسيحية أننا قد تحررنا من أعمال الناموس، وصرنا نطيع وصايا الكتاب بحرية وبدون خوف أو كبت، وذلك بسبب حياة المسيح فينا ومعونة الروح القدس (رو8: 26). فالمسيح حررني من طقوس الناموس وأعطاني أن أسلك بحسب وصاياه بقوة يعطيها هو لي (النعمة). أما في ظل الناموس، كانت طبيعتي هي الطبيعة القديمة المتمردة، وهذه احتاجت لمروِّض أو مؤدب يقول لها هذا حرام وهذا حلال، ويخيفها بعقوباته. مثال: من ثمار الروح القدس المحبة (غل22:5). فمن هو مملوء بالمحبة لن يحتاج لوصية "لا تقتل". ومن ثمار الروح التعفف، ومن له هذه لن يشتهي شهوة خاطئة ولن يحتاج لوصية "لا تزن".
غل24:3: ”إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ”.
مؤدبنا: الكلمة المستخدمة هنا تعني العبد المكلف بتربية طفل = ابن البيت، أي الذي يرافق الابن الحر أينما صار ليعلمه كيف يتحرك ويتصرف وكيف يسلك حسنًا، وله أن يستخدم العصا في التهذيب كوصية أبيه حتى لا يستخدم الابن حريته في الباطل. وهذا الوضع يستمر حتى ينضج الابن.
لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ
: بالإيمان بالمسيح نتبرر، أي تتغير طبيعتنا فنستطيع أن نسلك في البر ونعمل أعمال بر بحريتنا. والفرق بين الناموس والإيمان بالمسيح، هو أن الناموس هو مثل القانون الجنائي لا يستطيع سوى أن يحاكم القاتل، لكنه لا يستطيع أن يصل لضميره الداخلي ليمنعه أن يشتهي موت عدوه. ولا يستطيع الوصول لداخل القلب والفكر سوى الروح القدس. ووصية مثل "لا تشتهِ" لا يمكن تنفيذها إلا بالروح القدس.
غل 25:3: ”وَلكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ، لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ”.
هنا يؤكد استحالة الجمع بين العبودية وحرية البنين التي حصلوا عليها بالإيمان. من يرجع للناموس إذًا يكون مثل الرجل الناضج الذي يحن لضرب العصا الذي ذاقه في الطفولة، ولكن لنلاحظ أن الناموس ليس متعارضًا مع النعمة بل هو كان ممهدًا لها، ويقود لها وهو عاملًا معها. ولكن عليه أن لا يشدنا للوراء فنكون كمن ارتد من نور الشمس لنور الشمعة.
غل 26:3: ”لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ”.
الأصل اليوناني لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ في الْمَسِيحِ يَسُوعَ: وفي تعني أننا صرنا أبناء بالإتحاد بالمسيح ابن الله، وهذا يتم بالمعمودية (رو5:6). ونستمر بهذا الإتحاد في حياة التوبة والجهاد. جَمِيعًا: يهودًا وأمم فالمسيح فدى الكل ولاحظ أنه في الآيات السابقة كان يقول " كنا، مؤدبنا.." فالناموس كان لليهود وهو منهم. وهو في هذه الآية يقول "لأنكم".. يقصد أيها الأمم، أنتم لم يكن لكم ناموس موسى فيما مضى، هو كان لنا نحن اليهود، فما لكم وماله.
غل27:3: ”لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ:”
اعتمدتم بالمسيح: = صحتها اعتمدتم في المسيح. فنحن متنا مع المسيح وقمنا معه كخليقة جديدة قد تبررت وتقدست (رو 1:6-11 +2 كو17:5 +1 كو11:6).
لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ
: صار المسيح يحيا فينا وتكون أعضاءنا أعضاء له يستخدمها كآلات بر. يعطينا بره ويستر عيوبنا وتكون لنا فضائله. المُعمَّد في المسيح مات عن إنسانه العتيق ولبس إنسانًا جديدًا شكل المسيح، لذلك نكون صورة المسيح في تواضعه ووداعته.. إلخ.خلع الإنسان العتيق: موت مع المسيح في المعمودية ولبس المسيح تعبير عن القيامة بجسد مبرر يسلك ببر المسيح لذلك يلبس المُعمَّد ثوبا أبيض. ولكن ليحيا المسيح فيَّ، عليَّ أن أقبل الصليب (غل20:2). والمعمودية هي سر لأن الروح القدس يُجري فينا موتًا حقيقيًّا للإنسان العتيق وقيامة حقيقية، وذلك بأن يجعلنا نموت مع المسيح ونقوم معه متحدين به ولنا حياته.
غل 28:3: ”لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ”.
كما رأينا في الآية السابقة، ففي المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه لابسين صورته، ولذلك فكل من دخل المعمودية يهودي أو يوناني. عبد أو حر. رجل أم أنثى، الكل مات، والكل قام بشكل المسيح. وإذا كنا كلنا شكل المسيح فلا فرق بين واحد وآخر (غل19:4). وبولس هنا يركز على أقوال اليهود ويقتبس من كتاب الصلوات الصباحية لهم حين يصلون شاكرين الله، أنه لم يخلقهم أمميين ولا عبيد ولا نساء، فهذه تحسب أصل النجاسة. ونلاحظ أن في الكنيسة لا فرق بين سيد وعبد، فمثلًا فليمون السيد وأنسيمس عبده كلاهما صارا أساقفة. ويكفي المرأة كرامة أن العذراء كانت امرأة.
غل 29:3: ”فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ”.
الوعد لإبراهيم أن تتبارك في نسله (المسيح)، كل الأمم (نحن) صار لنا بالإيمان، فإبراهيم حصل على الوعد بالإيمان، ونحن نحصل عليه بالإيمان. والميراث السماوي صار لنا لا بالختان بل بالثبات في المسيح بالإيمان والمعمودية.
(I اختار الرب موت الصليب لعدة أسباب منها:-
1. حتى لا يُكسر منه عظم. ولا تنفصل رأسه عن جسده. فجسد المسيح هو كنيسته وهو يريدها بغير انشقاق. ويريدها أيضًا بلا انفصال عنه. فهو رأس الكنيسة الواحدة الوحيدة. . فمثلًا نجد أن موت السيف فيه تنفصل الرأس عن الجسد، وجسد المسيح هو كنيسته "وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ" (أف1: 22-23 + أف5: 30). وهو لا يريد أن ينفصل عن كنيسته.
2. الصليب من خشبتين، رأسية وأفقية. والمسيح بصليبه "جعل الاثنين واحدًا" (أف2: 14). فهو وحَّد السمائيين مع الأرضيين "ليجمع كل شيء في المسيح" (أف1: 10). هو جعل الكنيسة التي ما زالت تجاهد على الأرض (ويمثلها الخشبة الأفقية) واحدا مع السمائيين (ويمثلها الخشبة الرأسية). وأيضًا وحَّدَ اليهود مع الأمم، هو جعل الإثنين واحدًا. بل جمع الكل فيه. الخشبة الأفقية تشير لأنه يجمع كل من على الأرض فيه، والخشبة الرأسية تشير أنه يجمع كل من في السماء فيه. وهذا ما قاله رب المجد "وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلْأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ. قَالَ هَذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ" (يو12: 32-33).
3. مات فاتحا ذراعيه فهو في محبته يريد أن يقبل ويحتضن الجميع.
4. يهزم الشيطان في مكانه أي الهواء ويطهر الهواء [راجع تفسير أف2: 2].
5. أية ميتة أخرى - مثلا السيف تعنى أن الذي ضربه بالسيف هو الذي قتله. ونفهم أنه لا سلطان لمخلوق أن يقتل المسيح. أما بالصليب فهو أسلم روحه في يدى أبيه وقتما أراد. هم تآمروا عليه حتى وضعوه على الصليب، أما هو إذ له سلطان أن يضع نفسه ويقيم نفسه أيضا، أسلم روحه في يدى أبيه وقتما أراد هو (يو10: 18).
6. ظن اليهود أنهم أوقعوا على المسيح موتًا مهينًا لكي ينهوا على سيرته فيحتقره الناس وينسونه، فموت الصليب هو لأشر المجرمين. فحول المسيح الصليب إلى علامة نصر وقوة ومجد، صار الصليب علامة قوة وفخر لكل مسيحي. بل لقد صار الصليب رعبا للشياطين ويبطل أعمالهم كالسحر وما شابه من العرافة وكل هذه الخرافات الشيطانية. صار الصليب في يد المؤمن قوة ضد الشيطان. وصار الشيطان يهرب بعلامة الصليب.
7. يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولى:- ربما تساءل أحد إن كان لا بد للمسيح أن يُسَلِّم نفسه للموت، فلماذا لم يضع نفسه على فراش الموت كأى إنسان في السر وفى هدوء وبكرامة بعيدًا عن مهانة الصليب؟ (أ) لم يكن مناسبًا أن يوقع المسيح الموت على نفسه بنفسه، بل إنتظر أن يأتيه الموت ليبيده بقيامته. (ب) لو مات المسيح في زاوية دون أن يراه أحد وهو يموت، ثم أتى فجأة وقال لقد مت ثم قمت من الموت، فمن كان سيصدقه. بل أن اليهود بعد أن مات علنًا وقام وشاهده الكثيرون أجبروا من رآه بعد القيامة أن ينكرها. (ج) ولماذا يجعل موته سرًا إن كانت قيامته قد صارت علانية (ولكن لا يراه إلا من كان يستحق أن يراه، فالجسد الممجد لا يراه أي إنسان). (د) ويرد القديس بأن الموت العادي يأتي للبشر بسبب ضعف طبيعتهم إذ هم لا يستطيعون البقاء لزمن طويل لذلك فهم ينحلّون في الزمن المحدد لهم. ولنفس السبب تنتابهم الأمراض فيمرضون ويموتون. أما الرب فإنه ليس ضعيفًا بل هو قوة الله وكلمة الله وهو الحياة عينها. فلو مات بطريقة طبيعية لظن الناس أنه مات كسائر البشر نتيجة لضعف طبيعته. ولظنوا أنه لم يكن فيه ما يميزه عن سائر البشر.
8. لكن لاحظ أن المسيح بموت الصليب أظهر أن موته
كان بإرادته:- (أ) بل أظهرت الطبيعة غضبها على ما يحدث لخالقها (الزلزلة
وإحتجاب الشمس). (ب) ظهر لاهوته في صرخته بصوت عظيم، فالمصلوب يكون غير
قادر على التنفس، فمن أين للمصلوب أن يصرخ بصوت عظيم، وهذه الصرخة هي التي
تسببت في إيمان قائد المئة الواقف تحت الصليب (مر15: 37-39). فهو شاهد عمليات
صلب كثيرة ولم يرى مثل هذه القوة لمصلوب من قبل. هذه الصرخة القوية كانت إعلانا
أن لاهوته متحد بناسوته، وكانت هذه صرخة الانتصار على الموت وعلى الخطية وعلى
الشيطان. هذه اللحظة هي التي فيها قيَّد المسيح المتحد جسده بلاهوته، قَيَّد
الشيطان بسلسلة 1000 سنة (رؤ20: 1-3). (ج) المسيح هو الذي أسلم روحه ولم
يمت موتًا طبيعيًا، فكان كما قال أن له سلطان على نفسه أن يضعها من ذاته وليس
أحد يأخذها منه (يو10: 17-18). المسيح هو الذي أسلم روحه بإرادته في يدى الآب
"وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ
أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ" (لو23: 46).
ولقد كان كل الواقفين شهودًا على ذلك. (د) عند موته إنشق حجاب الهيكل
فوصلت الرسالة للواقفين وللسامعين أنه في لحظة موته إنفتح طريق الأقداس للبشر
(عب10: 19-20). (ه) تشقق القبور وقيامة الأموات بعد قيامة المسيح أظهرت أنهم
قاموا ليعلنوا أن موت المسيح كان هدفه إعطاء حياة للبشر.
9. هو أراد أن يموت موت العبيد، وبأبشع ميتة معروفة وهي الصليب وقبلها الجلد
وألام الخيانة والكراهية بدون سبب. لذلك لم يشرب الخل الممزوج بالمر، فهذا المر
يعمل كمُسَكِّن للألم. الرب أراد أن يشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها.
ولما كان الألم والموت لا يمكنهما أن ينالا منه فهو القدوس البار الذي بلا
خطية، فالألم والموت عقوبة على الخطية
"أنا اختطفت لي قضية
الموت (والألم)" (القداس الغريغوري). إختار هو أن يتذوق الألم في أبشع صوره التي عرفها الإنسان ليشابهنا في كل شيء.
وهذا معنى قول الرسول "ولكن الذي وضع قليلا عن الملائكة، يسوع، نراه مكللا
بالمجد والكرامة، من اجل الم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لاجل كل واحد.
لانه لاق بذاك الذي من اجله الكل وبه الكل، وهو ات بابناء كثيرين إلى المجد، ان
يُكِمِّل رئيس خلاصهم بالالام" (عب2: 9 ، 10). يُكَمِّل أي يشابهنا تماما في
ألامنا. ألام البشر نتجت عن الخطية، والمسيح كان بلا خطية، فما كان لأى ألم أن
يصيبه. لكنه إختار أن يتألم وبأقصى وأقسى أنواع الألم ليشابهنا. وهذا معنى أنه
يَكْمُل بالألم. وهو يسمح لنا نحن أن نَكْمُل بالألم لنشبهه في قداسته حين نكف
عن الخطية. فالرب يسمح لنا ببعض الألام لنكف عن الخطية (1بط4: 1) ونسمى هذه
الألام أيضًا الصليب. وهدف هذه الألام أن نشبهه في طهارته ونقاوته. فالصليب هو
عامل مشترك لنتشابه نحن مع المسيح.
10. هو أراد أن يحمل اللعنة عن البشر "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غل3: 13).
فكيف شرح الله موضوع اللعنة التي حملها المسيح على الصليب؟ وماذا تعني كلمة اللعنة وكيف دخلت للعالم. ونلاحظ أن البركة واللعنة كلمتان تترددان كثيرا في الكتاب المقدس. فما معناهما؟
II) تقابلنا أولًا كلمة البركة:-
نشكر الله أن كلمة البركة والخليقة الحسنة هي أول ما يقابلنا في الكتاب المقدس (تك1) ثم الفرح والجمال في (تك2)، وذلك قبل أن نسمع عن اللعنة. وبهذا نفهم أن البركة هي ما يقصده الله تجاه الإنسان.
*"... وكل طائر ذي جناح كجنسه. ورأى الله ذلك انه حسن. وباركها الله قائلا: «اثمري واكثري واملاي المياه في البحار. وليكثر الطير على الأرض" (تك1: 22 ، 23).
*"فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «اثمروا واكثروا واملاوا الأرض، واخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك1: 27 ، 28).
*"ورأى الله النور انه حسن" (تك1: 4). وتكررت العبارة بعد ذلك 4 مرات. وحينما خلق الله الإنسان فرح به وقال "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك1: 31) وهذا يشير لأن كل ما خلقه الله كان حسنٌ وجميل، وأكثر ما جعل الله فرحا هو الإنسان فقال عن خلقة اليوم السادس الذي خلق فيه الإنسان أنه حسن جدًا، الإنسان الذي أحبه الله، وظل الله يُعِّد له الخليقة بلايين السنين ليجدها الإنسان مكانا رائع الجمال ليفرح به "وغرس الرب الإله جنة في عَدْنْ شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله"(تك2: 8). جنة عَدْنْ = جنة (أي مكان جميل جدًا) وعَدْنْ (فرح وبهجة).
*"وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فاحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها" (تك2: 19).
مفهوم البركة
من الآيات المذكورة عاليه نفهم أن الله أراد أن الإنسان حبيبه الذي قال عنه "لذاتي مع بني آدم" (أم8: 31) *أن يحيا للأبد لأننا نجد شجرة الحياة وسط فردوس الله (تك2: 9). *وأن يحيا في جمال وفرح. *يعمل ويشترك معه الله في العمل، يحضر له الحيوانات ليعطيها أسماء = وهذه تعني يفهم خواصها وله سلطان عليها، لكي يعرف فائدتها وكيف يستخدمها. *يد الله معه في كل شيء فكل ما يعمله ينجح فيه. *يخلق له الحيوانات ويعطيه سلطانا عليها لكي يستفيد منها. وكل هذا يعني أن الله يبارك.
* وبنفس المفهوم نجد أن "الرب كان مع يوسف فكان رجلا ناجحا" (تك39: 2) بل أنظر قول الكتاب عن يوسف البار "وراى سيده أن الرب معه، وان كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده. فوجد يوسف نعمة في عينيه، وخدمه، فوكله على بيته ودفع إلى يده كل ما كان له. وكان من حين وكله على بيته، وعلى كل ما كان له، ان الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف. وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحقل، فترك كل ما كان له في يد يوسف (تك39: 3 - 6).
* وهكذا بارك الله لإسحق "وزرع اسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مئة ضعف، وباركه الرب. فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيما جدًا" (تك26: 12 ، 13). وقصد الله من هذا:- (أ) الله يحب أولاده الذين يتقونه ويريد أن يشترك معهم في أعمالهم فتنجح. (ب) ويرى الآخرين نجاحهم فيريدون أن يكونوا ناجحين مثلهم فيطلبون الرب ويعرفونه، ويتقي الجميع الرب. ولاحظ قول الفلسطينيين لإسحق حينما رأوا بركة الرب عليه "فقالوا: «اننا قد راينا ان الرب كان معك، فقلنا: ليكن بيننا حلف، بيننا وبينك، ونقطع معك عهدا. ان لا تصنع بنا شرا، كما لم نمسك وكما لم نصنع بك الا خيرا وصرفناك بسلام. انت الان مبارك الرب" (تك26: 28 ، 29).
* بل نرى درجة أعلى في البركة أن إنسانا يصير بركة للآخرين "وقال الرب لابرام: «اذهب من ارضك ومن عشيرتك ومن بيت ابيك إلى الأرض التي اريك. فاجعلك امة عظيمة واباركك واعظم اسمك، وتكون بركة. وابارك مباركيك، ولاعنك العنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك12: 1 - 3). هنا نرى بركة الطاعة لله، فحينما أطاع إبراهيم الله، باركه الله بل جعله بركة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. بل بارك الله إسحق بسبب إبراهيم "فظهر له الرب في تلك الليلة وقال: «انا إله ابراهيم ابيك. لا تخف لأني معك، واباركك واكثر نسلك من اجل ابراهيم عبدي" (تك26: 24) + ويقول إسحق لابنه يعقوب "ويعطيك بركة ابراهيم لك ولنسلك معك، لترث ارض غربتك التي اعطاها الله لابراهيم" (تك28: 4).
* ثم نسمع أن بركة الله تنتقل عبر البشر: فإسحق بارك يعقوب، ويعقوب بارك أولاده.
* ثم صارت البركة عن طريق الكهنوت "وكلم الرب موسى قائلا: كلم هرون وبنيه قائلا هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم. يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاما. فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وانا اباركهم" (عد6: 23 - 27). وهذا يعني أن الله هو الذي يبارك الشعب، ونطق الكاهن بكلمات البركة ليسمع الشعب فيفرحون بأن الله سيباركهم.
الخلاصة: الله خلق الإنسان ليباركه وليفرح ويحيا أبديا في شركة مع الله
وبعد الخطية صار الله يبارك من يتقيه
III) ثم سمعنا عن اللعنة بعد سقوط آدم:-
كلمة اللعنة إذًا دخلت بسبب الخطية ولم يكن هذا قصد الله من نحو الإنسان أولًا.
*"فقال الرب الاله للحية: لانك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل ايام حياتك. واضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق راسك، وانت تسحقين عقبه" (تك3: 14 ، 15).
*"وقال للمراة: «تكثيرا اكثر اتعاب حبلك، بالوجع تلدين اولادا." (تك3: 16).
*"وقال لآدم: لانك سمعت لقول امراتك واكلت من الشجرة التي اوصيتك قائلا: لا تاكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تاكل منها كل ايام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك، وتاكل عشب الحقل. بعرق وجهك تاكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي اخذت منها. لانك تراب، والى تراب تعود" (تك3: 17 - 19).
*"فطرد الانسان (والمعنى ضاع الفرح من الإنسان)، واقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة" (تك3: 24). (والمعنى لم يعد للإنسان حياة أبدية).
*"فالان ملعون انت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم اخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائها وهاربا تكون في الأرض" (فقد سلامه الداخلي) (تك4: 11 ، 12).
*"فقال: «ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لاخوته. وقال: «مبارك الرب اله سام. وليكن كنعان عبدا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم" (تك9: 25 ، 26).
مفهوم اللعنة
من الآيات المذكورة عاليه نفهم ماذا تعني اللعنة:- هي عكس البركة، فنرى آدم *يُطرد من الجنة أي لا يعود يفرح (عَدْنْ تعني فرح). *وفقد الإنسان سلامه الداخلي. *بل موتا يموت "إلى تراب يعود". *ودخلت كلمتي التعب والوجع = أنا إختطفت لي قضية الموت" (القداس الغريغوري) *بل يُطرد قايين من أمام الله ويصير مرفوضا من الله. *الإنسان يعمل ويجتهد والأرض لا تعطي خيراتها = قوتها - وقارن مع (تك26: 12 ، 13) - فأرض إسحق تعطي 100 ضعف أرض الفلسطينيين. وقارن أيضًا مع (حج2: 10 - 19). *بل نرى أنه لا بركة لإنسان تقي لو إشترك في العمل مع آخر شرير "وصالح يهوشافاط ملك إسرائيل" (1مل22: 44). وعملوا أسطولا من المراكب للتجارة وفشلت التجارة "وعمل يهوشافاط سفن ترشيش (سفن ضخمة لتبحر مسافات بعيدة) لكي تذهب إلى اوفير لأجل الذهب فلم تذهب لان السفن تكسرت في عصيون جابر" (1مل22: 48). وحينما ذهب يهوشافاط للحرب مع آخاب الشرير كاد يهوشافاط أن يموت إذ خدعه آخاب الشرير ولكن الله نجاه. ولكنه تعلم الدرس بعد ذلك = "حينئذ قال اخزيا بن اخاب ليهوشافاط ليذهب عبيدي مع عبيدك في السفن. فلم يشأ يهوشافاط" (1مل22: 49).
1. وأول لعنة سمعنا عنها كانت للحية أي للشيطان.
2. ثم سمعنا عن لعنة الأرض أي لا تعود تعطي قوتها.
3. ثم سمعنا عن لعنة الإنسان.
* ونرى في (تث27) ما الذي يأتي باللعنة على الإنسان.
* ونرى في (تث28: 1 - 14) أن البركة هي لمن يطيع صوت الرب.
* أما اللعنات فتلحق بمن يعصي الرب ولا يسمع لصوته (تث28: 15 - 68).
* ولقد دخلت اللعنة نتيجة للخطية أي عصيان الرب. وكلمة خطية لغويًّا تعني أن يخطئ الإنسان الهدف. ومن يخطئ الهدف لا يكافأ. ونسمع قول بولس الرسول "إذ الجميع أخطأوا واعوزهم مجد الله" (رو3: 23) أي ما أراده الله للإنسان من فرح وجمال وبركة وشركة مع الله، والتواجد في محضر الله ومجده فيتمجد الإنسان، كل هذا فقده الإنسان بسبب الخطية. ويقول الرسول أيضًا "الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد" (رو3: 12).
الخلاصة خلق الله الإنسان ليباركه لذلك نجد كلمة البركة تأتي أولًا
وكان هناك شرط وهو الطاعة: لا تأكل
ولكن حدث العصيان، فدخلت اللعنة وشملت كل بني آدم.
فهل يفشل قصد الله؟ قطعا لا يمكن هذا. وكان أن تجسد المسيح.
IV) صليب المسيح حول اللعنة إلى بركة لأن قصد الله أن يبارك الإنسان
ولاحظ أن الله يطلب الطاعة كعلامة على المحبة، فمن يحب الله سيثق فيه ويطيعه، وحينما يقول له الله أن هذا السلوك سيؤدي للموت كان ينبغي عليه أن يطيع. هنا نفهم أن الخطية تتلخص في أن الإنسان يقول "سأفعل ما أريده أنا لا ما يريده الله". وهذا تمامًا عكس ما قاله الرب يسوع في جثسيماني "يا ابتاه ان امكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد انا بل كما تريد انت" (مت26: 39). وهذا تمامًا ما يعمله القديسين الآن، فهم "يقدمون أجسادهم ذبيحة حية" (رو12: 1)، ولا يفعلون ما تمليه عليهم شهواتهم الخاطئة = "يصلبون الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل5: 24). ويعملون ما يريده الله فيكون لهم المجد نصيبا.
* وكيف يستطيع القديسين أن يفعلوا ذلك؟ هذه بركات الفداء، فالمسيح بعد فدائه وصعوده أرسل الروح القدس يثبتنا في المسيح فتكون لنا حياته (غل2: 20). ونُحسب في المسيح كاملين (كو1: 28). ويعطينا الروح القدس قوة ومعونة (رو8: 26). يسميها الكتاب النعمة (رو5: 15 ، 20)، وبها نستطيع طاعة الوصية بسهولة (عب12: 1). وحينئذٍ ننفذ ما فعله المسيح تمامًا ونقول "ليس كما أريد انا بل كما تريد انت". وبهذا يتحقق قصد الله ونعود للفرح والحياة الأبدية والمجد.
* ولكن ما الذي كان يحول بين الإنسان وبين حلول الروح القدس والتمتع بالنعمة والقوة؟ كان هذا بسبب غضب الله على الإنسان ودخول اللعنة بسبب الخطية، وراجع تفسير الآيات 13، 14 من هذا الإصحاح. وجاء المسيح ليحمل هو اللعنة ويرفعها عنا، ويصنع الصلح بين الله وبيننا بصليبه:-
*"إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمرا اياه بالصليب" (كو2: 14).
*"لأنه ان كنا ونحن اعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو5: 10).
*"وان يصالح به الكل لنفسه، عاملا الصلح بدم صليبه، بواسطته، سواء كان: ما على الأرض، أم ما في السماوات" (كو1: 20 ، 21).
*"ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح واعطانا خدمة المصالحة. أي ان الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة" (2كو5: 18 ، 19).
*"ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلا العداوة به" (أف2: 16).
"المسيح افتدانا من لعنة الناموس، اذ صار لعنة لاجلنا، لأنه مكتوب: «ملعون كل من علق على خشبة. لتصير بركة ابراهيم للامم في المسيح يسوع، لننال بالإيمان موعد الروح" (غل3: 13 ، 14).
لقد حمل المسيح لعنتنا على الصليب. وتحول الصليب من كونه لعنة ليكون بركة
V) كيف شرح الله ذلك في العهد القديم
هناك رموز كثيرة في العهد القديم تشرح كيف يتم هذا:-
[1] راجع قصة مردخاي وهامان (إس6، 7، 8) هي رمز واضح لذلك. فالصليب الذي أعده هامان لمردخاي صُلِب عليه. وكان الصليب لعنة (تث21: 23) "لأن المعلق ملعون من الله". ويأتي المسيح ليحمل هذه العقوبة عنا. فالصليب كان يشير إلى اللعنة. وحينما زالت لعنة الناموس عنا تصالح الله معنا. نجد أن الله شرح أن المسيح سيحمل اللعنة عنا بقوله "المعلق ملعون من الله" فحينما يُصلب المسيح الذي بلا خطية نفهم أن هذا كان لكي يحمل عنا لعنة الناموس. لقد تحمل المسيح لعنة الناموس بدلا عنا.
فَصَلَبُوا هَامَانَ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِمُرْدَخَايَ. ثُمَّ سَكَنَ غَضَبُ الْمَلِكِ." (إس7: 10).
1. هامان يدبر مؤامرة لقتل كل شعب الله = الشيطان يسقط آدم وبنيه ليدخل الموت إلى العالم.
2. مردخاي يدبر الخلاص لشعبه = المسيح يدبر الخلاص لكنيسته.
3. مردخاي المولود في بابل أرض العبودية، وكان في وضع المهانة كبواب = المسيح الذي أخلى نفسه وولد في العالم، آخذًا شكل العبد (فى2).
4. مردخاي في مجده (غل 8: 2) = المسيح الذي تمجد بالجسد بعد الصليب.
5. مردخاي الذي حُكِم عليه بالصلب = المسيح المصلوب.
6. مردخاي ظل حيًا كما عاد إسحق حيا = المسيح يقوم من الأموات.
7. فَصَلَبُوا هَامَانَ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لمردخاي = الصليب الذي دبره الشيطان ليُصلب المسيح عليه مستخدمًا شر اليهود وخبثهم، ووحشية الرومان، كأدوات لتنفيذ خطته، كان هو الأداة التي سحق المسيح بها الشيطان.
8. بعد صلب هامان سكن غضب الملك = بالصليب تصالح الله مع البشر.
9. كل ما كان لهامان صار لإستير (غل 8: 1، 7) = دخول الكنيسة إلى الأمجاد السمائية بدلا من الشيطان الذي كان مخلوقا سماويا يتمتع بالأمجاد السماوية.
10. أهلك اليهود أعداءهم (غل 8: 11) = صار للكنيسة المجاهدة سلطان أن تدوس الشيطان "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت16: 18).
الصليب الذي كان لعنة (تث21: 23)، صار بركة لنا وسحقا للشيطان. لقد أراد الله أن يبارك الإنسان حبيبه، فلما دخلت اللعنة بسبب الخطية، جاء المسيح لتعود البركة كما أرادها الله منذ البدء. فقصد الله لا يسقط. وهذا معنى أن المسيح هو البداية والنهاية (راجع تفسير رؤ1).
[2] موسى يُلقي عصاه فيتحول إلى ثعبان = المسيح صار خطية لأجلنا (2كو5: 21). ثم يمسك الثعبان فيعود كما كان أي عصا = المسيح يتمجد بعد الفداء. فالعصا في يد موسى كانت قوة - والمسيح هو قوة الله (1كو1: 24) + وتتحول يد موسى لتصير برصاء ثم تعود سليمة + الماء يتحول إلى دم. فبدم الصليب غفرت خطايا البشر. وصارت عصا موسى رمزًا للصليب القوي الذي به تصالحنا مع الله وإنسحق الشيطان.
[3] بشجرة كانت رمزا للصليب الخشب، يتحول الماء المر إلى ماء حلو (خر15: 22 - 25). وهذا يشير لمرارة الحياة قبل الصليب، وبعد الصليب وجدنا تعزيات الروح القدس وسط ضيقات هذا العالم.
[4] بعصا موسى ينشق البحر (خر14: 16) ويخرج بني إسرائيل من العبودية إلى الحرية. ونفهم من (1كو10: 1 ، 2) أن عبور الشعب للبحر الأحمر كان رمزا للمعمودية. والمعمودية إكتسبت قوتها من الصليب.
[5] بعصا موسى تخرج مياه من الصخرة فيحيا الشعب (خر17: 1 - 7) = الروح القدس ينسكب على الكنيسة بعد فداء المسيح على الصليب.
[6] ذبيحة المحرقة كانت توضع على المذبح على سيخين على شكل صليب (كتب التقليد اليهودي). وذبيحة المحرقة كانت ترمز للطاعة. والمسيح أطاع حتى الموت موت الصليب. وفيه نحسب نحن طائعين. لذلك كانت تسمى ذبيحة المحرقة "وقود رائحة سرور للرب" (لا1: 13). وكذلك "تنسم الله رائحة الرضا" حينما قدم نوح محرقته (تك8: 21) إذ رأى فيها الله طاعة المسيح والتي بها نُحسب نحن في المسيح طائعين (راجع تفسير 1كو15: 28).
[7] الحية النحاسية: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي ان يرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (بالصليب صارت لنا حياة أبدية بدلا من الهلاك). لأنه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية. لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان" (يو3: 14 - 18). ولاحظ أن الصليب يحول الموت إلى حياة وبركة لمن يؤمن = لأن من لم يؤمن ورفض النظر للحية النحاسية كان يموت من لدغة الحيات المحرقة. ولدغة الحيات المحرقة رمزا للخطية التي يسقطنا فيها الشيطان = الحية، والخلاص من الخطية لا شفاء منه إلا بالإيمان بالمسيح والثبات فيه.
[8] مذبح نوح: بعد أن إنتهى الطوفان وخرج نوح من الفلك بنى نوح مذبحا للربً وقدم عليه محرقة فتنسم الله رائحة الرضا (تك8: 20-21). فهذا الطوفان الذي أباد البشرية كان لعنة. ولكن بفعل الذبيحة والمذبح، والمذبح هو رمز للصليب والذبيحة ترمز للمصلوب، تنسم الله رائحة الرضا، وقال الله "لا أعود ألعن الأرض" (تك8: 21). والمعنى أنه بالصليب تُرفع اللعنة. أي حدث الصلح بين الله والإنسان بالصليب. وكان قوس قزح رمزًا لهذا الصلح فهو وعد بأن لا يعود الله ويغرق العالم مرة أخرى (تك9: 8-17). ومذبح نوح هذا كان أول مرة نسمع فيها عن كلمة مذبح رمز الصليب. والمعنى أنه بالصليب تُرفع اللعنة ويحدث الصلح ووعد الحياة "لِأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ" (رو5: 10). بل نجد قوس قزح حول عرش الله علامة أن هذه إرادة الله أن لا يعود يهلك الإنسان، بل يريد له الحياة الأبدية (رؤ4: 3).
بعد أن كان الصليب لعنة صار الصليب بركة لذلك قال بولس الرسول
"واما من جهتي، فحاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح (غل6: 14).
← تفاسير أصحاحات غلاطية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرسالة إلى أهل غلاطية 4 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير الرسالة إلى أهل غلاطية 2 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5yf6q78