محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
حكمة: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21
في التاريخ
الحكمة 10 - 19
10. |
|||
2. غاية الحكمة للأبرار والأشرار |
|||
3. زنابير تتقدم جيشك |
|||
4. بين تأليه الطبيعة وتأليه المصنوعات البشرية |
|||
5. ما وراء عبادة الأصنام |
|||
6. الوثنية وانحطاط البشرية |
|||
7. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 1 |
|||
8. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2 |
|||
9. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3 |
|||
10. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 4 |
في الباب الأول يحثنا الكاتب على طلب الحكمة بالصلاة والتوسل إلى الله، ليس فقط باللسان، إنما بكل كياننا، حيث نطلب البرّ، فنتحول إلى لهيب نار، يتوق إلى الحكمة السماوية المقدسة.
وفي الباب الثاني يدعونا الكاتب إلى اكتشاف عظمة الحكمة وقدرتها الفائقة، هذه التي فضلها سليمان الحكيم عن عرشه وعن كل غنى، فهي تهب الإنسان شركة مع الله ليحمل سمات فائقة تؤهله لتحقيق خطة الله من نحو البشرية ككل، ومن نحوه هو على وجه الخصوص، كما فعلت مع سليمان الملك باني الهيكل المقدس.
أخيرًا في هذا الباب (الثالث) يكشف لنا الكاتب عن دور الحكمة عبر الأجيال من آدم إلى دخول الشعب في أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلًا.
يستعرض هذا القسم (حك 11-19) عمل الحكمة في حياة الشعب أثناء الخروج، ليبرز حماية الله لشعبه ورعايته لهم، مقدمًا مقابلات بين حماية الحكمة للشعب وهلاك الوثنيين الذين حادوا عن الحكمة، ولم يتمتعوا بالإيمان. لم يحدث هذا عن محاباة، إنما عن كمال حرية الإنسان، إذ يقول عن الأشرار الهالكين: "كانوا على أنفسهم أثقل من أنفسهم" (حك 17: 21). فما حلّ بهم من ظلمة خارجية ليس إلا صدى لثقل الظلمة الداخلية الأشد مرارة وتدميرًا من الظلمة الخارجية.
جاءت هذه الأصحاحات تفسيرًا لما ورد عن قصة الخروج في شكل عظة تكشف عن رعاية الله لشعبه، وكيف يحول حتى الضربات التي يسقط تحتها الأشرار لخير أولاده كما لخير الأشرار أنفسهم إن تابوا ورجعوا إليه. يقدم الكتاب هذا العرض لتطبيقه في الحياة اليومية المعاصرة، سواء على مستوى الجماعة المقدسة أو العضو.
يعتبر هذا القسم عظة تشرح ما وراء تاريخ الشعب، خاصة بخصوص الخروج. تظهر رعاية الله الفائقة وخطته التي تختفي وراء الأحداث.
يرى بعض الدارسين أن الأصحاحين (10، 11) هما حديث تمهيدي(413) ليهيء للحديث الوارد في الأصحاحات 12 حتى 19. لكن يمكننا القول بأن الأصحاح العاشر (حك 10: 1-14) يكشف عن دور الحكمة فيمن يقتنيها كأشخاصٍ وتكملة السفر عن دورها في الكنيسة ككل، ولا فصل بين الشخص والكنيسة، لأنه هو عضو فيها بدونها لا كيان له، وبدونه لا وجود للكنيسة. فالعضو يحتاج إلى الجسم ككل، بدونه لا يمارس حياته ووجوده كعضوٍ حي، وبدون العضو تفقد الكنيسة جمالها ودورها، حتى وإن كان فقيرًا أو ظن أنه قليل المواهب والقدرات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم شعر الجفن لا يساوي شيئًا إن نُزع عن الجفن، بل يلقى في المزبلة، وبدونه يفقد الإنسان كله جماله!
يقدم لنا الكاتب خلال أمثلة وردت في العهد القديم كيف أن الحكمة مخَّلصة لذويها، كما يقدم عدة مقابلات.
يقدم الكاتب أمثلة عن حكمة الله العاملة في حياة الأبرار، دون أن يذكر أسماءهم، إنما غالبًا ما أشار إلى الشخص بلقب "البار". هذا ما يشغل حكمة الله أن تجد إنسانًا بارًا فتعمل فيه لحسابه كما لحساب الآخرين.
لعبت الحكمة دورًا رئيسيًا في حياة الأبرار منذ بدء الحياة البشرية. هنا يضرب أمثلة بآدم وهابيل وأخنوخ ولوط إلخ. وقد اهتم بالأحداث الواردة في الكتاب المقدس من منظار دور الحكمة في حياتهم. هذا وعدم ذكر الأسماء يعطي هذا الأمر نوعًا من الموضوعية، فالأمر لا يخص أشخاصًا معينين، بل كل إنسانٍ يمكن أن تكون له ذات الخبرة مع الحكمة. هذا مع إعطاء نوعٍ من السرائرية والإجلال لهذا الأمر(414). أراد الكاتب أن يركز على الحكمة ذاتها لهذا تجاهل ذكر أسماء الأبطال, الذين هم معروفون للقارئ اليهودي.
الحكمة تخلص ذويها، فقد كانت سندًا لآدم، وبدونها قتل قايين أخاه، وهي التي خلصت نوحًا بخشبة الفلك، ولوطًا من نيران سدوم وعمورة... وعبرت بالشعب البحر الأحمر، ووهبتهم التسبيح لله. لأن الحكمة فتحت أفواه البُكم وجعلت ألسنة الأطفال تفصح (حك 21:10).
يقدم الحكيم صورًا بهية لعمل الحكمة في حياة شخصيات رائعة في إيجابية مفرحة، كما يحذرنا من الجانب السلبي، أي الانحراف عن الحكمة وعدم اقتنائها.
1 -2. |
||
3. |
||
4. |
||
5. |
||
6 -9. |
||
10 -12. |
||
13 -14. |
||
15 -21. |
||
|
1 هِيَ الَّتِي حَفِظَتْ أَوَّلَ مَنْ جُبِلَ أَبًا لِلْعَالَمِ لَمَّا خُلِقَ وَحْدَهُ، 2 وَأَنْقَذَتْهُ مِنْ زَلَّتِهِ، وَأَتَتْهُ قُوَّةً لِيَتَسَلَّطَ عَلَى الْجَمِيعِ.
هي التي سهِرت على أول من جُبِل أبي العالم،
بعد أن خُلق وحيدًا،
وأنقذته من زلته. [1]
من الصعب أن ندرك دور الحكمة الإلهية في حماية آدم وهو في جنة عدن، لكن إعطاء آدم الأسماء للحيوانات لأول مرة دون تمتعه بخبرات لأسلافٍ له (تك 2: 18-20) يحتاج إلى حكمة عظيمة وسلطان. هذا وعندما سقط آدم بسبب عصيانه، لم يتخلَّ الله عنه بل تَبَنَّى قضيته، وقدمت له حكمة الله طريق الخلاص.
*
حينما تعدى آدم وصية الله، وأطاع الحية الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان، فاكتست النفس - تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة - اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: "إذ جرَّد الرئاسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب" (كو 2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله الرب أتى (إلى العالم)، لكي ما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان(415).* حل آدم رئيس المسبيين من رباطه، لأن المخلص سمع صوت الأسير، فنزل وأنقذه من تحت الأرض، لكي يصعده إلى علو السماء(416).
أما كونه "وحيدًا"، فربما تعني أنه الوحيد الذي خلقه لله من التراب ونفخ فيه نسمة حياة، أما حواء فجاءت من جنبه، وأبناؤهما ولدوا منهما. ولعلها تعني أنه فريد، أُعطى سلطانًا على جميع الخلائق (تك 1: 26-28؛ حك 9: 2-3).: يرى البعض أن آدم حين كان وحيدًا، قبل خلقة حواء التي قامت بدورها في تجربته.
وأعطته قُوة ليتسلط على كل شيءٍ. [2]
يتطلع القديس غريغوريوس النيسي إلى الإنسان ككائنٍ فريدٍ، موضع حب الله الفائق، الذي خلقه دون غيره على صورته ومثاله. أقامه ملكًا... لذا لم يجبله إلا بعد خلقة العالم كله بكونه قصرًا ملوكيًا للملك المحبوب، الإنسان! خلقه ليشهد له بمشاركته صلاحه، فيحمل شركة السِّمات الإلهية، خاصة الحب والقداسة... كما أعطاه سلطانًا. وعندما سقط بإرادته، واختار الشر الذي ليس من صنع الله بل غياب للفضيلة لم يتركه، بل جاء الكلمة الإلهي متجسدًا ليرد إليه صورته الأولى، ويدخل به إلى البنوة لله، ويعيد إليه حالته الفردوسية... إنه غاية عمل الله الخلاصي.
* كل العالم متقن حسنًا وهو ينتظر الإنسان، اصدري أمرك أيتها القدرة العاملة ليأتي ويستولي على مُلكه.
* وضع فوق رأسه خصلة الشعر كالتاج، ليكون معروفا من قِبل براياه بأنه ملك.
* وقف (آدم) صورة [الابن] وحده، وهو مليء جمالًا، فخافت البرايا من الصورة وأطاعتها،
ظهر شبه الابن في الوارث الذي تكوّن، فخضعت له الأعالي والأعماق وكل البرايا،
المسيح الجديد؛آدم الذي صار صورة للابن وقف في العالم، وكل العالم ركع وسجد له.
اشتاق النور إليه، لأن صورة النور كانت مصورة على وجهه، وفرحت السماء وأسرع نورها لخدمته،
ابتهج به البحر فهيأ أسماكه ليقدمها له، وسُرّت الأرض وركعت وسجدت مع أشجارها،
الشمس والقمر قدّما له أشعتهما، وبشروقهما كان يجملان للسيد الجديد،
الزحافات الجديدة وما في المياه، والطير الطائر في الهواء، كانت تسجد له أزواجًا أزواجًا، وتتباهى به،
كل البهائم والحيوانات والأجناس التي صارت، أحنت الكتف ليضع النير على رقابها،
أتت المقتنيات أمام القاني جوقات جوقات، وجماعات جماعات، وأفواجًا أفواجًا، وأزواجًا أزواجًا،
أتت ساجدة، وممتلئة أمانًا ومحبة، ورأس الحيوانات المفترسة منحن لتخضع له،
صُورت على آدم صورة اللاهوت العظمى، وحالما رآه العالم خضع له كله،
كل أجناس البهائم والحيوانات تقدمت، وسجدت له فألقى طابعه على مقتنياته.
3 وَلَمَّا ارْتَدَّ عَنْهَا الظَّالِمُ فِي غَضَبِهِ، هَلَكَ فِي حَنَقِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ قَاتِلَ أَخِيهِ.
ولما اِرتد عنها ظالمُ في غضبه،
هلك في حنَقِه الذي قَتلَ به أخاه. [3]
يقصد ب "الظالم" قايين (تك 4: 8-13)، فبسبب ظلمه لأخيه وسفكه دمه مات روحيًا (هلك).
رُفضت تقدمة قايين بسبب عدم نقاوة قلبه، وإذ تخلى قايين عن الحكمة، انهزم من غضبه، وجرّ على حياته شقاءً وبؤسًا.
في عدم حكمة استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذا به يستهين بالله نفسه في حديثه معه. فإن كل خطية تصوب نحو إخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. بالحقيقة إن ازدرى أحد بالآخر، إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير. لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله(417).]
* أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هي نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4)، والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته وقايين رفض تقدمته. لقد عُرفت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبر ووجد أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقه، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته.
لقد ارتكب قايين جريمة بشعة للغاية، ومع هذا لو أنه طلب حكمة الله لأزال عنه غباوته وقدم توبة تنقذه كما يقول القديس مار أفرام السرياني.
* ظهر الله لقايين بلطفٍ، حتى إذا ما تاب يُعفى عن خطية القتل التي ارتكبتها أصابعه وذلك بندامة شفتيه. إن لم يتب. يسقط عليه الحكم بعقوبة مرة تتناسب مع غباوته الشريرة(418).
4 وَلَمَّا غَمَرَ الطُّوفَانُ الأَرْضَ بِسَبَبِهِ، عَادَتِ الْحِكْمَةُ فَخَلَّصَتْهَا بِهِدَايَتِهَا لِلصِّدِّيقِ فِي آلَةِ خَشَبٍ حَقِيرَةٍ.
ولما غمرَ الطوفان الأرض بسببه،
عادت الحكمة فخلصتها.
إذ هدَتِ البارَّ بخشبٍ تافهٍ. [4]
البار هنا هو نوح الذي نجا من الطوفان بالفلك.
لأول مرة يذكر الكتاب المقدس أن الطوفان نتيجة للشر الذي تضاعف في الأرض بسبب قايين، وأن الله أبقى على العالم من أجل نوح البار وعائلته بواسطة خشب حقير، أي الفلك بكونه رمزًا للصليب علامة الخزي والعار واللعنة عند اليهود.
ينسب الطوفان إلى الظالم "قايين" إذ يحسبه قدوة، تمثل به الأشرار في أيام نوح. وقد جاء في يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن الأشرار هم أبناء قايين حسب التقليد اليهودي(419)، وإن كان هذا لم يرد في الكتاب المقدس.
نسب الطوفان إلى خطية قايين يبدو أنه نوع من المغالاة, لكن الكاتب يتطلع إلى بشاعة هذه الخطية مع طول أناة الله على نسل قايين، وإذ امتلأ الكيل حدث الطوفان.
إن كان الأشرار بسبب عدم تمتعهم بالحكمة الإلهية فسدوا في شرورهم وتعرضوا للطوفان، فإن نوحًا في المقابل تمسك بحكمة الله، فتمتع برمز الصليب والكنيسة، أي الفلك، وخلص من الهلاك.
* كان ذلك الفلك إشارة إلى الكنيسة عروس المسيح، التي هي جماعته المقدسة، وذلك مثل الفلك المجتمع بعضه إلى بعضٍ بالمسيح من أجناس كثيرة وبلدانٍ وألسنة كثيرة. جمعهم المسيح إلى الإيمان به، وجعل الكل واحدًا بروحه، مجتمعين بمحبته وحفظهم وصاياه كاجتماع خشب السفينة بعضه إلى بعض بالتسمير ووضع القار. كذلك مخافة المسيح ومحبته لدى جمع المؤمنين الخائفين والمحبين له، ولبعضهم البعض وتسميرهم بالمحبة الروحية، واتحادهم معًا. بحفظ الوصايا، حتى يكون الجميع فلكًا واحدًا، جسدًا واحدًا للمسيح. لكل منهم كما أعطاه الله من المواهب يخدم غيره ممن لم ينلها... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). قال الله لنوح أن يضع القار من داخل ومن خارج، أي تكون المحبة داخل قلوبهم بعضهم لبعض، تطّهر خارجهم بخدماتهم وعنايتهم وتعزيتهم بعضهم لبعض، متسمرين بمسامير مخافة الرب، وتسترهم المحبة من دخول الشيطان إليهم، كما يحمي القار السفينة من دخول الماء إليها.
وكما لا يمكن أن تجمع ألواح السفينة بعضها إلى بعضٍ إلاّ بالمسامير، كذلك لا تجتمع الجماعة بألفة إلى بعضها البعض إلاّ بخوف المسيح إلهنا... ولكون الكنيسة مؤمنة بالثالوث، أشار إلى ذكر الثالوث في السفينة مكررًا من كل ناحية الطبقات الثلاث وارتفاع الثلاث مائة والثلاثين ذراعًا(420).
ولما أجمعتِ الأمم على الشرِّ فأُخزيَت معًا،
فهي التي عرَفت البارَّ،
وصانته بلا عيبٍ أمام الله،
5 وَهِيَ الَّتِي عِنْدَ اتِّفَاقِ لَفِيفِ الأُمَمِ عَلَى الشَّرِّ، لَقِيَتِ الصِّدِّيقَ وَصَانَتْهُ للهِ بِغَيْرِ وَصْمَةٍ، وَحَفِظَتْ أَحْشَاءَهُ صَمَّاءَ عَنْ وَلَدِهِ.
وحفظته أقوى من عاطفته الحانية لولده. [5]
يشير هنا إلى البابليين الذين تكاتفوا معًا لبناء برج بابل خوفًا من تكرار الطوفان فينجوا منه. إنهم يتطلعون إلى الله كعدوٍ، بهذا جانبتهم الحكمة، فظنوا أنهم قادرون على الهروب من الله. عالجوا الأمر بالحكمة البشرية عوض الحكمة الإلهية التي تدعونا إلى الهروب من الغضب الإلهي بالارتماء في حضن الله والتمتع برحمته بالتوبة. حرمانهم من الحكمة دفع بهم إلى الخزي، حيث تبلبلت ألسنتهم، وتشتتوا في العالم (تك 11).
* صفّقت الشعوب والجموع برأي واحد للبدء في عمل الإثم بقلبٍ قاسٍ،
هلموا نتسلط على البلد، ونسكنه بجبروتٍ، مثل جمع حاشد لئلا يتبدد على الأراضي،
لنتمسك بعضنا مع بعضٍ لئلا نضيع في البلدان. لنصير شعبا ولا نُسمى شعوبًا على الأرض،
لنبنِ قرية لا يتغلب عليها الطوفان، ولنشيّد بناءً لا تجرفه الأمواج،
لنبدأ بعملٍ لا تخترقه الأنهار، ولنصنع حصنا يقدر أن ينقذ من الطوفان،
لنبنِ برجا لو خرجت المياه على الأرض وتصطدم به لا تُسقطه أمواجها،
لنضع أساسًا لو انفتح البحر الكبير لا يحطمه أو يؤذيه بالأمواج القوية،
لنؤكد ونبنِ شيئًا جديدًا لا يسقط، ولو انفتحت اللجة لا تصله،
وبالحرفة لنبنِ حصنًا كبيرًا باسم الجبروت الرهيب ونصعد إلى السماء،
لنصعد ونكن جيران الشمس في موضعها العالي وليكن مسكننا عندها وقريبا منها،
لنصعد ونستقر في السبيل التي يعمل فيها القمر، وننظر إلى تغيير الأزمنة وهي تدور،
هلموا نصعد إلى كواكب النور في سبلها، وهلموا نصنع لنا اسمًا يشتهر أكثر من اسمها،
هلموا نرتفع إلى حيث تعبر القوات، ولنكن رفاقًا للمجرة الحاملة الأزمان،
لنبنِ مقصورة هي بداية ونهاية: لم يكن مثلها ولن يصير ما يعادلها قط على الأرض،
هلموا نصنع لنا قرية تصل إلى السماء، ونسكن هناك في الموضع العالي عن المضرات،
لنصنع مصعدًا عجيبًا بواسطة جمعنا، وبه نصعد من الأرض إلى على الهواء،
لنترك الغيوم ونتسلط على مكان فوقها، ولنترك الرياح ثم نرتفع إلى الأعالي،
لنصنع اللبنات ولنحرقها بالنار، ولنقم عمارة من حجر لا تنهدم.
على نقيض ذلك عاش إبراهيم وسط شعوب وثنية، حتى قبيلته كانت تعبد القمر، لكن الحكمة حفظته ليكون أبا لكل المؤمنين (حك 10: 5). بالحكمة قدم إبراهيم ابنه ذبيحة لله، حاسبًا محبته لله أعظم من محبته لوحيده، فتمتع بالبرّ.
وهب الله الإنسان العقل كعطية إلهية يليق تقديسها لبنيانه في كل جوانب حياته. لكن أهل أرض شنعار أساءوا إلى العطية لأنهم لم يطلبوا حكمة الله لتقديسهم، وفي كبرياء ظنوا أنهم قادرون على مواجهة تأديبات الله بطرق بشرية. أرادوا أن يقيموا برجًا رأسه في السماء، فانحدروا بالأكثر إلى الهاوية. صورة مؤلمة لمن يرفض حكمة الله، ويتكل على حكمته البشرية الذاتية.
* انظروا ما أشر العظمة والكبرياء بالحكمة! كان الجميع مجتمعين متفقين. تعظموا ففرَّقهم الله. وهكذا تفرِّق العظمة شمل كل المفتخرين... نزل الرب ليرى فعلهم. هكذا سبق فتنبأ عن نزوله بالجسد من أجل خطايا الناس في آخر الزمان... ذكر النزول لبني إسرائيل ليدربهم على ذلك ويتدرج بهم، حتى لا ينكروا النزول الحقيقي بتجسده(421).
يقارن الحكيم هنا بين شعب اعتمد في كبرياء على حكمتهم البشرية فتفرقوا، وبين إبراهيم الذي آمن بالله وأحبه، فقدم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة. عاد معه اسحق الذي منه جاء من تتبارك به كل الأمم.
* بالإيمان لم يتردد إبراهيم عندما قدم وحيده، الذي فيه نال المواعيد، إذ حسب أن الله قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 17- 19).
هكذا يقدم لنا الرسول تقريرًا عن أفكار الإنسان المؤمن، أن الإيمان بالقيامة كان قد تثبت في ذلك الحين في إسحق. لذلك ترجى إبراهيم إقامة إسحق، وآمن بما سيحدث في المستقبل ولم يكن بعد قد حدث.
الآن كيف لا يؤمن أولاد إبراهيم بما يحدث فعلًا في المسيح وقد آمن به إبراهيم أنه سيحدث وذلك في إسحق؟
بالأحرى أتكلم بأكثر وضوح أن إبراهيم عرف نفسه أنه رمز لصورة الحق المقبل.
لقد عرف أن المسيح سيولد من زرعه، هذا الذي سيُقدم ذبيحة حقيقية عن العالم كله وأنه يقوم من الأموات(422).
بحكمة الله، وليس بقدراته الذاتية أو فهمه أدرك إبراهيم الأمور المقبلة كأنها حاضرة في حياته.
* عندما قدم إبراهيم ابنه إسحق، كان رمزًا لله الآب، بينما كان إسحق رمزًا لربنا ومخلصنا(423).
6 وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتِ الصِّدِّيقَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْهَالِكِينَ؛ فَهَرَبَ مِنَ النَّارِ الْهَابِطَةِ عَلَى الْمُدُنِ الْخَمْسِ. 7 وَإِلَى الآنَ يَشْهَدُ بِشَرِّهِمْ قَفْرٌ يَسْطَعُ مِنْهُ الدُّخَانُ، وَنَبَاتٌ يُثْمِرُ ثَمَرًا لاَ يَنْضَجُ، وَعَمُودٌ مِنْ مِلْحٍ قَائِمٌ تَذْكَارًا لِنَفْسٍ لَمْ تُؤْمِنْ. 8 وَالَّذِينَ أَهْمَلُوا الْحِكْمَةَ، لَمْ يَنْحَصِرْ ظُلْمُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ بِجَهْلِهِمِ الصَّلاَحَ، وَلكِنَّهُمْ خَلَّفُوا لِلنَّاسِ ذِكْرَ حَمَاقَتِهِمْ، بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا كِتْمَانَ مَا زَلُّوا فِيهِ. 9 وَأَمَّا الَّذِينَ خَدَمُوا الْحِكْمَةَ؛ فَأَنْقَذَتْهُمْ مِنْ كُلِّ نَصَبٍ.
وهي التي أنقذت البار لما هلك الأشرار،
وكان هاربًا من النار الهابطة على المدن الخمس. [6]
البار هنا هو لوط والمدن الخمس Pentapolis التي في السهل هي: سدوم وعمورة وأدمه Admah حبوييم وبالع أو صوغر (تك 14: 2).
للقديس جيروم تعليق جميل على شخصية لوط إذ يقول إنه إذ كان إيمان لوط قليلًا ذهب إلى صوغر فأنقذ بلدًا صغيرًا من الدمار، ولو كان له إيمان أعظم لأنقذ مدنًا أكثر وأكبر(424).
أنقذت الحكمة لوطًا من النار الهابطة والدخان الصاعد من المدن الخمس والتي لم ينجً منها سوى صوغر التي صفح عنها الله لكي يسكنها لوط. وإذ فقدت امرأته الحكمة تطلعت إلى الوراء، فصارت عمود ملح.
يذكر فيلون اليهودي السكندري أنه حتى أيامه كان المكان لا يزال ينبعث منه الدخان، ويرجح أن يكون في الطرف الجنوبي من البحر الميت حيث تمتد سلسلة من الجبال إلى مسافة تبلغ 8 كم، يتراكم الملح على أغليها وتُسمى جبال سدوم، كما توجد إلى الآن بعض أعمدة ملح، يطلق على إحداها امرأة لوط.
لقد عاش لوط في سدوم التي اتسم شعبها بالشرور والفساد، وكما يقول بطرس الرسول: "وأنقذ لوطًا البار، مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7- 8). كان ساكنًا في وسطهم، لكنه كان هاربًا بقلبه منهم حتى لا يشترك في آثامهم. لهذا عندما خرج لوط لم يفكر قط أن يتطلع إلى خلف نحو شعب سدوم. هرب من شرورهم، وبالتالي هرب من النار الهابطة عليهم. وقد حثنا القديس أمبروسيوس أن نقتدي به، هاربين من محبة العالم الشرير والانغماس في الشر.
* ليتنا نهرب مثل لوط الذي خاف من جرائم شعب سدوم أكثر من العقوبات التي تحل بهم.
بالتأكيد الإنسان القديس يختار أن يغلق منزله أمام رجال سدوم، ويهرب من عدوَى معاصيهم. عندما سكن معهم لم يتعرف عليهم، لأنه لم يعرف شرورهم، وهرب من خزيهم. عندما هرب لم يتطلع خلفه نحوهم، إذ لم يرد أن يشترك معهم.
من يعتزل الرذائل ويجحد طريق حياة مواطنيه (الأشرار) يكون في حالة هروب مثل لوط. مثل هذا الإنسان لا يتطلع خلفه، بل يدخل المدينة العليا خلال طرق أفكاره، ولا ينسحب منها حتى موت رئيس الكهنة الحامل خطايا العالم(425).
حقًا لقد مات (مسيحنا رئيس الكهنة) مرة واحدة، لكنه يموت من أجل كل شخصٍ يعتمد في موت المسيح، حتى نُدفن مع بعضنا البعض معه، ونقوم معه، ونسلك الحياة الجديدة (كو 2: 12؛ رو 6: 4).
هروبك صالح إن كان قلبك لا يعمل بمشورة الخطاة وخطهم. هروبك صالح إن كانت عيناك تهربان من رؤية الكؤوس وأواني الشرب، حتى لا تتثبتان مشتاقتين إلى الخمر. هروبك صالح أن كنت لا تجاوب الجاهل على غباوته (أم 23: 33) LXX هروبك صالح أن كانت خطواتك بعيدة عن طرق الجهلاء. حقًا سرعان ما ينحرف الإنسان بالمشورات الشريرة، لكنك إن أردت أن يكون هروبك صالحًا، لتكن طرقك بعيدة عن كلماتهم(426).
ولا تزال هُناك للشهادة على شرِّهم،
أرضٌ مُقفرةٌ يسطع منها دُخان،
ونبات يُثمرُ ثمرًا لا ينضج في أوانه،
وعمودٌ من ملحٍ قائمٌ تذكارًا لنفس لم تؤمن. [7]
دخان: ربما من أجل السديم أو الضباب الخفيف الصاعد من حوض البحر الميت، أو الصهد بسبب الجو القاري.
أما عن هذا النبات فيشير إليه يوسيفوس(427)، ويدعو تفاح سدوم، نبات يظهر في تلك المنطقة يبدو للعيان أنه يؤكل، لكن داخله بودرة سوداء لا يمكن أكلها.
يقول القديس أمبروسيوس أن الشيطان وسدوم كلاهما خلف الإنسان، لذا وجب على المؤمن أن يتطلع إلى قدام، لا إلى خلف، حتى يبلغ مع لوط إلى الجبل ولا يصير مثل زوجة عمود ملح(428).
يرى العلامة أوريجينوس في لوط رمزًا للنفس الجادة في خلاصها والتي تتطلع إلى الأمام، أما زوجته فترمز للجسد الذي يود أن يعوق النفس عن اشتيقاتها الروحية وجديتها.
* عندما تسير النفس نحو الخلاص، يتطلع الجسد إلى الوراء، ويطلب الملذات. قال أيضًا الرب عن هذا: "ليس أحد يضع يده على المحراث، وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). يضيف: "اذكروا امرأة لوط". فإنه بالحقيقة صارت عمود ملح، يظهر كعلامةٍ واضحةٍ عن الغباوة. الملح يمثل الحكمة التي فقدتها(429).
* يتطلع الله بدقة إلى الهدف الداخلي الواقعي، وذلك مثل امرأة لوط التي كانت الوحيدة بكامل إرادتها قد اتجهت نحو شر العالم. لقد تركها جامدة بلا إحساس وجعلها شبع عمود ملح، وتركها بلا قوة عاجزة عن الحركة، كتمثالٍ، ولكن ليس بدون نفع، بل صارت (مثالًا) حتى يمكن أن تُملح من لهم مدارك روحية(430).
والذين حادوا عن الحكمة،
لم يقتصر ضررُهم على عدم معرفة الخير،
ولكنهم تركوا خلفهم للعالم ذِكْرًا لحماقتهم،
بحيث لا يستطيعون كتمان عثراتِهم. [8]
لكن الحكمة أنقذت خدَّامها من أتعابهم. [9]
بعد أن ذكر أمثلة عن عمل الحكمة في حياة الناس منذ آدم إلى لوط، وأثر الحرمان منها، قدم في العبارتين 8 و9 حديثًا عن خطورة عدم الحكمة الصادرة عن الحماقة وكيف أن الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم.
على هذا المنهج جاء في قوانين الرسل حديث للقديس يعقوب بن زبدي أشبه بمناجاة لله، حيث يعلن بركات عمل (حكمة) الله في بعض رجال العهد القديم ودمار من يتجنبها:
[أنت هو المعرفة الأبدية، البصيرة الدائمة، السماع غير المولود، الحكمة الطبيعة... أخضعت كل الخليقة له (لآدم) ووهبته الحرية أن يجلب الطعام لنفسه بعرقه وتعبه، بينما أنت الذي جعلت ثمار الأرض تنبت وتنمو وتنضج... دعوته للإصلاح مرة أخرى وأن تفك رباطات الموت، ووعدته بالحياة بعد القيامة. ليس له وحده فقط بل وعندما نما بفيض إلى جمع لا يُحصى فإن الذين استمروا معك مجدتهم، والذين جحدوك عاقبتهم.
بينما قبلت ذبيحة هابيل (تك 4) كإنسانٍ مقدس، رذلت عطية قايين قاتل أخيه، كبائسٍ ممقوتٍ.
بجانب هذا قبلت من شيث أنوش (عطيتهما)، ونقلت أخنوخ، لأنك خالق البشر وواهب الحياة وسند المحتاجين ومعطي الشرائع ومجازٍ الذين يحفظونها ومؤدب الذين يعصونها.
أنت الذي جلبت الفيضان على العالم بسبب جموع الأشرار (تك 6-7)، وخلصت نوحًا البار من الطوفان بالفلك (1 بط 3: 20) مع ثماني أنفس حيث نهاية جيل سابق وبداية جيل لاحق.
أنت أشعلت نارًا مخيفة ضد الخمس مدن لسدوم وحوَّل الأرض المثمرة إلى بحيرة ملح للأشرار الساكنين هناك (حك 10: 6، تك 19، مز 107: 34). لكنك انتزعت لوطًا القديس من الحريق الهائل.
أنت الذي خلصت إبراهيم من شر أسلافه، وأقمته وارثًا للعالم، وكشفت له عن مسيحك، وعينت ملكي صادق مقدمًا كرئيس كهنة للعبادة لك (تك12 إلخ).
أنت الذي عوضت خادمك الصبور أيوب الغالب للحية التي هي ممثلة للشر.
أنت الذي جعلت اسحق ابنًا للموعد، يعقوب أبًا لاثنى عشر ابنًا(431)..]
10 وَهِيَ الَّتِي قَادَتِ الصِّدِّيقَ الْهَارِبَ مِنْ غَضَبِ أَخِيهِ فِي سُبُلٍ مُسْتَقِيمَةٍ، وَأَرَتْهُ مَلَكُوتَ اللهِ، وَأَتَتْهُ عِلْمَ الْقِدِّيسِينَ، وَأَنْجَحَتْهُ فِي أَتْعَابِهِ، وَأَكْثَرَتْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِ. 11 وَعِنْدَ طَمَاعَةِ الْمُسْتَطِيلِينَ عَلَيْهِ، انْتَصَبَتْ لِمَعُونَتِهِ وَأَغْنَتْهُ، 12 وَوَقْتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَمَتْهُ مِنَ الْكَامِنِينَ لَهُ، وَأَظْفَرَتْهُ فِي الْقِتَالِ الشَّدِيدِ، لِكَيْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّقْوَى أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وهي التي هَدَتِ البارَّ،
الهارب من غضب أخيه سُبلًا مُستقيمة،
وأرته ملكوت الله،
وآتته معرفة المُقدَّسات،
وأنجحته في أتعابه،
وكثَّرت ثمرَ أعماله. [10]
لم ينسب الحكيم ليعقوب الحكمة حين استخدم وسائل الخداع لنوال البكورية والبركة أو الحصول على نصيب أوفر من خاله لابان، وإنما يتحدث عنها حين قابل غضب أخيه عيسو بروح التواضع والعطاء بسخاء.
بالحكمة تمتع بالسماء المفتوحة والرؤى السماوية المعزية مقابل بغض عيسو له ومحاولة قتله.
يشير هنا إلى حلم يعقوب الهارب من وجه عيسو أخيه (تك 27: 41-28: 17)، حيث رأى السماء بكونها "ملكوت الله"، وهو تعبير إنجيلي يندر استخدامه في العهد القديم(432). لقد تمتع يعقوب برؤيا أخروية، حيث يملك الله على المؤمنين، ويقيم منهم ملكوته الإلهي.
"المقدسات": تشير إلى المقدس السماوي أو إلى السمائيين المقدسين في الرب.
* تأملوا ناسكًا (يعقوب)؛ كان يجري هاربًا من إنسانٍ عنيفٍ للغاية، كان هاربًا من أخيه، ووجد عونه في حجرٍ، هذا الحجر هو المسيح. هذا الحجر هو عون لكل الذين يعانون من الاضطهاد، أما بالنسبة لليهود غير المؤمنين فهو حجر عثرة وصخرة خزي (رو 9: 33؛ 1 بط 2: 8؛ إش 8: 14؛ 28: 16). هناك رأى يعقوب سلمًا قائمًا من الأرض ورأسه تبلغ السماء، وفي السماء الرب متكئ عليه، ورأى ملائكة صاعدين ونازلين (تك 28: 12- 13). انظروا لقد رأى ملائكة صاعدين، لقد رأى بولس صاعدًا. ورأى ملائكة نازلين، يهوذا الخائن يسقط بتهورٍ. رأى ملائكة صاعدين، رأى قديسين يصعدون من الأرض إلى السماء، ورأى ملائكة نازلين الشيطان وكل جيشه منطرحين من السماء(433).
ونصرته على طمع مُضايقيه وأغنته. [11]
ووقته من أعدائه،
وحمته من الكامنين له،
ووهبته النصرة في قتالٍ شديدٍ،
لكي يعلم أن التقوى أقدر من كل شيء. [12]
هنا يشير إلى فترة خدمته لخاله لابان الذي كان استغله وخدعه وكان يطمع أن يصرفه فارغًا. أما أعداؤه فهم عيسو ورجاله أو لابان واخوته (تك 31: 23).
يقصد بالقتال الشديد صراعه في عبر مخاضة يبوق مجاهدًا مع الله (تك 32: 22-29).
سلاح يعقوب في معركته وقتاله الشديد هو التقوى التي هي أقدر من كل شيء.
يحدثنا الحكيم عن أبينا يعقوب الذي وسط أتعابه وجد حجرًا يضعه تحت رأسه. ما هو هذا الحجر إلا حكمة الله المتجسد، الذي نتكئ عليه برؤوسنا لكي يقدسها، ويرفع أفكارنا إلى السماء وسط متاعبنا في هذا العالم؟ هكذا "الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم" [9].
* الحجر الذي تحت رأسه كان المسيح. لم يضع حجرًا من قبل تحت رأسه، وإنما فقط عندما جاء الوقت الذي فيه كان هاربًا من مضطهده. عندما كان في بيت أبيه وتمتع بوسائل الراحة للجسد، لم يكن له حجر لرأسه. لكنه ترك بيته فقرًا ووحيدًا خرج وليس معه غير العصا، وللحال في ذات الليلة وجد حجرًا ووضعه تحت رأسه(434).
* لم نقرأ عن الطوباوي يعقوب أنه رحل ومعه خيول أو حمير أو جمال، إنما نقرأ فقط أنه حمل عصا في يده...
أظهر يعقوب عصاه ليأخذ لنفسه زوجة (تك 32: 10)، وحمل المسيح خشبة الصليب ليخلص الكنيسة.
إذ نام يعقوب وضع حجرًا تحت رأسه ورأى سلمًا ممتدًا إلى السماء، بينما اتكأ الرب على السلم(435).
* السلم المُثبت على الأرض ويبلغ السماء هو صليب المسيح، خلاله وهب لنا الوصول إلى السماء، بل بالفعل يقود إلى السماء. هذا السلم يحوي درجات متنوعة من الفضائل، خلالها نرتفع نحو السماء. الإيمان والبرّ والطهارة والقداسة والصبر والتقوى وكل بقية الفضائل هي درجات هذا السلم(436).
وهب الله يعقوب ذكاءً، واستطاع أن يحاور خاله الذي خدعه، لكن تعرض يعقوب للخطر حين تعقبه خاله ومن معه من أقربائه. هنا لم يكن ممكنًا للحكمة البشرية أن تحفظ يعقوب، إنما تدخل الله نفسه، وحذر لابان من أن يفعل يعقوب سوءً (تك 34: 24 إلخ).
* عجيب هو صلاح الرب. فإذ رأى الله لابان مصممًا على محاربته والدخول مع الرجل الصالح في معركة، قال له كمن يطلب منه مراجعه نيته: "احترز من أن تكلم يعقوب بخيرٍ أو شرٍ" (تك 31: 25). يقول له لا تحاول أن تضايق يعقوب ولا بكلمة قاسية بل لاحظ نفسك، راجع هجومك الشرير، اكبح غضبك، لجِّم أفكارك الثائرة... أسألكم أن تلاحظوا رأفة الله. عوض أن يأمر الله لابان أن يرجع إلى موضعه، اكتفى بتوجيهه ألا يستخدم كلمات قاسية وعنيفة مع الإنسان الصالح. ما هو السبب لذلك؟ كي يتعلم الإنسان الصالح ويختبر مدى عناية الله به.
ألا ترون أنه لو رجع لابان كيف كان يمكن للرجل الصالح وزوجته أن يعرفوا هذا؟ سمح الله للابان أن يذهب ويشهد بشفتيه بالكلمات التي قيلت له من الله... هذه بالحقيقة هي علامة حكمة الله الخلاَّقة، أن يحول أعداء الحق هم أنفسهم إلى شهودٍ للحق، فيحاربون بأفواههم لجانب الحق(437).
* يعقوب الذي طهرَّ قلبه من كل المظاهر، مظهرًا تصرفات مملوءة سلامًا، أولًا طرد كل ماله وبقى في الخلف، وصارع مع الله (تك 32: 23- 25). لأن من يترك الأمور العالمية يقترب من صورة الله ومثاله. ما هو الصّراع مع الله سوى الدخول في صراعٍ لأجل الفضيلة، وإن يجاهد مع من هو أقوى منه يصير في حالة أفضل بإقتدائه بالله أكثر من الآخرين؟ إذ كان إيمان يعقوب وتكريسه لا يُهزمان، أعلن الرب له أسراره الإلهية بلمس حق فخذه (تك 32: 26). فإنه من نسله يولد الرب يسوع من عذراء، ويسوع ليس غير مشابه ولا بأقل من الله (الآب)(438).
بالحكمة الإلهية جاهد يعقوب مع الله والناس وغلب. لقد صارع حتى الفجر حيث بدأ نور شمس البرّ يشرق عليه. أما المكافأة التي نالها فهي شهوة قلب كل مؤمن حقيقي، إذ لم يُعد يُدعى يعقوب الذي يعني "يتعقب" بل "إسرائيل" وتعني "رؤية"، وكما يقول القديس أغسطينوس "اسم عظيم يحمل بركة عظيمة"(439).
* يقول الرب قي الإنجيل: "ملكوت السماوات يغتصب والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12)... يقول ليعقوب: "أطلقني لأنه قد طلع الفجر" (تك 32: 26)، أجابه: "لا أطلقك إن لم تباركني". وبارك يعقوب؛ كيف؟ بتغيير اسمه... انظروا إنه إنسان واحد، من جانب لًمس وجفَّ (يعقوب)، ومن جانب آخر تبارك لينال قوة (رؤية الله)(440).
يرى القديس كيرلس الكبير أننا مادمنا في ليل هذا العالم نصارع، لكن إذ يحل فجر الأبدية لا يوجد بعد مجال للصراع بل لرؤية الله.
* أنتم ترون كيف أنه لم يستمر في الصراع عند بدء النهار. في الواقع لا يوجد صراع للذين بالفعل عاشوا في النور. فالذين جاءوا إلى مثل هذه العظمة يليق بهم أن يقولوا: "يا الله إلهي أترقبك من النور" (مز 62: 2) LXX. وأيضًا: "في الصباح تسمع صوتي، انتظرتك وستراني" (مز 5: 4) LXX. عندما يشرق نور البرّ، أي المسيح في عقولنا ويُقدم بهاءه في قلوبنا، عندئذ ننتظر كنفوسٍ نبيلةٍ، ونتأهل للاهتمام الإلهي: "عينا الرب على الأبرار" (مز 34: 15). عند الفجر يتوقف الصراع(441).
13 وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَخْذُلِ الصِّدِّيقَ الْمَبِيعَ، بَلْ صَانَتْهُ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَنَزَلَتْ مَعَهُ فِي الْجُبِّ. 14 وَفِي الْقُيُودِ لَمْ تُفَارِقْهُ، حَتَّى نَاوَلَتْهُ صَوَالِجَةَ الْمُلْكِ، وَسُلْطَانًا عَلَى الَّذِينَ قَسَرُوهُ، وَكَذَّبَتِ الَّذِينَ عَابُوهُ، وَأَتَتْهُ مَجْدًا أَبَدِيًّا.
وهي التي لم تترك البارَّ الذي باعوه،
بل نشلتهُ من الخطيئة، ونزلت معه في الجب. [13]
إذ سلم يوسف نفسه للحكمة بروح التقوى، أنقذته من الجب، ونشلته من إغراءات امرأة فوطيفار وسندته في السجن، وصعدت به إلى العرش، وقدمت له مجدًا عظيمًا!
لم يتعلم يوسف الحكمة البشرية والسحر، لكنه بالتقوى غلب الحكماء والمشيرين والسحرة، وصار شاهدًا لعمل حكمة الله في أرض غريبة! صار بسيرته وسلوكه، معلمًا الشيوخ الحكمة (مز 105: 17-22).
ماذا يعني الحكيم بقوله إن "الحكمة لم تترك البار [13]، ولم تفارقه [14]؟
حين بيع يوسف البار وحين وضع في القيود، كانت الحكمة ملازمة له، لأنه كان رمزًا للسيد المسيح الذي بيع كعبدٍ خلال خيانة تلميذه يهوذا له، ووضع في القيود حين قُدم للمحاكمة. جاءت حياة هذا البار تحمل صورة رائعة كرمز للسيد المسيح من جوانب متعددة، يكفي أن أذكر ما كتبه القديس أفراهاط كمثالٍ لما ورد في كتابات الآباء في هذا الشأن.
* كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المضطهِدِين. يوسف تمجد، ومضطِهدوه سجدوا له، فتحققتِ أحلامه ورؤياه.
كان يوسف المُضطَهد رمزًا ليسوع المُضطَهد.
يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول.
يوسف أحبه أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه.
رأى يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع.
كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة.
عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: "هذا هو الوارث، هلم نقتله" (مت 21: 38).
ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى.
يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات.
يوسف بعد أن قام من الجب صار له سلطان على إخوته، ويسوع بعد أن سكن بين الأموات أعطاه أبوه اسمًا عظيمًا ممجدًا (في 2: 9) ليخدمه إخوته ويخضع أعداؤه تحت قدميه.
يوسف بعد أن عرفه إخوته خجلوا وخافوا واندهشوا أمام عظمته، وعندما يأتي يسوع في آخر الزمان، ويعلن عظمته سيخجل إخوته ويخافون ويرتعبون أمامه لأنهم صلبوه.
علاوة على هذا فإن يوسف بيع إلى مصر بناء على مشورة يهوذا، ويسوع سُلم لليهود بيدي يهوذا الإسخريوطي.
عندما باعوا يوسف لم يجب إخوته بكلمة، ويسوع أيضًا لم ينطق ولا أجاب على القضاة الذين حاكموه.
يوسف سلمه سيده للسجن ظلمًا، ويسوع أدانه أبناء شعبه ظلمًا.
سلم يوسف ثوبيه، واحد في أيدي إخوته، والآخر في يد زوجة سيده، ويسوع سلم ثيابه وقسمت بين الجند.
يوسف إذ كان في الثلاثين من عمره وقف أمام فرعون وصار سيد مصر، ويسوع إذ بلغ الثلاثين جاء إلى الأردن ليعتمد وقبل الروح وخرج يكرز.
يوسف عال مصر بالخبز، ويسوع عال العالم كله بخبز الحياة.
يوسف أخذ ابنة الكاهن الشرير النجس زوجة له، ويسوع خطب لنفسه الكنيسة من الأمم النجسين.
مات يوسف ودُفن في مصر، ومات يسوع ودُفن في أورشليم.
عظام يوسف أصعدها إخوته من مصر، ويسوع أقامه أبوه من مسكن الموت ولبس جسده وارتفع به إلى السماء في غير فساد(442).
ولم تُفارقه في القيود،
حتى أتته بصولجان المُلك،
وبسلطانٍ على الذين كانوا مُتسلطين عليه،
فكذَّبت الذين كانوا يأخذون عليه المآخذ،
وآتته مجدًا دائمًا. [14]
لازمته الحكمة في قيوده لتدخل به إلى المجد، فعوض كونه سجينًا صار صاحب سلطان، يمد الذين تسلطوا عليه بالمؤنة، ولعله يقصد هنا فوطيفار وأهل بيته، والسجان ومن معه، وأيضًا إخوته الذين كانوا يطلبون قتله وباعوه عبدًا.
كان البعض يتطلعون إليه كمجرمٍ مُلقى في السجن، ويحسبون ما حلّ به علامة شره وغضب الله عليه، لكن حكمة الله (الله الكلمة) كشف عن برِّه، أعلن أن آلامه وضيقاته لم تكن إلا لمجده في هذا العالم كما في العالم العتيد، إذ "أتته مجدًا أبديًا.
* انظروا كيف حدث فجأة أن السجين يصير ملكًا على كل مصر؛ الذي أُرسل إلى السجن بواسطة رئيس الشرطة رفعه الملك إلى أعلى مرتبة.
تطلع سيده السابق، فرأى فجأة أن الرجل الذي ألقاه في السجن كزانٍ قد كوفئ بنوال سلطانٍ على كل مصر. ألا ترون أهمية احتمال التجارب بشكر؟ لهذا يقول بولس: "الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3- 5). لاحظوا: يوسف احتمل الضيق بصبرٍ، والصبر قدم له تزكية، والتزكية عملت في رجاءٍ، والرجاء لم يجعله يخزى(443).
* ما هو معنى الخاتم الذي وضع في إصبعه (تك 41: 42)؟ إنه فقط لكي نفهم أن مركز الأسقفية بالإيمان قد منح له حتى يستطيع أن يختم آخرين. وماذا عن الثوب إلا أنه ثوب الحكمة؟ هذا وحده الذي التفوق في الحكمة الذي وهبه له ملك السماء. يظهر طوق الذهب ليمثل الفهم الصالح. والمركبة (تك 41: 43) أيضًا تشير إلى الأعالي المجيدة التي تأهل لها(444).
* "أسرعوا به من السجن، فحلق رأسه، وأبدل ثيابه" (تك 41: 14)، حينئذ أمكن دخوله إلى الملك. هكذا من كان مربوطًا في حبس الخطية، وأسيرًا في شهوات العالم، بعيدًا عن الله، لا يمكنه أن يصل إليه حتى يخرج من ذاك الحبس النجس، أعني يترك فعل الخطية، ويحلق فضولات شعر رأسه التي هي أفكار عقله المحبة للخطية، ويستبدل ثيابه التي هي أعماله الرديئة بأعمال صالحة. فمن نقَّى قلبه من الأفكار الرديئة هكذا، وأبدل أعماله الخاطئة بأعمالٍ بارة، يستحق الدخول إلى المسيح، ملك الملوك، والتناول من جسده ودمه الكريم(445).
15 وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتْ شَعْبًا مُقَدَّسًا، وَذُرِّيَّةً لاَ وَصْمَةَ فِيهَا مِنْ أُمَّةِ مُضَايِقِيهِمْ. 16 وَحَلَّتْ نَفْسَ عَبْدٍ لِلرَّبِّ، وَقَاوَمَتْ مُلُوكًا مَرْهُوبِينَ بِعَجَائِبَ وَآيَاتٍ. 17 وَجَزَتِ الْقِدِّيسِينَ ثَوَابَ أَتْعَابِهِمْ، وَقَادَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ عَجِيبٍ، وَكَانَتْ لَهُمْ ظِلاًّ فِي النَّهَارِ، وَضِيَاءَ نُجُومٍ فِي اللَّيْلِ. 18 وَعَبَرَتْ بِهِمِ الْبَحْرَ الأَحْمَرَ، وَأَجَازَتْهُمُ الْمِيَاهَ الْغَزِيرَةَ. 19 أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَأَغْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ قَذَفَتْهُمْ مِنْ عُمْقِ الْغِمَارِ عَلَى الشَّاطِئِ؛ فَسَلَبَ الصِّدِّيقُونَ الْمُنَافِقِينَ، 20 وَرَنِّمُوا لاِسْمِكَ الْقُدُّوسِ، أَيُّهَا الرَّبُّ، وَحَمِدُوا بِقَلْبٍ وَاحِدٍ يَدَكَ النَّاصِرَةَ، 21 لأَنَّ الْحِكْمَةَ فَتَحَتْ أَفْوَاهَ الْبُكْمِ، وَجَعَلَتْ أَلْسِنَةَ الأَطْفَالِ تُفْصِحُ.
يختم السفر كله بحديثٍ مسهب يوضح به كيف حفظت العناية الإلهية الشعب خلال أحداث الخروج بكونها أهم حدث في تاريخ الشعب، كرمز للخروج الذي يتمتع به العالم خلال المصلوب. أوضح الكاتب العناية الإلهية خلال أمثلة تحمل مقابلات. جاء هذا الفصل أشبه بعظة أو مجموعة عظات تفسيرية لسفر الخروج.
وهي التي أنقذت شعبًا بارًا،
وذرية لا عيب فيها،
من أمة مضايقين. [15]
بعد أن تحدث عن عمل حكمة الله في حياة الأفراد، ليكشف عن اهتمامه بكل شخص، يتحدث عن الحكمة الإلهي الذي ينقذ الشعب المقدس.
يدعو الله شعبه "شعبًا مقدسًا، "ذرية لا عيب فيها"، لأنه يقدس شعبه ويطهرهم من كل خطية. ويدعو مصر التي سخرتهم وأذلتهم "أمة مضايقين".
حقًا لا يكف العالم عن أن يمرر حياة الكنيسة الحقيقية بالظلم في قسوة (خر 1: 14)، لكن الله يعتز بها بكونها كنيسته المقدسة المتألمة التي بلا لوم، فيدعوها: كلكِ جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبه" (نش 4: 7). فإنها لن تسمع هذا المديح من الفم الإلهي ما لم تشارك عريسها - حكمة الله - آلامه وصلبه.
* يقول العريس: "أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان" (نش 6:4)... بعد ما ذاق المسيح الموت عن الخطاة (رو 8:5). خلصت الطبيعة البشرية من وصمة الخطية بعد أن رفع حمل الله خطية العالم وحطم الإثم (يو 29:1). لذلك يقول النشيد "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال المجد معه (رو 17:8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيبٍ بغيضٍ. بواسطة المسيح ومن خلال المسيح تنفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا(446).
هكذا أنقذ حكمة الله الشعب بقبوله الصلب، حتى يُصلب الشعب معه، ويقوم معه في مجدٍ فائق، ويتأهل المؤمنون الحقيقيون للسماء.
لقد أذل فرعون الشعب وسخره للعمل في الطين وبناء ثلاث مدن، مستعبدًا إياهم. وهو في هذا يمثل عمل عدو الخير مع البشرية، بني آدم.
* كان فرعون يستعبد بني إسرائيل في بناء مدنٍ له. كان فرعون يوكل مسخرين من جنوده ببني إسرائيل، يستحثونهم على أعماله. وكان إبليس يوكل ببني آدم شياطين يستحثونهم على أعماله الرديئة في أعمال الخطية.
كان فرعون يوكل جنوده ليستعبدوا بني إسرائيل على عمل الطوب، وكان إبليس يستحث بني آدم في الأعمال الأرضية السفلية.
ذكر الكتاب المقدس أن بني إسرائيل بنوا لفرعون مدنًا عظيمة (خر 1: 11)... وتستحث الشياطين بني آدم ليقيموا خطايا عظيمة هي أصل كل الشرور: محبة الفضة، وشهوات الجسد، والمجد الباطل(447).
حقًا ماذا نتوقع من قلب فرعون الترابي المملوء وحلًا إلا أن يصدر أوامره بتسخير بني إسرائيل في عمل الطين؟(448)
* فإن الشيطان الذي يؤذي الناس ويفسدهم يهتم بشدة بألا يتطلع رعاياه إلى السماء، بل أن ينحنوا إلى الأرض ويصنعوا الطوب اللبن - داخل أنفسهم - من الطين. ومن الواضح للجميع أن ما ينتمي إلى المتعة المادية يتكون بالتأكيد من التراب والماء، وينطبق هذا على من يهتم بشهوة الطعام أو شهوة المال والثروة.
يتحول مزيج هذين العنصرين - التراب والماء - إلى طين. ومن يشتاقون إلى الملذات يكونون كمن يشتاقون إلى الطين، ويظلون يملأون أنفسهم منه، ومع ذلك لا يمتلئون أبدًا، ويصبح المكان الذي يستقبل الطين فارغًا قبل أن تصب فيه المرة التالية. وبنفس الطريقة يظل صانع الطوب يصب مزيدًا من الطين في القالب والقالب يفرغ باستمرار. ويمكن للجميع بسهولة أن يفهموا معنى هذه الصورة البلاغية بالنظر إلى الجانب الشهواني للنفس.
الذي يتبع رغباته وما يشتهيه إذا حقق رغبة له ثم تحول برغبته إلى شيء آخر يجد نفسه فارغًا مرة أخرى من ناحية هذا الشيء، وإذا امتلأ منه يعود فارغًا كإناء فارغ في طلب شيء آخر وهكذا. ونحن لا نتوقف عن هذا إلى أن نرحل من هذه الحياة المادية.
وبالنسبة للقش والتبن الذي كان يجب على الخاضعين لأوامر الطاغية أن يخلطوه بالطوب اللبن، فإن كلا من الإنجيل المقدس والصوت السامي للرسول (بولس) يفسرانهما بأنهما مواد للحرق (حز 5: 4؛ مت 3: 12)(449).
وحلت في نفسَ عبدٍ الربَ،
وقاومت مُلوكًا مرهوبين بخوارق وآيات. [16]
إن كانت حكمة الله قد أقامت موسى النبي قائدًا لخلاص شعبه، فإن سرّ القوة لا في شخص موسى، وإنما في حكمة الله التي حلت في نفسه بكونه عبد الرب، أما مقاومة فرعون ورجال جيشه فلم تكن عن حكمة موسى البشرية، ولا خططه، ولا قدراته، إنما الذي صد الهجمات المستمرة هو "حكمة الله".
ما حدث مع موسى النبي لتحقيق الخروج كان رمزًا لتحقيق خروجٍ من أسر إبليس إلى الحضن الإلهي. إنه رمز لما يتمتع به المؤمنون بالمسيح يسوع مخلص العالم، والنصرة الفائقة لهم على إبليس ومملكته.
وما تم من آيات وعجائب مثل الضربات العشر، هي من عمل حكمة الله. أما وسيلته للتمتع بعمل الحكمة فهي الإيمان مع الصلاة.
استخدم صيغة الجمع يشير إلى مقاومة الملوك المحيطين بهم أثناء تجولهم في البرية بجانب مقاومة فرعون لهم وهم في مصر وبعد خروجهم مباشرة. وربما يقصد بالملوك حكام أقاليم مصر.
* بالفصح خرج هؤلاء من عبودية فرعون، ونحن في يوم الصلب نخلص من عبودية الشيطان.
هم ذبحوا حملًا من القطيع، وبدمه نجوا من المفسد، ونحن خلصنا بدم ابن مختار من أعمال الفساد التي عملناها.
كان لهم موسى قائدًا، ونحن لنا يسوع هاديًا ومخلصًا.
شق لهم موسى البحر وأجازهم، وأما مخلصنا فشق الجحيم وحَّطم أبوابه، ودخل إلى الداخل وفتحها. ورسم الطريق أمام كل الذين يؤمنون به.
وهبهم موسى الماء من الصخرة، وأجرى لنا مخلصنا الماء الحيّ من صدره.
وعدهم موسى بأرض الكنعانيين ميراثًا، ووعدنا ربنا بأرض الحياة ملكًا.
رفع موسى حيَّة نحاسية، كل من ينظر إليها يبقى حيًا بالرغم من لدغة الحية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وعلق يسوع نفسه وكل من يتطلع إليه ينجو من جرح الحية التي هي الشيطان.
صنع لهم موسى الخيمة الوقتية ليقدموا فيها الذبائح والقرابين، فيطهروا من خطاياهم. وأقام يسوع خيمة داود الساقطة (عا 9: 10؛ أع 15: 16) وقام. وقد قال لليهود: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19). وقد فهم تلاميذه إنه تحدث عن جسده الذي يقيمه بعد ثلاثة أيام حين يقتلونه. ففي هذه الخيمة وعدنا بالحياة وبها تطهر خطايانا.
دعا خيمتهم خيمة وقتية، لأنها تخدم زمنًا قصيرًا، ودعا خيمتنا هيكل الروح القدوس الذي يدوم إلى الأبد (1 كو 3: 16؛ 6: 19)(450).
* أخرج موسى شعبه من خدمة فرعون، وخلّص يسوع الشعوب من خدمة الشيطان.
ترَّبي موسى في بيت فرعون، وتربي يسوع في مصر حين هرب به يوسف إلى هناك.
وقفت مريم على حافة النهر حين طاف موسى فوق الماء، وحملت مريم بيسوع حين بشرها الملاك جبرائيل.
حين ذبح موسى الحمل قتل أبكار المصريين، وصار يسوع الحمل الحقيقي حين صلبوه، وبموته مات الشعب القاتل.
أنزل موسى المن لشعبه، ووهب يسوع جسده للشعوب.
بالخشبة حلَّى موسى المياه المرة، وبصليبه حلَّى يسوع مرارتنا بخشبة شجرة صليبه.
أنزل موسى الناموس لشعبه، ووهب يسوع عهوده للشعوب.
قهر موسى عماليق عندما بسط يديه، وقهر يسوع الشيطان بعلامة الصليب.
أخرج موسى لشعبه مياهًا من الصخرة، وأرسل يسوع سمعان صفا ليحمل تعليمه بين الشعوب.
رفع موسى البرقع عن وجهه وتكلم مع الله، وأنتزع يسوع البرقع عن وجه الشعوب ليسمعوا تعليمه ويقبلوه.
وضع موسى يده عل رسله فقبلوا الكهنوت، ووضع يسوع يده على رسله فنالوا الروح القدس.
صعد موسى الجبل، ومات هناك، وصعد يسوع إلى السماء، وجلس عن يمين الآب (451).
* عندما رأى موسى أن جميع الرعية (المصريين) كانوا متفقين مع قائدهم (فرعون) في شره، أوقع ضربة على كل المصريين ولم ينجُ أحد من الكوارث (خر 7: 17 إلخ). وكانت عناصر الكون كلها - الأرض والماء والهواء والنار التي تدخل في كل شيء في الوجود - تتعاون معه في هذا الهجوم على المصريين، وكأنها جيش ينفذ الأوامر، وغيرت هذه العناصر قوانينها الطبيعية لخدمة الأغراض البشرية(452). ففي نفس الوقت والمكان وبنفس القوة كان الخطاة يعاقبون وغير الخطاة لا يعانون من شيء(453).
وجازتِ القديسين ثواب أتعابهم،
وهَدَتْهم طريقًا عجيبًا،
وكانت لهم ملجأً في النهار،
وضياءَ نُجومٍ في الليل. [17]
يشير هنا حتى إلى الجزاء المادي حيث اخذوا الأشياء الثمينة التي للمصريين مقابل استعبادهم وحرمانهم من حقوقهم (خر 3: 21- 22؛ 11: 2-3؛ 12: 35-36). ولعله يشير بالمجازاة التحرر من العبودية.
"ملجأ في النهار"، حيث كانت السحابة مرشدًا لهم وفي نفس الوقت ملجأ لحمايتهم من حرّ الشمس. "يخلق الرب على كل مكانٍ من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهارًا، ودخانًا ولمعان نار ملتهبة ليلًا، لأن على كل مجدٍ غطاء؛ وتكون مظلة للفيء نهارًا من الحرّ ، وملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر" (إش 4: 5-6).
فسر الحكيم هنا ظهور ظهور الرب كسحابة تظللهم نهارًا وعمود نار يضيء لهم ويقودهم أنه هو الحكمة أو حكمة الله (الذي تجسد فيما بعد ليخلص العالم).
* أرسلت القوة الإلهية سحابة تقود الشعب (خر 13: 21-22)، ولم تكن هذه سحابة عادية، لأنها لم تكن مكونة من أبخرة كالسحب العادية ولم تكن تشكيلًا ضبابيًا تكون من ضغط الرياح على الأبخرة، بل كانت شيئًا يتجاوز الفهم البشري. ويشهد الكتاب المقدس بأنه كان هناك شيء غير عادي في هذه السحابة، فعندما كانت أشعة شمس الظهيرة تسطع بحرارةٍ شديدةٍ، كانت السحابة مأوى للشعب تظلل من تحتها، وترطب حرارة الجو النارية بندى خفيف. وأثناء الليل كانت تتحول إلى نار تقود الإسرائيليين - كما في موكبٍ - بضوئها من الغروب إلى الشروق(454).
وعبرت بهم البحر الأحمر،
وجازت بهم غزيرَ المياه. [18]
الطريق الذي اختارته الحكمة للخروج من مصر والعبور إلى أرض الموعد هو العبور بهم البحر الأحمر واجتيازهم مياه غزيرة. لم يكن هذا هو الطريق بحسب المنطق البشري، إذ وُجد طريق سهل وممهد في ذلك الحين، الذي في جهة العريش حيث يبلغون الأردن مباشرة. لم يكن يدرك أحد السرّ في ذلك، إذ لم يكن ممكنًا لهم دخول أرض الموعد إلاَّ من خلال هذا الطريق للأسباب التالية:
1. عبور البحر الأحمر كرمز للتمتع بالمعمودية، حتى يعبر المؤمنون إلى كنعان السماوية.
2. الدخول في ضيقات وحروب، فيهلك فرعون وجنوده إشارة إلى هلاك إبليس وملائكته. وينهزم عماليق وغيرهم من الأمم، بكونهم رمزًا للخطايا التي يجب أن يسحقها بقوة الصليب خلال جهادنا بنعمة الله.
3. بقاء الشعب أربعين عامًا حتى ينسوا تمامًا كل خبرة الوثنية التي تلامسوا معها في مصر
4. لكي يموت موسى ويتسلم يشوع القيادة، فإنه لا دخول إلى الأبدية ما لم تمت حرفية الناموس ونحيا بالروح تحت قيادة ربنا يسوع (يشوع).
5. التمتع بخبرة التسبيح وسط البرية.
6. التمتع بالمنّ السماوي كرمز للتناول من جسد الرب ودمه.
7. التمتع بالاحتماء تحت جناحي الرب (السحابة) والاستنارة بروحه القدوس (عمود النار ليلًا).
* في ذلك العبور كان عمود السحاب مرشدًا. وقد أحسن من قبلنا بتفسير عمود السحاب على أنه رحمة الروح القدس، الذي يرشد المستحقين نحو الخير، ومن يتبع الروح القدس يعبر المياه، حيث أن المرشد يصنع له فيها طريقًا، وبهذه الطريقة يقوده بأمان إلى الحرية، أما الذي يطارده ليعيده إلى العبودية فيهلك في الماء. لا يجب أن يجهل من يسمعون هذا سرّ الماء. فالذي ينزل الماء مع جيش العدو يخرج وحده تاركًا جيش العدو يغرق في الماء(455).
أما أعداؤُهم فأغرقتهم،
ثُم قذفتهم من قاع العمق. [19]
* كان موسى يراقب السحابة بنفسه وعلَّم الشعب كيف تظل في مجال الرؤية بالنسبة لهم (خر 14: 16-22). وبعد أن أرشدتهم السحابة طوال مسارهم، وصلوا إلى البحر الأحمر، حيث أحاط المصريون القادمون من خلفهم بكل جيشهم بالشعب. ولم يكن هناك مهرب من هذا الرعب متاحًا أمام الإسرائيليين من أي اتجاه لأنهم كانوا محصورين بين أعدائهم والمياه. وعندئذ قام موسى - مدفوعًا بقوة إلهية - بتنفيذ أعجب عمل لا يكاد يُصدق على الإطلاق، فقد اقترب من الشاطيء وضرب البحر بعصاه. وانشق البحر من الضربة، تمامًا كما يسري شرخ يحدث في الزجاج عند أية نقطة إلى الحافة. انشق البحر كله بهذه الطريقة من أعلى بفعل العصا، وسرى الشق في المياه حتى وصل الشاطيء المقابل. وفي المكان الذي انشق فيه البحر نزل موسى إلى العمق مع كل الشعب دون أن يبتلوا، وكانت أجسامهم ما زالت مغمورة بضوء الشمس. وبينما كانوا يعبرون الأعماق سيرًا على الأقدام على القاع الجاف، لم يقلقوا من منظر الماء الممتد إلى أعلى بهذا القرب منهم على الجانبين، لأن البحر كان قد ثبت مثل جدارٍ على كلا الجانبين.
وعندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا وراءهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات(456).
* من هو ذاك الذي لا يعرف أن الجيش المصري بجياده ومركباته وسائقيها ورماته (بالقلاع والأقواس) وجنوده المسلحين بأسلحة ثقيلة وباقي قوات العدو في خط المعركة هم رمز للأهواء المختلفة للنفس التي تستعبد الإنسان(457)، فإن الدوافع الفكرية والميول الحسية غير المنضبطة للمتعة والألم والجشع مشابهة تمامًا للجيش الذي ذكرناه. والسباب والشتيمة هما مثل الأحجار التي تُرْمَى بالقلاع، والتهور هو سن الرمح المتحرك. أما حب المتعة فهو يتمثل في الجياد التي تجر المركبة بدافع لا يمكن مقاومته.
نقرأ في التاريخ بسفر الخروج أن المركبة كان بها ثلاثة يقودونها يسمون "القادة(458)"، وحيث أنك قد تعلمت من قبل سرّ قائمي الباب وعتبته العليا، فتدرك أن هؤلاء الثلاثة الذين تحملهم المركبة يماثلون التقسيم الثلاثي للنفس: العقلاني والعاطفي والروحي.
يندفع كل الجيش في الماء مع الإسرائيليين الذين تقدموه في العبور المهلك (للجيش). عندئذ نجد عصا الإيمان تقود الطريق وعمود السحاب يعطي ضوءً، ويعطي الماء والحياة لمن يجدون فيه ملجأً، ويهلك مطارديهم(459).
يعلمنا التاريخ (الكتاب) هنا عن نوع الناس الذين سيعبرون الماء ولا يأخذون معهم أيًا من جيش الأعداء وهم يخرجون من الماء. فإنه لو خرج العدو معهم من الماء فسيستمرون في العبودية بعد خروجهم حيث أحضروا الطاغية حيًا معهم ولم يغرقوه في الماء. وإذا أراد أحد توضيح الرمز في هذه الصورة فإن الواضح هو أن الذين يمرون في ماء المعمودية المقدس يجب أن يقتلوا جيش الشر كله، هذا الجيش الذي يشمل الجشع والرغبات غير المنضبطة وأفكار الطمع وأهواء الغرور والصلف، والتهور، والغضب، والحقد والحسد وكل هذه الأشياء. وحيث أن الأهواء بطبيعتها تتبع طبيعتنا، فإننا يجب أن نقتل في الماء الميول الوضيعة للعقل والأعمال التي تنتج عنها(460).
ولذلك فالأبرار سلبوا الأشرار،
وأشادوا باسمك القدوس أيها الرب.
وحمدوا بقلبٍ واحدٍ يدك التي حمتهم. [20]
لم يذكر سفر الخروج مصير جيش فرعون بعد غرقه في البحر. هنا يذكر أن الجثث بعد أن غاصت إلى الأعماق طفت فوق المياه, وقام الإسرائيليون بسلب ما بالجثث الميتة.
جاء هذا التقليد في يوسيفوس(461)، ألا وهو سلب العبرانيين ما كان لدى المصريين الذي ماتوا غرقى في البحر الأحمر، الأمر الذي لم يرد في سفر الخروج.
* عندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا ورائهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلًا عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات(462).
لأن الحكمة فتحت أفواه الخرس،
وأوضحت ألسنة الأطفال. [21]
جاء في الترجوم أن بعض أطفال العبرانيين الذين هُددوا بالموت في مصر حملتهم ملائكة إلى البرية، واشتركوا فيما بعد في الرحلة في البرية.
لعل الأطفال اشتركوا مع الشعب في التسبيح (خر 15).
* خلقت كل شيء لتعد القصر لأبي آدم،
أتيت به إلى جنة عدن كقصرٍ ملوكيٍ.
أحببته وقدمت له كل سلطان.
وعندما سقط لم تتخلَ عنه.
قدمت له الوعد بالخلاص.
أتيت من أجله ومن أجل بنيه،
وحملت صليب العار لأجل خلاصهم.
لك المجد يا آدم الثاني، أب البشرية!
* أرسلت نارًا التهمت ذبيحة هابيل،
تنسمتها رائحة سرور ورضى.
لكن أخاه التعس اعتزلك.
فملك الغضب عليه، وقتل أخاه!
هب لي ألا أسحب يدي من يدك.
ولا أغلق باب قلبي أمامك.
فأحب إخوتي حتى المقاومين لي.
* فاحت رائحة الفساد والرجاسات في العالم.
ولم يُعد من أملٍ للإصلاح،
إذ كانت البشرية تستخف بخالقها.
تطلعت من السماء فاحتضنت نوحًا البار.
أعددت له فلكًا، وأغلقت عليه بنفسك.
وسط الطوفان كان نوح محفوظًا في قلبك.
وسط الدمار الشامل،
كان الفلك موضع إعجاب السمائيين.
احملني في صليبك فلك الخلاص،
ليس من ينقذني سوى صليبك،
يدخل بي إلى الكنيسة، سفينتك المقدسة!
* أعطى الشعب ظهورهم لك،
عوض الحكمة الإلهية، طلبوا المكر البشري.
قرروا أن يبنوا برجًا رأسه في السماء،
يحميهم من طوفانٍ قادمٍ مدمرٍ!
يا للغباوة! تشتتوا وتفرقوا.
عوض انطلاقهم إلى السماوي،
صاروا أممًا متحاربة بلا سلام!
* وسط العالم كله وُجد إبراهيم خليلك.
أحبك واقتناك.
بفرح أراد تقديم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة.
فأقمت من ابنه شعبًا لك.
وتجسدت من العذراء مريم التي من نسله.
لك المجد يا من بك تتبارك كل الأمم.
* وسط سدوم الفاسدة عاش لوط وعائلته.
كان البار يعذب نفسه بأعمالهم الأثيمة.
اقتناك، فلم يستطع أن يشترك معهم في شرورهم.
وحين أخرجته منها، وأنزلت نارًا عليها،
لم يفكر قط في التطلع إليها،
ولا حتى من أجل حب الاستطلاع.
عاش وسطهم وقلبه في عزلة من فسادهم،
فكيف بعد خروجه ينظر إليهم؟
امرأته حرمت نفسها منك.
رجع قلبها إلى سدوم، ونظرت إلى خلف.
فقدت كل إحساس، فصارت عمود ملحٍ.
صارت تمثالًا يشهد عن كل نفس تُحرم من الاتحاد بك!
في حماقتها صارت هي نفسها شهادة للحماقة والجهالة!
* اقتناك أبونا يعقوب واتكأ عليك.
وسط ضيقاته المرة وجدك حجر الزاوية،
وضع رأسه عليك، فانفتحت بصيرته.
رأى صليبك سلمًا يصعد به إلى السماء.
بك تحولت البرية له إلى سماءٍ مفتوحة.
أبغضه أخوه، فشاهد ملائكة نازلين إليه يرافقونه.
ورأى ملائكة صاعدين به ليتمتع بك.
تحولت مرارة نفسه إلى عذوبة فائقة.
* لم يقتنك لابان خاله وحماه،
فوضع في قلبه أن ينتقم من يعقوب.
عوض روح الانتقام أقمت منه شاهدًا
على حبك وعملك مع يعقوب!
لم تأمره أن يرجع مع رجاله إلى حيث كان،
بل أمرته أن يلتقي بيعقوب،
ويشهد لك أنك ترعاه وتحفظه.
يا للعجب، فإنك تحول المقاومين إلى شهود لحبك.
* حولت قيود يوسف في السجن،
إلى طريق للعبور إلى العرش.
صار السجين الرجل الثاني في المملكة.
وقف رئيس الشرطة في ذهول.
ذاك الذي دخل به إلى السجن،
الآن يسأله خبزًا له ولأسرته.
التي أرادت أن تشبع شهوات جسدها،
دخلت به إلى السجن.
الآن هوذا جسدها يحتاج إلى خبزٍ، من يقدمه لها غيره؟
صيَّرت السجين مصدر شبع لكل مصر وللبلاد المحيطة بها.
صار رمزًا لك يا مشبع النفوس.
أشرقت عليك ليدرك مجدك الأبدي.
* سمعت أنين شعبك فأنَّت أحشاؤك عليه.
أرسلت لهم قائدًا،
حفظته لهم في قصر فرعون نفسه،
وهبته أن تتكلم على فمه،
وأعطيته أن يصنع عجائب وآيات باهرة.
* راعيت شعبك بنفسك.
ظللتهم كسحابةٍ في النهار،
وكنت قائدًا لهم كعمود نارٍ بالليل
* عبرت بهم وسط البحر،
وجزت بهم في موكب فريد.
أما الذين رفضوك، فصار الطريق قبرًا لهم.
رفضوك يا أيها الحياة فتلقفهم الموت.
* حولت شعبك إلى خورس ملائكة.
يسبحونك وسط البرية،
ويتهللون من أجل فيض حبك!
_____
(413) The Jerome Biblical... p. 563.
(414) Interpreter's Concise Commentary, Volume 5, Abingdon Press, Nashville, 1983, p. Robert C. Denton, P. 259.
(415) Homily, 1: 7 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد
(416) الرسالة الثانية.
(417) In 2 Tim. hom 7.
(418) Commentary on Genesis 3: 6: 1.
(419) Josephus: Antiq. 1:2, 2.
(420) Commentary on Genesis.
(421) Commentary on Genesis.
(422) Homilies on Genesis, homily 8: 1.
(423) Sermon 84: 2.
(424) Cf. Letter 12: 1.
(425) كان الذي يقتل خطأ يهرب إلى إحدى مدن الملجأ ويبقى فيها حتى يموت رئيس الكهنة، وعندئذ له حرية الخروج دون أن يُقتل.
(426) Flight From the World, 9: 55-56.
(427) Jewish Wars 4: 34.
(428) St. Ambrose: Exposition of the Gospel of Luke, 8: 45.
(429) Homilies on Genesis, 5: 2.
(430) Stromota 2: 14: 61: 4.
(431).Constitutions of the Holy Apostles, Book 8: section 2:12.
(432) R. Schackenburg: God’s Rule and Kingdom, N.Y., 1963, 20 n.
(433) Homilies on the Psalms 41.
(434) Homilies on the Psalms 46.
(435) Sermon 87: 2.
(436) Source Christiéne, vol 154: 132, sermon 1: 6.
(437) Homilies on Genesis 57: 19- 20.
(438) Jacob and the Happy Life, 7:30.
(439) Sermon 229f. 2..
(440) Sermon 5:6.
(441) Glaphyra on Genesis, 5:3.
(442) Demonstrations, 21: 9.
(443) Homilies on Genesis, 63: 17.
(444) On Joseph, 7: 40.
(445) Commentary on Genesis.
(446) Sermons on Song of Songs, Sermon 7 ترجمة الدكتور جورج نوّار
(447) Commentary on Exodus.
(448) Cf Origin: Commentary on the Song of Songs, 2: 2.
(449) Moses, book 2:59-62. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(450) Demonstrations, 12: 8.
(451) Demonstrations, 21: 10.
(452) يقول فيلون في "حياة موسى" (1: 17: 96-97) أن الأرض والماء والهواء والنار، وهي العناصر المكونة للطبيعة والتي يستحيل الهروب منها - قد شاركت في الهجوم. وأغرب شيء هو أن نفس العناصر وفي نفس الوقت ونفس المكان كانت تجلب الخراب على شعبٍ والأمان لشعبٍ آخر.
(453) Moses, book 1:25. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(454) Moses, book 1:30. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(455) Moses, book 2:121. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(456) Moses, book 1:31-32. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(457) يرمز جيش المصريين عند فيلون للعواطف والأهواء، ولكن عند ترتليان يرمز للشياطين، وهنا يستخدمه القديس غريغوريوس كرمز للأهواء مثل فيلون، ولكنه في مواضع أخرى يستخدم التفسيرين مثل أوريجينوس.
(458) يذكر مز 14: 7 و15: 4 قائدي المركبات وهم ثلاثة لكل مركبة يسمون "جنود مركبات".
(459) ترتبط المعمودية بأشياء كثيرة في الكنيسة الأولى، فهي تقترن بالإيمان والروح القدس والخشب (خشبة الصليب والدم عليه). وكانت عصا موسى تمثل "الأمل" في الكتاب الثاني بند 108، ولكن من الآن فصاعدًا يعتبرها القديس غريغوريوس رمزًا للصليب.
(460) Moses, book 2:122-125. مجدي فهيم حنا. ترجمة
(461) Antiq. 2: 16, 6; 3: 1, 4.
(462) Moses, book 1:32. مجدي فهيم حنا. ترجمة
← تفاسير أصحاحات حكمة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19
تفسير حكمة سليمان 11 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير حكمة سليمان 9 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/c7qvv9z