محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
حكمة: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25
ختم الحكيم الأصحاح الأول بالحديث عن اختيار الأشرار للموت صديقًا لهم، ودخولهم معه في ميثاقٍ وتحالفٍ، وذلك بجحودهم الإيمان وسلوكهم الشرير. الحياة الشريرة في حقيقتها موت، لأنها تحرم الإنسان من الله مصدر حياته. الآن ماذا يحمل هؤلاء الأشرار من اتجاهات، أو ما هو حديثهم الخفي؟
إذ يصب الأشرار كل رجائهم في ملذات هذه الحياة والمقتنيات الزمنية يشعرون دومًا بعدم الطمأنينة، لأنها يومًا ما تزول. لهذا تسيطر على عقولهم كما على قلوبهم نظرة تشاؤمية مظلمة. هذا يدفعهم لا إلى مراجعة أنفسهم لإدراك حقيقة الحياة الخالدة، بل إلى استخدام كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة لبلوغ مكاسب سريعة، وتحقيق أكبر قدر من الملذات، ولو على حساب الأتقياء البسطاء. فتصير شريعتهم الخفية التي يعشقونها هي شريعة الغاب، ويحملون روح البغضة والكراهية ضد كل إنسانٍ بارٍ، لأنه يبكتهم بسلوكه واتجاهاته، سواء من جهة حبه لاخوته، أو وداعته أو ترقبه الحياة الأبدية الخالدة.
لم يقتبس الحكيم عبارات من أقوال بعض الجاحدين للإيمان ،المعاصرين له أو السابقين، وإنما يقدم اتجاهاتهم التي تكمن في قلوبهم، والتي يترجمونها غالبًا في أحاديثهم كما في سلوكهم.
1. |
||
2 -4. |
||
5 -9. |
||
10 -11. |
||
12 -18. |
||
19 -20. |
||
21 -24. |
||
من وحي الحكمة 2 |
1 فَإِنَّهُمْ بِزَيْغِ أَفْكَارِهِمْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «إِنَّ حَيَاتَنَا قَصِيرَةٌ شَقِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمَمَاتِ الإِنْسَانِ مِنْ دَوَاءٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا رَجَعَ مِنَ الْجَحِيمِ.
فإنهم فكروا (الأشرار) تفكيرًا خاطئًا،
فقال بعضهم لبعض:
"قصيرةٌ ومملة حياتنا،
وليس من دواءٍ لنهاية الإنسان،
ولم يُعلَم قط أنَّ أحدًا رجَع من القبر. [1]
واضح أن الكاتب سليمان الحكيم، فإنه حتى عصره لم يسمعوا عن شخصٍ ميتٍ قام، أما في أيام إيليا وأيضًا أليشع، فقد أقام الأول ابن الأرملة بعد صراخه إلى الرب (1 مل 20:17-22)، كما قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي (2 مل 13: 21).
ربما يقول أحد: ألم تكن هكذا نظرة أيوب الصديق حيث سبَّ اليوم الذي وُلد فيه (أي 3)؟
شتان ما بين حديث أيوب عن قصر الحياة وحديث الأشرار، فإنه وإن كان أيوب قد اشتدت به المرارة جدًا بسبب ثقل التجارب، واتهامات أصدقائه له وعداوتهم له، فإنه كان يشتهي الموت، لكنه كثيرًا ما ترجى الدينونة الإلهية العادلة، والقيامة من الأموات. أما الأشرار ففي نظرتهم السوداوية للحياة أنكروا القيامة.
قصر الحياة أمر لا يقدر إنسان ما أن ينكره، لكن البار يتطلع إلى حياته كقنطرة للعبور إلى الأبدية بفرحٍ وسرورٍ، أما الشرير فتحطمه الظلمة التي في قلبه، فيسيطر اليأس عليه، وعوض الأعداد للحياة الأبدية بالتمتع ببرّ المسيح، يسلك بروح الأنانية.
لقد تجسد الكلمة الإلهي، وسلك طريق حياتنا الوقتية، وقبِل الموت في حداثة سنه، لكي بقيامته نترجي القيامة، وبحسب قصر حياتنا على الأرض عطية إلهية مفرحة.
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح ظهر للرسل بعد قيامته لا لهدف إلا ليؤكد قيامة الجسد. [لم يرد أن يعلمنا شيئًا سوى أنه يلزمنا أن نؤمن بقيامة الأموات(77).]
*
حقًا إن إيماننا بقيامة ربنا من بين الأموات وصعوده إلى السماوات تسند إيماننا برجاءٍ عظيمٍ. لأن هذه العقيدة تُظهر لنا بقوة كيف أنه بإرادته ذاك الذي له القوة أن يرفع حياته إلى فوق قد نزل بها من أجلنا. يا لعظمة الثقة التي يوحيها رجاء المؤمنين عندما يدركون عظمة الأمور التي احتملها من أجل البشر الذين لم يكونوا بعد مؤمنين عندما كان متوقعًا أن يأتي من السماء كديان الأحياء والأموات كان المهملون في رعب شديد، ولكن إذ كرسوا حياتهم بجهادٍ عظيمٍ امتلأوا شوقًا نحوه، سالكين في حياة مقدسة عوض خوفهم من مجيئه بسبب شر حياتهم(78).* إنه رجاء أكيد.. صار بالفعل حاضرًا واقتنيناه عمليًّا، حياتنا المستقبلة قد تحققت الآن في رأسنا ووسيطنا القائم من الأموات، الإنسان يسوع المسيح(79).
* إن كنتم تؤمنون أن المسيح قد قام من الموت، فلا بُد لكم أن تؤمنوا أنكم قد قمتم بالمثل معه. وإن كنتم تؤمنون أنه جالس عن يمين الآب في السماوات فلا بُد أن تؤمنوا أنكم لم تعودوا فيما بعد في المشهد الأرضي، بل في السماوي. وإن كنتم تؤمنون أنكم قد مُتم مع المسيح، فيجب أن تؤمنوا أنكم سوف تحيون معه. وإن كنتم تؤمنون أن المسيح ميت للخطية وحيّ لله، فأنتم أيضًا يجب أن تكونوا أمواتًا للخطية وأحياء لله.
هذا لأن الإنسان الذي (يضع ذهنه في ما هو فوق) يُظهر إيمانه بمن أقام يسوع من الموت. وفيما يتعلق بهذا الإنسان، "فسيُحسب له الإيمان بّرًا". فإن كنا قد قمنا مع المسيح الذي هو البّر، ونمشي في جدّة الحياة، ونحيا بحسب البرّ، فالمسيح قد قام لنا، حتى نتبرر.. إذ قد اتخذنا حياة جديدة على مثال قيامته."
* الفكر غير البسيط يُفقد الإنسان رجاءه في مجيء الرب الأخير (الباروسيا) مما يدفعه نحو السلوك الشرير(80).
* ظهر ليضع حدًا لخطايا اليهود ونخلص نحن عن طريق الوارث الرب يسوع الذي أُعد ليأتي إلى العالم، فيخلص بمجيئه نفوسنا السائرة في شعاب الموت والمستسلمة للطريق الشرير(81).
2 إِنَّا وُلِدْنَا اتِّفَاقًا، وَسَنَكُونُ مِنْ بَعْدُ كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ قَطُّ، لأَنَّ النَّسَمَةَ فِي آنَافِنَا دُخَانٌ، وَالنُّطْقَ شَرَارَةٌ مِنْ حَرَكَةِ قُلُوبِنَا. 3 فَإِذَا انْطَفَأَتْ عَادَ الْجِسْمُ رَمَادًا، وَانْحَلَّ الرُّوحُ كَنَسِيمٍ رَقِيقٍ، وَزَالَتْ حَيَاتُنَا كَأَثَرِ غَمَامَةٍ، وَاضْمَحَلَّتْ مِثْلَ ضَبَابٍ يَسُوقُهُ شُعَاعُ الشَّمْسِ، وَيَسْقُطُ بِحَرِّهَا، 4 وَبَعْدَ حِينٍ يُنْسَى اسْمُنَا، وَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَعْمَالَنَا.
إننا وُلدنا اتفاقًا،
وسنكون من بعد كأننا لم نكن قط،
لأن النَسمة في أنوفنا دُخان،
والنطق شرارة من ضربات قلوبنا. [2]
يعتنق الأشرار بسلوكهم إلحادًا عمليًا، حيث يتطلعون إلى حياة الإنسان أنها وليدة صدفة بحتة، ليس من موضعٍ لخطة الله في أذهانهم، وينظرون إلى الموت الجسماني كنهاية للحياة، ليس من حياة أخرى ولا من قيامة.
نظرة الأشرار للحياة أنها تمتع بالملذات والمرح الزمني، إذ يحطم عدم الإيمان كل رجاء في البشر، فيشعرون وجودهم كأنه عدم؛ أرواحهم ليست من الله، بل هي دخان سرعان ما يتبدد بلا عودة، وأجسادهم تتحول إلى رمادٍ يتبدد كما بالرياح.
من أهم النقاط في فكر أوريجينوس الأخروي هو فهمه الرجاء المسيحي في القيامة. ففي مقدمة كتابه De Principiis ذكر بين التعاليم المحددة في كرازة الكنيسة هو الإيمان بأن للنفس مادتها وحياتها، التي تستمر بعد الموت، لتختبر مكافأة أو عقوبة على تصرفاتها، وتتوقع أنه سيأتي وقت للقيامة من الأموات(82) . كما تحدث بعد ذلك في نفس العمل عن قيامة الجسد(83)، ويرى أن هذا الجسد سيقوم جسدًا روحيًا يختلف تمامًا في هيئته عما هو عليه حاليًا(84).
في الفصل النهائي للكتاب برهن بطريقة إيجابية عن خلود النفس حاسبًا أنه لأمر شرير أن ما في الإنسان على مثال الله مثل الذهن البشري يمكن أن يفنى تمامًا(85).
فإذا انطفأت عاد الجسمُ كالرماد،
وتبدد الروح كالهواء الفارغ [3]
يمثل هذه الأفكار التي يحولها الأشرار إلى فلسفات، غايتها تبرير الإنسان لممارسة الشرور بلا ضابط. كان كثير من الفلاسفة يعتقدون بفناء الجسد والنفس تمامًا.
إذا ما عزل الإنسان نفسه عن الله يرى نفسه تافهًا لا قيمة له، أشبه بالعدم، أما في الله فيرى نفسه موضع حب خالق السماء والأرض الذي أقامه رئيسًا يسوس العالم بالبرّ والقداسة، يرى نفسه الابن العزيز جدًا عند أبيه السماوي.
* (المسيح) كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الشخص البشري بإقامته إلى الحق. إنه يحثنا على الخلاص الذي يبطل الفساد وينزع الموت(86).
تحدث العلامة أوريجينوس بوضوح أن أي شخص يحتقر قيامة الأموات كما تؤمن الكنيسة لا يكون له رجاء في المسيح، ما لم يؤمن أن النفس تحيا وتنتعش ولا تتقبل هذا الجسد في القيامة بل جسدًا من نوعٍ سامٍ(87). غير أن آباء الكنيسة يؤكدون أن الجسد القائم هو ذات الجسد الذي جاهد مع النفس في هذا العالم لكنه يحمل طبيعة مجيدة تليق بالحياة الأبدية.
* يليق بنا ألا نشك أن جسدنا المائت سيقوم ثانية في نهاية العالم... هذا هو الإيمان المسيحي، هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة، هذا هو الإيمان الرسولي(88).
* كما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى مختفية في النفس إلى يوم القيامة، حيث تُغمر أجساد الخطاة بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور والصورة السماوية - يسوع المسيح - يضيء الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين. إنه مخفي عن عيون الناس، لكن عيني النفس وحدها تنظران المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، حيث يغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان(89).
* كما أن النار التي كانت تتقد على المذبح في أورشليم دُفنت في حفرة، أثناء فترة السبي، وعندما حلّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تحددت هذه النار عينها واشتعلت كما كانت سابقًا فبل السبي (2مل19:1)، هكذا الآن تعمل النار السماوية في هذا الجسد الذي ألفناه - هذا الذي في انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة - فتجدد هذا الجسد، وتقيمه بعد أن فسد. فإن النار الداخلية التي تسكن الآن في القلب ستُستعلن حينئذ من الخارج وتحقق قيامة الجسد(90).
ويُنسى اسمُنا مع الزمن،
ولا يذكر أحد أعمالنا،
وتزول حياتنا كأثرِ سحابة،
وتتبدد مثل ضبابٍ،
تسوقُه أشعة الشمس،
ويسقط بِحرارتها. [4]
يرى الأشرار غير المؤمنين أن حياتهم أشبه بضباب يسوقه شعاع الشمس، ثم يتكثف بحرارة الشمس، ويتحول إلى ماء يسقط على الأرض، فتتشربه ولا يصير له وجود. فمع زوال الحياة التي يُشبهها الأشرار بالسحابة تعبر لتظهر الشمس، يعتقدون بأنه لا يبقى للإنسان حتى ذكرى وسط الأجيال القادمة. يرى الشرير أنه لا خلاف بين نصيب الأشرار أو الأبرار بعد الموت.
يؤكد الكتاب المقدس: "ذِكرُ الصديق للبركة، واسم الأشرار ينخر" (أم 10: 7). كما يقدم الرب وعدًا للأبرار: "إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات؛ أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 5). مثل هذا الوعد لا مكان له في فكر الشرير أو في قلبه.
5 إِنَّمَا حَيَاتُنَا ظِلٌّ يَمْضِي، وَلاَ مَرْجِعَ لَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لأَنَّهُ يُخْتَمُ عَلَيْنَا فَلاَ يَعُودُ أَحَدٌ. 6 فَتَعَالَوْا نَتَمَتَّعْ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَاضِرَةِ، وَنَبْتَدِرْ مَنَافِعَ الْوُجُودِ مَا دُمْنَا فِي الشَّبِيبَةِ، 7 وَنَتَرَوَ مِنَ الْخَمْرِ الْفَاخِرَةِ، وَنَتَضَمَّخْ بِالأَدْهَانِ، وَلاَ تَفُتْنَا زَهْرَةُ الأَوَانِ، 8 وَنَتَكَلَّلْ بِالْوَرْدِ قَبْلَ ذُبُولِهِ، وَلاَ يَكُنْ مَرْجٌ إِلاَّ تَمُرُّ لَنَا فِيهِ لَذَّةٌ. 9 وَلاَ يَكُنْ فِينَا مَنْ لاَ يَشْتَرِكُ فِي لَذَّاتِنَا، وَلْنَتْرُكْ فِي كُلِّ مَكَانٍ آثَارَ الْفَرَحِ؛ فَإِنَّ هذَا حَظُّنَا وَنَصيِبُنَا.
فإن أيامَنا مُرور الظل عينه،
ونهايتنا بلا رجعةٍ،
لأنه مختومٌ عليها، فمَا من أحدٍ يعود. [5]
يرى الأشرار أن حياتهم تمر مرور الظل، وهنا لا يقصدون مجرد قصر الحياة الزمنية، وإنما زوالها تمامًا بلا شيء، تكونت كالظل من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، مما يدفعهم إلى الانغماس في الملذات. أما يعقوب الرسول فإذ يقول: "لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل" (يع 4:4)، فباضمحلالها في هذا العالم نتمتع بحياة جديدة أبدية، لذا يضيف "فمن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فذلك خطية له" (يع 4: 17). شعور الأشرار بقصر الحياة يفسدهم، وشعور الأبرار بذلك يدفعهم لجهادٍ أعظم.
في يأسٍ شديدٍ يعتقد الأشرار في قصر الحياة، حيث لا هروب من الموت، ولا عودة من القبر. أما الصديقون، فإذ يؤمنون بعناية الله الفائقة وخطته، يدركون أن "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا 1:3)، فالحياة ليست وليدة مصادفة، والأحداث لا تتم بلا تدبيرٍ إلهيٍ. الحكيم يدرك أن خلقته هي عطية إلهية، ولحياته رسالة مجيدة تحقق خطة الله من نحوه.
فتعالوا نتمتع بالطيِّبات الحاضرة،
وننتفع من الخليقة بحَمِيَّة الشباب. [6]
يركز الأشرار على الطيبات الحاضرة، أو الملذات الوقتية عوض الأمجاد الأبدية. وكأن حياتهم القصيرة هي فرصة للانتفاع بالخليقة بكل وسيلة في حمية الشباب، أي كمن هم أصحاب قوة وقدرة، يتمتعون بالخيرات قبل حلول الشيخوخة والعجز.
لنسكر من الخمر الفاخرة والعطور،
ولا تفتنا زهرةُ الربيع. [7]
مع إدراكهم أن الأمور الزمنية مؤقتة وزائلة، لكن بسبب شعورهم بأنهم في طريقهم إلى العدم، وليس من خلود للإنسان، فلا مجال للجهاد من أجل الحياة المقدسة في الرب، وإنما الترف واللذة هي متعتهم قبل حلول الفساد سواء للمادة أو لهم هم أنفسهم. فرحهم ينصب في اللذة. أما المؤمن فيتلمس حب الله الخالق في العالم الجميل الذي أوجده له، لكن يجد متعته في تقديم الشكر للخالق على عطاياه، وليس في الاستعباد للمادة. إنه يعتز بممارسته الحرية التي وهبت له، فيبقى دائمًا السيد للمادة وليس عبدًا لها.
يقول القديس إكليمنضس السكندري إن الطعام ليس هدفًا نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا شهوة الطعام، للتمتع بالأبدية.
* لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبرها الرب "الكلمة" ليقودنا إلى الأبدية...
لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة...
لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله.. فإن البطن الشرير لا يشبع أبدًا (أم 5:13)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي(91).
* يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطًا، عاديًا جدًا، مناسبًا لأولاد بسطاء.. يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطًا بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفًا رشيقًا، يحقق النمو والصحة.
فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.
لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفًا وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك(92).
* الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمتع، ولكن وليمة المحبة "أغابي" `agapy هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم...
النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه(93).
أما عن السكر بالخمر ووضع أكاليل من الزهور على الرؤوس فقد كانت ضمن الطقوس الوثنية ترتبط بممارسة الرجاسات والعبادة للأصنام.
ولنتكلَّل ببراعم الورد قبل ذبوله. [8]
كانت المسارح والملاعب تُستخدم عادة للاحتفالات الخاصة بالآلهة الوثنية أو بالحاكم أو الإمبراطور كإله، وكان لها طقوسها الخاصة، مثل إنارة مشاعل ووضع أكاليل من الزهور على رؤوسهم. وقد اضطر بعض المسيحيين في القرون الأولى ، بسبب البسطاء أو الضعفاء في الإيمان، رفض استخدام الزهور، ليس لأنها دنسة، ولكن لأنها ارتبطت بعبادة الشيطان والأوثان. مع هذا يقول الشهيد يوستين (110- 165):
[كل شيء يُولد كعطية الله التي لا تُنتهك حرمتها، لا يُمكن انتهاكها بعمل بشري (حتى وإن استخدمت في طقوس وثنية). على أي الأحوال، نحن نمتنع عن استخدامها حتى لا يعتقد أحد أننا نخضع للشياطين الذي من أجلهم يُشرب الخمر، أو أننا نخجل من ديانتنا.
بالتأكيد زهور الربيع مبهجة لنا، فإننا نختار وردة الربيع والسوسنة وغيرها من الزهور ذات الألوان المبهجة للغاية والرائحة الذكية، ونستخدمها سواء كلٍ منها بمفردها أو ننثر أوراقها أو ننسجها معًا كأكاليل نزين بها رقابنا(94).]
ويقول مونيكوس فيلكس Minucius Felix (القرن الثاني أو الثالث) إن الزهور نافعة لحاسة الشم حيث تستقبل الأنف رائحة زكية(95).
يقول القديس إكليمنضس السكندري: [الذين تعلموا بواسطة اللوغوس يمتنعون عن ارتداء أكاليل (الزهور). إذ يحسبون أنه ليس من الضروري أن يقيدوا أذهانهم التي في رؤوسهم، ليس لأن الإكليل رمز لحياة السكر الجامحة، وإنما لأنها ترتبط بالوثنية(96).]
ولا يكن فينا من لا يشترك في قصفِنا.
لنترك في كل مكان علامات ابتهاجنا،
فإن هذا حظُّنا، وهذا نصيبُنا. [9]
إذ لا يشغلهم شيء سوى حياة القصف أو العربدة الصاخبة revelry والخلاعة wanton. فإنهم يدعون أقرباءهم وأصدقاءهم إلى الشركة في هذه الحفلات الماجنة، متطلعين أنها الحياة بعينها والبهجة، وأن هذا هو نصيب الإنسان المفرح. بدونها تُحسب لحياة موتًا، لا طعم لها.
10 لِنَجُرْ عَلَى الْفَقِيرِ الصِّدِّيقِ، وَلاَ نُشْفِقْ عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَلاَ نَهَبْ شَيْبَةَ الشَّيْخِ الْكَثِيرِ الأَيَّامِ. 11 وَلْتَكُنْ قُوَّتُنَا هِيَ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ أَنَّ الضُّعْفَ لاَ يُغْنِي شَيْئًا.
لَظلُمِ البارَّ الفقير،
ولا نشفق على الأرملة
ولا نَهَبْ شَيبة الشيخ الكثير الأيام. [10]
الأشرار في انحلالهم يريدون أن يبكموا صوت الحكمة والعدالة، يقاومون الحكماء ولا يبالون بخبرة الشيوخ المتعقلين.
فقدان الأشرار الرجاء في الخلود لا يدفعهم إلى اللذة فحسب، وإنما يجدون متعتهم في اغتصاب الآخرين حتى الفقراء والأرامل والشيوخ. لقد فقدوا الشعور بالحب والحنو، فصار قانونهم الظلم والسلب غير مبالين باحتياجات الفقير أو مرارة نفس الأرملة أو ضعف الشيخ. رأوا أن من حقهم ممارسة القوة، وأن في هذا التصرف عدالة.
باعتزالهم الله مصدر الحب والحنو والنموذج العملي للقيم السليمة والمبادئ فقدوا كل إحساس وعاطفة، واختلت موازينهم الداخلية، صاروا أبشع من الوحوش المفترسة تحركها الغريزة والشهوة، تقسو بعنفٍ دون أن تدري.
بل لتكن قوتنا شريعة العدل،
فإنه من الثابت أن الضعف لا يُجدي نفعًا. [11]
شريعة الأشرار ومبدأهم ليس ناموس الله، بل شريعة القوة، بكونها فوق الحق. شريعتهم هي شريعة الغاب. يرون في الحب وطول الأناة والاحتمال ضعفا وخنوعًا لا يليق بهم.
* يا أيها المتعالون والمتكبرون والمتعجرفون، تذكروا الموت، الذي سيحطم تعاليكم ويحل أعضاءكم ويفك المفاصل ويحل الفساد بالجسم وكل أشكاله. بالموت ينحط المتعالون، والعنفاء القساة يُدفنون في ظلمته...
يا أيها الجشعون المغتصبون والسالبون لزملائكم تذكروا الموت، ولا تضاعفوا خطاياكم. ففي ذلك الموضع لا يتوب الخطاة، ومن سلب ممتلكات رفيقه لا يملك حتى ماله، بل يذهب إلى الموضع الذي لا تُستخدم فيه الثروة، ويصير بلا شيء، تعبر عنه كرامته، وتبقى خطاياه لتقف ضده يوم الدينونة(97).
12 وَلْنَكْمُنْ لِلصِّدِّيقِ؛ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا يُقَاوِمُ أَعْمَالَنَا، وَيُقَرِّعُنَا عَلَى مُخَالَفَتِنَا لِلْنَّامُوسِ، وَيَفْضَحُ ذُنُوبَ سِيرَتِنَا. 13 يَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَهُ عَلِمَ اللهِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ ابْنَ الرَّبِّ. 14 وَقَدْ صَارَ لَنَا عَذُولًا حَتَّى عَلَى أَفْكَارِنَا. 15 بَلْ مَنْظَرُهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا، لأَنَّ سِيرَتَهُ تُخَالِفُ سِيرَةَ النَّاسِ، وَسُبُلَهُ تُبَايِنُ سُبُلَهُمْ. 16 قَدْ حَسِبَنَا كَزُيُوفٍ؛ فَهُوَ يُجَانِبُ طُرُقَنَا مُجَانَبَةَ الرِّجْسِ، وَيَغْبِطُ مَوْتَ الصِّدِّيقِينَ، وَيَتَبَاهَى بِأَنَّ اللهَ أَبُوهُ. 17 فَلْنَنْظُرْ هَلْ أَقْوَالُهُ حَقٌّ؟ وَلْنَخْتَبِرْ كَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ؟ 18 فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الصِّدِّيقُ ابْنَ اللهِ؛ فَهُوَ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ أَيْدِي مُقَاوِمِيهِ.
ولنكمُن للبار فإنه يُضايقنا،
يُقاوم أعمالنا،
ويلومنا على مخالفاتنا للشريعة،
ويتَّهمنا بأننا نسيء إلى تعليمنا. [12]
لم يقف الأشرار عند الانهماك في الشهوات واستخدام العنف والظلم حتى مع الفقراء والمساكين، بل يحاولون الإيقاع بالأبرار، ونصب شباكٍ وفخاخٍ لهم، لأنهم يرفضون الشركة معهم في شرورهم، ولأنهم يوبخونهم على تصرفاتهم الخاطئة، إن لم يكن بالكلام فبسلوك الأبرار. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). بهذا يصير منظر البار ثقيلًا للغاية عليهم، لأنه يوبخهم.
يرى البعض أن هذه العبارات تحمل نبوات واضحة عن ربنا يسوع المسيح البار الذي بتصرفاته كما بتعاليمه وبَّخ الكتبة والفريسيين، فلم يحتملوه، إنما كمنوا لقتله والتخلص منه بالصليب.
والعجيب أن الأشرار لا يحتملون البار حتى بعد موته، فتبقى ذكراه موبخًا لهم. هذا حدث مع السيد المسيح حتى بعد موته وقيامته، إذ لم تستطع القيادات اليهودية أن تسمع اسم يسوع، وكان الاتهام الموجه ضد المسيحيين هو اتهام الاسم. وكانت صرخات القيادات ضدهم أنهم يجلبون هذا الاسم عليهم.
النور الإلهي المشرق في حياة البار لا تحتمله الظلمة الكامنة في قلوب الأشرار. فالعالم بظلمته لا يقبل النور، وكما قال السيد المسيح في صلاته الوداعية عن تلاميذه: "العالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم" (يو17: 14).
يرى القديس أمبروسيوس أن يوسف وجد إخوته في دوثان (تك 37: 17) والتي تعني "الهجران"، بهذا يمثلون النفوس التي تهجر الله، ولا تريد أن تأتي إليه لتجد فيه راحة (مت 11: 28). هؤلاء إذ رأوا يوسف قادمًا من بعيد ثاروا ضده وأرادوا قتله (تك 37: 28). لقد ثاروا وهو بعيد عنهم، هكذا عندما جاء السيد المسيح إلى خاصته ليقترب إليهم رفضوه ودبروا قتله، قائلين ما ورد في سفر الحكمة: "ولنكمن للبار، فإنه يضايقنا" (حك 2: 12)(98).
* لنهرب من سلام الأشرار، فإنهم يتآمرون ضد الإنسان البار. يجتمعون معًا، ليضغطوا على من هو بار(99).
* إذ كانت أفكار اليهود هي أن يصنعوا بالرب ظلمًا... نسوا أنهم كانوا يجلبون الغضب ضد أنفسهم لهذا بكى الرب عليهم (على لسان النبي) قائلًا: "لماذا ارتجت الأمم، وتفكرت الشعوب في الباطل" (مز 1:2).
حقًا باطل هو تفكير اليهود، إذ يفكرون في الموت ضده الحياة، ويشيرون بأمور غير معقولة ضد كلمة الآب!
ومن يتطلع الآن إلى تشتيتهم وخراب مدينتهم يقول: "الويل لهم، فقد فكروا شرًا ضد أنفسهم"..
حسن هو هذا يا اخوتي، لأنهم إذ أخطأوا في حق الكتاب المقدس لم يعرفوا أن "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جدارًا تلدغه حية" (جا 8:10)(100).
* قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كُتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا، قائلين: لنقيد البار، لأنه مغلق لنا" (راجع إش 3: 9، حك 2: 12) نعم ويل لنفوسهم.
لترى كيف هذا، فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك انصلح الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهه ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس قيل: "ويل لنفوسهم... لنقيد البار!"
ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟
لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول: "لنقطع قيودهم" (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا، لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.
اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14)(101).
يزعُمُ أن عندهُ علم الله،
ويُسمي نفسه ابن الرب. [13]
إذ بكَّت يسوع البار اليهود في مواضعٍ كثيرةٍ (مت25؛ يو8)، وكشف لهم عن مرضهم، لم يحتملوا هذا العالم بل طلبوا أن يقتلوه، "لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا إن الله أبوه، معادلًا نفسه بالله" (يو 5: 18).
صار لَومًا على أفكارنا. [14]
يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لا يعزل الأبرار عن الأشرار، بل يسمح باختلاطهم معًا لصالح الطرفين. فالأشرار يتطلعون إلى الأبرار، فيوبخهم برّ الأبرار، ومن الجانب الآخر يُحسب هذا مكسبًا للأبرار حيث يكونون سببًا لتوبة بعض الأشرار.
وحتى منظره ثقُل علينا.
لأن سيرته لا تُشبه سيرة الآخرين،
وسُبُله مختلفة. [15]
صار في أعينهم شاذًا، فالبٌر بالنسبة لهم ضعفًا وتخاذلًا، والعنف والسلب قوة وشهامة. صار الخير في أعينهم شرًا، والشر خيرًا.
* يوجد نفع للأشرار باختلاطهم بالصالحين، فإنه يشعرون بارتباك، ويخجلون، ويستحون في حضورهم. فإنهم حتى وإن لم يمتنعوا عن الشر، لكنهم لا يجسرون على فعل ما يصنعونه في سرية. وهذا أمر ليس هينًا، ألاَّ يرتكبوا معصية علانية. تصير حياة الآخرين مُتهمًا لشر أولئك. اسمعوا على الأقل ما يُقال عن الإنسان البار. "صار خطرًا علينا حتى منظره" (حك 2: 14) إنها بداية ليس هينة للإصلاح خلال التعذيب بحضور (الإنسان البار)(102).
* يكره السارق النور.
مجرد التطلع إلى الإنسان البار أمر بغيض بالنسبة للخطاة. "حتى منظره مُحزن لنا" (حك 2: 15). إذ لا يحتملون بهاءه، وذلك مثل العيون المريضة التي لا تحتمل أشعة الشمس.
ولكن بالنسبة لكثيرين محزن لهم لا أن يروه فحسب، بل وحتى أن يسمعوا عنه(103).
أمسَينا في عينيه شيئًا مُزيَّفًا،
ويتجنبُ طُرُقنا تجنب النجاسات.
يُغبِّطُ آخرَةَ الأبرار،
ويتباهى بأن الله أبوه. [16]
لا يليق بالبار أن يستخف بالخطاة، ولا أن يدينهم، وإن كان لا يقبل شرورهم، ولا يسلك في طرقهم. لا يليق به أن يهينهم ولو بنظراته، بل أن يترفق بهم ويحبهم في الرب طالبًا خلاصهم. لكن الأشرار وهم عالمون فساد طرقهم ورفض البار السلوك معهم في ذات الطريق، يدركون أنه يعلِّمهم أن طريقهم باطل ومزيف، وأنه يتجنب طرقهم، لأنه يطوِّب نهاية الأبرار، ويعتز بروح البنوة لله، هذه الروح التي قدمتها له نعمة الله الغنية في مياه المعمودية.
لكن ما هو ردّ فعل الأشرار المصرِّين على شرهم؟ يقولون:
فلننظر هل أقواله صادقة،
ولنختبر كيف تكون عاقبته؟ [17]
عوض الاقتداء بالبار، يسخرون منهم، كما سخروا بالقدوس البار ابن الله الوحيد.
19 فَلْنَمْتَحِنْهُ بِالشَّتْمِ وَالْعَذَابِ، حَتَّى نَعْلَمَ حِلْمَهُ وَنَخْتَبِرَ صَبْرَهُ، 20 وَلْنَقْضِ عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ مِيْتَةٍ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْتَقَدُ كَمَا يَزْعُمُ.
فإن كان البارُّ ابن الله،
فهو يعينه وينقذه من أيدي مقاوميه. [18]
يعتز الأشرار بقوتهم الغاشمة ويظنون أنه ليس من قوة تقدر أن تقف أمامهم، حتى الله نفسه. وإذ يسيئون إلى البار يسخرون به قائلين: "إن كان الصديق ابن الله فلينصره وينقذه من أيدي مقاوميه". هكذا يتحدون الله نفسه إن كان يستطيع أن ينقذ البار من أيديهم.
هنا نبوة واضحة عن السيد المسيح، حيث سخروا منه، حتى قال اللصان: "خلَّص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها". وقيل عنه: "إن كان ابن الله، فلينزل عن الصليب فنؤمن به". لم يدركوا أنه بالصليب انتصر السيد المسيح على الشيطان، وبموته داس الموت، خلص البشرية كلها حتى تنتصر وتتكلل به.
فلنمتحِنْهُ بالشتْمِ والتعذيب،
لكي نعرف حلمه ونختبر صبره. [19]
هذا التحدي كان قائمًا بين الشيطان شخصيًا أو خلال حزبه الذي دخل معه في عهدٍ والله في أشخاص مؤمنيه من رجال العهدين القديم والجديد، وقد بلغ القمة عند مجيء ابنه الوحيد الجنس، فظن عدو الخير أنه قادر على الخلاص منه تمامًا بالصليب، حيث جهل العدو تواضعه وخطته لخلاص العالم. ويبقى هذا التحدي قائمًا بين العالم الذي وُضع في الشرير وبين كنيسة الله، يتزايد ليبلغ القمة بمجيء ضد المسيح في آخر الأيام، حيث يدرك عدو الخير أن نهايته قد اقتربت جدًا.
ولنحكم عليه بميتَةِ عارٍ،
فإنه سيُفتَقدُ بحسب أقواله". [20]
يرى كلًا من القديس أغسطينوس والعلامة أوريجينوس أن الأشرار يحكمون على البار - ربنا يسوع - بموت العار، أي بالصليب، ولم يدركوا أنه بالصليب كان في قمة المجد خلال حبه وتواضعه.
* ها نحن نرى هذه النبوة (حك 2: 12-21) في شكل اشتياق وصلاة، تحققت في يسوع المسيح(104).
* لقد تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما احتمل الموت. أتريدون أن تعرفوا أنه قد تمجد؟ قال بنفسه: "أيها الآب، قد أتت الساعة؛ مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). احتمال الصليب كان مجدًا له، لكن مجده لم يكن في منظرٍ جميلٍ، وإنما في تواضعٍ. فقد قيل عنه: "تواضع حتى الموت، موت الصليب" (راجع في 2: 8). وقد تنبأ النبي عن ذلك، قائلًا: "ولنحكم عليه بميتة عارٍ" (حك 2: 20). ويقول عنه إشعياء: "من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (إش 53: 8)(105).
وكما أراد العدو الخلاص من السيد المسيح بالصليب، هكذا لا يكف عن أن يجاهد في قتل المؤمنين وتحطيمهم منذ ولادتهم. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلًا: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" (خر 22:2)، قائلًا:
[أترون بماذا يأمر رئيس هذا العالم خدامه؟ إنه يأمر بسرقة أولادنا، وإلقائهم في النهر، ونصب الشباك على الدوام منذ ولادتهم. يأمر بالهجوم عليهم منذ يبدأون في لمس ثديي الكنيسة ويطلب نزعهم عنها ومطاردتهم حتى تبتلعهم أمواج العالم...
تأمل الخطر الذي يهددك منذ ولادتك، بل بالأحرى منذ ولادتك الجديدة، أي منذ نوالك المعمودية مباشرة... فقد أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس (مت 1:4).
هذا هو أمر فرعون لشعبه بخصوص أولاد العبرانيين، أي الهجوم عليهم واقتناصهم في لحظة ولادتهم وإغراقهم... لكن المسيح انتصر حتى يفتح لك طريق النصرة، انتصر وهو صائم حتى تدرك أنت أيضًا كيف تخرج هذا الجنس بالصوم والصلاة (مر 29:9)(106).]
21 هذَا مَا ارْتَأَوْهُ فَضَلُّوا؛ لأَنَّ شَرَّهُمْ أَعْمَاهُمْ، 22 فَلَمْ يُدْرِكُوا أَسْرَارَ اللهِ، وَلَمْ يُرَجُّوا جَزَاءَ الْقَدَاسَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا ثَوَابَ النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ. 23 فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الإِنْسَانَ خَالِدًا، وَصَنَعَهُ عَلَى صُورَةِ ذَاتِهِ، 24 لكِنْ بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْمَوْتُ إِلَى الْعَالَمِ، 25 فَيَذُوقُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ حِزْبِهِ.
هكذا فكروا،
ولكنهم ضلُّوا،
لأن شرَّهم أعماهُم. [21]
يمنعهم كبرياؤهم عن مراجعة أنفسهم، فثبتوا في الجهل والضلال والعمى الروحي.
توغلهم في الشر أعماهم عن رؤية حكمة الله في طول أناته ليهبهم فرصة للتوبة، وكيف يزكي الأبرار باحتمالهم الآلام لينالوا أكاليل مجدٍ في السماء. لم يدركوا القوة العاملة في حياة أولاد الله والتي تهبهم سلامًا وسط الضيقات، وشعور بمعية الله، فيفرحوا ويتهللوا وسط الآلام.
* هؤلاء ينتعشون في سعادة هذا العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس فيما هم ينتعشون يهلكون بذات الأمر؛ لأنهم ينتعشون إلى حين، ويهلكون أبديًا. ينتعشون في خيرات غير حقيقية، ويهلكون في عذابات حقيقية(107).
فلم يعرفوا أسرار الله،
ولم يرْجوا جزاءً للبرّ،
ولم يقدِّروا تكريمَ النفوس التي بلا لومٍ. [22]
لا يعرف الأشرار أسرار الله، أي حكمته ومقاصده من نحو الإنسان، إذ لا يختبرونها في حياتهم. كما لا يبالون بما ورد في الشريعة عن مجازاة الأبرار وهلاك الأشرار. لم يعرفوا أو تجاهلوا ما ورد في سفر التكوين عن الإنسان أنه صورة الله، وخُلق على مثاله (تك 27:1). إنهم إذ لا يذوقون عربون السماء هنا، لا يكون لهم نصيب مع الأبرار في المجد الأبدي، بل ولا حتى يؤمنون به.
* أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين(108).
فإن الله خلق الإنسان لعدم الموت،
وجعله صورة ذات أبديته. [23]
* لم يكتفِ الله بأن يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي، وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فسادٍ بالموت. لأنهم كانوا - كما ذكرت سابقًا - فاسدين، لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين. ولأن الكلمة سكن فيهم، لم يمسهم فسادهم الطبيعي، كما يقول سفر الحكمة: "الله خلق الإنسان لعدم الموت، وجعله على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم".
وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون. هذا من جهة الوقت إذ بدأ الفساد يسود عليهم(109)...
لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم،
فيختبرُه الذين هم من حِزبه. [24]
"الموت" هنا هو الموت الروحي الذي يسقط تحته الأشرار.
ليس للإنسان عدو حقيقي إلاَّ إبليس الذي لا ييأس من العمل الدائم ليضم أكبر عدد ممكن من البشرية إليه، لا لهدفٍ سوى مشاركته للهلاك الذي يحل به. يستخدم إبليس كل وسيلة، تارة خفية وأحيانًا علانية، كتشكيك الإنسان في الله، وجذبه بالملذات.
* ماذا يعني بالقول: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم"؟ أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير رأى أن الإنسان الأول قد خُلق خالدًا، فبسمته الشريرة قاده إلى عصيان الوصية، وبها جلب لنفسه الموت. إذن الحسد سبب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا(110).
* الحسد دائمًا ما يتبع طريق الفضيلة. وكما يقول هورس Horace بأنه حتى قمة الجبل تُضرب بالبرق. ليس بالأمر المدهش أن أعلن ذلك للرجال والنساء، عندما نرى حسد الفريسيين قد نجحوا في صلب ربنا نفسه. كل القديسين لهم من يكنون لهم رغبات شريرة، حتى الفردوس (الجنة) لم يكن خاليًا من الحية التي من خلال حقدها جاء الموت إلى العالم (رجع 2: 24)(111).
* في الواقع يوجد صراع بين الفضيلة وحسد (إبليس). واحدة لضبط كل عصب ليقهر الصلاح، والثانية تحتمل كل شيء لكي يعيش الإنسان غير خاضعٍ. واحدة تعمل لتُسهل طريق الرذيلة، والثانية تتمسك بالصلاح حتى وإن عانى الإنسان متاعب أكثر من الآخرين(112).
* "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). قدم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأنه ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان قادتك إلى الموت(113).
* الآن إذ جاء الموت إلى الناس من إبليس، ليس لأنهم ذريته، وإنما لأنهم تمثلوا به، لذلك أضاف في الحال: "والذين صاروا من حزبه تمثلوا به" (راجع 2: 24)(114).
* إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي... فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين، إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة، إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريضًا أصلًا. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات "لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى، فتلدغكم يقول الرب" (إر17:8).
بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت... فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ يزيفون الحقيقة على الدوام، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلًا، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه، بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين.
الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه: "أَنه يقف قدام الحاسد" (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته(115).
الأب بيامون
* كل العالم يعلم أن حياة الإنسان قصيرة،
لكن إذ أتحد بك تمتد حياتي إلى الخلود.
حياتي مملوءة بالأشواك ، لكنها ليست مملة،
لأني أراك رفيقا لي وسط الآلام.
الشوك الذي توج رأسك، يعطي لآلامي عذوبة!
موتك من أجلي، أمات الموت الذي حطمني!
قيامتك قدمت لي الحياة المقامة.
* كنت أظن أنني جئت إلى العالم مصادفة،
لكنني أدركت أنك مشغول بي حتى قبل خلقتي.
اسمي منقوش على كفيك،
أنت مشغول بي، وتبقي تعمل لأجلي،
حتى حيث تكون أنت أكون معك!
حياتي ليست للهو والمزاح،
لكن لي غاية سماوية، وضعتها لي العناية الإلهية.
* نفسي ثمينة جدًا في عينيك،
حتى جسدي، إذ يعود إلى التراب،
ترده ليحمل أمجادًا سماوية!
حملتني بكليتي من الفساد إلى عدم الفساد.
نقلتني من دائرة الموت إلى الخلود!
* لست أعيش هنا لأتمتع بلذة الأكل والشرب،
فأنت هو أكلي وشربي، وقمة سعادتي.
أترقب، متى أتمتع بك، يا أيها المن السماوي!
* سخر بك الأشرار، لأنك قدوس.
حياتك صارت ثقلًا عليهم، لأنها تدينهم.
صمموا أن يتخلصوا منك،
دبروا قتلك فقتلوا أنفسهم.
_____
(77) Sermon 243:3; cf. De Civit. Dei 13:11.
(78) On Christian Doctrine 1:15:14.
(79) Cont. Faust. 14:14.
(80) 1 Clement 19:2-3; 23:1-5.
(81) Chapter 14:5.
(82) Praef 5.
(83) De Principiis 1:10:2-2.
(84) De Principiis 2:10:2.
(85) De Principiis 4:4:9f.
(86) Prot. 11:117:4.
(87) Comm. on Matt 17:29.
(88) Sermon 214:12.
(89) عظة 4:2.
(90) عظة 1:11.
(91) Paedagogus, 2:1.
(92) Paedagogus, 2:1.
(93) Paedagogus, 2:1.
(94) Justin 3: 2.
(95) Minucius: Octavius, 38: 2.
(96) Paedagogus 2: 8 PG 8: 484.
(97) Demonstrations, 22:6.
(98) Cf St. Ambrose: On Josrph 3: 11.
(99) The Prayer of Job and David, book 2:3:6.
(100) Paschal Epistles 11:5.
(101) St. Cyril of Jerusalem, Lecture 13:12.
(102) Resisting the temptations of the Devil, homily 3:1.
(103) Homilies on 2 Cor. Homily 28:3.
(104) City of God 17:20.
(105) Homilies on Exodus, homily 6: 1.
(106) In Exod. Hom. 2:3.
(107) On Ps. 54 (53).
(108) الفيلوكاليا: 170 نصًا عن حياة القداسة، 13.
(109) De Incarn. 5: 1, 2. ترجمة: دكتور جوزيف موريس فلتس
(110) Homilies on Genesis, homily 46: 15.
(111) Letter 108 to Eustochium, 18.
(112) On the Great Athanasius, 18.
(113) On St. John, tractate 12:10.
(114) On Forgiveness and Baptism, 9.
(115) St. John Cassian: Conferences, 18:16.
← تفاسير أصحاحات حكمة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19
تفسير حكمة سليمان 3 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير حكمة سليمان 1 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7cnac9m