محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
حكمة: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21
في الأصحاح السابق رأينا حكمة الله بكونه القدير، صانع الخيرات، محب البشر، الحال في كل مكان، الدائم الحركة لأجل بنيان الإنسان ومجده. هنا يؤكد الحكيم حب الحكمة الإلهي، إنه لم يقف عند خلقته لنا، لكنه في حبه ورعايته وعنايته الإلهية يدبر كل شيء للفائدة. هو القدير العامل في كل إنسانٍ، يهتم بالبشرية ككل ولكن ليس على حساب إنسانٍ ما، مهما كان عمره أو قدراته أو مواهبه. إنه محب للجميع، ويريد أن يتحد الجميع معه، يتمتعون به، وينعمون بغناه وعمله فيهم، وتدخل بهم إلى الخلود.
1. |
||
2 -3. |
||
4 -5. |
||
6 -8. |
||
9 -16. |
||
17 -21. |
||
من وحي الحكمة 8 |
1 إِنَّهَا تَبْلُغُ مِنْ غَايَةٍ إِلَى غَايَةٍ بِالْقُوَّةِ، وَتُدَبِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِالرِّفْقِ.
إنها تمتد بقوةٍ،
من أقصى العالم إلى أقصاه،
وتدبر كل شيء حسنًا. [1]
الحكمة الإلهي مصدر نظام المسكونة، فهو إله نظام وليس إله تشويش (1 كو 14:)، غير أن هذا النظام يُقدم لحساب بنيان الإنسان. كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد رعاية حكمة الله أينما وُجدنا وتدبيره الدائم لأجلنا.
* كلمة الله الذي هو أيضًا ابن الله، شريك الآب في الأزلية، قوة الله وحكمته (1 كو 24:1). يمتد بقدرته في تناسق ينظم كل الأشياء، من أعظمها تعقلًا إلى أقل الخليقة المادية، الخليقة الظاهرة والخفية، دون أن يُحد أو ينقسم أو يتضخم، إنما هو حاضر بكامله دون وجود أبعاد له(331).
* ماذا إذن أيها الإخوة؟ "كل شيء به كان". لقد أدركنا بهذا أنه بواسطة الابن قد صُنعت كل الخليقة. لقد صنعها الآب بكلمته، صنعها الله بقوته وحكمته. هل يمكن أن نقول إنه عند خلقه الأشياء "كل شيء به كان"، وأما الآن فلا يصنع الآب كل شيء بواسطته؟ حاشا لله! فلتطرد مثل هذه الأفكار بعيدًا عن قلوب المؤمنين. لتطرد بعيدًا عن أفكار الأتقياء وفهم المتدينين! لا يمكن أنه يكون به خلق الآب ولا تدبر الخليقة بواسطته. حاشا لله أن لا يدبر ما قد أوجده، تلك التي بواسطته خُلقت وصار بها وجودها! لترى بواسطة شهادة الكتاب المقدس ذاته أنه ليس فقط كل الأشياء به خُلقت إذا اقتبسنا من الإنجيل "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان"، بل أن كل الأشياء التي صُنعت تًدبر وتًنظم بواسطته أيضًا. إنكم تعرفون أن المسيح قوة الله وحكمته، فلتعلموا أيضًا ما قد قيل عن الحكمة: "وتمتد من أقصى إلى أقصى بقوة وتدبر ( باقتدار) الكل حسنًا" (حك 8: 1) إذن فلا نشك في أن كل الأشياء تُدبر بواسطة ذاك الذي به كل الأشياء صُنعت. هكذا لا يصنع الآب شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب(332).
يتساءل البعض: إن كان الابن قد أُرسل إلى العالم، ألم يكن موجودًا في العالم قبل تحقيق هذه الإرسالية؟ لقد كان في العالم بقوة لاهوته، أما إرساليته فهي تخص تجسده ليحقق الخلاص بالصليب والقيامة؟
* لقد جاء إلى العالم، وكان في العالم. إذن قد أرسل إلى حيث كان هو موجودًا. لاحظوا أيضًا ما قد كًتب بالنبي: "أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 24:23)... ذاك الذي يقول: "أنا املأ السماوات والأرض" كان في كل موضعٍ... إن قيل إن هذا يخص الآب، فكيف يُمكن أن يوجد الآب دون كلمته ودون حكمته التي "تمتد بقدرة من أقصى العالم إلى أقصاه، وتدبر كل شيء بعذوبة" (حك 1:8)؟(333)
إنه واضع النظام والتدبير، خلاله ليس فقط نتلامس مع عظمة قدرته، وإنما أيضًا عذوبة محبته العاملة لحسابنا في هذا التدبير للكون. إنه يود أن يبقي النظام عاملًا لحسابنا، لكنه قد يكسر أحد القوانين الطبيعية إن كان ذلك لبنياننا، ففي محبته يفعل هذا، ليس لاستعراض معجزاته وآياته وغرائبه، وإنما لإعلان حبه وحنوه وعذوبة تدبيره كل شيء لحسابنا.
كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد وجود الله وحضوره في كل مكان، وتدبيره ورعايته المستمرة وفي كل موضع.
فظهور الله لموسى على جبل سيناء حيث النار والدخان (خر 18:19-19)، لا يعني أن الله -سواء الثالوث القدوس أو أحد الأقانيم- كان محدودًا في حضوره بمكانٍ معينٍ دون غيره، فمن أجل إمكانية موسى لرؤية الله ظهر هكذا في موضع معين وبطريقة يمكن بها رؤيته. لكنه هو حاضر في كل العالم(334).
لا نعجب إن قرأنا: "كان جبل سيناء كله يُدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار..." (خر 18:19). وأيضًا "ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعه من العقيق الأزرق الشفاف" (خر 10:24).
أيضًا بقول الله لموسى، "تنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 23:33)، وعندما يقول الرسول بولس إننا نراه وجهًا لوجه (1 كو 12:13)، وقول الرسول يوحنا: "ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). هذه العبارات وأمثالها لا تعني أن الله له أعضاء أو يمكن تجزئته أو يُوجد في مكانٍ ما وليس في مكانٍ آخر، وإنما هو تنازل منه لكي نتمتع به ويمكننا رؤيته والحديث معه(335).
مرة أخرى إذ تحدث القديس أغسطينوس عن الشباك التي ينصبها الشيطان للبشر، فإن حكمة الله تمتد في كل العالم وتدبر كل شيءٍ بعذوبة، فتحول شرور إبليس ومكائده لنفع الإنسان ومجده(336).
2 لَقَدْ أَحْبَبْتُهَا وَالْتَمَسْتُهَا مُنْذُ صِبَائِي، وَابْتَغَيْتُ أَنْ أَتَّخِذَهَا لِي عَرُوسًا، وَصِرْتُ لِجَمَالِهَا عَاشِقًا. 3 فَإِنَّ فِي نَسَبِهَا مَجْدًا، لأَنَّهَا تَحْيَا عِنْدَ اللهِ، وَرَبُّ الْجَمِيعِ قَدْ أَحَبَّهَا،
وهي التي أحببتُها والتمستُها منذ حداثتي،
وسعيت أن أَتخذها لي عروسًا،
وصرت لجمالها عاشقًا. [2]
لا تُقتنى الحكمة بالمجهود البشري ذاته، إنما توهب كعطية الله.
*
من الإرادة تنبع الحكمة، هذه التي يدخل معها الحكيم في زواجٍ، قائلًا: "سعيت أن أتَّخذها لي عروسًا" (حك 8: 2). هذه الإرادة إذن التي كانت قبلًا ضعيفة وفاترة بحمى الشهوات المتنوعة قامت بعد ذلك خلال خدمة الرسل قوية لخدمة المسيح(337).* إنه سليمان الذي يقول إنه يشتاق أن يجعل الحكمة عروسه (حك 8: 2). وفي موضع آخر يقول مرة أخرى عن الحكمة: "حبَّها فتحضنك، احتضنها فتحفظك" (راجع أم 4: 6، 8). ليتنا نحن أيضًا نأخذها لنا زوجة! لنتمسك بها في أذرعنا، ولا نتركها تترك أحضاننا، ولن نجعلها تهرب من أذرعنا. إن كانت هذه العروس دومًا في حضننا فسنلد منها أبناء (أي ثمر الروح لا الجسد)(338).
يرى العلامة أوريجينوس أن سارة تشير إلى الحكمة، لذا فقد التصق بها رجل الله البار إبراهيم، بكونها عروسه الأميرة التي يسمع إليها في كل ما تقوله.
* أعتقد أن "سارة" التي تعني "أميرة حاكمة," تمثل arete التي هي فضيلة النفس. فهذه الفضيلة إذًا تصاحب الإنسان الحكيم والمؤمن وتلتصق به, تمامًا مثل ما قال الرجل الحكيم عن الحكمة: "وددت أن آخذها لي زوجة" (حك 8: 2) لهذا قال الرب لإبراهيم: "في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها" (تك 21: 12). هذا القول، على أي الأحوال لا يناسب الزواج الجسدي، فكما هو معروف أنه قد أعلنت العبارة من السماء التي قيلت للمرأة: "إليه يكون ملجأكِ، وهو يتسلط عليكِ" (راجع تك 3: 16) فإن قيل عن الزوج أنه سيد زوجته, فكيف يُقال لإبراهيم," في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها". أما إذا كان متزوجًا بالفضيلة, ففي كل ما تشير به عليه, فليستمع إليها(339).
* في الواقع, يميز الله تقدم القديسين مشبهًا إياه بالزواج. ففي إمكانك أنت أيضًا, إذا رغبت, أن تصير زوجًا من هذا القبيل. فعلى سبيل المثال, إن كنت تمارس كرم الضيافة, فستبدو وكأنك قد أخذت هذه الفضيلة زوجة. فإن أضفت إلى ذلك التعاطف مع الفقراء, فقد صار لك زوجة ثانية. أما إذا اكتسبت لنفسك أيضًا الصبر والرقة وغيرها من الفضائل, فستبدو وكأن لك زوجات بعدد الفضائل التي اكتسبتها(340).
إنها تُمجد أصلها الكريم باشتراكها في حياة الله،
وقد أحبها سيد الجميع. [3]
ما هو الأصل الكريم الذي للحكمة، سوى أنها الأقنوم الإلهي الثاني، المولود من الآب أزليًا، نور من نورٍ، إله حق من إله حقٍ، واحد معه في ذات الجوهر.
هذا هو حكمة الله الذي تجسد لكي يعكس علينا كرامة وعزة من قبل أصله الكريم، إذ وهو الابن الوحيد الجنس وهبنا البنوة للآب في مياه المعمودية بروحه القدوس، فصرنا نعتز بهذه البنوة.
وأما عن اشتراك الحكمة في حياة الآب، فيقول السيد المسيح نفسه للآب: "كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (يو 17: 9).
بتجسده قدم لنا حياة الشركة مع الله، باتحادنا مع الآب بالروح القدس في استحقاق دم السيد المسيح المبذول. صار لنا حق التمتع بالسماويات والإلهيات كهبات إلهية ننالها خلال مصالحتنا مع الآب بالصليب.
وأما عن حب سيد الجميع للحكمة، فيقول السيد المسيح: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو 17: 24)؛ وقد جاء ليحملنا إلى أبيه فنتمتع بحبه. "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26).
كأن الحكيم يسألنا أن نقتني حكمة الله فنقتني الآتي:
أ. انعكاس أصله الكريم علينا، فيرفعنا من المزبلة لنجلس مع أشراف أشراف شعبه.
ب. التمتع بالشركة مع الله، أو الشركة في الطبيعة الإلهية، فنسلك بالحق كأبناء لله.
ج. نحمل الحكمة فنصير بالحق موضع حب الله الفائق، كما تصير لنا إمكانية الحب لله سيد الجميع.
4 فَهِيَ صَاحِبَةُ أَسْرَارِ عِلْمِ اللهِ، وَالْمُتَخَيِّرَةُ لأَعْمَالِهِ. 5 إِذَا كَانَ الْغِنَى مِلْكًا نَفِيسًا فِي الْحَيَاةِ؛ فَأَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى مِنَ الْحِكْمَةِ صَانِعَةِ الْجَمِيعِ؟
فهي مطَّلعةٌ على معرفة الله،
والمُحبَّة لأعماله. [4]
د. التمتع بعلم الله الذي يفوق العقل البشري. إذ يعلن لنا عن الأسرار الإلهية.
إذ الحكمة هي أقنوم إلهي "حكمة الله"، لا يمكن فصلها عن الآب، لأنه لم يكن قط بلا حكمة، هذه الحكمة التي - أن صح التعبير- هي مخازن المعرفة الإلهية وعمله وخطته الفائقة، تكشف عن أعمال الله وما ورائها من أسرار فائقة.
إذا كان الغِنى مِلْكًا مرغوبًا فيه،
فأي شيء أغنى من الحكمة،
التي تعمل كل شيءِ؟ [5]
ه. التمتع بالغنى الحقيقي، ليس الممتلكات الزمنية الزائلة، بل حب الله ورعايته وعنايته التي لا تتوقف.
حكمة الله ليست إدراكًا جامدًا أو معرفة نظرية، لكنها دائمة الحركة، حركة الحب الداخلية، والتي تعمل كل شيء أيضًا، لأنها خالقة وقديرة وضابطة الكل. إنها لا تنفصل عن العناية الإلهية بكل الخليقة السماوية والأرضية.
6 وَإِنْ كَانَتِ الْفِطْنَةُ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ؛ فَمَنْ أَحْكَمُ مِنْهَا فِي هَنْدَسَةِ الأَكْوَانِ؟ 7 وَإِذَا كَانَ أَحَدٌ يُحِبُّ الْبِرَّ؛ فَالْفَضَائِلُ هِيَ أَتْعَابُهَا، لأَنَّهَا تُعَلِّمُ الْعِفَّةَ وَالْفِطْنَةَ وَالْعَدْلَ وَالْقُوَّةَ الَّتِي لاَ شَيْءَ لِلنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ أَنْفَعُ مِنْهَا. 8 وَإِذَا كَانَ أَحَدٌ يُؤَثِرُ أَنْواعَ الْعِلْمِ؛ فَهِيَ تَعْرِفُ الْقَدِيمَ وَتَتَمَثَّلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَتَفْقَهُ فُنُونَ الْكَلاَمِ وَحَلَّ الأَحَاجِيِّ وَتَعْلَمُ الآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ، وَحَوَادِثَ الأَوْقَاتِ وَالأَزْمِنَةِ.
وإن كانت الفطنة هي التي تعمل،
فمن أمهرُ منها في هندسة الكائنات؟ [6]
و. التمتع بالتعقل والمهارة. لقد خلق الله الإنسان، ووهبه عقلًا قادرًا على الابتكار والاكتشاف والتقدم المستمر. إنه فريد بين كل المخلوقات الأرضية، يتقدم على الدوام.
تمتعنا بالحكمة الإلهي يقدس العقل، ويهب قوة وقدرة للعمل في جدية، فيصير الإنسان بالحق ماهرًا في الوزنات التي وهبه الله إياها.
الحكمة هو الخالق، الفنان، مهندس الكون. فإذ نتحد بالحكمة نحمل روح الابتكار في تواضعٍ.
"الرب بالحكمة أسس الأرض، اثبت السماوات بالفهم، بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى" (أم 3: 19-20).
وإذا كان إنسان يحب البرّ
فأتعابُها هي الفضائل،
لأنها تعلِّم ضبط النفس والفطنة والبرّ،
والشجاعة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها. [7]
ز. التمتع بالفضائل في بداية السفر ربط الحكيم بين الحكمة والبرّ العملي. الآن إذ يعلن الحكيم عن رغبة الكثيرين في أن يكونوا أبرارًا، فإنه ليس من طريق للتمتع بالحياة البارة الفاضلة، سوى باقتناء الحكمة الإلهية.
تنتج الحكمة الإلهية في أولاد الله أربع فضائل عملية هامة ورئيسية:
1. القناعة.
2. الفطنة، أو التعقل العملي.
3. البرّ.
دُعي السيد المسيح، حكمة المتجسد، "شمس البرٌ" (مل 2:4). من يشرق عليه ينيره ويهبه البرٌ الفائق، أما الذين لا يتمتعون بنوره فيُحرمون من البرٌ، ويعيشون في ظلمة الخطية.
* أولئك الذين لم تُشرق عليهم "شمس البرٌ" (مل 2:4)، أي المسيح، والذين لم تنفتح أعين نفوسهم، وتستنير بالنور الحقيقي، لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية وتحت نفس تأثير الشهوات، وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب(341).
4. الشجاعة أو الصبر:
لم يعد الله مؤمنيه الذين ينالون الحكمة السماوية بالطريق الواسع السهل، والحياة المدللة، بل وعدهم بالطريق الضيق لكي يشاركوه صليبه وآلامه، بل وموته. فالإنسان الحكيم روحيًا يواجه حروبًا كثيرة من الخارج كما من الداخل، ولكن مع كثرة المعارك يتمتع بإمكانيات إلهية جبارة، بها يغلب ويكلل.
* الإنسان الذي رفض العالم حقًا، وطرح عنه ثُقل هذه الأرض، وألقى عنه الشهوات الباطلة الجسدية، وشهوات المجد والكرامات البشرية، وابتعد عنها جميعًا بكل قلبه... ووضع في قلبه بثباتٍ أن يخدم الرب ويعبده ويلتصق به بكل كيانه، جسدًا ونفسًا، مثل هذا الإنسان، أقول إنه يكتشف وجود المقاومة، أي الأهواء الخفية - والقيود غير المنظورة والحرب الخفية - أي المعركة والصراع الداخلي، وهكذا إذ يتوسل إلى الرب، ينال السلاح السماوي، سلاح الروح القدس، الذي وضعه الرسول المبارك بقوله: "درع البٌر وخوذة الخلاص وترس الإيمان وسيف الروح" (أف 6: 14). وإذ يتسلح بهذه الأسلحة يستطيع أن يقف ضد خداعات إبليس بالرغم من كونه محاطًا بالشرور... يصير قادرًا أن يحارب ضد رئاسات هذا العالم. وبانتصاره على القوات المعادية بمساعدة الروح القدس مع سعيه وغيرته في كل فضيلة يصير مُعدًا للحياة الأبدية(342).
يرى القديس مقاريوس الكبير أن الله قد يؤجل استجابة الصلاة ومساندة الإنسان بسرعة في حربه، حتى يزداد شوقًا نحو الخيرات الأبدية، ولكي يتدرب على الصبر والجهاد بشجاعة.
* الذي لا ينال النعمة سريعًا بسبب تأني الله، يشتعل شوقًا بالأكثر، ويزداد كل يومٍ اشتياقًا واجتهادًا، ويزداد ركوضًا وسعيًا، ويزداد في كل فضيلة، ويظهر جوعًا وعطشًا إلى ما هو صالح... ولا يتحول إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر. من الجهة الأخرى لا يسلم نفسه إلى الكسل تحت ستار التظاهر بالصبر قائلًا: "في يوم أو آخر سأحصل على نعمة الله"... إنما ينبغي عليه أن يكون أكثر حرصًا واجتهادًا، ولا يكلّ أو يفشل، بل يطلب عطية الله، إذ يثق بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطي نعمته لأولئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبرٍ إلى النهاية(343).
ولعل من أروع قصص الشجاعة الملتحمة بالحكمة، موقف القديس يوحنا الذهبي الفم(344) عام 387 م. حين فرض الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير ضريبة جديدة إضافية، لمواجهة الإنفاق على الاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور ثيؤدوسيوس وخمس سنوات على اشتراك ابنه الشاب أركاديوس معه في السلطة.
ثار أهل أنطاكية، لأنهم يعلمون جشع جباة الضريبة وإساءة استخدام مثل هذا القرار، فقد هرب كثيرون إلى البراري من وجه جباة الضرائب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). والتجأ الشعب إلى الحاكم الذي لم يكن ممكنًا أن يشفع عنهم لدى الإمبراطور خوفًا على مركزه. التجأوا إلى رئيس الأساقفة فلابيانوس (فلافيان)، لكن بسبب شيخوخته تهٌرب من الموقف.
وسط جموع شعبية تضم من كل صنفٍ سرعان ما سرت صرخات لتثمر بينهم هياجًا فثورة. وفي لمح البصر, دون أي تفكير وبغير أي ضابطٍ، انطلق البعض يحطم تماثيل الإمبراطور والإمبراطورة وابنهما. ورموها في الأوحال والقاذورات.
كل هذا تم في لحظات مملوءة ثورة حماسية تبعها هدوء حيث أفاقوا من سكرتهم وأحسوا ببشاعة جريمتهم, وباتوا خائفين يتوقعون مصيرهم ومصير مدينتهم من عقابٍ شديدٍ. فقد ارتبكت المدينة بأسرها, كبيرها مع صغيرها, ولم يعرف أحد ماذا يكون العمل.
صدر الأمر بحرق المدينة بأسرها، لكن القديس يوحنا الكاهن حث رئيس الكهنة أن يقطع مسافة أكثر من ألف كيلومتر ليلتقي بالإمبراطور، ليحصل منه على العفو، كما فعل موسى النبي عندما شفع لدى الله (خر 32:32). سأله ألا يرجع بدون هذا العفو. غالبًا ما أعد له ما يتكلم به لدى الإمبراطور بروح التواضع، لكن بقوة وشجاعة. وقف الكاهن القديس يقول للشعب: "إن أسقفكم انطلق مثل شابٍ شجاعٍ كأن له جناحين... أنا متأكد من أن مجرد ظهور الأسقف أمام الإمبراطور التقي، سيهدئ ثورة غضبه علينا، لأن النعمة الإلهية تشع ليس فقط من كلام القديس، بل في وجهه أيضًا".
بروح الشجاعة قال الأسقف للإمبراطور: "إن تاجك يا سيد روما والعالم هو رائع. وهو دليل استحقاقك، ولكنه يرمز إلى جود الذي نقله إليك. أما تاج إنسانيتك فيرجع الفضل فيه إلى حكمتك فقط. يُعجب الناس بالحجارة الكريمة اللامعة التي على جبينك، فكم يكون بالأكثر إعجابهم بالنصرة التي تحرزها على قلبك!" لقد أكّد له أنه إن عفا عن الأنطاكيين سينال مجدًا عظيمًا لا يمحوه مرور الأجيال، كما قال له: "ستنضم جماهير غفيرة إلى الدين المسيحي، إذ يقولون: انظروا إلى الديانة المسيحية، لقد أطفأت غضب إنسانٍ ليس له في العالم معادل".
بلغ البطريرك أو أسقف إنطاكية القسطنطينية، فأسرع إلى البلاط الملكي بالرغم من شدة تعبه , والتقى الإمبراطور ليقول له: "إني لست رسولًا لشعب إنطاكية بل أيضًا سفير الله. جئت إليك باسمه أنبئك: إن غفرت للناس سيئاتهم وهفواتهم، يغفر لك أبوك السماوي سيئاتك وزلاتك... أذكر ذلك اليوم الرهيب حين نلتزم جميعًا بتقديم حساب عن أعمالنا... يمثل كل السفراء بين يديك ببهاء الذهب وكثرة الهدايا ووفرة المال, أما أنا فلا أقدم لك غير شريعة يسوع المسيح المقدسة, والمثال الذي أعطانا إياه على الصليب لكي نستحق غفران خطايانا..."
امتلأ قلب الإمبراطور من مخافة الرب عند سماعه هذا الخطاب، فقال: "إن كان ربنا وسيدنا يسوع المسيح قد صار لأجلنا عبدًا، وأسلم ذاته للصليب، وإن كان قد سأل أباه المغفرة لصالبيه, فكيف أتجاسر مترددًا في المغفرة لأعدائي؟"
يرى القديس جيروم أن هذه الفضائل الأربع التي يقدمها لنا الله هي الخيول التي تقود المركبة التي ترتفع بنا إلى السماء.
* لتكن هذه الأربعة هي أركان أفقك، ولتكن الأربعة خيول التي تعمل معًا لكي تحملك، مركبة المسيح الذي تجري بأقصى سرعتها لتبلغ بك إلى الهدف. ليس من قلادة يمكن أن تكون أثمن من هذه، ولا جوهرة أكثر بهاء من هذه المجرة من الكواكب. إنها هي زينتك، تطوِّقك فتحميك من كل جانبٍ. إنها خط الدفاع لك ومجدك، فإن كل جوهرة منها تتحول إلى ترس!(345)
في رسالة بعث بها القديس جيروم إلى السناتور باماخيوس ذكر أن أسرة المرسل إليه يتمتعون بهذه السمات الأربع، لكن مع تمتع كل عضو بالسمات كلها، إلا أن لكل واحد سمه خاصة متفوق فيها، إذ كتب له: [كل منكم يقتني الأربع (فضائل)، لكن لكل واحد (فضيلة) مميزة. أنت تتميز بالتعقل، ووالدتك بالبرّ، وأختك البتول بالجلد (الصبر)، وزوجتك بالقناعة. أتحدث عنك كحكيم، لأنه من يمكنه أن يكون أحكم من ذاك الذي يحتقر غباوة العالم ويتبع المسيح قوة الله وحكمة الله (1 كو 1: 24)؟](346)
وإذا كان أحد يرغب في خبرة واسعة،
فهي تعرف الماضي وتتكهن بالمستقبل،
وتحسن صَوغَ الحِكمِ وحل الألغاز،
وتَعلَمُ بالآيات والخوارق قبل حدوثها،
وبتعاقبِ الأوقات والأزمنة. [8]
التمتع بالسيد المسيح يرفع الإنسان إلى ما فوق الطبيعة، فيحمله إلى الماضي لا كزمن قد عبر وانتهت وإنما إلى حياة وخبرة حيث يلتمس في ماضيه نعم الله الفائقة له، فتتهلل نفسه. وينعم بالحاضر كمن في عرسٍ، في اتحاد مع العريس السماوي، أما عن المستقبل فليس بمجهولٍ بالنسبة له، لأنه يرى مسيحه يُعد له أمجادًا أبدية فائقة. بمعنى آخر، يرى في الماضي حياة متهللة بالرب وفي المستقبل سماوات مفتوحة.
بمعنى آخر يضيف السيد المسيح إلى عمر الإنسان حياة فائقة، فيصير اليوم بالنسبة له كألف سنة، ويحسب كل لحظة من لحظات عمره لها تقريرها الخاص، إذ يضيف إلى حياته الزمنية الفانية حياة السيد المسيح الأبدي.
بجوار هذه العطايا الفائقة يهبه حكمة الله عقلًا مقدسًا، فلا تكون في حياته الغاز غامضة، إنما تصير حياته طريقًا مستقيمًا واضحًا يعبر به إلى أحضان الآب.
في محبة الحكمة الإلهي لنا لا يخفي عنا شيئًا ما دام لنفعنا وبنياننا، فندرك أسرارًا فائقة، تنبع عن سرّ حب الله لنا.
في اختصار يقدم لنا حكمة الله إمكانيات جبارة لنعبر وادي الدموع ونحن في أحضانه نستعذب صليبه ونختبر قوة قيامته، وننعم بالسماويات، كأن قلبنا قد صعد معه وأبَى أن يفارقه.
9 لِذلِكَ عَزَمْتُ أَنْ أَتَّخِذَهَا قَرِينَةً لِحَيَاتِي، عِلْمًا بِأَنَّهَا تَكُونُ لِي مُشِيرَةً بِالصَّالِحَاتِ، وَمُفَرِّجَةً لِهُمُومِي وَكَرْبِي. 10 فَيَكُونُ لِي بِهَا مَجْدٌ عِنْدَ الْجُمُوعِ، وَكَرَامَةٌ لَدَى الشُّيُوخِ عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْفَتَاءِ، 11 وَأُعَدُّ حَاذِقًا فِي الْقَضَاءِ، وَعَجِيبًا أَمَامَ الْمُقْتَدِرِينَ. 12 إِذَا صَمَتُّ يَنْتَظِرُونَ، وَإِذَا نَطَقْتُ يُصْغُونَ، وَإِذَا أَفَضْتُ فِي الْكَلاَمِ يَضَعُونَ أيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. 13 وَأَنَالُ بِهَا الْخُلُودَ، وَأُخَلِّفُ عِنْدَ الَّذِينَ بَعْدِي ذِكْرًا مُؤَبَّدًا. 14 أُدَبِّرُ الشُّعُوبَ، وَتَخْضَعُ لِي الأُمَمُ. 15 يَسْمَعُ الْمُلُوكُ الْمَرْهُوبُونَ فَيَخَافُونَنِي، وَيظْهَرُ فِي الْجَمْعِ صَلاَحِي، وَفِي الْحَرْبِ بَأْسِي. 16 وَإِذَا دَخَلْتُ بَيْتِي سَكَنْتُ إِلَيْهَا، لأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُعَاشَرَتِهَا مَرَارَةٌ، وَلاَ فِي الْحَيَاةِ مَعَهَا غُمَّةٌ، بَلْ سَرُورٌ وَفَرَحٌ.
لذلك عزمتُ أن اَتخذَها قرينة لحياتي،
عالمًا بأنها تكون لي مشيرةً للخير،
ومشددة في الهموم والحزن. [9]
يقول سليمان الحكيم: "الحكمة صالحة مثل الميراث، بل أفضل لناظري الشمس" (جا 7: 11). وأيضًا: "إذا دخلت الحكمة قلبك ولذت المعرفة لنفسك، فالعقل يحفظك والفهم ينصرك" (أم 2: 10-11).
سبق أن تحدث عن سعيه ليتخذ الحكمة عروسًا له، يعشق جمالها الروحي، ويتهلل باتحاده معها (حك 8: 2)، الآن يتحدث عنها بكونها قرينة لحياته، تحتل مركز القيادة في داخله، فتشير عليه بالخير، وتسنده وتشدده وسط الضيقات والأحزان.
يقول الحكيم: "ويل لمن هو وحده، إن وقع ليس ثانٍ ليقيمه" (جا 4: 10)، فماذا إن كان هذا الثاني هو السيد المسيح، حكمة الله، الساكن في داخله، قادر على الإقامة حتى من الموت، وأن يهب الخلود حتى إن فسد الجسد!
فيكون لي بها مجدٌ عند الجموع،
وكرامة لدى الشيوخ مع صغرِ سني. [10]
طلب أحشويرش من وشتيَ الملكة الجميلة لتحضر في حفل ماجن، ليفتخر بجمالها. أما المؤمن فيفتخر بالجمال الحقيقي، حكمة الله، الأبرع جمالًا من بني البشر. سرّ مجد المؤمن وكرامته وقدرته هو حكمة الله التي تدير كل حياته الداخلية.
قيل عن ملك يوناني إنه قال ذات يوم: هذا الطفل يحكم العالم. وإذ دُهش الحاضرون، سألوه: كيف هذا؟ أجاب الملك: "اليونان تحكم العالم، وأثينا تحكم اليونان، وأنا أحكم أثينا، وزوجتي تحكمني، وهذا الطفل يحكم زوجتي!" هكذا يشير الملك إلى القوة الخفية للأسرة كيف يكون لطفل كهذا أثرةً على العالم(347).
إن كان طفل كهذا يحكم العالم، كم يكون عمل السيد المسيح الذي نتحدث به، وقادر أن يوجه كل حياتنا!
بتسليم عجلة القيادة للحكمة يدخل إلى حياة مجيدة وسط الجموع، فلا تقدر الظروف أيا كانت أن تفسد مجده الداخلي أو تنزع عنه كرامته. يحمل سمات الشيوخ الحكماء بالرغم من صغر سنه.
ويجدونني ثاقب الفكر في إجراء الحكم،
ويعجبون بي أمام العظماء. [11]
عرف سليمان الحكيم بقدرته على الفصل في القضايا بحكمة نادرة.
قيل عن المرأة الفاضلة إن زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض (أم 31: 23) يحكم في القضايا.
هكذا من يتحد بالسيد المسيح واهب الفضيلة يتمتع بالقدرة على الجلوس بين الشيوخ ليصدر الأحكام خلال نعمة عريسه السماوي. ويقول ابن سيراخ: "كثيرون يثنون على فهمه، فهو لا يُمحى للأبد. ذكره لا يزول، واسمه يحيا من جيلٍ إلى جيلٍ. أمم تتحدث بحكمته، والجماعة تشيد بمجده. إن طال عمره خلَّف اسمًا أكثر من ألف، وإن دخل إلى الراحة اكتفى بذلك" (سي 39: 9- 11).
وإذا صمتُّ ينتظرونني،
وإذ تكلمت يُصغون،
وإذا أفضت في الكلام،
يضعون أياديهم على أفواههم. [12]
متى تمتع المؤمن بالاتحاد مع حكمة الله، يتحول صمته كما كلماته للبنيان. إن صمت الحكيم، ففي صمته حديث بليغ تفهمه قلوب الحاضرين وعقولهم. لا يملون من صمته، بل يجدون في صمته بركات تحل عليهم، وفي نفس الوقت يترقبون كلماته كأنها جواهر ثمينة تستحق كل اعتزازٍ وتقديرٍ.
يقول الحكيم: "كلمات فم الإنسان مياه عميقة، نبع الحكمة نهر مندفق" (أم 18: 4). إن تكلم الحكيم يصغون إليه، لأن المتكلم هو الرب العامل فيه، ومهما أفاض في الكلام يطلبون المزيد. يضعون أياديهم على أفواههم إشارة إلى صمتهم في وقارٍ وتقديرٍ للمتكلم (أي 29: 9). إنهم لا ينطقون ليس خوفًا منه، ولا لأنه يرفض الحوار، وإنما لكي يستغلوا كل لحظة من اللحظات كي يتكلم هو.
وأنال بها الخلود،
وأُخلِّف عند الذين بعدي ذِكْرًا مُؤبَّدًا. [13]
سبق أن أعلن الحكيم أن البرّ خالد، فمن يقتني الحكمة يقتني البرّ، ومن يقتني البرّ يعيش مع القدوس إلى الأبد. حتى قبل حلول يوم الدينونة تبقى سيرة الحكماء ذكرًا عبر الأجيال ينتفع الكثيرون منها.
* من يجسر ويرفض أن يعرف (السيد المسيح) أنه خالد، إن كان هو نفسه يجعل الآخرين خالدين. فقد كُتب عن حكمة الله "بها أنال بعدم الموت" (راجع حك 8: 13). لكن خلوده حسب طبيعته شيء، وخلودنا نحن شيء آخر. ليس من مقارنة بين ما قابل للهلاك والإلهيات.
اللاهوت وحده الجوهر الذي لا يقدر الموت أن يمسه. ولهذا فإن الرسول مع معرفته بأن النفس البشرية والملائكة خالدين يعلن أن الله وحده له الخلود (1 تي 6: 17)(348).
أحكم الشعوب، وتخضع لي الأمم. [14]
سبق أن أعلن الحكيم أن الله خلق الإنسان ليسوس العالم بالقداسة والبرّ. بالحكمة يحكم المؤمن الشعوب وتخضع له الأمم، ليس خلال سلطان مدني أو عسكري، وإنما خلال سلطان الروح، إذ يشتهي الكثيرون الاقتداء به، فتصير سيرته وحياته دستورًا لهم.
بالحكمة تخضع كل طاقات الإنسان وقدراته وتعمل معًا بتناغم عجيب، فيعيش المؤمن كملكِ صاحب سلطان على أعماقه من عواطفٍ وأفكارٍ وأحاسيسٍ.
يسمع بي ملوك مرهوبون فيخافون،
وأظهر في الجمع صالحًا،
وفي الحرب شُجاعًا. [15]
تسكب علينا الحكمة نوعًا من المهابة، فيخشى الملوك والعظماء الإنسان البار الحكيم، لأنه رجل الله.
يتسم الحكيم بالوداعة فتحبه الجموع، ومع الوداعة أيضًا يتسم بالشجاعة والصبر فلا يخشى مقاومة الآخرين له، بل يقول "إن قام عليّ جيش فلا أخاف شرًا".
وإذا دخلت بيتي استرحت إلى جانبها،
لأن ليس في معاشرتها مرارة،
ولا في الحياة معها أي ألم،
بل سرور وفرح. [16]
حلول السيد المسيح في الأسرة يكسب عليها بهجة وسرور. كل عضو يتعامل مع بقيه الأعضاء في المسيح يسوع، ويتنافس الكل في البذل والعطاء، لا في الأخذ والسيطرة. تتحول الأسرة إلى كنيسة مقدسة مملوءة سلامًا وتهليلًا.
17 فَلَمَّا تَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي بِهذِهْ، وَتَأَمَّلْتُ فِي قَلْبِي، أَنَّ فِي قُرْبَى الْحِكْمَةِ خُلُودًا، 18 وَفِي مُصَافَاتِهَا لَذَّةً صَالِحَةً، وَفِي أَتْعَابِ يَدَيْهَا غِنًى لاَ يَنْقُصُ، وَفِي التَّرَشُّحِ لِمُؤَانَسَتِهَا فِطْنَةً، وَفِي الاِشْتِرَاكِ فِي حَدِيثِهَا فَخْرًا، طَفِقْتُ أَطُوفُ طَالِبًا أَنْ أَتَّخِذَهَا لِنَفْسِي. 19 وَقَدْ كُنْتُ صَبِيًّا حَسَنَ الطِّبَاعِ، وَرُزِقْتُ نَفْسًا صَالِحَةً، 20 ثُمَّ بِازْدِيَادِي صَلاَحًا حَصَلْتُ عَلَى جَسَدٍ غَيْرِ مُدَنَّسٍ. 21 وَلَمَّا عَلِمْتُ بَأَنِيَّ لاَ أَكُونُ عَفِيفًا مَا لَمْ يَهَبْنِيَ اللهُ الْعِفَّةَ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْفِطْنَةِ أَنْ أَعْلَمَ مِمَّنْ هذِهِ الْمَوْهِبَةُ، تَوَجَّهْتُ إِلَى الرَّبِّ وَسَأَلْتُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي قَائِلًا:
وبعد أن فكرت في نفسي بهذه الأمور،
واعتبرتُ في قلبي أن في قربي الحكمة خُلودًا. [17]
فكر سليمان في نفسه أن نُبل مولده كابن لداود الملك ليس ما يهيئه لنوال الحكمة، إنما هي عطية إلهية، تحتاج إلى الاقتراب من الله بالصلاة وسؤاله لنوالها. وبنواله للحكمة لا يعود يشغله شيء إلا من خلال تمتعه بالأبدية (الخلود).
باقترابنا إلى السيد المسيح، ودخولنا في شركة معه يرتفع قلبنا إلى السماء، ونختبر عربونها. نقول مع الرسول بولس: "أجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).
"القلب" عند اليهود يشير إلى عرش الفكر والتعقل كما سبق فأشرنا، بينما اليونانيين يستخدمون تعبير "العقل Nous" للتعبير عن الفكر والتعقل.
وفي صداقتها لذة طاهرة،
وفي أتعاب يديها غنى لا يفنى،
وفي خبرة مُعاشرتها فطنة،
وفي التحدث إليها سُمعةً طيبة،
أخذت أطوف طالبًا كيف اَتخذها لنفسي. [18]
إذ تلتصق النفس بالسيد المسيح، يدخل الإنسان معه في صداقة لذيذة سامية. لن يعاني من الشعور بالعزلة، حتى إن تركه الجميع. وكأنه يقول مع مخلصه: "تتركوني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي".
التصاقنا به يحثنا على العمل والجهاد، ونحسب كل تعب هو غنى ومجد، لأننا نعمل معه وبه ولأجله. فتحمل آلامنا مسحة عذوبة داخلية.
التصاقنا به يسكب علينا فطنة، فمع السلوك ببساطة القلب كالأطفال الصغار نحمل حكمة الشيوخ، أو كما يقول السيد المسيح: "كونوا بسطاء كالحمام وحكماء كالحيات" فترتبط البساطة بالحكمة والتعقل.
التصاقنا به يدفعنا إلى التواضع، لأنه تواضع من أجلنا، وفي تواضعه رفعنا وسكب علينا كرامة فائقة.
أمام كل هذه العطايا من تمتع بالسماويات والصداقة اللذيذة والعذوبة وسط الجهاد، والحكمة والتعقل مع البساطة، وسكب مجد داخلي وكرامة وسُمعة طيبة حتى بين السمائيين، من لا يطوف يطلب الالتصاق به؟ لهذا تقول النفس البشرية عن عريسها السماوي، حكمة الله: "وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي، وحجرة من حبلت بي" (نش 3: 4).
كنت كطفلٍ حسَنَ الطباع،
ورُزقت نفسًا صالحة، [19]
يعود الكاتب إلى حالة الإنسان الأولى عند خلقته، فقد خلق الله الإنسان كائنًا صالحًا، "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27).
هنا أيضًا يود الكاتب أن يؤكد أن الجسد في ذاته صالح وغير دنس، إذ ظهرت عبر القرن فلسفات كثيرة تنسب للجسم الفساد بطبعه. لذلك كثيرًا ما يؤكد آباء الكنيسة أن فساد الإنسان نابع عن فساد إرادته وليس عن طبيعة الجسم.
بل كنت بالأحرى صالحًا،
فأتيت في جسدٍ غير مُدنس. [20]
لا يعني الكاتب هنا أن للنفس البشرية وجودًا مسبقًا، ولأنها صالحة نالت جسدًا غير دنسٍ، وإنما تفهمها من خلال السفر ككل إنه يود تأكيد دور النفس القيادي حتى على الجسد. لم يكن موضوع الخطية الأصلية في ذهن الكاتب نهائيًا(349).
يرى العلامة أوريجينوس أن المتحدث هنا يسوع المسيح الذي وحده كان في أحشاء أمه بجسد ليس من زرع بشر، ولم يحمل فساد آدم فيه(350).
ولما علمت بأني لا أكون صاحب حكمة،
ما لم يهبها لي الله - وقد كان من الحكمة أن أَعلم ممن هذه النعمة -
صلَّيت إلى الرب وسألته،
وقلت من كل قلبي: [21]
تحدث الحكيم عن اشتياقه للحكمة فطلبها من الله، مدركًا أنه لن يستطيع التمتع بها ما لم تُوهب له من الله. ما تحدث به هنا ينطبق على كل فضيلة صادقة وحقيقية، لأن الفضيلة ليست إلا تمتعًا بالشركة مع البار القدوس.
هذا ما عبَّر عنه القديس أغسطينوس في اعترافاته حين تحدث عن العفة بذات الروح.
في مناجاة رائعة يتحدث القديس أغسطينوس إلى الله بيقين أنه مهما بدت وصاياه صعبة فهي في متناول يدنا، ما دام الله يهبنا تنفيذها.
* كل رجائي هو في مراحمك العظيمة الفائقة. لتعطني ما توصيني به، ولتوصِ كما تشاء. أنت تفرض علينا العفة. يقول أحدهم: "ولما علمت بأني لا أقدر أن أحصل عليها ما لم يهبها لي الله... فهذه هي الحكمة أن أعلم ممن هذه النعمة(351).
* أنت تطلب الحكمة يا ابني، لكي تكون ثابتًا في هذا السباق، فقد دخلت فيه منذ البداية بتأثير الحكمة. ليكن نصيب من حكمتك هو أن تعرف ممن هذه النعمة (العطية). "سلّم للرب طريقك وأتكل عليه وهو يُجري، ويُخرج مثل النور برّك، وحقك مثل الظهيرة" (مز 37: 5- 6)(352).
* أما عن العفة، فقد ظننت أنها في قدرتي (مع أنني لم أجد فيَّ هذه القدرة). لقد كنت غبيًا، إذ لم أكن أعرف المكتوب: "لا يقدر أحد أن يكون عفيفًا ما لم تعطه إياها"، وأنك أنت تريد أن تعطيها لي إن كنت أقرع بتنهداتي الداخلية على باب آذانك، وبالإيمان المستقيم أركز اهتمامي عليك(353).
* بلا شك قيمة عطية العفة كانت معروفه لدى القائل: "علمت أنه لا يكون أحد عفيفًا ما لم يهبه الله (هذه) العطية". إذن ليس فقط عرف عظمة نفع العفة، وكيف يلزم التوق إليها وأن تكون موضع اشتياق، وإنما ما لم يهبها الله لا يمكن أن يكون لها وجود. فقد علمته الحكمة هذا(354).
* يقول: "ولما علمت بأنه لا يكون أحد عفيفًا ما لم يهبه الله (العفة)، وهذه هي من الحكمة، ليعلم ممن هذه العطية (النعمة) (حك 8: 21). هاتان العطيتان - الحكمة والعفة - عظيمتان. حقًا بالحكمة تتشكل حسب معرفة الله، وبالعفة لا نتشكل حسب هذا العالم(355).
* عندما يأمرنا، قائلًا: "لا تسيروا وراء شهواتكم" (سي 18: 30)، فقول له: "نحن نعلم أنه لا يقدر أن يكون إنسان عفيفًا ما لم يهبها له الله" (راجع حك 8: 21)؛ ماذا نقول سوى: اَعطنا ما أمرت به"(356).
* لا يستطيع أحد أن يكون عفيفًا ما لم يمنحه الله هذه العطية، ولا تنسكب محبة الله في قلوبنا من ذواتنا، بل بالروح القدس المُعطى لنا (رو 5:5)(357).
* الحكمة والعفة هما عطيتا الله، أي ليست من آخرين(358).
* بالتأكيد ما كان يمكن أن تُعطى مثل هذه الوصايا لو لم يكن للإنسان حرية الإرادة، بها يُطيع الوصايا الإلهية، فهي لازمة لحفظ وصايا العفة. لهذا قيل في سفر الحكمة: "علمت بأنه لا يمكن لأحدٍ أن يكون عفيفًا ما لم يهبها له الله - وقد كان من الحكمة أن يعلم ممن هذه النعمة" (راجع حك 8: 21)(359).
* إن كان حتى في الجسد، أقل عنصر في طبيعتها، كل الأمور السامية، مثل الجمال والحيوية والصحة وهكذا، هي من عمل الله، كم بالأكثر تكون الأمور السامية الخاصة بالنفس(360).
* أنه لأمر عظيم جدًا أن نهدف إلى الحديث عن ما يهبه (الله)، ففي المركز الأول نقول ونؤكد أن العفة هي عطية من الله (حك 8: 21). مكتوب في سفر الحكمة أنه لا يستطيع أحد أن يكون عفيفًا ما لم يمنحه الله هذا(361).
* أنت خالق الكل، وبدونك لم يكن شيء مما كان.
أنت مالئ الكل، وبكليتك تُوجد في كل مكان.
عيناك ترعيان كل البشرية يا محب الجميع.
من يدبر شئون الكون غيرك يا ضابط الكل القدير!
* وأنت مالئ المسكونة بلاهوتك،
طأطأت السماوات ونزلت إلينا.
تجسدت وصرت في عالمنا، يا من لم تفارق العالم قط!
حبك أنزلك إلينا كإنسان لتجتذبنا.
* لأقترن بك يا أيها الحكمة الإلهي!
من يشبع قلبي غيرك، يا أيها الجمال الفائق!
من يروي نفسي سواك يا أيها المحب!
* أتحد بك، فأنت ابن الآب الوحيد.
وهبتني روح البنوة، فاعتز بالحياة معك.
سكبت بهاءك على أعماقي،
لكن في غباوتي أعود إلى الوحل والتراب!
ردني إليك، فانعم بالشركة معك!
* بماذا أدعوك يا شهوة قلبي!
أنت كنزي الأبدي، أية كنوز في العالم تُقارن بك؟
أنت غناي الحقيقي، افتقرت فأغنيتني!
أنت قوتي، تعمل فيَّ وبي بغنى نعمتك!
أنت هو الفنان الأعظم، أقتنيك، فأدرك أمورًا تفوق عقلي!
أنت البرّ ذاته، لأتحد بك، فأستتر أمام الآب، وبك أتبرر.
أية فضيلة تشتهيها نفسي، سوى أن تنعم بك.
بك أتمتع بالعفة، لأنك تشبعني، فلا اشتهي شيئًا سواك!
بك أتمتع بالفطنة، فتقود بنفسك حياتي وتديرها.
بك أنعم بالبرّ الذي لا وجود له بدونك.
بك اقتني الصبر والشجاعة وطول الأناة!
أنت الكل لي!
* بك أتطلع إلى الماضي، فالمس عملك لخلاصي!
بك أعيش في الحاضر، كما في عربون السماء!
بك أتطلع إلى المستقبل، فأراك تنتظرني،
لتدخل بي إلى حضن أبيك.
حولت كل حياتي إلى عرسٍ لا ينقطع!
الماضي مفرح، والحاضر ثمين، والمستقبل مملوء تهليلًا!
* أتطلع حولي، فالمس عمل يديك من أجلي.
من أجلي خلقت المسكونة.
من أجلي وضعت قوانين الطبيعة،
ولأجلي لا تمتنع عن كسر ناموسها ما دام لبنيان نفسي.
أنت بالحق إله العجائب والمعجزات!
أنت إله المستحيلات،
إني اعتز بالتصاقي بك واتحادي معك!
* لي شكوى لا أعرف لمن أقدمها،
فإنه ليس من يقدر أن يهبني الراحة سواك.
اشتكي لك لساني، إن تكلم وإن صمت!
من يروض لساني غيرك؟!
من يقدس صمتي إلا أنت؟!
* قدسني، فأعمل بك.
تستريح نفسي وسط الطريق الضيق.
تحول لي مرارة الصليب إلى بهجة القيامة.
تحملني من القبر الذي نحّته لنفسي،
وترفعني إلى الخلود وعدم الفساد!
* اختم حديثي معترفًا لك.
بدونك لن اقتني الحكمة.
بدونك لا وجود للعفة في حياتي.
بدونك ليس لي حياة.
_____
(331) Letters, 137:12.
(332) Sermons on NT Lessons, 2: 3.
(333) On the Trinity, Book 2:5 (7).
(334) On the Trinity, Book 2:15 (25).
(335) On the Trinity, Book 2:17 (29).
(336) On the Trinity, Book 4:13 (18).
(337) Concerning Widows, ch. 11: 64.
(338) Homily 42 on Ps. 128 (127).
(339) In Gen. hom. (Cf. Heine).
(340) In Jer. hom. 17:4.
(341) Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.
(342) Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.
(343) Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.
(344) راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القديس يوحنا ذهبي الفم، 1988، ص 33، المؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، حياته، ص 25-27.
(345) Letters, 52: 13.
(346) Letters, 66: 3.
(347) راهب من دير السريان: تفسير حكمة سليمان، 1998، ص 169- 170.
(348) Of the Christian Faith, Book 3: 19.
(349) The Jerome Biblical Commentary, P. 562.
(350) Cf. Homilies on Leviticus, Homily 12: 4: 1.
(351) Confessions, Book 10: 29 (40).
(352) Letters, 218: 2.
(353) Confessions, Book 6: 11 (20).
(354) Letters, 188: 8.
(355) On the Good of Widowhood, 21.
(356) On Forgiveness of sins and Baptism, 5.
(357) On Man's Perfection in Righteousness, 5(11).
(358) On the Gift of Perseverance, 43.
(359) On Grace and Free Will, 8.
(360) Letters, 144: 2.
(361) On Continence, 1.
← تفاسير أصحاحات حكمة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19
تفسير حكمة سليمان 9 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير حكمة سليمان 7 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/a326qxr