محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
حكمة: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27
لم يكن سليمان يتطلع إلى نفسه بكونه ملكًا ورث العرش عن أبيه داود الملك العظيم، الذي أقام مملكة عظيمة وغلب أممًا كثيرة، لكنه حسب نفسه خادمًا لله. وها هو يطلب من كل الملوك الذين حوله، لا أن يركزوا أنظارهم على عروشهم وعظمتهم، بل على رسالتهم كخدام لملكوت الله، يحكمون بالصواب حسب فكر الله وحكمته، ويحفظون الشريعة كسائر الشعبٍ.
1 -11. |
||
12 -21. |
||
22 -25 |
||
من وحي الحكمة 6 |
1 الْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْحَكِيمُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَبَّارِ. 2 وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُلُوكُ، فَاسْمَعُوا وَتَعَقَّلُوا، وَيَا قُضَاةَ أَقَاصِي الأَرْضِ، اتَّعِظُوا. 3 أَصْغُوا أَيُّهَا الْمُتَسَلِّطُونَ عَلَى الْجَمَاهِيرِ، الْمُفْتَخِرُونَ بِجُمُوعِ الأُمَمِ، 4 فَإِن سُلْطَانَكُمْ مِنَ الرَّبِّ، وَقُدْرَتَكُمْ مِنَ الْعَلِيِّ، الَّذِي سَيَفْحَصُ أَعْمَالَكُمْ، وَيَسْتَقْصِي نِيَّاتِكُمْ. 5 فَإِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْخَادِمِينَ لِمُلْكِهِ، لَمْ تَحْكُمُوا حُكْمَ الْحَقِّ، وَلَمْ تَحْفَظُوا الشَّرِيعَةَ، وَلَمْ تَسِيرُوا بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ. 6 فَسَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ بَغْتَةً مَطْلَعًا مُخِيفًا، لأَنَّهُ سَيُمْضَى عَلَى الْحُكَّامِ قَضَاءٌ شَدِيدٌ. 7 فَإِنَّ الصَّغِيرَ أَهْلٌ لِلرَّحْمَةِ، أَمَّا أَرْبَابُ الْقُوَّةِ فَبِقُوَّةٍ يُفْحَصُونَ. 8 وَرَبُّ الْجَمِيعِ لاَ يَسْتَثْنِي أَحَدًا، وَلاَ يَهَابُ الْعَظَمَةَ، لأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْعَظِيمَ كِلَيْهُمَا صُنْعُهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَعِنَايَتُهُ تَعُمُّ الْجَمِيعَ. 9 لكِنَّ عَلَى الأَشِدَّاءِ امْتِحَانًا شَدِيدًا. 10 إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَوْجِيهُ كَلاَمِي، لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا الْحِكْمَةَ وَلاَ تَسْقُطُوا. 11 فَإِن الَّذِينَ يَحْفَظُونَ بِقَدَاسَةٍ مَا هُوَ مُقَدَّسٌ يُقَدَّسُونَ، وَالَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ هذِهِ، يَجِدُونَ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ. 12 فَابْتَغُوا كَلاَمِي، وَاحْرِصُوا عَلَيْهِ فَتَتَأَدَّبُوا.
فاسمعوا أيها المُلوك وافهموا!
وتعلموا يا قُضاة أقاصي الأرض!(229) [1]
يعود سليمان فيؤكد أنه يوجه حديثه للملوك والقضاة وأصحاب السلطة والكرامات الزمنية، كما بدأ السفر. وكما قلنا في بداية السفر إن الحديث موجه إلى كل إنسانٍ، لأن الله خلق البشر ليكونوا ملوكًا وعظماء وأصحاب سلاطين. لم يخلق الإنسان ليكون عبدًا أو في مذلة، لكن بدخول البشرية في دائرة الخطية سقطت تحت قانونها الذي هو الاستغلال والاستبداد وتجاهل حقوق الغير وكرامتهم. فيليق بالمؤمن - أيا كان مركزه أو قدراته أو إمكانيته - أن يذكر ما خلقه الله عليه كصاحب سلطان، وأن يتطلع إلى كل بشرٍ، حتى وإن كان طفلًا صغيرًا أو مصابًا بعاهة ما، كشخصٍ له كرامته وتقديره حتى في عيني الله نفسه.
اصغوا أيها المتسلطون على الجماهير،
والمفتخرون بكثرة أممكم! [2]
كثيرًا ما يخشى الحكيم من إساءة استخدام السلطة سواء المدنية أو الدينية، فيربطها بالأبوة والحب للخاضعين لهم.
يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبودية ليست في خطة الله الأصلية(230).
ويُعلن اللاهوتي الكبادوكي القديس غريغوريوس النزينزي أن العبودية هي تمييز بين البشر أثيم، ومع ذلك فهي جزء من الواقع الحاضر(231).
وبنفس الروح يقول القديس باسيليوس الكبير إنه ليس أحد بالطبيعة عبدًا. لكنه في نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيدًا والآخر عبدًا، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة في الرتبة، نحن جميعًا قطيعًا لخالقنا، اخوة عبيد(232).]
إن كان هذا ما يليق بالقادة المدنيين، كم بالأكثر يليق بالقادة الروحيين أن يكونوا آباء محبين، يسندون أبناءهم بكل وسيلة، لا أصحاب سلطة، يأمرون ويتسلطون.
* "وإن كان لكم ربوات من المرشدين... لكن ليس آباء كثيرون" (ا كو 15:4)... لا يطلب بولس هنا أية كرامة، بل بالأحرى يظهر عمق حبه. فالكرامة خاصة بالمرشد، والحب علامة الأب(233).
* لقد رأيتم إنسانًا (بولس الرسول) جاب الأرض كلها، لأن طموحه وهدفه هما أن يقود كل إنسانٍ إلى الله. وقد حقق هذا الطموح بكل ما ادخره من قوة، وكأن العالم كله قد صاروا أبناءه، لهذا كان على عجلة من أمره.
كان دائم التجوال، كان دائم الحماس لدعوة كل البشرية لملكوت السماوات، مقدمًا الرعاية والنصح والوعود والصلاة والمعونة وانتهار الشياطين، طاردًا الأرواح المصرة على التحطيم.
استخدم إمكاناته الشخصية ومظهره والرسائل والوعظ والأعمال والتلاميذ وإقامة الساقطين بجهده الشخصي. فكان يسند المجاهدين ليثبتوا في جهادهم، ويقيم كل من طُرح ساقطًا على الأرض.
كان يرشد التائبين، ويعزي المتألمين، ويحذر المعتدين، ويراقب بشدة المقاومين والمعارضين.
شارك القائد والطبيب الشافي في الصراع، فمدّ يد المعونة ليهاجم أو يدافع أو يرشد حسب الحاجة في ساحة العمل، فكان كل شيءٍ للمنشغلين بالصراع...
في عظمته كان أكثر توهجًا وغيرة من أية شعلة نارٍ. ومن جهة إكليل كل الفضائل فقد فاق في المحبة (كل الفضائل). وكما ينصهر الحديد في النار فيصير الكل نارًا ملتهبة، هكذا انصهر بولس في المحبة، حتى صار هو نفسه محبة متجسدة.
صار كأنه أب عام للعالم كله. نافست محبته محبة الآباء بالجسد، أو بالأحرى فاقهم جميعًا في المحبة الجسدية والروحية، وفي الاهتمام والرعاية باذلًا كل ماله وكلماته وجسده وروحه، بل وكل كيانه من أجل الذين يحبهم(234).
لأن سُلطانكم أعطي لكم من الرب،
وسيادتكم من العليّ
وهو الذي سيفحص أعمالكم،
ويستقصي مشوراتِكم. [3]
لقد سبق فطلب داود أبوه من الملوك أن يتعقلوا، أي يسلكوا بفهمٍ وحكمةٍ وأدبٍ، ويسألهم أن يعبدوا الرب بمخافة مع تهليل. "فالآن يا أيها الملوك تعقلوا؛ تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدة" (مز 2: 10-11).
* يحث داود الطوباوي الملوك والخاضعين له أن يجروا نحو المخلص، ويحتضنوا شرائعه المخلٍّصة، فيحصدوا نفعًا خلال إرشاد هذه الشرائع وتعاليمها (راجع مز 2: 10)...
إنه ملكنا كلنا، هذا الذي كانوا يظنون أنه ملك اليهود وحدهم. "اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا (تهللوا) برعدة" (مز 2: 11). بمعنى أن أولئك الذين يتهللون ويفرحون بخلاصهم يلزمهم ألاَّ يتكلوا على الرأفة وحدها، بل يلزمهم أن يكونوا في مخافة ورعدة مع البرَ المرتبط بهما. يقول الكتاب المقدس: "إن كنت تظن أنك قائم، فلتنظر أن لا تسقط" (راجع 1 كو 10: 12)... الآن بقوله: "برعدة" يعني "بندامة"، لئلا تتحول البهجة التي في الرب إلى بهجة في العالم(235).
يقول دانيال النبي: "يعزلُ ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا. يعطي الحكماء حكمة ويُعلم العارفين فهمًا" (دا 2: 20-21).
يُقصد بالسلطان هنا القوة وما يتمتع به الإنسان سواء من جهة المادة أو المركز أو العلم أو الذكاء. هذه جميعها يُمكن استخدامها للبنيان أو الهدم. لهذا فالحكمة خير من القوة، لأن الحكمة قادرة على توجيه القوة للبنيان. بالحكمة الإلهية يتمتع المؤمن باتحاده مع الله، فتتحول حتى الطبيعة لحسابه، ويشتهي السمائيون خدمته. بالحكمة التي هي السيد المسيح نقول مع الرسول بولس: "أستطيع كل شيء بالمسيح يسوع الذي يقوِّيني".
بالمسيح يسوع يتحدى المؤمن إبليس وكل قوات الشر، حتى أعداؤه يسالمونه. كما تتحول الشرور والضيقات لخيره. "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله".
كلما زادت إمكانيات المؤمن وقدراته ومسئولياته يحتاج بالأكثر إلى التواضع ليغرف من حكمة الله القادرة وحدها على توجيهه ومساندته.
*
جميعنا متساوون بالطبيعة(236).* (خلقت البشرية في الأصل متكاملة) لكل واحد سلطان أن يدير حياته بلا سيد يلزمه، أن تكون له حياة بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد إلا أن تُستعبد؟!(237)
* ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشرية إلى عبيد وسادة(238).
* الله وهب البشرية حق تقرير مصيرها (ليس للسيد أن يتحكم في حياة العبد)(239).
* هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون هو مساو لك في كرامة الطبيعة(240).
* أن تُقسم الخليقة التي يليق بها بحق الطبيعة أن تمارس المساواة، إلى عبيد وقوة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله(241).
* (العبودية هي) افقدان لتكامل الكائن الحي(242).
* حالة الاستقلال والحرية هي ميل الحكمة وتحرك لإرادة الإنسان(243).
* أسمى مشكلة للحرية هي أن يكون الإنسان سيد نفسه(244).
فإنكم أنتم خدام لملكه،
لم تحكموا بالصواب،
ولم تحفظوا الشريعة،
ولم تسيروا بحسب مشورة الله. [4]
يقدم الحكيم الشريعة أو الوصية الإلهية للقادة كي يدركوا أنهم خدام الله، وأن يتمموا إرادته في عملهم القيادي. فالملك، كما كل مؤمنٍ حقيقيٍ، هو خادم الله للصلاح، يشعر بأن رسالته لا أن يسيطر، بل أن يسند كل إنسان إن أمكن على حفظ الوصية الإلهية.
فسيطلَعُ عليكم مطلعًا مُرعبًا وسريعًا،
لأن حُكمًا لا يُشفِقُ يُجرى على الوُجهاء. [5]
هنا يوجه الحكيم حديثه للقيادات العاملة باسم الله، فإنهم يمثلون وكالة الله، ويليق بهم أن يسلكوا في المسيح يسوع، أي في حكمة الله. فيخضعوا لإرادة الله ويمارسوا وصيته ويقودوا إخوتهم للسلوك في المسيح يسوع.
إن ظن الملوك أنهم أصحاب سلطة فليدركوا أنه سيأتي ملك الملوك ورب الأرباب، هذا القادم سريعًا، يأتي في رهبة عظيمة ليحاكم العظماء كما العامة، لكن في غير محاباة سيكون حازمًا بالأكثر مع أصحاب المعرفة والسلطة، فهو لا يشفق على من لم يشفق على الخاضعين له.
فإن الصغير أهل للرحمة.
أما أرباب القوة فبقوةٍ يفحَصون. [6]
ينذر الحكيم العاملين في كرم الرب أن صاحب الكرم، الله نفسه يأتي فجأة ويدين العالم مبتدأ بالقيادات. فمن كان صغيرًا أي متواضعًا يستدر رحمة الله، أما من كان مستغلًا لسلطانه في كبرياء وتشامخ فيسقط تحت دينونة أبدية، فإن الحكم بلا رحمة لمن لم يستعمل الرحمة. بينما يُقال عن الرحماء "طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7).
* لا يُدان كل البشر في كل الأمور دون تمييز بينهم، إذ يقال: "القادرون يُعذبون بأكثر قوة" (راجع حك 6:6).وأيضًا: "الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد... يُضرب كثيرًا" (لو 12: 47). فالمعرفة الأكثر هي أساس لعقابٍ أشدٍ. لهذا إن مارس الكاهن نفس الخطأ الذي يرتكبه من هم تحت رعايته، فإنه لا يحتمل ذات العقوبة، بل عقوبة أخطر(245).
* إن كان يمكن القول: "أرباب القوة فبقوة يفحصون" (حك 6: 6)، فإن ما يُطلب مني أكثر مما يطلب من الشماس، وما يطلب من الشماس أكثر من العلماني، أما من يحتل مركز القيادة الكنسية فوقنا جميعًا فيُطلب منه ما هو أكثر(246).
إذ تراجع الراهب هليودورس Helgiodorus عن الحياة النسكية الكاملة، وانفصل عن القديس جيروم الذي صحبه معه إلى الشرق، كتب له رسالة شديدة اللهجة يوبخه على هذا التصرف. وقد كان لهذه الرسالة أثرها القوي في الغرب حتى حفظها البعض عن ظهر قلب، مثل فابيولا Fabiola جاء فيها: [من يعهد له الله بالكثير، فإنه سيُطالَب أكثر (لو 12: 48). "فإن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6). لا يمكن لإنسانٍ أن يفتخر في يوم الدينونة لمجرد أنه طاهر جسديًا، فسيعطي الناس حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12:36)(247).]
* هل تظن أن حنانيا وقيافا ويهوذا الخائن جريمتهم ليست بأعظم من جريمة بيلاطس الذي أُلزم بغير إرادته أن يحكم على ربنا؟ خطية يهوذا تتناسب مع استحقاقه السابق، وكلما كانت الجريمة أكثر بشاعة كانت العقوبة أشد، "لأن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6)(248).
وسيدُ الجميع لا يتراجع أمام أحدٍ،
ولا يهابُ عظمة إنسانٍ،
لأن الصغير والكبير هو صَنَعَهما،
وهو يعتني بالجميع على السواء. [7]
لا يفلت من الدينونة العامة أحد، بل يقف الكل أمام الديان العادل. إذ هو خالق الكل والمهتم بالجميع، لذا فإنه يدين الكل بلا محاباة، فالكل موضع حبه ورعايته.
وكما كتب القديس باسيليوس الكبير إلى عذراء ساقطة يطالبها أن تذكر أنها لن تفلت من الدينونة، مثلها كسائر البشر.
* اذكري يومكِ الأخير، فإنك بالتأكيد لن تختلفين عن كل بقيَّة النساء فتعيشين (هنا) إلى الأبد.
اذكري تلك الكارثة، حشرجة الموت وساعته، كلمة الله الرهيبة، إسراع الملائكة في طريقها، ارتعاب النفس خائفة.
اذكري لحظة الاحتضار حين تتألَّم النفس بسبب الشعور بالخطيَّة، حزينة على تلك الحياة الحاضرة مع ضرورة وجودها في الحياة الطويلة (الأبديَّة)...
صوِّري لي- كما تتخيَّلين - نهاية الحياة البشريَّة عندما يأتي ابن الله في مجده مع ملائكته "يأتي إلهنا ولا يصمت" (مز 50: 3). يأتي ليدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله، فعندما يبوِّق ذلك البوق المرعب يخرج كل أولئك الذين رقدوا عِبْر الأجيال، فيأتي الذين صنعوا الصالحات إلى قيامة الحياة، وأما الذين صنعوا السيِّئات فإلى قيامة الدينونة (يو 5: 29).
تذكَّري رؤية دانيال كيف أوضح يوم الدينونة أمامنا "كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي... وعرشه لهيب نار، نار متَّقدة نهر نار جرى وخرج من قدَّامه ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدَّامه فجلس الدّين وفتحت الأسفار..." (دا 7: 9-10).
سيعلن علنًا أمام الناس والملائكة الصالحات والسيِّئات، الأمور العلانيِّة والخفيَّة، أعمال الكل وأقوالهم وأفكارهم.
إذن ماذا يفعل أولئك الذين يعيشون حياة شرِّيرة؟!
أين تختبئ تلك النفوس التي ينفضح خزيها أمام الجميع؟!
بأيّ جسد يحتمل هؤلاء ما لا يُحتمل من الآلام في النار التي لا تُطفأ والدود الذي لا يموت، في أعماق الهاوية حيث الظلمة والرعب والنحيب المر والعويل والبكاء وصرير الأسنان الذي بلا نهاية؟!
هناك لا يوجد مجال للانطلاق من هذه الويلات بعد الموت، فلا نصيحة ولا وسيلة للهروب من الألم(249).
لكن المُقتدرين ينتظرُهم تحقيق شديد. [8]
سيدين الله كل إنسان حسب قدراته ومواهبه ومركزه، الأمور التي وُهبت له للعمل بها لحساب إخوته في البشرية، لا أن يستخدمها بروح الأنانية كامتيازٍ خاص به. وقدر ما نال من الإمكانات ينتظره تحقيق أو محاسبة تتناسب مع ما تمتع به.
فإليكم أيها الملوك أُوجِّه كلامي،
لكي تتعلموا الحكمة ولا تزِلوا. [9]
يدعو الحكيم الملوك للتعلم والتمتع بالحكمة عوض التشامخ بالسلطة والقوة، حتى لا يسقطوا في الشر، وتحت الدينونة.
يبقى الإنسان الحكيم متعطشًا للتعلم ما دام بعد في هذه الحياة، حتى وإن كان ملكًا أو قائدًا روحيًا. فإنه ليس من إنسان ليس في حاجة إلى التعلم المستمر، ما دام لا يزال بعد في الجسد.
فإن الذين يحفظون بقداسةٍ ما هو مُقدَّسٌ،
يُشهد لهم بالقداسة،
والذين يتعلمونَه يجدون فيه دفاعًا. [10]
سلاح الملوك هو القداسة، ليتمثلوا بملك الملوك القدوس. فبالقداسة الحقيقية يقفون أمام القدوس في الدينونة متهللين. وكما يقول القديس بولس: "لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه" (1 تس 3: 13)، "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).
يدعوهم أيضًا إلى الاستماع للنصيحة التي يقدمها لهم لكي يتأدبوا، أي يقبلوا تأديب الرب بفرحٍ ليحملوا صورة القدوس.
* من يحلم أنه قادر على الدخول إلى السماء دون طهارة القلب وبرّ الحياة وقداسة الجسد يموت في هذا الوهم ليستيقظ فيجد نفسه في خزي وعار أبدي.
فارغبوا في كلماتي،
واصْبوا إليها تتأدَّبوا. [11]
إذ يتحدث الحكيم بروح الحب في شوقٍ حقيقيٍ لنموهم ونجاحهم، يسألهم بروح الأخوة الصادقة أن يرغبوا في كلماته، ويصبوا إليها أو يشتاقوا إليها، فتصير لهم معرفة صادقة أو تعاليم لائقة.
إنه لا يسألهم الطاعة، كمن يأمر فيلتزموا بالخضوع والتنفيذ. وإنما بروح الحب يُرشد ويكشف عن أسرار الحياة الناجحة وعن الطريق الذي يبلغ بهم إلى الأمجاد الأبدية، لهذا يترجاهم مراجعة الأمر لتلتهب قلوبهم شوقًا نحو الحق.
13 فَإِنَّ الْحِكْمَةَ ذَاتُ بَهَاءٍ وَنَضْرَةٍ لاَ تَذْبُلُ، وَمُشَاهَدَتُهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهَا، وَوِجْدَانُهَا سَهْلٌ عَلَى الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَهَا. 14 فَهِيَ تَسْبِقُ فَتَتَجَلَّى لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَهَا، 15 وَمَنِ ابْتَكَرَ فِي طَلَبِهَا لاَ يَتْعَبُ، لأَنَّهُ يَجِدُهَا جَالِسَةً عِنْدَ أَبْوَابِهِ. 16 فَالتَّأَمُّلُ فِيهَا كَمَالُ الْفِطْنَةِ، وَمَنْ سَهِرَ لأَجْلِهَا فَلاَ يَلْبَثُ لَهُ هَمٌّ. 17 لأَنَّهَا تَجُولُ فِي طَلَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلٌ لَهَا، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِي الطُّرُقِ بَاسِمَةً، وَتَتَلَقَّاهُمْ كُلَّمَا تَأَمَّلُوا فِيهَا. 18 فَأَوَّلُهَا الْخُلُوصُ فِي ابْتِغَاءِ التَّأْدِيبِ. 19 وَتَطَلُّبُ التَّأْدِيبِ هُوَ الْمَحَبَّةُ، وَالْمَحَبَّةُ حِفْظُ الشَّرَائِعِ، وَمُرَاعَاةُ الشَّرَائِعِ ثَبَاتُ الطَّهَارَةِ. 20 وَالطَّهَارَةُ تُقَرِّبُ إِلَى اللهِ. 21 فَابْتِغَاءُ الْحِكْمَةِ يُبَلِّغُ إِلَى الْمَلَكُوتِ.
الحكمة مجيدة لا تذبُل،
نعم! تسهُلُ مشاهدَتُها على الذين يُحبونها،
ويجدها الذين يلتمسونها. [12]
هنا يعلن الحكيم عن طبيعة الحكمة، فهي من جانب مجيدة، وأمجادها ليست وقتية بل دائمة وأبدية، لا تذبل. ومن الجانب الآخر تسعى نحو الإنسان، وتعلن عن حضورها، وتكشف عن ذاتها لمن يحبها. إنها سهلة المنال وبسيطة للغاية، وحاضرة على الدوام.
حقًا إنها لا تقحم نفسها ولا تحتل قلب إنسان عنوة بغير إرادته، فإنه إن التمسها وطلبها يجدها أمامه، مشتاقة للسكنى فيه.
هنا يتحدث عن الحكمة بكونها الأقنوم الثاني، الكلمة الإلهي، المجيد، ومجده سرمدي، وحاضر في كل مكان، مسرته أن يثبت فينا ونحن نثبت فيه.
تسبق فتُعرِّف نفسها إلى الذين يرغبون فيها. [13]
مع بهاء الحكمة العجيب ونضرتها الفائقة، أي إثمارها الذي لا ينقطع فإن الذين يحبونها ويتلمسونها يتعرفون عليها، معرفة الخبرة العملية والحياة.
لم يقل يمكننا معرفة الحكمة، إنما هي تُعرف نفسها إلى من يرغبها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). فالإنسان بقدراته البشرية الطبيعية يعجز عن معرفة الحكمة الإلهي. فلا يستطيع أحد أن يقول عن المسيح ربًا إلاَّ بالروح القدس. لا يختبر أحد عذوبة حكمة الله وقدراته وإمكانياته إلاَّ من تنسكب المحبة في قلبه بالروح القدس (رو 5: 5).
من يقتني السيد المسيح يتعرف عليه ويحيا به ويتمتع بحكمته الإلهية، ويصير بالحق سفيرًا له.
ومن بَكَّر في طلبها لا يتعب كثيرًا،
لأنه يجدها جالسة عند أبوابه. [14]
يدعونا الحكيم أن نشتاق إلى الحكمة ونبتغيه، فيتجلى في قلوبنا كما على جبل تابور. سرّ تعبنا وعدم قدرتنا على اكتشاف شخص السيد المسيح وتمتعنا به أننا لا نبكر إليه. "أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليَّ يجدونني" (أم 8: 17). ليكن هو الأول في قلوبنا وأفكارنا وحواسنا، لن يحتل أحد ما ولا شيء ما مركزه فينا.
الحكمة أو السيد المسيح من جانبه جالس على أبوابنا الداخلية يستأذن بدخوله. "هنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي، وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي (رؤ 3: 20).
* لقد أعطانا الله الروح القدس حليفًا وحارسًا قديرًا، ومعلمًا عظيمًا للكنيسة، وبطلا قويًا لإعانتنا. فلا تخف إذن من الأبالسة ولا من الشيطان لأن الذي يحارب عنا أقوى منهم.
لنفتح له أبوابنا، إذ يبحث عمن يستحقونه ويفتش عمن يستطيع أن يهبهم مواهبه(250).
يدعونا الحكمة إلى التبكير في طلبه، فما كان يمكن لأحد من الشعب في البرية أن يتمتع بالمن النازل من السماء ما لم يبكر ويجمعه قبل شروق الشمس.
إنه سبق فبادر بالحب، جاء إلينا بنفسه. إنه في محبة يطلب من النفس البشرية قائلًا: "افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل، وقُصصي من ندى الليل" (نش 5: 2). فإذا ما استخفت به، وفضلت النوم عليه، وفي خمول رفضت ترك سريرها لتفتح له الباب، تفقد فرصة اللقاء معه، فنقول: "فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحوَّل وعبر، نفسي خرجت عندما أدبر، طلبته فما وجدته، دعوته فما أجابني" (نش 5: 6).
فالتأمل فيها كمال الحكمة،
ومن سهر لأجلها سرعان ما يخلو من الهُموم. [15]
لنفتح لمخلصنا أبوابنا الداخلية بخلوتنا في هدوء نتأمل حاجتنا إليه، ونسأله أن يدخل ويعلن ذاته فينا. نسهر ونرفض أن ننام، قائلين مع أبينا يعقوب: "لا أطلقك إن لم تباركني" (تك 32: 26).
فالطريق للحكمة بين أيدينا، بل في داخلنا، والتمتع بها سهل للغاية، إن كنا نبكر إليها، وننسى كل شيء من أجلها. ونصغي إلى صوتها قبل كل صوتٍ آخر.
يسألنا الحكيم حياة السهر الروحي، أي الاهتمام بالالتصاق بالرب، فلا يقدر الهمّ أن يلتصق بنا، بل نتحرر منه، ونصير في شركة مع السمائيين.
لأن الذين أهل لها هي التي تجول في طلبهم،
وفي السبل تظهر لهم بعطفٍ،
وفي كل فكر لهم تأتي لمُلاقاتهم. [16]
يؤكد الحكيم حقيقة الحب الإلهي الفائق، فالحكمة الإلهي وإن كان لا يقتحم نفوسنا بغير إرادتنا، إلا أنه واقف على الباب يطلب الدخول فينا. نحن من جانبنا نبكر إليه معلنين رغبتنا في قبوله، وهو من جانبه يجول كمن يبحث عنا، ويظهر لنا وسط كل ظروفنا كمن في وسط الطرق يطلب إلينا أن نقبله، بل ويعلن ذاته في أفكارنا لكي نشتاق إليها ونشتهي سكناه فينا.
فأولها الحقيقي هو الرغبة الصادقة في التأديب،
والاهتمام بالتأديب هو المحبة. [17]
يقدم لنا الحكيم السلم الذي نصعد به لنتمتع بالحكمة، درجات السلم الخمس هي:
أ. قبول التأديب: المؤمن المشتاق للحكمة يكره الخطية، فيقبل بفرح ما يحل به من تأديب بسماح إلهي، حتى تتمرر الخطية في فمه ولا يجد فيها أية لذة.
ب. بقبوله تأديب الرب له في إخلاص وبساطة قلب، ينفتح قلبه بالأكثر لمحبة الله. فلا تشغله ملذات العالم ولا يرتبك لأتعاب الحياة الزمنية، إنما تُمتص كل طاقاته في الحب الإلهي.
ج. إذ يحب الله يحفظ وصاياه، وكما يقول السيد المسيح: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني" (يو 14: 13).
د. من يحفظ الوصية الإلهية، تحفظه الوصية فيحمل برّ المسيح ويظهر أمام الآب متبررًا مجانًا، في طهارة ونقاوة.
ه. إذ يتمتع المؤمن بالنقاوة يلتصق بالرب ويراه. "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).
والمحبة هي حفظ شرائعها،
ومُراعاة الشرائع هي ضمان عدم الفساد. [18]
وعدم الفساد يجعلنا متقرِّبين إلى الله. [19]
تهب الحكمة الناس الخلود والشركة في ملكوت الله.
ليس ما يشغل قلب الحكيم مثل التقرب لله، والوجود معه أبديًا، لذا كثيرًا ما يتحدث عن الخلود وعدم الفساد أو عدم الموت في الحياة الأبدية.
* الإنسان فانٍ بطبيعته، لأنه خُلق من العدم، إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي، ويبقى في عدم فناء، لو أنه أبقى الله في معرفته، كما تقول الحكمة: "حفظ الشرائع تحقق عدم البلى" (حك 6: 18). وبوجوده في حاله عدم الفساد كان ممكنًا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله (خالدين)، كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك إذ يقول: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6، 7)(251).
فالرغبة في الحكمة تقود إلى الملكوت. [20]
* هذه العواطف (الاشتياقات) تكون شريرة إن كان الحب شريرًا، وصالحة إن كان الحب صالحًا. لنبرهن على هذا من الكتاب المقدس. فالرسول يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 23). وقيل "انسحقت نفسي شوقًا إلى أحكامك" (مز 119: 20). وأيضًا "الرغبة (اشتهاء) في الحكمة تقود إلى الملكوت" (حك 6: 20)(252).
فإن طابت لكم العروش والصوالجة يا ملوك الشعوب،
فأكرموا الحكمة لكي تملكوا للأبد. [21]
يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي، وطريقه هو التمتع بالحكمة.
حقًا أقامنا لله هنا لنكون ملوكًا وسادة، لكن إذ نختبر مالنا من سلطان روحي وإمكانيات في المسيح يسوع، يرتفع قلبنا إلى السماء لننعم مع ملك الملوك ورب الأرباب بالأمجاد الملوكية السماوية.
هنا نملك حيث يكون لنا سلطان على الفكر والقلب واللسان وكل الحواس، وهذا عربون الملكوت السماوي الحقيقي.
يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي: "لكي تملكوا للأبد"؟
إذ هاجمت بعض الفرق العهد القديم وادعت أنه لم يشر إلى ملكوت السماوات الأبدي أشار القديس أغسطينوس إلى العبارة التي بين أيدينا مع عبارات أخرى اقتبسها من العهد القديم ليؤكد دعوته للملكوت الأبدي.
* لقد قيل حقًا: "أحبوا الحكمة لكي تملكوا للأبد" (راجع حك 6: 21). لو أن الحياة الأبدية لم تُعرف بوضوح في العهد القديم، لما قال الرب لليهود غير المؤمنين: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي" (يو 5: 39). ولنفس الهدف جاءت كلمات المرتل: "لا أموت، بل أحيا وأحدث بأعمال الرب" (مز 118: 17). مرة أخرى يقول: "أنر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت" (مز 12: 3). مرة أخرى نقرأ: "نفوس الأبرار هي بيد الرب، فلا يمسها أي عذابٍ" (حك 3: 1). ويتبع ذلك فورًا: "إنهم في سلامٍ، وإن عانوا من عذاب من بشر، فرجاؤهم مملوء خلودًا، وبعد متاعبٍ يسيرة سيكون لهم مكافأة عظيمة". مرة أخرى يقول في موضع آخر: "أما الأبرار فسيحيون للأبد، وعند الرب ثوابهم، ولهم عناية من لدن العليّ، فلذلك سينالون مملكة مجدٍ وتاج جمالٍ من يد الرب" (حك 5: 15-16).
هذه العبارات وكثير من أمثالها عن الحياة الأبدية في صراحة أكثر أو أقل توجد في هذه الكتابات. حتى قيامة الجسد تحدَّث عنها الأنبياء(253).
22 فَإِنْ كُنْتُمْ تَلْتَذُّونَ بِالْعَرْشِ وَالصَّوْلَجَانِ، يَا مُلُوكَ الشُّعُوبِ، فَأَكْرِمُوا الْحِكْمَةَ لِكَيْ تَمْلِكُوا إِلَى الأَبَدِ، 23 وَأَحِبُّوا نُورَ الْحِكْمَةِ يَا حُكَّامَ الشُّعُوبِ. 24 وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ مَا الْحِكْمَةُ وَكَيْفَ صَدَرَتْ، وَلاَ أَكْتُمُ عَنْكُمُ الأَسْرَارَ، لكِنْ أَبْحَثُ عَنْهَا مِنْ أَوَّلِ كَوْنِهَا، وَأَجْعَلُ مَعْرِفَتَهَا بَيِّنَةً، وَلاَ أَتَجَاوَزُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، 25 وَلاَ أَسِيرُ مَعَ مَنْ يَذُوبُ حَسَدًا، لأَنَّ مِثْلَ هذَا لاَ حَظَّ لَهُ فِي الْحِكْمَةِ. 26 إِنَّ كَثْرَةَ الْحُكَمَاءِ خَلاَصُ الْعَالَمِ، وَالْمَلِكَ الْفَطِنَ ثَبَاتُ الشَّعْبِ، 27 فَتَأَدَّبُوا بِأَقْوَالِي وَاسْتَفِيدُوا بِهَا.
وأنا أخبركم ما هي الحكمة وكيف نشأت،
ولا أكتم عنكم الأسرار.
لكني أتقصَّاها من أول نشأتها،
وأجعل معرفتها بيِّنة،
ولا أحيد عن الحق. [22]
يعّرف الكاتب نفسه أنه سليمان الذي تمتع بعطية الحكمة، فلا يقدر أن يكتم أسرارها، لئلا يُحسب جاحدًا لعطية الله، أو غير محبٍ لإخوته إنه يود أن يتعرف كل إنسان عليها فيحبها ويطلبها من الله مصدرها ويقتنيها معه!
الحكيم الحقيقي يسلك بالبرّ الذي لا موضع للأنانية في قلبه، فيشتهي أن يتمتع الكل معه فيما ناله.
الحكمة ينبوع مياه حيَّة كلما شرب الغير منها حفظ الينبوع نقاوة مياهه حيث يفيض بها دون توقف، فلا تصير مياهه راكدة تتعرض للتلوث بالطحالب والميكروبات.
يود الكاتب أن يكشف عن الحكمة الصادرة عن الله، لأنه قد حدث تشويش في أفكار كثير من الناس، فيحسبون اللذة هي الحياة السعيدة، وبالتالي تنصب الحكمة في ملذات الجسد والتمتع بالعطايا الزمنية واللهو، أما الإلهيات والسماويات ففي ذهنهم هي خيال ووهم، تفقد الإنسان تعقله وحكمته.
* التعريف العادي للحكمة هو طلب ما هو صالح وتجنب الشر. لذلك فإن الرسول على حق في وصفه لحكمة الجسد (كعداوة لله)، بكونها اشتياقًا للخيرات التي لا تدوم مع الإنسان حيث يوجد خوف من فقدان هذه الأمور يومًا ما حيث يتركها خلفه. مثل هذه الحكمة لا تقدر أن تخضع لناموس الله. يجب أن تُحطم لكي ما تحتل مكانها حكمة الروح هذه التي لا تضع رجاءها في الخيرات الأرضية ولا تخشى الشرور العالمية. فإن طبيعة النفس الواحدة لها حكمة الجسد متى طلبت الأمور الدنيا كما لها حكمة الروح متى طلبت الأمور العليا، وذلك كطبيعة الماء الواحدة التي تتجمد في البرد وتذوب في الحر(254).
* ما دام الجسد يحيا... لا يمكن لمؤمنٍ أن يسر بإرادة الله ويتممها بنشاط في حياته(255).
* الحكمة الجسدية موت، لأن الخطية خطيرة، وخلال الخطية جاء الموت. إنها تُدعى حكمة مع أنها جهالة. لأنه بالنسبة للناس العالميين الخطية - سواء بالفكر أو بالعمل - تُحسب حكمة، المدركة مع أنها ضد ناموس الله، خاصة وأن الذين يخطئون ممتلئون نشاطًا وذكاءً(256).
ولا أسير مع الذي يذوب حسدًا،
لأنه لا شركة له في الحكمة. [23]
يحثنا الحكيم على محبة نور الحكمة، فالعالم نوره قائم على الشمس التي تنير الأمور الظاهرة، أما نور الحكمة فيهب النفس استنارة لترى الخفيات وتتعرف على أسرار السماء، ويكون لها الحكم الصائب.
يحذرنا الحكيم من الحسد الذي يفسد عيوننا عن رؤية النور الحقيقي. ليس من شركة بين الحكمة التي هي في ذاتها حب لله والناس وبين الحسد الذي لا يحمل حبًا لله والناس. ليس من عدوٍ يفسد الحكمة في حياة الإنسان مثل الحسد، الذي لا حظَّ له في الحكمة، أو لا شركة له معها.
تحدث القديس أغسطينوس عن حسد راحيل الجميلة الحادة البصر لليئة صاحبة العينين الضعيفتين، لأن الأولى كانت عاقرًا والثانية فتح الرب رحمها لتثمر فتصير محبوبة من رجلها(257). إن استعرنا ما كتبه القديس أغسطينوس في هذا الأمر في شيء من التصرف نقول بأن راحيل تمثل الإنسان الذي يكرس كل طاقاته في حياة التأمل وحدها، له البصيرة الحادة ليتمتع برؤية أسرار إلهية، لكنه لا يخدم. وليئة تمثل الإنسان الروحي الجاد والعامل في كرم الرب فيأتي بأبناء كثيرين للملكوت. فإنه لا غنى للإنسان عن الحياتين معًا، لكي يتمتع برؤية أسرار الله ويعمل في كرمه. هذا وأنه لا يليق بمن يكرس الجانب الأكبر لحياته للتأمل أو للخدمة أن يحسد الآخر، بل يكمل أحدهما الآخر، ويطلب كل منهما ما هو للغير بروح الحب.
إن كثرة الحُكماء خلاصُ العالم،
والمَلِك الحكيم ثباتُ الشعب. [24]
ليس من خلاصٍ للعالم بدون المؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالحكمة. جاء في الرسالة إلى ديوجنيتس:
[يقيم المسيحيّون في العالم كما تقيم الروح في الجسد.
الروح منتشرة في أعضاء الجسد انتشار المسيحيّين في مدن العالم.
الروح تقيم في الجسد، إلاَّ أنّها ليست من الجسد المنظور...
الجسد يكره الروح ويقاومها، وإن لم ينله منها أذى، سوى أنّها تحول دون انغماسه في حمأة اللذات. والعالم يكره المسيحيّين، لا لأنّهم أساءوا إليه، بل بكونهم يتصدّون لما فيه من شهوات منحرفة فاسدة. تحب الروح الجسد الذي يبغضها، كما يحب المسيحيّون مبغضيهم.
الروح سجينة الجسد، ولولاها لما كان للجسد من حياة، والمسيحيّون موثقون في سجن العالم، ولولاهم لا قيام ولا حياة للعالم.]
هكذا فإن الحكيم الحقيقي إذ يحمل السيد المسيح في قلبه يصير محبًا للبشرية (للعالم) مشتاقًا إلى خلاص الجميع.
فالحكمة ليست معرفة نظرية لكنها حب عملي لكل العالم، وشوق إلى بنيان كل نفسٍ وتمتعها بالمجد الأبدي. فبقوله "تأدبوا بأقوالي" يسألنا ألاَّ يتحول هذا الحديث إلى فكر فلسفي مجرد، وإنما إلى حياة عملية ونفع حقيقي.
* "إن كثرة الحكماء خلاص العالم" (حك 6: 24). هكذا يشتهي الرسول لمن يحدثهم أن يكونوا هكذا: "أريد أن تكووا حكماء للخير، وبسطاء للشر" (رو 16: 19). الآن، إذ لا يستطيع أحد أن يُوجد بذاته هكذا لا يقدر أن يكون حكيمًا بذاته، وإنما بالاستنارة بفيض ذاك الذي كُتب عنه: "كل حكمة هي من عند الرب" (سي 1:1)(258).
فتأدبوا بأقوالي تستفيدوا منها. [25]
يختم الحكيم حديثه هنا بالكشف عن غايته، إنه لا يطلب لنفسه شيئًا، بل ما هو لنفعهم وبنيانهم.
* طأطأتَ السماوات ونزلت إلينا، يا ملك الملوك ورب الأرباب.
نزلت لتخدمنا نحن عبيدك الخطاة،
ولم تطلب خدمة لنفسك.
أحببتنا، وتواضعت لكي ترفعنا.
يا لعظم تواضعك وحبك!
* انزع عني روح التسلط ومحبة المجد الباطل.
هب لي أن أقتنيك،
فأقتني روح التواضع والوداعة والحب الحقيقي.
أحب كل إنسانٍ، وأحترم كل إنسانٍ،
أيا كان عمره، ولو كان يومًا واحدًا،
ومهما كانت قدراته وإمكانياته ومركزه،
ولو كان معدمًا في كل شيء.
لتكن شريعتك هي ناموس حياتي،
وحكمتك هي القائد والمرشد لأعماقي، كما لسلوكي وكلماتي.
* وهبتني الكثير، فسأُطالب بالكثير.
اعترف لك بكسلي وتهاوني وعدم أمانتي.
من يُصلح من أمري سواك؟
من يجددني غير روحك القدوس؟
من يعينني سوى نعمتك الفائقة؟
* إني مشتاق إلى سرعة مجيئك،
فإني أعلم أنك أب رحوم،
تقدم لنا شركة أمجادك السماوية.
إن حاكمتني، كيف أتبرر قدامك؟
ليس في جسدي شيء صالح.
لكن لي ملء الثقة في غنى نعمتك، وقوة صليبك!
تعال, وليُعِدَني روحك الناري بالتقديس،
فألتقي بك يا أيها القدوس.
* إلهي، اقف في دهشة أمام مبادرتك بالحب وتنازلك!
أراك حاضرًا على الدوام,
تود أن تتجلى أمام كل نفسٍ,
وتطلب كل إنسانٍ لتهبه ذاتك، يا أيها الحكمة الإلهي!
نعم إنك لست ببعيد عن أحدٍ،
بل قريب إليه، أقرب من والديه أو أبنائه.
أنت تبكر إلينا،
هب لنا أن نبكر إليك.
أنت جالس عند أبوابنا،
تفضل واسترح في أعماقنا.
* أنت تسهر على خلاصنا،
ليس ما يشغلك في السماء سوى أبديتنا.
هب لنا أن نسهر لأجل أنفسنا.
أنت تجول الطرق كمن يبحث عنا.
هب لنا أن نشتاق إليك وننعم باللقاء معك.
هب لي أن أتعرف على حبك فأحبك.
هب لي بالحب أن أحفظ وصاياك،
فاقترب إليك، وتسكن أنت في.
هب لي أن تحملني فيك، فأنعم بملكوتك.
* أقتنيك يا ملك الملوك، فأحسب كل ما في العالم نفاية.
أحبك فأملك معك إلى الأبد.
أقتنيك يا حكمة الله، فأتعرف عليك وأدرك أسرارك.
احمل روحك، فتجعلني حكيمًا،
وبالحكماء تخمر عجين هذا العالم كله.
_____
(229) يٌفتتح النص اللاتيني بإضافة: "الحكمة خير من القوة، والحكيم أفضل من الجبار"، ربما تكون عنوانًا.
(230) In 1 Cor. hom. 40:5, in Eph. hom 22:2.
(231) De rebus suis 80-82.
(232) De Spiritu Sancto 20:51.
(233) Homilies on Corinthians,13:4.
(234) في مديح القديس بولس، عظة 3.
(235) Commentary on Psalm 2.
(236) De Beatitudinibus,1.
(237) De Beatitudinibus, 3.
(238) De Oratione Dominica, 5.
(239) De Oratione Dominica, 5.
(240) De Oratione Dominica, 5.
(241) Contra Eunomium, 1:35.
(242) Antirrheticus adversus Apollinaruim, 23.
(243) De Hominis Oplficio 16:14 PG. 44:185 A.
(244) De Beatitudinibus, 8.
(245) Homilies on Matthew, 26:8.
(246) Homilies on Jeremiah, Homily 11: 3.
(247) Epistle 17:9.
(248) Against Jovinianus, Bllk 2, 25.
(249) رسالة 46 إلى عذراء ساقطة.
(250) St. Cyril of Jerusalem, Lecture 16:19.
(251) De Incarn. 4: 6. ترجمة: دكتور جوزيف موريس فلتس
(252) City of God, 14:8.
(253) Reply to Faustus the Manichaean, Book 21:31.
(254) On Romans, 49.
(255) On Perfection.
(256) Commentary on Paul’s Epistles (Rom 8: 6).
(257) Cf. Reply to Faustus the Manichaean, Book 22:54.
(258) Enchiridion 1.
← تفاسير أصحاحات حكمة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19
تفسير حكمة سليمان 7 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير حكمة سليمان 5 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/yd3dfr7